الحج زمن جائحة كورونا “كوفيد 19”
أ. د. حميد لحمر *
يعتبر الحج من المواسم الدينية الإسلامية السنوية، التي تشهد اجتماعا كثيفا للناس، ومن مختلف دول العالم بالكامل في أقدس بقعة في العالم – بيت الله الحرام -، فقد أوجب الله عز وجل حج بيت الله الحرام على المسلم القادر عليه، المستطيع لأداء شؤونه ومناسكه، قال تعالى: ” ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ” سورة آل عمران / 197.
و في الحديث الشريف: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، و حج البيت” [1]رواه البخاري ومسلم
ومعلوم أن أشهر الحرم، هي: شهر شوال، وشهر ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، تبتدئ من أول الشهر، فالاستعداد بالإحرام له، يبتدئ من شهر شوال لمن رغب.
قال عبد الله بن عمر، و جماهير الصحابة و التابعين و من بعدهم: ” هي شوال و ذو القعدة، و عشر من ذي الحجة ” [2]
وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي في تبصرته:” للحج وقت يبتدئ فيه عقده، و منتهى ينحل منه فيه، و الأصل في ذلك قول الله تعالى:” الحج أشهر معلومات ” فأوله شوال، و اختلف عن مالك في آخرها، فقال: عشر من ذي الحجة، و قال: ذو الحجة كله “[3]
و اعتبارا لكوننا على بعد أيام من أشهر الحج، والحال أن العالم بالكامل، و منه الأمة الإسلامية على الخصوص، لا زالت أغلب دولها تنتشر فيها جائحة كورونا، أو داء كوفيد 19، فإنه حري بنا – والحال الصحي لم يستقر بعد – أن نتناول هذا الموضوع بالدرس و التحليل، للوقوف عند بعض أحكامه الضرورية الشرعية -الاستثنائية-، مما لابد منها، وتحديد ما يلزم القيام به في هذا الظرف الحرج.
و لما كان الحج في أغلب مناسكه و ترتيباته، عبارة عن: إحرام، تجرد من المخيط و المحيط، و صلوات – فردية وأغلبها تكون جماعية – و طواف و سعي، ووقوف بالمشعر الحرام، ورمي الجمرات، و هي مشاعر كلها يشوبها الاختلاط والازدحام والاقتراب الشديد مع الاحتكاك، خصوصا في الطواف والسعي بين الصفا و المروة، وعند ركوب الحافلات، زيادة على السكن المشترك بكل مرافقه الضرورية.
وحيث إن جائحة كورونا ” كوفيد19″ هي عبارة عن مرض معد، و عدواه متأكدة، و سهلة الانتقال وبطرق متعددة، حددتها الأجهزة الطبية، منها:
الاقتراب الشديد بين الناس، و الاختلاط ، و استعمال الأدوات و المرافق المشتركة، و هذه كلها متوقعة في موسم الحج، وكل مصاب، بدون شك تنقل عدواه للغير، و يسبب الضرر للغير بالتأكيد، فإن الأمر بناء على هذا الحال،أصبح يتطلب منا وقفة، تشخص الوضع و الحالة أولا، و تنزيل الحلول الشرعية الناجعة ثانيا.
والمسألة، يتوقف حلها اعتمادا على آليتين اثنتين:
الأولى: الاحتكام إلى القواعد الفقهية المساعدة في ضبط النازلة، و محاولة تنزيلها، و هي مستنبطة من النصوص القرآنية و الحديثية، وكذا الاعتماد على المقاصد الشرعية.
الثانية: التزام تعليمات أولي الأمر.
الآلية الأولى: تحكيم القواعد الفقهية
و هي كثيرة و متعددة، منها:
قاعدة :” لا ضرر و لا ضرار ” و هذه بناء عليها، ذهب السادة الفقهاء إلى القول: بأن المصاب بالمرض المعدي – عموما – يسقط عنه فرض الحج. لأن تحقيق مصلحة المجتمع في السلامة من المرض، مقدمة على مصلحة الفرد في أداء فريضة الحج. كما أن الضرر لون من ألوان الظلم، و الظلم قد حرمه الله في جميع كتبه، و على هذا فيمنع الضرر ابتداء، كما لا يجوز مقابلة الضرر بمثله، وهو الضرار ، كما لو أضر شخص آخر في ذاته أو ماله، لا يجوز للشخص المتضرر أن يقابل ذلك الشخص بضرر، بل يجب عليه أن يسعى لرفع الضرر عنه بالطرق المشروعة.
و أصل القاعدة أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: ” لا ضرر و لا ضرار “، و قد استنبطت هذه القاعدة من القرآن الكريم، قال الحق سبحانه:” و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا” سورة البقرة الآية/ 231.
و قد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الضرر و الضرار معا في أكثر من موضع في السنة المطهرة،منها قوله صلى الله عليه و سلم: ” من ضار أضر الله به[4]، و من شاق شاق الله عليه” [5] رواه الإمام أحمد في مسنده [6]. و الضرر ما يكون بغير قصد، و الضرار ما يكون بقصد.
و قريب من هذه القاعدة، قاعدة: ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” معناها، أن مصالح العباد لو اختلطت بالمفاسد، لألغيت تلك المصالح من أجل المفاسد، فما دام أن فوائد الحج ومنافعه على العبد ستختلط و تصطدم بمفسدة عدوى كوفيد 19 وهذا فيه إلقاء بالنفس إلى التهلكة أيضا، فلا حرج على من وجب عليه، و أعد له عدته.
الآلية الثانية: طاعة والتزام تعليمات أولي الأمر
امتثالا لقوله تعالى:” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، و أولي الأمر منكم “، و منه استنبطت قاعدة:” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة “.
و على ضوء هذه الآية و القاعدة، يجب على الإمام أن يتخذ من الإجراءات و التدابير الوقائية التي تمنع من انتشار العدوى في المجتمع، و تعريض المواطنين لخطر الإصابة بها .
فطاعة ولي الأمر، واجبة إن تعلقت بالمصلحة العامة الشرعية، و لم تخالف نصا من النصوص الشرعية ، فولي الأمر، له الحق في أن يسن من القوانين و التشريعات التي تعمل على تحقيق مصلحة من تحت رعايته ، و يجب أن يكون المقصد من فعله، هو المصلحة العامة، لا مصلحة فئة على حساب فئة، و المصلحة المرادة هنا، هي جلب المنفعة، و دفع المفسدة، فما على الرعية إلا الالتزام، بقرارات و تعليمات ولي الأمر . وقد أكد هذا، القرار الصادر عن المجمع الفقهي بجدة، على أنه:” لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية، و التحصينات الوقائية “[7].
و لأن في عدم تقييد حرية المصابين بالأمراض المعدية، تهديد لسلامة أمن المجتمع، و لذا تعين عزلهم، و على الإمام أن يسن من القوانين التي تمنع من تفشي الأوبئة، و قواعد الشرع – كما ذكرنا سابقا- تقضي بجواز هذا الفعل، حيث إن تصرف الإمام منوط بالمصلحة، و من مصلحة المجتمع، عزل المصابين إذا تبث أن مرضهم سيهدد سلامة المجتمع، لأن في رفض المصاب بالمرض المعدي هذا التقييد، يعد محاربة منه لحق الآخرين في الحرية، و كان هذا السلوك منه سلوك من يريد إلحاق الضرر بالمجتمع، فجاءت القوانين السالبة لحريته، لكي تحافظ على حق المجتمع في السلامة.
فما دام أنه تأكد لنا أن عدوى فيروز كوفيد 19 محققة، أو يغلب على الظن حصولها، فإن هذا الداء، مسقط لوجوب الحج في هذا الظرف إلى حين. أي حتى يتحقق رفع الوباء، بناء على قاعدة:” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” خاصة و أن المصلحة في الحج، تعود على الشخص نفسه، أكثر مما تعود على غيره، أما المفسدة فتصيب كثيرين غيره.
و من أجل النهي عن الضرر و الضرار، حرم الإسلام على حامل ميكروب المرض أن يخالط الأصحاء، أو يتسبب في الإصابة بالمرض بطريق مباشر أو غير مباشر، و لذلك حرم البصاق في الطريق و الأماكن العامة، و حرم التبول و التبرز في موارد المياه، و مواقف الظل، و كل الأماكن التي يرتادها الناس، كما أمر الشارع بإبادة الهوام و الحشرات الضارة التي قد تتسبب في نقل الفيروزات، و تساهم في انتشار العدوى .
و لقد روى إمامنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حازم، عن ابن أبي مليكة، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت، فقال لها: ” يا أمة الله لا تؤذي الناس، لو جلست في بيتك، فجلست، فمر بها رجل بعد ذلك، فقال لها: إن الذي كان قد نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: ما كنت لأطيعه حيا و أعصيه ميتا ” [8]
قال أبو عمر: فيه أنه يحال بين المجذوم، و مخالطة الناس لما فيه من الأذى، و هو لا يجوز، و إذا منع أكل الثوم من المسجد، و كان ربما أخرج إلى البقيع في العهد النبوي، فما ظنك بالجذام، و هو عند بعض الناس يعدي، و عند جميعهم يؤذي.
و يرتبط بالموضوع، فروع فقهية ثلاثة، هي:
الفرع الأول: العدوى بين النفي و الإثبات
ناقش السادة الفقهاء هذا الموضوع، وانقسموا إلى فريقين: ناف للعدوى، ومثبت لها.
الفريق الأول
جمهور الفقهاء، فقد ذهبوا إلى القول بأن المرض لا يعدي بطبعه، و إنما ذلك يتم بفعل الله و قدره سبحانه، و منهم الصحابي الجليل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – و جماعة من السلف الصالح، و عيسى بن دينار المالكي الأندلسي [9] كلهم ذهبوا إلى القول بنفي العدوى، استنادا إلى حديث أخرجه الإمام البخاري في الصحيح، عن عبد الله بن عمر، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :” لا عدوى ” [10].
و في حديث آخر، أن أبا هريرة –رضي الله عنه – قال: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:” لا عدوى ” فقام أعرابي، فقال: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب ؟ قال النبي صلى الله عليه و سلم:” فمن أعدى الأول ” [11].
و ممن ذهب إلى القول بعدم العدوى، حافظ المغرب ابن عبد البر القرطبي الأندلسي، قال: أما قوله:”لا عدوى ” فمعناه، أنه لا يعدي شيء شيئا، و لا يعدي سقيم صحيحا، و الله يفعل ما يشاء، لا شيء إلا ما شاء.
و قال ابن الملقن في التوضيح:” زعم عيسى بن دينار أن قوله ” لا عدوى ” ناسخ لقوله:” لا يورد ممرض على مصح ” [12]
و كانت العرب، أو أكثرها تقول بالعدوى و الطيرة، و منهم من كان لا يصدق بذلك و ينكره، و لكل طائفة منهم في مذهبه أشعار، و قد ذكرت منها في التمهيد ما يكفي ” [13].
و في موضوع المجذوم، يقول ابن قتيبة: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته، و محادثته و مضاجعته، و كذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل و عكسه، و لذا أمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم، لا على طريق العدوى، بل على طريق التأثر بالرائحة.
قال: و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم:” لا يورد ممرض على مصح”[14]، لأن الجرب الرطب، قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه.
قال: و أما قوله:” لا عدوى ” فله معنى آخر أيضا، و هو أن يقع المرض بمكان، كالطاعون، فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله.” [15]
و ختم الكندهلوي حديثه حول الموضوع، بأن قرر أن:” العمل بنفي العدوى أصلا و رأسا، و حمل الأمر بالمجانبة على سد الذريعة، لئلا يحدث للمخالط شيء، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، و إلى هذا القول ذهب أبو عبيد، و تبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله ” لا يورد ممرض على مصح إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله، ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن، فأمر باجتنابه “[16].
و ذهب مؤلف عون الباري بحل أدلة البخاري، الشيخ محمد صديق خان القنوجي البخاري بأن المراد بنفي العدوى: ” أن شيئا لا يعدي بطبعه، نفيا لما كانت الجاهلية تعقده، من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله تعالى، كما سبق، فأبطل اعتقادهم ذلك، و أكله مع المجذوم ليبين لهم، أن الله تعالى هو الذي يمرض و يشفي، و نهاهم عن الدنو من المجذوم، ليبين أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، و في فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئا، و إن شاء أبقاها، فأثرت، و على هذا جرى أكثر الشافعية “[17].
الفريق الثاني:
قد ذهبوا إلى القول بإمكانية العدوى، و استدلوا على ذلك بما جاء في الحديث المروي عن عمرو بن الشريد عن أبيه، قال:” كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم: ” إنا قد بايعناك فارجع “.
كما استدلوا بحديث:” الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز و جل به أناسا من عباده، فإذا سمعتم به، فلا تدخلوا عليه، و إذا و قع بأرض و أنتم بها، فلا تفروا منه ” [18]
قال ابن القيم الجوزية: و في المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها الطاعون عدة حكم:
إحداها: تجنب الأسباب المؤذية، و البعد منها.
الثانية: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش و المعاد.
الثالثة: أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن و فسد، فيصيبهم المرض.
الرابعة: أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم.
الخامسة: حمية النفوس عن الطيرة و العدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطيرة على من تطير بها.
و بالجملة، ففي النهي عن الدخول في أرضه، الأمر بالحذر و الحمية، و النهي عن التعرض لأسباب التلف، و في النهي عن الفرار منه، الأمر بالتوكل و التسليم و التفويض.
فالأول: تأديب و تعليم، و الثاني تفويض و تسليم.”[19]
و استدل آخرون بإمكانية العدوى، بما رواه أبو هريرة،أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:” لا عدوى، و لا طيرة، و لا هامة، و لا صفر، و فر من المجذوم كما تفر من الأسد ” [20].
و رد على هذا، بأن الأمر بالفرار، ليس من باب العدوى، بل لأمر طبيعي، و هو انتقال الداء من جسد إلى جسد، بواسطة الملامسة و المخالطة، و شم الرائحة، فليس على طريق العدوى، بل بتأثير الرائحة، لأنها تسقم من واظب استشمامها، و نحو ذلك [21].
و تساءل البعض عن التوفيق بين الحديثين ” لا عدوى و لا طيرة ” و ” فر من المجذوم فرارك من الأسد “؟
فأجيب: بأن لا منافاة عند أهل العلم بين هذا و هذا، و كلاهما قاله النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال:” لا عدوى و لا طيرة و لا هامة، ولا صفر…الحديث ” و ذلك نفي لما يعتقده أهل الجاهلية، من أن الأمراض كالجرب تعدي بطبعها، و أن من خالط المريض أصابه ما أصاب المريض، و هذا باطل، بل ذلك بقدر الله و مشيئته، و قد يخالط الصحيح المريض المجذوم، و لا يصيبه شيء كما هو واقع و معروف، و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لمن سأله عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب كلها، قال له عليه الصلاة و السلام:” فمن أعدى الأول “.
و أما قوله صلى الله عليه و سلم:” فر من المجذوم فرارك من الأسد ” و قوله:” صلى الله عليه و سلم في الحديث الآخر:” لا يورد ممرض على مصح ” فالجواب عن ذلك، أنه لا يجوز أن يعتقد العدوى، و لكن يشرع له أن يتعاطى الأسباب الواقية من وقوع الشر، و ذلك بالبعد عمن أصيب بمرض يخشى انتقاله منه إلى الصحيح بإذن الله عز و جل كالجرب و الجذام، و من ذلك عدم إيراد الإبل الصحيحة على الإبل المريضة بالجرب و نحوه، توقيا لأسباب الشر، و حذرا من وساوس الشيطان الذي قد يملي عليه أن ما أصابه أو أصاب إبله، هو بسبب العدوى.
يتبع