(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ):
(هُوَ): ضميرٌ، وأيْنَ مَرجِعُهُ؟ قِيلَ: إنَّ مَرجِعَهُ المسئولُ عَنْهُ، كأنَّهُ يقولُ: الَّذِي سَألتُمْ عَنْهُ اللَّهَ. وقِيلَ: هُوَ ضميرُ الشَّأنِ، و(اللَّهُ): مبتدأٌ ثانٍ، و(أَحَدٌ): خبرُ المبتدأِ الثَّاني، وعَلَى الوجْهِ الأوَّلِ تكونُ (هُوَ): مبتدأً، (اللَّهُ): خَبرُ المبتدأِ، (أَحَدٌ): خبرٌ ثانٍ.

(اللَّهُ): هُوَ العَلَمُ عَلَى ذاتِ اللَّهِ، المختصُ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، لاَ يتسمَّى بِهِ غيرُهُ، وكُلُّ مَا يأتي بَعدَهُ مِن أسماءِ اللَّهِ فَهُوَ تابعٌ لَهُ، إِلاَّ نادرًا.
ومعنى (اللَّهُ): الإلَهُ، وإلَهٌ بمعنى مألوهٍ، أيْ: معبودٍ، لكنْ حُذِفَتِ الَهَمزةُ تخفيفاً لكثرةِ الاستعمالِ، كَمَا فِي (النَّاسِ)، وأَصْلُها: الأُناسُ، وكَمَا في: هَذَا خيرٌ مِنْ هَذَا، وأصلُهُ: أخيرُ مِنْ هَذَا، لكنْ لكثرةِ الاستعمالِ حُذِفَتِ الَهَمزةُ، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - (أَحَدٌ).
(أَحَدٌ): لاَ تأتي إلاَّ فِي النَّفيِ غالباً، أوْ فِي الإثباتِ فِي أيامِ الأسبوعِ، يُقالُ: الأحدُ، الاثنينِ… لكنْ تأتِي فِي الإثباتِ مَوصوفاً بها الرَّبُّ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّهُ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - أحدٌ، أيْ: متوحِّدٌ فيمَا يختصُّ بِهِ فِي ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، (أَحَدٌ)، لاَ ثانيَ لَهُ، ولاَ نظيرَ لَهُ، ولاَ نِدَّ لَهُ.
قَوْلَهُُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ): هذِهِ جملةٌ مستأنفةٌ، بَعْدَ أنْ ذكرَ الأحديَّةَ ذكَرَ الصَّمديَّةَ، وأتى بِها بجملةٍ مُعرَّفةٍ فِي طرفَيْها، لإفادةِ الحصرِ، أيْ: اللَّهُ وحدَهُ الصَّمدُ.
فمَا معنى الصَّمَدِ؟
قِيلَ: إنَّ (الصَّمَدُ): هُوَ الكاملُ فِي علمِهِ، فِي قدرتِهِ، فِي حكمتِهِ، فِي عزَّتِهِ، فِي سُؤْدُدِهِ، فِي كُلِّ صفاتِهِ، وقِيلَ: (الصَّمَدُ): الَّذِي لاَ جَوْفَ لَهُ، يعني: لاَ أمعاءَ ولاَ بَطْنَ، وَلِهَذَا قِيلَ: الملائكةُ صُمدٌ؛ لأنَّهم ليسَ لَهُم أَجوافٌ، لاَ يأكلونَ ولاَ يَشربونَ، هَذَا المَعْنَى رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ولاَ ينافِي المَعْنَى الأوَّلَ؛ لأنَّهُ يدلُّ عَلَى غِناهُ بنَفْسِهِ عَنْ جميعِ خَلْقِهِ، وقِيلَ: (الصَّمَدُ) بمعنى المفعولِ، أيْ: المَصمودُ إليْهِ، أيْ الَّذِي تَصمدُ إِلَيْهِ الخلائقُ فِي حوائجِهِا، بمعنى: تميلُ إِلَيْهِ وتنتهِيَ إِلَيْهِ وترفعُ إِلَيْهِ حوائِجَهَا، فَهُوَ بمعنى الَّذِي يحتاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أحدٍ.
هذِهِ الأقاويلُ لاَ يُنافِي بعضُها بعضاً فيمَا يَتعلَّقُ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وَلِهَذَا نقولُ: إنَّ المعانِي كلَّها ثابتةٍ، لعَدمِ المنافاةِ فيمَا بَيْنَها.
ونَفْسِّرُهُ بتفسيرٍ جامعٍ، فنَقولُ: (الصَّمَدُ): هُوَ الكامِلُ فِي صفاتِهِ، الَّذِي افْتَقَرتْ إِلَيْهِ جميعُ مخلوقاتِهِ، فهِيَ صامدةٌ إِلَيْهِ.
وحينئذٍ يتبينُ لكَ المَعْنَى العظيمُ فِي كلمةِ (الصَّمَدُ): أنَّهُ مستغنٍ عَنْ كُلِّ مَا سواهُ، كاملٌ فِي كُلِّ مَا يُوصفُ بِهِ، وأنَّ جميعَ مَا سواهُ مفتقرٌ إِلَيْهِ.
فَلَوْ قَالَ لكَ قائلٌ: إنَّ اللَّه استوى عَلَى العرشِ، هَلْ استواؤُه عَلَى العرشِ بمعنى أنَّهُ مفتقرٌ إِلَى العرشِ بحَيْثُ لو أُزيلَ لسقطَ؟ فالجوابُ: لا، كلاَّ؛ لأنَّ اللَّهَ صمدٌ كاملٌ غيرُ محتاجٍ إِلَى العرشِ، بَلِ العرشُ والسَّماواتُ والكرسيُّ والمخلوقاتُ كلُّها محتاجةٌ إِلَى اللَّهِ، واللَّهُ فِي غِنًى عَنْها، فنأخذُهُ مِنْ كلمةِ (الصَّمَدُ).
لو قَالَ قائلٌ: هَل اللَّهُ يأكلُ أوْ يشربُ؟ أقولُ: كلاَّ؛ لأنَّ اللَّهَ صمدٌ.
وبهَذَا نعرفُ أنَّ (الصَّمَدُ) كلمةٌ جامعةٌ لجميعِ صفاتِ الكمالِ لِلَّهِ، وجامعةٌ لجميعِ صفاتِ النَّقصِ فِي المخلوقاتِ، وأنَّها محتاجةٌ إِلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
ثُمَّ قالَ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ): هَذَا تأكيدٌ للصَّمديَّةِ والوحدانيَّةِ، وقُلْنَا: توكيدٌ لأنَّنا نَفْهَمُ هَذَا ممَّا سَبَقَ، فيكونُ ذِكْرُهُ تَوكِيداً لمعنَى مَا سَبَقَ، وتقريراً لَهُ، فَهُوَ لأحديَّتِهِ وصمديَّتِهِ لَمْ يَلِدْ؛ لأنَّ الوَلدَ يكونُ عَلَى مِثلِ الوالدِ فِي الخِلقةِ، وَفِي الصِّفةِ، وحَتَّى الشَّبهِ.
لمَّا جاءَ مجززٌ المُدلجيُّ إِلَى زيدِ بنِ حارثةَ وابنِهِ أُسامةَ، وهمَا ملتحفانِ برداءٍ، قدْ بَدَتْ أقدامُهُما، نظرَ إِلَى القَدَمَيْنِ، فَقَالَ: إنَّ هذِهِ الأقدامَ بعضُها مَنْ بَعضٍ، فعَرفَ ذلِكَ بالشَّبهِ.
فلِكَمالِ أحديَّتِهِ وكمالِ صمديَّتِهِ (لَمْ يَلِدْ)، والوالدُ محتاجٌ إِلَى الولدِ بالخدمةِ والنَّفقةِ، ويعينُهُ عِنْدَ العجزِ، ويُبْقِي نَسْلَهُ.
(وَلَمْ يُولَدْ)؛ لأنَّهُ لو وَلَدَ لكَانَ مَسبوقاً بوالدٍ، مَعَ أنَّهُ - جلَّ وعَلاَ - هُوَ الأوَّلُ الَّذِي ليسَ قَبْلَهُ شيءٌ، وهُوَ الخالِقُ، ومَا سِواهُ مخلوقٌ، فكَيْفَ يُولدُ؟
وإنكارُ أنَّهُ وُلِدَ أبلغُ فِي العقولِ مِن إنكارِ أنَّهُ والِدٌ، وَلِهَذَا لَمْ يدَّعِ أحدٌ أنَّ اللَّهَ والِداً، وادَّعى المفترونَ أنَّ لَهُ ولداً.
وقَدْ نَفَى اللَّهُ هَذَا وهَذَا، وبدأ بنفِي الولدِ، لأهميةِ الردِّ عَلَى مُدَّعِيهِ، بلْ قالَ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ) ، حَتَّى وَلَو بالتَّسمِّي، فَهُوَ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يتَّخِذْ وَلداً، بنو آدمَ قدْ يَتَّخِذُ الإنسانُ مِنْهُمْ ولداً وهُوَ لَمْ يَلِدْهُ بالتَّبنِّي أوْ بالولايةِ أوْ بغيرِ ذلِكَ، وإنْ كَانَ التَّبنِّي غيرَ مشروعٍ، أمَّا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، فلمْ يَلِدْ ولَمْ يولَدْ، ولمَا كَانَ يَرِدُ عَلَى الذِّهنِ فَرضُ أنْ يكونَ الشَّيءُ لاَ والداً ولاَ مولوداً، لكنَّهُ متولِّدٌ، نَفَى هَذَا الوَهمَ الَّذِي قَدْ يَرِدْ، فَقَالَ: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)، وإِذَا انْتَفَى أنْ يكونَ لَهُ كُفُواً أحدٌ، لزمَ أنْ لاَ يكونَ متولِّداً، (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)، أيْ: لاَ يكافِئُهُ أحدٌ فِي جميعِ صفاتِهِ.
فِي هذِهِ السُّورةِ: صفاتٌ ثُبوتيَّةٌ، وصفاتٌ سلبيَّةٌ:
الصِّفاتُ الثُّبوتيَّةُ: (اللَّهُ) الَّتِي تتضمَّنُ الألوهِيَّةَ، (أَحَدٌ) تتضمَّنُ الأحديَّةَ، (الصَّمَدُ) تتضمَّنُ الصَّمدِيَّةَ.
والصِّفاتُ السَّلبيَّةُ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدُ).
ثلاثٌ إثباتٌ، وثلاثٌ نفيٌ، وَهَذَا النَّفيُ يتضمَّنُ مِن الإثباتِ كمالَ الأحديَّةِ والصَّمديَّةِ.
[ شرح الواسطية -ابن عثيمين
]