تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 23 من 23

الموضوع: قصة الحروب الصليبية

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,502

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    عقبات في طريق بيت المقدس-(22)

    ملخص المقال

    واجه الصليبيون عدة مشاكل وعقبات في طريقهم نحو بيت المقدس، منها تناقص أعدادهم نتيجة الصراعات، مع السلاجقة أو في حصار أنطاكية، فما باقي العقبات؟


    عقبات في طريق بيت المقدس
    صارت أنطاكية مدينة صليبية، ويَئِس المسلمون آنذاك من تحريرها، لكن الصليبيين وجدوا أنفسهم أمام عدَّة مشاكل ضخمة وعقبات كثيرة في أنطاكية، منعتهم من التقدم مباشرة صوب بيت المقدس، الذي كان الهدف الأول من هذه الحملة.
    1- فمن المشاكل الضخمة التي واجهت الصليبيين هو تناقص عددهم بصورة مخيفة؛ فلقد واجهوا السلاجقة منذ لحظة نزولهم في آسيا الصغرى، ومنذ موقعة نيقية في (490هـ= مايو 1097م) -أي أكثر من سنة- في عدة معارك، وقُتل من الصليبيين عدد كبير، ثم إن الكثير منهم هلكوا في المسافات الكبيرة التي قطعوها دون غذاء كافٍ أو ماء، وهلك منهم عدد آخر في الحصار الطويل لمدينة أنطاكية، سواء في المرحلة الأولى التي حاصروا فيها المسلمين، أو في المرحلة الثانية التي حاصرهم المسلمون داخل المدينة، ثم هلك منهم عدد آخر في الموقعة الأخيرة ضد كربوغا، وأخيرًا هلك عدد ضخم في الأوبئة التي انتشرت في أنطاكية نتيجة كثرة القتلى.
    لقد تناقصت بشدة أعداد الصليبيين إلى الدرجة التي صعب معها السيطرة على كل الأبراج في الأسوار الطويلة لأنطاكية[1]، فكيف بإعداد العدة للزحف نحو بيت المقدس، هذا فضلاً عن أن الذي بقي من الصليبيين يعاني من الإعياء والإجهاد الشديد، ولا يَقْوَى على قطع المسافة الكبيرة من أنطاكية إلى بيت المقدس (600 كيلو متر تقريبًا)، فضلاً عن أنهم قد يقاتلون هناك الدولة العبيدية بكل مقدرات الجيش المصري آنذاك.
    هذه الأزمة الكبيرة جعلتهم يفترون عن الزحف إلى بيت المقدس، ولم يكن هذا الفتور لأيام معدودات، إنما استمر ستة أشهر كاملة[2].
    2- وهذه الأزمة -أيضًا- دفعتهم إلى عدم القدرة على إعلان العصيان المباشر للدولة البيزنطية، فهم مع كونهم من البداية يكرهون الإمبراطور البيزنطي المتسلط عليهم بقرارته والمخالف لهم في العقيدة، ومع كونهم يشعرون أنه لم يشارك معهم بجدية في حصار أنطاكية، ومع كونهم يحنقون عليه أشد الحنق لعدم نجدتهم في حربهم ضد كربوغا في (491هـ) يونيو سنة 1098م، إلا أنهم يدركون أنهم قد يحتاجون إلى إمكانيات الدولة البيزنطية في أي لحظة[3].
    وهذا الشعور جعلهم يتحفظون في التعامل مع مشكلة أخرى كبيرة قابلتهم بعد إسقاط أنطاكية، وهي اكتشافهم أن بداخلها أعدادًا كبيرة من النصارى الأرثوذكس، وكان الصليبيون لا يثقون بهم، ويعرفون أنهم يدينون بالولاء للدولة البيزنطية قلبًا وقالبًا، ومع ذلك فإن الصليبيين ما استطاعوا أن يُعلنوا هذه المخاوف[4]، بل إنهم عظموا جدًّا من شأن بطريرك الأرثوذكس حنا الرابع، ووضعوه على رأس كنيسة أنطاكية، ولم يعزلوا القساوسة الأرثوذكس من أماكنهم، واكتفوا بوضع قساوسة كاثوليك على بعض الكنائس الشاغرة[5]، وكل هذا كنوعٍ من التقارب مع الدولة البيزنطية، وشراء ودِّها إلى اللحظات الأخيرة.
    3- وكان من المشاكل الضخمة التي واجهتهم -أيضًا- خلوُّ مخازن المدينة من الغلال والمؤن على عكس ما توقع الصليبيون[6]، فطول مدَّة الحصار وانشغال الناس في الحرب ضيَّع ثروات البلد، ولم يبقَ شيء يعتمد عليه في مخازنها، وعلى هذا ففي الأيَّام القادمة لا بُدَّ أن يُدبِّر الجيش الصليبي حاله، إمَّا عن طريق الإمدادات الخارجية من أوروبَّا أو الدولة البيزنطيَّة، وإمَّا عن طريق الإغارة على المدن والقرى المجاورة، وإلَّا سيقع الجيش في أزمةٍ اقتصاديَّةٍ طاحنة.
    4- من يحكم أنطاكية؟!!
    إنَّ أعظم المشاكل التي واجهت الصليبيِّين، هي مشكلة من الذي يجب أن يحكم أنطاكية[7]؟!
    بوهيموند
    فبوهيموند كما وضحنا كان يجعل هذه قضيَّة مصيريَّة في حربه من البداية، وما خرج هذا الهدف من ذهنه منذ غادر إيطاليا، حتى اللحظة التي دخل فيها أنطاكية، واشترط بوضوح على زعماء الحملة الصليبيَّة أن يجعلوا أنطاكية خالصةً له إذا بقي معهم للقتال[8].
    هذه كانت أحلام بوهيموند!!
    فهل كانت هي الأحلام الوحيدة في القصَّة؟!
    ريمون الرابع
    لقد نازعه في حلمه هذا زعيم صليبي آخر في غاية الطموح هو ريمون الرابع كونت تولوز، فهذا الزعيم -وإن كان في بادئ القصة يتظاهر بالتدين والورع واتِّباع رأي البابا، وإعلان أنه لا يستطيع أن يقسم بالتبعية لإمبراطور بيزنطة لأنه يتبع المسيح! وحمله للحربة المزعومة أمام الجيش الصليبي- أظهر عند سقوط أنطاكية مشاعر مختلفة تمامًا! لقد ثار ريمون الرابع على بوهيموند، وقال: إنه لا يستحق فضلاً زائدًا عن بقية الزعماء، وتنكَّر لمواقفه السابقة بإعطاء أنطاكية لبوهيموند حال سقوطها. ولم يكن اعتراض ريمون باللسان فقط، ولكن كان بالسلاح أيضًا! إذ أخذ جيشه وسيطر على بعض الأبراج والأبواب، ورفض التسليم لبوهيموند، واشتعل الجدال في أنطاكية بين مؤيد ومعارض[9].
    الإمبراطور البيزنطي
    ولم يكن ريمون هو الوحيد الذي ينازع بوهيموند إمارة أنطاكية، فهناك الإمبراطور البيزنطي الذي يجد أنطاكية حقًّا دينيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا للدولة البيزنطية، وفوق ذلك فهناك اتفاقية القسطنطينية التي عقدت سنة 1097م، وتقضي بتسليم المدن البيزنطية القديمة وعلى رأسها أنطاكية للدولة البيزنطية[10].
    فلمن يكون حكم أنطاكية؟!
    أصحاب الشعارات البراقة
    إن هذا الصراع ليدلنا بأقوى الأدلة أن هؤلاء الزعماء ما خرجوا خدمة للدين ولا حماية للصليب، ولا طمعًا في إرضاء المسيح عليه السلام. إننا رأينا من الجميع -تقريبًا- رغبة حميمة في تحقيق المجد الشخصي، بصرف النظر عن الواجب الديني الذي خرجوا من أجله.
    فها هو الإمبراطور البيزنطي الذي طلب النجدة من البابا وصوَّر حال الحجيج النصارى بشكل بائس، ها هو لا يحمل همًّا سوى توسيع سيطرته على المدن التي أخذها السلاجقة قبل ذلك، وعند أول اختبار حقيقي لشجاعته وتجرُّدِه أثناء حصار أنطاكية إذا به يتقاعس، ويرفض القدوم تاركًا الحملة الصليبية تواجه مصيرها، مع أنها من المفترض أنها جاءت لمساعدته!
    وها هو بلدوين ينعزل عن الجيش ويقنع بإمارة الرها، ولا يفكر في إكمال الرحلة إلى بيت المقدس!
    وها هو بوهيموند يقنع كذلك بإمارة أنطاكية، ويتحايل على الجميع لكي يضمن لنفسه ملكًا، بصرف النظر عن قضية القدس، وبصرف النظر عن حقوق غيره وأطماعهم!
    وها هو بطرس الناسك يهرب من حصار أنطاكية الصعب، ويجبره تانكرد على الرجوع ذليلاً مهينًا!
    وها هو تانكرد من قبل يتصارع مع بلدوين على طرسوس حتى رفعوا السلاح على بعضهم البعض!
    وها هو كذلك ستيفن دي بلوا يترك الجمل بما حمل، ويأخذ جيشه ويقفل عائدًا إلى فرنسا في اللحظات الأخيرة من الحصار، عندما أدرك أن أحلامه في الملك تبددت!
