■ الموانع المُؤقتة التي يحرم بها الزواج :
■ إعداد / عبد رب الصالحين العتموني
=====================
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد :

توجد موانع وأسباب تُحرم على المُسلم الزواج تحريماً مؤقتاً وهي على النحو التالي :
● أولاً : مانع العِدة التي جعلها الشرع :
اتفق العلماء على أنه يحرم على الرجل أن يتزوج امرأة في عِدتها سواء كانت العِدة من وفاة أو من طلاق لقوله تعالى : ( وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) أي لا تعقدوا عقد النكاح بالمُعتدات حتى تنتهي مُدة العِدة لأن العِدة شُرعت لمعرفة براءة الرحم .
فإذا انتهت عدتها جاز للرجل أن يتزوج منها .
ومن الحِكمة في ذلك أنه لا يُؤمن أن تكون حاملاً فيُفضي ذلك إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب .
وإذا حصل هذا النكاح كان نكاحاً باطلاً ووجب التفريق بينهما دخل بها أم لم يدخل .
قال ابن قدامة رحمه الله: ( وجملة الأمر أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها إجماعاً ... وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحا باطلاً كما لو تزوجت وهي في نكاحه ويجب أن يفرق بينه وبينها فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها ولا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ... وإن وطئها انقطعت العدة سواء علم التحريم أو جهله وقال أبو حنيفة : لا تنقطع.
ثم قال: إذا ثبت هذا فعليه فراقها فإن لم يفعل وجب التفريق بينهما فإن فارقها أو فرق بينهما وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين وهذا مذهب الشافعي ) أهـ .
ودليل ذلك ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضرب زوجها ضربات بمخفقة وفرق بينهما .
ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبداً ).
وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه : ( أنه قضى في التي تُزَوَّجُ في عدتها أنه يُفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتُكَمِّل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر ) .
● ثانياً : مانع الجمع بين الأقارب من النسب أو الرضاع :
اتفق العُلماء على أنه يحرم الجمع بين الأختين سواء أكانتا من نسب من أب وأم أو من أم أو من أب وسواء أكانتا من رضاع أيضاً وكذلك يحرم الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها .
لقوله تعالى : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) أي حرم عليكم الجمع بين الأختين وعفا عنكم فيما فعلتموه سابقاً وقت الجاهلية .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ) رواه البخاري ومسلم .
أما لو طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً وانتهت عِدتها فله أن يتزوج بأختها أو خالتها أو عمتها لانحلال عقد الزوجية وانقطاع سبب التحريم المُؤقت .
وكذلك إذا ماتت إحدهما جاز له نكاح أختها أو عمتها أو خالتها من غير انتظار مدة العِدة .
والحِكمة في ذلك : الحِفاظ على صلة القرابة لأن الجمع بينهما يُؤدي إلى قطيعة الرحم بسبب ما يكون عادةً بين الضرتين من نزاع وعداوة وكراهية .
ومعلوم أن قطيعة الرحم حرام وما أدى إلى حرام فهو حرام .
وقد بين صلى الله عليه وسلم الحِكمة في ذلك فعن ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تزوج المرأة على العمة وعلى الخالة وقال : ( إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) رواه الطبراني .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( والتعليل لأن الجمع بين هذه القرابة القريبة يُؤدي غالباً إلى قطيعة الرحم لأنه من المعروف أن الضرتين يكون بينهما عداوة وبغضاء وشحناء فمن أجل البُعد عن قطيعة الرحم حرم الشرع الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها فصار الذي يحرم بينهن الجمع ثلاثة أصناف : الأختان والعمة وبنت أخيها والخالة وبنت أختها ) أهـ .
مسألة : حُكم الجمع بين امرأة الرجل بعد وفاته أو طلاقها وابنته من غيرها بنكاح .
قال ابن المنذر رحمه الله : ( اختلف أهل العلم في الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها بالنكاح فأباح أكثر أهل العلم نكاحها فعل ذلك عبد الله بن جعفر وعبد الله بن صفوان بن أمية وأباح ذلك ابن سيرين وسليمان بن يسار والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك : لا أعلم ذلك حراما وبه نقول : وذلك أني لا أجد دلالة أحرم بها وكره ذلك الحسن البصري وعكرمة ) أهـ .
