تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فى شرح العقيدة الواسطية

    ((ومِنَ الإِيمانِ باللهِ : الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ العَزيزِ، وبِمَا وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثيلٍ)).
    فِي هذِهِ الجملةِ مباحثُ:
    المبحثُ الأوَّلُ: أنَّ مِن الإيمانِ باللَّهِ الإيمانَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
    ووجهُ ذلِكَ أنَّ الإيمانَ باللَّهِ –كَمَا سَبَقَ- يتضمنُ الإيمانَ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، فإنَّ ذاتَ اللَّهِ تُسمَّى بأسماءٍ وتُوصفُ بأوصافٍ، ووجودُ ذاتٍ مجرَّدةٍ عن الأوصافِ أمرٌ مستحيلٌ، فلاَ يُمكنُ أنْ تُوَجدَ ذاتٌ مجرَّدةً عن الأوصافِ أبداً، وقدْ يَفرِضُ الذِّهْنُ أنَّ هَنَاكَ ذاتًا مجرَّدةً مِن الصِّفاتِ، لكنَّ الفَرْضَ ليْسَ كالأمرِ الواقعِ، أي: أنَّ المفروضَ ليس كالمشهودِ، فلاَ يوجدُ فِي الخارجِ –أيْ: فِي الواقعِ المشاهَدِ- ذاتٌ ليْسَ لَهُا صفاتٌ أبداً.
    فالذِّهنُ قدْ يَفْرضُ مثلاً شيئًا لَهُ أَلْفُ عينٍ، فِي كُلِّ ألفِ عَيْنٍ ألفُ سوادٍ وألفُ بياضٍ، ولَهُ ألفُ رِجلٍ، فِي كل رِجلٍ ألفُ أُصبَعٍ، فِي كُلِّ أُصبعٍ ألفُ ظُفْرٍ، ولَهُ ملايينُ الشَّعْرِ، فِي كُلِّ شعرةٍ ملايينُ الشَّعرِ… وهكذا! يفرضُهُ وإنْ لَمْ يكنْ لَهُ واقعٌ، لكنَّ الشَّيءَ الواقِعَ لاَ يمكنُ أنْ يُوجِدَ شيئًا بدونِ صفةٍ.
    لِهَذَا، كَانَ الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ مِن الإيمانِ باللَّهِ، لو لَمْ يكنْ مِنْ صفاتِ اللَّهِ إلاَّ أَنَّهُ موجودٌ واجبُ الوجودِ، وَهَذَا باتِّفاقِ الناسِ، وعَلَى هَذَا، فلاَ بدَّ أنْ يكونَ لَهُ صفةٌ.
    المبحثُ الثَّاني: أنَّ صِفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِن الأُمورِ الغَيْبيَّةِ، والواجبُ عَلَى الإنسانِ نحوَ الأمورِ الغيبيَّةِ: أنْ يؤمنَ بها عَلَى مَا جاءتْ، دونَ أنْ يرجعَ إِلَى شيءٍ سوَى النُّصوصِ.
    قَالَ الإمامُ أحمدُ: لاَ يُوصفُ اللَّهُ إلاَّ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه، أوْ وَصَفَهُ بِهِ رسولُه، لاَ يُتَجاوَزُ القرآنُ والحديثُ.
    يعني أنَّنا لاَ نَصِفُ اللَّهَ إِلاَّ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه فِي كتابِهِ، أوْ عَلَى لسانِ رسولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    ويدلُّ لذلِكَ القرآنُ والعقلُ:
    ففِي القرآنِ: يقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثُمَّ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِلْ بِهِ سُلْطَناً، وَأَن تَقوُلُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]، فَإِذَا وصفتَ اللَّهَ بصفةٍ لَمْ يَصِف اللَّهُ بها نَفْسَهُ، فقدْ قُلْتَ عَلَيْهِ مَا لاَ تعلمُ، وَهَذَا محرَّمٌ بنصِ القرآنِ.
    ويقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36]، ولو وَصَفْنا اللَّهَ بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، لكُنَّا قَفَوْنا مَا ليس لنا بِهِ عِلمٌ، فوقعْنَا فيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
    وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ، فلأنَّ صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِن الأمورِ الغيبيَّةِ، ولاَ يمكنُ فِي الأُمورِ الغَيْبيَّةِ أنْ يُدْرِكَهَا العقلُ، وحينئذٍ لاَ نَصِفُ اللَّهَ بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَه، ولاَ نُكيِّفُ صفاتِه؛ لأنَّ ذلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
    نَحْنُ الآنَ لاَ نُدْرِكُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نعيمَ الجنَّةِ مِنْ حَيْثُ الحقيقةِ، مَعَ أَنَّهُ مخلوقٌ، فِي الجنَّةِ فاكهةٌ ونخلٌ، ورُمَّانٌ، وسُرَرٌ، وأكوابٌ وحورٌ، ونَحْنُ لاَ نُدركُ حقيقةَ هذِهِ الأشياءِ، ولو قِيلَ: صِفْها لنا، لاَ نستطيعُ وَصْفَها، لقولِهِ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، ولقولِهِ - تَعَالَى - فِي الحديثِ القُدْسيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعَبَادِيَ الصَّالِحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)).
    فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي المخلوقِ الَّذِي وُصِفَ بصفاتٍ معلومةِ المَعْنَى ولاَ تُعْلَمُ حقيقتُها، فكَيْفَ بالخالقِ؟!
    مثالٌ آخرُ: الإنسانُ فِيهِ روحٌ، لاَ يحيا إلاَّ بِها، لَوْلاَ أنَّ الرُّوحَ فِي بَدنِهِ مَا حَيِيَ، ولاَ يستطيعُ أنْ يَصِفَ الرُّوحَ، لو قِيلَ: لَهُ: مَا هذِهِ الرُّوحُ الَّتِي بكَ؟ مَا هِيَ الَّتِي لو نُزِعَتْ مِنْكَ، صرْتَ جُثَّةً، وإِذَا بَقِيَتْ فأنتَ إنسانٌ تَعقلُ وتَفهمُ وتُدْركُ؟ لجلسَ يَنظرُ ويُفكِّرُ، فلاَ يستطيعُ أنْ يَصِفَها أبداً، مَعَ أَنَّهَا قريبةٌ مِنْهُ، فِي نَفْسِه وبَيْنَ جنبيْهِ، ويَعجِزُ عنْ إدراكِها، مَعَ أَنَّهَا حقيقةٌ، يعنِي: شيءٌ يُرَى، كَمَا أخبرَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - بـ((أَنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ، تَبِعَهُ البَصَرُ))، فالإنسانُ يَرى نَفْسَه وهِيَ مقبوضةٌ، وَلِهَذَا تبقى العينُ مفتوحةً عندَ الموتِ تُشاهِدُ الرُّوحَ، وهِيَ قدْ خَرَجَتْ، وتُؤخذُ هذِهِ الرُّوحُ، وتُجعلُ فِي كَفنٍ، ويُصعدُ بها إِلَى اللَّهِ، ومعَ ذلِكَ مَا يستطيعُ أنْ يَصِفَها، وهِيَ بَيْنَ جنْبَيْهِ، فكَيْفَ يحاولُ أنْ يَصِفَ الرَّبَّ بأمرٍ لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ!
    ولاَ بدَّ إذاً من تحقُّقُ ثُبوتِ الصِّفاتِ للَّهِ.
    المبحثُ الثَّالثُ: أنَّنا لاَ نَصِفُ اللَّهَ - تَعَالَى - بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَه.
    ودليلُ ذلِكَ أيضاً مِن السَّمْعِ والعقلِ:
    ذَكَرْنا مِن السَّمْعِ آيَتَيْنِ.
    وأمَّا مِنَ العقلِ، فقلْنا: إنَّ هَذَا أمرٌ غَيْبِيٌّ، لاَ يمكنُ إدراكُهُ بالعقلِ، وضَرَبْنا لذَلِكَ مَثَلَيْنِ:
    المبحثُ الرَّابعُ: وجوبُ إجراءِ النُّصوصِ الواردةِ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ عَلَى ظاهرِها، لاَ نَتعدَّاها.
    مثالُ ذلِكَ: لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَه بأنَّ لَهُ عَيْناً، هَلْ نقولُ: المرادُ بالعينِ الرُّؤيةُ لاَ حقيقةُ العينِ؟ لو قُلْنا ذلِكَ، مَا وَصَفْنا اللَّهَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ.
    ولَمَّا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بأنَّ لَهُ يَديْنِ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، لو قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ليْسَ لَهُ يدٌ حقيقةً، بَل المرادُ باليَدِ مَا يُسْبِغُهُ مِن النِّعَمِ عَلَى عبادِهِ، فهَل وَصَفْنا اللَّهَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ لا.
    المبحثُ الخامسُ: عُمومُ كلامِ المؤلِّفِ يشملُ كُلَّ مَا وَصفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ المعنويَّةِ والخبريَّةِ، والصِّفاتِ الفِعليَّةِ.
    فالصِّفاتُ الذَّاتيَّةُ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متَّصِفاً بها، وهِيَ نَوعانِ: معنويَّةٌ وخبريَّةٌ:
    فالمعنويَّةُ، مِثلُ: الحياةِ، والعلمِ، والقُدرةِ، والحِكمةِ… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ، وَهَذَا عَلَى سبيلِ التَّمثيلِ لاَ الحَصْرِ.
    والخبريَّةُ، مِثلُ: اليدينِ، والوجهِ، والعينينِ… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ ممَّا سمَّاهُ، نظيرُهُ أبعاضٌ وأجزاءٌ لَنَا.
    فاللَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَزَلْ لَهُ يَدانِ ووجهٌ وعَيْنانِ، لَمْ يَحْدُثْ لَهُ شيءٌ مِن ذلِكَ بعدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، ولَنْ يَنفَكَّ عن شيءٍ مِنْهُ، كَمَا أنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ حيًّا ولاَ يَزالُ حيًّا، لَمْ يَزَلْ عالِماً ولاَ يَزالُ عالِماً، ولَمْ يَزلْ قادِراً ولاَ يَزالُ قادِراً…وهكذا، يَعنِي: ليسَ حياتُهُ تَتجدَّدُ، ولاَ قُدْرتُه تَتجدَّدُ، ولاَ سَمْعُه يتجدَّدُ، بلْ هُوَ موصوفٌ بهَذَا أَزَلاً وأبداً، وتجدُّدُ المسموعِ لاَ يَستلزمُ تجدُّدَ السَّمْعِ، فأَنَا مَثلاً عِنْدَمَا أَسْمعُ الأَذَانَ الآنَ، فهَذَا ليسَ مَعناهُ أنَّهُ حَدَثَ لي سَمعٌ جديدٌ عِنْدَ سَماعِ الأذانِ، بلْ هُوَ مُنذُ خَلَقَهُ اللَّهُ فيَّ، لكنَّ المسموعَ يتجدَّدُ، وَهَذَا لاَ أثرَ لَهُ فِي الصِّفةِ.
    واصطَلحَ العلماءُ -رحمهُمْ اللَّهُ- عَلَى أنْ يُسمُّوها الصِّفاتِ الذَّاتِيَّةَ، قالُوا: لأنَّها ملازِمةٌ للذَّاتِ، لاَ تَنفكُّ عَنْها.