    إن جميع المحتلين يرفعون شعارات برَّاقة خادعة للسيطرة على عقول شعوبهم وجيوشهم، وأيضًا لتخدير الشعوب المحتلة وتسكيتها؛ فهذا يقاتل من أجل المسيح، وذاك يدافع عن الحجيج، وهؤلاء يريدون استقرار الديموقراطية، وأولئك يدافعون عن حقوق الإنسان.
    وهكذا تبدو حروبهم من أجل الفضيلة، والأصل أنها لا لشيء إلا للأمجاد الشخصية والأطماع الذاتية!
    اجتماع صليبي لحل المشكلة
    ماذا يفعل الزعماء الصليبيون إزاء هذه المشكلة العظمى؟!
    لقد عقد الزعماء الصليبيون اجتماعًا مهمًّا في أوائل يوليو 1098م يقررون فيه مصيرهم ومصير أنطاكية ومصير بيت المقدس. إن طاقتهم الآن هزيلة عن بلوغ بيت المقدس، وخاصةً أنهم سيحاربون هناك جيشًا مستريحًا مستقرًّا، وهم لا غنى لهم عن الدولة البيزنطية في هذه المعركة القادمة، ومن ثَمَّ فهم سوف يطلبون طلبًا صريحًا من الإمبراطور البيزنطي أن يساندهم في هذا المشروع، لكن الإمبراطور البيزنطي لن يقبل بالمساعدة إلا إذا أخذ أنطاكية.
    ومن هنا اتفق الزعماء بما فيهم بوهيموند وريمون على تسليم أنطاكية إلى الإمبراطور البيزنطي، بشرط أن يأتي بنفسه على رأس جيش كبير يشاركهم في احتلال بيت المقدس. ولم يستطع بوهيموند أن يعترض في هذا التوقيت؛ لأنه كان يعلم أن قوتهم قاصرة عن إتمام هذه المهمة وهم في هذه الحالة الواهنة، وعلى ذلك فإذا جاء الإمبراطور البيزنطي فسوف يساعدهم في تحقيق أحلام أوسع، وإذا لم يأتِ لم يسلموا له أنطاكية، وعندها يفتحون ملف أنطاكية من جديد ليروا من أحق الزعماء بها[11].
    استقرَّ على ذلك الأمراء الصليبيون، وأرسلوا رسالةً إلى الإمبراطور البيزنطي يطلبون منه فيها أن يأتي لتسلُّم أنطاكية بشرط المساعدة في احتلال بيت المقدس.
    الإمبراطور البيزنطي .. المكر والخديعة
    ماذا كان ردُّ فعل الإمبراطور البيزنطي لهذه الرسالة؟!
    لقد كان الإمبراطور ألكسيوس كومنين نفعيًّا إلى أقصى درجة، فهو يريد أن يجني ثمار دون تضحية، ثم إنه كان خبيثًا يريد أن يمسك بكل أطراف اللعبة في يده، وليس عنده مانع أن يتحالف مع عدو أو أن يخون صديقًا!
    لقد أراد الإمبراطور أن يستغل الجيش الصليبي في كسر المقاومة الإسلامية دون أن يعطيهم شيئًا، وقد خَبُرهم في آسيا الصغرى، ورأى أنهم سلموه كل المدن، وهم وإن كانوا يطمعون في أنطاكية الآن فإنهم لن يستطيعوا الصمود طويلاً بعيدًا عن بلادهم. إنه أراد أن يستنفزهم لأقصى درجة، فيقتلون المسلمين ويقتلهم المسلمون، حتى إذا خلت المنطقة من الأقوياء تقدم الإمبراطور ليتسلم كل الميراث بجهد يسيرٍ أو دون جهد!
    إنها خطة خبيثة تقوم بها الكثير من الدول الاستعمارية ذات الخبرة الطويلة في المؤمرات والمكائد! إنها تدفع فريقًا ليحارب فريقًا آخر، وقد تدل كل فريق على عورات الآخر، حتى إذا فنيت القوتان دخلت هي لتجمع كل الثمرات.
    ومن هنا فكر الإمبراطور أن يتريث في الأمور، ولا يرفض رفضًا باتًّا؛ لكي لا يوغر صدور الصليبيين، ولا يقدم قدومًا سريعًا فيوغر صدور العبيديين المسيطرين على بيت المقدس الآن؛ ولذلك فقد قرر الإمبراطور أن يتجاهل الرد على الرسالة حتى يمر بعض الوقت، وتزداد الأزمة اشتعالاً[12]!
    من جانب الصليبيين فقد وجدوا أن الإمبراطور لا يرد طلبهم، وهم لا يستطيعون البقاء فترة طويلة دون الانتهاء من مهتمهم؛ ولذلك قرروا تحديد موعد لغزو بيت المقدس بصرف النظر عن موافقة الإمبراطور، وكان هذا الموعد في (491هـ= نوفمبر 1098م)، بعد أن تخف درجة الحرارة[13].
    أما الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين فلم يكتفِ باللعب بزعماء الصليبيين، ولكن أراد أن يتعامل مع الجهة الأخرى أيضًا، فتراسل مع العبيديين بمصر وهو يعرض عليهم صورة من صور التعاون! ولكن لسوء حظِّه وقعت رسالته إلى العبيديين في قبضة الصليبيين، فأدركوا أنه يلعب بهم[14].
    هنا قرَّر زعماء الحملة الصليبية أن يخرجوا بمفردهم إلى بيت المقدس ولكن بعد الاستعداد الكافي عن طريق جمع المؤن، وتثبيت الأقدام في أنطاكية وما حولها؛ ولذلك أمضى زعماء الصليبيين شهري أغسطس وأكتوبر في بعض الحملات في المناطق المحيطة بأنطاكية[15]، وفي هذه الأثناء كان بوهيموند يحاول أن يظهر دائمًا في صورة أمير أنطاكية الأوحد[16].
    الزحف نحو بيت المقدس
    وفي يوم 5 من نوفمبر 1098م عقد الصليبيون اجتماعًا قرروا فيه الزحف صوب بيت المقدس[17]. ومن جديدٍ برزت مشكلة إمارة أنطاكية، وتنازع الزعيمان بوهيموند وريمون الأمرَ، وأعلن بوهيموند العصيان المباشر على إمبراطور الدولة البيزنطية، وأكد ذلك بعزل حنا الرابع من الكنيسة الأرثوذكسية؛ ليصبح بذلك أميرًا لأنطاكية وغير متقيد مطلقًا بالقسطنطينية[18]، غير أن الأمير ريمون وجد أنه لكي يستولي على أنطاكية فإنه يجب أن يوالي الإمبراطور ألكسيوس كومنين ليتغلب على بوهيموند، وهكذا أدت المصالح إلى اختلاف الولاءات اختلافًا بيِّنًا!! فهذا بوهيموند الذي كان أقرب الأصدقاء إلى الإمبراطور البيزنطي يعلن العصيان ليتملك أنطاكية، ناسيًا يمينه الذي أقسمه بالتبعية للإمبراطور، وهذا ريمون الذي رفض أن يقسم بالتبعية للإمبراطور يعلن أنه يقف إلى جواره[19]!!
    وتعالت الأصوات، وكاد السلاح يعلو -أيضًا- بين الزعيمين الصليبيين!
    واستاء بقية الزعماء جدًّا و-أيضًا- الجند، وحدثت ثورة عجيبة في أنطاكية، حيث قرَّر الزعماء والجند معهم أن يهدموا أسوار أنطاكية إذا لم يكفّ الزعيمان عن حربهما، وساعتها سيتركونهم مكشوفين للبيزنطيين والمسلمين على حدٍّ سواء، وسوف يتجه الجيش بكامله إلى بيت المقدس[20].
    هنا شعر بوهيموند وريمون بالخوف الشديد أن ينفذ الصليبيون تهديدهم، فجلسوا في هدوء ليبحثوا حلاًّ للموضوع، ولكي يقطعوا الوقت ويشغلوا الناس حتى الوصول إلى حلٍّ قرروا الخروج جميعًا في حملة إلى معرة النعمان، وهي إلى الجنوب الشرقي من أنطاكية، وهي من أعمال الحلب[21]، وحاصرها الصليبيون بالفعل، واستعانت أهلها برضوان ملك حلب إلا أنه لم يعرهم اهتمامًا يذكر[22]، وكان أن استسلمت المدينة في (492هـ= 11 من ديسمبر 1098م) للصليبيين بعد أن أعطوهم الأمان[23]، لكن -للأسف- بعد سقوط المدينة لم يلتزم الصليبُّيون بعهدهم، وأجروا فيها مذبحة عظيمة، وسلبوا كلَّ شيء، وأحرقوا المدينة عن آخرها[24].
    ثم تنافس الأمراء من جديد في قضيَّة النزاع بين بوهيموند وريمون، ووجد ريمون أنَّ عامَّة الأمراء يُرجِّحون كفة بوهيموند[25]، فآثر أن يخرج بشيء، فعرض أن يقود الحملة الصليبية إلى بيت المقدس، ويصبح هو بذلك القائد الأعلى، فوافق الأمراء لتحل المشكلة، ويبقى بذلك بوهيموند أميرًا على أنطاكية. وهكذا فضَّل بوهيموند أن يتخلف عن حملة بيت المقدس ناسيًا قصة الحجيج؛ ليقنع بإمارته التي كانت حلمًا قديمًا له[26]!!
    ولبس ريمون ملابس الحُجَّاج، وخرج حافي القدمين يقود الجيوش في رحلة دينية لاحتلال بيت المقدس[27]، وكان ذلك في (492هـ= 13 من يناير 1099م)، بعد أكثر من سبعة أشهر من سقوط أنطاكية، وقد حاول أن يقنع الجميع أنَّه يتحرَّك إرضاءً للمسيح، ولكن من الواضح أن تمثيليَّته أصبحت مكشوفة، وهكذا كلُّ التمثيليَّات لأمثال هؤلاء النفعيِّين من الزعماء!!



