تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 13 من 13

الموضوع: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    الحمد لله ذي الفضل والإحسان،
    شرع لعباده هجرة القلوب، وهجرة الأبدان،
    وجعل هاتين الهجرتين باقيتين على مر الزمان
    من أعظم انواع الهجرة
    مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة.
    وهي من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال:
    {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
    أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان،
    وقد هاجر عليه الصلاة والسلام ببعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز حيث البلد الحرام والبيت العتيق، كما جاء في دعائه لربه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37].
    والهجرة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
    حيث أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة لمّا اشتد عليهم الأذى من الكفار في مكة
    فخرجوا إلى أرض الحبشة مرتين فراراً بدينهم،
    وبقى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول:
    {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}،
    فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة وأذن لأصحابه بالهجرة إليها،
    فبادروا إلى ذلك فراراً بدينهم
    وقد تركوا ديارهم وأموالهم
    يبتغون فضلاً من الله ورضواناً
    وينصرون الله ورسوله،
    وقد أثنى الله عليهم ومدحهم ووعدهم جزيل الأجر والثواب،
    وصارت الهجرة قرينة الجهاد في كتاب الله عز وجل،
    وصار المهاجرون أفضل الصحابة
    حيث فرّوا بدينهم وتركوا أعزّ ما يملكون من الديار والأموال والأقارب والعشيرة،
    وباعوا ذلك لله عز وجل وفي سبيله وابتغاء مرضاته.
    وصار ذلك شريعة ثابتة إلى أن تقوم الساعة
    فقد جاء في الحديث: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها»، فكل من لم يستطع إظهار دينه في بلد؟
    فإنه يجب عليه أن ينتقل منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه.
    وقد توعد الله من قدر على الهجرة فلم يهاجر قال تعالى:
    {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].
    فهذا وعيد شديد لمن ترك الهجرة بدون عذر،
    وهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، وأنه ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع
    وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي يترك الهجرة {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض،
    وهذا اعتذار منهم غير صحيح لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة فتركوها،
    ولهذا قالت لهم الملائكة توبيخاً لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}.
    فمن لم يستطع إظهار دينه في بلد وجب عليه الخروج إلى بلد يستطيع فيها ذلك،
    فإن بلاد الله واسعة ولا تخلو من بلاد صالحة، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] أي مكاناً يتحصن فيه من أذى الكفار، وسعة في الرزق، ويعوضه الله بها عما ترك في بلده من المال، كما قال تعالى:
    {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41-42].

    ومن أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة،
    قال تعالى لنبيه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، الرجز: الأصنام.
    وهجرتها:
    تركها والبراءة منها ومن أهلها.
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.
    ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم،
    قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] أي اتركهم تركاً لا عتاب معه.

    ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية،
    حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله،

    وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه
    وتقديم طاعته والعمل بما جاء به.

    وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات
    والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.
    فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي
    : هجر أمكنة الكفر...
    وهجر الأشخاص الضالين...
    وهجر الأعمال والأقوال الباطلة..
    وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة.
    فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي،
    أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك،
    فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر أو يسافرون إليه لقضاء الإجازة أو للنزهة أو لقضاء شهر العسل كما يسمونه بعد الزواج!!
    يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد.
    يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة.
    يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم،
    فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟
    فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم،
    ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق.
    قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    صالح بن فوزان الفوزان
    فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي،
    أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك،
    فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر ...
    يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد.
    يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. ............
    فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟
    ..................واقتبس وا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم،
    ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق.
    قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
    نعم
    وهي من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال:
    {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
    نعم

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله:

    قال الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين:
    أقسام الهجرة:
    الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.

    القسم الأول:
    هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك.
    وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه.

    القسم الثاني:
    هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السب والشتم والقتل والغش، وأكل المال بالباطل، وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.


    القسم الثالث:
    هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
    والمصلحة والفائدة أنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية. انتهى.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    إن الله سبحانه من حكمته ولطفه ورحمته، لم يترك مدعي الإسلام والإيمان، بلا محنة يختبر بها الصدق من الكذب، ويميز بها بين المرتاب والمستيقن، وله في ذلك حكمة بالغة، ومشيئة نافذة، وحجة دامغة؛ وقد تعددت سنته سبحانه وأيامه في خلقه بذلك،
    قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2]، قال: معناه: أظنَّ الذين جزعوا، يا محمد، من أصحابك، من أذى المشركين إياهم، أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان، بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنا بما جئتنا به من عند الله؟ كلا!لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب. وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3]. قال: نزلت من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلفوا عن الهجرة. والفتنة التي فتن بها هؤلاء، هي الهجرة التي امتحنوا بها. ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي قال: إنها نزلت {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين [سورة العنكبوت آية: 1-2] في أناس بمكة، قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم. فنـزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا. فقالوا: نخرج، فإن تبعنا أحد قاتلناه. قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110]. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 10]، قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك.
    ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنـزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]. قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم. فخرجوا، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنـزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 8]، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110]، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجاً. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل".
    فانظر قول المسلمين: كان أصحاب هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنـزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97]، وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار والدعاء، لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلماً. فما أعز من يتفطن لهذه المسألة! بل ما أعز من يعتقدها ديناً![الدرر السنية]
    قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، التبس هذا الأصل على كثير من الخلق، حتى آن اندراسه، وانقلع - إلا ما شاء الله - أساسه، وكثر الطعن في الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية المحمدية، وفاه بين العوام: أن من تكلم بالشهادتين، فهو من أهل الإسلام، وخفي عليهم ما وضعت له من إخلاص العبادة لله، والكفر بما يعبد من دون الله، ونودي بالمسالمة لمن لاذ بالأوهام، وألحد في الدين وعادى المسلمين، عمياء صماء ظلماء، يحاول دعاتها، إطفاء ما استبان من هذا الدين المتين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته.
    وفي خلال تلك الفرقة، حصل الابتلاء بتداعي الأمم علينا، عقوبة إعراضناعن هذا الأمر، وفي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. لينـزعنّ الله عن صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت"، فدل الحديث: على أن الرغبة في الدنيا والإعراض عن الأخرى، سبب الهلاك والدمار، وتسلط الأعداء، وفشل الأعمار.
    وعن ثوبان أيضاً مرفوعاً: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" وقد اتسعت الفتنة بهم، وعظم الخطب، ودب الشوم على عقائد أهل الإسلام وإيمانهم، والتحق بهم من ليس له بصيرة ولا قدم صدق، ولا معرفة بالحق، وظنوا أنهم بالتزامهم بعض أركان الإسلام، من دون هذا الركن الأعظم، على هدى مستقيم. وليس الأمر كذلك، بل هو كما قال أبو الوفاء ابن عقيل، رحمه الله: إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل

    الزمان، فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد، ولا إلى ضجيجهم بـ"لبيك"، ولكن انظر إلى
    مواطأتهم لأعداء الشريعة. فاللجا اللجا إلى حصن الدين! والاعتصام بحبل الله المتين! والانحياز إلى أوليائه المؤمنين! والحذر الحذر من أعدائه المخالفين
    قال بعض السلف: إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند ورود الشهوات; فأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، واقبلوا نصيحة مشفق بالمسلمين
    الهجر المشروع قد قام الدليل عليه
    ، وأشار جل من السلف إليه، وهو مراتب، وله أحوال وتفاصيل، على القلب واللسان والجوارح، قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {-----وَأَعْتَزِلُكُم وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48]، وقال تعالى عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وقصتهم مشهورة. وقد ذكر ابن القيم، رحمه الله في الهدي، في فقه القصة ما يكفي.


