(اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ…) ): فِي هذِهِ الآيةِ يخبرُ اللَّهُ بأنَّهُ منفردٌ بالألوهِيَةِ، وذلِكَ مِنْ قولِهِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)؛ لأنَّ هذِهِ جملةٌ تفيدُ الحَصْرَ، وطريقةُ النَّفيِ والإثباتِ هذِهِ من أقوَى صِيَغِ الحصرِ.
وقَوْلُهُ: (الْحَىُّ الْقَيُّومُ): (الْحَىُّ)، أيْ: ذو الحياةِ الكاملةِ، المتضمنةِ لجميعِ صفاتِ الكمالِ، لَمْ تُسْبَقْ بعدمٍ، ولاَ يلحقُهَا زوالٌ، ولاَ يعترِيها نقصٌِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.
و(الْحَىُّ) مِنْ أسماءِ اللَّهِ، وقدْ تُطْلَقُ عَلَى غيرِ اللَّهِ، قَالَ - تَعَالَى -: (يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، ولكنْ ليسَ الحيُّ كالحيِّ، ولاَ يلزمُ مِن الاشتراكِ فِي الاسمِ التَّماثلِ فِي المُسمَّى.
(الْقَيُّومُ): عَلَى وزنِ (فيعولُ)، وهذِهِ مِنْ صيغِ المبالغةِ، وهِيَ مأخوذةٌ مِنَ القيامِ.
ومعنى (الْقَيُّومُ)، أيْ: أنَّهُ القائمُ بنَفْسِه، فقيامُهُ بنفْسِهِ يستلزمُ استغناءَهُ عَنْ كُلِّ شيءٍ، لاَ يحتاجُ إِلَى أكلٍ ولاَ شربٍ ولاَ غيرِهما، وغيرهُ لاَ يقومُ بنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ محتاجٌ إِلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فِي إيجادِهِ وإعدادِه وإمدادِهِ.
ومِنْ معنى (الْقَيُّومُ) كذلِكَ أنَّهُ قائمٌ عَلَى غيرِهِ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) ، والمقابلُ محذوفٌ، تقديرُهُ: كَمَنْ ليسَ كذلِكَ، والقائمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بمَا كَسَبَتْ هُوَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، وَلِهَذَا يقولُ العلماءُ: القيُّومُ: هُوَ القائمُ بنَفْسِهِ القائِمُ عَلَى غيرِهِ، وإِذَا كَانَ قائماً عَلَى غيرِهِ، لزمَ أنْ يكونَ غيرُهُ قائماً بِهِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَمِنْ ءَايَتِهِ أن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) ، فَهُوَ إذاً: كاملُ الصِّفاتِ وكاملُ المُلكِ والأفعالِ.
وهَذَان الاسمانِ همَا الاسمُ الأعظمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ اللَّهُ بِهِ أجابَ، وَلِهَذَا ينبغِي للإنسانِ فِي دعائِهِ أنْ يتوسلَ بِهِ، فيقولُ: يا حيُّ يا قيُّومُ، وقدْ ذُكرا فِي الكتابِ العزيزِ فِي ثلاثةِ مواضعَ: هَذَا أحدُها، والثَّاني فِي سورةِ آلِ عمرانَ، (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) ، والثَّالثُ فِي سورةِ طه: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مِنْ حَمَلَ ظُلْماً) .
هَذَان الاسمانِ فِيهِمَا الكمالُ الذَّاتيُّ والكمالُ السُّلطانيُّ، فالذَّاتيُّ فِي قولِهِ: (الْحَىُّ)، والسُّلطانيُّ فِي قولِهِ: (الْقَيُّومُ)؛ لأنَّهُ يقومُ عَلَى كُلِّ شيءٍ، ويقومُ بِهِ كُلُّ شيءٍ.
وقوْلُهُ: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ): والسِّنَةُ النُّعاسُ، وهِيَ مقدِّمةُ النَّومِ، ولَمْ يَقُلْ: لاَ ينامُ؛ لأنَّ النَّوْمَ يكونُ باختيارٍ، والأخذُ يكونُ بالقَهرِ.
والنَّومُ مِنْ صفاتِ النَّقصِ، قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ)).