    [1] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/173.
    [2]Gesta Francorum, p. 74-82; William of Tyre I, pp. 298-315.
    [3] Brehir, op. cit., 314.
    [4] Runciman: op. cit., 1, p. 236.
    [5] Albert d`Aix, p. 433.
    [6] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/174.
    [7] Cam. Med. Hist. vol 2, pp. 294-295.
    [8] Chalandon: Alexis Comnene, p. 201 & Premiere Croisade p. 193.
    [9] Guillaume de Tyr, p. 274.
    [10] Chalandon: Alexis Comnene, p. 201 & Premiere Croisade p. 203-205.
    [11] Gesta francorum, p. 161, Guillaume de Tyr, p. 277.
    [12] Grousset: Alexis Comnene, pp. 204-205.
    [13] Runciman: op. cit. 1, p. 250.
    [14] Chalandon: Alexis Comnene, p. 207.
    [15] Cam. Med Hist vol. 5, p. 295. and Michaud: op. cit., 1, p. 333& Gesta Fran- corum pp. 162-165.
    [16] Heyd: op. cit., Tome 1, p. 134.
    [17] Michaud, op. cit., pp. 346-347.
    [18] Grousset: Hist. des Coisades 1, p. 250.
    [19] Brehir:op. cit. p. 314.
    [20] Gesta Francoum, p. 171.
    [21] Stevensos: op. cit; p. 30.
    [22] ابن العديم: زبدة الحلب 2/142،141.
    [23] Albert d`Aix p. 268 & Gesta Francocrum p. 175.
    [24] Chalandon: Premire Croisde, p. 249.
    [25] Gesta Francocrum p. 279.
    [26] Michaud, op cit. 1, pp. 345-347.
    [27] Mayer, The Crusades, pp. 58-59.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,502