    وأصل الهجر: الترك والفراق والبغض، وشرعاً: ترك ما نهى الله عنه، ومجانبته والبعد عنه. وهو عام في الأفعال والأشخاص، وهو في المشركين، ومن لاذ بهم، واستحسن ما هم عليه، وخدمهم، وازدراء أهل الإسلام أعظم، لأن قبح الشيء من قبح متعلقه؛ وهذه الجملة فيها أقسام، ولها تفاصيل.
    منها: هجر الكفار والمشركين. والقرآن من أوله إلى آخره ينادي على ذلك؛ ومصلحته: تمييز أولياء الله من أعدائه. وقريب من هذا: هجر أهل البدع والأهواء. وقد نص الإمام أحمد وغيره من السلف، على البعد عنهم، ومجانبتهم، وترك الصلاة عليهم، وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم؛ فتجب مفارقتهم بالقلب، واللسان، والبدن، إلا من داع إلى الدين مجاهد عليه بالحجة، مع أمن الفتنة، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 140]. والآيات والأحاديث، وكلام العلماء في هذا كثير.
    قال بعض المحققين: ويكفي العاقل قوله تعالى، بعد نهيه عن موالاة المشركين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 30]. وقد حكى
    ابن كثير، رحمه الله تعال،:
    الإجماع على أن تارك الهجرة عاص، مرتكب محرماً على ترك الهجرة. ولا يكفي بغضهم بالقلب، بل لا بد من إظهار العداوة والبغضاء، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4].
    فانظر إلى هذا البيان الذي ليس بعده بيان، حيث قال: {وَبَدَا بَيْنَنَا} أي: ظهر؛ هذا هو إظهار الدين، فلا بد من التصريح بالعداوة، وتكفيرهم جهاراً، والمفارقة بالبدن. ومعنى العداوة: أن تكون في عدوة، والضد في عدوة أخرى.
    كان أصل البراءة: المقاطعة بالقلب واللسان والبدن. وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النـزاع في إظهار العداوة: فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان. وقد تخفى العداوة من مستضعف معذور، عذره القرآن. وقد تخفى لغرض دنيوي، وهو الغالب على أكثر الخلق، هذا إن لم يظهر منه موافقة.
    ودعوى من أعمى الله بصيرته، وزعم: أن إظهار الدين، هو عدم منعهم ممن يتعبد، أو يدرس، دعوى باطلة؛ فزعمه مردود عقلاً وشرعاً. وليهن من كان في بلاد النصارى، والمجوس والهند ذلك الحكم الباطل، لأن الصلاة والأذان والتدريس، موجود في بلدانهم، وهذا إبطال للهجرة والجهاد، وصد للناس عن سبيل الرشاد.
    والثاني: مسلم ترخص لنفسه، وآثر دنياه، واختار أوطانهم لعذر من الأعذار الثمانية؛ فهجر هذا الصنف من الناس، هو من باب هجر أهل المعاصي، الذي ترجم له البخاري وغيره. ولا يهجر هجر الكفار؛ بل له حقوق في الإسلام، منها مناصحته والدعاء له، إلا أنا لا نظهر له محبة وملاطفة، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بحيث إنه لا يرى له ذنباً، ويغتر به غيره.
    وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، مع إيمانهم، وأجلى عمر صبيغاً إلى وطنه، وأمر بهجره، ونهى الناس عن كلامه. ولم يزل الصحابة، رضي الله عنهم، يهجرون في أقل من هذا. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي، والدارقطني والطبراني، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين" 1، وأخرجه أيضا ابن ماجة، ورجال إسناده ثقاة، وله شاهد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً: "لا يقبل الله من مسلم عملاً، أو يفارق المشركين"، أخرجه النسائي، وحديث سمرة مرفوعاً: "من جامع المشرك... إلخ"، رواه أبو داود. ويشهد لصحة هذه الأحاديث، قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140].
    فنحن نتبرأ مما تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجانبه، شاء العاصي أم أبى.
    وقد ذكر محيي السنة البغوي كلاما يحسن ذكره هاهنا، قال: فأما هجر أهل العصيان، وأهل الريب في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر توبتهم; قال كعب بن مالك - حين تخلف عن غزوة تبوك -: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا"، وذكر خمسين ليلة. وجعل محمد بن إسماعيل، رحمه الله، حداً لتبين توبة العاصي; وقال عبد الله بن عمر: "لا تسلموا على شربة الخمر"، وقال أبو الدرداء:? "لن تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك، فتكون لها أشد مقتاً". انتهى كلامه، رحمه الله.
    والأصل الجامع لهذا: أن معرفة استحقاقه سبحانه وتعالى، أن يعبد خوفاً ورجاء، وإجلالاً ومحبة وتعظيماً، لا تبقى في القلب السليم محبة لأعدائه وموادة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل؛ فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، كما أن أصل الأقوال الدينية: تصديق الله ورسوله، فلما غلب على الناس حب الدنيا، وإيثارها، أنكروا هذا، ونسوا ما كانوا عليه أولاً، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ
    الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] جهلاً منهم بحقيقة الإسلام، ولوازمه وقواعده العظام. ولو لم يكن في هذا
    إلا سد الذرائع المفضية إلى عقد المصالحة بين المسلم والمشرك، لكان كافياً، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم، وإيثار الدنيا، فتح بعض المنتسبين أبواباً على حصن الإسلام، إيثاراً لموافقة العوام؛ وليت هؤلاء احتاطوا لأديانهم، بعض ما احتاطوا لرياساتهم وأموالهم، وما أحسن ما قيل:
    قد كنت عدتي التي أسطو بها
    ويدي إذا عض العدو ساعدي
    فـدُهيت منك بضد ما أمّلته
    والمرء يشرق بالزلال الباردِ
    اسحاق ابن عبد الرحمن ابن حسن

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله:

    قال الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله- في شرح البخاري: قوله: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحها المسلمون. أما قبل فتح البلد، فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
    الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.
    الثاني: قادر يمكنه إظهار دينه بها، وأداء واجباته،
    فالهجرة منها مستحبة، لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
    الثالث: عاجز بعذر، من أسر، أو مرض، أو غيره، فيجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر. انتهى.
    وقال أبو الفوزي نقله عن ابن حجر المكي، وهو من أئمة الشافعية - لما ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الهجرة - ما ملخصه: والمسلم الكائن بدار الكفر، إن أمكنه إظهار دينه، وأمن فتنته في دينه، استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام، لئلا يكثر سواد الكفار، وربما كادوه، وإن لم يمكن المسلم الكائن بدار الكفر إظهار دينه فيها، وخاف فتنته في دينه، وجبت عليه الهجرة إلى دار الإسلام، وأثم بالإقامة، ولو كان المسلم امرأة، وإن لم تجد محرماً يذهب معها إلى دار الإسلام، لكن إذا أمنت على نفسها من فاحشة وغيرها.
    فإن لم يطق الهجرة،
    فمعذور، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة النساء آية: 97] أي: ملك الموت وأعوانه، أو أراد: ملك الموت وحده، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سورة السجدة آية: 11].

    والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي:
    في المقام في دار الشرك، وترك الهجرة {قَالُوا} أي: الملائكة، توبيخاً لهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة وعن إظهار الدين وإعلاء كلمته. {قَالُوا} أي: الملائكة، تكذيباً لهم وتبكيتاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] إلى قطر آخر. {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97].
    وذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد: أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر تجب من بلاد الإسلام، إذا أظهر المسلم بها واجباً ولم يقبل منه، ولا قدر على إظهاره. قال: ويوافقه قول الإمام البغوي في تفسير سورة العنكبوت، في تفسير قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: قال سعيد بن جبير: "إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة"، وقال عطاء: "إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة". وكذلك يجب على كل من كان ببلد، يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيثما تتهيأ له العبادة، لقوله تعالى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68]. وقال البيهقي في شعبه، ما نصه: اعلم أن الهجرة على ضربين: ظاهر، وباطن. ثم قال: فالظاهر منها- أي: من الهجرة-: الفرار بالجسد من الفتن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من أهل ملتين؛ لا تتراءى ناراهما" ، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لعدم هذه الشعبة فيهم،وهي: الهجرة؛ فهي إذاً من أعظم شعب الإيمان، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر الفتن -: "لا يسلم لذي دين دينه، إلامن فر من شاهق إلى شاهق"، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97].
    وفي البخاري: والفرار من الفتن، من الإيمان؛ فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك. فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين، واجب على كل مسلم، وكذلك كل موضع يخاف فيه الفتنة في الدين، من ظهور بدعة، أو ما يجر إلى كفر، في أي بلد كان من بلدان المسلمين، فالهجرة منه واجبة إلى أرض الله الواسعة. انتهى ما ذكره البيهقي، رحمه الله تعالى.
    قال الغزالي- بعد ذكر كلام كثير من السلف -: فهذا يدل أن من بلي ببلدة قد استولى عليها حكم الكفار، وظهرت فيها أعلامهم وشعائرهم، فلا عذر له في المقام بها،بل يجب عليه أن يهاجر، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]؛ فالبلاء والشر إذا ظهرا في قطر، ولم يحرز المسلم نفسه، شمل العقاب والذمالطائعين والعاصين. انتهى.
    قال الإمام أبو عبد الله الحليمي في شعب الإيمان: ومن الشح بالدين: أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه، إلى موضع يمكنه فيه ذلك. فإن أقام بدار الكفر والمعصية، ذليلاً مستضعفاً، مع إمكان انتقاله عنهما، فقد ترك فرضاً في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]. لا يقال: ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها: الكافر الذي مال إلى الإيمان، وأيضاً، فإنها نزلت قبل فتح مكة، فلما فتحت قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" 1، فنقول: ذكر العفو عمن استثنى منهم، حيث قال في آخرها: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] يرد ذلك، فإن الله تعالى لا يعفو عن الكافر، وإن عزم على الإيمان، ما لم يؤمن.
    وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" معناه: لا هجرة من مكة بعد أن صارت دار إسلام، فلا يدل على نفي وجوب الهجرة من غيرها، إذا لم يمكن إقامة الدين فيها، فإنها حينئذ كمكة قبل الفتح، ولو صارت مكة - والعياذ بالله - بحيث لا يمكن المقيم بها إقامة دينه، وجبت الهجرة منها أيضاً، لأنها إنما وجبت منها أولاً لهذا المعنى؛ فحيث وجدت هذه العلة ثبت الحكم. وكل بلد ظهر فيه الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الإصلاح، أو غلب الجهل على أهله، وتشعبت الأهواء بهم، وضعفت العلماء وأهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق خوفاً على أنفسهم من الإعلان به، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها عند القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر - والحالة هذه - لم يكن من الأشحاء بدينه، بل من السمحاء المتساهلين فيه. انتهى ما ذكره الحليمي، رحمه الله تعالى. [ الدرر السنية]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    قال الشيخ صالح آل الشيخ على قول الامام محمد بن عبد الوهاب فى ثلاثة الاصول قوله
    وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وَالهِجْرَةُ: فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. لما أتى لهذا الموضع فسر الهجرة فقال: (والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) هذا تعريفها الاصطلاحي.
    والهجرة في اللغة:الترك.
    وفي الشرع:ترك ما لا يحبه الله ويرضاه إلى ما يحبه ويرضاه.
    ويدخل في هذا المعنى الشرعي:
    -هجر الشرك.
    - يدخل فيه: ترك محبة غير الله ورسوله.
    - يدخل فيه:ترك بلد الكفر؛ لأن المقام فيها لا يرضاه الله - جل وعلا - ولا يحبه.
    قال: (الهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) الانتقال يعني: ترك بلد الشرك والذهاب إلى بلد الإسلام.
    وسبب الهجرة - يعني: سبب إيجاب الهجرة أو سبب مشروعية الهجرة - أن المؤمن يجب عليه أن يظهر دينه معتزاً بذلك مبيناً للناس مخبراً أنه يشهد شهادة الحق؛ لأن الشهادة لله -جل وعلا- بالتوحيد، ولنبيه بالرسالة؛ فيها إخبار الغير، وهذا الإخبار يكون بالقول والعمل، فإظهار الدين به يكون إخبار الغير عن مضمون الشهادة ومعنى الشهادة، فلهذا كانت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام واجبة، إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه؛ لأن إظهار الدين واجبٌ في الأرض، وواجب على المسلم أن يظهر دينه وأن لا يستخفي بدينه، فإذا كان إظهاره لدينه غير ممكن في دارٍ وجب عليه أن يتركها، يعني: وجب عليه أن يُهاجر.
    [تعريف بلد الشرك]
    قال: (الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) بلد الشرك: هي كل بلد يظهر فيها الشرك ويكون غالباً.
    إذا ظهر الشرك في بلد وصار غالباً، يعني: كثيراً أكثر من غيره صارت تسمى بلد شرك، سواءً كان هذا الشرك في الربوبية، أو كان في الإلهية، أو كان في مقتضيات الإلهية من الطاعة والتحكيم ونحوها.
    بلد الشرك: هي البَلَدُ التي يظهر فيها الشرك ويكون غالباً، هذا معنى ما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - حينما سئل عن دار الكفر، ما هي؟ قال: (دار الكفر: هي الدار التي يظهر فيها الكفر ويكون غالباً).
    إذاً: إذا ظهر الشرك في بلدة وصار ظهوره غالباً - ومعنى ذلك: أن يكون منتشراً ظاهراً بيناً، غالباً الخير - فإن هذه الدار تسمى بلد شرك، هذا باعتبار ما وقع وهو الشرك.
    أما باعتبار أهل الدار: فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يُنظر في تسمية الدار بدار إسلام ودار شرك إلى أهلها ؟
    وقد سئل شيخ الإسلام - رحمه الله -عن بلد تظهر فيها أحكام الكفر، وتظهر فيها أحكام الإسلام، فقال: (هذه الدار لا يحكم عليها أنها دار كفر، ولا أنها دار إسلام، بل يعامل فيها المسلم بحسبه، ويعامل فيها الكافر بحسبه).
    وقال بعض العلماء: (الدار إذا ظهر فيها الأذان، وسُمِع أوقاتَ الصلوات، فإنها دار إسلام؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أراد أن يغزو قوماً - أن يُصَبِّحهم - قال لمن معه: انتظروا، فإن سمع أذاناً كف، وإن لم يسمع أذاناً قاتل).
    وهذا فيه نظر؛ لأن الحديث على أصله، وهو أن العرب حينما يعلون الأذان معنى ذلك أنهم يُقرون ويشهدون شهادة الحق؛ لأنهم يعلمون معنى ذلك، فهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورفعوا الأذان بالصلاة فمعنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك، وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة.
    وقد قال - جل وعلا -: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}.
    {فَإِنْ تَابُوا} يعني من الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ذلك بأن العرب كانوا يعلمون معنى التوحيد، فإذا دخلوا في الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، دل ذلك على أنهم يعملون بمقتضى ذلك.
    أما في هذه الأزمنة المتأخرة، فإن كثيرين من المسلمين يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يعلمون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، بل تجد الشرك فاشياً فيهم، ولهذا نقول: إن هذا القيد أو هذا التعريف، وهو أن دار الإسلام هي الدار التي يظهر فيها الأذان بالصلوات، أنه في هذه الأزمنة المتأخرة أنه لا يصح أن يكون قيداً، والدليل على أصله، وهو أن العرب كانوا ينسلخون من الشرك، ويتبرؤون منه ومن أهله، ويقبلون على التوحيد، ويعملون بمقتضى الشهادتين، بخلاف أهل هذه الأزمان المتأخرة.
    والأظهر: هو الأول في تسمية الدار، ولا يلزم من كون دارٍ ما دار شرك أو دار إسلام، لا يلزم من هذا أن يكون لهذا حكم على الأفراد الذين في داخل الدار، بل قلنا: إن الحكم عليها بأنها دار كفر أو دار شرك هذا بالأغلب لظهور الشرك والكفر، ومن فيها يعامل كل بحسبه، خاصةً في هذا الزمن؛ لأن ظهور الكفر وظهور الشرك في كثير من الديار ليس من واقع اختيار أهل تلك الديار، بل هو ربما كان عن طريق تسلط إما الطرق الصوفية مثلاً، أو عن تسلط الحكومات، أو نحو ذلك كما هو مشاهد معروف، لهذا نقول: إن اسم الدار على نحو ما بينت، أما أهلها فيختلف الحال.
    [ الهجرة العامة، والهجرة الخاصة]
    قال: (الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)
    الهجرة من حيث مكانها تنقسم إلى:
    هجرة عامة، وهجرة خاصة.
    -الهجرة العامة: هي التي عرفها الشيخ هنا: ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.

