قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فى شرح العقيدة الواسطية
((بَلْ يُؤْمِنونَ بِأنَّ اللهَ سُبْحانَهُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌُ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
((فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ يُحرِّفُون الكَلِمَ عنْ مَوَاضِعِهِ))
((وَلاَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ))
((وَلاَ يُكَيَّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّه سُبْحَانَهُ لا سَمِيَّ لَهُ وَلاَ كُفُوَ لَهُ وَلا نِدَّ لَهُ، وَلا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى))
((فَإِنَّه سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثَاً مِنْ خَلْقِهِ))
الشرح
قولُهُ: ((بلْ يؤمنونَ…))، أيْ: يُقرُّ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ بذلِكَ إقراراً وتصديقاً بأنَّ اللَّهَ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، كَمَا قَالَ عَنْ نَفْسِه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، فهُنَا نَفَى المماثَلةَ، ثُمَّ أَثْبتَ السَّمعَ والبصرَ، فنَفَى العيبَ، ثُمَّ أثبتَ الكمالَ؛ لأنَّ نَفْيَ العيبِ قَبْلَ إثباتِ الكمالِ أحسن، وَلِهَذَا يُقالُ: التَّخليَةُ قَبْلَ التَّحليَةِ. فنَفْيُ العيوبِ يُبْدَأُ بِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يُذْكَرُ إثباتُ الكمالِ.
وكلمةُ (شَيْءٌ) نَكرةٌ فِي سياقِ النَّفيِ، فتعمُّ كُلَّ شيءٍ، لَيْسَ شيءٌ مثلَهُ أبداً - عزَّ وجلَّ -، أيُّ مخلوقٍ وإنْ عَظُمَ فليسَ مماثلاً لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّ مماثلةَ النَّاقصِ نَقصٌ، بلْ إنَّ طلبَ المفاضَلةِ بَيْنَ النَّاقصِ والكاملِ تجعلُهُ ناقصاً، كَمَا قِيلَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ إِذَا قِيْلَ إنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ العَصَا
فهُنَا لو قُلْنَا: إنَّ لِلَّهِ مثيلاً لَزِمَ مَنْ ذلِكَ تَنقُّصُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فَلِهَذَا نقولُ: نَفَى اللَّهُ عن نَفْسِه مماثلةَ المخلوقينَ؛ لأنَّ مماثلةَ المخلوقِ نقصٌ وعيبٌ؛ لأنَّ المخلوقَ ناقصٌ، وتمثيلُ الكاملِ بالنَّاقصِ يجعلُهُ ناقصاً، بلْ ذِكرُ المفاضَلةِ بينهمَا يجعلُهُ ناقصاً، إلاَّ إِذَا كَانَ فِي مقامِ التَّحدِّي، كَمَا فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 59]، وقولِهِ: (قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: 140].
وفِي قولِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): ردٌّ صريحٌ عَلَى الممثِّلةِ، الَّذِينَ يُثْبِتُون أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لَهُ مثيلٌ.
وحُجَّةُ هؤلاءِ يقولونَ: إنَّ القرآنَ عربيٌّ، وإِذَا كَانَ عربيًّا فَقَدْ خاطبَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - بمَا نَفهمُ، ولاَ يُمكِنُ أنْ يخاطَبَنَا بمَا لاَ نَفهمُ، وقدْ خاطبَنَا اللَّهُ - تَعَالَى -، فَقَالَ: إنَّ لَهُ وجهاً، وإنَّ لَهُ عيناً، وإن لَهُ يَدَيْنِ… ومَا أشبَهَ ذلِكَ، ونَحْنُ لاَ نَعِقلُ بمقتضى اللُّغةِ العَربيةِ من هذِهِ الأشياءِ إِلاَّ مِثلَ مَا نُشاهِدُ، وعَلَى هَذَا فيَجِبُ أَنْ يكونَ مدلولُ هذِهِ الكلماتِ مماثِلاً لمدلولِهَا بالنِّسبةِ للمخلوقاتِ، يدٌ ويدٌ، وعينٌ وعينٌ، ووجهٌ ووجهٌ… وهكذا، فنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا بذلِكَ لأنَّ لدَيْنَا دليلاً.
ولاَ شكَّ أنَّ هذِهِ الحُجَّةَ واهِيَةٌ، ويُوهِّيَها مَا سَبَقَ مِنْ بيانِ أنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مثيلٌ، ونقولُ: إنَّ اللَّهَ خاطبَنَا بمَا خاطبَنَا بِهِ مِنْ صفاتِهِ، لكنَّنا نَعلمُ عِلْمَ اليقينِ أنَّ الصِّفةَ بحسبِ الموصوفِ، ودليلُ هَذَا فِي الشَّاهِدِ، فإنَّهُ يُقالُ للجَمَلِ يدٌ وللذَّرَّة يدٌ، ولاَ أحدَ يفهمُ من اليدِ الَّتِي أضفْنَاها إِلَى الجملِ أنَّها مثلُ اليدِ الَّتِي أضفْناها إِلَى الذَّرَّةِ، هَذَا وهُوَ فِي المخلوقاتِ، فكَيْفَ إِذَا كَانَ ذلِكَ مِنْ أوصافِ الخالقِ؟! فإنَّ التَّبايُنَ يكونُ أَظْهرَ وأَجْلَى.
وعَلَى هَذَا فيكونُ قولُ هؤلاءِ الممثِّلةِ مَردوداً بالعقلِ، كَمَا أنَّه مَردودٌ بالسَّمعِ.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فأثبَتَ لنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - السَّمعَ والبصرَ لبيانِ كمالِهِ، ونقصِ الأصنامِ الَّتِي تُعْبَدُ من دونِهِ، فالأصنامُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دونِ اللَّهِ - تَعَالَى - لاَ يسمعونَ، ولو سَمِعُوا، مَا استجابُوا، ولاَ يُبْصِرونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل: 20، 21]، فَهُمْ لَيْسَ لَهُم سمعٌ ولاَ عقلٌ ولاَ بصرٌ، ولو فُرِضَ أنَّ لَهُمْ ذلِكَ، مَا استجابُوا: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف: 5].
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يؤمنُونَ بانتفاءِ المماثَلةِ عَنِ اللَّهِ، لأنَّها عيبٌ، ويُثْبِتُون لَهُ السَّمعَ والبصرَ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
وإيمانُ الإنسانِ بذلِكَ يثُمرُ للعبدِ أنْ يعظِّمَهُ غايةَ التَّعظيمِ، لأنَّه لَيْسَ مثلَهُ أحدٌ مِنَ المخلوقاتِ، فَتُعَظِّمُ هَذَا الربَّ العظيمَ الَّذِي لاَ يماثِلُهُ أحدٌ، وإلاَّ لَمْ يكنْ هناكَ فائدةٌ من إيمانِكَ بأنَّهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
إِذَا آمنْتَ بأنَّهُ سميعٌ فإنَّكَ سَوْفَ تَحترِزُ عنْ كُلِّ قولٍ يُغضِبُ اللَّهَ، لأنَّكَ تَعلمُ أنَّهُ يَسمعُكَ، فتَخْشَى عِقابهُ، فكُلُّ قولٍ يكونُ فِيهِ مَعصِيةُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فَسوفَ تتحاشَاهُ، لأنَّكَ تُؤمنُ بأنَّهُ سميعٌ، وإِذَا لَمْ يُحدِثْ لكَ هَذَا الإيمانُ هَذَا الشَّيءَ فاعلمْ أنَّ إيمانَكَ بأنَّ اللَّهَ سميعٌ إيمانٌ ناقِصٌ بلاَ شَكَّ.