    والصِّفاتُ الفِعْليةُ هِيَ الصِّفاتُ المتعلِّقةُ بمشيئتِهِ، وهِيَ نوعانِ:
    صفاتٌ لَهُا سببٌ معلومٌ، مِثلُ: الرِّضَا، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - إِذَا وَجَدَ سَبَبَ الرِّضَى رَضِيَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
    وصفاتٌ لَيْسَ لَهُا سببٌ معلومٌ، مثلُ: النُّزولِ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا حينَ يَبْقَى ثلثُ اللَّيلِ الآخِرِ.
    ومِنَ الصِّفاتِ مَا هُوَ صفةٌ ذاتيَّةٌ وفِعليَّةٌ باعتبارَيْنِ، فالكلامُ صفةٌ فِعليَّةٌ باعتبارِ آحادِهِ، لكنْ باعتبارِ أصلِهِ صفة ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متكلِّماً، لكنَّهُ يتكلَّمُ بمَا شاءَ متَى شاءَ، كَمَا سيأتِي فِي بحثِ الكلامِ إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
    اصطلحَ العلماءُ -رحمَهُم اللَّهُ- أنْ يُسمُّوا هذِهِ الصِّفاتِ الصِّفاتِ الفِعليَّةَ؛ لأنهَّا مِن فِعْلِه سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
    ولَهَا أدلَّةٌ كثيرةٌ مِن القرآنِ، مِثلُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22]، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ) [الأنعام: 158]، (رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) [المائدة: 119]، (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46]، (أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة: 80].
    ولَيْسَ فِي إثباتهِا لِلَّهِ - تَعَالَى - نقصٌ بوجهٍ مِن الوجوهِ، بَلْ هَذَا مِنْ كَمالِهِ أنْ يكونَ فاعلاً لمَا يُريدُ.
    وأُولَئِكَ القومُ المحرِّفُونَ يقولونَ: إثباتُهَا مِن النَّقصِ! وَلِهَذَا يُنكرونُ جميعَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، يقولونَ: لاَ يجيءُ، ولاَ يَرْضَى، ولاَ يَسْخَطُ، ولاَ يَكْرَهُ، ولاَ يُحِبُّ… يُنكرونَ كُلَّ هذِهِ، بِدَعْوَى أنَّ هذِهِ حادِثةٌ، والحادثُ لاَ يَقومُ إِلاَّ بحادِثٍ، وَهَذَا باطلٌ؛ لأنَّهُ فِي مُقابَلةِ النَّصِّ، وَهُوَ باطلٌ بنَفْسِهِ، فإنَّه لاَ يَلزمُ مِنْ حُدوثِ الفِعلِ حدوثُ الفاعلِ.
    المبحثُ السَّادسُ: أنَّ العقلَ لاَ مَدْخلَ لَهُ فِي بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ:
    لأنَّ مَدارَ إثباتِ الأسماءِ والصِّفاتِ أوْ نَفْيِهَا عَلَى السَّمعِ، فعقولُنَا لاَ تَحكُمُ عَلَى اللَّهِ أبداً، فالمدارُ إذاً عَلَى السَّمعِ، خلافاً للأشعريَّةِ والمعتزِلةِ والجهميَّةِ وغيرِهِمْ مِنْ أهلِ التَّعطيلِ، الَّذِينَ جَعلُوا المدارَ فِي إثباتِ الصِّفاتِ أوْ نفيِهَا عَلَى العقلِ، فَقَالَوا: مَا اقتضَى العقلُ إثباتَهُ أثبتْناهُ، سواءٌ أثبَتَهُ اللَّهُ لنَفْسِهِ أمْ لاَ! ومَا اقتضَى نفْيَهُ نفيْناهُ، وإِنْ أثبَتهُ اللَّهُ! ومَا لاَ يقتضِي العقلُ إثباتَهُ ولاَ نَفْيَهُ، فأكثرُهُم نَفَاهُ، وقالَ: إنَّ دلالةَ العقلِ إيجابيةٌ، فإنْ أوجبَ الصِّفةَ أثبتْناهَا، وإنْ لَمْ يُوجِبْها نفيْنَاها! ومِنْهُمْ مَن توقَّفَ فِيهِ، فلاَ يُثبِتُها؛ لأنَّ العقلَ لاَ يُثبِتُها، لكنْ لاَ يُنكرُهَا؛ لأنَّ العقلَ لاَ يَنفِيهَا، ويقولُ: نتوقَّفُ! لأنَّ دلالةَ العقلِ عِنْدَ هَذَا سلبيَّةٌ، إِذَا لَمْ يُوجِبْ، يتوقَّفُ، ولَمْ يَنْفِ!
    فصارَ هؤلاءِ يحكِّمونَ العقلَ فيمَا يجبُ أوْ يمتنعُ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
    فيتفرَّعُ عَلَى هَذَا: مَا اقتضى العقلُ وَصْفَ اللَّهِ بِهِ، وُصِفَ اللَّهُ بِهِ، وإنْ لَمْ يكنْ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ، ومَا اقتضَى العقلُ نَفْيَه عن اللَّهِ نَفَوْه، وإنْ كَانَ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ.
    وَلِهَذَا يقولونَ: لَيْسَ لِلَّهِ عينٌ، ولاَ وجهٌ، ولاَ لَهُ يدٌ، ولاَ استوى عَلَى العرشِ، ولاَ ينـزلُ إِلَى السَّماءِ الدنيا… لكنهم يحرِّفونَ، ويُسمُّونَ تحريفَهُم تأويلاً، وَلَوْ أَنْكَرُوا إنكارَ جَحْدٍ لكفروا؛ لأنَّهم كذَّبُوا، لكنَّهُمْ يُنكِرونَ إنكارَ مَا يُسمُّونَهُ تأويلاً، وهُوَ عندَنا تَحريفٌ.
    والحاصِلُ أنَّ العقلَ لاَ مجالَ لَهُ فِي بابِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه.
    فإنْ قُلْتَ: قولُكَ هَذَا يناقضُ القرآنَ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا) [المائدة: 50]، والتفضيلُ بَيْنَ شيءٍ وآخَرَ مرجعُهُ إِلَى العقلِ، وقَالَ - عزَّ وجلَّ -: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) [النحل: 60]، وقالَ: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 17]… وأَشباهُ ذلِكَ ممَّا يُحيلُ اللَّهُ بِهِ عَلَى العقلِ، فيمَا يُثْبِتُه لنَفْسِه ومَا يَنفِيهِ عن الآلِهَةِ المدَّعاةِ؟
    فالجوابُ أنْ نَقولَ: إنَّ العقلَ يُدْرِكُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، ويَمتنعُ عَلَيْهِ، عَلَى سبيلِ الإجمالِ، لاَ عَلَى سَبيلِ التَّفصيلِ، فمثلاً: العقلُ يُدْرِكُ بأنَّ الرَّبَّ لاَ بُدَّ أنْ يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، لكنْ هَذَا لاَ يَعني أنَّ العقلَ يُثبِتُ كُلَّ صفةٍ بعيْنِهَا أوْ يَنفِيهَا، لكنْ يُثبِتُ أوْ يَنفِي عَلَى سبيلِ العمومِ أنَّ الرَّبّ لاَ بدَّ أنْ يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، سالِماً مِن النَّقصِ.
    فمثلاً: يدركُ بأنَّهُ لاَ بدَّ أن يكونَ الرَّبُّ سميعاً بصيراً، قَالَ إبراهِيَمُ لأبيهِ: (يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ) [مريم: 42].
    ولاَ بدَّ أنْ يكونَ خالِقاً؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ) [النحل: 17]، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً) [النحل: 20].
    يدركُ هَذَا، ويدركُ بأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - يَمتنعُ أنْ يكونَ حادِثاً بعدَ العدمِ؛ لأنَّهُ نقصٌ؛ ولقولِهِ تَعَالَى - محتجًّا عَلَى هؤلاءِ الذينَ يَعبدونَ الأصنامَ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل: 20]، إذاً يَمتنعُ أنْ يكونَ الخالقُ حادِثاً بالعقل.
    العقلُ أيضاً يُدْرِكُ بأنَّ كُلَّ صفةِ نقصٍ فهِيَ ممتنعةٌ عَلَى اللَّهِ؛ لأنَّ الرَّبَّ لاَ بدَّ أنْ يكونَ كاملاً، فيُدركُ بأنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - مسلوبٌ عَنْهُ العَجزُ؛ لأنَّهُ صفةُ نَقْصٍ، إِذَا كَانَ الرَّبُّ عاجزاً وعُصِيَ، وأرادَ أنْ يُعاقبَ الَّذِي عصَاهُ وَهُوَ عاجِزٌ، فلاَ يُمكِنُ!
    إذاً، العقلُ يُدركُ بأنَّ العَجْزَ لاَ يمكنُ أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ، والعَمَى كذلِكَ، والصَّممَ كذلِكَ، والجهلَ كذلِكَ… وَهَكَذَا عَلَى سبيلِ العمومِ نُدركُ ذلِكَ، لكنْ عَلَى سبيل التَّفصيلِ… لاَ يمكنُ أنْ نُدركَهُ، فنتوقَّفَ فِيهِ عَلَى السَمْعِ...
    هذِهِ ستَّةُ مباحثَ تحتَ قولِهِ: ((مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه))، وكلُّها مباحثُ هامَّةٌ، وقدَّمْناهَا بَيْنَ يَدَيِ العقيدةِ؛ لأنَّهُ سيَنبنِي عَلَيْها مَا يأتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى .


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    سؤالٌ: هلْ كُلُّ مَا هُوَ كمالٌ فينا يكونُ كمالاً فِي حقِّ اللَّهِ، وهَلْ كُلُّ مَا هُوَ نقصٌ فِينَا يكونُ نقصاً فِي حقِّ اللَّهِ؟
    الجوابُ: لا؛ لأنَّ المقياسَ فِي الكَمالِ والنَّقْصِ لَيْسَ باعتبارِ مَا يُضافُ للإنسانِ، لظُهورِ الفَرْقِ بَيْنَ الخالِقِ والمخلوقِ، لكنْ باعتبارِ الصِّفةِ من حَيْثُ هِيَ صفةٌ، فكُلُّ صفةِ كمالٍ، فهِيَ ثابتهٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
    فالأكلُ والشُّربُ بالنِّسبةِ للخالقِ نقصٌ؛ لأنَّ سبَبَهُمَا الحاجَةُ، واللَّهُ - تَعَالَى - غنيٌّ عمَّا سِواهُ، لكنْ هُمَا بالنِّسبةِ للمخلوقِ كمالٌ، ولِهَذَا إِذَا كَانَ الإنسانُ لاَ يأكلُ، فلاَ بدَّ أنْ يكونَ عليلاً بمرضٍ أوْ نحوِه، هَذَا نقصٌ.
    والنَّومُ بالنسبةِ للخالِق نقصٌ، وللمخلوقِ كمالٌ، فظَهَرَ الفَرْقُ.
    التَّكبُّرُ كمالٌ للخالقِ ونقصٌ للمخلوقِ؛ لأنَّهُ لاَ يتمُّ الجلالُ والعظَمةُ إِلاَّ بالتَّكبُّرِ، حَتَّى تكونَ السَّيطرةُ كاملةً، ولاَ أحدَ ينازعُهُ… وَلِهَذَا توعَّدَ اللَّهُ - تَعَالَى - مَنْ ينازِعُهُ الكبرياءَ والعظمةَ، قالَ: ((مَنْ نَازَعَني وَاحِداً مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ)).
    فالمُهِمُّ أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ كمالٍ فِي المَخْلوقِ يكونُ كمالاً فِي الخالقِ، ولاَ كُلُّ نقصٍ فِي المخلوقِ يكونُ نقصاً فِي الخالقِ، إِذَا كَانَ الكمالُ أو النَّقصُ اعتباريًّا.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    قولُهُ:((وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ)):
    وَوَصْفُ رسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربِّهِ
    يَنْقَسِمُ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: إمَّا بالقَوْلِ، أوْ بالفِعلِ، أوْ بالإقرارِ.