● ثالثاً : مانع التطليق ثلاثاً للمُطلق :
اتفق العُلماء على أنه يحرم لمن طلق زوجته ثلاثاً أن يتزوجها مرة أخرى حتى تتزوج شخصاً غيره زواجاً صحيحاً عن رغبة وإرادة ويدخل بها دُخولاً شرعياً ثم يُطلقها بمحض إرادته وتنتهي عدتها من الثاني .
لقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا ) يعني الطلقة الثالثة ( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا ) أي الزوج الثاني ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) أي على المرأة وزوجها الأول ( أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) .
مثال ذلك : أن يُطلق الرجل زوجته طلقة ثم يراجعها أو تنقضي عدتها ثم يتزوجها بعقد جديد ثم يُطلقها ثانية ثم يراجعها أو تنتهي عدتها فيتزوجها بعقد جديد ثم يُطلقها الثالثة ففي هذه الحال لا تحل له بالنص والإجماع إلا بعد زوج يتزوجها ويُجامعها .
ولكن لا بد أن يكون الزواج الثاني صحيحاً لأن الزوجية لا تثبت إلا بنكاح صحيح والنكاح الصحيح هو الذي اجتمعت فيه شُروطه وانتفت موانعه .
وعلى هذا فلو تزوجها الزوج الثاني بنية التحليل للأول أو بشرط التحليل للأول فالنكاح غير صحيح لأنه عقده فاسد .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( يجب أن يكون نكاح الثاني لها نكاح رغبة لا نكاح تحليل فإن نكاح التحليل باطل ولا يحلها لزوجها الأول مثال ذلك رجل طلق زوجته ثلاث مرات فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ويُفارقها فرآه أحد أصدقائه نادماً فأراد أن يحسن إليه بزعمه فتزوج امرأته التي طلقها ثلاث مرات بنية أنه إذا جامعها طلقها لتحل للزوج الأول ثم جامعها ثم طلقها ففي هذه الحال لا تحل للزوج الأول لأن نكاح الثاني لها نكاح فاسد حيث قصد به التحليل وقد روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه " لعن المحلل والمحلل له " ) أهـ .
واختلف العُلماء فيما يكفي من النكاح وما الذي يبيح زواج الأول منها بعد طلاقها من الثاني على قولين :
القول الأول :
أن الوطء الذي يُبيح التحليل هو التقاء الختانين الذي يُوجب الحد والغُسل ويُفسد الصوم والحج ويُحصن الزوجين ويُوجب كمال الصداق وهو قول جُمهور العُلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة .
واستدلوا بما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها : أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإن ما معه مثل الهدبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) .
ووجه الدلالة : هو أن المقصود بالعسيلة في الحديث الجماع ولو لم ينزل .
القول الثاني :
أنها تحل للأول بنفس العقد وهو قول سعيد بن المُسيب وداود الظاهري .
واستدلوا بظاهر قوله تعالى : ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) .
والراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لقوة ما استدلوا به ولأن ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني مردود ببيان النبي صلى الله عليه وسلم المقصود من الآية وإجماع الأمة على أن الدخول الحقيقي شرط للحل .
● رابعاً : مانع العَدد الذي حدده الشرع :
اتفق العُلماء على أنه يحرم الجمع بين أكثر من أربع نساء إلا بعد أن يُطلق واحدة منهن وتنتهي عدتها أو تموت فيتزوج بخامسة لقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعاً منهن ) رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي وابن حبان وأحمد والحاكم والدارقطني والطبراني وعبد الرزاق والبزار وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
وعن الحارث بن قيس قال : أسلمت وعندى ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبىي صلى الله عليه وسلم : ( اختر منهن أربعاً ) رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي والدارقطني والطبراني وأبو يعلى وعبد الرزاق وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
ولم ينقل عن أحد من السلف في عهد الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع نسوة .
وهذا يدل على أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع .
● خامساً : مانع الشرك والكفر بالله :
اتفق العُلماء على أنه يحرم على المُسلم أن يتزوج من النساء الكافرات غير الكتابيات أي يحرم عليه الزواج بامرأة لا تدين بدين سماوي كالوثنية والمُرتدة والمُلحدة التي لا دين لها .
ولكن إذا أسلمت " المرأة المُشركة " حل الزواج بها قال الله تعالى : ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) .
أما الزواج بالكتابيات كاليهودية والنصرانية فهو حلال إن كانت عفيفة وهو قول جُمهور العُلماء وتترتب عليه جميع الآثار الشريعة إلا أنه لا يجري بينهما توارث لاختلاف الدين والأولاد يكونون مسلمين لما تقرر في القواعد الفقهية : من أن الولد يتبع أشرف الأبوين ديناً .
لقوله تعالى : ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) .
ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فلقد سئل عن نكاحهما فقال : ( حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى ) .
وعقب القرطبي رحمه الله على قول ابن عمر قائلاً : ( أما حديث ابن عمر فلا حجة فيه لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا فلما سمع الآيتين في الواحدة التحليل وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ) أهـ .
وقال الجصاص رحمه الله : ( يعني بآية التحليل " وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ " .
وبآية التحريم : " وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ " .
فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامهما تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته على هذه التفرقة، فقال
وحرم ابن عباس رضي الله عنهما نكاح الكتابيات إذا كن من أهل دار الحرب .
وعقب الجصاص رحمه الله على هذه التفرقة فقال : ( ولم يفرق غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات الذميات وظاهر الآية يقضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن ) أهـ .
وكذلك اتفق العُلماء على أنه لا يجوز للمرأة المُسلمة أن تتزوج بغير المُسلم ما دام أنه على غير دين الإسلام ولكن إذا أسلم زال عنه سبب التحريم وجاز الزواج منه .
قال الله تعالى : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) .
وحِكمة تحريم زواج المُسلمة بغير المُسلم أن القوامة على الأسرة من خصائص الرجل بحسب الفطرة البشرية والطبيعة الخلقية ومادام الأمر كذلك فإن من آثار هذه القوامة وجوب طاعة المرأة لزوجها شرعاً ومتابعتها له طبعاً وفطرة وما ينبغي لامرأة مؤمنة أن تطيع كافراً أو أن يكون له عليها سلطان .
لأن تصرف وسلوك كل فرد نابع من ثقافته ومعتقده وأنى لمسلمة أن تعمل بأوامر أو تعليمات صادرة عن غير ثقافتها وغير دينها .
وفضلاً عن هذا فإن الزوج الكافر لا يعترف بدين المُسلمة بل يجحد رسالة نبيها ويستخف بتعاليمه ولا يمكن لبيت أن يستقر ولا لحياة أسرية أن تستمر مع دوام الخلاف الفكري وتنافر المُعتقد الديني .
وعلى العكس من ذلك حين يتزوج المُسلم بكتابية فإنه يعترف بدينها ويؤمن برسالة نبيها لأن ذلك في الإسلام ركن من أركان الدين وبناء على ذلك فهو يستوعبها ويعاملها بما يمليه عليه دينه من الإكرام والرعاية والتوقير .
● ساساً : مانع الزنا والبغاء :
لا يجوز الزواج من المرأة الزانية إذا علم زناها حتى تتوب لقوله تعالى : ( الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه الشيخ الألباني رحمه الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبى مرثد الغنوى كان يحمل الأسارى بمكة وكان بمكة بغى يقال لها عناق وكانت صديقته قال جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أنكح عناق قال فسكت عنى فنزلت " وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ " فدعانى فقرأها على وقال ( لا تنكحها ) .
قال محمد شمس الحق العظيم آبادي : ( فيه دليل على أنه لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنى ويدل على ذلك الآية المذكورة في الحديث لأن في آخرها : ( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فإنه صريح في التحريم ) أهـ .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ( هذا خبر من الله تعالى : بأن الزاني لا يَطَأُ إلا زانية أو مُشركة أي : لا يُطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مُشركة لا ترى حرمة ذلك ) أهـ .
وقال أيضاً رحمه الله : ( ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى : " وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " ) أهـ .
ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : ( نكاح الزانية حرام حتى تتوب سواء كان زنى بها هو أو غيره هذا هو الصواب بلا ريب وهو مذهب طائفة من السلف والخلف منهم أحمد بن حنبل وغيره ... ) أهـ .
هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار والمشهور في ذلك آية النور قوله تعالى : " الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " وفي السنن حديث أبي مرثد الغنوي في عناق ) أهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله : ( وأما نكاح الزانية فقد صرح اللَّه سبحانه وتعالى بتحريمه في سورة النور وأخبر أن من نكحها فهو إما زانٍ أو مشرك فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه أو لا فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان ثم صرح بتحريمه فقال : " وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله : " وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ " من أضعف ما يقال وأضعف منه حمل النكاح على الزنى .
إذ يصير معنى الآية : الزاني لا يزنى إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك وكلام اللَّه ينبغي أن يصان عن مثل هذا وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان وهو العفة فقال : " فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ " فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها وليس هذا من دلالة المفهوم فإن الأبضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم ) أهـ .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : ( ومعنى الآية : أن من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة ولم يتب من ذلك أن المقدم على نكاحه مع تحريم الله لذلك لا يخلو :
إما أن لا يكون ملتزما لحكم الله ورسوله فذاك لا يكون إلا مشركاً .
وإما أن يكون ملتزماً لحكم الله ورسوله فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه فإن هذا النكاح زنا والناكح زان مسافح فلو كان مؤمنا بالله حقا لم يقدم على ذلك .
وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب ) أهـ .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( المرأة الزانية لا يحل نكاحها إلا بعد التوبة وكذلك الزاني لا يصح أن تتزوجه إلا بعد التوبة لقول الله تبارك وتعالى : " الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " ) أهـ .
وقال أيضاً رحمه الله : ( أن من اعتقد تحريم نكاح الزانية ومع ذلك نكحها فقد عقد عقداً محرماً يعتقد أنه حرام والعقد الحرام وجوده كعدمه فلا يحل له الاستمتاع بالمرأة فيكون هذا الرجل زانيا في هذه الحال .
وأما إذا أنكر تحريم نكاح الزانية وقال هو حلال فيكون هذا الرجل مشركا في هذه الحال لأنه أحل ما حرم الله وجعل نفسه مشرعا مع الله وهكذا نقول لمن زوج ابنته رجلا زانيا ) أهـ .
وعليه فلا يجوز لكل منهما الزواج إلا بعد التوبة النصوح واستبرائها بحيضة واحدة قبل العقد عليها وإن تبين حملها لم يجز العقد عليها إلا بعد أن تضع حملها .
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن حكم الزواج بالزانية فقال :
( لا يجوز الزواج من الزانية حتى تتوب ... وإذا أراد رجل أن يتزوجها وجب عليه أن يستبرأها بحيضة قبل أن يعقد عليها النكاح وإن تبين حملها لم يجز له العقد عليها إلا بعد أن تضع حملها ... ) أهـ .
● سابعاً : مانع الإحرام بالحج أو العمرة :
ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أنه يحرم على المُحِرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره بالوكالة أو الولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل .
فعن نافع عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج فقال أبان سمعت عثمان بن عفان يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) رواه مسلم .
ورواه الترمذي والبيهقي وأحمد والدارمي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله عن نافع عن نبيه بن وهب قال : أراد ابن معمر أن ينكح ابنه فبعثني إلى أبان بن عثمان وهو أمير الموسم بمكة فأتيته فقلت : إن أخاك يريد أن ينكح ابنه فأحب أن يشهدك ذلك قال : ( لا أراه إلا أعرابيا جافيا إن المحرم لا ينكح ولا ينكح ) .
ثم قال الترمذي رحمه الله : ( والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منه: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وهو قول بعض فقهاء التابعين وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يرون أن يتزوج المحرم قالوا : فإن نكح فنكاحه باطل ) أهـ .
وقال النووي رحمه الله : ( قوله صلى الله عليه وسلم " ولا ينكح " فمعناه لا يزوج امرأة بولاية ولا وكالة قال العلماء سببه أنه لما منع في مدة الإحرام من العقد لنفسه صار كالمرأة فلا يعقد لنفسه ولا لغيره وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالأب والأخ والعم ونحوهم أو بولاية عامة وهو السلطان والقاضي ونائبه وهذا هو الصحيح عندنا وبه قال جمهور أصحابنا وقال بعض أصحابنا يجوز أن يزوج المحرم بالولاية العامة لأنها يستفاد بها ما لا يستفاد بالخاصة ولهذا يجوز للمسلم تزويج الذمية بالولاية العامة دون الخاصة واعلم أن النهي عن النكاح والإنكاح في حال الإحرام نهي تحريم فلو عقد لم ينعقد سواء كان المحرم هو الزوج والزوجة أو العاقد لهما بولاية أو وكالة فالنكاح باطل في كل ذلك ) أهـ .
وعن أبي غطفان بن طريف المري : ( أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه ) رواه مالك والبيهقي .
ورُوي ذلك عن علي وابن عُمر رضي الله عنهما ولا يُعرف لهما من الصحابة مخالف .
ولأن الإحرام عبادة حرمت الطيب فمن باب أولى يحرم النكاح لأنه منهي عنه كما في الحديث والنهي يقتضي الفساد .
وذهب الحنفية إلى أنه لا يحرم الزواج للمُحِرم واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو مُحِرم ) رواه البخاري ومسلم .
ولكن أجيب عن هذا الحديث بأنه معارض لما رواه مسلم عن يزيد بن الأصم حدثتنى ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتى وخالة ابن عباس ) .
قال الترمذي رحمه الله : ( اختلفوا في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة لأنه صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة فقال بعضهم : تزوجها وهو حلال وظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم بنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة ) أهـ .
والراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء أنه يحرم على المُحِرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره بالوكالة أو الولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح " يعني لا يَنْكح : لا يتزوج ولا يُنكِح : لا يُزوِّج غيره مادام محرماً لأن عقده غير صحيح لا لنفسه ولا لبناته أو غيرهن من مولياته ما دام محرماً لأن هذا أصل النهي : التحريم والإبطال ) أهـ .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( قوله : ( ويحرم عقد نكاح ) أي على الذكور والإناث هذا هو المحظور السابع من محظورات الإحرام.
ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) وسواء كان المحرم الولي أو الزوج أو الزوجة فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة...
قوله : ولا يصح الضمير في قوله : لا يصح يعود على العقد أي : لو عقد على امرأة محرمة لزوج حلال فالنكاح لا يصح ولو عقد لزوج محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح ولو عقد لرجل محل على امرأة محلة والولي محرم لم يصح النكاح .
لأن النهي وارد على عين العقد وما ورد النهي على عينه فإنه لا يمكن تصحيحه إذ لو قلنا بتصحيح ما ورد النهي على عينه لكان هذا من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لأن ما نهى الشارع عنه إنما يريد من الأمة عدمه فلو أُمْضِي كان مضادة لله ولرسوله ) أهـ .
وقال أيضاً رحمه الله : ( يحرم على المحرم أن يعقد النكاح فإن عقده فالنكاح باطل يعني : غير صحيح لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " لا يَنكح المحرم ولا يُنكح " بل لو كان الإنسان محرماً وعقد لابنته النكاح وهي غير محرمة لرجل غير محرم فالزوجان غير محرمين لكن الولي محرم لم يصح النكاح .
إذاً : يحرم على المحرم أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره بولاية أو وكالة .
كذلك خطبة المحرم حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا يخطب " لماذا ؟ لأنه إذا خطب تعلق قلبه بمخطوبته فصده عن إتقان الحج والعمرة وقد قال الله تعالى : " فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ " ) أهـ .

■ أكتفي بهذا القدر وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافياً كافياً في توضيح المراد وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل .
وصلي اللهم علي نبينا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين .
■ ■ ■ ■ ■
ولا تنسونا من الدعاء
أخوكم / عبد رب الصالحين العتموني
مصر / سوهاج / طما / العتامنة