إِذَا آمنْتَ بأنَّ اللَّهَ سميعٌ، فلنْ تتكلَّمَ إِلاَّ بمَا يُرضيهَ، ولاَ سيَّمَا إِذَا كنْتَ تتكلَّمُ معبِّراً عن شَرْعِهِ، وهُوَ المُفْتِي والمُعلِّمُ، فإنَّ هَذَا أشدُّ، واللَّهُ سُبْحَانَهُ يقولُ: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 144]، فإنَّ هَذَا مِن أظْلَمِ الظُّلْمِ، وَلِهَذَا قالَ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف: 10]، وَهَذَا مِن عقوبةِ مَنْ يُفْتِي بلاَ عِلمٍ، أنَّهُ لاَ يُهْدَى، لأنَّهُ ظالِمٌ.
فحَذارِ يا أخي المُسلمَ أنْ تقولَ قولاً لاَ يُرْضِي اللَّهَ، سواءٌ قلْتَهُ عَلَى اللَّهِ، أوْ عَلَى غيرِ هَذَا الوَجْهِ.
وثُمَّرةُ الإيمانِ بأنَّ اللَّهَ بصيرٌ أنْ لاَ تفعلَ شيئًا يُغضِب اللَّهَ، لأنَّكَ تَعْلَمُ أنَّكَ لو تَنْظُرُ نَظرةً محرَّمةً لاَ يفهَمُ النَّاسُ أنَّها نظرةٌ محرَّمةٌ فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يرى هذِهِ النَّظرةَ، ويَعلمُ مَا فِي قلبِكَ، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر: 19].
إِذَا آمنْتَ بهَذَا لاَ يمكنُ أنْ تَفعلَ فعلاً لاَ يَرضَاهُ أبداً.
استحِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَستحْيِي مِن أقربِ النَّاسِ إليْكَ، وأشدِّهِم تعظيماً مِنْكَ.
إذاً إِذَا آمنَّا بأنَّ اللَّهَ بصيرٌ، فَسَوْفَ تَتحاشَى كُلَّ فعلٍ يكونُ سبباً لغضَبِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وإلاَّ فإنَّ إيمانَنَا بذلِكَ ناقِصٌ.
لو أنَّ أحداً أشارَ بأُصبعِهِ أوْ شفتِهِ أوْ بعينِهِ أوْ برأْسِهِ لأمْرٍ مُحرَّمٍ، فالنَّاسُ الَّذِينَ حَوْلَهُ لاَ يعلمونَ عَنْهُ، لكنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يراهُ، فليَحْذَرْ هَذَا مَنْ يؤمنُ بِهِ، ولو أنَّنا نؤمنُ بمَا تَقتَضِيهِ أسماءُ اللَّهِ وصفاتُهُ، لوُجِدَت الاستقامةُ كاملةً فِينَا. فاللَّهُ المُستعانُ.

قولُهُ: ((فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ))، أيْ: لاَ ينفِي أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ عن اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه، لأنَّهُمْ متَّبِعونَ لِلنَّصِّ نفياً وإثباتاً، فكُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ يُثبتونَهُ عَلَى حقيقتِهِ، فلاَ يَنفُونَ عنِ اللَّهِ مَا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، سواءٌ كَانَ مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ أو الفِعليَّةِ (أو الخبريَّةِ).
الصِّفاتُ الذاتيَّةُ، كالحياةِ، والقُدرةِ، والعِلمِ… ومَا أَشْبَهَ ذلِكَ، وتَنقسِمُ إلى: ذاتيَّةٍ معنويَّةٍ، وذاتيَّةٍ خبريَّةٍ، وهِيَ الَّتِي مُسمَّاهَا أبعاضٌ لَنَا وأجزاءٌ، كاليَدِ، والوجهِ، والعينِ، فهذِهِ يُسمِّيها العلماءُ: ذاتيَّةً خبريَّةً، ذاتيَّةٌ: لأنَّها لاَ تَنْفصلُ ولَمْ يَزَل اللَّهُ ولاَ يَزالُ متَّصِفاً بِها، خبريَّةٌ: لأَنَّهَا متلقَّاةٌ بالخبَرِ، فالعقلُ لاَ يدلُّ عَلَى ذلِكَ لولاَ أنَّ اللَّهَ أخبرَنَا أنَّ لَهُ يداً مَا عَلِمْنا بذلِكَ، لكنَّهُ أخبَرَنَا بذلِكَ، بخلافِ العِلمِ والسَّمعِ والبصرِ، فإنَّ هَذَا نُدركُهُ بعقولِنَا مَعَ دلالةِ السَّمعِ، لِهَذَا نقولُ فِي مِثلِ هذِهِ الصِّفاتِ اليدِ والوجهِ ومَا أشبَهَهَا: إنَّها ذاتيَّةٌ خبريَّةٌ، ولاَ نقولُ: أجزاءٌ وأبعاضٌ، بلْ نَتَحاشى هَذَا اللَّفظَ، لكنَّ مسمَّاها لنَا أجزاءٌ وأبعاضٌ؛ لأنَّ الجُزءَ والبَعْضَ مَا جازَ انفصالُهُ عن الكُلِّ، فالرَّبُّ - عزَّ وجلَّ - لاَ يُتَصَوَّرُ أنَّ شيئًا مِنْ هذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي وَصَفَ بها نَفْسَهُ –كاليَدِ- أنْ تزولَ أبداً؛ لأنَّهُ موصوفٌ بها أزلاً وأبداً، وَلِهَذَا لاَ نقولُ: إنَّها أبعاضٌ وأجزاءُ.
والصِّفاتُ الفِعليَّةُ: هِيَ المتعلِّقةُ بمشيئتِهِ، إنْ شاءَ فَعَلَها، وإنْ شاءَ لَمْ يَفعلْها، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ هذِهِ الصِّفاتِ الفِعليَّةَ: مِنْهَا مَا يكونُ لَهُ سببٌ، وَمِنْهُا مَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ، وَمِنْهَا مَا يكونُ ذاتيًّا فعليًّا.
قولُهُ: (ولاَ يحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضِعِه): (الكَلِمَ): اسمٌ، جمعُ كلمةٍ، ويُرادُ بِهِ كلامُ اللَّهِ وكلامُ رسولِهِ.