    أ- أمَّا القَولُ، مثلُ: ((رَبُّنا! اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ! تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))، وقولُهُ فِي يمينِهِ: ((لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ)).
    ب- وأمَّا الْفِعْلُ، فَهُوَ أَقَلُّ مِنَ القَوْلِ، مِثلُ إشارَتِهِ إِلَى السَّماءِ يستشهِدُ اللَّهَ عَلَى إقرارِ أُمَّتِهِ بالبلاغِ، وَهَذَا فِي حَجَّةِ الوداعِ فِي عَرَفةَ، خَطَبَ الناسَ، وقالَ: ((أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟)). قالوا: نعمْ. ثَلاثَ مرَّاتٍ. قال: ((اللَّهُمَّ! اشْهَدْ)). يَرْفَعُ إصبعَهُ إِلَى السَّماءِ، وَيَنْكُتُها إِلَى النَّاسِ. فَرَفَعَ إصبعَهُ إِلَى السَّماءِ، هَذَا وَصْفُ اللَّهِ - تَعَالَى - بالعُلُوِّ عن طريقِ الفِعلِ.
    وجاءَهُ رجلٌ وهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يومَ الجمعةِ، قالَ: يا رسولَ اللَّهِ! هَلَكتِ الأموالُ… فرفَعَ يَدَيْهِ. وَهَذَا أيضاً وصفٌ لِلَّهِ بالعُلُوِّ عَنْ طريقِ الفِعلِ.
    وغيرُ ذلِكَ من الأحاديثِ، الَّتِي فِيهِا فِعلُ النَّبيِّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - إِذَا ذَكَرَ صِفةً مِن صفاتِ اللَّهِ.
    وأحياناً يَذْكُرُ الرَّسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - الصِّفةَ مِن صِفاتِ اللَّهِ بالقَولِ، ويُؤَكِّدُها بالفِعلِ، وذلِكَ حينمَا تلاَ قولَهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا) [النساء: 58] فوضَعَ إبهامَهُ عَلَى أُذُنِه اليُمْنَى، والَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَهَذَا إثباتٌ للسَّمعِ والبَصَرِ بالقولِ والفِعْلِ.
    وحينئذٍ نقولُ: إنَّ إثباتَ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - للصِّفاتِ يكونُ بالقولِ ويكونُ بالفعلِ، مُجْتَمِعَيْنِ ومُنْفَرِدَيْنِ .
    ج- أمَّا الإقرارُ، فَهُوَ قليلٌ بالنِّسبةِ لِمَا قَبْلَهُ، مِثلُ: إقرارِهِ الجاريةَ الَّتِي سأَلَها: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)). قالتْ: فِي السَّمَاءِ. فَأَقَرَّها، وقالَ: ((أَعْتِقْها)).
    وكإقرارِه الحَبْرَ مِن اليهودِ، الَّذِي جاءَ وقَالَ للرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: إنَّنا نَجِدُ أنَّ اللَّهَ يجعلُ السَّماواتِ عَلَى إصبعٍ، والأرضينَ عَلَى إصْبَعٍ، والثَّرَى عَلَى إصْبعٍ… إِلَى آخرِ الحديثِ، فضحِكَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصديقاً لقولِهِ، وَهَذَا إقرارٌ.
    إِذَا قَالَ قائلٌ: مَا وجْهُ وجوبِ الإيمانِ بمَا وَصَفَ الرَّسولُ بِهِ ربَّهُ، أوْ مَا دليلُهُ؟ نقولُ: دليلُهُ قولُهُ - تَعَالَى -: (يَأَيُّهَا الّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ) [النساء: 136]، وكلُّ آيةٍ فِيهِا ذكرُ أنَّ الرَّسولَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - مُبَلِّغٌ، فهِيَ دالَّةٌ عَلَى وجوبِ قبولِ مَا أخْبَرَ بِهِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ؛ لأنَّهُ أَخبرَ بِهَا وبلغَّها إِلَى النَّاسِ، وكُلُّ مَا أخبرَ بِهِ، فَهُوَ تبليغٌ مِنَ اللَّهِ، ولأنَّ الرَّسولَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أَعْلَمُ النَّاسِ باللَّهِ، وأنصحُ النَّاسِ لعِبادِ اللَّهِ، وأَصْدَقُ النَّاسِ فيمَا قالَ، وَأَفْصَحُ النَّاسِ فِي التَّعبِيرِ، فاجتمَعَ فِي حقِّهِ مِن صِفاتِ القَبولِ أربعٌ: العِلمُ، والنُّصحُ، والصِّدقُ، والبَيانُ، فيَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَقْبَلَ كُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عن ربِّهِ، وهُوَ –واللَّهِ- أَفْصَحُ وأَنْصَحُ وأَعْلَمُ مِن أُولَئِكَ القومِ الَّذِينَ تبِعَهُم هؤلاءِ مِنَ المناطِقةِ والفلاسِفَةِ، ومَعَ هَذَا يقولُ: ((سُبْحَانَكَ! لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    قولُهُ (مِنْ غيرِ تحريفٍ ولاَ تعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تكييفٍ ولاَ تمثيلٍ ).

    فِي هذِهِ الجملةِ بيانُ صفةِ إيمانِ أهلِ السُّنةِ بصفاتِ اللَّهِ
    تَعَالَى
    فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يؤمنونَ بها إيماناً خالياً مِنْ هذِهِ الأُمورِ الأربعةِ: التَّحريفِ، والتَّعطيلِ، والتَّكييفِ، والتَّمثيلِ.
    فالتَّحريفُ: التَّغييرُ، وَهُوَ إمَّا لفظيٌّ وإمَّا معنويٌّ.
    والغالِبُ أنَّ التَّحريفَ اللَّفظيَّ لاَ يَقعُ، وإِذَا وَقَعَ، فإنمَا يَقعُ مِنْ جاهلٍ، فالتَّحريفُ اللَّفظيُّ يعني تغييرَ الشَّكلِ، فمثلاً: فلا تَجِدُ أحداً يقولُ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ)) بفتحِ الدَّالِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ جاهلاً… هَذَا الغالبُ!
    لكنَّ التَّحريفَ المعنويَّ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ كثيرٌ من النَّاسِ.
    فأهلُ السُّنةِ والجماعةِ إيمانهُم بمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ خالٍ مِن التَّحريفِ، يعني: تَغييرَ اللَّفظِ أو المعنَى.
    وتغييرُ المَعْنَى يُسمِّيهِ القائِلونَ بِهِ تأويلاً، ويُسمُّونَ أنَفْسَهم بأهَلِ التَّأويلِ، لأجْلِ أنْ يَصْبِغُوا هَذَا الكلامَ صبغةَ القَبولِ؛ لأنَّ التأويلَ لاَ تَنفرُ مِنْهُ النُّفوسُ ولاَ تَكرهُهُ، لكنْ مَا ذهبوا إِلَيْهِ - فِي الحقيقةِ - تحريفٌ، لأنَّه ليْسَ عَلَيْهِ دليلٌ صحيحٌ، إِلاَّ أنَّهُم لاَ يَستطيعونَ أنْ يَقولُوا: تحريفاً! ولو قالوا: هَذَا تحريفٌ، لأَعْلَنُوا عَلَى أنْفُسِهم برفضِ كلامِهم.
    وَلِهَذَا عبَّرَ المؤلِّف -رحمَهُ اللَّهُ- بالتَّحريفِ دونَ التَّأويلِ، مَعَ أنَّ كثيراً ممَّن يتكلَّمونَ فِي هَذَا البابِ يُعبِّرونَ بنفِي التَّأويلِ، يقولونَ: مِنْ غيرِ تأويلٍ، لكنْ مَا عبَّرَ بِهِ المؤلِّفُ أَوْلى لوجوهٍ أربعةٍ:
    الوجْهُ الأوَّلُ: أَنَّه اللفظُ الَّذِي جاءَ بهِ القرآنُ، فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء: 46]، والتعبيرُ الَّذِي عبَّرَ بِهِ القرآنُ أولى مِنْ غيرهِ؛ لأنَّهُ أدلُ عَلَى المعنى.
    الوجْهُ الثَّاني: أنَّهُ أدلُّ عَلَى الحالِ، وأقربُ إِلَى العَدْلِ، فالمُؤَوِّلُ بغيرِ دليلٍ ليْسَ مِنَ العَدلِ أنْ نُسمِّيَهُ مُؤوِّلاً، بلِ العَدْلُ أنْ نِصفَهُ بمَا يستحقُ، وَهُوَ أن يكونَ محرِّفاً.
    الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّ التَّأويلَ بغيرِ دليلٍ باطلٌ، يجبُ البُعْدُ عَنْهُ والتَّنفيرُ مِنْهُ، واستعمالُ التَّحريفِ فِيهِ أبلغُ تنفيراً مِن التَّأويلِ؛ لأنَّ التَّحريفَ لاَ يقبلُه أحدٌ، لكنَّ التَّأويلَ لَيِّنٌ، تقبلُهُ النَّفْسُ، وتَستفصِلُ عن معناهُ، أمَّا التَّحريفُ، بمجرَّدِ مَا نقولُ: هَذَا تحريفٌ. يَنفرُ الإنسانُ مِنْهُ، وإِذَا كَانَ كذلِكَ، فإنَّ استعمالَ التَّحريفِ فيمن خالفوا طريقَ السَلَفِ أَلْيقُ مِن استعمالِ التَّأويلِ.
    الوجْهُ الرَّابعُ: أنَّ التَّأويلَ ليس مذموماً كلَّه، قَالَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((اللَّهُمَّ فَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلُ))، وقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْويِلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) [آل عمران: 7]، فامتدَحَهُم بأنَّهمْ يَعْلَمونَ التَّأويل.
    والتَّأويلُ ليس كلُّه مذموماً؛ لأنَّ التَّأويلَ لَهُ معانٍ متعدِّدةٌ، يكونُ بمعنَى التَّفسيرِ، ويكونُ بمعنى العاقِبةِ والمآلِ، ويكونُ بمعنَى صرفِ اللَّفظِ عن ظاهرِهِ.
    (أ)- يكونُ بمعنَى التَّفسيرِ، كثيرٌ مِن المفسِّرينَ عنْدَمَا يفسِّرونَ الآيةَ، يقولون: تأويلُ قولِهِ - تَعَالَى - كذا وكذا، ثُمَّ يَذْكُرونَ المعنَى، وسُمِّيَ التَّفسيرُ تأويلاً، لأنَّنا أوَّلْنَا الكلامَ، أيْ: جعلْناهُ يُؤَوْلُ إِلَى معناهُ المرادِ بِهِ.
    (ب)- تأويلٌ بمعنَى: عاقبةِ الشَّيءِ، وَهَذَا إنْ وَرَدَ فِي طَلبٍ، فتأويلُهُ فِعلُهُ إنْ كَانَ أمراً، وتَرْكُهُ إنْ كَانَ نهِيَاً، وإنْ وَردَ فِي خبرٍ، فتأويلُهُ وُقوعُهُ.
    مثالُهُ فِي الخبرِ قولُهُ - تَعَالَى -: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف: 53]، فالمعنَى: مَا يَنتظرُ هؤلاءِ إِلاَّ عاقبةَ ومآلَ مَا أُخْبِروا بِهِ، يومَ يأتي ذلِكَ المُخْبَرُ بِهِ يقولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قبلُ: قَدْ جاءتْ رُسلُ ربِّنَا بالحقِّ.