    بلد الشرك أي بلد إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أي بلد ظهر فيها الشرك، وظهرت فيها أحكام الشرك، وكان ذلك غالباً، فإن الهجرة منها تسمى هجرة، وهذه هجرة عامة من حيث المكان يمكن أن تكون متعلقة بأي بلد

    -أما الهجرة الخاصة: فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، ومكة لما تركها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ تركها وهي دار شرك، وذهب إلى المدينة؛ لأنه فشى فيها الإسلام، فصار كل بيت من بيوت المدينة دخل فيه الإسلام، فصارت دار إسلام فانتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، هاجر هجرة خاصة، وهذه الهجرة الخاصة هي التي جاء فيها قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا هجرة بعد الفتح بل جهاد ونية))كما ثبت في الصحيح، فقوله: ((لا هجرة بعد الفتح)) يعني: لا هجرة من مكة، الهجرة الخاصة - هذه - من مكة إلى المدينة.
    أما الهجرة العامة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فهي باقية إلى طلوع الشمس من مغربها، إلى قيام الساعة، إذا وجد بلد شرك ووجد بلد إسلام توجد الهجرة، هذا من حيث المكان.
    [ حكم الهجرة]
    ومن حيث الحكم:
    -فإن الهجرة تارة تكون واجبة.
    -وتارةً تكون مستحبة.
    تكون الهجرة واجبة - يعني: من بلد الشرك إلى بلد الإسلام - تكون واجبة إذا لم يُمكن المسلم المقيم بدار الشرك أن يظهر دينه، إذا ما استطاع أن يظهر التوحيد، وأن يظهر مقتضيات دينه من الصلاة واتباع السنة، كل بلد بحسبه، بحسب ما فيه من الشرك يظهر ما يخالف به أهل البلد، ويكون متميزاً فيهم، إذا لم يستطع ذلك، فإن الهجرة تكون واجبة عليه.
    وعليه حُمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} يعني: لم نستطع إظهار الدين، الاستضعاف هنا بمعنى عدم استطاعة إظهار الدين {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} فدل هذا على أنها واجبة؛ لأنه توعدهم عليها بجهنم، فمعنى هذا أن ترك الهجرة إذْ لم يستطع إظهار الدين أنه محرمٌ، وأن الهجرة واجبة.
    القسم الثاني: المستحب، وتكون الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام مستحبة، إذا كان المؤمن في دار الشرك يستطيع أن يظهر دينه، تكون مستحبة، وذلك لأن القصد الأول من الهجرة أن يتمكن المؤمن من إظهار دينه، وأن يعبد الله ـ جل وعلا ـ على عزةٍ، وقد قال - جل وعلا -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} نزلت فيمن ترك الهجرة، وناداهم باسم الإيمان، هذه الأحكام متعلقة بالهجرة من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام.
    وهناك هجرة أخرى
    من دار يكثر فيها المعاصي والبدع إلى دار ليس فيها معاصٍ وبدع، أو تقل فيها المعاصي والبدع، وهذه ذكر الفقهاء - فقهاء الحنابلة - رحمهم الله ذكروا أنها مستحبة، وأن البلد إذا كثر فيها البدع، أو كثرت فيها الكبائر والمعاصي، فإنه يستحب له أن يتركها إلى دار يقل فيها ذلك، أو ليس فيها شيء من ذلك؛ لأن بقاءه على تلك الحال مع أولئك يكون مع المتوعدين بنوع من العذاب الذي يحيق بأهل القرى الذين ظلموا.
    وقد هاجر جمع من أهل العلم من بغداد، لما علا فيها صوت المعتزلة، وصوت أهل البدع، وكثُرت فيها المعاصي والزنا وشرب الخمر، تركوها إلى بلدٍ أخرى، وبعض أهل العلم بقي لكي يكون قائماً بحق الله في الدعوة، وفي بيان العلم، وفي الإنكار، ونحو ذلك.
    أيضاً كثير من العلماء تركوا مصر لما تولت عليها الدولة العُبيدية، وخرجوا إلى غيرها؛ وهذا قد يُحمل على أنها من الهجرة المستحبة، أومن الهجرة الواجبة، بحسب الحال في ذلك الزمان.
    [شرح قوله: (والهجرة فريضة على هذه الأمة...) ]
    قال هنا ـ رحمه الله ـ: (والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) فرض بقيد ألا يستطيع إظهار دينه، فإن كان يستطيع، فإن الهجرة في حقه مستحبة.
    قال: (وهي باقية إلى أن تقوم الساعة) يريد: إلى قرب قيام الساعة، وهو طلوع الشمس من مغربها، كما جاء في الحديث: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)).[شرح ثلاثة الاصول - صالح ال الشيخ]
    قال - رحمه الله تعالى - مستدلاً (والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ) ظلم النفس بترك الهجرة؛ لأنهم عصوا الله -جل وعلا- بترك الهجرة، ومكة لم يعد في إمكان المؤمنين أن يظهروا دينهم فيها، فقد تسلط الكفار على أهلها فلم يستطيعوا - أعني: المؤمنين - أن يظهروا دينهم، وهذا كان قائماً من أول الدعوة، تسلطوا فترة، وكان إظهار الدين في أول الدعوة ليس واجباً، ثم أُمرو بذلك بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِ ينَ}.
    فابتلي من ابتلي من المؤمنين، فلم يستطيعوا إظهار دينهم، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، فأذن بالهجرة إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم الثانية، وقيل: ثَم هجرة ثالثة.
    ثم لما لم يعد بالإمكان أن يَظهَر الدين في مكة، وقد قامت بلد الإسلام في المدينة، صارت الهجرة متعينة وفرضاً من مكة إلى المدينة، لهذا قال - جل وعلا - هنا: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا} يعني: الملائكة مخاطبين لهؤلاء الذين توفتهم الملائكة وقد تركوا الهجرة {فِيمَ كُنْتُمْ}، يعني: على أي حال كنتم {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} فأجابت الملائكة {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهذا إنكار عليهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} لأن الاستفهام هنا في (ألم) استفهام للإنكار، وضابطه: أن يكون ما بعده باطلاً، يعني إذا أزلت الهمزة وقرأت ما بعده فإذا كان ما بعده غير صحيح صارت الهمزة إذاً للإنكار، إذا تركت الهمزة صار الكلام: (لم تكن أرض الله واسعةً)، هل هذا صحيح ؟
    ليس بصحيح، فأرض الله - جل وعلا - واسعة، فلما أتى الاستفهام بالهمزة بعد كلام بدون الهمزة يكون باطلاً، تصير الهمزة للإنكار كما هو مقررٌ في موضعه، في كتب حروف المعاني في اللغة.
    [واستدل بعضهم] بهذه الآية على أن من ترك الهجرة مع القدرة على ذلك، أنه كافر من جنس من أقام معهم، وهذا ليس بصحيح.
    قال: إن هذه الآية في المؤمنين؛ لأنه قال في أولها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فهؤلاء ظلموا أنفسهم ليس الظلم الأكبر، ولكن الظلم الأصغر بترك الهجرة، قال - جل وعلا - بعدها: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} رجال مستضعفون لا يمكنهم أن يعرفوا الطريق، لا يهتدون سبيلاً إلى البلد الآخر {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} ، ليس عندهم ما يركبون، وليس عندهم مال ينقلهم، فهم مستضعفون يريدون الهجرة، ولكنهم مستضعفون من جهة عدم القدرة على الهجرة بالمال، والمركب، والدليل ونحو ذلك.
    فقال - جل وعلا - في هؤلاء: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً} ويلحق بهؤلاء من لم يستطع الهجرة في هذا الزمن بالمعوقات القائمة من أنواع التأشيرات وأشباهها تلحق بهؤلاء؛ لأن هذا لا يستطيع حيلةً، هو يرغب أن يترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، لكن لا يمكنه ذلك لوجود المعوقات، لا يستطيع حيلة، ولا يهتدي سبيلاً وطريقاً إلى بلد الإسلام، فهؤلاء قال الله - جل وعلا - في حقهم:{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً}
    ثم ساق دليلاً آخر وهو قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}قال البغوي - رحمه الله -: (سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان).تركوا الهجرة فناداهم الله باسم الإيمان، فدل على أن ترك الهجرة لا يسلب الإيمان، فمعنى ذلك: أن ترك الهجرة ليس شركاً أكبر، وليس كفراً أكبر، وإنما هو معصية من المعاصي؛ لأنه نادى من ترك الهجرة باسم الإيمان: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال البغوي: (نزلت هذه الآية في الذين لم يهاجروا من مكة، ناداهم الله باسم الإيمان) فدل على أن تركهم الهجرة من مكة ليس كفراً ولا شركاً، وأن قوله تعالى في الآية التي قبلها: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أن هذا لأجل أنهم تركوا واجباً من الواجبات، وارتكبوا كبيرةً من الكبائر، لكن لا يُسلب عنهم اسم الإيمان بترك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. .[شرح ثلاثة الاصول - صالح ال الشيخ]
    https://majles.alukah.net/t178701/