لاَ يحرِّفُونَهُ عَنْ مواضِعِه، أيْ: عن مدلولاتِهِ، فمثلاً قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، يقُولونَ: هِيَ يدٌ حقيقيَّةٌ ثابتةٌ لِلَّهِ مِنَ غَيْرِ تكييفٍ ولاَ تمثيلٍ، والمحرِّفُون يقولونَ: قوَّتُهُ، أو: نِعْمَتُهُ، أمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيقولونَ: القوَّةُ شيءٌ واليدُ شيءٌ آخَرُ، والنِّعمةُ شيءٌ واليدُ شيءٌ آخَرُ، فَهُمْ لاَ يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عن مواضِعِهِ، فإنَّ التَّحريفَ مِنْ دَأْبِ اليهودِ، (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء: 46]، فكُلُّ مَنْ حرَّفَ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ، ففِيهِ شبهٌ مِن اليهودِ، فاحْذَرْ هَذَا، ولاَ تَتَشَبهْ بالمغضوبِ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ القِردةَ والخنازيرَ وعبدَ الطَّاغوتِ، لاَ تحرِّفْ، بلْ فَسِّر الكلامَ عَلَى مَا أرادَ اللَّهُ ورسولُهُ.
ومِنْ كلامِ الشَّافعيِّ مَا يُذْكَرُ عَنْهُ: آمنْتُ باللَّهِ وبمَا جاءَ عن اللَّهِ عَلَى مُرادِ اللَّهِ، وآمنْتُ برسولِ اللَّهِ وبمَا جاءَ عَنِ رَسولِ اللَّهِ عَلَى مُرادِ رسولِ اللَّهِ.

قولُه: ((ولاَ يُلْحِدونَ …))، أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
والإلحادُ فِي اللُّغةِ: المَيْلُ، ومِنْهُ سُمِّيَ اللَّحدُ فِي القبرِ؛ لأنَّهُ مائلٌ إِلَى جانبٍ مِنْهُ ولَيْسَ متوسِّطاً، والمتوسِّطُ يُسَمَّى شَقًّا، واللَّحدُ أَفضلُ مِن الشَّقِّ.
فَهُمْ لاَ يلحدُون فِي أسماءِ اللَّهِ، ولاَ يُلْحِدُونَ أيضًا فِي آياتِ اللَّهِ، فأفادَنَا المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- أنَّ الإلحادَ يكونُ فِي موضِعَيْنِ: فِي الأسماءِ وفِي الآياتِ.
هَذَا الَّذِي يُفيدُهُ كلامُ المؤلِّفِ قَدْ دلَّ عَلَيْهِِ القرآنُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ، سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [الأعراف: 180]، فأَثْبَتَ اللَّهُ الإلحادَ فِي الأسماءِ، وقَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَونَ عَلَينَا) [فصلت: 40]، فَأثْبَتَ اللَّهُ الإلحادَ فِي الآياتِ.
-فالإلحادُ فِي الأسماءِ هُوَ المَيْلُ فِيهِا عَمَّا يَجِبُ، وهُوَ أنواعٌ:
النَّوْعُ الأوَّلُ: أنْ يُسمَّى اللَّهُ بمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، كَمَا سمَّاهُ الفلاسفةُ: عَلَّةً فاعلةً، وسمَّاهُ النَّصارى: أبًا، وعيسَى: الابنَ، فهَذَا إلحادٌ فِي أسماءِ اللَّهِ، وكذلِكَ لو سُمِّيَ اللَّهُ بأيِّ اسمٍ لَمْ يُسَم بِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ ملحِدٌ فِي أسماءِ اللَّهِ.
ووجْهُ ذلِكَ أنَّ أسماءَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - توقيفيَّةٌ، فلاَ يمكنُ أنْ نُثبتَ لَهُ إلاَّ مَا ثَبتَ بالنَّصِ، فَإِذَا سمَّيْتَ اللَّهَ بمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَلحدْتَ ومِلْتَ عن الواجِبِ.
وتسميةُ اللَّهِ بمَا لَمْ يُسَمِّ بهِ نَفْسَهُ سوءُ أدَبٍ معَ اللَّهِ وظلمٌ وعُدوانٌ فِي حَقِّهِ؛ لأنَّهُ لو أنَّ أحداً دعاكَ بِغَيْرِ اسمِكَ أوْ سمَّاكَ بغيرِ اسمِكَ لاعتبرْتَهُ قَد اعْتَدَى عليِكَ وظَلَمَكَ، هَذَا فِي المخلوقِ، فكَيْفَ بالخالقِ؟!
إذًا لَيْسَ لَكَ حقٌّ أنْ تُسمِّيَ اللَّهَ بمَا لَمْ يُسمِّ بِهِ نَفْسَهُ، فإنْ فعلْتَ، فأنتَ مُلحِدٌ فِي أسماءِ اللَّهِ.
النَّوعُ الثَّاني: أنْ يُنكِرَ شيئًا مِن أسمائِهِ، عكسَ الأوَّلِ، فالأوَّلُ سَمَّى اللَّهَ بمَا لَمْ يُسمِّ بِهِ نَفْسَهُ، وَهَذَا جرَّدَ اللَّهَ ممَا سمَّى بِهِ نَفْسَهُ، فيُنكِرُ الاسمَ، سواءٌ أَنْكَرَ كُلَّ الأسماءِ أوْ بعضَهَا الَّتِي تُثْبَتُ لِلَّهِ، فَإِذَا أنكرَهَا، فقدْ أَلحدَ فِيهِا.
ووجْهُ الإلحادِ فِيهِا: أنَّهُ لمَّا أَثْبَتَهَا اللَّهُ لنَفْسِهِ وَجَبَ عليْنَا أنْ نُثبِتهَا لَهُ، فَإِذَا نفيْنَاهَا كَانَ إلحاداً ومَيْلاً بِها عمَّا يَجِبُ فِيها.
وهناكَ مِن النَّاسِ مَنْ أنكَرَ الأسماءَ، كغُلاةِ الجَهْميَّةِ، فَقَالَوُا: لَيْسَ لِلَّهِ اسمٌ أبداً، قالُوا: لأنَّكَ لو أَثْبَتَّ لَهُ اسماً شبَّهتَهُ بالموجوداتِ، وَهَذَا معروفٌ أنَّهُ باطلٌ مردودٌ.
النَّوْعُ الثَّالثُ: أنْ يُنكِرَ مَا دلَّتْ عليْهِ من الصِّفاتِ، فَهُوَ يثبِتُ الاسمَ، لكنْ يُنكِرُ الصِّفَةَ الَّتِي يتضمَّنُهَا هَذَا الاسمُ، مِثْلُ أنْ يقولَ: إنَّ اللَّهَ سميعٌ بلاَ سَمعٍ، وعليمٌ بلاَ عِلْمٍ، وخالِقٌ بلاَ خَلقٍ، وقادرٌ بلاَ قُدرةٍ … وَهَذَا معروفٌ عن المُعْتَزِلَةِ، وهُوَ غيرُ معقولٍ!
ثُمَّ هؤلاءِ يجعلونَ الأسماءَ أعلاماً مَحْضةً متغايِرةً، فيقولُوا: السَّميعُ غيرُ العليمِ، لكنْ كلُّها لَيْسَ لَهَا معنًى، السَّميعُ لاَ يدلُّ عَلَى السَّمْعِ، والعليمُ لاَ يدلُّ عَلَى العِلْمِ، لكنْ مجرَّدُ أعلامٍ!!
ومِنْهُمْ آخَرُونَ يقولُونَ: هذِهِ الأسماءُ شيءٌ واحدٌ، فَهِيَ عليمٌ وسميعٌ وبصيرٌ، كلُّها واحدٌ، لاَ تَخْتلِفُ إِلاَّ بتركيبِ الحروفِ فَقَطْ، فَيجْعَلُ الأسماءَ شيئًا واحدًا!!