    ومِنْه قولُ يوسفَ لَمَّا خَرَّ لَهُ أبواهُ وإخوتُهُ سُجَّداً، قالَ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤيَايَ مِن قَبْلُ) [يوسف: 100]: هَذَا وقوعُ رُؤْيايَ؛ لأنَّهُ قَالَ ذلِكَ بعد أنْ سَجَدُوا لَهُ.
    ومثالُهُ فِي الطَّلبِ قولُ عائشةَ - رضيَ اللَّهُ عَنْها -: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكثرُ أنْ يقولَ فِي ركوعِهِ وسجودِهِ بَعْدَ أنْ أُنزِلَ عَلَيْهِ قولُهُ - تَعَالَى -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1]، يُكْثِرُ أنْ يقولَ فِي ركوعِهِ وسجودِهِ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي))، يتأوَّلُ القرآنَ. أيْ: يَعملُ بِهِ.
    (ج)- المَعْنَى الثَّالثُ للتَّأويلِ: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِهِ، وَهَذَا النَّوعُ يَنقسمُ إِلَى محمودٍ ومذمومٍ، فإنْ دلَّ عَلَيْهِ دليلٌ، فَهُوَ محمودُ النوعِ، ويكونُ مِن القِسمِ الأوَّلِ، وَهُوَ التَّفسيرُ، وإنْ لَمْ يدلْ عَلَيْهِ دليلٌ، فَهُوَ مذمومٌ، ويكونُ مِن بابِ التَّحريفِ، ولَيْسَ مِنْ بابِ التَّأويلِ.
    وَهَذَا الثَّاني هُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ أهلُ التحريفِ فِي صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
    مثالُهُ قولُهُ - تَعَالَى -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]: ظاهِرُ اللَّفظِ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - استوى عَلَى العرشِ: استقرَ عَلَيْهِ، وعلاَ عَلَيْهِِ، فَإِذَا قَالَ قائلٌ: معنى (اسْتَوَى): استَوْلَى عَلَى العرشِ، فنقولُ: هَذَا تأويلٌ عنْدَكَ، لأنَّكَ صَرَفْتَ اللَّفظَ عن ظاهِرِه، لكنْ هَذَا تحريفٌ فِي الحقيقةِ؛ لأنَّهُ مَا دلَّ عَلَيْهِ دليلٌ، بلْ الدَّليلُ عَلَى خلافِهِ، كَمَا سيأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
    فأمَّا قولُهُ - تَعَالَى -: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تستعْجِلُوهُ) [النحل: 1]، فمعنى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، أيْ: سَيأتِي أمْرُ اللَّهِ، فهَذَا مخالِفٌ لظاهِرِ اللَّفظِ، لكنْ عَلَيْهِ دليلٌ، وهُوَ قولُهُ: (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ).
    وكذلِكَ قولُهُ - تَعَالَى -: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98]، أيْ: إِذَا أردتَ أنْ تقرأَ، وليسَ المعنى: إِذَا أَكْمَلْتَ القراءةَ، قُلْ: أعوذُ باللَّهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لأنَّنا عَلِمْنَا مِن السُّنَّةِ أنَّ النبيَّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - إِذَا أرادَ أنْ يقرأَ استعاذَ باللَّه من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لاَ إِذَا أكمَلَ القراءةَ، فالتَّأويلُ صحيحٌ.
    وكذلِكَ قولُ أنسٍ بنِ مالكٍ: كَانَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دخَلَ الخلاءَ، قالَ: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ))، فمعنى ((إِذَا دخَلَ)): إِذَا أرادَ أنْ يدخلَ؛ لأنَّ ذكرَ اللَّهِ لاَ يليقُ داخلَ هَذَا المكانِ، فَلِهَذَا حملْنَا قولَهُ: ((إِذَا دَخَلَ)) على: إِذَا أرادَ أنْ يَدْخلَ، هَذَا التَّأويلُ الَّذِي دلَّ عَلَيْهِ الدَّليلُ صحيحٌ، ولاَ يَعْدُو أنْ يكونَ تفسيراً.
    لذلِكَ قُلْنَا: إنَّ التَّعبيرَ بالتَّحريفِ عن التَّأويلِ الَّذِي لَيْسَ عليْهِ دليلٌ صحيحٌ أَوْلى؛ لأنَّهُ الَّذِي جاءَ بِهِ القرآنُ، ولأنَّهُ ألْصقُ بطريقِ المحرِّفِ، ولأَنَّهُ أشدُّ تنفيراً عن هذِهِ الطَّريقةِ المخالِفةِ لطريقِ السَّلَفِ؛ ولأنَّ التَّحريفَ كُلَّهُ مَذْمومٌ، بخلافِ التَّأويلِ، فإنَّ مِنْهُ مَا يكونُ مذموماً ومحموداً، فيكونُ التَّعبيرُ بالتَّحريفِ أَوْلى مِن التَّعبيرِ بالتَّأويلِ مِن أربعةِ أَوْجُهٍ.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    ((ولاَ تعطيلَ))
    التَّعطيلُ بمعنى التَّخليةِ والتَّرْكِ، كقولِهِ - تَعَالَى -: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) [الحج: 45]، أيْ: مُخلاَّةٍ متروكةٍ.

    والمرادُ بالتَّعطيلِ: إنكارُ مَا أثبتَ اللَّهُ لنَفْسِهِ من الأسماءِ والصِّفاتِ، سواءٌ كَانَ كُلِّيًّا أوْ جزئيًّا، وسواءٌ كَانَ ذلِكَ بتحريفٍ أوْ بجحودٍ، هَذَا كلُّهُ يُسمَّى تعطيلاً.
    فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُعطِّلونَ أيَّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللَّهِ، أوْ أيَّ صفةٍ مِن صفاتِ اللَّهِ، ولاَ يَجْحَدونَها، بلْ يُقِرُّونَ بها إقراراً كامِلاً.
    فإنْ قُلْتَ: مَا الفرقُ بينَ التَّعطيلِ والتَّحريفِ؟
    قلْنا: التَّحريفُ فِي الدَّليلِ، والتَّعطيلُ فِي المَدْلولِ، فمثلاً: إِذَا قَالَ قائلٌ: معنى قولِهِ - تَعَالَى -: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، أيْ: بلْ قُوَّتاهُ، هَذَا محرِّفٌ للدَّليلِ، ومُعطِّلٌ للمرادِ الصَّحيحِ؛ لأنَّ المرادَ اليدُ الحقيقيَّةُ، فَقَدْ عطَّلَ المَعْنَى المرادَ، وأثبتَ معنًى غيرَ المرادِ. وإِذَا قالَ: بلْ يداهُ مبسوطتانِ، لاَ أَدْرِي! أُفوِّضُّ الأمرَ إِلَى اللَّهِ، لاَ أُثْبِتُ اليدَ الحقيقيَّةَ، ولاَ اليدَ المحرَّفَ إِلَيْهِا اللَّفظُ. نقولُ: هَذَا معطِّلٌ، وليس بمحرِّفٍ؛ لأنَّهُ لَمْ يُغيِّرْ معنَى اللَّفظِ، ولَمْ يُفَسِّرْهُ بغيرِ مُرادِهِ، لكِنْ عطَّلَ معناهُ الَّذِي يُرادُ بِهِ، وَهُوَ إثباتُ اليدِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
    أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يتبرَّءُونَ مِن الطَّريقتَيْنِ: الطَّريقةِ الأُولى: الَّتِي هِيَ تحريفُ اللَّفظِ بتعطيلِ معناهُ الحقيقيِّ المُرادِ، إِلَى معنًى غيرِ مُرادٍ، والطريقةُ الثَّانِيَةُ: وهِيَ طريقةُ أهلِ التَّفويضِ، فَهُمْ لاَ يُفَوِّضُونَ المَعْنَى، كَمَا يقولُهُ المفوِّضةُ، بلْ يقولونَ: نَحْنُ نقولُ: (بَلْ يَدَاهُ)، أيْ: يداهُ الحقيقيَّتانِ (مَبْسُوطَتَانِ) ، وهمَا غيرُ القوَّةِ والنِعْمَةِ.
    فعقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بريئةٌ من التَّحريفِ ومِن التَّعطيلِ.
    وبهَذَا نَعرفُ ضلالَ أوْ كَذِبَ مَنْ قالُوا: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ هِيَ التَّفويضُ، هؤلاءِ ضلُّوا، إنْ قالوا ذلِكَ عن جهلٍ بطريقةِ السَّلَفِ، وكَذَبُوا إنْ قالوا ذلِكَ عن عَمْدٍ، أوْ نقولُ: كَذَبوا عَلَى الوجهَيْنِ عَلَى لغةِ الحجازِ؛ لأنَّ الكَذِبَ عِنْدَ الحجازيِّينَ بمعنَى الخطأِ.
    وعَلَى كُلِّ حالٍ لاَ شكَّ أنَّ الذينَ يقولونَ: إنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ هُوَ التَّفويضُ، أنَّهمْ أَخطئُوا؛ لأنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ هُوَ إثباتُ المَعْنَى وتفويضُ الكيفيَّةِ.
    ولْيُعْلمْ أنَّ القولَ بالتَّفويضِ –كَمَا قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ- مِنْ شرِّ أقوالِ أهلِ البدعِ والإلحادِ!
    عندمَا يَسمعُ الإنسانُ التَّفويضَ، يقولُ: هَذَا جيِّدٌ، أسلمُ مِن هؤلاءِ وهؤلاءِ، لاَ أقولُ بمذهبِ السَّلَفِ، ولاَ أقولُ بمذهبِ أهلِ التَّأويلِ، أَسْلُكُ سبيلاً وسطاً، وأسلمُ مِنْ هَذَا كلِّهِ، وأقولُ: اللَّهُ أعلمُ، ولاَ نَدري مَا مَعناهَا. لكنْ يَقولُ شيخُ الإسلامِ: هَذَا مِن شرِّ أقوالِ أهلِ البدعِ والإلحادِ،
    وصَدَقَ رحَمُه اللَّهُ، إِذَا تأملْتَهُ، وجدْتهُ تَكذِيباً للقرآنِ، وتجهِيَلاً للرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستطالةً للفلاسفةِ.
    تكذيبٌ للقرآنِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]، وأيُّ بيانٍ فِي كلماتٍ لاَ يُدْرى مَا معناهَا؟! وهِيَ مِن أكثرِ مَا يَرِدُ فِي القرآنِ، وأكثرُ مَا وَرَدَ فِي القُرآنِ أسماءُ اللَّهِ وصفاتُهُ، إِذَا كُنَّا لاَ نَدْرِي مَا معناهَا، هَلْ يكونُ القُرآنُ تِبيانًا لكُلِّ شيءٍ؟! أيْنَ البَيانُ؟!
    إنَّ هؤلاءِ يَقولونَ: إنَّ الرَّسولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ يَدْرِي عَنْ معانِي القُرآنِ فيمَا يَتعلَّقُ بالأسماءِ والصِّفاتِ، وإِذَا كَانَ الرَّسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - لاَ يَدْرِي، فغيرُهُ مِن بابِ أَوْلَى.
    وأَعجبُ مِنْ ذلِكَ يقولونَ: الرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتكلَّمُ فِي صفاتِ اللَّهِ، ولاَ يَدْرِي مَا معناهُ، يقولُ: ((ربُّنا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّماءِ))، وإِذَا سُئِلَ عَنْ هَذَا؟ قالَ: لاَ أَدْرِي، وكذلِكَ فِي قولِهِ: ((يَنْزِلُ ربُّنا إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا))، وإِذَا سُئِلَ: مَا مَعْنَى ((يَنـزِلُ ربُّنا))؟ قالَ: لاَ أَدْرِي… وعَلَى هَذَا، فقِسْ.
    وهلْ هناكَ قدْحٌ أَعظمُ مِن هَذَا القدْحِ بالرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بلْ هَذَا مِن أكبرِ القَدْحِ! رسولٌ مِنْ عندِ اللَّهِ لِيُبَيِّنَ للنَّاسِ، وَهُوَ لاَ يَدرِي مَا معنى آياتِ الصِّفاتِ وأحادِيثِها، وَهُوَ يتكلَّمُ بالكلامِ ولاَ يَدرِي معنى ذلِكَ كلِّهِ!
    فَهَذَانِ وَجْهانِ: تكذيبُ القرآنِ، وتجهِيَلُ الرَّسولِ.
    وفِيهِ فتحُ البابِ للزَّنادِقةِ الَّذِينَ تَطاوَلُوا عَلَى أهلِ التَّفويضِ، وقالوا: أَنْتُمْ لاَ تَعرفونَ شيئاً، بلْ نَحْنُ الَّذِينَ نَعرِفُ، وأَخَذوا يفسِّرونَ القرآنَ بغيرِ مَا أرادَ اللَّهُ، وقالوا: كونُنا نُثْبِتُ مَعانيَ للنُّصوصِ خَيْرٌ مِنْ كونِنَا أُمِّيينَ لاَ نَعرفُ شيئاً، وذَهَبُوا يتكلَّمونَ بمَا يُريدونَ مِن معنَى كلامِ اللَّهِ وصفاتِهِ!! ولاَ يستطيعُ أهلُ التَّفويضِ أنْ يُردُّوا عَلَيْهِم؛ لأنَّهم يقولونَ: نَحْنُ لاَ نَعلمُ مَاذَا أرادَ اللَّهُ، فجائزٌ أنْ يكونَ الَّذِي يريدُ اللَّهُ هُوَ مَا قلْتُمْ! ففَتحوا بابَ شرورٍ عظيمةٍ، وَلِهَذَا جاءتِ العبارةُ الكاذِبةُ: ((طريقةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وطريقةُ الخَلَفِ أَعْلَمُ وأَحْكمُ))!
    يقولُ شيخُ الإسلامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((هذِهِ قالَها بعضُ الأغبياءِ)). وَهُوَ صحيحٌ، أنَّ القَائِلَ غبيٌّ.
    هذِهِ الكلمةُ مِنْ أَكْذَبِ مَا يكونُ نُطْقاً ومَدلولاً، ((طريقةُ السَّلَفِ أَسلمُ، وطَريقةُ الخَلفِ أَعْلَمُ وأَحْكَمُ))، كَيْفَ تكونُ أَعلمَ وأَحكمَ وتِلكَ أسلمَ؟! لاَ يُوجدُ سلامةٌ بُدونِ عِلمٍ وحِكمةٍ أبداً! فالَّذِي لاَ يَدْري عن الطَّريقِ لاَ يسلمُ؛ لأنَّهُ ليسَ مَعَهُ عِلمٌ، لو كَانَ مَعَهُ عِلمٌ وحِكمةٌ، لسَلِمَ، فلاَ سلامةَ إِلاَّ بعِلمٍ وحِكْمةٍ.
    إِذَا قُلْتَ: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ أسلمُ، لَزِمَ أنْ تقولَ: هِيَ أَعلمُ وأَحكمُ، وإلاَّ لكنتَ متناقِضاً.
    إذاً فالعبارةُ الصَّحيحةُ: ((طريقةُ السَّلفِ أَسلمُ وأَعلمُ وأَحكمُ))، وَهَذَا مَعلومٌ.
    وطريقةُ الخَلفِ مَا قالَهُ القائلُ:
    لَعَمْري لَقَدْ طُفْتُ المَعاهِدَ كُلَّها وَسَيرْتُ طَرْفِي بيْنَ تِلْكَ المَعالِمِ
    فَلَمْ أَرَ إلاَّ واضِعاً كَفَّ حائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قارِعاً سِنَّ نادِمِ
    هذِهِ الطَّريقةُ الَّتِي يقولُ عَنْها: إنَّه مَا وَجدَ إِلاَّ واضِعاً كفَّ حائرٍ عَلَى ذَقَنٍ، وَهَذَا ليسَ عندَهُ عِلمٌ، أوْ آخَرَ قارعاً سنَّ نادمٍ؛ لأنَّه لَمْ يَسلكْ طريقَ السَّلامةِ أبداً.
    والرَّازي –وَهُوَ مِن كُبرائِهِمْ- يقولُ:
    نِهايَةُ إِقْدامِ العُقولِ عِقالُ وأَكْثَرُ سَعْيِ العالَمِينَ ضَلالُ
    ،وَأَرْواحُنا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسومِنا وغايَةُ دُنْيانا أَذًى وَوَبالُ
    وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِن بَحْثِنا طُولَ عُمرِنا سِوى أنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وقالُوا
    ثُمَّ يقولُ: ((لقدْ تأملْتُ الطُّرقَ الكلاميَّةَ، والمناهجَ الفلسفيَّةَ، فمَا رأيْتُها تَشفِي عليلاً، ولاَ تَروي غَليلاً، ووجدتُ أَقربَ الطُّرقِ طريقةَ القرآنِ، أقرأُ فِي الإثباتِ: (الرَّحمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى) [طه: 5]، (إِليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ) [الشورى:11]، ومَن جرَّبَ مِثلَ تَجْرِبتِي، عَرفَ مِثلَ مَعرفَتِي)).
    أهؤلاءِ نقولُ: إنَّ طريقَتَهُمْ أَعلمُ وأَحكَمُ؟!
    الَّذِي يقولُ: ((إِنِّي أَتَمنَّى أنْ أموتَ عَلَى عقيدةِ عجائزِ نيسابورَ))، والعجائزُ مِن عوامِّ النَّاسِ، يتمنَّى أنَّهُ يعودُ إِلَى الأُمِّيَّاتِ! هلْ يُقالُ: إنَّهُ أَعْلمُ وأَحكمُ؟!
    أينَ العلمُ الَّذِي عندَهُمْ؟!
    فتَبَيَّنَ أنَّ طريقةَ التَّفويضِ طريقٌ خاطِئٌ؛ لأنَّهُ يتضمَّنُ ثلاثَ مَفاسِدَ: تكذيبُ القرآنِ، وتجهِيَلُ الرَّسولِ، واستطالةُ الفلاسفةِ! وأنَّ الَّذِينَ قالُوا: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ هِيَ التَّفويضُ، كَذَبوا عَلَى السَّلَفِ، بلْ هُم يُثْبِتونَ اللَّفظَ والمعنَى، ويُقررِّونَهُ، ويَشرحونَهُ بأوفى شَرحٍ.
    أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُحرِّفونَ ولاَ يُعطِّلونَ، ويقولونَ بمعنَى النُّصوصِ كَمَا أرادَ اللَّهُ: (ثم استَوَى عَلَى العَرْشِ) [الأعراف: 54]، بمعنى: علاَ عَلَيْهِ، وليْسَ معناهُ: استَولى.
    (بِيَدِهِ): يد حقيقيَّة، ولَيْسَت القُوَّةَ والنِّعمَةَ، فلاَ تحريفَ عندَهُمْ ولاَ تعطيلَ.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    ((ومِن غيرِ تكييفٍ)): لَمْ ترِدْ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ، ولكنْ وَرَدَ مَا يدلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا.
    التَّكييفُ: هُوَ أنْ تَذكُرَ كيفيَّةَ الصِّفةِ، وَلِهَذَا تقولُ: كيَّفَ يُكيِّفُ تَكييفاً، أيْ: ذَكَرَ كيفيَّةَ الصِّفةِ.
    والتَّكييفُ يُسألُ عَنْهُ ب(كَيْفَ)، فَإِذَا قُلْتَ مثلاً: كَيْفَ جاءَ زيدٌ؟ تقولُ: راكِباً. إذاً، كيَّفْتَ مَجيئَهُ، كَيْفَ لونُ السَّيارةِ؟ أبيضُ. فذكرْتَ اللَّوْنَ.
    أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُكيِّفونَ صفاتِ اللَّهِ، مُستنِدينَ فِي ذلِكَ إِلَى الدَّليلِ السَّمعيِّ والدَّليلِ العقليِّ، - أمَّا الدَّليلُ السَّمعيُ فمثلُ قولِهِ - تَعَالَى -: (قُل إِنَّماَ حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ، وَأَنْ تُشرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ) [الأعراف: 33]، والشَّاهِدُ فِي قولِهِ: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ).
    فَإِذَا جاءَ رجلٌ وقالَ: إنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ، عَلَى هذِهِ الكيفيَّةِ … ووَصَفَ كيفيَّةً معيَّنةً. نقولُ: هَذَا قَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ يَعلمُ، هلْ أَخبرَكَ اللَّهُ بأَنَّهُ استَوَى عَلَى هذِهِ الكيفيَّةِ؟! لا، أخْبَرَنَا اللَّهُ بأَنَّهُ استَوَى، ولَمْ يُخبِرْنَا كَيْفَ استَوَى. فنقولُ: هَذَا تكييفٌ وقولٌ عَلَى اللَّهِ بغيرِ عِلْمٍ.
    وَلِهَذَا قَالَ بعضُ السلفِ: إِذَا قَالَ لكَ الجهميُّ: إنَّ اللَّهَ يَنـزلُ إِلَى السَّماءِ، فكَيْفَ يَنـزلُ؟ فقُلْ: إنَّ اللَّهَ أخبَرَنَا أَنَّهُ يَنـزلُ، ولَمْ يُخْبِرْنَا كَيْفَ يَنـزِلُ. وهذِهِ قاعدةٌ مفيدةٌ.
    دليلٌ آخرُ مِنَ السَّمعِ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلاَ تَقْفُ ماَ لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ، إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً) [الإسراء: 36]: لاَ تَتَّبِعْ مَا ليسَ لكَ بِهِ عِلمٌ (إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً) [الإسراء: 36].
    وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ، فكيفيَّةُ الشَّيءِ لاَ تُدرَكُ إلاَّ بواحدٍ مِن أمورٍ ثلاثةٍ: مشاهدْتُهُ، أوْ مشاهدةُ نظيرِهِ، أوْ خبرُ الصَّادقِ عَنْهُ. أيْ: إمَّا أنْ تكونَ شاهدْتَهُ أنتَ وعرفْتَ كيفيَّتَهُ، أوْ شاهدْتَ نظيرَهُ، كَمَا لو قَالَ واحدٌ: إنَّ فلاناً اشْتَرَى سيَّارةَ داتسن موديل ثَمَانٍ وثَمَانِينَ، رَقْمَ أَلْفَيْنِ. فتَعرفُ كيفيَّتَها؛ لأنَّ عندكَ مِثْلَهَا، أوْ خبرُ صادقٍ عَنْهُ، أتاكَ رجلٌ صادقٌ وقالَ: إنَّ سيَّارةَ فلانٍ صِفَتُها كذا وكذا … ووصَفَها تَمامًا، فتُدركُ الكيفيَّةَ الآنَ.
    وَلِهَذَا أيضاً قَالَ بعضُ العلماءِ جواباً لطيفاً: إنَّ معنَى قولِنَا: ((بدونِ تكييفٍ)): لَيْسَ معناهُ ألاَّ نَعتقِدَ لَهُا كيفيَّةً، بلْ نَعتقِدُ لَهُا كيفيَّةً، لكنَّ المَنْفِي عِلْمُنَا بالكيفيَّةِ؛ لأنَّ استواءَ اللَّهِ عَلَى العَرْشِ لاَ شكَّ أنَّ لَهُ كيفيَّةً، لكنْ لاَ تُعْلَمُ، نُزولَهُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا لَهُ كيفيَّةٌ، لكنْ لاَ تُعْلَمُ، لأنَّهُ مَا مِن موجودٍ إِلاَّ ولَهُ كيفيَّةٌ، لكنَّها قدْ تكونُ معلومَةً، وقدْ تكونُ مجهولةً.
    سُئِلَ الإمامُ مالِكٌ -رحمَهُ اللَّهُ- عن قولِهِ - تَعَالَى -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]: كَيْفَ استوى؟ فأطْرَقَ مالكٌ برأسِهِ حَتَّى علاهُ العَرقُ، ثُمَّ رفَعَ رَأسَهُ، وقالَ: ((الاستواءُ غيرُ مجهولٍ))، أيْ: مِنْ حَيْثُ المَعْنَى معلومٌ؛ لأنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ بينَ أَيدِينَا، كُلُّ المواضِعَ الَّتِي وَردَتْ فِيهِا (اسْتَوَى) معدَّاةٌ ب(عَلَى) معناهَا العُلُوُّ. فَقَالَ: ((الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكَيْفُ غيرُ معقولٍ))؛ لأنَّ العقلَ لاَ يُدْرِكُ الكَيْفَ، فَإِذَا انتفى الدَّليلُ السَّمعيُّ والعقليُّ عن الكيفيَّةِ وجَبَ الكفُّ عَنْها، ((والإيمانُ بِهِ واجبٌ))؛ لأنَّ اللَّهَ أخْبَرَ بِهِ عن نَفْسِه، فوَجبَ تصديقُهُ، ((والسُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ)): السُّؤالُ عن الكيفيَّةِ بدعةٌ؛ لأنَّ مَنْ هُمْ أحرصُ مِنَّا عَلَى العِلمِ مَا سألُوا عنها، وَهُم الصَّحابةُ، لمَّا قَالَ اللَّهُ: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف: 54]، عَرفُوا عظمةَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ومعنَى الاستواءِ عَلَى العَرْشِ، وأنَّهُ لاَ يُمكنُ أنْ تسألَ: كَيْفَ استوى؟ لأنَّكَ لَنْ تدركَ ذلِكَ، فنَحْنُ إِذَا سُئِلْنا فنقولُ: هَذَا السُّؤالُ بدعةٌ.
    وكلامُ مالكٍ -رحمَهُ اللَّهُ- ميزانٌ لجميعِ الصِّفاتِ، فإنْ قِيلَ: لكَ مثلاً: إنَّ اللَّهَ يَنـزِلُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا، كيفَ ينـزِلُ؟ فالنُّزولُ غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ بِهِ واجبٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ، والَّذينَ يسألونَ: كَيْفَ يُمْكنُ النُّزولُ وثُلثَ اللَّيلِ يَتنقلُ؟! فنقولُ: السُّؤالُ هَذَا بدعةٌ، كَيْفَ تَسألُ عنْ شيءٍ مَا سألَ عَنْهُ الصَّحابةُ؟ وَهُمْ أَحْرَصُ مِنكَ عَلَى الخيرِ وعَلَى العِلمِ بمَا يَجِبُ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ولَسْنَا بِأَعْلمَ مِنَ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، فَهُوَ لَمْ يُعلمْهُمْ. فسُؤالُكَ هَذَا بدعةٌ، ولولاَ أنَّنا نُحسنُ الظَّنَّ بكَ، لقُلْنا مَا يليقُ بِكَ بأنَّكَ رجلٌ مبتدعٌ.
    والإمامُ مالِكٌ -رحمَهُ اللَّهُ- قالَ: ((مَا أَراكَ إِلاَّ مُبتدِعاً))، ثُمَّ أمرَ بِهِ فأُخرِجَ؛ لأنَّ السَّلَفَ يَكرهونَ أهلَ البدعِ وكلامَهُمْ، واعتراضاتِهمْ، وتقديراتِهمْ، ومجادلاتِهمْ.
    فأنتَ يا أخي عليكَ فِي هَذَا البابِ بالتَّسليمِ، فَمِنْ تمامِ الإسلامِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - ألاَّ تبحثَ فِي هذِهِ الأمورِ، وَلِهَذَا أُحذِّرُكُمْ دائماً مِن البحثِ فيمَا يَتعلَّقُ بأسماءِ اللَّهِ وصفاتِهِ عَلَى سبيلِ التَّعنُّتِ والتَّنطُّعِ والشَّيءِ الَّذِي مَا سأَلَ الصَّحابةُ عَنْهُ، لأنَّنا إِذَا فَتَحْنا عَلَى أنْفُسِنا هذِهِ الأبوابَ انفتحتْ عَلَيْنَا الأبوابُ، وتهدَّمَتِ الأسوارُ، وعَجَزْنا عن ضَبْطِ أنَفْسِنا، فلذلِكَ قُلْ: سَمِعْنا،وأطعْن َا،وآمَنَّا،وصد َّقْنا،آمَنَّا وصدَّقْنا بالخبرِ، وأطعْنَا الطَّلبَ، وسَمِعْنا القولَ، حَتَّى تَسلَمَ!
    وأيُّ إنسانٍ يسألُ فيمَا يتعلَّقُ بصفاتِ اللَّهِ عن شيءٍ مَا سألَ عَنْهُ الصَّحابةُ، فقلْ كَمَا قَالَ الإمامُ مالكٌ، فإنَّ لكَ سَلَفاً: السُّؤالُ عن هَذَا بدعةٌ. وإِذَا قُلْتَ ذلِكَ لن يُلِحَّ عليكَ، وإِذَا ألحَّ فقلْ: يا مبتدعُ السُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ، اسألْ عن الأحكامِ الَّتِي أنتَ مُكلَّفٌ بها، أمَّا أنْ تسألَ عن شيءٍ يتعلَّقُ بالرَّبِّ - عزَّ وجلَّ - وبأسمائِهِ وصفاتِهِ ولَمْ يسألْ عَنْهُ الصَّحابةُ فهَذَا لاَ نقبلُهُ مِنْكَ أبداً.
    وهَنَاكَ كلامٌ للسَّلفِ يَدلُّ عَلَى أنَّهمْ يَفْهَمونَ معانيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسولِهِ من الصِّفاتِ، كَمَا نُقِلَ عن الأوزاعيِّ وغيرِهِ، نُقِلَ عَنهُمْ أنَّهُمْ قالُوا فِي آياتِ الصِّفاتِ وأحادِيثِها: ((أَمِرُّوها كَمَا جاءتْ بلاَ كَيْفٍ))، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّهم يُثبتونَ لَهُا معنًى مِن وَجْهَيْنِ:
    أَوَّلاً: أنَّهُمْ قالُوا: ((أَمِرُّوها كَمَا جاءتْ))، ومعلومٌ أنَّها ألفاظٌ جاءتْ لِمَعانٍ، ولَمْ تأتِ عَبَثاً، فَإِذَا أمْرَرْناها كَمَا جاءتْ لَزِمَ مِنْ ذلِكَ أنْ نُثْبِتَ لَهُا معنًى.
    ثانياً: قولُهمْ: ((بلاَ كيفٍ))؛ لأنَّ نَفْيَ الكيفيَّةِ يدلُّ عَلَى وُجودِ أصلِ المعنى؛ لأنَّ نَفْيَ الكيفيَّةِ عن شيءٍ لاَ يُوجِدُ لَغوًا وعَبَثًا.
    إذًا: فهَذَا الكلامُ المشهورُ عِنْدَ السَّلَفِ يدلُّ عَلَى أنَّهمْ يُثْبتونَ لَهُذِهِ النُّصوصِ معنًى.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    ((ولاَ تَمثيلَ))
    أهلُ السُّنَّةِ يَتبرَّءُونَ مِن تمثيلِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - بخَلْقِهِ، لاَ فِي ذاتِهِ، ولاَ فِي صفاتِهِ.

    والتَّمثيلُ: ذِكْرُ مماثلٍ للشيءِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ التَّكييفِ عمومٌ وخصوصٌ مطلَقٌ؛ لأنَّ كُلَّ ممثَّلٍ مكيَّفٌ، ولَيْسَ كُلُّ مكيَّفٍ ممثَّلاً؛ لأنَّ التَّكييفَ ذِكرُ كيفيَّةٍ غيرِ مقرونةٍ بمماثلٍ، مثلُ أنْ تقولَ: لي قَلمٌ كيفيَّتُه كذا وكذا، فإنْ قَرَنْتَه بمماثلٍ صارَ تَمثيلاً، مِثلُ أنْ أقولُ: هَذَا القَلمُ مِثلُ هَذَا القَلمِ، لأنِّي ذَكَرْتُ شيئًا مُماثِلاً لشيءٍ، وعَرَّفْتُ هَذَا القَلمَ بذِكرِ مماثِلِه.
    وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يُثبِتونَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - الصِّفاتِ بدونِ مماثَلةٍ،
    يقولونَ: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لَهُ حياةٌ ولَيْسَتْ مِثلَ حياتِنَا، لَهُ علمٌ وليسَ مِثلَ عِلمِنَا، لَهُ بَصَرٌ وليسَ مِثلَ بصرِنَا، لَهُ وجهٌ وليسَ مِثلَ وجوهِنَا، لَهُ يدٌ وليستْ مِثلَ أيدِينَا… وَهَكَذَا جميعُ الصِّفاتِ، يقولونَ: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لاَ يُماثِلُ خَلْقَهُ فيمَا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أبداً، ولَهُمْ عَلَى ذلِكَ أدلَّةٌ سمعيَّةٌ وأدلَّةٌ عقليَّةٌ،

    i- الأدلَّةُ السَّمعيَّةُ تنقسمُ إِلَى قسميْنِ: خبرٌ، وطلبٌ.
    -فمِن الخبرِ قولُهُ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، فالآيةُ فِيهِا نَفْيٌ صريحٌ للتَّمثيلِ، وقولُهُ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]، فإنَّ هَذَا وإنْ كَانَ إنشاءً لكنَّهُ بمعنى الخبرِ؛ لأنَّهُ استفهامٌ بمعنى النَّفْيِ، وقولُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]، فهذِهِ كلُّها تدلُّ عَلَى نفيِ المُماثَلَةِ، وهِيَ كلُّها خبريَّةٌ.
    -وأمَّا الطَّلبُ فقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً) [البقرة: 22]، أيْ: نُظراءَ مُماثِلينَ، وقالَ: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) [النحل: 74].
    فَمَنْ مثَّلَ اللَّهَ بخَلقِهِ فَقَدْ كَذَّبَ الخَبَرَ، وعصَى الأمْرَ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ بعضُ السَّلَفِ القَولَ بالتَّكفيرِ لِمَنْ مثَّلَ اللَّهَ بخَلقِهِ، فقَالَ نعيمُ بنُ حمَّادٍ الخُزاعيُّ شيخُ البُخاريِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((مَنْ شبَّهَ اللَّهَ بخلقِهِ فقدْ كَفَرَ))؛ لأنَّهُ جَمعَ بَيْنَ التَّكذيبِ بالخَبَرِ وعِصيانِ الطَّلَبِ.
    وأمَّا الأدِلَّةُ العقليَّةُ عَلَى انتفاءِ التَّماثُلِ بينَ الخالِقِ والمَخلُوقِ:
    فَمِنْ وجوهٍ:
    أَوَّلاً: أنْ نقولَ: لاَ يُمْكنُ التَّماثُلُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ، لَوْ لَمْ يكنْ بَيْنَهُمَا مِن التَّبايُنِ إلاَّ أصلُ الوُجودِ، لكَانَ كافِياً، وذلِكَ أنَّ وجودَ الخالِقِ واجبٌ، فَهُوَ أزليٌّ أبديٌّ، ووجودُ المخلوقِ ممْكنٌ مسبوقٌ بعدمٍ ويَلحقُهُ فِناءٌ، فمَا كانا كذلِكَ لاَ يمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّهمَا متماثلانِ.
    ثانِيا: أَنَا نَجِدُ التَّباينَ العظيمَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ فِي صفاتِهِ وفِي أفعالِهِ، فِي صفاتِهِ يسمعُ - عزَّ وجلَّ - كلَّ صوتٍ مَهْمَا خَفِيَ ومَهْمَا بَعُدَ، لو كَانَ فِي قعرِ البحارِ، لسَمِعَهُ - عزَّ وجلَّ -.
    وأنزلَ اللَّهُ قولَهُ - تَعَالَى -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ،وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1]، تقولُ عائشةُ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْواتَ، إِنِّي لَفِي الحُجْرَةِ، وَإِنَّهُ لَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ حَدِيثِها))، واللَّهُ - تَعَالَى - سمِعَها مِن عَلَى عرشِهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَها مَا لاَ يَعلمُ مَداهُ إلاَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يُمكنُ أنْ يقولَ قائلٌ: إنَّ سَمْعَ اللَّهِ مثلَ سمْعِنَا.
    ثالثاً: نقولُ: نَحْنُ نعلمُ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مُباينٌ للخَلقِ بذاتِهِ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ) [البقرة: 255]، (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) [الزمر: 67]، ولاَ يُمْكِنُ لأحدٍ مِن الخلقِ أنْ يكونَ هكذا، فَإِذَا كَانَ مبايناً للخَلقِ فِي ذاتِهِ، فالصِّفاتُ تابعةٌ للذَّاتِ، فيكونُ أيضاً مبايناً للخلقِ فِي صفاتِهِ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يمكنُ التماثلُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ.
    رابعاً: نقولُ: إنَّنا نشاهِدُ فِي المخلوقاتِ أشياءَ تتَّفِقُ فِي الأسماءِ وتختلفُ فِي المسمَّياتِ، يَختلِفُ النَّاسُ فِي صفاتِهمْ، هَذَا قويُّ البصرِ وَهَذَا ضعيفُهُ، وَهَذَا قويُّ السَّمعِ وَهَذَا ضعيفُهُ، هَذَا قويُّ البَدنِ وَهَذَا ضعيفُهُ،وَهَذَا ذَكرٌ وهذِهِ أُنْثَى… وَهَكَذَا التَّباينُ فِي المخلوقاتِ الَّتِي من جِنسٍ واحدٍ، فمَا بالُكَ بالمخلوقاتِ المختلفةِ الأجناسِ؟ فالتَّباينُ بينها أَظْهَرُ، ولِهَذَا لاَ يُمْكِنُ لأحدٍ أنْ يقولَ: إنَّ لي يداً كيَدِ الجملِ، أوْ لي يداً كيَدِ الذَّرَّةِ، أوْ لي يداً كيَدِ الَهِرِّ، فعندَنَا الآنَ إنسانٌ وجَملٌ وذَرَّةٌ وهِرٌّ، كُلُّ واحدٍ لَهُ يدٌ مختلفةٌ عن الثَّاني، مَعَ أنَّها متَّفقةٌ فِي الاسمِ. فنقولُ: إِذَا جازَ التَّفاوتُ بينَ المسمَّياتِ فِي المخلوقاتِ مَعَ اتِّفاقِ الاسمِ، فجوازُه بينَ الخالقِ والمخلوقِ من بابٍ أَوْلَى، بلْ نَحْنُ نقولُ: إنَّ التَّفاوتَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ ليسَ جائزاً فقطْ، بلْ هُوَ واجبٌ، فعنْدَنَا أربعةُ وجوهٍ عقليَّةٍ، كلُّها تدلُّ عَلَى أنَّ الخالقَ لاَ يمكنُ أنْ يُماثِلَ المخلوقَ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ.
    رُبَّمَا نقولُ أيضاً: هناكَ دليلٌ فِطْرِيٌّ، وذلِكَ لأنَّ الإنسانَ بفطرَتِهِ بِدُونِ أنْ يُلقَّنَ يَعرفُ الفرقَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، ولولاَ هذِهِ الفِطرةُ مَا ذهبَ يدْعُو الخالِقَ.
    فتبيَّنَ الآنَ أنَّ التَّمثيلَ مُنتفٍ سمعاً وعقلاً وفِطرةً.
    فإنْ قَالَ قائلٌ: إنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدَّثَنا بأحاديثَ تَشتبِهُ عَلَيْنا، هلْ هِيَ تمثيلٌ أوْ غيرُ تمثيلٍ؟ ونَحْنُ نضعُها بينَ أيدِيكمْ:
    -قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ))، فَقَالَ: ((كَمَا))، والكافُ للتَّشبيهِ، وَهَذَا رَسولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونَحْنُ مِن قاعدَتِنَا أنْ نُؤْمِنَ بمَا قَالَ الرَّسولُ، كَمَا نُؤمنُ بمَا قَالَ اللَّهُ، فأَجِيبوا عن هَذَا الحديثِ؟
    نقولُ: نُجيبُ عَنْ هَذَا الحديثِ وعَنْ غيرِهِ بجوابَيْنِ: الجوابُ الأوَّلُ مُجمَلٌ، والثَّاني مُفصَّلٌ.
    فالأوَّلُ المجمَلُ: أنَّه لاَ يمكنُ أنْ يَقعَ تعارضٌ بينَ كلامِ اللَّه وكلامِ رسولِهِ الَّذِي صحَّ عَنْهُ أبداً؛ لأنَّ الكُلَّ حقٌّ، والحقُّ لاَ يَتعارضُ، والكُلُّ مِنْ عندِ اللَّهِ، ومَا عندَ اللَّهِ - تَعَالَى - لاَ يَتناقَضُ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82]، فإنْ وَقَعَ مَا يُوهِمُ التَّعارضَ فِي فَهْمِكَ، فاعلَمْ أنَّ هَذَا ليسَ بحسَبِ النَّصِّ، ولكنْ باعتبارِ مَا عنْدَكَ، فأنتَ إِذَا وقعَ التَّعارُضُ عندَكَ فِي نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ فإمَّا لقلَّةِ العِلمِ، وإمَّا لقُصورِ الفَهْمِ، وإمَّا للتَّقصيرِ فِي البحثِ والتَّدبُّرِ، ولوْ بحثْتَ وتدبرْتَ، لوجدْتَ أنَّ التَّعارُضَ الَّذِي توهَّمْتَهُ لاَ أصْلَ لَهُ، وإمَّا لسُوءِ القَصْدِ والنِّيَّةِ، بحَيْثُ تَستعرضُ مَا ظاهرُهُ التَّعارُضُ لطلبِ التَّعارُضِ، فتُحْرَمُ التَّوفيقَ، كأهلِ الزَّيغِ الَّذِينَ يتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.
    ويتفرَّعُ عَلَى هَذَا الجوابِ المُجْمَلِ أنَّهُ يجبُ عَلَيْكَ عِنْدَ الاشتباهِ أنْ تَرُدَّ المُشْتبِهَ إِلَى المُحْكَمِ؛ لأنَّ هذِهِ الطَّريقَ طريقُ الرَّاسخينَ فِي العِلْمِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، ويَحمِلونَ المُتشابِهَ عَلَى المُحْكَمِ حَتَّى يَبْقَى النَّصُّ كلُّهُ مُحكماً.
    وأمَّا الجَوابُ المُفصَّلُ فأنْ نُجيبَ عَنْ كُلِّ نصٍّ بعينِهِ، فنقولُ:
    عَنْ قولِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ)). لَيْسَ تَشبِيهاً للمرئيِّ بالمرئيِّ، ولكنَّهُ تشبيهٌ للرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ، ((تَرَوْنَ… كَمَا تَرَوْنَ))، فالكافُ في: ((كَمَا تَرَوْنَ)): داخلةٌ عَلَى مصدرٍ مُأَوَّلٍ؛ لأنَّ (ما) مصدريَّةٌ، وتقديرُ الكلامِ: كرؤيتِكُمْ القمرَ ليلةَ البدرِ، وحينئذٍ يكونُ التَّشبيهُ للرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ، لاَ المرئيِّ بالمرئيِّ، والمرادُ أنَّكُمْ تَرَوْنَهُ رُؤيةً واضِحةً، كَمَا تَرَوْنَ القمرَ ليلةَ البدرِ، وَلِهَذَا أعقَبَهُ بقولِهِ: ((لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيتِهِ))، أوْ: ((لاَ تُضارُّون فِي رؤيتِهِ))، فزالَ الإشكالُ الآنَ!
    -قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ))، والصُّورةُ مماثِلةٌ للأُخرَى، ولاَ يُعقلُ صورةٌ إِلاَّ مماثِلةٌ للأُخْرى، وَلِهَذَا أَكتُبُ لكَ رِسالةً، ثُمَّ تُدخلُهَا الآلةَ الفوتوغرافيَّةَ ، وتُخْرِجُ الرِّسالةَ، فَيُقالُ: هذِهِ صورةُ هذِهِ، ولاَ فَرْقَ بين الحُروفِ والكَلِماتِ، فالصُّورةُ مطابِقةٌ للصُّورةِ، والقائلُ: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)): الرَّسُولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أَعْلَمُ وأَصْدَقُ، وأَنْصَحُ وأَفْصَحُ الخَلْقِ.
    والجوابُ المُجْمَلُ أنْ نقولَ: لاَ يمكنُ أنْ يناقِضَ هَذَا الحديثُ قولَهُ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، فإنْ يَسَّرَ اللَّهُ لكَ الجَمعَ فاجمع، وإنْ لَمْ يَتيسَّرْ، فَقُلْ: (ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، وعقيدتُنَا أنَّ اللَّهَ لاَ مَثِيلَ لَهُ، بِهَذَا تَسْلَمُ أمامَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
    هَذَا كلامُ اللَّهِ، وَهَذَا كلامُ رسولِهِ، والكُلُّ حقٌّ، ولاَ يمكنُ أنْ يكذِّبَ بعضُه بعضاً؛ لأنَّهُ كلَّه خبرٌ ولَيْسَ حُكماً كي يُنْسَخَ، فأقولُ: هَذَا نفيٌ للمماثَلةِ، وَهَذَا إثباتٌ للصُّورةِ، فَقُلْ: إنَّ اللَّهَّ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، وإنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدمَ عَلَى صورتِهِ، فهَذَا كلامُ اللَّهِ، وَهَذَا كلامُ رسولِهِ، والكُلُّ حقٌ نؤمنُ بِهِ، ونقولُ: كُلٌّ مِن عِنْدَ ربِّنَا، ونَسكتُ، وَهَذَا هُوَ غايةُ مَا نستطيعُ.