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    الطريق إلى بيت المقدس-(23)


    ملخص المقال

    تحركت الجيوش الصليبية بقيادة ريمون الرابع، مرتديا ملابس الحجاج نحو بيت المقدس، فماذا حدث أثناء الطريق لبيت المقدس؟


    التحرك نحو بيت المقدس
    في يوم 13 من يناير (1099م= 492هـ) تحرَّكت الجيوش الصليبية ناحية الهدف الرئيس التي خرجت من أجله وهو احتلال بيت المقدس، وتفاوتت الروايات في تقدير عدد الجيش الصليبي الذي خرج من أنطاكية وما حولها لغزو فلسطين، فالمقلِّل يصل إلى ستة آلاف مقاتل فقط[1]، والمكثِّر يصل به إلى ثمانين ألفًا من الصليبيين، وهو في الحالتين بعيدٌ جدًّا عن الأرقام التي عرَفناها عند نزولهم أرض الإسلام؛ إذ كان الجنود في أقلِّ تقدير ثلاثمائة ألف مقاتل.
    وهذا النقص الحادُّ في العدوِّ إنما كان للمعارك المتتالية، وللموت أثناء الانتقال والحصار وفترات الجوع الطويلة، وكذلك لانفصال جيش بلدوين في الرها وبوهيموند في أنطاكية، ولترك حامية صليبية في كل مدينة يحتلونها بدءًا من نيقية وانتهاءً بمعرَّة النعمان جنوب أنطاكية؛ غير أنِّي أُرَجِّح أن الجيش كان في حدود ثمانين ألفًا أو نحوها؛ لأن المسافة التي اخترقها الجيش داخل أراضي سوريا ولبنان وفلسطين كبيرة يصعب فيها أن يتحرَّك ستة آلاف جندي فقط دون حماية، كما أنه لو لم يتبقَّ من الثلاثمائة ألف إلا ستة آلاف فقط لكان قرارهم -دون أدنى شكٍّ- هو الرجوع إلى أوربا والنجاة بالنفس، فضلاً عن أن معظم المعارك التي اشترك فيها الصليبيون كان النصر حليفهم، ولم نسمع عن قتلى بهذه الأعداد الضخمة، سواء في صفِّهم أو في صف المسلمين المهزومين.
    خيانة الحكام المسلمين
    تحرَّكت الجيوش بقيادة ريمون الرابع، وهو وإن كان يرتدي ملابس الحُجَّاج ويُعْلِن خدمة الربِّ إلاَّ أنه كان في منتهى الغيظ والحنق لعدم حصوله على إمارة حتى هذه اللحظة كزميليه بلدوين وبوهيموند، وهذا أثَّرَ في قراراته كما سيتَبَيَّن لنا من رحلته للقدس.
    سار الصليبيون جنوبًا، وهم يقتربون من الساحل أحيانًا، ويتعمَّقون في الداخل أحيانًا أخرى، وكانوا في طريقهم يمرُّون بمدن إسلامية صرفة، ومع ذلك فقد كان ردُّ فعل هذه المدن في منتهى الخزي!
    لقد أسرع الحُكَّام والأهالي في هذه المدن بتقديم الهدايا الثمينة والمؤن، بل والأدِلَّة للجيش الصليبي بُغْيَة الحصول على رضاه، وتجنُّب وحشيته[2]، وكانت أخبار مذبحتي أنطاكية ومعرَّة النعمان قد وصلت إلى كل مكانٍ، ففعلت فعلها في إرهاب الشعوب حتى تفقد كلَّ أمل في المقاومة، ويصبح كلُّ همِّها البحث عن لحظات حياة أطول، ولو كانت هذه اللحظات تعيسة أو مَهِينَة، تمامًا كما فعلت مذبحة دير ياسين التي قام بها اليهود سنة (1367هـ= 1948م) لتسهيل مهمَّة احتلال فلسطين، والتاريخ يتكرَّر!!
    فمن الأمثلة الشاذَّة التي رأيناها ما حدث من أمير شيزر عندما تعهَّد لريمون ألاَّ يعترض طريق الصليبيين أثناء اختراقهم إقليم شيزر، وأن يُقَدِّم لهم ما يحتاجون إليه من الغذاء والمئُونة، بل وقدَّم لهم دليلَيْنِ أرشدوا الصليبيين في أثناء عبورهم إقليم العاصي[3]!
    وكذلك رأينا أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب -الذي كان يقاتل الصليبيين منذ شهور مع كربوغا- يُرسِل وفدًا محمَّلاً بالهدايا الثمينة يخطب ودَّ المحتلين؛ لكي لا يتعرَّضوا لإمارته بسوء[4].
    لقد كانوا يحكمون إمارات غير صالحة للاستقلال أبدًا، فالمساحات صغيرة والشعوب ضعيفة والإمكانيات هزيلة، ولكنهم يَقْنَعُون بها ليحتفظوا بالعرش، ولو كان عرشًا زائفًا لا قيمة له!!
    الصليبييون وتواطؤ العبيديين الشيعة
    ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابلس اللُّبنانيَّة، وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة، وهي عائلة بني عمَّار، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ، ومع كونها شيعيَّة إلاَّ أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا.
    قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم، وأقرَّ بدفع جزية لهم، وأرسل إليه ريمون الرابع بعض رسله للتفاوض فدخلوا مدينته ثم عادوا إلى ريمون بالأخبار السعيدة: إن المدينة شديدة الثراء، عظيمة الجمال[5]. وسال لُعاب ريمون الرابع، ونسِيَ قضية القدس، وتجاهل ملابس الحجاج، ووجد في طرابلس الفرصة لتحقيق حلم الإمارة الخاصَّة به!
    فكَّر ريمون ومن معه من القادة أن يضغطوا عسكريًّا على المدينة أو أعمالها لكي يَزيدوا في الجزية المعروضة أو أن يُسقطوا المدينة تمامًا، وهذا -لا شكَّ- أفضل[6].
    حصار مدينة عرقة
    توجَّه ريمون لحصار مدينة تسمى عِرْقَةَ شرق طرابلس، وهي تتبع طرابلس، وفي ذات الوقت هي مدينة غنية بمياهها وثرواتها الطبيعية، واتجه جودفري وروبرت لحصار مدينة جبلة، وهي مدينة ساحلية سوريَّة جنوب اللاذقيَّة تتبع أيضًا طرابلس، وسرعان ما أعلنت جبلة استسلامها بعد حصار تسعة أيام من 2 إلى 11 مارس 1099م، وأقرَّت بدفع جزية وفيرة من المال والخيول[7]، غير أن عِرْقَةَ صمدت[8]، وكانت مدينة حصينة فشل ريمون في إسقاطها.
    اضطر ريمون أن يستنجد بـ جودفري وروبرت لإسقاط عِرْقَةَ فجاءا إليه واشتركا معه في الحصار[9]، وهذه الاستغاثة من ريمون رفعت من أسهم جودفري وقلَّلت من أسهمه هو؛ فقد صار الصليبيون ينظرون إلى جودفري على أنه القائد العامُّ وليس ريمون الرابع.
    رسالة الإمبراطور البيزنطي
    استمرَّ الحصار حول عِرْقَةَ فترة طويلة، وبدا للصليبيين أنهم سيُكَرِّرُون مأساة أنطاكية، وفي هذه الأثناء وفي 10 من إبريل 1099م وصلت رسالة من الإمبراطور البيزنطي تعرض عليهم أن ينتظروه إلى آخر يونية، وسوف يأتي بجيش كبير للاشتراك معهم في غزو بيت المقدس، وسيتحمَّل تكاليف الحملة كلها[10]. والواضح أن الإمبراطور البيزنطي كان يعمل على كل الجهات، ويتعامل بحرفيَّة عالية جدًّا مع الأمور، ويعرف احتياج الصليبيين إلى المساعدة.
    اجتمع الصليبيون لمناقشة رأي الإمبراطور، ولا شك أنهم كانوا في أزمة، خاصةً أن أدهمار -المندوب البابوي- كان قد مات في أنطاكية بعد سقوطها بعدة أيام، وافتقد الجيش الصليبي الزعامة الرُّوحيَّة المجمِّعة، وصار كقوات التحالف التي لا يربطها رباط وثيق، فقد يقوم الإمبراطور بهذا الرباط[11]، فوق أنه ستحمل تبعات خطيرة سواء في الأموال أو في الأرواح، فكانت هذه إيجابيات واضحة، لكنها لم تكن بلا سلبيات، فالإمبراطور مخادع، وقد يكون هذا مجرَّد تخدير للجيش الصليبي، وقد تركهم قبل ذلك لمصيرهم في حرب كربوغا مع أنه وعدهم بالقدوم لنُصرتهم، ثم هو يتعامل مع العبيديين الذين كانوا يحكمون بيت المقدس الآن، هذا كله إضافةً إلى أن قدومه سيجعل بيت المقدس حقًّا خالصًا له، وهم -أي الزعماء الصليبيين- يريدونه لهم لا للإمبراطور.
    ماذا رأى الزعماء الصليبيون؟!
    تزعَّم ريمون الرابع رأيًا يُنادي بانتظار الإمبراطور، وهذا الرأي لم يكن بالطبع لمصلحة الجيوش الصليبيَّة إنما كان لمصلحته هو، فالانتظار سيعطيه فرصة أكبر لتحقيق حلمه بتكوين إمارة له في طرابلس، وقد تساعده في ذلك القوات البيزنطية، وسوف يعلم الإمبراطور البيزنطي القوي أن ريمون الرابع كان مناصرًا له، وهذا قد يساعده كثيرًا في استقرار أوضاعه[12].
    أمَّا جودفري بوايون فقد رأى رأيًا آخر، لقد رأى أن انتظار الإمبراطور تضييعٌ للوقت وللجهد، وبِنَاء لقصور من الرمال، وأنه من الأصلح أن تتوجَّه الجيوش مباشرة إلى بيت المقدس[13]، خاصَّة أن المقاومة الإسلاميَّة منعدمة في هذه المناطق حتى الآن.
    وتَنَازَعَ الزعيمان، وظهر التوتُّر بينهما، والقضية لم تكن خالصة للربِّ؛ فريمون له أطماع في طرابلس، وجودفري له أطماع في بيت المقدس، والأطماع متعارضة وإن كان الجيش واحد!!
    وقف الزعماء جميعًا مع رأي جودفري بوايون، وهذا رفع أسهمه أكثر وأكثر، وصار فعليًّا القائد الأعلى للجيوش الصليبيَّة[14]، وعاند ريمون وأصرَّ على استكمال حصار عِرْقَةَ حتى إسقاطها، على الرغم من مرور أكثر من شهرين على حصارها دون فائدة[15].
    وتأزَّم الموقف ومرَّت الأيام!!
    وأخيرًا، وفي (492هـ= 13 من مايو 1099م)، وبعد حصار ثلاثة أشهر ونصف، اضطر ريمون لرفع الحصار لفشله في إسقاط المدينة الصغيرة عِرقة[16]، ولا شكَّ أن إسقاط طرابلس ذاتها سيكون أصعب وأصعب، ونزل ريمون على رأي جودفري وبقية الزعماء وقبلوا بجزية فخر الملك بن عمَّار[17]، وأكملوا الطريق إلى بيت المقدس، بعد أن فقدوا وقتًا غاليًا، خاصَّة أن شهور الصيف قد قاربت على البدء، وهكذا بدأ الصليبيون في الاستعداد للرحيل، إلا أنهم فوجئوا بسفارة عبيدية مصرية تأتيهم عند أسوار طرابلس!!

    [1] Chalandon: Premiere Croisade p 253.
    [2] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص127.
    [3] Guillame de Tyr, p. 265 & Gesta Fancorum, p. 181 & Raymond d`Agiles, pp. 272-273.
    ولم يشر ابن الأثير عن هذه التفصيلات بل اكتفى بقوله "وراسلهم منقذ، صاحب شيزر، فصالحهم عليها" الكامل في التاريخ 9/16.
    [4] المؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص274، ولم يذكر ابن الأثير عن ذلك شيئًا واكتفى بقوله "وساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدولة" الكامل في التاريخ 9/16.
    [5] Raymond: op. cit., p. 31.
    [6] Crousset: Hist. des Crosiades, 1, pp. 132-133.
    [7] Gesta Fancorum, p. 187 & Albert d`Alix, p. 453.
    [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/16.
    [9] Gesta Fancorum, p. 187 & Albert d`Alix, p. 453.
    [10] Guillaume de Tyr, p. 307.
    [11] Chalandon: Alexis Comnene, pp. 214-215.
    [12] Grousset: Hist, des Croisades, 1, p. 138.
    [13] Michaud: op. cit., p. 361.
    [14] Albert d`Alix, pp. 455 & Raymond d`Agiles, p. 289.
    [15] المؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص276، وذكر ابن الأثير أن الحصار دام أربعة أشهر الكامل في التاريخ 9/16.
    [16] Stevenson: op. cit p. 32.
    [17] Raymovd d`Agiles, p. 285 & Guilaume de Tyr, pp. 308-309.
    المؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص277.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,502

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    الخيانة العبيدية الشيعية-(24)


    ملخص المقال

    موقف الدولة العبيدية بمصر بعد إرسالهم سفارة العار إلى الصليبيين يحتاج إلى وقفة، خاصة أن هذه ليست المحاولة الأولى التي يتضح فيها مدى كرههم للسنة،



    السفارة العبيدية الشيعية
    وصلت السفارة العبيدية الشيعية المصرية إلى الصليبيين محمَّلة بالأموال الغزيرة والهدايا الثمينة لكل قائد من قوَّاد الحملة الصليبية، وبعرضٍ من الدولة العبيدية أن تسهِّل حجَّ الصليبيين وكل النصارى إلى بيت المقدس (المحكوم حتى هذه اللحظة بالدولة العبيدية)، على أن يدخل الحجاج إلى القدس غير مسلَّحين[1]، وسوف تقرُّ الدولة العبيدية الصليبيين على ما تحت أيديهم من بلاد، سواء في آسيا الصغرى أو سوريا أو لبنان.
    هكذا!!
    الرد الساخر
    فاجأ الصليبييون السفارة العبيدية بالردِّ الساخر، أنهم سيتمكَّنون من أداء الحج كما يريدون ولكن ليس بمساعدة الدولة العبيدية، وهذا يعني إعلانًا مباشرًا للحرب[2]، إذ كيف سيدخلون البلد دون سماح حُكَّامها؟!
    تاريخ الدولة العبيدية وبيت المقدس
    الحقُّ أن موقف الدولة العبيدية يحتاج إلى نظرة وتدبُّر، وعودة للوراء قليلاً لنعرف شيئًا عن الدولة العبيدية، وعن تاريخ بيت لمقدس في هذه الفترة.
    إن بعض المؤرِّخين -سواء من القدامى أو من المحدثين- يتعجَّبون من ردِّ فعل الدولة العبيدية تجاه الحملة الصليبية، ومن حالة المعاملة الفجَّة التي ظهرت في أقوالهم وأفعالهم، ومن بعض المواقف التي لا تُوصَف بأقل من أنها مخزية ومشينة[3]، ومع ذلك فالذي يُرَاجِع التاريخ يجد أنه لا عجب مطلقًا فيما رأيناه من ردِّ فعلٍ للدولة العبيدية تجاه الحروب الصليبية.
    لقد كان من أهداف الدولة العبيدية الرئيسية منذ قامت هي أن تُحَارِب المسلمين السُّنَّة في كل مكان، فقد حاربت أهل السُّنَّة في المغرب، وقتلت العلماء والعُبَّاد، وكان ذلك في سنة 296هـ، ثم جعلت من همِّها أن تحارب الدولة السُنِّيَّة في الأندلس، بل وتعاونت مع الصليبيين في شمال الأندلس ضد دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله، ثم اجتاحت شمال إفريقيا، واحتلت مصر سنة (358هـ= 969م)، وفعلت بعلمائها السُّنَّة مثلما فعلت في المغرب، ثم توسَّعت في نفس السنة في الشام، واحتلت بيت المقدس وكذلك دمشق[4]، ودام هذا الاحتلال أكثر من مائة سنة.
    لقد بقِيَ العبيديون في بيت المقدس حتى حرَّرها ألب أرسلان - رحمه الله- عن طريق قائده أتسز (الأقسيس)، وذلك في سنة (463هـ= 1071م)[5]، ثم دخل بيت المقدس في مُلْكِ تتش بن ألب أرسلان سنة (471هـ= 1079م)[6]، وتولَّى الإمارة حينئذ أرتق بن أكسب، ثم ابنه سكمان بن أرتق سنة (485هـ= 1091م) تحت ولاية دقاق بن تتش مَلِكِ دمشق[7].
    ولكن العبيديين لم يُسَلِّموا بضياع بيت المقدس وفلسطين من أيديهم؛ ولذلك رحبوا بقدوم الصليبيين إلى آسيا الصغرى والشام لكي يشغلوا الأتراك السُّنَّة وينفردوا هم ببيت لمقدس وفلسطين[8]؛ ولذلك فقد استغلَّ العبيديون فرصة انشغال الأتراك في حرب الصليبيين، ووجَّهوا قوتهم لغزو بيت المقدس سنة (490هـ) 1097م، واستولَوْا عليه بالفعل[9]، بل ولم يتورَّعوا عن القيام بمفاوضات مع الصليبيين لإقرارهم على الشام في مقابل إقرار الصليبيين لهم على فلسطين كما وضَّحْنَا[10].
    إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة.
    أمَّا الصليبيون فقد أخذوا قرار احتلال فلسطين، وخاصَّةً بيت المقدس، فلا مجال عندهم الآن للتفاوض مع العبيديين، ومن ثَمَّ كان ردُّهم الساخر على سفارتهم.
    خط سير الجيوش الصليبية نحو بيت المقدس
    ترك الصليبيون طرابلس ووصلوا إلى بيروت فصيدا ثم صور، والمسلمون في كل ذلك يتجنَّبونهم بالهدايا والأموال لكيلا يتعرضوا للإيذاء، ثم اخترقوا لبنان إلى فلسطين، وعبروا نهر الكلب، وهو الحدُّ الفاصل آنذاك بين أملاك السلاجقة وأملاك الدولة العبيدية، فمرُّوا بعكا فقام أميرها العبيديّ بتمويلهم بالطعام والمؤن، ووعد بالدخول في طاعتهم بعد سقوط بيت المقدس[11]!
    ثم مرَّ الصليبيون بقَيْسَارِيَة ثم أُرْسُوف[12]،[13] ثم غيَّروا طريق الساحل، وشقُّوا البلاد شرقًا إلى الداخل صوب بيت المقدس، واحتلُّوا في طريقهم الرَّمْلَة، وهي مدينة صغيرة، ولكنها تسيطر على الطريق الواصل من بيت المقدس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فسيطر عليها الصليبيون ليؤمِّنوا طريقهم بعد ذلك إلى البحر[14]؛ حفاظًا على إمدادات السفن والأساطيل الأوربية، وفي هذه المدينة (الرملة) توقَّف الصليبيون ليعقدوا اجتماعًا مهمًّا لتحديد خطوات الغزو، وكان ذلك في (492هـ= أوائل يونيو 1099م).
    التطلع لاحتلال مصر
    بحث الصليبيون في هذا اجتماع الرملة نقطة مهمة تُفَسِّر خطوات مستقبليَّة في الحملات الصليبيَّة، لقد ناقشوا قضيَّة غزو القاهرة وإسقاط مصر[15]!!
    لقد فهم الصليبيون في ذلك الوقت المتقدِّم أن مفاتيح بيت المقدس موجودة في القاهرة، ولم يكن هذا فقط لأن العبيديين يُسيطرون على بيت المقدس الآن؛ فقد اتضح للصليبيين مدى هلع العبيديين من قوَّة الصليبيين، ولكن للبُعْدِ الإستراتيجي المهمِّ لهذا البلد الكبير مصر، والذي يحدُّ فلسطين من جنوبها وغربها، والذي به طاقة بشريَّة ضخمة، وإمكانيات اقتصاديَّة عالية، وشعور فطريّ بالتقارب مع فلسطين، وخاصَّة فيما يتعلق ببيت المقدس، وبه المسجد الأقصى؛ لذلك فكَّر الصليبيون في هذا الاجتماع في قضية غزو مصر، غير أنهم وجدوا أن قوتهم غير كافية لهذه الخطوة الجريئة، خاصة أن عليهم إذا فعلوا ذلك أن يجتازوا حاجزًا صحراويًّا صعبًا وهو صحراء سيناء، وقد تهلك فيه القوة الصليبية.
    ولذلك عدلوا عن هذا الرأي، وقرَّروا التوجُّه مباشرة إلى بيت المقدس، لكن هذا الاجتماع أظهر فكرة ظلَّت مسيطرة على عقول قادة الحروب الصليبية وخلفائهم، والتي وُضِعت بعد ذلك موضع التنفيذ في الحملتين الخامسة والسابعة من الحملات الصليبية، حيث تمَّ غزو مصر غزوًا صريحًا[16].
    سنة الله الماضية
    سؤال لا بد منه: أين الجيوش الإسلاميَّة في طول هذه المسافة التي قطعها الجيش الصليبي من أنطاكية إلى بيت المقدس، وهي مسافة تزيد على ستمائة كيلو متر؟!
    أليس في هذه المناطق كلها رجل رشيد؟!
    لقد افتقد المسلمون في هذه الآونة لمقوِّمات رئيسية من مقومات قيام الأُمَّة؛ لذلك قَبِلَتْ جموع المسلمين أن تَحُثَّ هذه الأقدام النجسة على طريقها إلى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُولَى القبلتين وثالث الحرمين، وإلى الأرض المباركة، دون أن يتحرَّك لهم ساكن؛ ولذلك حُصِر المسلمون في بيت المقدس!
    لقد عانى المسلمون في هذا الوقت من أمراضٍ شتَّى.
    لقد عانَوْا من بُعْدٍ عن الدين، وغياب للحميَّة الإسلاميَّة، وافتقاد للنخوة المستندة إلى عقيدة قويَّة صحيحة.
    وعانوا كذلك من فُرقة مؤلمة، وتشتُّت فاضح، حتى صارت كل مدينة إمارة مستقلة، ودويلة منفصلة، بل ومتصارعة مع جيرانها المسلمين.
    وعانوا -أيضًا- من افتقار لزعامة مخلصة متجرِّدة، تجمع الشتات في كيان واحد، وترغب في رفعة هذه الأمة دون نظر إلى مصالح الذات ورغبات النفس.
    كما عانى المسلمون فوق ذلك من رؤية واضحة للواقع الذي يعيشونه، وللأخطار المحدقة بهم، وعانوا أيضًا من نقص حادٍّ في الدراية السياسية أو الكفاءة العسكريَّة.
    لقد كانت الأُمَّة تمرُّ فعلاً بأزمة مركَّبة معقدة!
    لكن إن كنا نتعجب من موقف الأمة وتخاذلها، فإن العجب يأخذنا وبشكل أكبر من موقف الصليبيين! كيف أَمِنُوا على أنفسهم أن يخوضوا كل هذه المسافات في عمق العالم الإسلامي، وهم لا يشعرون بخوفٍ ولا وَجَلٍ؟! إنهم يتوغلون في كثافة بشريَّة عالية جدًّا، ومحصورون بين عدة إمارات تحوي عدَّة جيوش مسلمة، والمسافة بينهم وبين أوطانهم بعيدة هائلة، فلو هُزِمُوا سُحِقُوا، وليس لهم مهرب ولا منجى!
    كيف استطاعوا أن يتغلَّبوا على الخوف الفطريّ للبشر، وقَبِلُوا بهذه المغامرة الخطيرة؟!
    إن الإجابة بأنهم خرجوا من ظروف صعبة جدًّا في أوروبا، جَعَلَت الحياة هناك أقرب إلى الموت، وجعلت طموحهم في ترك واقعهم الأليم يطغى على أية رغبة أخرى، وجعلت الموت في أرض فلسطين لا يفترق كثيرًا عن الحياة في أوربا الفقيرة آنذاك. إن هذه الإجابة فقط لا تشفي الغليل، ولا تفسِّر عدم الرهبة، وقلَّة الاكتراث الذي رأيناه في الجيوش الصليبية؛ فالروح عزيزة على النفس، وخاصَّةً إن لم يكن الإيمان باليوم الآخر والجنة وازعًا قويًّا يدفع إلى الموت.
    فما تفسير هذه المعادلة الصعبة؟
    ولماذا بدت الشجاعة في قلوب الصليبيين واضحة جليلة؟!
    إن هذا يفسره لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ثوبان رضي الله عليه وسلم، وبه يفسِّر الأوضاع وكأنه يراها رأي العين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ". قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"[17].
    إن الأمم الغربيَّة التي تداعت من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا لم تأتِ بهذه القوة والشجاعة إلاَّ لأنَّ الله عز وجل نزع الرهبة من قلوبها من جموع المسلمين، فصاروا لا يكترثون بهم ولا بأعدادهم وحصونهم وسلاحهم، ورأينا اجتماعات الصليبيين لا تُعَبِّر أبدًا عن خوف في صدورهم، أو عن قلق من مقاومة المسلمين، إنما يتحرَّكون هنا وهناك بحرية تامَّة، وباطمئنان كامل!!
    والمسلمون على الجانب الآخر أُلقى في قلوبهم الوَهْن والضعف والخَوَر، فيرتعبون لرؤية الجنود الصليبيين، ولو كان الصليبيون أقلَّ منهم في العدد، وأضعف منهم في العُدَّة.
    ولنا مع الحديث وقفتان، وإن كانت وقفاته كثيرة:
    أمَّا الوقفة الأولى: فهي أن الله عز وجل هو الذي ينزع الرهبة مِنَّا من قلوب أعدائنا، وهو الذي يلقي في قلوبنا الوهن! وقد يقول قائل: ولماذا يفعل ربنا ذلك، مع أننا في النهاية مؤمنون، وهم كافرون؟! فنقول: إن الله عز وجل أَبَى أن يُعِزَّ المسلمين إلا إذا ارتبطوا بالإسلام، والتزموا بالقرآن والسُّنَّة، ولو نَصَرَهُم وهم يُفْرِطون في الشرع لصارت فتنة عظيمة؛ إذ سيقول الناس: إننا لسنا في حاجة للإسلام، فقد نُصِرْنَا بغيره؛ لذلك تحدث مثل هذه المواقف العجيبة ليلتفت المسلمون إلى دينهم، وليضع المسلمون أيديهم على مفاتيح النصر الحقيقيَّة.
    أما الوقفة الثانية: فإنها مع السبب الذي من أجله حدثت كل هذه التداعيات المؤلمة، إنَّ وصف الحدث والمأساة أخذ كلمات كثيرة، ولكن السبب وراء كل ذلك لم يأتِ إلاَّ في جُمْلَتين قصيرتين: حُبّ الدنيا، وكراهية الموت.
    إن المسلمين تعلَّقوا بالدنيا تعلُّقًا غير مقبول، حتى صاروا يكرهون الموت في سبيل الله، وأُمَّة ترهب الموت لا بُدَّ أن تُقْهَر، وأُمَّة تعشق الدنيا لا بُدَّ أن تذلَّ، والدنيا ملعونة كما ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم، والمتمسِّك بها يهلك، ليس هذا فقط بل وتضيع منه الآخرة.
    إن هذا السبب يُفَسِّر لنا التخاذل الرهيب الذي رأيناه من جموع المسلمين التي كانت تخرج إلى الصليبيين وهي تحمل الهدايا النفيسة، والأموال الطائلة، لكي يتركونهم "يعيشون"! مجرَّد حياة، أيًّا كانت هذه الحياة، وهذا -والله- هو الهوان بعينه.
    هكذا حُصِرَ المسلمون المتمسِّكون بدُنياهم في بيت المقدس، وراقب المسلمون البعيدون عن القدس الموقف في سكون، ينتظرون اليوم الذي ستدور عليهم فيه الدوائر!!

    [1] Michaud: op. cit. 1, pp. 362-363.
    [2] Guillaume de Tyr, 1, pp. 305-306.
    [3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/13، 14.
    [4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/309، وابن كثير: البداية والنهاية 11/266، 267.
    [5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/390
    [6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/418.
    [7] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.
    [8] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/191.
    [9] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.
    [10] Setton: op. cit., vol. 1, p. 316.
    [11] توديبو: تاريخ الرحلة إلى بيت المقدس ص294-299، وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة في ما وراء البحر 1/358، والمؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص277.
    [12] أرسوف: مدينة على ساحل بحر الشام بين قيسارية ويافا. ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/151.
    [13] Aِlbert d`Alex, p. 460.
    [14] المؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص277، فوشيه الشارتري: تاريخ الحملة إلى القدس ص70، وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة في ما وراء البحر 1/400.
    [15] Raymond d`Alx. P. 299; Chalandon:p. 267; Grousset: 1, pp. 150-151.
    [16] Albert d`Aix, p. 292.
    [17] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام (4297)، وأحمد (22450) واللفظ له، والطيالسي (992)، وابن أبي شيبة في مصنفه 7/463، والبيهقي في شعب الإيمان (10372)، وأبو نعيم في الحلية 1/182، وقال الألباني: صحيح (8183) صحيح الجامع.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •