الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا، والصلاة على مَن أُوتي جوامع الكلم، خير مَن نطق بالضاد، أفصح العرب لغة، وأعظمهم بيانًا وحجة، سيدنا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فالبلاغة هي مُرتقَى علوم اللغة وأشرفها، وبها يُعلم غثُّ الكلام من سمينه، وقد أجاد علماؤنا العرب في تصنيف وترتيب علومها، فوضعوها على ثلاثة علوم مرتبة ترتيبًا تصاعديًّا بحسب صياغة الجملة وسبك المعنى وجودة الأداء، وهذه العلوم - على الترتيب - هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
أما علم المعاني، فهو "علم يُعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يُطابق مُقتضَى الحال"[1]، والمقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب[2]:
1) أحوال الإسناد الخبري.
2) أحوال المسند إليه.
3) أحوال المسند.
4) أحوال متعلقات الفعل.
5) القصر.
6) الإنشاء.
7) الفصل والوصل.
8) الإيجاز والإطناب والمساواة.
وقد اتفق علماء البلاغة والنحو على أن الكلام على قسمين: الخبر والإنشاء، وتبحث هذه المقالة في القسم الأول، وهو الخبر وما يتعلق به في البلاغة العربية، وتدور حول أربعة عناصر، هي:
1) مفهوم الخبر.
2) أغراضه البلاغية.
3) خروجه عن ظاهر معناه.
4) طرق إلقائه.
أولًا: مفهوم الخبر:
الخبر: كل قول أفدْتَ به مستمعَه ما لم يكن عنده؛ كقولك: قام زيد، فقد أفدته العلم بقيامه، ومن الخبر ما يبتدئ لمخبر به فيخص باسم الخبر[3].
وهو الكلام الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته، نحو قولنا: جاء زيد، فهذه الجملة أفادت نسبة المجيء إلى زيد والحكم به عليه، فإن وافق ذلك الواقع كان الخبر صادقًا، ووصف الكلام بالصدق، وإن خالفه كان الخبر كاذبًا، ووصف الكلام بالكذب[4].
♦♦♦♦♦
ثانيًا: أغراض الخبر:
الأصل في الخبر أن يلقى لأحد غرضين[5]:
1- إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة أو العبارة، ويسمى ذلك الحكم: فائدة الخبر.
2- إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بالحكم، ويسمى ذلك: لازم الفائدة.
فالغرض الأول هنا وهو "فائدة الخبر"، يقوم في الأصل على أساس أن من يُلقى إليه الخبر أو يُوجَّه إليه الكلام يجهل حكمه؛ أي مضمونه، ويُراد إعلامه أو تعريفه به، وهذا الغرض يتمثل في جميع الأخبار التي يبغي المتكلم من ورائها تعريف من يخاطبه بشيء أو أشياء يجهلها، كذلك يتمثل في الأخبار المتعلقة بالحقائق التي تشتمل عليها الكتب.
أما الغرض الثاني من الخبر، فهو ما سمَّاه البلاغيُّون "لازم الفائدة"، وهو ما يقصد المتكلم من ورائه أن يفيد مخاطَبه أنه - أي المتكلم - عالم بحكم الخبر؛ أي: مضمونه، مثل قول المتنبي لسيف الدولة:
تدوسُ بكَ الخيلُ الوكورَ على الذُّرَى *** وقدْ كثُرَتْ حولَ الوكورِ المطاعمُ
♦♦♦♦♦
ثالثًا: خروجه عن ظاهر معناه:
الأصل في الخبر أن يُلقى لغرضين؛ هما: فائدة الخبر، ولازم الفائدة، كما عرفنا أن المتكلم في كل منهما يهدف إلى إعلام المخاطب شيئًا لا يعرفه، بالإضافة إلى هذين الغرضين قد يُلقى الخبر لأغراض أخرى بلاغية تُفهم من السياق وقرائن الأحوال، ومن هذه الأغراض[6]:
1- إظهار الضعف، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4].
2- الاسترحام والاستعطاف، نحو قول إبراهيم بن المهدي:
أتيتُ جرمًا شنيعًا
وأنتَ للعفوِ أهلُ
فإنْ عفوتَ فمنٌ
وإنْ قتلتَ فعدلُ
3- إظهار التحسر على شيء محبوب، نحو قول المتنبي:
الحزنُ يقلقُ والتجملُ يردعُ
والقلبُ بينهما عصيٌ طيعُ
يتنازعانِ دموعَ عينِ مسهَّدٍ
هذا يجيءُ بها وهذا يرجعُ
4- المدح، نحو قول زهير بن أبي سلمى:
وأبيضُ فياض يداهُ غمامةٌ
على معتفيهِ ما تغبُ فواضلُه
تراهُ إذا مَا جئتَهُ متهللًا
كأنَّكَ تعطيهِ الذي أنتَ سائلُه
5ـ الفخر، نحو قول الفرزدق:
ترَى النَّاسَ ما سِرْنَا يسيرونَ خلفنَا *** وإنْ نحنُ أومأنَا إلى النَّاسِ أوقفوا
6ـ الحثُّ على السعي والجد، مثل قول شوقي:
وما نيلُ المطالبِ بالتَّمنِّي
لكن تؤخذُ الدُّنيا غِلابَا
وما استعصى على قومٍ منالٌ
إذا الإقدامُ كانَ لهم رِكابَا
والمعاني التي يحتملها لفظ الخبر كثيرة، فمنها: التعجب والإنكار والتمني والنفي والأمر والنهي، والتعظيم والدعاء والوعد والوعيد.
♦♦♦♦♦
رابعًا: طرق إلقائه:
المخاطَب على حسب تخيُّل المتكلم أو القائل إن كان خالي الذهن، أُلقي إليه الخبر غير مؤكد، وإن كان متردِّدًا شاكًّا في مضمونه طالبًا معرفته، حَسُنَ توكيده له، وإن كان منكرًا للخبر وجب توكيده له بمؤكد أو أكثر على حسب درجة إنكاره قوةً وضعفًا.
فأضرب الخبر ثلاثة[7]:
1- ابتدائي، وهو ما يلقى إلى المخاطب الخالي الذهن، ويكون خاليًا من التوكيد.
2- طلبي، وهو ما يلقى للمخاطب المتردد في الحكم، ويكون مصحوبًا بمؤكد واحد استحسانًا.
3- إنكاري، وهو ما يلقى للمخاطب المنكر لمضمون الخبر، ويجب أن يكون الكلام حينئذ مصحوبًا بمؤكد أو أكثر حسب قوة الإنكار وضَعفه؛ انظر قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 13- 16]، تجد أن أصحاب القرية قد كذبوا الرسولين وأنكروا رسالتهما، فعزَّز الله بثالث، فقالت الرسل الثلاثة: "إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ"، مؤكدين الخبر لأصحاب هذه القرية؛ لأنهم منكرون له، فلما اشتد إنكارهم وجحدهم لرسالتهم: "مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ"، قالت الرسل: "رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ"، مؤكدين الخبر بإنَّ واللام، وصدَّروا الجملة بما هو في معنى القسم: "رَبُّنَا يَعْلَمُ".
------------------
[1] الخطيب القزويني: محمد بن عبدالرحمن بن عمر: التلخيص في علوم البلاغة، تحقيق: عبدالرحمن البرقوقي، دار الفكر، العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1989م، ص56.
[2] الخطيب القزويني: محمد بن عبدالرحمن بن عمر: الإيضاح في علوم البلاغة؛ المعاني والبيان والبديع؛ وضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003م، ص24.
[3] أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي: نقد النثر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980م، ص44.
[4] الدكتور بسيوني عبدالفتاح فيود، علم المعاني: دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، مؤسسة المختار، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2015م، ص42.
[5] الدكتور عبدالعزيز عتيق: في البلاغة العربية: علم المعاني، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 2009م، ص50.
[6] علم المعاني: دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، ص67.
[7] نفسه، ص 49.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz6SeWNUYfy