    وأمَّا الجوابُ المفصَّلُ فنقولُ: إنَّ الَّذِي قالَ: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدمَ عَلَى صورتِهِ)): رَّسولُ الَّذِي قالَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، والرَّسولُ لاَ يمكنُ أنْ ينطقَ بمَا يكذِّبُ المُرسِلَ، والَّذِي قالَ: ((خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)): هُوَ الَّذِي قالَ: ((إنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ))، فهَلْ أنتَ تعتقدُ أنَّ هؤلاءِ الَّذِينَ يَدخلونَ الجنَّةَ عَلَى صورةِ القمرِ مِنْ كُلِّ وجهٍ، أوْ تعتقدُ أنَّهمْ عَلَى صُورةِ البَشرِ، لكنْ فِي الوَضاءةِ والحُسْنِ والجمالِ واستدارةِ الوجهِ، ومَا أشبَهَ ذلِكَ عَلَى صورةِ القمرِ، لاَ مِنْ كل وَجْهٍ؟! فإنْ قُلْتَ بالأوَّلِ، فمقتضاهُ أنَّهم دخلُوا وليسَ لَهُم أعْيُنٌ،وليسَ لَهُم آنافٌ،وليسَ لَهُم أفواهٌ! وإنْ شِئنْا قُلْنَا: دَخَلُوا وهُمْ أحجارٌ، وإنْ قُلْتَ بالثَّاني، زالَ الإشكالُ، وتبيَّنَ أنَّهُ لاَ يَلزمُ مِنْ كونِ الشَّيءِ عَلَى صورةِ الشَّيءِ أنْ يكونَ مماثلاً لَهُ مِن كُلِّ وجْهٍ.
    فإنْ أَبَى فهْمُكَ وتقاصَرَ عنْ هَذَا وقالَ: أنا لاَ أَفْهمُ إِلاَّ أنَّه مماثِلٌ.
    قُلْنَا: هناكَ جوابٌ آخَرُ، وهُوَ أنَّ الإضافةَ هُنَا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إِلَى خالقِهِ، فقولُهُ: ((عَلَى صُورتِهِ))، مِثْلُ قولِهِ - عزَّ وجلَّ - فِي آدَمَ: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [ص: 72]، ولاَ يمكنُ أنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - أعْطَى آدَمَ جُزْءاً من رُوحِهِ، بلْ المرادُ الرُّوحُ الَّتِي خلَقَها اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، لكنَّ إضافتَهَا إِلَى اللَّهِ بخُصوصِها مِن بابِ التَّشريفِ، كَمَا نقولُ: عِبادُ اللَّهِ، يشملُ الكافرَ والمسلمَ والمؤمنَ والشَّهِيدَ والصِّدِّيقَ والنَّبيَّ، لكنَّنَا لو قُلْنَا: محمَّدٌ عبدُ اللَّه، هذِهِ إضافةٌ خاصَّةٌ، لَيْسَتْ كالعبوديةِ السَّابقةِ.
    فقولُهُ: ((خَلَقَ آدمَ عَلَى صورتِهِ))، يعني: صورةً مِنَ الصُّورِ الَّتِي خلقَهَا اللَّهُ وصوَّرها، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) [الأعراف: 11]، والمصوَّرُ آدمُ، إذاً: فآدمُ عَلَى صورةِ اللَّهِ، يعني: أنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي صوَّرَهُ عَلَى هذِهِ الصُّورةِ الَّتِي تُعدُّ أحسنَ صورةٍ فِي المخلوقاتِ، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]، فإضافةُ اللَّهِ الصُّورةَ إِلَيْهِ مِن بابِ التَّشريفِ، كأنَّهُ - عزَّ وجلَّ - اعتنَى بهذِهِ الصُّورةِ، ومِنْ أجلِ ذلِكَ لاَ تَضْرِبِ الوجْهَ، فتعيبَه حِسًّا، ولاَ تُقبِّحْهُ فتقولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وجهَكَ ووجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وجهَكَ، فتعيبَهُ معنىً، فمِن أجلِ أنَّهُ الصُّورةُ الَّتِي صورَّها اللَّهُ وأضافَهَا إِلَى نَفْسِهِ تَشريفاً وتكريماً لاَ تُقبِّحْهَا بعيبٍ حِسِّيٍّ ولاَ بعيبٍ معنويٍّ.
    ثُمَّ هلْ يُعتَبَرُ هَذَا الجوابُ تحريفاً أم لَهُ نظيرٌ؟
    نقولُ: لَهُ نظيرٌ، كَمَا في: بيتِ اللَّهِ، وناقةِ اللَّهِ، وعبدِ اللَّهِ؛ لأنَّ هذِهِ الصُّورةَ (أيْ: صورةَ آدمَ) منفصلِةٌ بائنةٌ مِنَ اللَّهِ، وكُلَّ شيءٍ أضافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وهُوَ منفصلٌ بائنٌ عنه، فَهُوَ مِنَ المخلوقاتِ، فحينئذٍ يزولُ الإشكالُ.
    ولكنْ إِذَا قَالَ قائلٌ: أيمَا أسلمُ المَعْنَى الأوَّلُ أو الثَّاني؟ قُلْنَا: المَعْنَى الأوَّلُ أَسْلَمُ، مَا دُمْنَا نجدُ أنَّ لظاهرِ اللَّفْظِ مساغاً فِي اللُّغةِ العربيَّةِ وإمكاناً فِي العقلِ، فالواجبُ حَمْلُ الكلامِ عَلَيْهِِ، ونَحْنُ وجدْنا أنَّ الصورةَ لاَ يَلزمُ مِنْهُا مماثلةُ الصُّورةِ الأُخرى، وحينئذٍ يكونُ الأسْلمُ أنْ نَحمْلَهُ عَلَى ظاهرِهِ.
    فَإِذَا قُلْتَ: مَا هِيَ الصورةُ الَّتِي تكونُ لِلَّهِ ويكونُ آدمُ عَلَيْهِا؟
    قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لَهُُ وَجْهٌ ولَهُ عينٌ ولَهُ يدٌ ولَهُ رجلٌ - عزَّ وجلَّ -، لكنْ لاَ يَلزمُ مِنْ أنْ تكونَ هذِهِ الأشياءُ مماثلةً للإنسانِ، فهناكَ شيءٌ من الشَّبَهِ، لكنَّه ليسَ عَلَى سبيلِ المماثلةِ، كَمَا أنَّ الزُّمْرةَ الأُولى مِنْ أهلِ الجنَّةِ فِيهِا شبهٌ مِن القمرِ، لكنْ بدونِ مماثلةٍ، وبهَذَا يصدُقُ مَا ذهبَ إِلَيْهِ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، مِن أنَّ جميعَ صفاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لَيْسَتْ مماثِلةً لصفاتِ المخلوقينَ، مِنْ غيرِ تحريفٍ ولاَ تعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تكييفٍ ولاَ تمثيلٍ.
    نسمعُ كثيراً من الكُتُبِ الَّتِي نقرأُها يقولونَ: تشبيهٌ، يعبِّرونَ بالتَّشبيهِ وهُمْ يَقصدُون التَّمثيلَ، فأيمَا أَوْلى: أنْ نعبِّرَ بالتَّشبيهِ، أوْ نُعبِّرَ بالتَّمثيلِ؟
    نقولُ: بالتَّمثيلِ أَوْلى.
    أَوَّلاً: لأنَّ القرآنَ عَبَّرَ بِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً) [البقرة: 22]… ومَا أشْبَهُ ذلِكَ، وكُلُّ مَا عبَّرَ بِهِ القرآنُ، فَهُوَ أولى مِنْ غَيْرِهِ، لأنَّنا لاَ نجدُ أفصحَ مِنَ القرآنِ، ولاَ أدلَّ عَلَى المَعْنَى المرادِ مِنَ القرآنِ، واللَّهُ أَعلمُ بمَا يريدُهُ مِنْ كلامِهِ، فتكونُ موافقةُ القرآنِ هِيَ الصَّوابَ، فنعبِّرُ بنفيِ التَّمثيلِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مكانٍ، فإنَّ موافقةَ النَّصِّ فِي اللَّفظِ أَوْلى مِنْ ذِكر لفظٍ مرادفٍ أوْ مقاربٍ.
    ثانياً: أنَّ التَّشبيهَ عِنْدَ بعضِ النَّاسِ يعني إثباتَ الصِّفاتِ، وَلِهَذَا يُسمُّونَ أهلَ السُّنَّةِ: مُشبِّهةً، فَإِذَا قُلْنَا: مِنْ غَيْرِ تشبيهٍ. وَهَذَا الرَّجُلُ لاَ يَفهمُ مِنَ التَّشبيهِ إِلاَّ إثباتَ الصِّفاتِ صارَ كأنَّنا نقولُ لَهُ: مِنْ غَيْرِ إثباتِ صفاتٍ، فصارَ معنى التَّشبيهِ يوهِمُ معنىً فاسداً، فَلِهَذَا كَانَ العدولُ عَنْهُ أَوْلى.
    ثالثاً: أنَّ نفيَ التَّشبيهِ عَلَى الإطلاقِ غَيْرُ صحيحٍ؛ لأنَّ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ مِنَ الأعيانِ أوْ مِنَ الصِّفاتِ إِلاَّ وبَيْنَهُمَا اشتراكٌ مَنْ بعضِ الوجوهِ، والاشتراكُ نوعُ تشابُهٍ، فلو نَفَيْتَ التَّشبيهَ مطلقاً، لكنْتَ نَفَيْتَ كُلَّ مَا يشتركُ فِيهِ الخالقُ والمخلوقُ فِي شيءٍ ما.
    مثلاً: الوجودُ، يَشتركُ فِي أصلِهِ الخالقُ والمخلوقُ، هَذَا نوعُ اشتراكٍ ونوعُ تشابُهٍ، لكنْ فرقٌ بينَ الوجودَيْنِ، وجودُ الخالقِ واجبٌ، ووجودُ المخلوقِ مُمْكِنٌ.
    وكذلِكَ السَّمعُ فِيهِ اشتراكٌ، الإنسانُ لَهُ سمعٌ، والخالقُ لَهُ سَمعٌ، لكنْ بينهمَا فرقٌ، لكنْ أصلُ وجودِ السَّمعِ مشتركٌ.
    فَإِذَا قُلْنَا: مِنْ غيرِ تشبيهٍ. وَنَفَيْنَا مطلَقَ التَّشبيهِ، صارَ فِي هَذَا إشكالٌ.
    وبهَذَا عرفْنَا أنَّ التَّعبيرَ بالتَّمثيلِ أَوْلى مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ.
    فإنْ قُلْتَ: مَا الفرقُ بينَ التَّكييفِ والتَّمثيلِ؟
    فالجوابُ: الفرقُ بَيْنَهُمَا من وَجْهِيَنَ:
    الأولُ: أنَّ التَّمثيلَ ذكرُ الصِّفةِ مقيدةً بمماثلِ، فتقولُ يدُ فلانٍ مثلُ يدِ فلانٍ، والتَّكييفُ: ذكرُ الصِّفةِ غيرَ مقيدةٍ بمماثلٍ، مثلُ أنْ تقولَ: كيفيَّةُ يدِ فلانٍ كذا وكذا.
    وعَلَى هَذَا نقولُ: كُلُّ ممثِّلٍ مكيِّفٍ، ولاَ عكسَ.
    الثَّاني: أنَّ الكيفيَّةَ لاَ تكونُ إِلاَّ فِي الصِّفةِ والَهَيْئَةِ، والتَّمثيلُ يكونُ فِي ذلِكَ وفِي العددِ، كَمَا فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) [الطلاق: 12]، أيْ: فِي العدد.
    [شرح الواسطية]

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •