هذا الموضوع بمناسبة أن غدا ان شاء الله يوم عرفة -التاسع من ذى الحجة 1441-هـ
فآثرت أن يكون الموضوع - التوحيد فى الحج
قال ابن القيم
– رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود :
(قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة ،
منها : أنها تتضمن المحبة لله تعالى ، فلا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه ،
ومنها : أنها تتضمن التزام دوام العبودية لله و تمام الخضوع والذل اللذان هما من أركان العبودية لله تبارك وتعالى .
ومن فوائدها أنها تتضمن الإخلاص الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها . )
ا . هـ

وأما أهل الإشراك وعباد الأصنام فكانوا يدخلون آلهتهم مع الله في تلبيتهم
فيقولون : " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك "
فخالف أهل الإسلام أهل الأوثان بإعلانهم التوحيد والإخلاص لله تعالى
قال جابر رضي الله عنه وهو يحكي حجة النبي صلى الله عليه وسلم ويصف حالهم معه: "وما عَمِلَ بِهِ من شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لك، وَأَهَلَّ الناس بهذا الذي يُهِلُّونَ بِهِ، فلم يَرُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه وَلَزِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ" رواه مسلم.
فهذه التلبية المباركة متضمنه لمعاني التوحيد، والبراءة من الشرك؛
وفيها إستجابة لدعوة الخليل عليه السلام حين أذن في الناس بالحج؛ فإن معناها: إجابة لك بعد إجابة، إجابة خالصة لا شرك فيها.
وتضمنت التلبية كذلك حمد الله تعالى،
والإقرار بنعمه الظاهرة والباطنة،
وبأنه عز وجل مالك الملك،
وكل ذلك من توحيد الله تعالى في تلك التلبية المباركة.
وهي ردٌ على تلبية المشركين حين كانوا يلبون فيَقُولُونَ "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك إلا شَرِيكًا هو لك تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ" فكان النبي عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك عليهم ويقول: "وَيْلَكُمْ قَدٍ قَدٍ" رواه مسلم.
فالحمد لله الذي شرع الحج لعباده المؤمنين،
والحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا،
والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين الحنيف ملة ابراهيم
(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ)
ابراهيم امام الحنفاء (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ) [النحل:120]
وأمر الله تعالى عباده باتباع ملته
فقال سبحانه (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) [آل عمران:95].
وقد دعا ابراهيم بقوله (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35].
امره الله ببناء البيت الحرام فقال سبحانه وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
....................
وفي سورة الحج ترشد الآيات إلى توحيد الله وترك الشرك فأول الآيات : (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ))..... ثم قال – تعالى-: (( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ*حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ* ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ))(30-32: سورة الحـج)، ثم قال – تعالى-: (( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ))(34: سورة الحـج)، ثم قال – تعالى-: (( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ))(37: سورة الحـج).
فكل هذه الآيات ترشد الناس إلى ذكر الله على كل حال، وإلى توحيده في العبادة والطاعة، والذبح والمناسك كلها، وتنفر من الشرك الذي هو ضد التوحيد، وتشبِّه حال من يشرك بالله كرجل سقط من السماء بقوة فتخطفه الطير ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق!
ومن معالم التوحيد في المناسك: ما يحصل من أحكام الإحرام في الميقات من تجرد لله رب العالمين بثياب غير الثياب المألوفة، يستوي في ذلك الغني والفقير، والمأمور والأمير، وما يبتدئ به المحرم من الإهلال ورفع الصوت بالتلبية،
يقول جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -: (فلما استوت به – أي راحلة رسول الله – على البيداء أهلَّ بالحج)
ثم يقول المسلم بعد الإهلال: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك،
وهذا الذكر لا يشرع إلا في الحج أو العمرة،
وفي التلبية توحيد لله – عز وجل – وإفراد له بالعبادة والذل والخضوع، وتلبية أمره في إيجابه الحج على الناس.
وقد ورد ذكر الحمد والنعمة والملك في التلبية وأنها لا تكون إلا لله:
فكل هذا توحيد، وإفراد الله بهذه الأمور، وإعلاء الصوت ، وأي إعلان أعظم من هذا؟
وقد كان المشركون يزيدون على هذه التلبية بقولهم: (لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك!!)، فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومحا هذا الشرك، وكان إذا سمعهم يقولون: لا شريك لك، يقول لهم: (قد، قد) يعني كفاكم هذا الكلام،
فاقتصروا عليه ولا تزيدوا؛ لأن الزيادة التي زادها الكفار شرك.
ومن التوحيد فى الحجج : الطواف لله بالبيت العتيق، وهذا الطواف هو تعظيم لله، وعبادة لله، وقد قال الله لإبراهيم وإسماعيل – عليهما الصلاة والسلام -: (( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ))(125: سورة البقرة)، وقال: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))(26: سورة الحـج). وما يحصل في هذا الطواف من الدعاء وإفراد الله به، ومن الالتجاء إلى الله، وسؤاله قضاء الحاجات ومغفرة الذنوب دون ما سواه.
والطواف لم يشرع إلا في هذا الموضع بخلاف سائر العبادات، وهو مظهر عبودية لله – تعالى-، ويتجلى التسليم في مثل هذه الأفعال الحميدة، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)4، ففيه ذكر لله بالقول والفعل، وكل ذلك توحيد لله، وإفراد له بالعبادة.
ومن معالم التوحيد فى الحج:
الصلاة وراء مقام إبراهيم ركعتين، حيث يقرأ المصلي فيهما بسورتي (الكافرون) و(الإخلاص) وهما من أعظم السور اللتي توضح مفهوم التوحيد، والولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله؛ اللذين هما أوثق عرى الإيمان.
ومن المعالم التي ترسخ مفهوم التوحيد فى الحج: السعي بين الصفا والمروة؛ فإنه عبادة وركن عظيم من أركان الحج، ولا يكون إلا لله وحده لا شريك له؛ وقد جاء في حديث جابر – رضي الله عنه – الذي بيَّن حج النبي – صلى الله عليه وسلم – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (أبدأ بما بدأ الله به)، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبره، وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ثم دعا بعد ذلك ثلاث مرات. ولما وقف – عليه السلام – على المروة فعل مثلما فعل على الصفا من التكبير والتهليل والدعاء. وكل ذلك توحيد لله، وذكر لله؛ بالقول وبالفعل، وهو عبودية لله، وخضوع وذل بين يديه، وافتقار إليه سبحانه وتعالى
ففي الطواف والسعي يتجلى التوحيد والعبودية أكثر مما يتجلى في غيره؛ سواء عرف العبد الحكمة أم لم يعرفها من ذلك، فالتسليم لله ورسوله من أعلى درجات الإيمان،
والسعي بدايته ونهايته كله توحيد وعبادة لله – تعالى-، وما بين ذلك من الأذكار والأدعية التي يقولها المسلم كلها ذكر لله، وإفراد له في ذلك.

وفي عرفات يقف المسلم موحداً لله، ومهللاً وملبياً ومنقاداً لأمر الله في أمره بذلك
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
فأفضل ما يقوله المرء المسلم في ذلك الموقف كلمة التوحيد، وإعلان العبودية لله وحده دون شريك.

ويترسخ مفهوم التوحيد في مخالفة المشركين في الدفع من عرفات حيث يكون بعد غروب الشمس،
وقد كان المشركون يدفعون قبل غروب الشمس فخالفهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هديهم ودفع بعد الغروب،
وهذا جانب عظيم يترسخ فيه مفهوم التوحيد،
لأن مخالفة المشركين من البغض في الله، وهو من أوثق عرى الإيمان والتوحيد، فلم يحب – عليه الصلاة والسلام – موافقة المشركين في شيء من خصائصهم وهو القائل: (خالفوا المشركين..) الحديث.

وعند الوقوف عند المشعر الحرام في مزدلفة كان من فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك الموقف التكبير والدعاء والتهليل ( أي قول لا إله إلا الله )، وهذا تترسيخ لشهادة التوحيد في كل المشاعر
ومن معالم التوحيد فى الحج:
مخالفة المشركين في الإفاضة من عرفات حيث أفاض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مزدلفة بعد صلاة الفجر قبل أن تشرق الشمس،
وقد كان المشركون لا يفيضون إلا بعد طلوع الشمس، وكان يقول قائلهم: "أشرق ثبير كيما نغير"!،
فدفع – صلى الله عليه وسلم – قبل أن تطلع الشمس مخالفة للمشركين، وهذا من مقاصد الشريعة أي مخالفة المشركين في عباداتهم وفي عاداتهم الخاصة.

ورمي الجمار تسليم وانقياد لله – تعالى- في ذلك النسك.
ومن معالم ترسيخ التوحيد: ذبح الهدي لله رب العالمين، والذبح لله من التوحيد، ولغيره من الشرك الأكبر كما قال – تعالى-: (( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )
وقال تعالى-: (( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
وحلق الشعر كذلك من المناسك التي يظهر فيها التسليم لحكم الله وشرعه، وهدي رسوله – صلى الله عليه وسلم -.
ورمي الجمار في منى فيه خضوع لأمر الله، وعبودية وتوحيد بالقول وبالفعل.

لقد رسخ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توحيد الله وإفراده بالعبادة في الحج أعظم ترسيخ، ووضح معالم التوحيد في مناسك الحج أكمل توضيح.