وكُلُّ هَذَا غيرُ معقولٍ، ولذلِكَ نَحْنُ نقولُ: إنَّهُ لاَ يُمْكنُ الإيمانُ بالأسماءِ حَتَّى تُثْبِتَ مَا تضمَّنَتْهُ من الصِّفاتِ.
ولعلَّنَا مِنْ هُنا نتكلَّمُ عَلَى دلالةِ الاسمِ، فالاسمُ لَهُ أنواعٌ ثلاثةٌ فِي الدَّلالةِ: دلالةُ مطابَقةٍ، ودلالةُ تضمُّنٍ، ودلالةُ التزامٍ:
1- فدلالةُ المطابَقةِ: دلالةُ اللَّفظِ عَلَى جميعِ مدلولِهِ، وعَلَى هَذَا فكُلُّ اسمٍ دالٌّ عَلَى المُسمَّى بِهِ، وهُوَ اللَّهُ، وعَلَى الصِّفَةِ المشتقِّ مِنْها هَذَا الاسمُ.
2- ودلالةُ التَّضمُّنِ: دلالةُ اللَّفظِ عَلَى بعضِ مدلولِهِ، وعَلَى هَذَا فدلالةُ الاسمِ عَلَى الذَّاتِ وحدَها أوْ عَلَى الصِّفَةِ وحْدَها من دلالةِ التَّضمُّنِ.
3- ودلالةُ الالتزامِ: دلاَلَتُهُ عَلَى شيءٍ يُفْهَمُ لاَ مِن لفظِ الاسمِ، لكنْ مَن لازِمِهِ، وَلِهَذَا سمَّينَاهُ: دلالَةَ الالتزامٍ.
مثلُ كلمَةِ الخالقِ: اسمٌ يدلُّ عَلَى ذاتِ اللَّهِ، ويدلُّ عَلَى صِفَةِ الخَلْقِ.
إذاً: فباعتبارِ دلالتِهِ عَلَى الأَمْرَيْنِ يُسمَّى دلالةَ مطابَقةٍ؛ لأنَّ اللَّفظَ دلَّ عَلَى جميعِ مدلولِهِ، ولاَ شكَّ أنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الخالقُ،فإنَّكَ تفهمُ خالِقاً وخَلْقاً.
- وباعتبارِ دلالتِهِ عَلَى الخالقِ وحدَه أوْ عَلَى الخَلْقِ وحدَهُ يُسمَّى دلالةَ تضمُّنٍ؛ لأنَّهُ دلَّ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ.
- وباعتبارِ دلالتِهِ عَلَى العِلمِ والقُدرةِ يُسمَّى دلالةَ التزامٍ، إذْ لاَ يمكنُ خَلْقٌ إِلاَّ بعِلمٍ وقُدرةٍ، فدلالتُهُ عَلَى القُدرةِ والعِلمِ دلالةُ التزامٍ.
وحينئذٍ يتبيَّنُ أنَّ الإنسانَ إِذَا أنكرَ واحداً مَنْ هذِهِ الدَّلالةِ فَهُوَ ملحدٌ فِي الأسماءِ.
ولو قَالَ: أَنَا أؤمِنُ بدلالةِ الخالقِ عَلَى الذَّاتِ، ولاَ أُؤمِنُ بدلالتِهِ عَلَى الصِّفةِ، فَهُوَ مُلحدٌ فِي الاسمِ.
لوْ قالَ: أَنَا أؤمِنُ بأنَّ (الخالِقَ) تدلُّ عَلَى ذاتِ اللَّهِ وعَلَى صِفَةِ الخَلْقِ، لكنْ لاَ تدلُّ عَلَى صفَةِ العِلمِ والقُدرةِ. قُلْنا: هَذَا إلحادٌ أيضاً، فلازمٌ عليْنَا أنْ نُثبِتَ كُلَّ مَا دلَّ عَلَيْهِِ هَذَا الاسمُ، فإنكارُ شيءٍ ممَا دلَّ عَلَيْهِِ الاسمُ من الصِّفَةِ إلحادٌ فِي الاسمِ، سواءٌ كانَتْ دلالتُهُ عَلَى هذِهِ الصِّفةِ دلالةَ مطابَقَةٍ أوْ تضمُّنٍ أو التزامٍ.
ولنَضربْ مَثلاً حسِّيًّا تتبيَّنُ فِيهِ أنواعُ هذِهِ الدَّلالاتِ: لو قُلْتُ: لي بيتٌ، فكلمةُ (بيتٌ) فِيهِا الدَّلالاتُ الثَّلاثُ، فتَفهمُ مِنْ (بيتٌ) أنَّها تدلُّ عَلَى كُلِّ البيتِ دلالةَ مطابَقةٍ. وتدلُّ عَلَى مجلسِ الرِّجالِ وحدَهُ، وعَلَى الحمَّاماتِ وحْدَهَا، وعَلَى الصَّالةِ وحْدَها، دلالةَ تضمُّنٍ؛ لأنَّ هذِهِ الأشياءَ جزءٌ مَنَ البيتِ، ودلالةُ اللَّفظِ عَلَى جزءِ معناهُ دلالةُ تضمُّنٍ، وتدلُّ عَلَى أنَّ هناكَ بانِياً بناهُ دلالةَ التزامٍ؛ لأنَّهُ مَا مَنْ بيتٍ إِلاَّ ولَهُ بانٍ.
النَّوعُ الرَّابعُ من أنواعِ الإلحادِ فِي الأسماءِ: أنْ يُثَبِتَ الأسماءَ لِلَّهِ والصِّفاتِ، ولكنْ يجعلُهَا دالَّةً عَلَى التَّمثيلِ، أيْ: دالَّةً عَلَى بَصَرٍ كبصرِنَا، وعلمٍ كعلمِنَا، ومغفرةٍ كمغفرتِنَا … ومَا أَشبَهَ ذلِكَ، فهَذَا إلحادٌ؛ لأنَّهُ مَيْلٌ بِها عمَّا يَجِبُ فِيهِا، إذِ الواجِبُ إثباتُها بِلاَ تمثيلٍ.
النَّوعُ الخامِسُ: أنْ يَنْقلَهَا إِلَى المعبوداتِ، أوْ يشتقَّ أسماءً مِنْهَا للمعبوداتِ، مثلُ أنْ يسمِّيَ شيئًا معبوداً بالإلَهِ، فهَذَا إلحادٌ، أوْ يشتقَّ مِنْهُا أسماءً للمعبوداتِ،مثلُ : اللاَّتِ مِن الإلَهِ، والعُزَّى مِن العزيزِ، ومَناةَ مِن المنَّانِ، فنقولُ: هَذَا أيضاً إلحادٌ فِي أسماءِ اللَّهِ؛ لأنَّ الواجِبَ عليْكَ أنْ تَجعلَ أسماءَ اللَّهِ خاصَّةً بهِ، ولاَ تتعدَّى وتتجاوزَ فتشتقَّ للمعبوداتِ مِنْهُا أسماءً.
هذِهِ أنواعُ الإلحادِ فِي أسماءِ اللَّهِ.
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُلحِدُون فِي أسماءِ اللَّهِ أبداً، بلْ يُجْرُونها عَلَى مَا أرادَ اللَّهُ بِهَا سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، ويُثبِتُونَ لَهُا جميعَ أنواعِ الدَّلالاتِ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ أنَّ مَا خالَفَ ذلِكَ، فَهُوَ إلحادٌ.
- وأمَّا الإلحادُ فِي آياتِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فالآياتُ جمعُ آيةٍ، وهِيَ العلامةُ المُميِّزةُ للشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ، واللَّهُ - عزَّ وجلَّ - بعثَ الرُّسُلَ بالآياتِ لاَ بالمُعجزاتِ، لِهَذَا كَانَ التَّعبيرُ بالآياتِ أحسنَ مِنَ التَّعبيرِ بالمعجزاتِ،
أَوَّلاً: لأنَّ الآياتِ هِيَ الَّتِي يُعبَّرُ بِهَا فِي الكتابِ والسُّنَّةِ.
ثانياً: أنَّ المعجزاتِ قَدْ تقعُ مِنْ ساحرٍ ومُشَعْوِذٍ ومَا أشَبْهَ ذلِكَ، تُعْجِزُ غَيْرَهُ.
ثالثاً: أنَّ كلمةَ (آياتٍ) أَدَلُّ عَلَى المَعْنَى المقصودِ مِنْ كلمةِ معجزاتٍ، فآياتُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - هِيَ العلاماتُ الدَّالَّةُ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وحينئذٍ تكونُ خاصَّةً بِهِ، ولولاَ أنَّها خاصَّةٌ مَا صارتْ آيةً لَهُ.
وآياتُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - تنقسمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: آياتٌ كونيَّةٌ، وآياتٌ شرعيَّةٌ:
فالآياتُ الكونيَّةُ: مَا يتعلّقُ بالخلقِ والتَّكوينِ، مثالُ ذلِكَ قولُهُ: (وَمِن آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ) [فصلت: 37]، (وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) [الروم: 20]، (وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَاختِلاَفُ أَلسِنَتِكُم وَأَلْوَانِكُم، إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَاتٍ لِلعَالِمِينَ، وَمِن آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابتِغَاؤُكُم مِن فَضْلِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَاتٍ لِقَومٍ يَسمَعُونَ، وَمِن آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءٍ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا، إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ وَمِن آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُم دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُم تَخرُجُونَ) [الروم: 22- 25]، فهذِهِ الآياتُ كونيَّةٌ، وإنْ شِئْتَ، فقُلْ: كونيَّةٌ قَدريَّةٌ، وكانتْ آيةً لِلَّهِ لأنَّهُ لاَ يَستطيعُ الخَلقُ أنْ يَفعلُوها، فمَثلاً: لاَ يستطيعُ أحدٌ أنْ يَخْلُقَ مِثلَ الشَّمسِ والقمرِ، ولاَ يستطيعُ أنْ يأتيَ باللَّيلِ إِذَا جاءَ النَّهارُ، ولاَ بالنَّهارِ إِذَا جاءَ اللَّيلُ، فهذِهِ الآياتُ كونيَّةٌ.
والإلحادُ فِيهِا أنْ يَنْسُبَهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ استقلالاً أوْ مشاركةً أوْ إعانةً، فيقولُ: هَذَا مِن الوَلِيِّ الفلانيِّ، أوْ: مِنَ النَّبِيِّ الفلانيِّ، أو: شارَكَ فِيهِ النَّبيُّ الفلانيُّ، أو الوليُّ الفلانيُّ، أوْ أعانَ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَملِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ، وَمَا لَهُم فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وِمَا لَهُ مِنهُم مِن ظَهِيَرٍ) [سبأ: 22]، فنَفَى كُلَّ شيءٍ يتعلَّقُ بِهِ المُشْرِكُونَ بكونِ معبوداتِهِمْ لاَ تَمْلِكُ شيئًا فِي السَّماواتِ والأرضِ استقِلالاً أوْ مُشاركةً، ولاَ مُعينَةً لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ثُمَّ جاءَ بالرَّابع: (وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَن أَذِنَ لَهُ) [سبأ: 23]، لمَّا كَانَ المشركُونَ قَدْ يقولُونَ: نَعَمْ هذِهِ الأصنامُ لاَ تَملكُ ولاَ تُشاركُ ولَمْ تُعاوِنْ، لكنَّها شُفعاءُ، قالَ: (وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَن أَذِنَ لَهُ)، فقَطَعَ كُلَّ سببٍ يتعلَّقُ بِهِ المشركُونَ.
القِسمُ الثَّاني مِنَ الآياتِ: الآياتُ الشَّرعيَّةُ، وهِيَ مَا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الوحيِ، كالقرآنِ العظيمِ، وهُوَ آيةٌ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (تِلكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتلُوهاَ عَلَيكَ بِالحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرسَلِينَ) [البقرة: 252]، (وَقَالُوا لَولاَ أُنزِلَ عَلَيهِ آيَاتٌ مِن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَم يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتلَى عَلَيهِمْ) [العنكبوت: 50- 51]، فَجَعَلَهُ آياتٍ.
ويكونُ الإلحادُ فِيهِا إمَّا بتكذيبِهِا أوْ تحريفِهِا أوْ مخالفتِهِا:
فتكذيبُها: أنْ يقولَ: لَيْسَتْ مِنَ عندِ اللَّهِ، فيكذِّبُ بها أصلاً، أَوْ يكذِّبُ بمَا جاءَ فِيهِا مِن الخبَرِ مَعَ تصديقِهِ بالأصْلِ، فيقولُ مثلاً: قصَّةُ أصحابِ الكهفِ ليستْ صحيحةً، وقصَّةُ أصحابِ الفيلِ ليستْ صحيحةً، واللَّهُ لَمْ يُرسلْ عليْهِم طيراً أبابيلَ.
وأمَّا التَّحريفُ فَهُوَ تغييرُ لفظِهَا، أوْ صَرْفُ معنَاهَا عمَّا أرادَ اللَّهُ بِها ورسولُهُ، مِثلُ أنْ يقولَ: استوى عَلَى العَرْشَ، أيْ: استوْلَى، أوْ: يَنـزِلُ ربُّنَا إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا، أيْ: يَنـزلُ أمرُهُ.
وأمَّا مخالفَتُهَا فبِتَرْكِ الأوامرِ أوْ فِعلِ النَّواهِي.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي المسجدِ الحرامِ: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25]، فكُلُّ المعاصِي إلحادٌ فِي الآياتِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّهُ خروجٌ بَهَا عمَّا يجبُ لَهَا، إذ الواجبُ عَلَيْنَا أنْ نمتثِلَ الأوامرَ وأنْ نَجْتنِبَ النَّواهِيَ، فإنْ لَمْ نَقُمْ بذلِكَ فهَذَا إلحادٌ.

قولُهُ: ((وَلاَ يُكَيِّفونَ))، أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وسبقَ أنَّ التَّكييفَ ذِكرُ كيفيَّةِ الصِّفَةِ، سواءٌ ذكرْتَهَا بلسانِكَ أوْ بقلبِكَ، فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُكيِّفونَ أبدًا، يعني: لاَ يقولُونَ: كيفيَّةُ يَدِهِ كذا وكذا، ولا: كيفيَّةُ وجهِهِ كذا وكذا، فلاَ يُكيِّفُونَ هَذَا باللِّسانِ ولاَ بالقلبِ أيضًا، يعني: نَفْسَ الإنسانِ لاَ يَتصوَّرُ كَيْفَ استوَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، أوْ كَيْفَ يَنـزلُ؟ أوْ كَيْفَ وجْهُهُ؟ أوْ كَيْفَ يدُهُ؟ ولاَ يجوزُ أنْ يحاولَ ذلِكَ أيضًا؛ لأنَّ هَذَا يؤدِّي إِلَى أحدِ أمرَيْنِ: إمَّا التَّمثيلُ، وإمّا التَّعطيلُ.
وَلِهَذَا لاَ يجوزُ للإنسانِ أنْ يحاوِلَ معرِفَةَ كيفيَّةِ استواءِ اللَّهِ عَلَى العَرشِ، أوْ يقولَهُ بلسانِهِ، بلْ ولاَ يَسأَلُ عن الكَيْفيَّةِ؛ لأنَّ الإمامَ ماِلكًا -رحمَهُ اللَّهُ- قالَ: ((السُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ))، لاَ تَقُلْ: كَيْفَ استوَى؟ كيفَ يَنـزلُ؟ كيفَ يأتِي؟ كيفَ وجْهُهُ؟ إنْ فعلْتَ ذلِكَ، قُلْنا: إنَّكَ مبتدعٌ … وقدْ سَبَقَ ذِكرُ الدَّليلِ عَلَى تَحريمِ التَّكييفِ، وذَكَرْنَا الدَّليلَ عَلَى ذلِكَ من السَّمعِ والعقلِ.
قولُهُ: ((ولاَ يُمثِّلُون))، أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ: ((صفاتهِ بصفاتِ خَلْقِهِ))، وَهَذَا معنى قولِهِ فيمَا سَبَقَ: ((مِنْ غَيْرِ تمثيلٍ))، وسَبَقَ لنا امتناعُ التَّمثيلِ سمعاً وعقلاً، وأنَّ السَّمعَ وَرَدَ خبرًا وطلباً فِي نَفْيِ التَّمثيلِ، فَهُمْ لاَ يُكيِّفُونَ ولاَ يمثِّلونَ.
قولُهُ: ((لأنَّه سبحانَهُ)): (سُبْحَانَ): اسمُ مصدرٍ سَبَّحَ، والمَصْدَرُ تسبيحٌ، ف(سُبْحَانَ) بمعنَى تسبيحٍ، لكنَّها بغيرِ اللَّفظِ، وكُلُّ مَا دلَّ عَلَى معنَى المصدرِ وليسَ بلفظِهِ، فَهُوَ اسمُ مصدرٍ، كسُبْحَانَ مِن سبَّحَ، وكَلامٍ مِن كلَّمَ، وسلامٍ مِن سلَّمَ، وإعرابُها مفعولٌ مطلَقٌ منصوبٌ عَلَى المفعوليَّةِ المطلَقةِ، وعاملُها محذوفٌ دائماً.
ومعنى (سبَّحَ)، قَالَ العلماءُ: معناها: نَزَّهَ، أصْلُها مِنَ السَّبْحِ، وَهُوَ البُعْدُ، كأنَّكَ تُبْعِدُ صفاتِ النَّقصِ عَنِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى – منـزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقصٍ.
قولُهُ: ((لاَ سَمِيَّ لَهُ)): دليلُ ذلِكَ قولُهُ - تَعَالَى -: (رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعبُدهُ وَاصطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]: (هَلْ): استفهامٌ، لكنَّهُ بمعنى النَّفيِ، ويأتي النَّفيُ بصيغةِ الاستفهامِ لفائدةٍ عظيمةٍ، وهِيَ التَّحدِّي؛ لأنَّ هناكَ فرقًا بَيْنَ أنْ أقولَ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، و:(هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا)؛ لأنَّ (هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) متضمِّنٌ للنَّفيِ وللتَّحدِّي أيضًا، فَهُوَ مُشْرَبٌ معنَى التَّحدِّي، وهذِهِ قاعدةٌ مهمِّةٌ: كلَّمَا كَانَ الاستفهامُ بمعنَى النَّفيِ فَهُوَ مُشْرَبٌ معنى التَّحدِّي، كأنِّي أقولُ: إنْ كُنْتَ صادقاً، فأْتِني بِسَمِيٍّ لَهُ، وعَلَى هَذَا، ف(هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا): أبلغُ مِن: (لاَ سَمِيَّ لَهُ).
والسَّمِيُّ: هُوَ المُسامِي،أيْ: المُماثِلُ.
قولُهُ: ((ولاَ كُفْءَ لَهُ)): والدَّليلُ قولُهُ - تَعَالَى -: (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ) [الإخلاص: 4].
قولُهُ: ((ولاَ نِدَّ لَهُ)): والدَّليلُ قولُهُ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَجعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأنتُم تَعلَمُونَ) [البقرة: 22]، أيْ: تعلمُونَ أنَّه لاَ نِدَّ لَهُ، والنِّدُّ بمعنَى النَّظيرِ.
وهذِهِ الثَّلاثةُ –السَّميُّ والكفءُ والنِّدُّ- معناها متقاربٌ جِدًّا؛ لأنَّ معنَى الكفءِ: الَّذِي يكافِئُهُ، ولاَ يكافئُ الشَّيءُ الشَّيءَ إِلاَّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، فإنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ، لَمْ يكنْ مكافِئًا لَهُ، إذًا: لاَ كُفءَ لَهُ، أيْ: لَيْسَ لَهُ مثيلٌ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
وَهَذَا النَّفيُ المقصودُ مَنْهُ كَمالُ صفاتِهِ؛ لأنَّهُ لكمالِ صفاتِهِ لاَ أحدَ يماثِلُهُ.
قولُهُ: ((ولاَ يُقاسُ بخَلقِهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -)): القِياسُ ينقسِمُ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: قياسُ شمولٍ، وقياسُ تمثيلٍ، وقياسُ أولويَّةٍ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لاَ يُقاسُ بخلقِهِ قياسَ تمثيلٍ ولاَ قياسَ شمولٍ:
1 - قياسُ الشُّمولِ: هُوَ مَا يُعْرَفُ بالعامِّ الشَّامِلِ لجميعِ أفرادِهِ، بحَيْثُ يكونُ كُلُّ فردٍ مِنْهُ داخلاً فِي مُسمَّى ذلِكَ اللَّفظِ ومعناهُ، فمثلاً: إِذَا قُلْنَا: الحياةُ، فإنَّهُ لاَ تقاسُ حياةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بحياةِ الخَلْقِ مِنْ أجْلِ أنَّ الكُلَّ يشملُهُ اسمٌ (حَيٌّ).
2 - وقياسُ التَّمثيلِ: هُوَ أنْ يَلْحَقَ الشَّيءُ بمثيلِهِ، فيجعلُ مَا ثبتَ للخالقِ مثلَ مَا ثبتَ للمخلوقِ.
3 - وقياسُ الأولويةِ: هُوَ أنْ يكونَ الفَرْعُ أوْلى بالحكمِ من الأصلِ، وَهَذَا يقولُ العلماءُ: إنَّهُ مستعملٌ فِي حقِّ اللَّهِ، لقولِهِ تَعَالى: (وَِلِلَّهِ المَثَلُ الأَعلَى) [النحل: 60]، بمعنى كلُّ صفةِ كمالٍ، فلِلَّهِ - تَعَالَى - أعْلاَها، والسَّمعُ والعِلمُ والقُدرةُ والحياةُ والحِكمةُ ومَا أشبَهَهَا موجودةٌ فِي المخلوقاتِ، لكنْ لِلَّهِ أعلاها وأكملُهَا.
وَلِهَذَا أحياناً نستدلُّ بالدَّلالةِ العقليَّةِ من زاويةِ القياسِ بالأوْلى، فمثلاً: نقولُ: العُلوُّ صفةُ كمالٍ فِي المخلوقِ، فَإِذَا كَانَ صفةَ كمالٍ فِي المخلوق فَهُوَ فِي الخالقِ من بابٍ أوْلَى، وَهَذَا دائماً نجدُه فِي كلامِ العلماءِ.
فقولُ المؤلِّفِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((ولاَ يُقاسُ بخلقِهِ))، بعد قولِهِ: ((لاَ سميَّ ولاَ كفءَ لَهُ، ولاَ نِدَّ لَهُ))، يعني: القياسَ المُقتضِي للمساواةِ، وهُوَ قياسُ الشُّمولِ وقياسُ التَّمثيلِ.
إذًا يمتنعُ القياسُ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ الخَلْقِ للتَّبايُنِ بَيْنَهُمَا، وإِذَا كنَّا فِي الأحكامِ لاَ نَقِيسُ الواجِبَ عَلَى الجائزِ، أو الجائزَ عَلَى الواجبِ ففِي بابِ الصِّفاتِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ مِنْ بابٍ أوْلى.
لو قَالَ لَكَ قائلٌ: اللَّهُ موجودٌ، والإنسانُ موجودٌ، ووجودُ اللَّهِ كوجودِ الإنسانِ بالقياسِ.
فنقولُ: لاَ يصحُّ؛ لأنَّ وجودَ الخالقِ واجبٌ، ووجودَ الإنسانِ مُمْكنٌ.
فَلَوْ قالَ: أَقِيسُ سَمعَ الخالقِ عَلَى سَمعِ المخلوقِ.
نقولُ: لاَ يُمكنُ، سَمعُ الخالقِ واجبٌ لَهُ لاَ يعتريهِ نقصٌ، وهُوَ شاملٌ لكُلِّ شيءٍ، وسمعُ الإنسانِ ممكنٌ؛ إذْ يجوزُ أنْ يُولَدَ الإنسانُ أصمَّ، والمولودُ سميعاً يلحقُهُ نقصُ السَّمعِ، وسمعُهُ محدودٌ.
إذاً لاَ يمكنُ أنْ يُقاسَ اللَّهُ بخلقِهِ، فكُلُّ صفاتِ اللَّهِ لاَ يمكنُ أنْ تقاسَ بصفاتِ خلقِهِ، لظهورِ التَّبايُنِ العظيمِ بينَ الخالقِ وبينَ المخلوقِ.

قَالَ المؤلِّفُ هَذَا تمهِيَداً وتوطئةً لوجوبِ قبولِ مَا دلَّ عَلَيْهِ كلامُ اللَّهِ تَعالى مِن صفاتِهِ وغيرِهَا، وذلِكَ أنَّهُ يَجِبُ قَبولُ مَا دلَّ عَلَيْهِ الخبرُ إِذَا اجتمعتْ فِيهِ أوصافٌ أربعةٌ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ صادِراً عن عِلمٍ، وإليْهِ الإشارةُ بقولِهِ: ((فإنَّهُ أَعْلَمُ بنَفْسِهِ وبغيرِهِ)).
الوصفُ الثَّاني: الصِّدقُ، وأشارَ إِلَيْهِ بقولِهِ: ((وَأَصْدَقُ قِيلاً)).
الوصفُ الثَّالثُ: البيانُ والفصاحةُ، وأشارَ إِلَيْهِ بقولِهِ: ((وأَحْسَنُ حديثاً)).
الوصفُ الرَّابعُ: سلامةُ القصدِ والإرادةِ، بأنْ يريدَ المخبِرُ هدايةَ مَن أخْبَرَهُمْ.
فدليلُ الأوَّلِ- وهُوَ العِلمُ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَرَبُّكَ أَعلَمُ بِمَن فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَلَقَدْ فَضَّلنَا بَعضَ النَّبِيينَ عَلَى بَعضٍ) [الإسراء: 55]، فَهُوَ أعلمُ بنَفْسِه وبغيرِهِ من غيرِهِ، فَهُوَ أعلمُ بِكَ من نَفْسِكَ؛ لأنَّهُ يَعلمُ مَا سَيَكُونُ لَكَ فِي المستقبلِ، وأنْتَ لاَ تَعلمُ مَاذَا تَكْسِبُ غدًا؟
وكلمةُ (أَعلَمُ) هُنَا اسمُ تفضيلٍ، ولَقَدْ تحاشَاهَا بعضُ العلماءِ، وفسَّرَ (أَعلَمُ) ب(عالمٍ)، فَقَالَ: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ) [النحل: 125]، أيْ: هُوَ عالِمٌ بَمَنْ ضلَّ عن سبيلِهِ، وَهُوَ عالمٌ بالمهتدِينَ. قالَ: لأنَّ (أَعْلَمُ) اسمُ تَفْضِيلٍ، وهُوَ يَقتضِي اشتِراكَ المفضَّلِ والمفضَّلِ عَلَيْهِِ، وَهَذَا لاَ يَجوزُ بالنِّسبةِ لِلَّهِ، لكنْ (عالمٌ) اسمُ فاعلٍ، ولَيْسَ فِيهِ مقارنةٌ ولاَ تفضيلٌ.
فنقولُ لَهُ: هَذَا غلطٌ، فاللَّهُ يعبِّرُ عن نَفْسِه ويقولُ: (أَعلَمُ) وأنْتَ تقولُ: عالمٌ! وإِذَا فسَّرْنَا (أَعلَمُ) ب(عالمٍ)، فقدْ حططْنَا مَنْ قدرِ علمِ اللَّهِ؛ لأنَّ (عالِمَ) يَشتركُ فِيهِا غيرُ اللَّهِ عَلَى سبيلِ المساواةِ، لكنْ (أَعلَمُ) مقتضاهُ أنْ لاَ يساويَهُ أحدٌ فِي هَذَا العلمِ، فَهُوَ أعلمُ مِنْ كُلِّ عالمٍ، وَهَذَا أكملُ فِي الصفَةِ بلاَ شكٍ.
ونقولُ لَهُ: إنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ بالنِّسبةِ لاسمِ الفاعلِ لاَ تمنعُ المساواةَ فِي الوصْفِ، لكنْ بالنِّسبةِ لاسمِ التَّفضيلِ تمنعُ المُشارَكةَ فيمَا دلَّ عَلَيْهِ.
ونقولُ أيضًا: فِي بابِ المقارَنةِ لاَ بأسَ أنْ نقولَ: أعلمُ، بمعنى: أنْ تأتيَ باسمِ التَّفضيلِ، ولو فُرِضَ خُلوُّ المفضَّلِ عليْهِ من ذلِكَ المعنى، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (أَصحَابُ الجَنَّةِ يَومَئِذٍ خَيرٌ مُّستَقَرًّا وَأَحسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان: 24]، فجاءَ باسمِ التَّفضيلِ، مَعَ أنَّ المفضَّلَ عَلَيْهِ ليسَ فِيهِ شيءٌ مِنْهُ إطلاقًا.
وفِي بابِ مجادلةِ الخصمِ ومحاجَّتِهِ يجوزُ أنْ نأتيَ باسمِ التَّفضيلِ، وإنْ كَانَ المفضَّلُ عَلَيْهِِ لَيْسَ فِيهِ شيءٌ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (آللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشرِكُونَ) [النمل: 59]، ومعلومٌ أنَّ مَا يشركُونَ ليسَ فِيهِ خيرٌ، وقَالَ يوسفُ: (أَأَربَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) [يوسف: 39]، والأربابُ ليسَ فِيهَا خَيرٌ.
فالحاصلُ أنْ نقولَ: إنَّ (أَعلَمُ) الواردةُ فِي كتابِ اللَّهِ يُرادُ بِها معناها الحقيقيُّ، ومَنْ فسَّرَها ب(عالمٍ)، فَقَدْ أخطأَ مَنْ حَيْثُ المَعْنَى ومَنْ حَيْثُ اللُّغةُ العربيَّةِ.
ودليلُ الوَصْفِ الثَّاني –الصِّدقُ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)، أيْ: لاَ أَحَدَ أصْدَقُ مِنْهُ، والصِّدْقُ مُطابقةُ الكلامِ للواقعِ، ولاَ شيءَ مِنَ الكلامِ يُطابِقُ الواقِعَ كَمَا يُطابقُهُ كلامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، فكلُ مَا أخبرَ اللَّهُ بهِ فَهُوَ صدقٌ، بلْ أصدقُ مِنْ كُلِّ قولٍ.
ودليلُ الوصفِ الثَّالثِ –البيانُ والفصاحةُ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وحُسْنُ حديثِهِ يتضمَّنُ الحُسْنَ اللَّفظيَّ والمعنويَّ.
ودليلُ الوصفِ الرَّابعِ – سلامةُ القصدِ والإرادةِ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم أَن تَضِلُّوا) [النساء: 176]، (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم) [النساء: 26].
فاجتمعَ فِي كلامِ اللَّهِ الأوصافُ الأربعةُ الَّتِي توجبُ قَبولَ الخَبرِ.
وإِذَا كَانَ كذلِكَ، فإنَّهُ يجبُ أنْ نقبلَ كلامَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وأنْ لاَ يلحقَنَا شكٌّ فِي مدلولِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يتكلَّمْ بهَذَا الكلامِ لأجْلِ إضلالِ الخلقِ، بلْ لِيُبيِّنَ لَهُمْ ويهديَهُمْ، وصَدَرَ كَلامُ اللَّهِ عنْ نَفْسِه أوْ عَنْ غيْرِهِ عَنْ أعلمِ القائِلينَ، ولاَ يمكنُ أنْ يعتريَهُ خلافُ الصِّدقِ، ولاَ يمكنُ أنْ يكونَ كلاماً عييًّا غيرَ فصيحٍ، وكلامُ اللَّهِ لَو اجتمعتِ الإنسُ والجنُ عَلَى أنْ يأتُوا بمثلِهِ لَمَا استطاعُوا، فَإِذَا اجتمعتْ هذِهِ الأمورُ الأربعةُ فِي الكلامِ وَجَبَ عَلَى المخاطَبِ القَبولُ بمَا دلَّ عليْهِ.
مثالُ ذلِكَ: قولُهُ - تَعَالَى - مُخاطِباً إبليسَ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] قَالَ قائلٌ: فِي هذِهِ الآيةِ إثباتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - يَخْلُقُ بَهِمَا مَنْ شاءَ، فنُثبِتهُمَا؛ لأنَّ كلامَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - صادِرٌ عَنْ عِلمٍ وصِدقٍ، وكلامُهُ أَحْسنُ الكلامِ وأفصحُهُ وأَبْيَنُهُ، ولاَ يُمْكِنُ أنْ لاَ يكونَ لَهُ يدانِ، لكنْ أرادَ مِنَ النَّاسِ أنْ يعتقدُوا ذلِكَ فِيهِ، ولو فُرِضَ هَذَا لكَانَ مقتضاهُ أنَّ القُرآنَ ضلالٌ، حَيْثُ جاءَ بوصفِ اللَّهِ بمَا لَيسَ فِيهِ، وَهَذَا ممتنعٌ، فَإِذَا كَانَ كَذلِكَ وَجَبَ عليْكَ أنْ تُؤْمِنَ بأنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - يَديْنِ اثنتَيْنِ خَلَقَ بهِمَا آدمَ.
وإِذَا قلْتَ: المرادُ بهِمَا النِّعمةُ أو القُدرةُ.
قُلْنَا: لاَ يمكنُ أنْ يكونَ هَذَا هُوَ المرادُ، إلاَّ إِذَا اجترأْتَ عَلَى ربِّكَ، ووصفْتَ كلامَهُ بضدِّ الأوصافِ الأربعةِ الَّتِي قُلْنَا، فنقولُ: هلِ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حينمَا قَالَ (بِيَدَيَّ): عالِمٌ بأنَّ لَهُ يَدَيْنِ؟ فسيقولُ: هُوَ عالِمٌ، فنقولُ: هلْ هُوَ صادقٌ؟ فسيقولُ: هُوَ صادقٌ بلاَ شكٍّ، ولاَ يستطيعُ أنْ يقولَ: هُوَ غيرُ عالمٍ، أَوْ غيرُ صادقٍ، ولاَ أنْ يقولَ: عبَّرَ بِهمَا وَهُوَ يريدُ غيرَهُمَا عَيًّا وعَجْزًا، ولاَ أنْ يقولَ: أرادَ مِنْ خَلقِهِ أنْ يؤمنُوا بمَا ليسَ فِيهِ مِنَ الصِّفاتِ إضلالاً لَهُمْ، فنقولُ لَهُ: إذاً مَا الَّذِي يمنعُكَ أنْ تُثْبِتَ لِلَّهِ اليَدَيْنِ؟! فاستغفِرْ ربَّكَ، وتُبْ إِلَيْهِ، وقُلْ: آمنتُ بمَا أخبرَ اللَّهُ بِهِ عنْ نَفْسِهِ؛ لأنَّهُ أَعلمُ بنَفْسِهِ وبغيْرِهِ، وأصدقُ قِيلاً، وأَحسنُ حديثًا من غيْرِهِ، وأتمُّ إرادةً مِنْ غيْرِهِ أيضًا.
وَلِهَذَا أتى المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بهذِهِ الأوصافِ الثَّلاثةِ، ونَحْنُ زِدْنَا الوَصْفَ الرَّابِعَ، وهُوَ: إرادةُ البَيانِ للخلقِ وإرادةُ الَهِدَايةِ لَهُمْ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ) [النساء: 26].
هَذَا حُكْمُ مَا أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ بكلامِهِ الَّذِي هُوَ جامِعٌ للكمالاتِ الأربعِ فِي الكَلامِ.[شرح الواسطية]