همسات تربوية للبيوت

محسن رمضان الكومي




ورد في الأمثلة العربية عبارة (البيوت أسرار)، يدل هذا المثل على أن هناك أسراراً خفية لا يعرفها من البشر إلا ساكنوها، وتسري هذه المعرفة لتشمل الجدران والمباني، ولو قدر لهذه البيوت أن تتكلم وتعبر عن أحاسيسها ومشاعرها تجاه ساكنيها لسمعنا لها همسات وصرخات، همسات حب لساكنيها، وترجو مع كل همسة أن تتسع على من يسكنها أفدنة مديدة حبا وتقديرا وإجلالا لهم.
وعلى جانب آخر نجد بيوتا تئن وتصرخ، وترجو أن تهدم وتزال كرها وبغضا في ساكنيها، ترى ما الدافع وراء رجاء الصنف الأول من البيوت أن تتسع، وما الباعث القوي لرجاء الصنف الثاني وهو الزوال والهدم.
هل لو سألنا هذه البيوت التي تحوي الأسرار الدفينة هل ستعترف بالسر؟
دعونا نجرب أن نجري حوارا مفتوحا مع بعض البيوت، ممن يرجو الاتساع لساكنيها وسألناها: ما السر في أمانيكم تلك؟ وما الدافع وراء هذا الحب العميم الذي تبدوه لمحبيكم من ساكني هذه البيوت؟
نجد أنها ستعطي وصفا راقيا لساكنيها علي شكل همسات، لترسم صورة ذهنية راقية لأصحاب هذه البيوت في مخيلة سامعي الحوار.
الهمسة الأولى: بيوت مؤمنة
أعلنت الإيمان شعارا واتخذته لواء ترفعه في أوقاتها كلها، عصيبة كانت أم بسيطة، ففيها الذكر يخالط أنفاسها، والاستغفار ملء أفواهها، والتحميد والتسبيح دليل على إخلاصها، فهي بيوت لله، أخلصت وجهها وشغلتها عبادة ربها وقد امتثلت أمر ربها في قوله -تعالى-: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13)، هذه هي الهمسة الأولى همسة للإيمان والعمل المتلازمين؛ فمن أراد سعة الدار عليه بالإيمان، اجعلوه راسخا في قلوب أهليكم، وطبقوه قولا ونفذوه عملا.
الهمسة الثانية: بيوت متحابة
الحب شعور قوي موجه من أطراف المحبين لبعضهم بعضا، وبه تغفر الزلات، وبسببه تمحى الهفوات، وعلى أساسه تبنى العلاقات؛ لذا جعله الله -تعالى- قرينا قويا لميثاق الزواج الغليظ في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21).
وأعلنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنوانا كبيرا عندما سئل في الرواية التي يرويها أنس بن مالك «قيل: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قيل: من الرجال؟ قال: أبوها» رواه الترمذي وصححه الألباني، فانظروا يا أصحاب البيوت العريقة التي تبنى على الحب، كيف كان حبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنها-، وقد أضاف اسم أبي بكر - رضي الله عنه - إليها، فقال: أبوها؛ ليعلن - صلى الله عليه وسلم - حبه لعائشة مرتين، فيا بيوتنا الغالية أعلنوا شعار الحب في كل شبر من بيوتكم، لعل الجدران والأسقف تنشد وتغني من حولكم، وأنتم ترسمون الحب يينكم.
الهمسة الثالثة: بيوت متفاهمة
ركن أصيل في بقاء عروش البيوت منصوبة، ومبدأ أصيل تثبت به أركان البيوت أمام زوابع الحياة اليومية التي لو تمكنت من جبل شامخ لأردته حبات رمل صغيرة من شدة قوتها، ولكن بالتفاهم يشتد عود البيت ويقوى، فلو أن كل زوجين اقتراحا ميثاقا للتفاهم فيما بينهما لحدث التناغم المنشود الذي تذوب على أعتابه أعتى المشكلات وأصعبها تعقيدا، وتزداد به الثقة المتبادلة بين الزوجين، وينمو ويترعرع الود بينهما، كما فهم الأولون ووطنوا أنفسهم على ميثاق اتفاق عندما قال التابعي لزوجته في أول يوم للعرس: «إذا غضبتُ رضيني، وإذا غضبتِ رضيتك، وإلا لن نصطحبا» لتستمر الحياة هنيئة هادئة سالمة من الزوابع ومع يعتصرها من آلام الفرقة والاختلاف، فهي دعوة نوجهها إلى كل أسرة أن تفاهموا واتفقوا ولا تختلفوا.
الهمسة الرابعة: بيوت معطاءة
العطاء صفة من صفات المحسنين، والبذل قيمة عظيمة من شيم الكرام، والبيوت التي تتسم بالعطاء خيرها يعم على أركانها، ويسري هذا الخير إلى خارجها، فهي تبنى على معاني المنح والعطاء داخل أفرادها فيبذل الزوج ويعطي أفضل ما عنده وأحب، وتبادله الزوجة أفضل ما عندها وأحب، ويسري عطاؤهما الذي لا يحول دونه طمع ولا بخل إلى الأولاد لترسم الأسرة بأكملها لوحة جميلة مكتوب عليها (عطاء بلا حدود)، وما يلبث هذا العطاء في البيت إلا قليلا، ثم تجده قد نفذ من جدرانه ليَشْتَمَّهُ ويستنشقه الجيران، فهم يجدون عطاء هذه البيوت قد شملهم وتعدى أثره إليهم، فيا أصحاب البيوت الرفيعة الأدب، العالية الأثر، ارفعوا شعار العطاء لننعم جميعا بعطائكم وعطاء غيركم.

تلك كانت مجموعة همسات بثتها لنا بيوت، جل أمانيها أن تتسع على أصحابها أفدنة مديدة لما لاقته من إيمان وحب وتفاهم وعطاء؛ ليشملوا أركان البيت وتسري هذه المعاني عبيرا فواحا ليجده الناس واقعا في حياتهم.