وهذِهِ صفةٌ مِنْ صفاتِ النَّفيِ، وقَدْ سَبَقَ أنَّ صفاتِ النَّفيِ لاَ بُدَّ أنْ تتضمَّنَ ثُبوتاً، وهُوَ كمالُ الضِّدِّ، والكمالُ فِي قولِهِ: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) كمالُ الحياةِ والقيُّوميَّةِ؛ لأنَّهُ مِنْ كمالِ حياتِهِ أنْ لاَ يحتاجَ إِلَى النَّومِ، ومِنْ كمالِ قيوميتِهِ أنْ لاَ ينامَ؛ لأنَّ النَّومَ إنمَا يحتاجُ إِلَيْهِ المخلوقاتُ الحيَّةُ، لنَقصِها، لأنَّها تحتاجُ إِلَى النَّومِ مِنْ أجْلِ الاستراحَةِ مِنْ تعبٍ سَبَقَ، واستعادةِ القوَّةِ لعَملِ مستقبلٍ، ولَمّا كَانَ أهلُ الجنَّةِ كامِلي الحياةِ كانوا لاَ ينامُونَ، كَمَا صحَّتْ بذلِكَ الآثارُ.
لكنْ لو قَالَ قائلٌ: النَّومُ فِي الإنسانِ كمالٌ، ولِهَذَا، إِذَا لَمْ يَنَمِ الإنسانُ، عُدَّ مريضاً.
فنقولُ: كالأكلِ فِي الإنسانِ كمالٌ، ولو لَمْ يأكلْ عُدَّ مريضاً، لكنْ هُوَ كمالٌ مِنْ وجهٍ، ونقصٌ مِنْ وجهٍ آخرَ، كمالٌ لدلالتِهِ عَلَى صحَّةِ البَدنِ واستقامتِهِ، ونقصٌ لأنَّ البَدنَ محتاجٌ إليْهِ، وهُوَ فِي الحقيقةِ نقصٌ.
إذاً: ليسَ كُلُّ كمالٍ نسبيٌّ بالنِّسبةِ للمخلوقِ يكونُ كمالاً للخالقِ، كَمَا أنَّهُ ليسَ كُلُّ كمالٍ فِي الخالقِ يكونُ كمالاً فِي المخلوقِ، فالتَّكبُّرُ كمالٌ فِي الخالقِ، نقصٌ فِي المخلوقِ، والأكلُ والشُّربُ والنَّومُ كمالٌ فِي المخلوقِ، نقصٌ فِي الخالقِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ) .
وقولُهُ: (لَّهُ مَا فِى السَّمَاوات وَمَا فِى الأَرْضِ): (لَهُ): خبرٌ مقدَّمٌ، و(مَا): مبتدأٌ مؤخَّرٌ، ففِي الجُملةِ حَصرٌ، طريقُهُ تقديمُ مَا حقُّهُ التَّأخِيرُ، وهُوَ الخَبَرُ. (لَّهُ): اللاَّمُ هذِهِ للمُلكِ، مُلكٍ تامٍّ، بدونِ معارِضٍ. (مَا فِى السَّمَاواتِ): مِنَ الملائكةِ والجنَّةِ وغيرِ ذلِكَ ممَا لاَ نَعلَمُهُ، (وَمَا فِى الأَرْضِ): من المخلوقاتِ كلِّها، الحيوانِ مِنْها وغيرِ الحيوانِ.
وقولُهُ: (السَّمَاواتِ): تفيدُ أنَّ السَّماواتِ عديدةٌ، وهُوَ كذلِكَ، وقدْ نَصَّ القرآنُ عَلَى أنَّها سَبعٌ: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) .
والأرضُونَ أشارَ القرآنُ إِلَى أنَّها سَبعٌ، بدونِ تصريحٍ، وصرَّحتْ بها السُّنَّةُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، مثلُهنَّ فِي العددِ دونَ الصِّفةِ، وفِي السُّنَّةِ قَالَ النبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبعِ أَرْضِين)).
وقولُهُ: (مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ): (مَنْ ذَا): اسمُ استفهامٍ، أَوْ نقولُ: (مَن): اسمُ استفهامٍ، و(ذَا): ملغاةٌ، ولاَ يصحُّ أنْ تكونَ (ذَا): اسماً موصولاً فِي مثلِ هَذَا التَّركيبِ؛ لأنَّهُ يكونُ معنى الجملةِ: مَنْ الَّذِي الَّذِي! وَهَذَا لاَ يستقيمُ.
وقولُهُ: (مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ): الشَّفاعةُ فِي اللُّغةِ: جعلُ الوَتْرِ شفعاً، قَالَ - تَعَالَى -: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) . وفِي الاصطلاحِ: هِيَ التَّوسُّطُ للغيرِ بجَلْبِ منفعةٍ أوْ دَفْعِ مضرَّةٍ، فمثلاً: شفاعةُ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهلِ الموْقفِ أنْ يُقضى بَيْنَهُم: هذِهِ شفاعةٌ بدفعِ مضرَّةٍ، وشفاعتُهُ لأهلِ الجنَّةِ أنْ يدخلُوها بجلبِ منفعةٍ.
وقَوْلُهُ: (عِنْدَهُ)، أيْ: عندَ اللَّهِ.
(إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، أيْ: إذنِهِ لَهُ، وهذِهِ تفيدُ إثباتَ الشفاعةِ، لكنْ بشرطِ أنْ يأذنَ، ووجهُ ذلِكَ أنَّهُ لولاَ ثُبوتُهَا لكَانَ الاستثناءُ فِي قولِهِ (إِلاَّ بِإِذْنِهِ): لَغْواً لاَ فائدةَ فِيهِ.
وذِكْرُهَا بعدَ قولِهِ: (لَّهُ مَا فِى السَّمَاواتِ…): يفيدُ أنَّ هَذَا المُلْكَ الَّذِي هُوَ خاصٌّ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، أنَّهُ مُلْكٌ تامُّ السُّلْطانِ، بمعنى أنَّهُ لاَ أَحَدَ يَستطِيعُ أنْ يَتصرَّفَ ولاَ بالشَّفاعةِ الَّتِي هِيَ خيرٌ إِلاَّ بإذنِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ تِمامِ ربوبيَّتِهِ وسلطانِهِ - عزَّ وجلَّ -.
وتفيدُ هذِهِ الجملةُ أنَّ لِلَّهِ إذناً، والإذنُ فِي الأصلِ الإعلامُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، أيْ: إعلامٌ مِنَ اللَّهِ ورسولِهِ، فمعنى (بِإِذْنِهِ)، أيْ: إعلامُهُ بأنَّهُ راضٍ بذلِكَ.
وهناكَ شروطٌ أُخرى للشَّفاعةِ: مِنْها: أن يكونَ راضياً عَنِ الشَّافعِ وعَنِ المشفوعِ لَهُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) ، وقال: (يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) .
وهناكَ آيةٌ تنتظمُ الشُّروطَ الثَّلاثةَ: (وَكَم مِّن مَلَكٍ فِي السَّمَاواتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى) ، أيْ: يرضَى عَنِ الشَّافعِ والمشفوعِ لَهُ؛ لأنَّ حَذْفَ المعمولِ يدلُّ عَلَى العمومِ.
إِذَا قَالَ قائلٌ: مَا فائدةُ الشفاعةِ إِذَا كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ عَلِمَ أنَّ هَذَا المشفوعَ لَهُ ينجُو؟
فالجوابُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - يأذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ يشفعُ مِنْ أجلِ أنْ يكرِمَهُ وينالَ المقامَ المحمودَ.
وقَوْلُهُ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ): العلمُ هُوَ إدراكُ الشَّيءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ إدراكاً جازماً، واللَّهُ - عزَّ وجلَّ - (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) المستقبلُ، (وَمَا خَلْفَهُمْ) الماضِي، وكلمةُ (ما) مِنْ صيغِ العمومِ، تشملُ كُلَّ ماضٍ وكُلَّ مستقبلٍ، وتشملُ أيضاً مَا كَانَ من فِعْلِهِ، ومَا كَانَ من أفعالِ الخَلْقِ.
وقَوْلُهُ (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ): الضَّميرُ فِي (يُحِيطُونَ) يعودُ عَلَى الخلقِ الَّذِي دلَّ عَلَيْهِم قُوْلُهُ: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوات وَمَا فِي الأَرْضِ)، يعني لاَ يحيطُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأرضِ بشيءٍ مِنْ علمِ اللَّهِ إِلاَّ بمَا شاءَ.
قَوْلُهُ: (مِّنْ عِلْمِهِ): يحتملُ من علمٍ ذاتَهُ وصفاتِهِ، يعني: أنَّنا لاَ نعلمُ شيئًا عَنِ اللَّهِ وذاتِهِ وصفاتِهِ إِلاَّ بمَا شاءَ ممَا علَّمَنَا إياهُ، ويحتملُ أنَّ (عِلمٍ) هُنَا بمعنى معلومٍ، يعني: لاَ يحيطُونَ بشيءٍ مِن معلومِهِ، أيْ: ممَا يعلمُهُ، إِلاَّ بمَا شاءَهُ، وكِلاَ المعنيَيْنِ صحيحٌ، وقَدْ نقولُ: إنَّ الثَّانيَ أعمُّ؛ لأنَّ معلومَهُ يدخلُ فِيهِ علمَهُ بذاتِهِ وبصفاتِهِ وبمَا سوى ذلِكَ.
وقولُهُ: (إِلاَّ بِمَا شَاءَ)، يعني: إلاّ بمَا شاءَ ممَا علَّمهُم إياه.
وقدْ علَّمَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - أشياءَ كثيرةً عَنْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وعَنْ أحكامِهِ الكونيَّةِ وأحكامِهِ الشَّرعيَّةِ، ولكنَّ هَذَا الكثيرَ هُوَ بالنِّسبةِ لمعلومِهِ قليلٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: ويسئلونك عن الروح، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَا أُوتيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) .
وقَوْلُهُ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوات وَالأَرْضَ): (وَسِعَ) بمعنى: شملَ، يعني: أنَّ كرسيَّهُ محيطٌ بالسَّماواتِ والأرضِ، وأكبرُ مِنْها؛ لأنَّهُ لولاَ أنَّهُ أكبرُ مَا وسعَها.
والكرسيُّ، قَالَ ابنُ عباسٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُما -: ((إِنَّهُ مَوْضِعُ قَدَمي اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -))، وليسَ هُوَ العرشُ، بلِ العرشُ أكبرُ مِنَ الكرسيِّ، وقَدْ وردَ عَنِ النَّبيِّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرْضينَ السَّبْعَ بالنِّسبةِ للكُرْسِي كَحَلَقَةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَأَنَّ فَضْلَ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الفَلاةِ عَلَى هذِهِ الحَلَقَةِ)).
هَذَا يدلُّ عَلَى عظمِ هذِهِ المخلوقاتِ، وعظمُ المخلوقِ يدلُّ عَلَى عِظَمِ الخالقِ.
قَوْلُهُ: (وَلاَ يُؤُدُهُ حِفْظُهُمَا)، يعني: لاَ يثقلُهُ ويكرثُهُ حفظُ السَّماواتِ والأرضِ.
وهذِهِ مِنَ الصِّفاتِ المنفيَّةِ، والصِّفةُ الثبوتيةُ الَّتِي يدلُّ عَلَيْهِا هَذَا النَّفيُ هِيَ كمالُ القُدرةِ والعِلمِ والقوَّةِ والرَّحمةِ.
وقَوْلُهُ: (وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ): (الْعَلِىُّ) عَلَى وزنِ فعيلٍ، وهِيَ صفةٌ مشبّهةٌ؛ لأنَّ عُلوَّهُ - عزَّ وجلَّ - لازمٌ لذاتِهِ، والفرقُ بَيْنَ الصِّفةِ المشبّهةِ واسمِ الفاعلِ: أنَّ اسمَ الفاعلِ طارئٌ حادثٌ يمكنُ زوالُهُ، والصِّفةُ المشبّهةُ لازمةٌ لاَ ينفكُّ عَنْها الموصوفُ.
وعلوُّ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - قسمانِ: علوُّ ذاتٍ، وعلوُّ صفاتٍ:
فأمَّا علوُّ الذَّاتِ، فإنَّ معناهُ أنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شيءٍ بذاتِهِ، ليسَ فوقَهُ شيءٌ، ولاَ حِذاءَهُ شيءٌ.
وأمَّا علوُّ الصِّفاتِ، فهِيَ مَا دلَّ علَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) ، يعني: أنَّ صفاتِهِ كلَّها عُلْيا، ليسَ فِيها نقصٌ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.
أمَّا (الْعَظِيمُ)، فهِيَ أيضاً صفةٌ مشبّهةٌ، ومعنَاهَا: ذُو العظمةِ، وهِيَ القوَّةُ والكبرياءُ، ومَا أشبَهَ ذلِكَ ممَا هُوَ معروفٌ مِنْ مدلولِ هذِهِ الكلمةِ.
وهذِهِ الآيةُ تتضمَّنُ مِنْ أسماءِ اللَّهِ خمسةً: وهِيَ: اللَّهُ، الحيُّ، القَيُّومُ، العَلِيُّ، العظيمُ.
وتتضمَّنُ مِنْ صفاتِ اللَّهِ ستًّا وَعِشرينَ صفةً، مِنْهُا خمسُ صفاتٍ تضمَّنَتْها هذِهِ الأسماءُ.
السَّادِسةُ: انفرادُهُ بالألوهِيَّةِ.
السَّابعةُ: انتفاءُ السِّنَةِ والنَّومِ فِي حقِّهِ، لكمالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ.
الثَّامنةُ: عمومُ مُلْكِهِ، لقوْلِهِ: (لَهُ مَا فِى السَّمَاوات وَمَا فِى الأَرْضِ).
التَّاسعةُ: انفرادُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - بالملكِ، ونأخذُهُ مِنْ تقديمِ الخبرِ.
العاشرةُ: قوّةُ السلطانِ وكمالُه، لقولِهِ: (مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ).
الحاديةَ عشْرةَ: إثباتُ العِنديَّةِ، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّهُ ليسَ فِي كُلِّ مكانٍ، ففِيهِ الردُّ عَلَى الحلوليَّةِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرةَ: إثباتُ الإذنِ مِنْ قَوْلِهِ: (إِلاَّ بِإِذْنِهِ).
الثَّالثةَ عشْرةَ: عمومُ علمِ اللَّهِ - تَعَالَى -، لقولِهِ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
الرَّابعةَ عشْرةَ والخامسةَ عشْرةَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لاَ يَنْسَى مَا مَضَى، لقولِهِ: (وَمَا خَلْفَهُمْ)، ولاَ يَجهلُ مَا يُستقبلُ، لقولِهِ: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ).
السَّادسةَ عشْرةَ: كمالُ عظمةِ اللَّهِ، لعجزِ الخَلقِ عن الإحاطةِ بِهِ.
السَّابعةَ عشْرةَ: إثباتُ المشيئةِ، لقولِهِ: (إِلاَّ بِمَا شَاءَ).
الثَّامنةَ عشْرةَ: إثباتُ الكرسيِّ، وهُوَ موضعُ القَدَميْنِ.
التَّاسِعةَ عشرةَ والعِشرونَ والحاديةُ والعشرونَ: إثباتُ العظمةِ والقوَّةِ والقُدرةِ، لقولِهِ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ)؛ لأنَّ عظمةَ المخلوقِ تدلُّ عَلَى عَظَمةِ الخالقِ.
الثَّانِيَةُ والثَّالثةُ والرَّابعةُ والعِشرونَ: كمالُ عِلمِهِ ورَحمتِهِ وحِفظِهِ، مِنْ قولِهِ: (وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا).
الخامسةُ والعشرونَ: إثباتُ علوِّ اللَّهِ، لقولِهِ: (وَهُوَ الْعَلِىُّ).
ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - عالٍ بذاتِهِ، وأنَّ علوَّهُ مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ الأزليَّةِ الأبديَّةِ.
وخالفَ أهلَ السُّنَّةِ فِي ذلِكَ طائفتانِ: طائفةٌ قالوا: إنَّ اللَّهَ بذاتِهِ فِي كُلِّ مكانٍ، وطائفةٌ قالوا: إنَّ اللَّهَ ليسَ فَوْقَ العالَمِ، ولاَ تحتَ العالَمِ، ولاَ فِي العالَمِ، ولاَ يمينٍ، ولاَ شمالٍ، ولاَ منفصلٍ عن العالمِ، ولاَ متَّصلٍ!
والَّذِينَ قالوا بأنَّهُ فِي كُلِّ مكانٍ استدلُّوا بقولِ اللَّهِ - تَعَالَى -: (وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ، وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ) ، واستدلُّوا بقولِهِ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، وعَلَى هَذَا فليسَ عالياً بذاتِهِ، بَلِ العلوُّ عِنْدَهُم علوُّ صفةٍ.
أمَّا الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ لاَ يُوصَفُ بجهةٍ، فَقَالَوا: لأنَّنا لو وصفْناه بذلِكَ لكَانَ جسماً، والأجسامُ متماثلةٌ، وَهَذَا يستلزمُ التَّمثيلَ، وعَلَى هَذَا فنُنكِرُ أنْ يكونَ فِي أيِّ جهةٍ!
ولكنَّنا نردُّ عَلَى هؤلاءِ وهؤلاءِ من وَجْهَيْنِ:
الوجهُ الأوَّلُ: إبطالُ احتجاجِهِم.
والثَّاني: إثباتُ نقيضِ قولِهِم بالأدلَّةِ القاطعةِ.
1- أمَّا الأوَّلُ: فنقولُ لِمَنْ زعمُوا أنَّ اللَّهَ بذاتِهِ فِي كُلِّ مكانٍ: دعواكُمْ هذِهِ دَعْوَى باطلةٌ، يَردُّها السَّمعُ والعقلُ،
-أمَّا السَّمعُ فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أثبتَ لنَفْسِهِ أنَّهُ العليُّ، والآيةُ الَّتِي استدللْتُم بِها لاَ تدلُّ عَلَى ذلِكَ؛ لأنَّ المعيَّةَ لاَ تستلزمُ الحلولَ فِي المكانِ، ألاَ ترى إِلَى قولِ العربِ: القمرُ معنَا، ومحَلُّه فِي السَّماءِ؟ ويقولُ الرَّجُلُ: زَوْجَتِي معي، وَهُوَ فِي المشرقِ وهِيَ فِي المغربِ؟ ويقولُ الضَّابطُ للجنودِ: اذهبوا إِلَى المعركةِ وأنا مَعَكُمْ، وهُوَ فِي غرفةِ القِيادةِ وهُمْ فِي ساحةِ القِتالِ؟ فلاَ يَلزمُ مِن المعيَّةِ أنْ يكونَ الصَّاحبُ فِي مكانِ المصاحَبِ أبداً، والمعيَّةُ يتحدَّدُ معناها بحسبِ مَا تُضافُ إِليه، فنقولُ أحياناً: هَذَا لبنٌ مَعَهُ ماءٌ، وهذِهِ المعيَّةُ اقتضتِ الاختلاطَ، ويقولُ الرَّجلُ: متاعِي مَعِي، وَهُوَ فِي بيتِهِ غيرُ متَّصلٍ بِهِ، ويقولُ: إِذَا حملَ متاعَهُ معه: متاعِي معي، وَهُوَ متَّصلٌ بِهِ. فهذِهِ كلمةٌ واحدةٌ، لكنْ يختلفُ معناهَا بحسَبِ الإضافةِ، فبهَذَا نقولُ: معيَّةُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - لخلقِهِ تليقُ بجلالِهِ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، كسائرِ صفاتِهِ، فهِيَ معيَّةٌ تامَّةٌ حقيقيَّةٌ، لكنْ هُوَ فِي السَّماءِ.
-وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ عَلَى بُطلانِ قولِهِم فنقولُ: إِذَا قلْتَ: إنَّ اللَّهَ مَعَكَ فِي كُلِّ مكانٍ، فهَذَا يلزمُ عَلَيْهِ لوازمُ باطلةٌ، فيَلزمُ عَلَيْهِ: أَوَّلاً: إمَّا التَّعدُّدُ أو التجزُّؤُ، وَهَذَا لازمٌ باطلٌ بلاَ شكٍّ، وبطلانُ اللاَّزمِ يدلُّ عَلَى بطلانِ الملزومِ.
ثانيا: نقولُ: إِذَا قلْتَ: إنَّهُ معكَ فِي الأمكنةِ لزمَ أنْ يزدادَ بزيادةِ النَّاسِ، ويَنْقُصَ بنقصِ النَّاسِ.
ثالثاً: يلزمُ عَلَى ذلِكَ ألاَ تنـزِّهَهُ عَنِ المواضعِ القذرةِ، فَإِذَا قُلْتَ: إنَّ اللَّهَ مَعَكَ وأنْتَ فِي الخلاءِ فيكونُ هَذَا أعظمَ قَدْحٍ فِي اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
فتبيَّنَ بهَذَا أنَّ قولَهُم منافٍ للسَّمعِ ومنافٍ للعقلِ، وأنَّ القرآنَ لاَ يدلَّ عَلَيْهِ بأيِّ وجهٍ من الدَّلالاتِ، لاَ دلالةَ مطابقةٍ، ولاَ تضمُّنٍ، ولاَ التزامٍ أبداً.
2- أمَّا الآخرونَ فنقولُ لَهُمْ:
أَوَّلاً: إنَّ نفيَكُم للجهةِ يستلزمُ نفيَ الرَّبِّ - عزَّ وجلَّ -، إذْ لاَ نعلمُ شيئًا لاَ يكونُ فَوْقَ العالمِ ولاَ تحتَهُ، ولاَ يمين ولاَ شمال، ولاَ متَّصل ولاَ منفصل، إِلاَّ العدمَ، وَلِهَذَا قَالَ بعضُ العلماءِ: لو قِيلَ: لنا صِفُوا اللَّهَ بالعدَمِ، مَا وجَدْنا أصدقَ وصفاً للعدَمِ مِنْ هَذَا الوصفِ.
ثانياً: قولُكُمْ: إثباتُ الجهةِ يستلزمُ التَّجسيمَ! نَحْنُ نناقشُكُم فِي كلمةِ الجسمِ:
مَا هَذَا الجسمُ الَّذِي تنفِّرونَ النَّاسَ عن إثباتِ صفاتِ اللَّهِ من أجلِهِ؟!
أتريدونَ بالجسمِ الشَّيءَ المكوَّنَ من أشياءَ مفتقرٍ بعضِهَا إِلَى بعضٍ، لاَ يمكنُ أنْ يقومَ إِلاَّ باجتماعِ هذِهِ الأجزاءِ؟! فإنْ أردْتُمْ هَذَا فنَحْنُ لاَ نُقِرُّهُ، ونقولُ: إنَّ اللَّهَ ليسَ بجسمٍ بهَذَا المعنَى، ومَنْ قالَ: إنَّ إثباتَ عُلُوِّهِ يَستلزِمُ هَذَا الجِسمَ، فقولُهُ مجرَّدُ دعوى، ويكفِينَا أنْ نقولَ: لاَ قبولَ، أمَّا إنْ أردْتُم بالجسمِ الذَّاتَ القائمةَ بنَفْسِها المتَّصفةَ بمَا يليقُ بِها فنَحْنُ نثبتُ ذلِكَ، ونقولُ: إنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - ذاتاً، وهُوَ قائمٌ بنَفْسِهِ، متصفٌ بصفاتِ الكمالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يعلمُ بِهِ كُلُّ إنسانٍ.
وبهَذَا يتبينُ بطلانُ قولِ هؤلاءِ الَّذِينَ أثبتوا أنَّ اللَّهَ بذاتِهِ فِي كُلِّ مكانٍ، أوْ أنَّ اللَّه - تَعَالَى - ليسَ فَوْقَ العالمِ ولاَ تحتَهُ، ولاَ متصلاً ولاَ منفصلاً، ونقولُ: هُوَ عَلَى عرشِهِ استوى - عزَّ وجلَّ -.
أمَّا أدلَّةُ العُلوِّ الَّتِي يُثْبَتُ بِها نقيضُ قولِ هؤلاءِ وهؤلاءِ والَّتِي تُثبِتُ مَا قالَهُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فهِيَ أدلَّةٌ كثيرةٌ لاَ تُحصرُ أفرادُهَا، وأمَّا أنواعُها فهِيَ خمسةٌ: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والعقلُ، والفِطرةُ.
-أمَّا الكتابُ، فتنوَّعَتْ أدلَّتُهُ عَلَى عُلوِّ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، مِنْهُا التَّصريحُ بالعُلوِّ والفوقيَّةِ، وصعودِ الأشياءِ إليْهِ، ونُزولِهَا مِنْه، ومَا أشبهَ ذلِكَ.
-أمَّا السُّنَّةُ، فكذلِكَ تنوعَتْ دلالَتُها، واتَّفَقَتِ السُّنَّةُ بأصنافِها الثَّلاثَةِ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ بذاتِهِ، فقدْ ثَبَتَ عُلوُّ اللَّهِ بذاتِهِ فِي السُّنَّةِ مِنْ قولِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعْلِهِ وإقرارِهِ.
-وأمَّا الإجماعُ، فقدْ أجمعَ المسلمُونَ قَبْلَ ظُهورِ هذِهِ الطَّوائفِ المبتدِعةِ عَلَى أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مستوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ خلقِهِ.
قَالَ شيخُ الإسلامِ: ((ليسَ فِي كلامِ اللَّهِ ولاَ رسولِهِ ولاَ كلامِ الصَّحابَةِ ولاَ التَّابعينَ لَهُم بإحسانٍ مَا يدلُّ - لاَ نصًّا ولاَ ظاهراً - عَلَى أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ليسَ فَوْقَ العرشِ وليسَ فِي السَّماءِ، بلْ كُلُّ كلامِهِم متَّفِقٌ عَلَى أنَّ اللَّهَ فَوْقَ كُلِّ شيءٍ)).
-وأمَّا العقلُ، فإنَّنا نقولُ: كلٌ يعلمُ أنَّ العُلوَّ صفةُ كمالٍ، وإِذَا كَانَ صفةَ كمالٍ فإِنَّهُ يجبُ أنْ يكونَ ثابتاً لِلَّهِ؛ لأنَّ اللَّهَ متصفٌ بصفاتِ الكمالِ، ولذلِكَ نقولُ: إمَّا أنْ يكونَ اللَّهُ فِي أعَلَى أوْ فِي أسفلَ أوْ فِي المحاذِي، فالأسفلُ والمُحاذِي ممتنِعٌ؛ لأنَّ الأسفلَ نقصٌ فِي معناهُ، والمُحاذِي نقصٌ لمشابَهةِ المخلوقِ ومماثلتِهِ، فلَمْ يبقَ إِلاَّ العُلوُّ، وَهَذَا وجْهٌ آخرُ فِي الدَّليلِ العقليِّ.
-وأمَّا الفِطْرةُ فإنَّنا نقولُ: مَا مِنْ إنسانٍ يقولُ: يا ربِّ! إِلاَّ وجدَ فِي قلبِهِ ضرورةً بطلبِ العُلوِّ.
فتطابَقَت الأدلَّةُ الخمسةُ.
وأمَّا عُلوُّ الصِّفاتِ فهُوَ محلُ إجماعٍ مِنْ كلِّ مَن يَدِينُ أوْ يَتسمَّى بالإسلامِ.
السَّادسةُ والعشرونَ: إثباتُ العظمةِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، لقولِهِ: (الْعَظِيمُ).
هَذَا طَرَفٌ مِنْ حديثٍ رواهُ البخاريُّ عَنْ أبي هريرةَ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - فِي قصَّةِ استحفاظِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهُ عَلَى الصَّدَقةِ، وأَخْذِ الشيطانُ مِنْها، وقولِهِ لأبي هريرةَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيةَ الكُرْسِيِّ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فأخبرَ أبو هريرةَ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلِكَ، فَقَالَ: ((إِنَّهُ صدَقَكَ، وهُوَ كذوبٌ)).
[شرح الواسطية - ابن عثيمين]