  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    فمن غلب الحقائق وجعلها نصا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه، التي هي فى زعمه: الصلاة، وما يتعلق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطا في فهمه.
    والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم؛ فحينئذ هربوا إلى الكهف.
    وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لم مكثتم ها هنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ } الآية [سورة النساء آية: 97]. انتهى.
    وقال الحنفي، في تفسيره: وأمر الهجرة حتم، ولا توسعة

    ص -402- في تركها، حتى إن من تبين اضطراراه - يعني من هو مستضعف - حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ انتهى ملخصا.
    قلت: واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة، لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستنى منه، إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ ولا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد علم أن الاستثناء معيار العموم.
    فإن قلت: الفائدة فيه أمن الفتنة، وتكثير سواد المسلمين، والجهاد معهم، قلنا: هذا من فوائد الهجرة، لكن قصرها عليه من القصور، لأن مثل هذا، وإن كان مأمورا به، فلا يحتمل هذا الوعيد الشديد.
    وقد تكون أسباب الحكم الواحد متعددة، وبعضها أعظم من بعض،
    كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} الآية [سورة المائدة آية: 91]، فهذه أسباب المنع، وكل سبب منها مستقل بالحكم.
    وقد تحتم المنع من هذا المحرم إلى قيام الساعة، وإن لم توجد الأسباب؛ فلو ادعى أحد أن الخمر لا يسكره، ولا يصده عن طاعة الله، ولا يوقع عداوة، فإنه لا يسلم له ذلك; فعلم
    أنه لا مفهوم للفظ "الفتنة" لتحتم المنع المنوط بسماع الشرك، في الآيات المحكمات، وفي حديث من لا ينطق عن الهوى.
    فمن حمل الآيات والأحاديث، على من فتنه المشركون خاصة، فقد قصر; بل أمن الفتنة قيد إباحة الإقامة لمن أظهر دينه، وصرح بمخالفة ما هم عليه؛ والتنصيص على بعض أفراد العام، معروف في تفسير السلف، لا يقتصر عليه إلا جاهل.
    ولما ذكر الحافظ بن حجر، خصوص السبب، قال: وكذلك المفارقة بسبب فيه صالحه، كالفرار من دار الكفر، وساق كلاما حسنا، ورد على الطيبي قوله: فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان، حماية لجناب النصوص.
    وقال الحافظ بن رجب، في شرح الأربعين: فمن هاجر إلى دار الإسلام، حماية لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهارا لدينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك، فهو المهاجر حقا، انتهى كلامه.
    والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه; فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ.
    وأما الأحاديث فكثيرة جدا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعا: "من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله"1، ولفظ الحاكم "وساكنهم أو جامعهم فليس منا" وقال: صحيح على شرط البخاري.
    ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعا: "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما" 1 رواه ابن ماجه أيضا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلا، فهو حجة من وجوه متعدده، يعرفها علماء أصول الحديث; منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة.
    وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم; ومنها: حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: (أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين); وفي لفظ: (وعلى فراق المشركين); ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير.
    ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير موفوعا: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم.
    ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين" .
    ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" 3، وفي معناه حديث معاوية: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة" 4 الحديث،
    وما رواه سعيد بن منصور وغيره: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد" 1.
    ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم مصالح الشريعة.
    قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجل علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة، قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقى التكليف.
    وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي، بلفظ: (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع ما قوتل الكفار)، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، انتهى.
    وكلام أئمة المذهب في ذلك في غاية الوضوح والقوة، قال في الشرح الكبير: وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث معاوية، وما رواه سعيد بن منصور وغيره، مع إطلاق الآيات، والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان ومكان.
    وأما الإجماع على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، فحكاه الحافظ بن كثير، ولم ينازع في ذلك أحد فيما نعلم، وقد
    تقدم، وقال ابن هبيرة في الإفصاح: واتفقوا، يعني: الأربعة على وجوب الهجرة من ديار الكفار إن قدر على ذلك.
    وأما ما يدل على ذلك لغة ووضعا، فأصل الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال من غيره إليه، ويؤخذ من لفظ العداوة، لأنها وضعت للمجانبة والمباينة; لأن أصل العداوة: أن تكون في عدوة، والعدو في أخرى; وأصل البراءة: الفراق والمباينة أيضا، مأخوذ من براه إذا قطعه; قال الحافظ في الفتح: والعداوة تجر إلى البغضاء، انتهى.
    فعلم: أن العداوة سبب للبغضاء ووسيلة; وبغض الكافر مشروط في الإيمان، محبوب إلى الرحمن، فكانت مطلوبة، لأن وسيلة المطلوب المحبوب مطلوبة محبوبة، فاتفق الشرع والوضع على هذه الشعبة، التي هي من أعظم شعب الإيمان.
    وأما وجوب الهجرة، وفراق المشركين عقلا، فلأن الحب أصل كل عمل من حق وباطل؛ ومن علامة صدق المحبة: موافقة المحبوب فيما أحب وكره، ولا تتحقق المحبة إلا بذلك؛ ومحال أن توجد المحبة مع ملاءمة أعداء المحبوب، هذا مما لا تقتضيه المحبة؛ فكيف إذا كان قد حذرك من عدوه الذي قد طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، واشترطه عليك في عهده إليك، هذا والله مما لا يسمح به المحب، ولا يتصوره العاقل.
    متى صدقت محبة من يراني من الأعداء في أمر فظيع
    فتسمح أذنه بسماع شتمي وتسمح عينه لي بالدموع

    إذا تقرر ذلك، فالكلام على إظهار الدين الذي هو مقصود السؤال، والذي قد وقع فيه الإشكال في مقامين:
    الأول: وهو أعلاها، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقد تقدم بعض التنبيه عليه، فيما نقله ابن جرير وغيره من السلف، ويأتيك له مزيد بسط، في كلام الحنابلة والشافعية وغيرهم، وإليه يومئ كلام الماوردي رحمه الله.
    الثاني: الامتياز عن عبادة الأوثان والأصنام، وتصريح المسلم بما هو عليه من دين الإسلام، والبعد عن الشرك ووسائله، وهو دون الأول. فاصغ سمعك لبرهان هذين المقامين، لعل الله أن ينفعك به.
    واعلم: أن الدين كلمة جامعة لخصال الخير، وأعلاها التوحيد، كما تقدم؛ وهو على القلب بالاعتقاد، والصدق والمحبة، وعلى اللسان بتقريره وتحقيقه والدعوة إليه واللهجة به، وعلى الجوارح بالعمل بمقتضاه، والسعي في وسائله والبعد عن مضاده.
    قال الوالد رحمه الله، في رسالته لأهل الأحساء: فإن الإنسان لا يصلح له إسلام ولا إيمان، إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة; انتهى بحروفه.
    وقد أوضح ذلك القرآن أي إيضاح، وضمن لمن قام به ودعا إليه، وصبر عليه، السعادة والفلاح; قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 13].
    فقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [سورة الشورى آية: 13] أمر عام، وقد اقتبسه العماد ابن كثير فيما تقدم من قوله: وليس متمكنا من إقامة الدين.
    وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-2-3]؛ فأقسم سبحانه بالعصر - وهو الزمن أو الوقت - على خسران جميع هذا النوع الإنساني، إلا من استثنى، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، بأن دعوا إليه وصبروا على الأذى فيه؛ وهذا أصل الأصول، وهو طريق الرسول; والصلاة وسائر العبادات فروعه.
    وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4].
    ففي هذه الآية أعظم دلالة: على أعلى مقامات إظهار الدين، لأن الله بين هذا الحكم العميم، وأكد هذا المشهد العظيم،
    الذي هو مشهد الأسوة بالأنبياء والرسل، معبرا بصيغة الماضي، وبقد التحقيقية الدالة على لزوبه، ولزومه على البرية، ووصفه بالحسن، وضد الحسن القبيح; وأزال دعوى الخصومة بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، ترغيبا في معية أوليائه.
    ثم صرح: بأنها هي القول باللسان، مع العداوة، والبغضاء; خلافا لمن قال: أبغضهم بقلبي، وأتبرأ من العابد والمعبود جميعا; وقدّم البراءة من العابد، تنويهاً بشناعة فعله، ثم أعادها بلفظ آخر أعم من البراءة، وهو قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4]، أي: جحدناكم، وأنكرنا ما أنتم عليه; وكشف الشبهة بقوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [سورة الممتحنة آية: 4]. ومعنى: {وَبَدَا} [سورة الممتحنة آية: 4]، ظهر؛ وقرن بين العداوة والبغضاء إشارة إلى المباعدة والمفارقة، بالباطن والظاهر معا، وأكد العداوة، وأيدها بقوله: {أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4]، معبرا بالظرف الزماني المستقبل المستمر، إلى غاية وهي الإيمان، وأتى بحتى الغائية، الدالة على مغايرة ما قبلها لما بعدها، المعنى: إن لم تؤمنوا فالعداوة باقية..... والآيات في بيان الدعوة إلى الله، ومباينة المشركين، والبعد عنهم، وجهادهم بالحجة واللسان، والسيف والسنان، كثيرة جدا؛ وهذا المقام العظيم، للنفس فيه مغالطات، وللشيطان فيه ركضات، قد غلط فيه أكثر الناس، وأشكل أمره حتى على العباس.
    فتدبر القرآن إن رمت الهدى فالعلم تحت تدبر القرآن
    قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: هذه الموالاة لله، والمعادة التي هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله، باقية في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة، انتهى ملخصا.
    وهو من تفسير الشيء بلازمه؛ والمعاداة والموالاة، من باب المفاعلة الدالة على المشاركة، كالمبايعة والمقاتلة والمعاهدة; المعنى: أن كلا منهما أظهر العداوة للآخر، واشتركا فيها، لأن الاشتراك هو الأصل، كما هو معلوم عن علماء الصرف، وليس مع المنازع ما يدفع هذه الآيات المحكمات، والقواطع البينات، إلا دعوى الخصوصية، وأنى له ذلك؟!..... وفي الحديث الصحيح: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة" 1.
    وقد هاجر جعفر وأصحابه إلى الحبشة؛ وتسمى هجرة الانتقال عن دار الخوف، وصبروا على الغربة وفراق الوطن، ومجاورة غير الشكل، وما ذاك إلا لأجل هذه البراءة، والتصريح بما هم عليه من الدين.
    "ولما قالت قريش لابن الدغنة، بعد إرجاعه أبا بكر إلى مكة، وإجارته إياه: مره أن يعبد ربه بداره ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، أبى إلا الاستعلان بالقرآن، ونبذ إلى ابن الدغنة ذمته، ورضي بجوار الله. ولم يزل على ذلك إلى أن هاجر" والقصة مشهورة مبسوطة في دواوين الإسلام.......قد بنى العلامة ابن قدامة، وابن أبي عمر وغيرهما، كالحافظ وغيره حكم الإباحة على مقدمتين: إظهار الدين، وأداء الواجبات; والحكم إذا علق بوصفين لم يتم بدونهما، خصوصا إذا أعيدت الأداة، وتكررت الصيغة; وقد أعيدت الأداة وتكررت، وأعيدت الصيغة هنا، حيث قالوا: ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، وهذا يدل على أن لكل جملة معنى غير الذي للأخرى.
    ولو كان إظهار الدين هو أداء الواجبات البدنية فقط - كما

    فهم المجيز - لما طابق مقتضى الحال، وحاشا الأئمة من ذلك; فالفهم فاسد والمحصل كاسد; نعم: لو سلمنا أن إظهار الدين هو أداء الواجب، فأوجب الواجبات: التوحيد وما تضمنه، وهو أوجب من الصلاة وغيرها؛ وهو الذي ما زالت الخصومة فيه، وهذا اللفظ يصدق عليه.
    فإظهاره هو الإعلان بمباينة المعتقد، والبعد عن ضده، دع الدعوة إليه فإنه أمر وراء ذلك؛ فلو استقل الحكم بما زعمه المجيز - هداه الله - من أن العلة عدم المنع من العبادة، لبقيت نصوص الشارع عديمة الفائدة، لأنه لا يمنع أحد من فعل العبادات الخاصة في أكثر البلاد، فبطل ما زعمه وسقط ما فهمه. ...
    وكلام أبي عبد الله الحليمي في هذا المقام واضح، فإنه قال: وكل بلد ظهر فيها الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الصلاح، وغلب الجهل، وسمعت الأهواء فيهم،
    وضعف أهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق، خوفا على أنفسهم من الإعلان، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها، لعدم القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر فهو من السَّمحَاء بدينه.
    وقال: ومن الشح بالدين أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه إلى موضع يمكنه فيه ذلك؛ فإن أقام بدار الجهالة ذليلا مستضعفا، مع إمكان انتقاله عنها، فقد ترك فرضا في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97]؛ لا يقال ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها الكافر، لأنا نقول: ذكر العفو عمن استثنى يرد ذلك، فإن الله لا يعفو عن الكافرين، وإن عزم على الإيمان ما لم يؤمن، انتهى.
    وهو صريح في بيان المقصود; بهذا كله تعرف أن من عبر من أهل العلم بأمن الفتنة، أو القدرة على أداء الواجبات، أو إطلاق لفظ العبادة، فكلامه مجمل، يرد إلى صريح الظاهر الذي قد قال به السلف الصالح من سلف هذه الأمة وأئمتها، ممن قدمنا ذكرهم وغيرهم.
    وقد ذكر صاحب المعتمد - وهو من أجلاء الشافعية - أن الهجرة كما تجب من دار الشرك، تجب من بلد إسلام أظهر بها حقا، أي: واجبا ولم يقبل منه، ولا قدرة له على إظهاره; وهو موافق لقول البغوي الذي قدمنا: يجب على من كان ببلد

    يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة، نقله عنهما ابن حجر في شرح المنهاج.
    وقال به جمع من الشراح، منهم: الأذرعي والزركشي، وأقروه؛ ومن متأخريهم البلقيني، ذكر ابن حجر أنه صرح به، وبأن شرط ذلك: أن يقدر على الانتقال إلى بلد سالمة من ذلك; فإظهار الدين هو ما صرح به هؤلاء الأئمة، وكلامهم لا يختلف فيه; والقول بأن الشارع رتب الوعيد على مجرد المساكنة والمجامعة، هو الذي يعطيه ظاهر الدليل، وقد قال به طائفة من أهل العلم; والقول بأن إظهار الدين يبيح الإقامة، رخصة; ومن الجناية على الشرع: أن تفسر هذه الرخصة بما يوافق الرأي والهوى، ثم يدفع به في نحر النصوص الواضحة البينة; وأما متأخرو الحنابلة فكلامهم في الباب أشهر من نار على علم.
    قال في الإقناع وشرحه: وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب، وهو ما يغلب عليها حكم الكفر، زاد جماعة وجزم في المنتهى أو بلد بغاة، أو بدع مضلة، كالرافضة والخوارج، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها.
    فعلم: أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب، هو: إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، في بلد يخفى فيه، بل يجعل ضده هو الدين؛ ومن تكلم به هو الوهابي الخارجي، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة.[الدرر السنية]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله:

    ذكر عن الأسيوطي:
    أن الهجرة ثمانية أقسام:
    الهجرة الأولى: إلى الحبشة، عندما آذى الكفار الصحابة، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى أرض الحبشة;
    وأذن لهم مرة ثانية وهي الثانية الثالثة: من مكة إلى المدينة;
    الرابعة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى قومهم لينذروهم.
    الخامسة: هجرة من أسلم من مكة، ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    السادسة: هجرة من كان مقيما بدار الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلد الإسلام؛ هذا لفظ الأسيوطي، في المنتهى
    ،قال المعترض: فظاهر كلامه أن النجاشي كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه، وكذلك جعفر وأصحابه كفار بهذه العبارة، إلى آخر كلامه، الذي لا يصدر ممن شم للعلم النافع رائحة، أو له في واديه غادية ورائحة.
    وقد أجابه من أجاد وأفاد، ووفق في كلامه لنهج السداد، شيخنا العلامة: عبد اللطيف - بعد ما ساق شبهته - بما ملخصه: وقد ثبت أن النجاشي صرح بعداوتهم والبراءة من مذهبهم، وراغمهم، زيادة على التصريح بالعداوة; وقال: "وإن نخرتم" لما صرح بعبودية عيسى عليه السلام، حيث قرأ عليه جعفر صدر سورة مريم، وما فيها من ذكر عيسى; فقال النجاشي: والله ما زاد عيسى على هذا... إلى آخره.
    فأي عداوة؟ وأي تصريح أعظم من هذا؟ ومع ذلك نصر المهاجرين ومكنهم من بلاده; وقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم ندم، ومن ظلمكم غرم; فصرح بأنه يعاقب من سب دينهم، وسفه رأيهم فيه، وهذا قدر زائد على التصريح بعداوتهم، ولا يقول: إن جعفر أو أصحابه يكتمون دينهم بأرض الحبشة، ولا يصرحون بعداوة الكفار المشركين إلا جاهل.
    وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم، واختاروا بلاد الحبشة إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين، والبراءة منهم جهارا، في المذهب والدين، ولولا ذلك لما احتاجوا للهجرة، واختاروا الغربة، ولكن ذلك في ذات الإله، والمعاداة لأجله؛ وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تقرير، لولا غلبة الجهل، انتهى باختصار.
    قال الشيخ الوالد قدس الله روحه - في رد ما اعترضه: - أما قوله: ظاهر هذا أن النجاشي كافر إلى آخره. فجوابه من وجوه، الأول: أنه لا اعتراض على حكم القرآن.
    الثاني: أن المهاجرين إلى أرض الحبشة هاجروا، ليأمنوا على دينهم حيث لم يوجد بلد ولا قبيلة يأمنون فيها غير الحبشة؛ قلت: وذلك بأمره صلى الله عليه وسلم لما بلغه من حسن جوار النجاشي ما بلغه
    قال الوالد، رحمه الله تعالى: ثم هذا في أول الدعوة قبل أن تفرض الفرائض، وتنَزل الآيات في بيان الأحكام، وأعظم الفرائض بعد التوحيد الصلاة، ولم تفرض إذ ذاك إلا بعد العشر، وكذلك أحكام الهجرة والجهاد، إلى أن قال:
    الثالث: أن النجاشي وطائفة من قومه أسلموا، فلهم حكم الظهور، وذلك معروف في السير والتفاسير؛ فإذا ظهر الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة بها، على من صان دينه وأظهره، وكذلك جعفر وأصحابه صانهم الله بما جرى لهم من النجاشي، فإنه قال: من سبكم غرم، فمن تبعهم في تلك البلاد قبلوا منه، وأظهروا دينهم على رغم من كرهه، فالآية لا تناولهم، فأين هذا ممن يواد المشركين، ويظهر لهم المحبة والمعاشرة؟! فهذا الذي لا يبقى معه إيمان، انتهى كلامه رحمه الله.
    ولما ساق رحمه الله في رده على صاحب الخرج، قصة النجاشي وما قال لعمرو بن العاص رسول قريش قال: وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه قرآنا، وأثنى عليهم، فلا يجوز أن يحتج على جواز الإقامة مع أهل الباطل وموالاتهم والطمأنينة بهجرة الصحابة، وفرارهم بدينهم، لئلا يفتنهم المشركون عنه.
    وكل أحد يفهم من هذه القصة أنها حجة عظيمة على من ترك الهجرة من وجوه، لا تخفى على من له أدنى معرفة وفهم حتى البليد، ولا يقدر مكابر أن يحتج بحجة هي بعينها عليه، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم، وفساد التصور. انتهى كلامه، من خطه رحمه الله.
    فبطلت الشبهة من أصلها لأن الإنسان إذا أظهر الإسلام ببلد، لم تحرم الإقامة بها لمن فعل، كما فعل جعفر وأصحابه، لأنهم
    أظهروا دينهم في بلد من يعتقد مباينة الإسلام لدينه، وهم أقرب مودة من المشركين بنص القرآن؛ أفيجعل حكمهم حكم من لو علم منك المباينة في الاعتقاد، لجعل توحيد الله عين الكفر والخروج؟ وأقل أحواله الحكم عليك بالطرد والخروج؟ فالله المستعان.[الدرر السنية]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    وبالجملة: فالبلد إذا كانت بهذه المثابة، والإسلام بها يظهر، وواليها عضد لأهل الإسلام، يوافقهم عليه، ويقرهم، ويقول لجنده ما قال النجاشي، فلا يمنع أحد؛ فإن كان التوحيد هو أصل الأصول، وأوجب الواجبات، يجوز إخفاؤه للمصالح الدنيوية، وتسمى سائر العبادات التي هي فروعه إظهار الدين، فما فائدة العلم؟!
    قال ابن القيم رحمه الله في قصة هجرة الحبشة، قال السهيلي: وفيه من الفقه: الخروج من الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين، وإن لم يكن إلى أرض الإسلام؛ فإن الحبشة كانوا نصارى، يعبدون المسيح، ويقولون: هو ابن الله، وسموا بهذه الهجرة مهاجرين.
    وهم أصحاب الهجرتين، الذين أثنى الله عليهم، وهم قد خرجوا من بلد الله الحرام، إلى بلد الكفر، لما كان ذلك احتياطا على دينهم، وأن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين؛ وهذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجا أن يكون

    في بلد آخر، أي بلد كان، يبين فيه دينه، ويظهر عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه، حتم على كل مؤمن؛ وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115]. انتهى كلام السهيلي.
    فانظر إلى قوله: إذا كان الخروج فرارا بالدين، وقوله: فأثنى الله عليهم لما كان فعلهم احتياطا على دينهم، وقوله: يذكرونه آمنين، أي: يفردونه ظاهرا بين من لا يفرده كالنصارى، بخلاف من يوافق على التهليل كاليهود، فلا يكفي إلا التصريح بالرسالة، كما تقدم.
    وقوله: هذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجا أن يكون في بلد، أي بلد كان يبين فيه دينه؟ فما هذا الدين؟ أتظنه من العام الذي أريد به الخصوص؟ كلا! ثم ما هذا الاحتياط يرحمك الله؟ أتظنه في الذهاب إلى بلد المشركين؟ لما أوذيت على الحق في بلد المسلمين؟ ورأيت الباطل قاهرا للحق؟ فما أعظم جناية المجيز لو أخذناه بلازم قوله؟ الله كبر، ماذا يفعل الجهل بأهله، مهلا عن الله مهلا!
    وأما ما نقله عن شيخ الإسلام في الأسير، إذا لم يمنعوه عن واجبات دينه، فلا يدل على ما قصدوا بوجه من الوجوه، لأن كلام الشيخ ليس بظاهر في أن الدين هو مجرد العبادة فقط، وليس بظاهر أيضا في أن أهل أوثان لا يرضون منه بالتوحيد، فيحتمل أنهم نصارى، يكفي في إظهار الدين عندهم الشهادتان والصلاة.
    ثانيا: أنه قد علم من حال شيخ الإسلام بالضرورة، ما يرد هذا الزعم؛ فإن لشيخ الإسلام من تعظيم النصوص، والذب عنها، ونصر الدين باليد واللسان، والحث على قطع المسالمة بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، ما هو معروف من حاله، ومقاله.
    وقد نقل عنه شيخنا، العلامة عبد اللطيف: أن آيات الوعيد في موالاة المشركين، دالة على انتفاء الإيمان الواجب، عمن واد من حاد الله ورسوله، وأن معاداتهم وبغضهم والبعد عنهم، من واجبات الدين، فيحمل محتمل كلامه على صريحه; وإذا كان الحنابلة صرحوا بأنه لا يتزوج الأسير في أرض العدو، معللين بأنه ربما صار على دينهم، قالوا: وكذلك التاجر، لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد، فينشأ على دينهم؛ قالوا: فتزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم.
    وهذا كلام المغني مع المتن، قال: مسألة: ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، قال الشارح بعد كلام: وسئل الإمام أحمد عن أسير أسرت معه امرأته، أيطؤها؟ فقال: كيف يطؤها؟ ولعلها تعلق بولد فيكون معهم؛ وإذا كان كذلك بطل ما فهموه من محتمل كلام الشيخ وغيره.
    وإذا كانت محتملات النصوص، وإن صحت ترد إلى صريحها، فكيف بأقوال هي مقابلة - بحمد الله - بأصرح منها من كلام السلف من أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد، وإنكار المنكر؟ فتبقى النصوص لا معارض لها بحمد الله.
    ولما احتج بعضهم بقول مالك رضي الله عنه فيمن لم يدر: أطلق واحدة أم ثلاثا، إنها ثلاث احتياطا، قال ابن القيم: فنعم، هذا قول مالك رضي الله عنه فكان ماذا حجته هو على الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد رضي الله عنهم، وعلى كل من خالفه، في هذه المسألة، حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله؟ انتهى; وعلى التنَزل: فهذا جوابنا على كل ما احتج به المخالف.
    وأما الاستدلال بقصة العباس، ونعيم بن عبد الله بن النحام، على مجرد الإقامة في بلاد المشركين، فمن الجهل الصرف؛ والقصتان حجة عليه لا له، من وجوه: منها: ما في قصة نعيم، من "أن بني عدي قالوا له، لما أراد أن يهاجر: أقم عندنا، وأنت على دينك، واكفنا ما كنت تكفينا؛ فتخلف عن الهجرة مدة من أجل ذلك، ثم هاجر; وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله"، وهذه تركها صاحبك، وهو من الخيانة في النقل; إذ هي ترد شبهته، لأن من المعلوم أن منعه ممن يريد أذاه، لا يكون إلا على المباينة في الدين، وإلا فمن سكت لا يؤذى.
    وفي بعض ألفاظ القصة: أقم عندنا على أي دين شئت، ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول"، فهو ظاهر في أنه صرح بدينه، الذي هو مباينة دين قريش، لأنه قد أسلم قديما زمان إسلام عمر، وكان يخفي إسلامه، فلما أراد الهجرة التزموا له أن يمنعوه ممن يؤذيه، فأقام مظهرا لدينه، ومع ذلك فقد تأسف على التثبط عن الهجرة إلى الله ورسوله، لقوله: قومي ثبطوني عن الهجرة، فكان مثبطا عن هذا الواجب؛ لو تم لهذا المجيز الاستدلال به، فلا حجة فيه أيضا...........و الشيخ وأتباعه إلى يومنا هذا يقولون بموجب هذه النصوص التي قدمناها، ويوالون عليها ويعادون، فالآن يسأل ضرورة: هل هم فيما قرروه، على نهج قويم وصراط مستقيم، أو هم ممن لم يفهم درك المعاني، ولم يعرف أصولها والمباني؟ فليكشف عن النقاب، وليبين وجه الخطأ بفصل الخطاب.
    وأما المغالطات والتلبيس فلا حاجة لنا به[الدرر السنية]

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    فالآن يسأل ضرورة: هل هم فيما قرروه، على نهج قويم وصراط مستقيم، أو هم ممن لم يفهم درك المعاني، ولم يعرف أصولها والمباني؟ فليكشف عن النقاب، وليبين وجه الخطأ بفصل الخطاب.
    وأما المغالطات والتلبيس فلا حاجة لنا به[الدرر السنية]
    بل علماء الدعوة النجدية فيما قرروه على نهج قويم وصراط مستقيم وهم أفهمم الناس بدرك المعانى وأعرف الناس بالمبانى وأصولها
    فليكشف عن النقاب، وليبين وجه الخطأ بفصل الخطاب.
    نعم
    وأما المغالطات والتلبيس فلا حاجة لنا به[الدرر السنية]
    نعم المغالطات والتلبيس لا حاجة لنا به، ولا نقبل لمجرد النقل الذي وضع في غير موضعه، لكن على قانون البحث بأن تكون المعارضة بمساو في الصحة، أو نص في الحكم لا يحتمل إلا مدلولا واحدا؛ وحاشا أن يجد ذلك، لأنا لو ذهبنا مع المحتملات والمجاملات، والقضايا العينية المتعلقة بالأشخاص، أو الأزمان، أو الأحوال، لم يبق في الأرض سنة يعمل بها.
    ولا شك أن عقد مناظرة في مثل هذا الأصل الأصيل، ترفع إلى علماء الإسلام، ومن لهم البصيرة والعناية بهذا المقام، وتصير مثله بصاحبها على ممر الأيام، نوع جنون وبرسام؛ فاعرف أخي الحق بدليله، واترك المراء فيه، فإن المراء علامة الحرمان، قال حبر الأمة رضي الله عنه:(المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته).

    قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد؛ فإن المقصود: هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل؛ وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطتين. انتهى[الدرر السنية فى الاجوبة النجدية]

    لأنا لو ذهبنا مع المحتملات والمجاملات، والقضايا العينية المتعلقة بالأشخاص، أو الأزمان، أو الأحوال، لم يبق في الأرض سنة يعمل بها.
    نعم لا عبرة بأقوال من لاذ بالأوهام، فجعلوا يؤسسون عقد المصالحة بين أهل الإسلام، وضدهم اللئام، وليت شعري إلى أي شيء قاموا به من عداوة المشركين؟ وأي ثغر رابطوا فيه ولو ساعة لنصر الدين؟ لقد والله نسجت على الدين عناكب النسيان، وسمح دونه بكثرة الهذيان، وعد عند الأكثرين في خبر كان.
    فنعوذ بالله من الخذلان،ومن نزغات الشيطان[ من الدرر السنية بتصرف ]
    لقد والله نسجت على الدين عناكب النسيان، وسمح دونه بكثرة الهذيان، وعد عند الأكثرين في خبر كان.
    نعم

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    أنواع الهجرة
    · والهجرة تنقسم إلى قسمين:
    هجرة معنوية
    وهجرة حسية.


    · فأما الهجرة المعنوية فهي:
    هَجْرُ كلِّ ما نهى الله عنه كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه)).

    · وهذه الهجرة المعنوية شأنها عظيم بل هي أصل الهجرة الحسية، كما أن جهاد النفس أصل سائر أنواع الجهاد.
    · وهي واجبة في هَجْرِ ما نهى الله عنه نهي تحريم، ومستحبة في هجرِ ما نُهي عنه نَهْيَ كراهة دون نهي التحريم.
    · والمؤمن مأمور بأن يحقق الهجرة المعنوية وذلك بترك جميع ما نهى الله عنه نهي تحريم أو كراهة من قول أو فعل أو اعتقاد.
    · وهذه الهجرة تقتضي أن ينيب العبدُ المهاجرُ بقلبه إلى الله عز وجل؛ فيهاجر من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الإساءة إلى الإحسان.
    · ومن تأمل أحوال هذه الهجرة وجدها تنتظم جميع أعمال العبد وحركاته وسكناته، ومن كان هذا دأبه كان من الأوَّابين المنيبين.
    · قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية: (الهجرة هجرتان:
    - الهجرة الأولى:هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
    - والهجرة الثانية:الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها.
    · وهي هجرة تتضمن (من) و(إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50]) ا.هـ.
    · وفي مسند الإمام أحمد والتاريخ الكبير للبخاري وشعب الإيمان للبيهقي أن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقُبِّلَتِ التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب؛ فإذا طلعت طُبع على كلّ قلبٍ بما فيه وكُفِيَ الناسُ العمَلَ)).
    · وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث عمرو بن عَبَسة السلمي رضي الله عنه وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الهجرةِ أفضل؟).
    قال: (( أن تهجر ما كره ربك )).
    · ورواه أبو داوود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو وعبد الله بن حبشي مع إبهام السائل، ولفظه: قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (( أن تهجر ما حرَّم الله)).
    · والهجرة المعنوية يتحدث عنها علماء السلوك والتزكية ويقسّمونها إلى هجرتين:
    - 1: هجرة إلى الله تعالى بالإخلاص ويفيضون في الحديث فيها عن مسائل الإخلاص وتطهير القصد مما ينقض الإخلاص أو ينقصه من الشرك الأكبر والأصغر وإرادة الدنيا بعمل الآخرة وسائر حظوظ النفس المحرمة وحيل الشيطان في صرف العبد عن تحقيق الإخلاص.
    - 2: وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق المتابعة ويفيضون في الحديث فيها عن اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات ومعرفة تفاصيل ذلك وعلاماته ومراتبه.
    · وغاية ما يبلغه العبد من درجات الإحسان إنما يحصل له بتحقيق هاتين الهجرتين.
    · ومن أحسن ما أُلِّفَ في هذا الباب كتاب ابن القيم رحمه الله الموسوم بطريق الهجرتين وباب السعادتين.
    · يقصد بالهجرتين: الهجرة إلى الله تعالى، والهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بالسعادتين: سعادة الدنيا والآخرة.
    · وأما الهجرة المرادة بقول الامام محمد ابن عبد الوهاب : (وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ)
    · قوله: (من بلد الشرك) أي البلد الذي يكون للمشركين فيه سلطان وحكم؛ بحيث يمنعون به بعض المسلمين من إقامة دينهم.
    · (إلى بلد الإسلام) أي إلى البلد الذي يكون الحكم فيه للمسلمين.
    · وهذه الهجرة واجبة وجوباً مؤكداً في نصوص الكتاب والسنة، بل من تأمل النصوص وتعرف على مقاصد الهجرة وفضائلها وأحكامها تبيَّن له أن للهجرة شأناً عظيماً في الإسلام، وأنها سبب عظيم لرفعة الدين وعزة المسلمين.
    · وهي واجبة على كل من لم يستطع إظهار شعائر دينه بسبب تسلط الكافرين عليه لينتقل إلى البلاد التي لا سلطان للكفار عليها، فيعبد الله عز وجل ويظهر شعائر دينه.
    · وهذا يدلك على أهمية سعي المؤمنين في التخلص من تسلط الكافرين والمنافقين، وأنه لا يمكنهم إقامة دينهم على الوجه المرضي ما داموا تحت تسلط الكافرين أعداء الدين.
    · من شأن أعداء الدين أنهم مجتهدون في محاربة دين الله عز وجل، ومحاربة عباده المؤمنين لا يألونهم خبالاً، ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة، ولا يمكّنونهم من إقامة الدين على الوجه المرضي.
    · ومن تأمل أحوال المسلمين اليوم ورأى اجتهاد الكفار وتآمرهم على المسلمين وسعيهم بكل سبيل إلى التضييق على المؤمنين وإضعاف قوتهم واجتهادهم وتناذرهم على ألا تقوم لهم قائمة، وتفننهم في أساليب غزوهم فكرياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً علم مقدار ما يكنّه أولئك الكفار من العداوة الشديدة للمسلمين.
    · ولولا أنَّ الله تعالى قد ضمن ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورين ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم لاندرست معالم الدين مِن عظم كيدهم ومكرهم ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[إبراهيم: 46].
    · والمقصود أن الإقامة في سلطان الكفار فيها مفاسد كبيرة، وفتن عظيمة.
    · وقد شرع الله الهجرة لإخراج المؤمنين من الضيق إلى السعة ومن الذلة إلى العزة ووعدهم النصر كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    مقاصد الهجرة
    · للهجرة مقاصد عظيمة وحكم جليلة:
    - منها: أنها سبب لحفظ المؤمنين من الفتنة في الدين.
    - ومنها: أنها سبب لعزة المؤمنين ورفعتهم ومَنَعَتهم من ظلم الكفار وتسلطهم عليهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
    - ومنها: أن تميّز المسلمين في بلادٍ لا يكون للكفار سلطان عليها سبب لإقامة الجهاد في سبيل الله، ومقاتلة الكفار الذين لا يستجيبون لدعوة الحق ولا يسالمون المسلمين.
    - ومنها: أنَّ مَن كان يخفي إسلامه خوفاً من تسلط الكفار إذا علم بقيام بلد مسلم بأحكام الجهاد وإيواء المهاجرين ونصرتهم هاجر إليه؛ فيكثر المهاجرون وتكون لهم شوكة يدفعون بها عن أنفسهم ويقاتلون من يستحق القتال.
    · وقد حقق شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه الأمور في دعوته المباركة، وقد أحسن بذكر هذه المسألة هنا في بيان أصول الدين، وهذا يعرّفك بخبرته رحمه الله وحسن إعداده لهذه الرسالة وانتقائه لمباحثها.
    · وقد تحالَف الشيخ رحمه الله مع أمير الدرعية لإقامة دولة إسلامية لا سلطان للكفار عليها ولا لمن والاهم من المنافقين والطغاة الذين كانوا في ذلك الزمان، واعتنى بتعليم العقيدة الصحيحة ونشر الفقه في الدين، ولا سيما في مسائل التوحيد وأصول الدين، ودعا المسلمين إلى الهجرة إليها وبين أنها واجبة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام حتى اجتمع له جيش وقوة.
    · ثم بدأ بدعوة من يليهم من البلدان التي يدين أهلها وحكَّامها بالشرك ..؛ فدعاهم إلى التوحيد؛ فمن استجاب دخل في دولة التوحيد وأُقِرَّ على ما بيده من الولاية، وكان عوناً للمسلمين ومدداً لهم، ومن أصرَّ على الشرك وأبى الاستجابة لدعوة التوحيد استعانوا بالله على قتاله.
    · وكانوا منصورين في حروبهم على من عاداهم وناوأهم لمَّا كانت النية خالصة لنصرة دين الله عز وجلَّ، وكان الشيخ معهم يعظهم وينصحهم ويحذرهم من أسباب الهزيمة التي عرفها من أدلة الكتاب والسنة حتى أقيمت الدولة وكتب الله لها النصر وتوحَّدت له البلاد بعد أن كانت إمارات متفرقة ينتشر فيها الشرك والبدعة والخرافات ويسومها الطغاة سوء العذاب.
    · وبقيت الدولة في عزٍّ وهيبة حتَّى حصل ما حصل من التغيير بعد وفاة الشيخ رحمه الله بزمن فكانت الهزيمة المؤسفة التي قضت على الدولة السعودية الأولى.
    · قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (فلما حصل بعض التغيير في آخر الزمان بعد وفاة الشيخ محمد بمدة طويلة، ووفاة كثير من أبنائه رحمة الله عليهم وكثير من أنصاره حصل بعض التغيير فجاء الابتلاء وجاء الامتحان بالدولة التركية، والدولة المصرية، مصداق قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    فضل الهجرة في سبيل الله تعالى
    · وعد الله المهاجرين في سبيله وعداً حسناً وفضلاً عظيماً؛ فمن كتبت له الحياة نال من ثواب الدنيا ما تقرّ به عينه ومن اصطفاه الله فمات أو قتل لقي من إكرام الله تعالى له ما لا يخطر له على بال.
    · كما دل على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ
    فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
    يَتَوَكَّلُونَ (42)
    [النحل: 41، 42].

    · وقوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)[الحج: 58-60].
    · ومن فضائلها أنها تهدم ما كان قبلها من الذنوب والمعاصي كما في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: لمَّا جعلَ الله الإسلامَ في قلبي أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم فقلتُ:ابسُطْ يمينكَ فَلأُبايعُك، فبسط يمينَه فقبضْتُ يَدِي؛ فقال: (( ما لكَ يا عمْرُو؟)) قلتُ: أردتُ أنْ أشْتَرِط؛ قال:(( تَشْتَرِط ماذا؟))؛
    قلت:
    أنْ يُغْفَرَ لي؛ قال:
    (( أما علمت أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
    · وهذا يدل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)[النحل: 110].
    · ومن فضائلها ما رواه ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( للمهاجرين منابر من ذهب يجلسون عليها يوم القيامة قد أمنوا من الفزع)). والحديث صححه الألباني رحمه الله.
    · والذي ينال فضائل الهجرة إنما هو المخلص فيها، الذي هاجر لله عز وجل، ولم تكن هجرته لأجل الدنيا كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
    · وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لعظم ثواب هذه الهجرة اكتفي بإعادة ذكرها في جواب الشرط (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله))؛ فكأنه قيل: لا تسأل عن ثوابها؛ فثوابها أعظم من يذكر.
    · وهذا القول له أصل في اللغة فإن الإبهام يأتي في اللغة أحياناً للمبالغة، وهذا كما أُبهم أجر المهاجر، وجعله الله تعالى واجباً عليه في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ [النساء: 100].
    · فهذا الذي خرج من بيته ولم يقل (من بلده)، وهو عازم على الهجرة؛ فما بالك بمن تتمّ له هجرته وجهاده؟!!.
    · في الصحيحين من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله؛ فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نَمِرَةً؛ فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه؛ فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، وَمِنَّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها).
    · ونظير هذا قول عتبة بن غزوان رضي الله عنه وكان من المهاجرين الأولين لما ولاه عمر بن الخطاب إمارة البصرة خطب في أهلها خطبة جليلة رواها الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه وغيرهما، قال فيها: (ولقد رأيتُني سابعَ سبعة مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا وَرقُ الشجر، حتى قَرِحَتْ أشْدَاقُنَا، والتقطتُ بُرْدةً، فشققتُها بيني وبين سعد بن مالك – يقصد سعد بن أبي وقاص -، فاتَّزَرْتُ بنصفها،واتَّزرَ سَعد بنصفها، فما أصبح اليومَ منا أحد إلا أصْبَحَ أميراً على مِصر من الأَمصار، فإني أعوذ باللَّه أن أكونَ في نفسي عظيما، وأنا عند الله صغير، وإنَّه لم تكن نُبُوَّة قَطُّ إلا تَناسَخَت حتى تكونَ عاقِبَتُها مُلْكا، وسَتَخْبُرون وتُجرِّبون الأمراءَ بعدَنا).
    · فهؤلاء المهاجرون رضي الله عنهم كانوا في ضيق ومحنة من تسلط الكفار عليهم؛ فلما أمرهم الله بالهجرة استجابوا لله تعالى وهاجروا ابتغاء مرضاته فصدقهم الله وعده فمن مات منهم أو قتل رزقه الله من فضله العظيم ما لا تقوم له الدنيا وأضعافها، ومن بقي منهم بوَّأه الله مبوَّأً حسناً ورزقه رزقاً كريما في الدنيا وما أعده الله لهم في الآخرة أعظم.
    · ولك أن تتفكر في نفسك: هل كانت تبلغ أماني من كان مستضعفاً في مكة والمسلمون قليل عددهم ضعيفة عدتهم والمشركون في زهوهم وعتوّهم وطغيانهم يسومون عباد الله المؤمنين سوء العذاب، هل كانت أمانيه تبلغ أن يكون – بعد سنوات قليلة -حاكماً على مصرٍ من الأمصار كانت تحكمه دولة من أعظم دول الأرض في ذلك الوقت؟!!
    · ولكنهم آمنوا بالله وصدّقوا بوعده فأنجز الله لهم ما وعدهم، ومن أوفى بوعده من الله.
    · والمقصود أن من لا يستطيع إقامة شعائر دينه بسبب تسلط الكافرين ووجد سبيلاً للهجرة فالهجرة عليه واجبة بإجماع العلماء.
    · ومن ترك هذه الهجرة الواجبة وهو قادر عليها فقد عرض نفسه للوعيد الشديد والعذاب الأليم كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) [النساء: 97-100].
    · قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع).
    · وقال الشنقيطي في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ: (قوله تعالى: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ: الظاهر أن معنى الآية: أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب، فعليه أن يهاجر منه، في مناكب أرض الله الواسعة، حتى يجد محلاً تمكنه فيه إقامة دينه، وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[النساء: 97]. وقوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56]، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ على قوله: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ[العنكبوت: 56] دليل واضح على ذلك)ا.هـ.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: من أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب وهجرة الأبدان - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي - إني مُهَاجِرٌ إلى الله

    حكم الهجرة
    · قال ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني: (الناس في الهجرة على ثلاثة أضربٍ:
    - أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 97].
    وهذا وعيدٌ شديدٌ يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجبٌ على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.
    - الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها، إما لمرضٍ، أو إكراهٍ على الإقامة، أو ضعفٍ؛ من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه؛ لقول الله تعالى:﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [النساء: 98].
    ولا توصف باستحبابٍ؛ لأنها غير مقدورٍ عليها.
    - والثالث: من تُستحب له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحب له، ليتمكن من جهادهم)ا.هـ.
    · ومن لا يمكنه الانتقال إلى بلاد المسلمين أو كان في الانتقال إليها مزيد أذى عليه بسبب تسلط بعض الظلمة وجب عليه الانتقال إلى بلد يتمكن فيه من إقامة شعائر دينه؛ لأن مقصود الهجرة إقامة الدين.
    · وذلك كما انتقل من انتقل من المؤمنين في الهجرة الأولى من مكة إلى الحبشة لمّا كانت تلك البلاد آمنة يحكمها ملك عُرِف من شأنه إقامة العدل وكراهة الظلم، قال محمد بن إسحاق صاحب السيرة:حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومه وعمّه لا يصلُ إليه شيءٌ مما يكرَه مما ينال أصحابَه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن بأرض الحبشة مَلِكاً لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه)).
    فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش منه ظلماً). وهذا إسناد حسن.
    · ومن كان يجد في بعض البلاد من الظلم والتضييق ما يمنعه من إقامة دينه فإنه ينتقل إلى الإقامة في البلاد التي يأمن فيها على دينه ونفسه وأهله، ولو كانت من بلاد الكفار حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
    · ومما يدرك به ثواب الهجرة العمل الصالح في زمان الفتن وكثرة القتل لما في صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العبادة في الهرْج كهجرة إليّ))، ورواه أحمد بلفظ ((العمل في الهرج كهجرة إليّ)) والمراد به العمل الصالح، والمراد بالهرْج كثرة القتل كما فسّره النبي صلى الله عليه وسلم.

    قول الامام محمد ابن عبد الوهاب : (فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِالمَدِينَةِ أُمِرَ فِيهَا بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ؛ مِثْلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالحَجِّ والأَذَانِ وَالجِهَادِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ،وَغَ يْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ).
    · أراد الشيخ رحمه الله أن يبين بهذه الجملة أهمية التوحيد وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أكثر دعوته بمكة إلى التوحيد، فمكث فيها ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد قبل أن تفرض كثير من فرائض الإسلام، بل إن الصلاة لم تفرض على هذه الفروض الخمسة إلا بعد البعثة بزمن، وهذا فيه دلالة بيّنة على أهمية التوحيد.

    · ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية فكان أول ما شرع فيه بناء المسجد ليكون مجتمعاً للمسلمين تقام فيه الصلاة ويخطب فيه في الجمعة وفي النوائب التي تنوب المسلمين فيدعى (الصلاة جامعة) فيجتمع المسلمون فيخطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين لهم ما يريد بيانه.
    · وشرعت فرائض الإسلام شيئاً فشيئاً تخفيفاً من الله تعالى ورحمة بعباده، وكان بعض تلك الفرائض مأموراً به قبل الهجرة لكن ليس على التفصيل والمقادير المبينة بعد ذلك.
    - فقد ورد الأمر بإيتاء الزكاة في بعض السور المكية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالزكاة والعفاف والصلة وأعمال البر والإحسان كما دل على ذلك قول أبي سفيان لما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بم يأمركم؟ فقال: (يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف)؛ قال: (إن يك ما تقول حقاً فإنه نبي). وخبره مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
    - فالزكاة المأمور بها كانت على وجه الإجمال، ثم بعد الهجرة فصلت أحكام الزكاة الواجبة وبُيِّنَ ما تجب فيه الزكاة وما لا زكاة فيه، والأنصباء والمقادير.
    - وكذلك الأمر بالعفاف كان مأموراً به على وجه الإجمال ثم بيّن بعد الهجرة الأنكحة المحرمة كالجمع بين الأختين ونكاح نساء الآباء ونكاح المرأة بلا وليّ ونكاح المتعة والشغار وسائر الأنكحة المحرمة.
    - وكذلك الأذان للصلوات إنما شرع بعد الهجرة وبعد بناء المسجد كما دل على ذلك حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن زيد.
    - وكذلك الصيام إنما فرض في السنة الثانية للهجرة.
    - وكذلك الحج فرض في السنة التاسعة وقيل العاشرة للهجرة.
    - وكذلك القتال لم يؤذن به إلا بعد الهجرة، لمّا صار للإسلام حوزة وَمَنَعَة وقوَّة.
    · وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأمرون بالتوحيد وهو أعظم ما أمر الله به ويأمرون بالعدل والإحسان وأداء الأمانات وأعمال البر ومكارم الأخلاق، وينهون عن الشرك وهو أنكر المنكرات وينهون عن الفساد في الأرض ومساوئ الأخلاق قبل الهجرة وبعدها.
    · لكن إقامة الحدود والتعزيرات إنما كانت بعد الهجرة بزمن. [من دروس الشيخ عبد العزيز الداخل لشرح ثلاثة الاصول - الدرس الثامن عشر - الهجرة -]

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •