تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 23

الموضوع: قصة الحروب الصليبية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي قصة الحروب الصليبية

    أهمية دراسة الحروب الصليبية (1)


    القصة في القرآن الكريم
    لا يخفى على من يقرأ القرآن الكريم أن أسلوب القصة يُعَدُّ من الأساليب الرئيسية لتوصيل فكرة أو تفهيم معنى. ولا يخفى على قارئ القرآن الكريم أيضًا أن القَصَص فيه لا يذكر إلا متبوعًا بعِبْرة أو درس أو فائدة، وأنه قد بُنِي بصورة تجعل القصة قريبة جدًّا إلى التطبيق الواقعي في حياتنا، حتى لكأنك ترى الأحداث رأي العين، وحتى لكأنك تعلم هؤلاء الأشخاص، وتعايشهم في حياتك الشخصية، ولكن بأسماء مختلفة؛ فهذا يفعل مثلما كان فرعون يفعل في القصة، وهذا يشبه قارون، وآخر يسير على خُطَا طالوت، ورابع يحاكي ذي القرنين في سيرته، وهؤلاء يشبهون قوم بني إسرائيل في مرحلة معينة من مراحل حيات هم، وآخرون يعيشون حياة قوم ثمود، وهكذا.
    إن كل النماذج التي نراها في حياتنا لها أمثلة متشابهة في القرآن الكريم، حتى أصبح القرآن دليلاً واضحًا لطريقة الحياة التي ينبغي أن نكون عليها، وكل ذلك من خلال القصة؛ ولذلك يأمر ربنا i المؤمنين بقصِّ القصة، ورواية الرواية، يقول تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
    وتاريخ الإنسانية كنزٌ عظيم، فيه من التجارب والخبرات ما لا يُقدَّر بثمن، وخطأٌ كبير أن يقع الحكيم فيما وقع فيه السابقون، وذنبٌ عظيم أن نتوه في الدروب، وفي أيدينا دليل النجاة. ولقد ضلت أمتنا كثيرًا لأنها أهملت تاريخها وتاريخ البشر، بل - وللأسف الشديد - فإنها عندما قرأتْ تاريخها قرأته على يد مبدِّلين ومغيِّرين زوَّروا الكثير من الصفحات، وشوَّهوا العديد من الرموز، وبدَّلوا القصص، وقلبوا أحداثها؛ فصار الصالحُ طالحًا، وأصبح المفسد حكيمًا، وبهذا ضاعت العِبَر، واختفت الدروس، وفَقَد المسلمون أحد أهم كنوزهم.
    لذا كان لزامًا علينا أن نقوم بحملة دراسة شاملة لدراسة التاريخ الإسلامي من كل جوانبه؛ فنصحِّح كل هذه التجاوزات، ونعيد الأمور إلى نصابها، وبالتالي نستطيع الاستفادة من هذا الكنز الهائل.
    لماذا دراسة قصة الحروب الصليبية؟
    يقع بين أيدينا موضوع من أهم الموضوعات التاريخية، وهو قصة الحروب الصليبية، وهي قصة في غاية الأهمية، ودراستها حتمية لفَهْم كثيرٍ من الأمور، سواء في التاريخ أو في الواقع؛ فدراسة هذه القصة مهمَّة لفهم التاريخ الإسلامي، وهي كذلك مهمة لفهم واقعنا الذي نعيش فيه الآن.
    لذا قد وقع اختيارنا على دراسة قصة الحروب الصليبية لعدة أسباب، كان منها:
    أولاً: فترة طويلة من التاريخ الإسلامي بل والإنساني

    إنها أكثر من مائتي سنة، أي ما يمثِّل 1/7 التاريخ الإسلامي، فإن كنا نرى للتاريخ الإسلامي أهمية، فلا شك أن دراسة هذه الفترة أمر في غاية الأهمية.
    وليست دراسة هذه الفترة مهمة للمسلمين فقط، بل اهتم بها الأوربيون وغيرهم من مفكري العالم وعلمائه؛ فقد ظلت الحروب الصليبية مسيطرة على الفكر الأوربي وعقلية الأدباء والشعراء وعموم الناس أكثر من ثلاثة قرون متصلة، وذلك من سنة (488هـ) 1095م حين بدأت هذه الحروب وحتى سنة (802هـ)1400م بعد انتهائها بقرن كامل، بل وظل الاهتمام بها مستمرًّا في كل جامعات ومعاهد أوربا وأمريكا إلى الآن، حتى إنه في دراسة قام بها المؤرخ نورمان كانتور وجد أن الحادث الوحيد الذي يعرفه الخريج العادي من الجامعات الأمريكية فيما يتعلق بتاريخ العصور الوسطى هو الحملة الصليبية الأولى، ووجد أيضًا أن انطباعات هؤلاء الخريجين عن هذه الحملة إيجابية جدًّا[1].
    ثانيًا: فهم الأيدلوجيات المختلفة للأطراف المتصارعة

    ولأن هذه الفترة طويلة فإننا نستطيع أن نرصد فيها الأيدلوجيات المختلفة للأطراف المتصارعة، فإن أفكار المجتمع الغربي وأهداف محركي الجموع والجيوش وواضعي السياسيات والنظم قد تكون شاذة عن المألوف لو كانت عابرة أو مؤقتة، ولكن ثبات هذه الأيدلوجيات عشرات السنين أو مائتين من السنين يؤكد أن هذه الأيدلوجيات عقائد ثابتة راسخة، وليس مجرَّد فكرة طارئة خرجت من ذهن متهوِّر أو جاهل.
    وبهذا سنفهم خلفيات الغرب الأوربي في حربه للمسلمين، وهي الخلفيات التي حكمت الصراع قديمًا بين المسلمين والنصارى من الدولة الرومانية، كما سنفهم خلفيات المجاهدين المسلمين وطرقهم في الحرب، وفي المعاهدة، وفي التعامل مع غير المسلمين، ومناهجهم في التغيير.
    إنها دراسة رائعة في نفسيات البشر، وأدبيات الصراع بين القوى المختلفة، خاصةً إذا كان الإسلام طرفًا في القضية.
    ثالثًا: مدى التشابه العجيب بين التاريخ والواقع المعاصر

    يبرز احتياجنا لدراسة الحروب الصليبية بدرجة أكبر عند رؤية التشابه العجيب بين هذه الحقبة القديمة التي مرَّ عليها أكثر من تسعة قرون، وبين زماننا المعاصر الذي نعيش فيه الآن.
    فكما قامت قوات التحالف الغربي بغزو العالم الإسلامي، وكما رأينا التكاتف بينهم لحرب واحدة، وكما رأينا التعاون بين الساسة والحربيين ورجال الدين وأهل الاقتصاد والعلوم لإمضاء هذه الحرب وإنفاذها، فإننا نرى الآن نفس هذا التكاتف والتعاون والتنسيق لحرب العالم الإسلامي في أكثر من بقعة.

    وكما رأينا غزو الصليبيين للشام وفلسطين وأجزاء من تركيا ومصر بل والحجاز، نرى الآن الهجمات المستمرة، والجهود المتتالية التي نجحت في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي مثل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير والبوسنة وكوسوفو، ونراها تخطط بحرص وتدبير في السودان والصومال ولبنان وسوريا، وليست مصر أو إيران أو باكستان أو تركيا ببعيدة عن الخطر.
    وكما رأينا كيانًا غريبًا يُزرع في فلسطين عُرف بعد ذلك بمملكة بيت المقدس الصليبية، ورأينا هذا الكيان يستمر عشرات السنين، ورأيناه يُمَدُّ بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي، رأينا أيضًا الآن الكيان اليهوديّ الصهيوني يُزرع في نفس الأرض، في فلسطين، ويُمد بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي أيضًا.
    وكما رأينا الفكر الاستيطاني الذي كان من محركي الحروب الصليبية، وكيف أنهم جاءوا برجالهم ونسائهم وأطفالهم لا لينتصروا في معركة ويعودوا بغنائم، ولكن ليعيشوا ويستقروا ويمتلكوا وينسوا تمامًا روابطهم القديمة وجذورهم الأصلية؛ كما رأينا ذلك رأينا الآن اليهود الصهاينة يقومون بنفس الشيء ويهاجرون إلى الأرض المباركة بكل عائلاتهم ليستقروا بلا عودة.
    وكما رأينا التخاذل من كثير من زعماء العرب والمسلمين، وظهور نماذج مخزية في تاريخ الحروب الصليبية تفسِّر الانهيارات المروعة التي حدثت في مقاومة المسلمين للمدِّ الصليبي، نرى الآن نفس التخاذلات وبنفس الروح، وبصورة تكاد تتطابق، فلا يهب جيشٌ ولا زعيم لنصر المكروبين في بلاد العالم الإسلامي المحتل.
    وكما رأينا حرصًا من أعداء الأمة على منع الوحدة بين ولايات الشام، وعلى منع الوحدة بين مصر والشام، وعلى منع الوحدة بين أي زعيمين مسلمين؛ لأن في هذا بقاء لهم أطول وأعظم، رأينا نفس الحرص من الغرب الصليبي في زماننا، وقد نجحوا في ذلك أيَّما نجاحٍ؛ فلا تكاد ترى قطرين مسلمين متجاورين إلا وبينهما صراع ونزاع.
    وأوجه التشابه أكثر من أن تحصى، وعند دراسة القصة بشكل تفصيلي سنشعر وكأننا لا نقرأ صفحات من تاريخ مضى، ولكن نقرأ واقع حياتنا، وقصة مجتمعاتنا التي نعيش فيها الآن.
    رابعًا: وضوح طبيعة الاختلاف الفكري والفقهي والعقائدي بين السنة والشيعة

    يظهر أيضًا بجلاء في قصة الحروب الصليبية الاختلاف الفكري والفقهي والعقائدي في قضية حسَّاسة جدًّا داخل كيان الأمة الإسلامية، وهي قصة السُّنَّة والشِّيعة، وذلك أن الأحداث تدور في منطقتي الشام ومصر، وهما واقعتان تحت سيطرة سلجوقية سُنِّيَّة من جهة، وعبيديّة فاطمية شيعية من جهة أخرى، وهذا أفرز مواقف كثيرة تعين على فهم دقائق الأمور في زماننا الآن، وكذلك مستقبلاً.

    خامسًا: دراسة الحروب الصليبية مفيدة للتعرف على مستقبل الأمة الإسلامية

    دراسة الصراع مع الصليبيين ليس أمرًا مفيدًا لواقعنا فقط، بل هو مفيد لمستقبلنا أيضًا؛ فمن الواضح أنه لن يأتي زمانٌ تندثر فيه هذه الصراعات وتلك الصدامات، ولكنها قد تهدأ أحيانًا وتنشط أحيانًا أخرى، ولكنها على كل حال ستستمر إلى يوم القيامة. وفي ذلك جاءت أحاديث مختلفة لرسول الله ، وهي أحاديث صحيحة تؤكد استمرار هذه الصورة الحادَّة من العلاقة؛ ومن هذه الأحاديث مثلاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه قَالَ:

    "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا. فَيُقَاتِلُونَه ُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لاَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لاَ يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَ ّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ. فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشام خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لاَنْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ"[2].
    سادسًا: بيان الحقائق وكشف التزوير من تاريخ الأمة الإسلامية

    من الدوافع المهمة لدراسة هذه الحقبة الخطيرة من تاريخ الأمة، التزوير الذي حدث في القصة، وبصورة مكثفة؛ وذلك لثراء القصة أدبيًّا، وولع الكتّاب والمؤلِّفين والأدباء بها، سواء من المسلمين أو الغربيين.
    ولا يخفى على أحد أن الأديب لا يهتم كثيرًا بصحة الوقائع التاريخية، ولكن يروي ما يراه يخدم القصة، بل قد يخترع شخصيات وهمية، أو يخترع قصصًا وهمية لأشخاص حقيقيين لتأييد معنى، أو ترسيخ فكرة، وهذا يشوِّش على الناس الكثير من الحقائق، ويصبح المستمع أو القارئ رهينة لفكر المؤلف أو الأديب، هذا فوق التزوير المغرض والتحريف المتعمد الذي استهدف في الأساس تشويه الرموز الإسلامية وتعظيم النوايا الصليبية، وإظهار الموضوع بشكل مغاير تمامًا للحقيقة.

    ولعل من أكبر التزويرات في تاريخ الحروب الصليبية هو إطلاق هذا الاسم عليها! فالحروب الصليبية لم تكن معروفة بهذا الاسم طيلة الفترة التي حدثت فيها، بل والتي تبعتها، ولم يعرف هذا الاسم إلا في القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده، وكان الجميع يطلق على الحروب الصليبية أسماء أخرى مثل: الحملة، أو رحلة الحجاج، أو الرحلة للأراضي المقدسة، أو الحرب المقدسة.
    أما لماذا اشتهر هذا الاسم فلكونه يحمل معنى الحرب النبيلة، ويُوحِي بالشجاعة والتضحية، ويعبِّر عن الفداء الذي يحبه النصارى، وهي جميعًا صفات لم توجد البتَّة في هذه الحروب، بل كانت حروبًا تجسِّد كل معاني القسوة والعنف والظلم والإجرام، ولكن الانطباع العام عند الأوربيين والأمريكان أنها كانت حرب نبيلة تهدف إلى غايات سامية، واستعملت وسائل شريفة؛ وهذا يفسِّر الكلمة التي قالها جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وهو يصف الحرب الأمريكية على العراق بأنها "حرب صليبية". فهو لا يعني بهذه الكلمة أيَّة ميولٍ عدوانية، إنما هو يسترجع الموروث الثقافي عنده وعند الشعوب النصرانية الأمريكية وغيرها، ومن ثَمَّ يوجه رسالة مباشرة وغير مباشرة إلى كل هذه الشعوب أن هذه الحرب نبيلة وشريفة، وتضحِّي فيها أمريكا من أجل سعادة الإنسانية.
    ومع هذا الخلط الشديد في مصطلح الحروب الصليبية إلا أن الخروج منه أصبح صعبًا جدًّا، وخاصةً أن الأجيال الأخيرة من المؤرِّخين المسلمين درست في معظمها على أيدي العلماء الأوربيين، وبالتالي تبنَّوا دون مقاومة نظرياتهم وتحليلاتهم وتقسيماتهم للتاريخ ومصطلحاتهم في وصفه، ولم يعُدْ يجدي هنا أن نتحدث عن الحملة الاستعمارية الأولى، أو عن حملة أوربا الغربية، أو عن حروب النصارى أو غير ذلك من المصطلحات؛ لأنها كلها ستصرف الذهن حتمًا إلى شيء آخر غير ما نعنيه من معارك وأحداث؛ ولذا جاء اسم الكتاب (قصة الحروب الصليبية) مع رفضنا التام لهذه التسمية.
    سابعًا: تحليل الأهداف والبواعث التي كانت وراء الهجمات الصليبية الشرسة

    من أهداف دراسة الموضوع أيضًا تحليل الأهداف والبواعث التي كانت وراء هذه الهجمة الصليبية الشراسة، وذلك أن المؤرِّخين والمحلِّلين انقسموا في ذلك إلى فرق شتى؛ فمنهم من يؤكِّد الدافع الديني، وآخرون يؤكدون الدوافع الاقتصادية، وفريق ثالث يؤكد الدوافع السياسية، وفريق رابع يؤكد الأبعاد الأخلاقية لهذه الحرب، وفريق خامس يجمع عاملين أو ثلاثة، أو يجمع كل العوامل مع تقديم وتأخير، وحذف وإضافة.

    فهذا موضوعٌ أعملَ فيه الكثيرُ والكثير فكرهم وذهنهم وجهدهم، واختلفت فيه التفسيرات بحسب الخلفيات العقلية والعلمية والدينية لكل محلِّل أو دارس.
    ثامنًا: إبراز الصفحات المشرقة لجهاد الكثير من أعلام المسلمين ومجاهديهم

    من أسباب هذه الدراسة أيضًا إبراز الصفحات المشرقة لجهاد الكثير من أعلام المسلمين ومجاهديهم؛ فإن معظم من تناولوا هذا الحدث قصروا الجهد كله على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وهو وإن كان مجاهدًا من أعظم المجاهدين في تاريخ المسلمين إلا أنه ليس الوحيد الذي حمل راية الجهاد في قصة الصليبيين، فهناك الكثير ممن سبقوه، وكذلك ممن لحق به، ومع ذلك لم يسمع بهم معظم المسلمين، وإلا فمن يعرف مودودًا؟! ومن يعرف سقمان بن آرتق؟! ومن يعرف آق سنقر؟! وغيرهم وغيرهم من المجاهدين العظماء، بل مَن يعرف تفاصيل حياة المشهورين من أمثال عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، ونجم الدين أيوب، وغيرهم من أبطال الإسلام؟!

    فهذه الدراسة ستثبت لنا أن الجهد الذي بذل لتحرير بلاد الإسلام إنما هو جهد أمة وليس جهد أفراد، وأن هناك من الأتقياء الأخفياء في تاريخنا ما لا يتخيله إنسان، وأن الأمة لا تزال -ولن تزال- بخير إلى يوم القيامة.
    تاسعًا: بيان دور العلماء في تحرير بلاد المسلمين من الصليبيين

    أغفل الكثير من المحللين أيضًا دور العلماء في تحرير بلاد المسلمين من الصليبيين، فلا يوجد لهم حديث إلا عن القوَّاد والمقاتلين، وليس هناك تفصيل إلا في المعارك العسكرية، والصدامات الحربية. وهذا مخالف لطبيعة الأشياء، ولسنن التغيير في هذه الأمة، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية العودة إلى الله وتطبيق الشرع، والحرص على الحلال، ونبذ المنكر والحرام، وهذه أدوار يقوم بها العلماء المخلصون، وهم في قصة الحروب الصليبية كُثُر، ولكن لم يركز عليهم إلا قليل القليل من المؤلِّفين والمحلِّلين، مع أنه بغير فَهْم دورهم والتركيز عليه، لن نستطيع أن نفهم طريقة البناء، ولا أسلوب الخروج من الأزمة.

    عاشرًا: أن الآثار الناجمة عن الحروب الصليبية لم تكن محدودة الوقت بل ممتدة لوقتنا الحاضر

    وندرس الحروب الصليبية أيضًا لأن الآثار الناجمة عنها آثار هائلة ضخمة، لم تكن محدودة بفترة المائتي سنة التي وقعت فيها هذه الحروب ولكنها امتدت بعد ذلك طويلاً، وليس لعدة سنوات بل لعدة قرون, بل إننا ما زلنا إلى لحظتنا هذه نعاني من آثار هذه الحروب المريرة. ولعل من أبرز الآثار المباشرة لهذه الحروب هو توقُّف المد الحضاري الإسلامي العظيم، الذي كان في أوج عظمته، وأبلغ مظاهره، حتى جاء الصليبيون فشغلوا طاقات الأمة وجهودها في حروبهم، وبالتالي استنزفت كل الطاقات، وتبدَّدت كل الجهود، ووقفت المسيرة الخالدة التي حمل المسلمون رايتها عدة قرون متتالية.
    ثم إنه من الناحية الأخرى -وبعد هذه الحروب الصليبية الشرسة- أخذ الصليبيون التراث العلمي الإسلامي العظيم من بلاد المسلمين، وخاصةً الأندلس وصقلية، وأحيانًا من بلاد الشام، ثم بدءوا بشغفٍ واهتمام يترجمونه ويعكفون على دراسته وتطبيقه، وكان هذا -لا شكَّ- نواةً للحضارة الأوربية التي قامت في القرن الخامس عشر وما بعده.
    فكما نرى، فإن هذا تغيرٌ محوري في مسيرة البشرية، قاد أمة إلى تخلفٍ وانحدار، وقاد أمة أخرى إلى علوٍّ وازدهار. نَعَمْ ليس هذا هو العامل الوحيد لهذه الأزمة التي مرت بها الأمة الإسلامية، ولكن لا شكَّ أنه من أهمِّ العوامل.
    مقارنة بين دوافع الفتوحات الإسلامية ودوافع الحروب الصليبية
    كل ما سبق لعله يجرُّنا إلى الحديث والتعليق على الفتوحات الإسلامية، ومقارنتها بالحروب الصليبية، وشتَّان، فالدوافع والوسائل والنتائج كلها مختلفة تمام الاختلاف.
    فالدوافع الإسلامية كانت رفع الظلم عن كواهل الشعوب، والتعريف بدين الإسلام دون قهر أو إجبار، ثم إنها كانت -في كثيرٍ من الأحيان- دفاعًا عن تعدٍّ صارخ من القوى المختلفة المحيطة بالمسلمين.
    والوسائل الإسلامية في الحروب كانت في منتهى الرقي، ولعل الأمة الإسلامية هي الوحيدة التي عرفت معنى أخلاق الحروب، وأهم ما يميِّز هذه الحروب هو البعد تمامًا عن إيذاء المدنيين، وكذلك حسن المعاملة للأسرى، بل والتعامل النبيل الشهم مع قادة العدوِّ عند التمكُّن منهم.
    ونتائج الحروب الإسلامية كانت مختلفة كذلك عن نتائج حروب الآخرين، فبينما جعل الآخرون من هممهم هدم الحضارة، ووقف مسيرة الإنسانية، جعل المسلمون من هممهم نشر العلم والفضيلة، والأخذ بأيدي الشعوب إلى أسمى معاني الرقي والتقدم.
    ولينظر كل منصف إلى الأندلس قبل الإسلام وبعده..
    ولينظر إلى مصر قبل الإسلام وبعده..
    ولينظر إلى المغرب قبل الإسلام وبعده..
    ولينظر إلى بخارى وسمرقند ومدن الشام واليمن وغيرهم قبل الإسلام وبعده..
    لقد كانت نقلة حضارة إنسانية بكل المقاييس.. وهذا لم نره أبدًا في الحروب الصليبية، ولا في أيِّ حروب لم تحتكم إلى دين صحيح أو خُلُق قويم.

    [1] نورمان كانتور: التاريخ الوسيط: قصة حضارة - البداية والنهاية 2/391، 392.

    [2] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في فتح قسطنطينية (2897)، والحاكم (8486)، وابن حبان (6813).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


    الصراع بين النصرانية والإسلام في بلاد المشرق الإسلامي (2)













    التجمعات النصرانية قبيل البعثة
    قبيل بعثة النبوة كانت القوة المسيحية ممثَّلة أساسًا في الدولة البيزنطية أو ما يعرف بالإمبراطورية الرومانية الشرقية، وذلك بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476م (قبل ميلاد الرسول بمائة سنة تقريبًا). وكانت الدولة الرومانية الشرقية تسيطر على شرق أوربا بكامله، إضافةً إلى الأناضول، وفوق ذلك فإنها كانت تحتل بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا، فصارت بذلك أعظم دولة في العالم، ولقد عرف البحر الأبيض المتوسط ببحر الروم لأن الأملاك الرومانية كانت تحيط به من كل جانب.

    وكان المسيحيون في خارج الدولة البيزنطية لا يمثِّلون كيانًا كبيرًا إلا في بقاع متفرقة:
    - غرب أوربا: إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا.

    - إفريقيا: الحبشة أساسًا.

    - الجزيرة العربية: نصارى الشام من العرب (الغساسنة/ تغلب/...)، نصارى اليمن ونجران.

    - آسيا: لم يكن فيها نَصَارى تقريبًا.

    الصراع بين النصرانية والإسلام في عهد رسول الله
    ثم ظهرت الدعوة الإسلامية في بدايات القرن السابع الميلادي، وهي دعوة للناس كافة. يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]. ويقول الرسول : "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً"[1].
    استلزم ذلك أن يُرسِل رسول الله الرسائل إلى ملوك وأمراء العالم، وذلك في بدايات العام السابع الهجري بعد صلح الحديبية. وأهمهم: هرقل قيصر الروم، وكذلك: النجاشي ملك الحبشة، والمقوقس زعيم مصر[2].
    ومع يقين هرقل بصدق النبوة كما سيظهر من حواره مع أبي سفيان إلا أنه لم يؤمن[3]؛ وذلك حفاظًا على ملكه، بل سنراه بعد ذلك يجهِّز الجيوش لحرب المسلمين عدة سنوات. كذلك حدثت تطورات خطيرة في العلاقة الإسلامية المسيحية، عندما قُتل بعضُ رسل رسول الله إلى زعماء النصارى، وتحديدًا الحارث بن عُمَيْر الأزديّ الذي قتله شُرَحْبِيل بن عمرو الغسَّاني[4]؛ مما أدى إلى الصدام العسكري الأول بين المسلمين والمسيحيين في موقعة مؤتة سنة 8هـ، التي انتهت بانتصار المسلمين وتراجع الرومان، وكذلك انسحاب خالد بن الوليد بالجيش مكتفيًا بزوال هيبة الجيش النورماني العملاق[5].
    وأتبع ذلك ببوادر صدام ضخم لم يتم، وكان ذلك في تبوك سنة 9هـ؛ حيث انسحبت الجيوش الرومانية ولم يحدث قتال، وإن كان ظهر للعيان قوة الدولة الإسلامية الناشئة[6].
    ولم تكن كل العلاقة الإسلامية المسيحية علاقة حروب، بل كانت هناك علاقات أخرى كثيرة من التعايش والتعاهد، مثلما حدث مع الحبشة ونصارى نجران ونصارى أيلة وغير ذلك.
    ولكن وضح في الصورة أن الدولة البيزنطية ستحمل لواء الصراع مع المسلمين في السنوات، بل القرون المقبلة.
    الصراع بين النصرانية والإسلام في عهد الخلفاء الراشدين
    ثم كان الصدام مباشرًا في عهد الخلفاء الراشدين وقويًّا أيام خلافة أبي بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، وكانت المعارك الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون مثل أجنادين وبيسان[7]، ثم موقعة اليرموك الكبرى، ثم فتح دمشق وحمص وحماة، ثم فتح بيت المقدس وسقوطه في أيدي المسلمين، وبالتالي فتح كل مدن فلسطين ولبنان وسوريا وأجزاء من تركيا، كل ذلك في غضون سبع سنوات فقط؛ حيث بدأت هذه المعارك في (12هـ) 633م، وسقطت قيصريَّة سنة (19هـ) 640م، وهي آخر معاقل الدولة البيزنطيَّة جنوب جبال طوروس[8].
    ثم تطوَّر الصدام ليكسب المسلمون جولة ثانية مهمة جدًّا بعد الشام وفلسطين وهي مصر؛ حيث انتصر المسلمون على جيوش الرومان التي كانت تحتل مصر أكثر من تسعمائة سنة، فكان الفتح الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص في سنة (20هـ) 641م، ثم وصلت الفتوح إلى برقة بليبيا سنة (22هـ) 643م[9].
    الصراع بين النصرانية والإسلام في عهد الخلافة الأموية

    وفي جولة جديدة، وحلقة أخرى من حلقات الصراع وصل المسلمون إلى شمال إفريقيا في زمن الخلافة الأموية أيام معاوية بن أبي سفيان ، حيث قام عقبة بن نافع بفتح تونس سنة (43هـ) 664م، ودارت حروب شتى بين المسلمين والدولة البيزنطية مشتركة مع البربر، انتهت بضم كل شمال إفريقيا للدولة الإسلامية، ودخول البربر بأعداد كبيرة في الإسلام[10].
    ثم فتحت في سنة (92هـ) 711م جبهة جديدة لحرب الصليبيين، حيث فتحت الأندلس بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد[11]، وأتمَّ المسلمون السيطرة عليها في غضون ثلاثة سنوات ونصف، بل وتجاوزوها إلى فرنسا، ودارت هناك مواقع كثيرة اقتسم فيها الفريقان النصر، وإن كان النصر في فرنسا في النهاية كان للصليبيين في موقعة بلاط الشهداء سنة (114هـ) 732م[12]، التي أوقفت المد الإسلامي في أوربا، ونشأت بعض الممالك النصرانية في شمال الأندلس، أهمها ليون وقشتالة وأراجون ثم البرتغال بعد ذلك، ودارت بينهم وبين المسلمين حروب متعددة على مدار عدة قرون.
    وعلى هذا فقد صار هناك جبهتان للصراع بين الأمة الإسلامية وبين نصارى أوربا؛ أما الجبهة الأولى فهي بين الدولة الإسلامية في المشرق متمثلة في الخلافة الأموية، ثم العباسية ضد الدولة البيزنطية.
    وأما الجبهة الثانية فكانت بين الدولة الإسلامية في الغرب وهي الأندلس، وبين الممالك النصرانية في شمال الأندلس متعاونة كثيرًا مع فرنسا، وأحيانًا مع إنجلترا وألمانيا وإيطاليا.
    وحيث كانت الخلافة الأموية تتخذ من بلاد الشام مركزًا لها، فإن الحروب بينها وبين الدولة البيزنطية كانت كثيرة، بل كانت هناك محاولات حقيقية لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ولكن كلها لم تفلح[13].
    الصراع بين النصرانية والإسلام في عهد الخلافة العباسية
    وفي عهد الخلافة العباسية الذي بدأت من سنة (132هـ) 750م، خَفَتَ إلى حد كبير حدة الصراع بين الدولة الإسلامية والبيزنطية؛ وذلك لأن الخلافة العباسية اتخذت من بغداد والعراق مركزًا لها، وبالتالي صار قلب العالم الإسلامي بعيدًا نسبيًّا عن الدولة البيزنطية[14]، وإن كانت الحروب لم تتوقف، وكان ميدانها في غالب الأحيان أرض آسيا الصغرى، ومن أشهر الصدامات تخريب الدولة البيزنطية لمدينة زبطرة[15] مسقط رأس الخليفة العباسي المعتصم، وذلك في سنة (223هـ) 838م، ثم بعدها حدث الانتصار الإسلامي الكبير بفتح عَمُّورِيَّة مسقط رأس الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل سنة (223هـ) (838م)[16].

    ثم شهدت الدولة العباسية ابتداءً من منتصف القرن الثالث الهجري (منتصف القرن التاسع الميلادي) تدهورًا ملحوظًا، وظهرت الدُّوَيلات المتفرقة بداخلها، ومنها على سبيل المثال: الدولة الغزنوية، والدولة السامانية، والدولة الزيارية، والدولة الحمدانية، والدولة البويهية، والدولة الإخشيدية، الدولة الطولونية وغيرهم[17].
    انكسار الشوكة الإسلامية

    وهكذا ضعفت الشوكة الإسلامية، وأدى ذلك إلى أن بدأت الدولة البيزنطية تقف موقفًا حازمًا من المسلمين، حتى إنها في بداية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ضمت معظم مدن الجزيرة تحت السيطرة البيزنطية، ثم سقطت الجزر التي كان المسلمون قد سيطروا عليها في البحر الأبيض المتوسط مثل كريت وقبرص وذلك في سنة (350هـ) 961م؛ مما أعاد للأساطيل البيزنطية السيطرة من جديد على البحر الأبيض المتوسط، ثم حدث أمر كبير في سنة (358هـ) 969م حيث سقطت أنطاكية، وهي من أهم المدن في يد البيزنطيين، وكان لهذا دويٌّ هائل في العالمين الإسلامي والمسيحي[18].

    ثم حدث أمر ضخم في الأمة الإسلامية حيث سقطت مصر تحت سيطرة الدولة العبيديّة الشيعية المعروفة بالفاطمية، وذلك في سنة (358هـ)969م[19]، وبذلك انقسم العالم الإسلامي إلى قسمين كبيرين وهما: الخلافة العباسية السُّنِّية الضعيفة التي وقعت تحت سيطرة دولة بني بويه الشيعية، والدولة الفاطمية الشيعية التي تسيطر على شمال إفريقيا ومصر وأجزاء من الشام. وهكذا ازدادت الأمة الإسلامية ضعفًا وفُرقة، وهذا أعطى للدولة البيزنطية الفرصة لكي تزداد جرأة في حربها للأمة الإسلامية، فكان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي) ميدانًا واسعًا للبيزنطيين، اجتاحوا فيه أعالي الشام والعراق، حتى وصل الأمر إلى أن دفعت الموصل وميافارقين وديار بكر، بل وحمص ودمشق الجزية للإمبراطور البيزنطي حنا شمشقيق (تزمستكيس)[20].
    ومن الجدير بالذكر أن هذه الحملة الأخيرة للإمبراطور البيزنطي كانت تستهدف بيت المقدس إلا أنه لم يستطع الوصول له، وكانت تفيض من كلماته ورسائله العبارات الدينية التي تؤكد الروح الصليبية التي كان مشحونًا بها في حربه[21].
    وهذا الوجود البيزنطي في بلاد الشام وأنطاكية سيفسِّر لنا النزاع المستقبلي الذي سيدور بينهم وبين الصليبيين الغربيين حول الحق الشرعي في امتلاك هذه الأراضي والمدن.
    أما القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) فقد شهد نموًّا للدولة الفاطمية، وتراخيًا من الدولة البيزنطية؛ نتيجة انشغالهم بحرب البلغار، وأيضًا لانشغالهم بضم بمملكة أرمينية النصرانية، التي كانت قد بلغت حدًّا مغريًا من الرخاء والتقدم، شجَّع البيزنطيين على بذل الجهد لضمها، وهذا أدى إلى أن بسطت الدولة الفاطمية سيطرتها على معظم الشام باستثناء حلب وأنطاكية.
    وفي هذا القرن الخامس الهجري أيضًا ظهرت دولة السلاجقة الإسلامية العظيمة، وكان لها دور كبير في الصراع الإسلامي النصراني، وسوف نفرد لها صفحات كثيرة في هذه المقالات للحديث عن مواقفها في هذا الصراع.
    كان هذا هو الوضع في المشرق الإسلامي من بداية البعثة النبوية إلى أواخر القرن الخامس الهجري (خمسة قرون متتالية من الحروب المستمرة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية).

    [1] البخاري: أبواب المساجد، باب قول النبي r "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" عن جابر بن عبد الله (427) واللفظ له، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521)، وأحمد (14303)، والدرامي (1389)، وابن حبان (6398).
    [2] انظر ابن أبي شيبة: المصنف في الأحاديث والآثار 7/347.
    [3] انظر القصة في البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل (1773)، وأحمد (2370).
    [4] انظر: ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/589.
    [5] انظر غزوة مؤتة: ابن هشام: السيرة النبوية 2/378:373.
    [6] انظر غزوة تبوك: ابن هشام: السيرة النبوية 2/515.
    [7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/347، 359.
    [8] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 335، 448، 511.
    [9] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/512، 534.
    [10] ابن كثير: البداية والنهاية 8/45.
    [11] ابن كثير: البداية والنهاية 9/83.
    [12] ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/27، وابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص216، 217.
    [13] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/61.
    [14] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/48،47.
    [15] زبطرة: من الثغور الجزرية، بينها وبين ملطية أربعة فراسخ وهي حصن منيع كثير الأهل قديم رومي، فتحه حبيب بن مسلمة الفهري وكان قائماً إلى أن أخربته الروم أيام الوليد بن يزيد، فبني بناء غير محكم فهدمته الروم في فتنة مروان، فأعاده المنصور فهدمته الروم فبناه الرشيد وشحنه، فطرقته الروم في خلافة المأمون وأغاروا على سرح أهله فأمر المأمون بتحصينه. انظر: الروض المعطار 1/285.

    [16] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 5/235.
    [17] انظر: سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/50.
    [18] Schlumberger: Un Empereur Byzantin au Dixieme Sieclm, Nice – phore phocas, 723.
    [19] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 11/266.
    [20] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 11/271.
    [21] Grousset: Hist, de lP`Armenie, p484. & Cam. Med Vol. 4,p. 148.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    الصراع بين النصرانية والإسلام في عهد الخلافة العثمانية والأندلس (3)


    الصراع بين النصرانية والإسلام في عهد ملوك الطوائف

    في الوقت الذي كانت الحروب مستعرة في شرق العالم الإسلامي كانت الحروب كذلك مستمرة في غرب العالم الإسلامي بين مسلمي الأندلس والدول النصرانية الغربية (شمال إسبانيا وفرنسا في الأساس)، وكانت الأيام دُولاً بين الفريقين؛ فيوم للمسلمين ويوم للصليبيين، إلا أن القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كان في معظمه للصليبيين، وهو العصر الذي عُرِف في التاريخ بعهد ملوك الطوائف، حيث تفرقت جدًّا كلمة المسلمين؛ مما أدى إلى اجتياح صليبي لقطاع كبير من شمال الأندلس، وخاصةً في زمن ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة، الذي أسقط في سنة (478هـ) 1085م مدينة طليطلة العتيدة؛ مما أحدث دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي[1].

    الصراع بين النصرانية ودولتي المرابطين والموحدين


    غير أن نهاية هذا القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كانت سعيدة للمسلمين؛ حيث ظهرت دولة المرابطين القوية بالمغرب وغرب إفريقيا، وعبرت إلى بلاد الأندلس، وأنزلت بالصليبيين هزيمة فادحة في موقعة الزَّلاَّقَة سنة (479هـ) 1086م، أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة، وبسطت دولة المرابطين سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأندلس، إلا أنهم فشلوا في استرجاع طليطلة[2].

    وكتقييم عام للموقف في نهاية القرن الخامس الهجري (نهاية القرن الحادي عشر الميلادي)، فإن العالم الإسلامي كان منقسمًا بين الخلافة العباسية تحت سيطرة السلجوقيين وبين الدولة الفاطمية ومقرها القاهرة، وكانت نهايات القرن الخامس الهجري تمثِّل ضعفًا وفُرقة واضحين في الشرق الإسلامي، بينما كانت نهاية القرن الخامس الهجري في الأندلس تحمل قوة بارزة للمسلمين بظهور دولة المرابطين الفتيَّة تحت قيادة القائد الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله.
    ومن ثَمَّ فإنه عند ظهور الحركة الصليبية في غرب أوربا في هذا التوقيت -على نحو ما سنشرح في بإذن الله- فكَّروا في غزو الشرق الإسلامي الضعيف، وهذا للمرة الأولى في تاريخ غرب أوربا، بدلاً من الانطلاق إلى الأندلس القوية تحت زعامة المرابطين. وهكذا بدأت الحروب الصليبية من نهايات القرن الخامس الهجري وحتى نهايات القرن السابع الهجري (أكثر من مائتي سنة؛ من نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي).
    استمرت هذه الحروب الشرسة فترة الخلافة العباسية ودولة السلاجقة، وكذلك الدولة الزنكية فالأيوبية فدولة المماليك، وانتهت بطرد الصليبيين الغربيين وعودة الأراضي الإسلامية للمسلمين، كما ذكرنا في أواخر القرن السابع الهجري.
    وعلى الناحية الأخرى فإنه على الرغم من هزيمة الصليبيين من دولة الموحدين التي ورثت دولة المرابطين في موقعة الأرك سنة (591هـ) 1194م فإن أوائل القرن السابع الهجري شهد في الأندلس تقدمًا ملحوظًا للصليبيين، حيث انتصروا على دولة الموحدين في موقعة العقاب سنة (609هـ) 1212م، ثم توالى سقوط المعاقل الإسلامية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية[3]، ولم يتبقَّ للمسلمين في نهاية القرن السابع الهجري إلا مملكة غرناطة الصغيرة في جنوب الأندلس، التي قُدِّر لها أن تعيش حوالي قرنين ونصف القرن من الزمان[4].

    الصراع بين النصرانية والخلافة العثمانية

    وكانت نهايات القرن السابع الهجري قد شهدت أيضًا ظهورًا لدولة العثمانيين، الذين حملوا راية الجهاد ضد الدولة البيزنطيَّة، وذلك بعد رحيل الصليبيين الغربيين.
    وفي القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) كانت الفتوحات العثمانية الإسلامية في منطقة آسيا الصغرى مستمرة، بينما استقرت أوضاع الأندلس أو غرناطة نسبيًّا.
    أما القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) فقد شهد استمرارًا لحروب العثمانيين ضد البيزنطيين، وتُوِّجت هذه الحروب بانتصار مهيب، حيث فتحت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ 1453م؛ مما فتح الطريق للمسلمين لينساحوا في شرق أوربا[5].
    ومع هذا السرور العظيم الذي نَعِمَ به العالم الإسلامي على الجبهة الشرقية للنزاع بين المسلمين والنصارى، إلا أن القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) شهد حادثًا مؤسفًا جدًّا، وهو سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وبالتالي خروج المسلمين بالكُلِّيَّة من الأندلس بعد أكثر من ثمانية قرون، وذلك في سنة (897هـ) 1491م[6].
    ورغم محاولات الدولة العثمانية لنجدة المسلمين في الأندلس إلا أن محاولتهم باءت بالفشل؛ لانشغال العثمانيين بالحروب مع شرق أوربا من جهة، والصفويين الشيعة في إيران من جهة أخرى[7].
    أما القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) فكان عثمانيًّا خالصًا؛ إذ وصلت الفتوحات العثمانية الإسلامية إلى منتصف أوربا تقريبًا، واستطاع العثمانيون في عهد سليم الأول وسليمان القانوني أن يضما معظم أملاك الدولة البيزنطية إلى المسلمين، وبذلك دخلت اليونان وألبانيا ويوغوسلافيا والمجر وبلغاريا في نطاق الدولة الإسلامية، ووصلت الجيوش الإسلامية إلى فيينا عاصمة النمسا، وقَبِل ملك النمسا آنذاك أن يدفع الجزية للمسلمين.
    وفي هذا القرن حاول الأسبان والبرتغال احتلال دول شمال إفريقيا إلا أن المحاولات لم تكن ناجحة في الأغلب، اللهم إلا نجاح الأسبان في انتزاع سبتة ومليلة من المغرب سنة (987هـ) 1580م، وبقائهما تحت الاحتلال حتى الآن. وفي القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) بدأ التقلص العثماني في أوربا، واستطاعت بعض الدول الأوربية الانتصار على الدولة العثمانية في عدة لقاءات.
    وعلى الساحة الغربية كان التفوق الإسباني والبرتغالي ملحوظًا، وإن كان التفوق الهولندي كان أشدَّ وأكثر.
    أما القرون الثلاثة التالية وهي القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر الهجري (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون الميلادي)، فقد كان التفوق الصليبي واضحًا، وبدأت الدولة العثمانية في التقلص التدريجي تحت ضربات إنجلترا وفرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، وسقطت معظم دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والهندي، وكذلك اليهودي الصهيوني في فلسطين بمساعدة الإنجليز.
    ثم شهد منتصف القرن الرابع عشر الهجري (منتصف القرن العشرين) موجة تحرر واسعة النطاق في العالم الإسلامي، بدأت في لبنان سنة (1360هـ)1941م، ثم سوريا (1362هـ) 1943م، ثم ليبيا (1370هـ) 1951م، ثم مصر (1371هـ) 1952م. وهكذا تتابعت الدول الإسلامية في التحرر حتى لم يبق إلا فلسطين، وسبتة ومليلة في المغرب، هذا فضلاً عن الدول المحتلة من دول غير نصرانية، كالدول المحتلة من الاتحاد السوفيتي أو الصين أو الهند.

    ثم كانت الهجمة الصليبية الأخيرة على العالم الإسلامي؛ حيث احتلت الصرب البوسنة سنة (1412هـ) 1992م، ثم تحررت سنة (1415هـ)1995م، ثم احتلت أمريكا أفغانستان سنة (1421هـ) 2001م، ثم العراق سنة (1422هـ) 2003م.


    وهكذا رأينا أنه منذ أيام البعثة النبوية الأولى وحتى أيامنا هذه لم تتوقف أبدًا حلقات الصراع الإسلامي- النصراني، ولم يكن هناك عَقْد -فضلاً عن قرن- خلا من معارك ونزال، وهذا أمر ليس مستغربًا؛ حيث قال تعالى في كتابه الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. وقال أيضًا: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
    وهكذا باستعراض هذه الحلقات نعرف أن قصة الحروب الصليبية التي نحن بصددها ليست قصة مستغربة، بل إن المستغرب فيه حقيقة ألا توجد فترة فيها تصادم وتصارع. ومع عدم رغبتنا في الصدام أو الصراع إلا أنه سنةٌ من سنن الكون، ذكرها ربُّنا I في كتابه حين قال: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين} [البقرة: 251].

    [1] ابن الكردبوس: تاريخ الأندلس ص85.
    [2] ابن الكردبوس: تاريخ الأندلس ص34-94، حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين ص276.
    [3] المقري: نفح الطيب 4/383، Cam. Med Vol. 6,p. 410.
    [4] محمد سهيل طقوش: التاريخ الإسلامي الوجيز 264، لين بول: العرب في إسبانيا ص184، 185.

    [5] عبد العزيز العمري: الفتوح الإسلامية عبر العصور ص380.
    [6] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 4/383..
    [7] نبيل عبد الحي: جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس ص125.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية (4)


    السيطرة الشيعية على معظم العالم الإسلامي





    في القرن الرابع الهجري وفي النصف الأول من القرن الخامس الهجري، كان العالم الإسلامي كله إلا قليل القليل، واقعًا تحت سيطرة المذهب الشيعي.


    ففي منطقة العراق كانت هناك الخلافة العباسية السُّنية، ولكنها دخلت في طورٍ شديد من أطوار الضعف؛ مما جعلها تقع فريسة للسيطرة الشيعية من بني بويه, الذين كانوا يسيطرون على فارس (إيران) في ذلك الوقت، واستمرت هذه السيطرة حتى منتصف القرن الخامس الهجري.
    وإلى الشرق من الخلافة العباسية وإيران حيث أقاليم آسيا الوسطى، كان السامانيون يسيطرون على شرق إيران ومنطقة أفغانستان وجنوب روسيا وما حولها.
    أما الجزيرة العربية فكانت تحت حكم القرامطة.
    ثم في وسط العالم الإسلامي وغربه كانت الدولة الفاطمية العبيدية الشيعية الإسماعيلية تسيطر على أرجاء واسعة؛ حيث سيطرت على مصر سنة (358هـ) 969م[1]، وظلت مسيطرة عليها قرابة قرنين كاملين من الزمان، وامتدت سيطرتها بعد ذلك لتشمل أرض فلسطين والشام والجزيرة العربية[2].
    سيطرة الأتراك السنة على الخلافة العباسية
    وفي أوائل القرن الخامس ظهرت قوة جديدة على الساحة الإسلامية، هي قوة الأتراك السُّنَّة القادمين من وسط آسيا، وهم أكثر من قبيلة، وإن كان يجمعهم العرق التركي.
    وكان أبرز هذه القبائل هي قبيلة الغزنويين الأتراك، الذين استغلوا حالة الضعف التي اعترت دولة بني بويه وكذلك آل سامان، فبدأت تنتشر وتسيطر على مناطق شرق إيران وأفغانستان والهند.
    ثم ظهرت قبيلة أخرى من قبائل الأتراك هي قبيلة السلاجقة (نسبة إلى جَدِّهم سلجوق بن دقاق)، وتوغلت هذه القبيلة في إقليم خراسان، وصارت تحت تبعية الغزنويين فترة من الزمان، إلا أنهم في النهاية قاموا بالثورة عليهم، واستقلوا بإقليم خراسان (شرق وشمال إيران) تحت قيادة طغرل بك، وكان ذلك في (428هـ) 1037م[3]. ثم أخذ السلاجقة في التوسع على حساب القوى الإسلامية المحيطة، وكذلك على حساب الدولة البيزنطية التي كانت قد دخلت في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) في طور من أطوار ضعفها، وبذلك شملت دولة السلاجقة مساحات واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينية وآسيا الصغرى[4].
    ثم حدث تطور خطير في سنة (447هـ) 1055م، حيث استنجد الخليفة العباسي القائم بأمر الله بطغرل بك لينجده من سيطرة بني بويه الشِّيعة، وبالفعل دخل طغرل بك بغداد في سنة 447هـ[5]، ليبدأ عهد السيطرة السلجوقية على الخلافة العباسية، ولا شكَّ أن هذا أعطى مكانه كبيرة لطغرل بك في العالم الإسلامي السُّني؛ مما أدى إلى توحيد أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سيطرته، خاصةً فارس والعراق وأجزاء من الشام وآسيا الصغرى، وكانت هجمات السلاجقة متوالية على منطقة آسيا الصغرى خاصَّةً[6]؛ مما أزعج الدولة البيزنطية جدًّا، على الرغم من أن هذه الهجمات لم تكن منظمة بشكل كبير، ولم تكن تستهدف الاستقرار في آسيا الصغرى.
    ألب أرسلان ومعركة ملاذكرد
    وفي سنة (455هـ) 1063م تُوفِّي طغرل بك ليخلفه القائد الإسلامي الفذُّ ألب أرسلان[7]، الذي غيَّر كثيرًا من سياسة السلاجقة في آسيا الصغرى، حيث أصبحت تستهدف البقاء والسيطرة على الأراضي البيزنطية والأرمينية، وأدى ذلك إلى نشوب معركة كبرى بين السلاجقة والدولة البيزنطية، وذلك في سنة (463هـ) 1071م، وهي معركة ملاذكرد (مانزكرت)، وهي من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين، حيث استطاع السلاجقة بقيادة ألب أرسلان وبجيش قوامه عشرون ألفًا فقط، أن يهزموا جيش الدولة البيزنطية المكوَّن من أكثر من مائتي ألف جندي بقيادة رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية.
    وكان جيش الدولة البيزنطية مكوَّنًا من خليط من الجنود البيزنطيين والجنود النورمان الإيطاليين المرتزقة، وكذلك من جنود غربيين مرتزقة، إضافةً إلى فرق من التركمان الآسيويين، وقد سُحِق الجيش البيزنطي في هذه المعركة، وقُتل منه عشرات الآلاف، وأسر رومانوس الرابع نفسه، وتمَّ فداؤه بمليون دينار، إضافةً إلى إطلاق سراح كل أسرى المسلمين لدى الدولة البيزنطية[8]؛ وانهارت الدولة البيزنطية في منطقة آسيا الصغرى، وأصبح دورها في حماية البوابة الشرقية لأوربا دورًا مشكوكًا فيه؛ مما أقلق النصارى في غرب أوربا جدًّا، ولعل هذا من الأمور التي مهَّدت للحروب الصليبية بعد ذلك (بعد 25 سنة فقط من ملاذكرد).
    وانشغل ألب أرسلان بتثبيت دعائم دولته الكبرى، واهتم بالمنطقة الشرقية بصورة أكبر، ولكن سرعان ما قُتِل في أحد معاركه في بلاد ما وراء النهر بعد ملاذكرد بسنة واحدة في (464هـ) 1072م، ليخلفه ابنه ملكشاه الذي حكم من سنة 465 إلى سنة 485هـ (1072 إلى 1092م)، ووصلت دولته من الصين شرقًا إلى بحر مرمرة غربًا، وهي الدولة التي عرفت بدولة السلاجقة الكبرى[9].
    وعلى الرغم من هذا الاتساع الضخم إلا أنه -للأسف- فإن القاعدة الأصيلة تقول: إنه عند انفتاح الدنيا واتِّساع الأملاك، يحدث التصارع والتنافس بين الإخوة؛ وهذا مصداق حديث رسول الله : "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"[10].
    وقد حدث التنافس بين أبناء البيت السلجوقي؛ مما أدى إلى انقسام الدولة إلى خمسة أجزاء، بل وكان في داخل كل جزء عدة انقسامات أخرى، مما أعطى طابع الفُرقة والتشتُّت في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي)، وهي الفترة التي شهدت الحركة الصليبية الغربية.

    [1] ابن كثير: البداية والنهاية 11/266.
    [2] Setton: A Hist of the Crusades, vol. l. pp. 85-86.
    [3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/6، 11-12، وابن كثير: البداية والنهاية 12/48.
    [4] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/ 126،125، وابن كثير: البداية والنهاية 12/50.
    [5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/323،322، وابن كثير: البداية والنهاية 12/66.
    [6] Cam. Med. Hist., vol. 4. p. 304.
    [7] ابن كثير: البداية والنهاية 12/90،89.

    [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/389،388.
    [9] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/395.
    [10] البخاري: كتاب الرقاق باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (6061)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق (2961)، والترمذي (2462)، وابن ماجه (3995)، وأحمد (17273).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


    دولة السلاجقة قبيل الحروب الصليبية-(5)

    ملخص المقال

    10-13 دقيقةظهرت دولة السلاجقة في أوائل القرن الخامس الهجري كقوة كبرى في العالم الإسلامي منافسة للسيطرة الشيعية على الخلافة العباسية، وكان للسلاجقة دور كبير في

    قلنا إنه في أوائل القرن الخامس الهجري ظهرت قوة جديدة على الساحة الإسلامية، هي قوة الأتراك السلاجقة السُّنَّة القادمين من بلاد الأناضول وآسيا الصغرى، وكان لهذه القوة أثر بالغ في القضاء على السيطرة الشيعية على الخلافة العباسية، وبلغت دولة السلاجقة أوج اتساعها في عهد ملكشاه بن ألب أرسلان، ولكن بعد وفاته سرعان ما حدث تنافس وصراع بين أبناء البيت السلجوقي؛ مما أضعف دولتهم وكان لهذه الصراعات أثرها في ضعف العالم الإسلامي، مما مهد للحروب الصليبية.
    انقسام دولة السلاجقة
    حدث صراع كبير بين السلاجقة الذين كانوا يعيشون في منطقة الأناضول (آسيا الصغرى) بقيادة سليمان بن قتلمش، وبين السلاجقة الذين يعيشون في الشام بقيادة تتش بن ألب أرسلان ويعاونهم سلاجقة فارس، وكان هذا الصراع في سنة (478هـ) 1086م، ونتج عن هذا الصراع مقتل سليمان بن قتلمش، وهو أقوى ملوك السلاجقة الروم
    [1]؛ مما أدى إلى فراغ سياسيٍّ ضخم في آسيا الصغرى، خاصةً أنه ترك ولدًا صغيرًا على ولاية عهده هو قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وبالتالي تفككت منطقة آسيا الصغرى إلى عدة دويلات صغيرة منفصلة، بل ومتناحرة.


    وكان من الآثار السيئة الأخرى لهذا الصراع أن فَقَد سلاجقة الروم وسلاجقة الشام أي ثقة في التعاون والاتحاد، وكان لهذا أشد الأثر في انهيار المقاومة أمام الصليبيين بعد ذلك[2].
    وهكذا صار ملك السلاجقة موزَّعًا على الصورة الآتية في نهاية القرن الخامس الهجري (نهاية القرن الحادي عشر الميلادي)
    أولاً: دولة السلاجقة الكبرى
    وهي التي خلفها ملكشاه الأول، وظلت تحكم أقاليم واسعة أهمها العراق وإيران، وكانت لها السيطرة المباشرة على الخلافة العباسية، وهذه كان بها صراعات داخلية، وإن كانت ظلت متماسكة إلى حدٍّ ما، وكان يحكمها خلفًا لملكشاه ابنه الأكبر بركياروق، وقامت ضده عدة ثورات من أقاربه وأعمامه، ولكنه ظل حاكمًا حتى وفاته (498هـ) 1104م
    [3].


    ثانيًا: بيت سلاجقة كرمان
    تقع جنوب إيران ومنطقة باكستان، وهم عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وهو أخو القائد الكبير ألب أرسلان.


    ثالثًا: سلاجقة العراق
    أي سلاجقة عراق العجم وكردستان (في شمال العراق).


    رابعًا: سلاجقة الشام
    وهم بيت تتش بن ألب أرسلان، وهؤلاء انقسموا على أنفسهم عدة انقسامات، وفتَّتوا الشام إلى عدة إمارات، سنأتي لتفصيلها بإذن الله.


    خامسًا: سلاجقة الروم بآسيا الصغرى
    وهم بيت قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، والذي كان أكبرهم سليمان بن قتلمش أقوى ملوكهم، الذي قُتل سنة (478هـ) 1086م، كما بيَّنَّا.


    ونتيجة هذه الصراعات المتتالية صار الوضع مزريًا قبيل دخول الجيوش الصليبية إلى أرض المسلمين.
    وضع دولة سلاجقة الشام
    ففي أرض الشام صارت حلب إمارة مستقلة تحت زعامة رضوان بن تتش، وصارت دمشق أيضًا إمارة مستقلة تحت حكم دقاق بن تتش، أما فلسطين فقد كانت تحت حكم سقمان وإيلغازي أولاد أرتق التركماني، وهو أحد القادة الذين كانوا يتبعون تتش بن ألب أرسلان
    [4].


    ثم إن الدولة العبيدية المسماة زورًا بـ الفاطمية -التي كانت تحكم مصر آنذاك- كانت متفوقة في أسطولها البحري عن السلاجقة؛ مما مكَّنها من السيطرة على موانئ الشام، وأهمها صور وصيدا وعكا وجبيل، غير أن ميناء طرابلس كان إمارة مستقلة تحت حكم ابن عمار أبي طالب، وهو من الزعماء الشيعة المنشقِّين عن الدولة العبيديّة[5].
    فكان هذا هو حال الشام! وهي المنطقة التي ستوجَّه إليها الحملات الصليبية القادمة.

    وضع دولة سلاجقة الروم
    ولم يكن حال سلاجقة الروم في آسيا الصغرى بأفضل من حال الشام، وخاصةً بعد مقتل سليمان بن قتلمش سنة (478هـ) 1086م
    [6]، وكان السلطان ملكشاه قد أخذ ابن سليمان بن قتلمش وهو قلج أرسلان إلى فارس تحت رقابته[7]، غير أنه عند وفاة ملكشاه وولاية ابنه بركياروق أطلق سراح قلج أرسلان ليصبح بذلك زعيم السلاجقة الروم[8]، وإن لم يتمكن من السيطرة على كل آسيا الصغرى. ولا يخفى على أحد أنه كان لا يمتلك الخبرة الكافية لهذه المهمة الكبيرة، وهي قيادة منطقة تموج بالمشاكل والفتن، سواء من المسلمين أو من غير المسلمين؛ فالمشاكل الداخلية بين الأتراك، والمشاكل مع سلاجقة الشام كانت مستمرة ومستعرة، إضافةً إلى وجودها إلى جوار الدولة البيزنطية العدو اللدود والتقليدي للمسلمين على مدار خمسة قرون متتالية.


    ثم إن آسيا الصغرى لم تكن وحدة واحدة، فأزمير مثلاً كانت تحت إمرة زاخارس، بينما كانت هناك إمارة الدانشمند، وهي إمارة أسسها أمير تركماني اسمه أحمد غازي، وكانت تشغل الشمال الشرقي من آسيا الصغرى، وكانت على خلاف مستمر مع السلاجقة في آسيا الصغرى، ومن ثَمَّ كان التحالف بينهما نادرًا ما يحدث، وفي ظروف ضيقة جدًّا[9].
    وليس هذا فقط، فقد شهدت سنة (490هـ) 1095م توسُّعًا بيزنطيًّا في غرب آسيا الصغرى، واستولت على الجهات الساحلية في نيثنيا وأبونيا[10]، ومما زاد الموقف تعقيدًا في آسيا الصغرى وجود أعداد كبيرة من الأرمن كانوا يعيشون في دولتهم في هذه المنطقة منذ فترات طويلة، لكن الدولة البيزنطية ضمت أرمينيا إلى أملاكها في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، لكن مع توسع السلاجقة في القرن الخامس الهجري في آسيا الصغرى على حساب أملاك الدولة البيزنطية اجتاح السلاجقة الكثير من أقاليم أرمينيا؛ مما جعل الأرمن يهاجرون إلى الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى حيث الطبيعية الجبلية الصعبة في إقليم قليقية، كما تركزوا في ثلاث مناطق أخرى متفرقة هي ملطية والرُّها وأنطاكية[11].
    مع العلم أن هذه المناطق الثلاثة الأخيرة كانت تجمعات بيزنطية قديمة. ومن ثَمَّ أصبحت خليطًا من الأرمن الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس، غير أن سليمان بن قتلمش استطاع ضم أنطاكية لحكم السلاجقة سنة(477هـ) 1085م، وتسرب إليها المسلمون ليعيشوا فيها جنبًا إلى جنب مع البيزنطيين والأرمن[12]، وكذلك الرها فقد سيطر عليها ملكشاه، لكنه أقر على حكمها أحد الأرمن وهو ثوروس مع دفع الجزية[13]، ونفس الأمر حدث في ملطية فقد سيطر عليها أحد رجال الأرمن يُدعى جبريل، وكان كذلك يعلن الولاء للسلاجقة[14].
    ومن هنا نرى أن هذا الوجود الأرمني المكثف جعل الأمور غير مستقرة وغير آمنة في هذه المناطق الثلاثة، إضافةً إلى إقليم قليقية في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى، وهذا كله سيكون له آثار مباشرة في نجاح الحملة الصليبية الأولى كما سيتضح لنا.
    وهكذا نرى أن التركيبة السكانية الصعبة في آسيا الصغرى والمكوَّنة من سلاجقة وأرمن وبيزنطيين، والتفتُّت الواضح في مراكز الحكم، والعلاقات السلبية بين الطوائف المختلفة، والتوتر الشديد مع المناطق المحيطة، كل هذا أدَّى إلى وضع معقد جدًّا في هذه المناطق، لعله يفسِّر الاقتحام الصليبي المرتقب لمنطقة آسيا الصغرى وما حولها.

    [1] النويري: نهاية الأرب 27/93.
    [2] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/90،89.
    [3] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 12/150-164، وابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص127.
    [4] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/96، وعماد الدين خليل: الإمارات الأرتقية في الجزيرة والشام ص66،65.
    [5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/425،424.
    [6] النويري: نهاية الأرب 27/93.
    [7] انظر: سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان ص443.
    [8] زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي ص215.
    [9] Grousset: Hist. des Croisades l, L Vll – Llll.
    [10] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/100.
    [11] lorga: L`Armenie Cilicienne, pp. 7-88.
    [12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/294، وسبط ابن الجوزي: مرآة الزمان ص422.
    [13] Chalandon: Hist. de la Premiere Croisad, p. 175.
    [14] Setton, op cit l, p. 299.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    قصة الحروب الصليبية (6)
    مصر وبلاد المغرب العربي والأندلس قبيل الحروب الصليبية


    في المقالين السابقين تعرفنا على الوضع في شرق العالم الإسلامي، وهو وضعٌ لا ينذر بخير، سواء في مناطق آسيا الصغرى والشام وفلسطين أو في مناطق العراق وفارس.
    ولم يكن الوضع في بقية بلاد العالم الإسلامي طيِّبًا، اللهم إلا في بعض البقاع المتفرقة، ولعل أهم المناطق التي تعنينا في هذه القصة هي منطقة مصر لقربها من الأحداث، بل ولتعرضها لبعض الحملات الصليبية كما سيتبين لنا.
    الدولة العبيدية الفاطمية في مصر

    كانت مصر في هذه الأثناء تحت حكم العبيديين (الملقَّبين بالفاطميين)، وقد بدأ حكمهم في مصر سنة (358هـ) 969م بعد عدة محاولات لاحتلالها على مدار أكثر من خمسين سنة سابقة، ثم آلت لهم في النهاية مع شمال إفريقيا، بل وامتد حكمهم إلى الشام والحجاز.
    والعبيديون طائفة متطرفة جدًّا من الشيعة، يقولون بكل عقائد الشيعة وأكثر، ويحرِّفون تحريفاتهم وأشد، وهم يدَّعون النسب إلى فاطمة -رضي الله عنها- بنت رسول الله ، وكذبوا في ذلك، بل نسبهم إلى أحد اليهود الذين عاشوا في المغرب، وقد سيطروا على المغرب سنة (296هـ) 908م، ثم انتشروا في شمال إفريقيا، وأقاموا ما يسمونه بالخلافة الفاطمية، وهي ليست في الأصل خلافة ولا فاطمية، إنما هي دولة خبيثة قامت على قتل علماء السُّنَّة واضطهادهم، وأذاقت الناس العذاب ألوانًا، وأظهرت من الفسق والفجور والمنكرات، وتغيير العقائد والأخلاق ما لا يتخيل.
    وكانوا جميعًا من طائفة الإسماعيلية، وهي إحدى الطوائف المنشقة عن الشيعة والمنتسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق[1]؛ يقول الإسماعيلية: إن الإمام السابع هو ابنه إسماعيل. بينما يقول الشيعة الاثنا عشرية: إن الإمام السابع هو موسى الكاظم الابن الآخر للإمام جعفر الصادق. ويقول الإسماعيلية أيضًا: إنه كان بعد الإمام إسماعيل خمسة أئمة مستورين، ثم الإمام الثالث عشر هو المهدي مؤسس الدولة العبيدية. ويدَّعون في أئمتهم أشياء عجيبة وخوارق منكرة، ووصل الأمر إلى ادِّعائهم أن الله حلَّ في أئمتهم -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- ولذلك فهناك منهم من ادَّعى الألوهية وليس النبوة، ومن أشهرهم الحاكم بأمر الله الذي كان زعيمًا لدولتهم في مصر، وهو الذي خاطبه الشاعر بقوله:
    ما شئتَ لا شاءت الأقـدار *** فاحكمْ فأنتَ الواحـد القهـارُ
    وأنشأ هؤلاء الفُسَّاق الجامع الأزهر في مصر لينشر سمومهم وأفكارهم المتطرفة، ولكن ردَّ الله كيدهم في نحورهم، فأصبح الجامع الأزهر على مدار عدة قرون من مراكز إشعاع السُّنة في العالم. وكانوا يُظهِرون سبَّ الصحابة بل والأنبياء، بل ورسول الله ؛ ومن ذلك ما كان ينادي به القائم بن المهدي في الأسواق: "العنوا عائشة وبعلها، العنوا الغار وما حوى". وكانوا يضربون عنق من أظهر حُبَّ أبي بكر أو عمر، ويقطعون لسان من قال في الأذان (حي على الفلاح)؛ لأنهم يستبدلون بها (حي على خير العمل)، ومنكرات أخرى كثيرة مطولة مسجلة في كتب التاريخ[2].
    انقسام الدولة العبيدية الفاطمية
    لقد كانت هذه الدولة الخبيثة هي التي تحكم مصر في ذلك الوقت، بل وإنها انقسمت على نفسها في سنة (487هـ) 1094م، عندما تُوفِّي خليفتهم المستنصر، وتكوَّنت فرقتان كبيرتان؛ الأولى هي التي تقطن بمصر وتحكمها، وهي المستعلية (نسبة إلى المستعلي بن المستنصر). أما الفرقة الثانية فهي أشد شرًّا من كل ما سبق وهي فرقة النزارية، وهي المنتسبة إلى نزار بن المستنصر أخي المستعلي بن المستنصر، وهذه الطائفة ألغت الشعائر الدينية، وامتنعوا عن إقامة الفرائض، ومع ذلك ظلوا يدَّعون الإسلام، وهم الذين عرفوا في التاريخ باسم الباطنية، وهم يُظهِرون شيئًا ويبطنون أشياء أخرى، وكان من همِّهم الأكبر قتل علماء السُّنة ومجاهديهم، وسيكون لهم أثر سلبي شديد على حركات الجهاد التي تهدف إلى إخراج الصليبيين من أرض المسلمين، وكان هؤلاء الباطنية أهل حرب وحصون وقلاع، وبأس شديد في القتال، وكانوا يشنِّون حروب العصابات على القرى الآمنة، وعاثوا في الأرض فسادًا، وكانوا أشدَّ على المسلمين من الروم والصليبيين.
    أما الطائفة التي كانت تحكم مصر في أواخر القرن الخامس الهجري، أيام قدوم الحملة الصليبية فكانت طائفة المستعلية الإسماعيلية، وكانوا قد فقدوا السيطرة تمامًا على مناطق شمال غرب إفريقيا، ولم يعُدْ لهم في ملكهم إلا مصر، وكانت لهم أطماع كبيرة في الشام وفلسطين؛ ولذلك فإنهم كانوا في حروب مستمرة مع السلاجقة السُّنة، ولم يكونوا يمانعون أبدًا في التحالف مع الروم البيزنطيين تارة، ومع الصليبيين أنفسهم تارة أخرى في سبيل القضاء على السلاجقة، واقتطاع جزء من أرض الشام وفلسطين.
    لقد كان الوضع مؤسفًا حقًّا! وكان الجيش المصري آنذاك -وعماده في الأساس العبيديون الإسماعيلية- شوكةً في حلق الأمة الإسلامية، وظل كذلك فترة من الزمان حتى ظهر نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، كما سيتضح لنا من مجريات الأحداث بإذن الله.
    أحوال بلاد الهند وأفغانستان وتونس قبيل الحروب الصليبية
    إذن كانت هذه هي الحال في مناطق آسيا الصغرى والشام والعراق ومصر، وكلها كما رأينا كان سيِّئًا لسبب أو لآخر، ولم يكن الحال في بقية أطراف العالم الإسلامي بأفضل من ذلك.
    فقد كان الغزنويون يسيطرون على أفغانستان والهند، ولكنهم -للأسف الشديد- كانوا قد دخلوا في وقت أفولهم، وبالتالي ضعفت قوتهم جدًّا عن نصرة بلاد الشام، فضلاً عن بُعد مسافاتهم عن هذه الأراضي.
    وكانت اليمن مقسَّمة بين ثلاث طوائف هم: بنو نجاح، والصليحيون، وبنو زريع؛ وكانت الحروب بينهم مستمرة، وكان يغلب على معظمهم التشيُّع، وكانوا يدينون بالولاء للدولة العبيديّة في مصر.
    وكانت تونس تحت حكم آل زيري، وكانوا أيضًا قد دخلوا في طور من الضعف؛ مما أدى إلى فَقْد ثغر من أعظم الثغور الإسلامية، وهي جزيرة صقلية، حيث استطاع الإيطاليون النورمانيون أن يسيطروا عليها تمامًا سنة (484هـ) 1091م، وزال نفوذ آل زيري عنها، وبالتبعية زال وجود المسلمين من الجزيرة بعد حكم دام مائتين وسبعين سنة متصلة[3].
    بلاد المغرب العربي والأندلس
    أما المكان الوحيد الذي كان يشهد قوة إسلامية في ذلك الزمن، فكان بلاد المغرب العربي وغرب إفريقيا والأندلس؛ حيث كانت هذه المناطق تابعة لدولة المرابطين العظيمة تحت قيادة قائدهم الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله، وهو من أعظم القادة في تاريخ الإسلام، وهو الذي أنزل بالصليبيين القادمين من شمال إسبانيا وفرنسا الهزيمة الساحقة في معركة الزَّلاَّقة سنة (479هـ) 1086م في وسط بلاد الأندلس.
    وهذه الدولة الكبيرة -على قوتها- لم تكن تستطيع أن تساعد بلاد المشرق في حروبهم ضد الحملات الصليبية، لا لبُعد المسافة فقط ولكن لانشغالهم الشديد في حرب الصليبيين شمال الأندلس، والوثنيين في غرب إفريقيا ووسطها.
    فهذه كانت نظرة عامة على بلاد العالم الإسلامي في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي)، وهو الوضع الذي مهَّد لدخول الصليبيين إلى معاقلنا، وليس دخول الصليبيين -كما سنتبين- راجعًا إلى قوتهم، ولكنه يرجع في الأساس لضعفنا، وفرقة صفِّنا، وتشتت قوتنا، وبُعدنا عن ديننا، وهي عوامل مهلكة لا تخفى على لبيب، ولا ينكرها عاقل.
    كان هذا هو وضع بلاد العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية، فكيف كان وضع أوربا في هذه الآونة؟ هذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم.

    [1] وهو الإمام السادس عند الشيعة.
    [2] انظر أخبارهم في:الكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، والروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية لأبي شامة المقدسي.
    [3] انظر: ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/155.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


    قصة الحروب الصليبية

    الدافع الديني للحروب الصليبية (7)


    لن نستطيع أن نفهم حقيقة الحروب الصليبية ولا دوافعها وبواعثها بدون اطِّلاع دقيق على الحياة التي كانت تعيشها أوربا في ذلك الوقت، ولا ينبغي أن يكون ذلك على المستوى السياسي فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا المستوى الاقتصادي والديني والاجتماعي؛ لنأخذ فكرة كاملة عن الأحوال هناك، ومن ثَمَّ نفقه هذا التوجُّه الأوربي الشامل لغزو العالم الإسلامي الشرقي.
    أولاً: الدافع الديني للحروب الصليبية
    سيطرة الكنيسة على أوضاع أوربا
    في هذه الحقبة التاريخية وفي القرون التي سبقت الحروب الصليبية، وخاصةً القرن التاسع والعاشر الميلادي، وكذلك الحادي عشر الذي تمت فيه الحروب الصليبية، كان للكنيسة سيطرة كبيرة على مجريات الأمور في أوربا، ولم تكن هذه السيطرة فكرية ودينية فقط، بل كانت سياسية واقتصادية وعسكرية أيضًا[1].
    لقد كان في إمكان الكنيسة أن تسحب الثقة من الملوك والأمراء، فتنقلب عليهم الأوضاع، ويرفضهم الخاصَّة والعامَّة، ومن ثَمَّ فالجميع ينظر إلى رأي الكنيسة بقدرٍ كبير من الرهبة والتبجيل، ويكفي للدلالة على قوة البابا في ذلك الوقت أن نذكر موقفًا للبابا جريجوري السابع مع الإمبراطور الألماني هنري الرابع. لقد كان الإمبراطور الألماني هو أقوى ملوك أوربا في زمانه، ومع ذلك فقد غضب عليه البابا في أحد المواقف، ورفض الإمبراطور الاعتذار للبابا، فقام البابا بسحب الثقة منه، وأعلن حرمانه من الرضا الكنسي، وبالتالي حرمانه من الجنة كما يزعم!
    وبدأ الناس يخرجون عن طوعه، بل وكاد أن يفقد ملكه، فنصحه مقربوه بالاعتذار الفوري للبابا، فماذا يفعل الإمبراطور الألماني الكبير؟! لقد قرر أن يأتي من ألمانيا إلى روما ماشيًا حافي القدمين! وذلك حتى يظهر ندمه الشديد على إغضابه للبابا. ثم كانت المفاجأة أن البابا رفض أن يقابله لمدة ثلاثة أيام كاملة، فبقي الإمبراطور خارج الكنيسة في المطر والبرد الشديد حتى سمح له البابا بالمقابلة، فما كان من الإمبراطور إلا أن ارتمى على الأرض يُقبِّل قدمي البابا ليصفح عنه[2]!!
    لقد كان هذا هو الحل الوحيد أمام الإمبراطور العظيم ليحتفظ بملكه!
    وكانت الكنيسة الكبرى هي كنيسة روما، والبابا يستطيع أن يتحكم في كل كنائس أوربا الكاثوليكية، ومن ثَمَّ يستطيع السيطرة على الأحداث في البلاد المختلفة، ولم تكن الكنيسة مكان عبادة أو معلِّم للأمور الدينية فقط، إنما كانت مؤسَّسة ضخمة تُؤدَّى إليها سنويًّا الأموال الغزيرة، ومن ثَمَّ فإنها كانت تملك الإقطاعيات الكبيرة في أوربا، بل وكانت تملك الفرق العسكرية التي تدافع عن هذه الإقطاعيات، وكانت الكنيسة تتحالف مع فرق عسكرية أخرى عند الحاجة، ومن هنا أصبحت الكنيسة تمثِّل الحاكم الحقيقي لمعظم دول أوربا الغربية، وإن لم يكن هناك اتحاد بالمعنى المفهوم بين هذه الدول.
    مستوى القساوسة في أوربا
    ومع كون الكنيسة تحتل في هذا الوقت هذه المكانة الكبيرة إلا أن القساوسة كانوا على درجة كبيرة من الجهل والتخبط، ولم يكن لهم في الغالب أي كفاءة دينية أو إدارية أو قيادية[3]، ولم يكن هذا فقط، بل إن معظم البابوات في القرن التاسع والعاشر الميلادي كانوا على درجة كبيرة من الفساد الأخلاقي، سواء في قضايا المال أو في قضايا النساء[4]، وكثير منهم قُتل في حوادث أخلاقية مخلَّة[5]، مع أنهم جميعًا كانوا يدَّعون الرهبانية، ويعلنون اعتزالهم مُتَع الحياة، ويشيعون الزهد في الدنيا، ويمتنعون عن الزواج، ثم يرتكبون بعد ذلك أبشع جرائم السرقة، وكذلك الزنا؛ وصدق الله إذ يقول في كتابه واصفًا هذا التحريف والتبديل الذي أضافه هؤلاء القساوسة في دينهم فشقوا على أنفسهم، وما استطاعوا الالتزام بما فرضه بعضُهم على بعض، يقول تعالى: {وَرهبانية ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27].
    وليس خافيًا على أحدٍ ما حدث منذ عدة سنوات عندما أمسكوا بجيمي سواجارت[6] مع بعض العاهرات في أحد فنادق نيوأورليانز الأمريكية، وكان جيمي سواجارت قسيسًا من الذين يقيمون المناظرات مع الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات[7] رحمه الله، ثم أَبَى الله إلا أن يكشف أوراقه أمام الجميع، فلا يمر أحدٌ الآن على الفندق الذي أمسكوه به إلا ويتذكر قصة هذا الدعيّ جيمي سواجارت.
    ومع هذا الوضع السيئ للبابوات والقساوسة إلا أنهم كانوا يسيطرون على الأوضاع في أوربا، وكان يساعدهم في ذلك السطحية والجهل والتخلف عند معظم شعوب أوربا آنذاك، وكذلك مفهوم الدين عند هذه المجتمعات البدائية، حيث كان الدين عندهم قائمًا على الخرافات والأباطيل، وكانت تسيطر عليهم فكرة الأشباح والأرواح والخوارق مثلما يحدث في مجتمع ريفي بسيط، وكان هذا الوضع المتدني يساعد البابوات والقساوسة في السيطرة على عقول الناس عن طريق نشر الإشاعات والأوهام، وعمليات غسيل المخ التي تمحو كل فرصة للتفكير عند الشعوب[8].
    إشاعة كنسية في أوربا الكاثوليكية
    ومن الأفكار المهمة التي أشاعها البابوات والقساوسة في القرن الحادي عشر -أي قبيل الحروب الصليبية بقليل- أن الدنيا على وشك الانتهاء، وأن يوم القيامة قد اقترب جدًّا، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح ، أي أن هذه الإشاعة بدأت تنتشر في سنة (424هـ) 1033م تقريبًا وما بعدها، وكانوا يفسِّرون كل الظواهر الكونية والطبيعية في ذلك الوقت على أنها أدلة على صدق الإشاعة، ومن ذلك مثلاً ثورة بركان فيزوف في إيطاليا، أو حدوث بعض الصواعق أو الزلازل[9].
    وكان لانتشار مثل هذه الشائعات الأثر في إحداث حالة من الوجل والرعب والهلع عند عموم الناس، وخوفهم المفرط من ذنوبهم، وبروز دور البابوات والقساوسة والكنيسة بصفة عامة لإنقاذ الناس من هذه الضغوط، ومساعدتهم على التخلص من هذه الذنوب، وضرب رجال الدين على هذا الوتر بشدة، واستغلوه في توجيه الناس إلى ما يريدون، وقد كان من أهم الوسائل للتخلص من هذه الذنوب دفع الأموال للكنيسة، وهو الأمر الذي تطور بعد ذلك إلى صكوك الغفران، التي ثار عليها بعد ذلك بقرون مارتن لوثر[10] مؤسِّس البروتستانتية[11].
    علاقة الحج إلى فلسطين بالحروب الصليبية
    غير أن هناك وسيلة أخرى أشاعها البابوات والقساوسة للتخلص من الذنوب لها علاقة كبيرة بموضوعنا، وهو التشجيع على رحلات الحج إلى أرض فلسطين مهد المسيح[12]، وذلك للتكفير عن الذنوب، وكانت رحلات الحج التكفيرية هذه تستغرق من الناس جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً، قد يصل إلى سبع سنوات، وكانت هذه الرحلات بديلاً عن دفع المال الكثير للكنيسة[13]، ومن ثَمَّ رغب فيها الفقراء الذين لا يستطيعون شراء رضاء الكنيسة، ومن هنا توالت رحلات الحج لفلسطين، والتبرك بالآثار هناك، وأصبحت هذه الرحلات ثقافة عامة عند الناس؛ ولذلك انتشر اسم فلسطين، وصار متداولاً بين عموم الناس.
    ولا شك أن هذا مهَّد نفسيًّا لقبول فكرة الحروب الصليبية بعد ذلك، فهي تذهب إلى مكان مألوف محبوب سمع الناس كثيرًا عنه، بل وشُجِّعوا على الذهاب إليه، بل إن فلسطين صارت حُلمًا لكثير ممن يريد الذهاب للتخلص من ذنوبه قبل انتهاء الدنيا، غير أنه يفتقد الطاقة البدنية أو المالية ليقوم بالرحلة، وكل هذا -لا شكَّ- أدى إلى تضخيم حجم فلسطين في عيون الغربيين[14].
    وتشير الكثير من المصادر والوثائق أن استقبال المسلمين الذين يحكمون الشام وفلسطين لهؤلاء الحجاج كان استقبالاً طيبًا جدًّا، ولم يثبت أي محاولات تضييق عليهم كما يحاول البابوات أن يشيعوا؛ لكي يسوِّغوا فكرة الهجوم على فلسطين لتسهيل رحلات الحج لنصارى أوربا[15]. فهذه الخلفيات الدينية المعقدة من رغبة حثيثة للكنيسة للسيطرة على عقول الناس وأموالهم، ومن خوف مطَّرد عند الشعوب من فناء الدنيا وكثرة الذنوب، ومن حبٍّ جارف لهذه الأرض التي وُلد بها المسيح، والتي بسبب الرحلة إليها ستُغفر الذنوب. كل هذا وغيره مهَّد لفكرة الحروب الصليبية وغزو فلسطين.
    ولعل الخلفيات التي يجب أن تضاف إلى هذه الأمور السابقة، والتي تفسِّر ولع الغرب بقضية فلسطين خصوصًا والشرق عمومًا، هي ظهور رغبة عند بعض بابوات روما لضم الكنيستين الغربية الكاثوليكية والشرقية الأرثوذكسية تحت سقف واحد، يحكمه الكاثوليكيون بالطبع، وكان الذي تبنَّى هذا المشروع بقوة هو البابا جريجوري السابع، وهو البابا السابق مباشرة للبابا أوربان الثاني الذي وقعت في عهده الحروب الصليبية.
    وكان من ضمن الخطوات التي أخذها البابا جريجوري السابع لإتمام هذه الخطوة الفريدة أن بدأ يحسِّن من علاقاته مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين[16]، وهو الإمبراطور الذي سيعاصر الحروب الصليبية؛ مما جعل المراسلات بينهما مستمرة، ومما حدا -بعد ذلك- بالإمبراطور البيزنطي أن يستغيث بالغرب الكاثوليكي لنصرته ضد السلاجقة المسلمين، وذلك مع شدة كراهية هذا الإمبراطور الأرثوذكسي لكل بابوات وملوك وشعوب أوربا الكاثوليكية.
    ولعل الخلفيات التي ذكرناها سابقًا تفسِّر بوضوح الحميَّة المتناهية التي كانت عند الغرب للمشاركة في الحملات الصليبية، ومع ذلك فليست الخلفية الدينية ولا الدافع الديني هو الوحيد عند الشعوب الأوربية آنذاك، ولكن كانت هناك عوامل ودوافع أخرى مؤثرة جدًّا، مثل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
    [1] Cambridge Medievel History, Vol. 5 P. 273.
    [2] Ephraim Emerton, The correspondence of Pope Gregory Vll. Selected letters from the Registum pp. 111 – 112.
    [3] كانتور: التاريخ الوسيط 1/108:303.
    [4] Barraclough, The Med. Papacy, p. 63.
    [5] انظر: قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص79.
    [6] جيمي سواجارت قس أمريكي يملك محطة للتلفزيون يستخدمها للتبشير بمعتقده ولأغراض أخرى، فضحته النيابة العامة عند إلقاء القبض عليه واتهمته بسوء خلقه، فظهر على كبريات المحطات التليفزيونية الدولية ليعترف تفصيليًّا بعلاقته الجنسية مع إحدى البغايا الداعرات. هو صاحب مجلة the evangelist، وله مناظرة مشهورة مع الداعية الإسلامي الشيخ أحمد ديدات.
    [7] ولد الشيخ أحمد ديدات بالهند ثم هاجر وهو في سن التاسعة إلى جنوب إفريقيا، برع في دراسته وفاق أقرانه إلا أنه لم يستطع إتمام دراسته بسبب حالته الاقتصادية فاتجه إلى العمل، وتزود بالقراءة، وتصدى للإرساليات التبشيرية في إفريقيا حتى غدا من أكبر المناظرين لهم، وله مناظرات عدة أشهرها مناظرته مع القس سواجارت، ومن مؤلفاته: القرآن معجزة المعجزات، وكانت وفاته أغسطس 2005م.
    [8] Boase, Kingodoms and Stronghlds of the Crusaders, pp. 16-17; Bishop, op. cit., p. 105; Wolff The Awarkening of Europ, p. 202; Coulton, The MedIeval Scene, pp. 33-34.
    [9] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص19.
    [10] مارتن لوثر: إنه الرجل الذي ثار على الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، واستهل بذلك مرحلة الإصلاح الاحتجاجي على الكنيسة -أي صاحب نظرية البروتستانتية- وكان احتجاجه على الكنيسة الكاثوليكية لعدة أمور، منها: تجارة صكوك الغفران، وبقاء الراهب أعزب مدى الحياة؛ ولذلك تزوج من راهبة وأنجبا ستة أطفال، ولم تسترح الكنيسة إلى ثورته، فأدانته واتهمته بالإلحاد.
    [11] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص38،23.
    [12] John Wilkinson (ed.), Jerusalem Pilgrims before the Crusades, p. 42.
    [13] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص40.
    [14] Bradford, The Sword of the Sage of the Crusades, pp. 13 – 14, Michaud, Histoire de Crisades, 1, p. 14; Runciman, "The Pilgrimages to Palestin before 1095", in Setton (ed). A Hist. of the Crusades, vol. pp. 74-75.
    [15] عرفت هذه المذكرة باسم (مفكرة بكنائس القدس)، انظر:
    Commeroratorium of the Churches of Jerusalem, in: Palestine Pilgrims, pp. 138-139.
    ولمزيد من التفاصيل عن حركة الحج حتى القرن العاشر الميلادي انظر:
    Runciman, A. History of the Crusades, vol., 1, pp.39 – 44.
    [16] عن هذا الموضوع، انظر: إسحاق عبيد: روما وبيزنطة.. من قطيعة فوشيوس حتى الغزو اللاتيني قنسطنطين 869-1204م، ص25-39.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    قصة الحروب الصليبية

    الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحروب الصليبية (8)

    ثانيًا: الدافع الاقتصادي

    عاشت أوربا عدة قرون تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، فمع خصوبة الأرض إلا أنها مليئة بالغابات[1]، واستصلاح الأراضي وزرعها يحتاج إلى فنٍّ وجهد وتقنية، ولم يكن هذا متوفرًا في هذه البيئات الجاهلة، وخاصةً في المناطق الشمالية ذات الصقيع القارس، هذا فوق ضعف المواصلات وانقطاع الطرق؛ مما كان يمنع وصول الغذاء من مكان إلى مكان ولو بغرض التجارة، ومن ثَمَّ فإن نقص الإنتاج المحلي من الغذاء كان يعني ببساطة المجاعة القاتلة!
    وكانت هذه المجاعات تستمر أحيانًا سنوات، مما يؤدِّي إلى فناء قرى ومدن، وكان انتشار الأمراض وانعدام العلاج يساهم في موت المزيد والمزيد، وكل هذه الأمور جعلت الفقراء والفلاحين يضيقون ذرعًا بحياتهم، ويشعرون بالإحباط الدائم واليأس المستمر، فإذا أضفت لكل ذلك الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الفلاحون أدركت مدى المعاناة التي كانوا يعيشونها.
    وفي أخريات القرن الحادي عشر، وخاصةً في السنوات العشر التي سبقت الحروب الصليبية حدثت مجاعات رهيبة قاتلة، خاصةً في شمال فرنسا وغرب ألمانيا، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من الجيوش من هذه المناطق، التي كان لا بد لها من أن تهرب إلى أي مكان به طعام وشراب، ولو كان هذا المكان على بُعد مئات وآلاف الأميال، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا[2]!
    وعلى النقيض من هذه الصورة، كانت هناك صورة مغايرة تمامًا عند بعض الاقتصاديين في أوربا، وخاصةً في الجنوب الأوربي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، فقد ازدهرت التجارة البحرية في ذلك الوقت وأفاد تجَّار الجنوب الأوربي من وجودهم على السواحل في التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله، بل تجاوزوه إلى داخل آسيا وإفريقيا. وكان من أبرز الموانئ التي ظهرت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية موانئ إيطاليا، وخاصةً جنوة وبيزا، فكانت هذه الموانئ تمثِّل قوة اقتصادية مؤثرة في هذا الوقت، وكانت القوة الاقتصادية المنافسة الوحيدة هي قوة الاقتصاد الإسلامي، وكانت لهذه القوة مراكزٌ مهمة في الشام ومصر والمغرب، وكذلك في الأندلس، وكان هذا التنافس دافعًا للموانئ الإيطالية أن تتربص بالمسلمين قدر استطاعتها، ودفعها ذلك إلى تجهيز الحملات العسكرية لإخراج المسلمين من صقلية، وتمَّ لهم ذلك كما مر بنا، وخرج المسلمون خروجًا نهائيًّا من صقلية سنة (484هـ) 1091م بعد حكم مائتين وسبعين سنة، وهذا يسبق الحروب الصليبية بسبع سنوات فقط، ولا شك أن هذا جعل الطريق البحري آمنًا إلى حد كبير[3].
    ومن هنا حرص تجار إيطاليا على دعم الحملات الصليبية المتجهة للشرق، فهم بذلك سيقضون على منافسهم الوحيد، ومن ناحية أخرى سيفتحون سوقًا هائلاً لتجارتهم في هذه البقاع الإسلامية.
    وهكذا كان هناك شبه اتفاق بين المطحونين الكادحين الجائعين، وبين الاقتصاديين والأثرياء المتخمين لغزو العالم الإسلامي والمشاركة في الحروب الصليبية!
    ثالثًا: الدافع السياسي

    في القرن الخامس الميلادي، وبالتحديد في سنة 476م، سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية العتيدة، وذلك تحت الضربات الموجعة للقبائل الجرمانية الشمالية، وهي قبائل همجية عنيفة لم تنظر بأي عين من الاعتبار للحضارة الرومانية المتميزة، بل سعت إلى التدمير والإبادة. وفي غضون قرنين من الزمان، كانت القبائل الجرمانية قد انتشرت في كل أوربا، وكان هذا الانتشار مصحوبًا بنشر الأفكار الجرمانية العنيفة، والسلوك الإجرامي عند عامة الناس[4].
    ثم شهد القرنان التاسع والعاشر الميلادي - قبل الحروب الصليبية بقرن من الزمان - عدَّة هجمات ضارية على أوربا، سواء من الفايكنج القادمين من إسكندينافيا أو من المسلمين القادمين من الأندلس أو الشمال الإفريقي، وهذا ساعد في زيادة الروح القتالية عند عموم الناس، وتحول الأوربيون إلى الشكل العسكري، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل[5].
    ونتيجة نمو هذا الفكر العسكري داخل أوربا، كان لا بد للقوى المختلفة أن تصطدم معًا، فبدأ الصراع بين الدول الأوربية المختلفة بغية التوسع والسيطرة، ثم قُسِّمت الدول إلى إقطاعيات منفصلة متصارعة فيما بينها، وعلى كل إقطاعية أمير قد يدين بالولاء أو لا يدين للملك العام على الدولة، وكوَّن كل أمير ميليشيات عسكرية خاصة به، وعمَّت الفوضى كل أرجاء أوربا؛ مما أدى إلى فَقْد الكنيسة السيطرة على هذه القوى الكثيرة والمتناحرة[6].
    وكان الوضع أشد ما يكون ترديًا في فرنسا، حيث فقد ملك فرنسا السيطرة كُلِّيَّةً على البلاد، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة، كلٌّ منها له جيشه الخاص[7]. أما الوضع في ألمانيا فكان أفضل حالاً، حيث ظهر فيها ملك قويّ هو هنري الثالث، ثم ابنه هنري الرابع، وذلك في القرن الحادي عشر وقبيل الحروب الصليبية مباشرة؛ وهذا أدى إلى تماسك الوضع نسبيًّا في ألمانيا[8]، وإن كان هناك خلافا خطيرا نشأ بين هنري الرابع والبابا في روما كما مر بنا[9]، كان له توابع سنراها مع سير الأحداث.
    وفي إنجلترا ظهر ملك قوي أيضًا هو وليم الفاتح، ولكن وضع إنجلترا الاقتصادي كان سيئًا جدًّا؛ مما جعلها مشغولة تمامًا بنفسها[10]. أما الدويلات النصرانية في شمال الأندلس، فكانت تبذل كل طاقتها في حرب المسلمين هناك[11].
    وتأتي القوة العسكرية الأخيرة في غرب أوربا متمثلة في إيطاليا، وكانت في الواقع قوة كبيرة، خاصةً في المناطق التي يسيطر عليها النورمانديون في جنوب إيطاليا، وبالذات بعد ظهور زعيم قوي جدًّا هناك هو روبرت جويسكارد، الذي كانت له أحلام توسعية هائلة وصلت إلى حروب مباشرة مع الدولة البيزنطية العتيدة[12]، وقد استطاع هذا القائد أن يُسقِط البلقان البيزنطية تحت سيطرته، بل وبذل أولى المحاولات لاحتلال أنطاكية التي كانت في حوزة البيزنطيين ثم المسلمين، وكان الذي يبذل هذه المحاولات هو ابنه شخصيًّا، وهو الأمير بوهيموند، الذي سيكون بعد ذلك أحد أمراء الحملة الصليبية الأولى[13].
    كما صاحب ظهور هذه القوة الإيطالية المتنامية نمو سريع لأسطول بحري عسكري لميناء البندقية الإيطالي، وصار له أثر مباشر في تغيير سير الأحداث في حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله[14].
    إذن فالوضع السياسي في أوربا كان يضم عددًا كبيرًا من العسكريين المتصارعين، والمتنافسين على تقسيم البلاد عليهم، ولما كانت أوربا ضيقة وطبيعتها الجبلية والثلجية معوِّقة، كان التفكير في التوسع خارج أوربا، كما فكر في ذلك روبرت جويسكارد زعيم النورمانديين الإيطاليين، كما سيحدث بعد ذلك في الحروب الصليبية.
    رابعًا: الدافع الاجتماعي

    لم تكن الشعوب الأوربية في ذلك الوقت شعوبًا مستقرة، بل كانت تعيش حياة البدو الرُّحَّل، حيث ينتقلون من مكان إلى مكان سعيًا وراء الطعام أو الأمن؛ وهذا أدى إلى عدم وجود روح الاستقرار والتمسُّك بأرض معينة. ولعل هذا سهَّل كثيرًا على الناس أن يتركوا أوربا بكاملها، ويتجهون إلى فلسطين بحثًا عن نظام حياة أفضل وأسعد[15].
    وكان الفلاحون في أوربا يعانون بطش أمراء الإقطاع، ولم يكن للفلاحين أدنى حقوق، بل كانوا يباعون مع الأرض، ويستغلون تمام الاستغلال لجلب الرفاهية لمالك الإقطاعية، وهذا ولَّد عندهم شعورًا بالحقد تجاه ملاَّك الأراضي وملاَّكهم، ولكن لم يكن لهم فرصة ولا حتى حُلم في الخروج من أزمتهم[16].
    وفوق هذا الأسى الذي كان يعيشه معظم الشعوب فإن الجهل كان مُطبِقًا على الجميع، وكانت الأمية طاغية، ولم يكن هناك أي ميل للعلوم، وهذه الحالة المتخلفة جعلت من السهل جدًّا السيطرة عليهم بأية أفكار أو دوافع، ولم يكن عندهم من القدرة العقلية والذهنية ما يسمح لهم بتحليل الأفكار المعروضة عليهم، أو ما يمكِّنهم من الاختيار بين رأيين متعارضين، وهذا كله -ولا شك- سهَّل مهمة إقناعهم بترك كل شيء، والتوجه للحرب في فلسطين[17]!
    هذه الخلفيات التي بحثناها، وضحت لنا أن المجتمع الأوربي كان مكوَّنًا من طوائف شتى: دينية وسياسية واقتصادية وشعوبية، وكل هذه الطوائف لها أهدافها ومطامعها، تصغر أو تكبر بحسب حجمها، وسيكون من العجيب حقًّا أن تظهر شخصية تجمع أهداف هذا الشتات في هدف واحد، وتدفعهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم المادية والعقلية في اتجاه واحد، فيخرج الجميع، كلٌّ يبحث عن غايته، وكلٌّ يسعى لتحقيق سعادته.
    تُرى من هي هذه الشخصية؟ وكيف جمعت هذا الشتات؟ وما هي البواعث الحقيقية للحروب الصليبية؟ وهل هي حرب سياسية أم اقتصادية أم دينية؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله في المقال القادم.

    [1] Pianter, "westem Europ", pp. 5-6; Coulton, The Medieval Scene, pp. 33-34.
    [2] Maurice Keen, The Pelican History of the Middle Agws, p. 123; The Mayer, The Crusades, p. 22; Marc Bloch, feudal Socity, pp. 72-73; Cohn "The Appeal of the Crusades", p. 36.
    [3] Heyd: Hist du Commerce l, 132 – 133.
    [4] Robert S. Hoyt and Stanley Chodorow. Europe in the middle Ages, pp. 55 – 38.
    [5] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص42، 43،
    Mayer, The Crusades, pp. 15 – 16.
    [6] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص73، 74.
    [7] كانتور: التاريخ الوسيط 1/282:272.
    [8] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص74.
    [9] عن النزاع بين البابوية والإمبراطورية حول التقليد العلماني انظر:
    Hoyt and Chodorow, Europ in the Middle Ages, pp. 292–302: barraclough The Medival Papacy, pp. 77-39.
    [10] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص57.
    [11] Benjamin W. Wheeler,"The Reconquest of Spain", pp. 31-40.
    [12] Charanis, op. cit., p. 188.
    [13] Ostrogorsky: op. cit., p. 317.
    [14] Bishop, op. cit., p. 46.
    [15] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/36.
    [16] Boissonade: Life and Work in Med Europe, p. 85.
    [17] Boase, Kingodoms and Stronghlds of the Crusaders, pp. 16-17; Bishop, op. cit., p. 105; Wolff The Awarkening of Europ, p. 202; Coulton, The MedIeval Scene, pp. 33-34.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    قصة الحروب الصليبية

    البابا أوربان الثاني شخصية الحرب الصليبية (9)


    البابا أوربان الثاني .. شخصيته وتوجهه الفكري

    تولى الكرسي البابوي في سنة (480هـ) 1088م رجل من الرجال المهمين في الكنيسة الغربية، وكان لولايته الأثر في تغيير عدة صفحات متتالية من التاريخ، بل ولعل الآثار التي أحدثها هذا الرجل ما زالت موجودة إلى الآن. وهذا الرجل هو أوربان الثاني الذي تولى الكرسي البابوي في روما إحدى عشرة سنة، وذلك من سنة (480هـ) 1088 إلى سنة (492هـ) 1099م، وكان هو الآخذ لقرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي[1].
    وكان أوربان الثاني رجلاً ذكيًّا سياسيًّا لبقًا، وكان خطيبًا مفوَّهًا، وكان أيضًا جريئًا حاسمًا، وكان مطلعًا على أحوال العالم المعاصر له، وفوق كل ذلك كان يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين، سواء في بلاد المشرق حيث يحكمون أرض المسيح ، أو في الأندلس حيث يحكمون قطعة أوربية مهمَّة على مدار أربعة قرون متتالية حتى زمان تولِّيه البابوية. ثم إنه كان رجلاً ذا طموح كبير، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعًا في العالم، وذلك بتوحيد الكنيستين الغربية والشرقية؛ استكمالاً لجهود البابا الذي سبقه وهو جريجوري السابع[2].
    الإمبراطور البيزنطي يستنجد بأوربان الثاني
    وكانت العلاقات كما ذكرنا قبل ذلك قد تحسنت نسبيًّا بين البابا السابق جريجوري السابع والإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، ولقد طلب هذا الأخير المساعدة قبل ذلك من جريجوري السابع لنصرته ضد السلاجقة المسلمين، ولكن حركة جريجوري السابع لم تكن بالقوة المناسبة، ومن ثَمَّ فلم يكن هناك تحرك يُذكر لمساعدة البيزنطيين[3].
    غير أن الإمبراطور البيزنطي كرَّر المحاولة مرة ثانية، وأرسل وفدًا جديدًا إلى إيطاليا في مارس سنة (487هـ) 1095م لمقابلة البابا أوربان الثاني، وتجديد طلب المساعدة منه[4].
    أوربان الثاني واستغلال الفرصة

    فكر البابا أوربان الثاني في الأمر، ووجد أنه لو استغل هذه الفرصة واستجاب لطلب الإمبراطور البيزنطي، وعلى نطاق واسع، فسوف يحقِّق عدة أهداف في غاية الأهمية، وفي ضربة واحدة.
    فهو أولاً: سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين، حيث سيحمل البابا من جديد دعوة تهمُّ كل الشعوب الأوربية، وهي دعوة ستحمل بين طياتها الغفران الذي يبحث عنه الناس آنذاك بين يدي البابا[5].
    وثانيًا: سيقوم البابا بحملة عسكرية تشمل التنسيق بين ممالك وإمارات أوربا المختلفة، وسيحتفظ بالقيادة في يده، فهو بذلك سيستعيد سلطان الكنيسة العسكري والسياسي على كامل أوربا؛ وحيث إن القضية ذات طابع ديني، فالذي سيرفض قد يعاقب بالحرمان، وسحب الثقة، وقد يؤدِّي ذلك إلى زلزلة عرشه، وبالتالي يصبح البابا هو الشخصية الأولى في أوربا سياسيًّا كما هو دينيًّا[6].
    وثالثًا: لن يتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيًّا فقط، بل سيتحسن اقتصاديًّا أيضًا، فالبلاد التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة، والأوربيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال؛ تكفيرًا عن امتناعهم عن الذهاب لفلسطين.
    ورابعًا: الثروات التي ستأتي من فلسطين والشام، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا؛ وبذلك ستستقر الأوضاع المضطربة في أوربا[7].
    وخامسًا: ستنصرف طاقات أوربا العسكرية إلى حرب خارجية يُبرِزون فيها قدراتهم ويستنزفون فيها رغباتهم العنيفة، وذلك بدلاً من التصارع الداخلي بين الإمارات والإقطاعيات[8].
    سادسًا: ستشن أوربا الصليبية حربًا على العدو التقليدي لهم وهم المسلمون، وهي حرب في نظر البابا لا نهاية لها، ولن يرضى من المسلمين بشيء إلا بتغيير الدين.
    سابعًا: سيقوم البابا بذلك بنجدة آلاف الفقراء الذين يموتون في أوربا سنويًّا نتيجة الجوع والمرض والبرد، وسيشعر الجميع بذلك بالرضا نحوه.
    وثامنًا: ستتاح للبابا الكاثوليكي الفرصة الذهبية ليضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى كنيسته الكاثوليكية، وذلك تحت سيطرته هو، فهو الذي جاء من أقصى البلاد لينقذ النصارى الشرقيين من المسلمين.
    وتاسعًا: سيحقِّق حُلمًا عاطفيًّا دينيًّا قديمًا، بالسيطرة على الأرض التي وُلد فيها المسيح وعاش[9].
    وعاشرًا وأخيرًا: قد لا تتكرر بعدُ ذلك الفرصة المناسبة التي تبرر للشعوب هذه الحروب الضخمة والتضحيات الهائلة، فالآن النصارى الشرقيون يستغيثون[10]، ومن ثَمَّ فهناك مسوّغ أن تنفق الأموال، وتُزهَق الأرواح لنجدتهم، وستصبح صورة الحرب نبيلة، وستسكت الشعوب الأوربية عن مساءلة البابا عن الثمن الباهظ الذي سيدفعه في هذه الحروب، بينما لو كان المبرر للقتال ليس واضحًا فقد يَفْقد البابا عرشه إذا خسرت أوربا كثيرًا في حربها، وذلك مثلما حدث مع رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية، الذي خُلع من منصبه بعد الهزيمة الساحقة من السلاجقة في موقعة ملاذكرد[11]. فالبابا سيحقق كل المكاسب باستغلال هذه الفرصة، ولن يخسر شيئًا لو حدث مكروه للجيوش؛ لأنه في النهاية يحارب من أجل أهداف نبيلة فيما يبدو للناس.
    فتلك عشرة كاملة!!
    ومن هنا فإن البابا تحمَّس كثيرًا للطلب الذي طلبه الوفد البيزنطي الأرثوذكسي، بل إنه جعل الوفد يقابل المجمع الكنسي المجتمع في إيطاليا آنذاك؛ ليعرض صورة الوضع في الشرق، وذلك يكون أبلغ في التأثير في القساوسة، وينفي عن البابا شبهة التخطيط المنفرد للحملة ودون سبب واضح. وقد تحمس الحضور للفكرة، وتكلم البابا مؤيدًا لكلام الوفد البيزنطي، وقرر أن يُعِدَّ العدة لأخذ التدابير اللازمة لغزو الشرق الإسلامي.
    ماذا فعل البابا؟ وأين عقد المؤتمر الكنسي الكبير؟

    لقد قرَّر أن يعقد مجلسًا كنسيًّا كبيرًا يضم القساوسة من أطراف أوربا الغربية، وذلك لبحث أحوال الكنيسة المتردية، ثم في نهاية هذا المجلس الكنسي يعقد مؤتمرًا موسعًا يدعو إليه أمراء الإقطاعيات المختلفة، وكذلك الملوك إن أمكن، بل ويدعو إليه عامَّة الشعب؛ ليصبح مؤتمرًا جماهيريًّا مؤثرًا، وفي هذا المؤتمر سيدعو إلى التوجُّه عسكريًّا إلى فلسطين.
    ولكن بقي السؤال: أين سيعقد هذا المؤتمر الكبير؟
    كان البابا على خلاف مع معظم ملوك أوربا، وخاصةً هنري الرابع ملك ألمانيا، ولكنه كان على علاقة طيبة مع أمراء الإقطاعيات، وخاصةً في فرنسا؛ ولذلك قرر البابا أن يستفيد من علاقاته هذه مع الأمراء في فرنسا فيعقد المؤتمر هناك[12]، وخاصةً أن الكثافة السكانية في فرنسا كبيرة، إضافةً إلى المجاعة الكبيرة التي ضربت شمال فرنسا وشرقه في السنوات العشر الأخيرة، مما أثَّر في الظروف الاقتصادية، وبالتالي سيكون قبولهم لفكرة الحروب ضد الشرق الإسلامي فكرة مقبولة لإخراجهم من أزماتهم الكثيرة[13].
    ومن ثَمَّ قرر البابا أن يعقد مؤتمره الجامع في مدينة كليرمون[14] الفرنسية وذلك في (488هـ) 27 من نوفمبر سنة 1095م، وقد آثر أن يكون الوقت متأخرًا نسبيًّا؛ ليكون هناك فرصة لتبليغ الدعوة في أطراف فرنسا، وليحضر أكبر عدد من الفرنسيين. كما آثر ألا يكون المؤتمر في باريس؛ لكي لا يصطدم مع فيليب الأول ملك فرنسا، الذي كان على خلاف مع البابا، وأيضًا على خلاف مع أمراء الإقطاعيات الذين يعتمد عليهم البابا في مهمته.

    [1] محمد مؤنس: الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص63-65.
    [2] محمد مؤنس: الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص66.
    [3] Vasiliev: op. l, p. 358.
    [4] انظر نص الخطاب في: AOL, tom. ll, pp. 101-105
    وأيضًا انظر: قاسم عبده قاسم: الخلفية الأيدلوجية ص116،115، وعن حقيقة المساعدة العسكرية التي طلبها ألكسيوس من البابا انظر: Duncalf, "The Councils", pp. 227-228.
    [5] ول ديورانت: قصة الحضارة 15/16،15، وقاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص85،Chalandon: Hist. de la Premiere Croisade, p.p. 44 – 45.
    [6] Runciman: op. cit. 1, p.p. 108 – 109.
    [7] Michaud: op cit. Tome 1, p.p. 105 – 106.
    [8] Fulcher de Chartres, pp. 67; Baudri, pp. 14-15; Guibert le de Nogent, p. 11.
    [9] Fulcher de Chartres, pp. 65-66; Robert le Moin. pp.2-3.
    [10] Chalandon: Hist. de la Premiere Croisade. p.p. 37-41.
    [11] Vasiliev, op. cit., 1, p. 356.
    [12] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص70.
    [13] انظر رواية روبير الراهب الذي كان من بين حضور مجمع كليرمون:
    Robert de Rheims, "Historia lherosolimitana", RHC, Occ., 111, pp.727-30.
    [14] تقع في جنوب فرنسا، على بُعد 330 كيلو مترًا تقريبًا من باريس.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    قصة الحروب الصليبية
    مجمع كليرمون .. خطبة أوربان الثاني ونتائجها (10)


    قرر البابا أوربان الثاني أن يعقد مؤتمره الجامع في مدينة كليرمون[1] الفرنسية وذلك في (488هـ) 27 من نوفمبر سنة 1095م، وكان البرد شديدًا في ذلك اليوم، ومع ذلك فقد لبَّت جموع هائلة دعوة البابا، واجتمعوا في أحد الحقول الفسيحة في كليرمون، بل وامتلأت القرى والمدن المجاورة لكليرمون بالقادمين من كل مكان لسماع الخطبة المهمة التي كان البابا يرتِّب لها منذ سبعة أشهر كاملة[2].

    خطبة البابا أوربان الثاني في مجمع كليرمون
    خطب البابا أوربان الثاني خطبة طويلة عصماء، وكان بليغًا مفوهًا، وصبرت الجموع في البرد الشديد، بل وتفاعلت تفاعلاً كبيرًا مع كلمات البابا، الذي ضرب على أكثر من وتر في خطبته؛ وذلك ليؤثِّر في كل الحضور على اختلاف نوعياتهم وظروفهم وأهدافهم.
    وقد جاءت خطبة البابا في أكثر من رواية من الروايات الأوربية التي صوَّرت الحدث، واستخدم فيها أكثر من وسيلة لإقناع الحضور بضرورة التوجه إلى فلسطين لنجدة النصارى الشرقيين، ولحماية الحجاج المسيحيين الذين يعانون - كما يصور البابا - من ظلم وبطش الكفار (وهو يقصد المسلمين)[3].
    البابا ومؤثرات الإقناع في خطبته

    كان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح نفسه، فقال مثلاً: "ومن ثَمَّ فإنني لست أنا، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات"[4]. واستخدم فيها نصًّا من إنجيل لوقا فيه: "ومن لا يحمل صليبه، ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا"[5].
    وكان من المؤثرات أيضًا أنه وعد المشاركين في الحملة بالغفران، وهو مطلب جماهيري في ذلك الوقت، خاصةً مع شعور الناس أن الدنيا ستفنى قريبًا كما وضحنا قبل ذلك في مقال "الدافع الديني للحروب الصليبية"، وكان من كلام البابا في هذه النقطة أنه قال: "إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك، إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية، سواء في مسيرتهم على الأرض، أو أثناء عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين (يقصد المسلمين)، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها". وهو في هذا المقام يقول للجميع أنكم في كل الأحوال محققون للفائدة والخير، فحتى لو وصل الأمر لحدِّ الموت، فإن المشارك سيموت وهو مغفور الذنب[6].
    وكان من المؤثرات أيضًا أنه استفاض في تصوير مدى الألم والمعاناة التي يشعر بها الحجاج النصارى في فلسطين، وهذا كله من الكذب والزور، ولكنه صوَّر القضية كقضية إنسانية مؤثرة[7].
    وكان من المؤثرات أيضًا أنه لوَّح بوضوح بالثراء الذي عليه بلاد الشرق، بل إنه ذكر لهم ما جاء في الإنجيل عن أرض فلسطين حيث قال: "ووهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبنًا وعسلاً"[8]. يقصد فلسطين، وبذلك حرَّك عواطف الفقراء والأمراء معًا؛ فالفقير يبحث عن الحياة، والأمير يبحث عن التوسع والتملك.
    وكان من المؤثرات أيضًا أنه نبَّه الفرسان إلى وجود ميدان خصب لاستعراض قوتهم، وإبراز كفاءتهم بدلاً من التصارع معًا، وإخلال الأمن في داخل أوربا.
    وكان من المؤثرات أيضًا امتداح شجاعة الفرنسيين وقدراتهم القتالية، وأيضًا امتداح تاريخ أسلافهم، وتحميلهم تبعات سيادة أوربا وريادتها[9].
    وكان من المؤثرات أيضًا جذب المديون بوضع الدَّين عنه إذا شارك في القتال أو تقسيطه على فترات طويلة، وإعفاء أملاك الملاَّك من الضرائب أثناء القتال[10]، وإعفاء المجرمين من العقاب على جرائمهم إنْ هم شاركوا في الحملة[11].
    ولقد صاغ البابا أوربان الثاني كل هذه المؤثرات بأسلوب بديع، وكلمات مؤثرة، وحجج مقنعة حتى دخلت كلماته قلوب كل الحضور، وأشعلت -رغم البرد الشديد- حماسة كل السامعين، حتى إنه بمجرد الانتهاء من كلمته استجاب الحضور استجابة هائلة، وقاموا يطلقون صيحة واحدة، يقولون فيها: "الرب يريدها" Deus lo volt، وهي الصيحة التي صارت شعارًا للحرب بعد ذلك[12].
    ومن الجدير بالذكر أن البابا أوربان الثاني نفسه لم يكن يتوقع هذه الاستجابة الهائلة من الناس، بل إن هذه الاستجابة الضخمة أقلقته؛ لأنه كان يريد الاعتماد على الفرق النظامية والجيوش المدربة وليس العوام من الناس، ولكن العامَّة وجدوها فرصة للهروب من أزماتهم ومشاكلهم وديونهم وجوعهم ومرضهم، وبالتالي لم يكن هناك فرصة للتراجع[13].
    لقد كانت ثورة حقيقية في فرنسا، ومنها انتقلت إلى كل غرب أوربا[14]. وفي هذا المؤتمر أعلن البابا أوربان الثاني أنه على كل من قرَّر الخروج إلى هذه الحملة أن يحيك صليبًا من قماش أحمر ليضعه على كتفه؛ إشارةً إلى دينيَّة الحملة، ونبل المقصد[15].
    خطة أوربان الثاني بعد المؤتمر

    غير أن البابا لم يكتف بالحماسة الطاغية في المؤتمر، إنما أتبع ذلك بخطة عمل محكمة تضمن استمرارية الحماسة، وقوة التفاعل؛ ولذلك فقد قام البابا بعدة خطوات مؤثرة، كان منها ما يلي:
    أولاً: الحرص على وجود الغطاء الكنسيّ، والهيمنة البابوية على الحملة من بدايتها الأولى؛ ولذلك عيَّن في يوم مؤتمر كليرمون الأسقف أديمار دي مونتي أسقف لوبوي Le Puy قائدًا عامًّا رُوحيًّا للحملة، وكان بمنزلة نائب البابا في هذه الرحلة[16].
    ثانيًا: تواصل البابا مع كل المجامع الدينية في أوربا الغربية؛ ليأخذوا على عاتقهم مهمة تحميس الناس في مدنهم وقراهم، وبذلك تنتشر الدعوة إلى الحرب في كل مكان[17].
    ثالثًا: قام البابا بتكليف أحد رهبان اميان، وكان يُدعى بطرس الناسك، بالقيام بجولات مكثفة في أوربا لتحميس الناس، وجمع المقاتلين لغزو فلسطين، وكان بطرس الناسك هذا رجلاً موهوبًا في الخطابة، وكان يلبس الملابس الرَّثَّة، ويمشي حافي القدمين، ويركب حمارًا أعرجَ، فأخذ القضية بمنتهى الجدية، وبدأ في التجول في أنحاء فرنسا، وخاصةً في الشمال الشرقي منها، وكان له فعل السحر في الناس[18]، فكانوا يتبعونه بالعشرات والمئات والآلاف، واستطاع في غضون شهور قليلة أن يجمع خمسة عشر ألف رجل، غير نسائهم وأطفالهم[19]، وكان جُلُّ من انضم إليه من عوام الناس الفقراء، ومن المجرمين الخارجين على القانون. كما انضم إليه عدد قليل من الفرسان وأمراء الإقطاعيات. وعُرفت المجموعة التي كوَّنها بطرس الناسك بحملة الرعاع أو حملة العامة؛ لأنها لم تكن لها صبغة الجيش أو الميليشيات، إنما كانت عبارة عن مجموعات ضخمة من العوام غير المنظمين[20].
    وكما قام بطرس الناسك بجولته هذه، قام راهب آخر يدعى (والتر) ويلقَّب بالمفلس، واستطاع هو الآخر أن يجمع عددًا كبيرًا من المتطوعين الراغبين في الذهاب مع الحملة[21].
    رابعًا: لم يشأ البابا أن يترك الأمور هكذا مفتوحة دون تحديد حتى لا يطول أمد التجميع والتجهيز، فحدَّد موعدًا معينًا ومكانًا معينًا لاجتماع الجيوش والفرق من شتى البلدان؛ فأما الموعد فكان (23 شعبان سنة 489هـ) 15 من أغسطس سنة 1096م، وأما المكان فكان في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية.
    وكان هذا الموعد متأخرًا ليأخذ الفرصة لجمع الجيوش، وكذلك لتجميع المحاصيل في أول الربيع[22]، ثم تتحرك الجيوش مباشرة حيث ستقضي في الطريق ثلاثة أشهر تقريبًا. وكان المكان المختار للتجمع هو القسطنطينية؛ لأنها آخر محطة تقريبًا قبل دخول الأراضي الإسلامية في آسيا الصغرى، حيث كان من المخطط أن يحارب الصليبيون السلاجقة هناك ثم في الشام، وذلك قبل الانتقال إلى الهدف الأخير وهو فلسطين، وخاصةً بيت المقدس. ومن جانب آخر فإنه كان لا بد من لقاء الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين؛ وذلك لترتيب سبل التعاون معه لتسهيل أمور الحملة الصليبية.
    خامسًا: قام البابا بعدة مراسلات مع ملوك وأمراء أوربا ليحثهم على الخروج معه في الحملة، ولم يحقق في هذا المجال نجاحًا يُذكر مع الملوك، ولكن حقق نجاحًا كبيرًا مع الأمراء، وعلى رأس هؤلاء الأمراء ريمون الرابع كونت تولوز وبروفانس، وهو من الأمراء الكبار الذي كان مهتمًّا جدًّا بحرب المسلمين، حيث حاربهم قبل ذلك في الأندلس، كما ذهب أيضًا للحج في بيت المقدس[23]، وكان يرى في نفسه الكفاءة لقيادة الجيوش بكاملها، واستغل البابا حماسته هذه وعقد معه عدة اجتماعات، بل صحبه في مجمع نيم في يوليو 1096م[24]؛ وذلك لتحميس أكبر عدد من الناس للمشاركة في الحملة.
    وغير ريمون الرابع فقد استجاب عدد آخر من الأمراء، وسيأتي تفصيل ذكرهم عند الحديث عن تقسيم الجيوش الصليبية إلى مجموعات قبل الخروج.
    سادسًا: لم يكتف البابا بمراسلة الملوك والأمراء فقط، بل راسل أيضًا العسكريين والاقتصاديين في ميناء جنوة الإيطالي للمساعدة بأسطول بحري يسهِّل مهمة الحملة الصليبية، وقد استجاب الجنويون لنداء البابا، وأعدوا اثنتي عشرة سفينة بحرية، وناقلة كبيرة للجنود، وذلك في مقابل امتيازات كبيرة في بلاد الشام عند احتلالها[25].
    سابعًا: لم يقتصر البابا على المراسلات المكثفة التي أرسلها لكل رءوس الدول والإمارات، إنما أخذ يتجول بنفسه في مدن كثيرة وقرى عديدة، داعيًا لنفس المهمة، فعقد مجمعًا في ليموج Limoges في ديسمبر 1095م بعد المؤتمر الأول بأقل من شهر، ثم في عام 1096م قام بعدَّة جولات في أنجرز ومان وتورز وبواتييه وبوردو وتولوز ونيم، وهذا كان في الفترة من يناير إلى يوليو 1096م[26].
    وقد أسفرت هذه الجهود عن تجميع عدد كبير من الجنود جُلُّهم من فرنسا، وإن كان هناك جنود جاءوا كذلك من إيطاليا وإنجلترا وإسبانيا، بل ومن بعض البلاد البعيدة مثل إسكتلندا والدنمارك[27].
    ثامنًا: هدَّد البابا بأن كل من يقرِّر المشاركة ويحمل شارة الصليب ثم يتخلف عن الخروج فإنه سيعاقب بعقوبة الحرمان[28]؛ وقد فعل ذلك لكي يتجنب خطورة الحماسة الطارئة التي ما تلبث أن تفتر، فيجد أن الأعداد الكبيرة لم تصبر معه على الخروج مما ينذر بخطر كبير. وهو بذلك التهديد قد ضمن أن كل من عرض الخروج سيخرج؛ وبذلك يستطيع أن يبني حساباته على أرقام صحيحة.
    لقد كان جهدًا كبيرًا ومنظمًا بذل فيه الكثير من الوقت والفكر والمال، وجمعت فيه جهود أوربا الغربية في قضية واحدة، وهذا لم يحدث منذ عدة قرون، ومنذ سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة.
    بعد ذلك الاستعراض لخلفية أوربا التاريخية، ولخلفية البابا الفكرية، وللجهود التي بذلت، وللجموع التي استجابت للدعوة نستطيع أن ندرك البواعث الحقيقية لهذه الحملة الصليبية.
    إن كثيرًا من المؤرخين يجعل الباعث وراء الحملة الصليبية سببًا معينًا واحدًا أو رئيسيًّا، وينكر ما دونه من أسباب ودوافع، وهذا ينافي الواقع الذي رأيناه، وينافي خروج هذا الشتات من الناس، حيث يمثِّلون عدة طبقات من المجتمع الأوربي، وعدة بلاد مختلفة، وعدة أمراء وزعماء، وعدة لغات ولهجات، وعدة مستويات اجتماعية.
    إن هذا التنوع العجيب يثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أنه ليس هناك دافع واحد جمع كل هذا الشتات، إنما كانت الدوافع مختلفة، والبواعث متعددة، وأفلح البابا أوربان الثاني في الضرب على كل وتر؛ حتى يقنع الجميع بالخروج في رحلة واحدة وهدف واحد.

    [1] تقع في جنوب فرنسا، على بُعد 330 كيلو مترًا تقريبًا من باريس.
    [2] H. Hagenmeyer, "Chronologi de la Premiere Croisade 1094-1100", ROL V1, p. 225.
    وعن الجولة التي قام بها البابا في الجنوب الفرنسي، وإعداده لمجمع كليرمون، انظر:
    Dunculf, "The Councils of piacenza and Clermont", in Setton, vol. 1, pp. 234-237.
    [3] Fulcher de Chartres, pp. 65-66; Robert le Moin. Pp.2-3.
    وأفضل دراسة لخطبة البابا في كليرمون قام بها مونرو، عن طريق مقارنة نصوص المؤرخين اللذين أوردوها، انظر:
    D.C.Munro, "The Speech of Pope Urban ll at Clemont", pp. 231-242.
    [4] Robert le Noin, p. 4: Baudri de Bourgueil, p.7: William of Tyre, vol. 1, p. 39.
    [5] إنجيل لوقا 14: 27.
    [6] Fulcher de Charts, pp. 61-63.
    [7] Chalandon: Hist. de la Premiere Croisade. p.p. 37-41.
    [8] Fulcher de Charts, pp. 65-66.
    [9] Fulcher de Chartres, p. 67; Baudri, pp. 14-15; Guibert de nogent, p. 11.
    [10] Mayer, The Crusades, pp. 41-42; Runciman, A Hist. 1, p. 109.
    [11] Thompson: op. cit., vol. 1, p. 302.
    [12] Robert le Moin, pp. 4-5; Fulcher de Charts, p. 68.
    [13] Riley – Smith op, cit, pp. 39-40.
    [14] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص110، الحملة الصليبية الأولى نصوص ووثائق تاريخية ص17.
    [15] Mayer, The Crusades, pp. 41-42; Runciman, A Hist. 1, p. 109.
    [16] Cam. Med. Hist. vol. 5 p. 273.
    [17] Runciman, A Hist. of the Crusades, 1, pp. 108-109; Maver, The Crusades, pp. 42-43.
    [18] Grouset: Hist. des Croisades, 1, p. 50
    [19] Michaud: op. cit. Tome 1, p.p. 105-106.
    [20] عن حملة بطرس الناسك وأحداثها التفصيلية، انظر:
    Albert D`Aix, in Peters (ed.), The First Crusade, pp. 96-99; William of Tyre, 1, pp. 99-106; Chronique de Zimmern, A OL, ll, pp. 23-24; Anna Comnena, Alexiade, pp. 310-311; Runciman, A Hist. of the crusades, 1, pp. 123-127; Duncalf, "Clermont to Constantinople:, p. 260-262.
    [21] Vasiliv: op. cit., vol ll, p. 404.
    [22] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص108.
    [23] Michel Le Syrien: (Rec. Hist. Cr Doc. Arm), 1. p. 372.
    [24] Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 273.

    [25] Heyd. : Hist. du Commerce 1, p. 133; Setton: op. cit, 1, p. 252.
    [26] Hagenmeyer, "Chronologin", ROL, V1, pp. 224-225, p. 226,243; AOL, 1, pp. 109-110,116,119.
    [27] Runciman: op. cit. 1, p. 112.
    [28] Runciman: op. cit. 1, p.p. 108-109.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    بواعث الحملة الصليبية ضد العالم الإسلامي-(11)

    الحملات الصليبيةنستطيع بملاحظة تاريخ أوربا قبل الحملة الصليبية، وبملاحظة طرق التحميس، وبملاحظة خط سير الحملة الأولى، والمواقف التي تمت في رحلة الذهاب إلى أرض الشام، ثم بملاحظة الأحداث التي رأيناها أثناء الحروب الفعلية في آسيا الصغرى والشام وفلسطين، نستطيع بملاحظة كل هذه الأمور أن نحدِّد البواعث التي دفعت هذه الجموع المختلفة أن تجتمع للخروج في الحملة الصليبية. بواعث الحملة الصليبية وهذه البواعث تضم ما يلي:

    أولاً: الباعث الديني وهذا الباعث يشكِّل أحد الدعامات الرئيسية لهذه الحملة، وإن لم يكن كما ذكرنا الدافع الوحيد، ونحن نعلم من القرآن الكريم، وكذلك من السُّنَّة المطهرة أن الحرب أبدية بين الإسلام ومن يرفضه، ولن يقنع الكثير من الناس بالتعايش السلمي مع الإسلام حتى لو مدَّ الإسلام يده بالتصافح والتحابِّ؛ لذلك فليس مستغربًا أن يسعى البابا أوربان الثاني لحرب المسلمين حتى دون وجود مبررات معينة تدفع لهذه الحرب، فهم مسلمون وهذا في حدِّ ذاته يكفي أن يكون سببًا في حربهم. وقد تكررت في كلماته ألفاظ توحي بعدم اعترافه بالإسلام أصلاً، كإطلاق لفظ الكفار أو الوثنيين على المسلمين، وعلى ذلك فالدافع الديني واضح عند البابا، ولا شك أنه واضح أيضًا عند بعض القساوسة والرهبان، كما أنه واضح أيضًا عند بعض الأمراء والقوَّاد.

    وفوق كل ذلك فالهدف الديني هو الهدف المعلن للحملة، وإنقاذ الدولة البيزنطية من المسلمين كان السبب المتداول بين الناس، إضافةً إلى ادِّعاء البابا أن المسلمين يضطهدون الحجاج المسيحيين، وإن كان واضحًا أن هذا الادِّعاء ما ذكر إلا للاستهلاك المحلي في أوربا فقط[1]، ولتحميس الجيوش والشعوب النصرانية؛ لأنه لم يثبت أبدًا أن المسلمين اضطهدوا الحجاج النصارى، وقد ذكر أحد كبار المؤرخين الأوربيين وهو غيورغي فاسيلييف أن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي، فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة، وإنما سمح لهم أيضًا بتشييد كنائس وأديرة جديدة، جمعوا في مكتباتها كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت[2].

    ويقول تومبسون -وهو مؤرخ-: "إن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها"[3].

    بل إن كلام بطريرك القدس ثيودسيوس شخصيًّا في إحدى رسائله إلى بطريرك القسطنطينية سنة (255هـ) 869م امتدح المسلمين، وأثنى على قلوبهم الرحيمة، وتسامحهم المطلق، حتى إنهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شئونهم الخاصة، وقد ذكر بطريرك القدس في رسالة حقيقية مهمة حين قال: "إن المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت"[4].

    هذه الكلمات والشهادات وغيرها تثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أن كلام البابا أوربان الثاني عن اضطهاد المسلمين للحجاج المسيحيين ما هو إلا فِرْية لا أصل لها، وتغطية مكشوفة على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة العنيفة.

    وفوق هذا فإننا لم نَرَ في سلوك المحاربين في هذه المعارك -سواء في رحلتهم إلى بيت المقدس أو في أثناء حروبهم- أيَّ علامات للزهد أو الورع الذي يتصف به المتدينون، بل كانوا في غاية السفاهة والحمق، وبلغوا الذروة في الشر والإجرام، بل إنهم لم يتصفوا بذلك فقط عند تعاملهم مع المسلمين، بل كذلك عند تعاملهم مع النصارى الشرقيين، وسنرى طرفًا من هذا السلوك المقيت في أكثر من موضع من مواضع هذه القصة، سواء مع نصارى المجر والنمسا وبلغاريا أو مع نصارى القسطنطينية ذاتها، التي زعموا أنهم جاءوا لإنقاذها[5]!

    إذن كان الباعث الديني موجودًا، ولكنه ليس هو الدافع الوحيد، بل لا ينبغي أن يُضخَّم كثيرًا؛ فعموم الحملة الصليبية لم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانوا جميعًا يضعون شارة الصليب على أكتافهم، ويدَّعون أنهم يريدون المغفرة!!

    ثانيًا: الباعث الاقتصادي وهذا الباعث أيضًا من أهم البواعث في هذه الحملة الصليبية، فالجموع الهائلة من العامة خرجت لإحباطها التام من الحصول على أي قسط من رغد الحياة في أوربا، فخرجوا يبحثون عنها في فلسطين، وهم لن يخسروا شيئًا، فحتى الموت أفضل من حالتهم البائسة تحت نير الإقطاعيين والملوك[6].

    والأمراء الإقطاعيون ما خرجوا إلا بغية الثراء والتملك، وقد كانت الحرب في فلسطين فرصة للكثيرين من أمراء أوربا لتحقيق طموحات استحال عليهم تحقيقها في أوربا؛ لأن القانون الأوربي آنذاك كان يمنع تقسيم الميراث على كل الأبناء، بل كانت تنتقل الإقطاعية بكاملها إلى الابن الأكبر بعد وفاة الأب الأمير، وذلك حتى لا تتفتت الثروة وتقلُّ الأرض، وبالتالي تسقط الهيبة والكلمة[7].

    وهذا الوضع خلق جيلاً من الأمراء لا أمل عندهم في التملُّك، فلما فتحت أمامهم أبواب الحرب في فلسطين سارعوا جميعًا للحصول على أي ملكية؛ لينافسوا بذلك إخوانهم الكبار.

    وكان هذا الباعث الاقتصادي واضحًا أيضًا عند تجَّار الموانئ الإيطالية، وأشهرها البندقية وبيزا وجنوة، وكذلك تجَّار مرسيليا الفرنسية، وغيرهم من تجار أوربا؛ فقد رأى هؤلاء التجار أن الفرصة لتحقيق المصالح الذاتية لهم، ولو على حساب البابوية والكنيسة[8]، وكان تبادل المصالح واضحًا جدًّا بينهم وبين الكنيسة، فالصليبيون لن يستطيعوا الاستغناء أبدًا عن معونة الأساطيل البحرية، والتجار سوف يأخذون مقابلاً سخيًّا نظير هذه المعونة، وهذا المقابل كان عبارة عن امتيازات خاصة تُعطَى للجمهورية التي تساهم في هذه الحروب المتواصلة، ولم تكن الامتيازات تشمل فقط حرية التجارة في البلاد المفتوحة، بل كانوا يُعْطَون في كل مدينة تُفتح شارعًا وسوقًا وفندقًا به حمام ومخبزًا خاصًّا، وكان التنافس بين الجمهوريات الإيطالية في هذا المجال كبيرًا جدًّا، بل كان التصارع والتقاتل، وما لبثت مرسيليا أن سارت على نهجهم، وتنافست معهم، وأخذت امتيازات قوية في بيت المقدس ذاته[9].

    ولا يخفى على أحد أن النوايا الدينية لم تشغل أبدًا أذهان هؤلاء التجار الجشعين، وكانت كنوز الشرق وأراضيه هي الباعث الأكبر لهم على بذل كل الجهد لإنجاح الحملة الصليبية.

    ثالثًا: الباعث السياسي وهذا الباعث الذي يهدف إلى توسيع النفوذ وقهر المنافسين، كان باعثًا رئيسيًّا عند البابا أوربان الثاني شخصيًّا، وكذلك عند ملوك أوربا، وهؤلاء الملوك لم يكن طموحهم يقف عند شيء، وكانت قوة كل ملك فيهم ترتبط بالمساحة التي يسيطر عليها، وهذا دفعهم بعد ذلك للمشاركة بقوة في الحملات الصليبية عندما شاهدوا النجاحات التي حققتها الحملة الأولى.

    كما أن ملوك أوربا كانوا يرون أن الدولة البيزنطية دخلت طورًا واضحًا من أطوار الضعف، ولو سقطت فإن هذا يعني فتح الباب الشرقي لأوربا لقوات المسلمين العسكرية، سواء من السلاجقة أو من غيرهم، وهذا قد يضعهم بين فكي كماشة، أي المسلمين القادمين من الشرق والمسلمين في أرض الأندلس؛ لذلك رأينا أنه برغم التباطُؤ الذي رأيناه من الملوك في بداية الحملات إلا أنهم تسارعوا بعد ذلك للمشاركة، بل ذهب بعضهم بنفسه إلى أرض فلسطين أو مصر على قيادة جيوشه.

    رابعًا: الباعث الاجتماعي مرَّ بنا عند الحديث عن الحالة في أوربا قبيل الحروب الصليبية، الحالةُ المزرية التي كان يعيشها الفلاحون والعبيد في أوربا؛ ففضلاً عن قلة الأقوات وانعدام الطعام والشراب، كانت المعاملة في غاية السوء، ولم يكن لهم حقوق بالمرَّة، بل كانوا يباعون مع الأرض، ولا يسمح لهم بأي نوع من الملكية، والإنسان قد يصبر على الجوع أحيانًا لكن الامتهان النفسي والأذى المعنوي، قد يكون أشد ألمًا من الجوع والعطش؛ ولذلك رأى العوام الفلاحون في أوربا أن هذه فرصة لتغيير نظام حياتهم، والخروج المحتمل من قيود العبودية المذلَّة؛ ولذلك خرج الفلاحون بنسائهم وأولادهم، وحملوا معهم متاعهم القليل البسيط، لقد كان خروجًا بلا عودة، وتغييرًا كاملاً للأوضاع، وثورة حقيقية على حياة التعاسة والاستغلال؛ لذلك سنرى أثناء الأحداث أن هذه الجموع البائسة ما صبرت حتى تكتمل الجيوش وتنتظم، بل خرجت بمفردها مسرعة، وكأنها تهرب من أسرٍ طويل! ولقد شارك هؤلاء البائسين فريقٌ آخر من المجرمين والخارجين على القانون الذين كانوا يعانون أحكامًا قضائية أو مهددين بذلك، وقد وجدوا الخروج ليس فرصة للنجاة من الأحكام وحسب، ولكنه فرصة أيضًا لمزاولة السلب والنهب والقتل والاغتصاب كما اعتادوا ذلك في حياتهم؛ وهذا سيعطي الحملات الصليبية صبغة إجرامية لا يمكن تجاهلها أبدًا.

    كانت هذه هي البواعث التي من أجلها تحركت أوربا لغزو العالم الإسلامي، والسيطرة على أرضه ومقدراته وشعوبه.

    تُرى عن أي شيءٍ أسفرت هذه الجهود والإعدادات؟ وكيف كانت الصورة عندما خرجت أول الجموع إلى الشام؟ وماذا فعلت هذه الجيوش الكثيفة مع ملك القسطنطينية قبل أن تعبر إلى أراضي المسلمين؟ هذا ما سنعرفه في المقالات القادمة بإذن الله.

    [1] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/30.

    [2] Vasiliev: Byzantine Empire p.393. [3] Thomson: Economic& Social history of the middle age vol. 1.p.391. [4] Thomson: Economic& Social history of the middle age vol. 1.p.385

    . [5] William of Tyre, 1,
    p.

    105-106, Hagenmeyer, "Chronologie", p. 243, 245-246; Anna Comnena, Alexiade, pp. 311 [6]
    سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/36.
    [7] سعيد عاشور: أوربا في العصور الوسطى 2/263.
    [8] Heyd: Hist su commerce I, 132- 133. [9] سعيد عاشور: الحركة الصليبية ص33، 34.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    الإعداد العسكري للحملة الصليبية الأولى-(13)




    الوحدة الأوربية ضد المسلمين

    لم تعرف أوربا الغربية في هذا الوقت الوحدة بأي شكل من الأشكال، ولم يحدث منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية العظمى في سنة 476م -أي منذ أكثر من ستة قرون- أن تجمعت جيوش الدول الأوربية الغربية في معركة واحدة، اللهم إلا المساعدات التي كانت تقدمها هذه الدول -وخاصةً فرنسا- للممالك النصرانية في شمال الأندلس في حروبهم ضد مسلمي الأندلس.
    بل لم تعرف الدول ذاتها في ذلك الوقت الوَحْدة الداخلية، فكانت كل دولة أو مملكة مقسمة لعدة إقطاعيات، وعلى كل إقطاعية أمير يحكمها فيما يشبه الحكم الذاتي، وإن كان يدين بالولاء للملك الذي يجمع الإقطاعيات معًا، وإن كان هذا الولاء كثيرًا ما يكون ولاءً شكليًّا لا واقعيًّا.
    إن وضعنا هذه الخلفية في أذهاننا، فإننا سندرك أن تجميع هذه الإقطاعيات المتعددة في جيش واحد منظم سيكون أمرًا صعبًا جدًّا، بل إنه يكاد يكون مستحيلاً، وهذا سيعني أن الحملة الصليبية غالبًا ستكون مكوَّنة من عدة جيوش منفصلة، على رأس كل جيش أمير له أحلامه الخاصة، وله ولاءاته الخاصة أيضًا، وقد يحدث التعاون بين هذه الجيوش المتعددة في بعض المواقف، ولكنه -لا شك- سيحدث أيضًا التعارض والتشاحن بين نفس الجيوش، خاصةً أن الكثير ممن شارك في هذه الحملة الصليبية الأولى كان متنافسًا مع أمراء آخرين شاركوا في نفس الحملة؛ مما سيفرز مواقف ذات طابع خاص، كلها يثبت في النهاية أن المطامع الشخصية والأهواء الخاصة كانت هي الدافع الوحيد لخروجهم -أو على الأقل لخروج معظمهم- ولم يكن في اعتبارهم أبدًا الدين أو الكنيسة أو الصليب.
    جيوش الحملة الصليبية الأولى

    وبالنظر إلى الجيوش التي كوَّنت الحملة الصليبية الأولى، نجد أنها عبارة عن خمسة جيوش مستقلة:

    1- الجيش الأول
    كان الجيش الأول بقيادة الفرنسي جودفري دي بوايون GODFREY DE Bouillon وهو أمير لوثرتجيا جودفري البولوني، وكان بصحبته أخوه الأمير بلدوين[1]، كما التحق بجيشه عدة أمراء آخرين معظمهم من فرنسا، وقد أعطت كثرة الأمراء في هذا الجيش صبغة خاصة من الأهمية له[2]، وكانوا في المعظم من منطقة اللورين شمال فرنسا، وكان في هذا الجيش أيضًا بعض الألمان[3].
    والأمير جودفري بوايون وإن كان فرنسيًّا إلا أنه كان يدين بالولاء للإمبراطور الألماني القوي هنري الرابع، ولم يكن يدين بالولاء للملك الفرنسي الضعيف آنذاك فيليب الأول[4]، وكان جودفري بوايون يحرص على أن يكون قائدًا عامًّا لكل الحملة الصليبية، يؤيده في ذلك كثرة الأمراء في جيشه خاصة.

    2- الجيش الثاني
    أما الجيش الثاني فكان جيشًا مهمًّا أيضًا؛ إذ كان على رأسه الأمير ريمون الرابع كونت تولوز والبروفنسال، وهو الجيش القادم من جنوب فرنسا، وكان هذا الجيش يكتسب أهمية خاصة لكون الأمير ريمون يعتبر نفسه -كما كان جودفري بوايون- أهمَّ قواد الحملة الصليبية. وكان الأمير ريمون أكبر الأمراء سنًّا، كما أنه كان من أوائل الذين استجابوا لدعوة البابا أوربان الثاني، بل إنه صاحبه في أكثر من مؤتمر لجمع المحاربين، وهو الذي قبل ذلك شارك في حرب المسلمين في بلاد الأندلس، وكان صاحب صبغة دينية واضحة، وكان مقربًا من البابا حتى إن البابا جعلَ في جيشه هو دون غيره ممثلَ الكنيسة أديمار أسقف لوبوي[5]، وفوق كل ذلك فإن جيشه كان أكبر الجيوش الصليبية؛ كل هذه المقومات جعلت الأمير ريمون الرابع يطمع في أن تكون إمارة الجيوش العامة معه هو، وليس مع غيره[6].

    3- الجيش الثالث

    وأما الجيش الثالث فكان بقيادة الأمير روبرت دوك نورماندي Robert Duke Normandy الذي كان يصطحب معه زوج أخته ستيفن كونت بلوا Stephen Blois، وكان هذا الجيش من غرب فرنسا في الأساس، إضافةً إلى جيش نورماندي مع الكثير من الفرسان الإنجليز[7].

    4- الجيش الرابع

    وكان الجيش الرابع فرنسيًّا أيضًا، ولكنه كان جيشًا صغيرًا، ويبدو أنه كان تمثيلاً شرفيًّا لملك فرنسا فيليب الأول، حيث كان على قيادة الجيش شقيق الملك شخصيًّا، واسمه هيو، وكان كونت قرماندو Hugh count vermanois[8].

    5- الجيش الخامس
    أما الجيش الخامس والأخير فكان جيشًا خطيرًا ومهمًّا، وهو الجيش الإيطالي القادم من جنوب إيطاليا، والمكوَّن من المقاتلين النورمان الأشداء، وكان على قيادته الأمير الطموح بوهيموند ابن روبرت جويسكارد[9]، وكان هذا الأمير يطمح -كما كان جودفري بوايون وريمون الرابع يطمحان- إلى قيادة الجيوش مجتمعة، وكان يؤيِّده في ذلك أن جيشه هو أقوى الجيوش تنظيمًا، وأكفأهم عسكريًّا، وأشدهم قتالاً[10]. ثم إنه ابن روبرت جويسكارد، وكان من أقوى أمراء أوربا مطلقًا، وهو الذي استطاع إخضاع البلقان لسيطرته بعد أن هزم الدولة البيزنطية ذاتها[11]، كما أن لبوهيموند خبرة سابقة في حصار أنطاكية سنة 1081م، ومواجهة الدولة البيزنطية هناك. وكان بصحبة بوهيموند ابن أخته الأمير تانكرد، وهو من الأمراء الأشداء الطموحين أيضًا، كما اصطحب أيضًا عددًا من الأمراء النورمان الأكفاء[12].
    وهكذا نجد أن الجيوش الصليبية لم تجمعها قيادة موحَّدة، بل كان القواد من البداية يتصارعون على القيادة العامة، كما أن كل واحد منهم كانت أحلامه الخاصة تراوده في التوسع والتملك.

    تحرك الجيوش الصليبية

    كان أول الجيوش الصليبية تحركًا ووصولاً إلى الدولة البيزنطية هو الجيش الرابع الصغير، ولكنه كان تعيس المصير؛ إذ سلك الطريق البحري، وأصابته عاصفة شديدة بالقرب من سواحل الإمبراطورية البيزنطية، فهلك الكثير منه، وأنقذت فرقة من البحرية البيزنطية بقية الجيش[13]، وقابل الأمير هيو الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، ولم يكن عجيبًا في مثل هذه الظروف أن يُقسِم الأمير يمين الولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي[14]، كما أقسم على أنه سيبذل كل جهده لتحرير البلاد التي أخذها المسلمون من سلطان الدولة البيزنطية.

    ولم يكن هذا الجيش -كما هو واضح- مؤثرًا بشكل من الأشكال في خط سير الأحداث.
    أما الجيش الذي وصل بعد ذلك فكان الجيش الأول، وهو جيش جودفري بوايون، ونحتاج إلى وقفة مهمة مع هذا الجيش.
    لقد سلك هذا الجيش الطريق البريّ الذي سلكه قبل ذلك بطرس الناسك ووالتر المفلس وبقية الحملات الشعبية[15]، وبالتالي فسيمر على المجر وغيرها من المناطق التي تحمل ذكريات مؤلمة للأوربيين الغربيين، وقد تصطدم هذه الجيوش مع ملك المجر القوي كولومان؛ مما قد يعطِّل مسيرتها ويبدِّد قوتها؛ لذلك قرَّر جودفري بوايون في ذكاء شديد أن يعقد اجتماعًا مهمًّا مع ملك المجر على الحدود الألمانية المجرية وقبل أن يدخل الأراضي المجرية؛ ليعقد معاهدة مع هذا الملك يضمن فيها عدم المساس بأية ممتلكات، وعدم إيقاع الضرر بأي إنسان مجريٍّ، ولكي يطمئن ملك المجر إلى وفاء الأمير جودفري فإنه قرر أن يترك أخاه الأمير بلدوين رهينة عند ملك المجر لحين عبور الجيش الصليبي، كما أصدر جودفري الأوامر المشددة لجيشه بعدم القيام بأي عمليات سلب أو نهب في المنطقة.
    وهكذا عبر الجيش الصليبي الأول مملكة المجر بأمان، ثم عندما دخل إلى الأراضي البيزنطية قابل وفدًا للإمبراطور البيزنطي، وذلك فيما بين بلجراد ونيش، وتعهد لهذا الوفد أيضًا بعدم المساس بأية ممتلكات بيزنطية، وفي المقابل تعهدت الإمبراطورية البيزنطية بتقديم كل ما يلزم الجيش الكبير من تموين ومساعدات حتى وصولهم إلى أرض المسلمين[16].
    ثم أكمل الجيش الصليبي طريقه حتى وصل إلى شاطئ بحر مرمرة عند مدينة سليمبريا Selymbria البيزنطية، وذلك في (489هـ) منتصف ديسمبر 1096م، وهناك فَقَد جودفري بوايون السيطرة على جيشه الذي لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام ثراء المدينة، فقام الجنود بسلب المدينة ونهبها[17].
    وكانت هذه الحادثة علامة إنذار واضحة للإمبراطور البيزنطي تخيفه من هذه الجنود التي أتت من غرب أوربا، ووقف الإمبراطور البيزنطي يحلِّل الموقف بدقة.
    إنه لم يأت بهؤلاء الجنود إلى هذا المكان، ولم يستنجد بالبابا إلا ليدفع خطر المسلمين، ويعيد امتلاك ما أخذ منه على مدار السنوات القادمة، وعلى هذا فالذي كان في حساباته أن هذه الجيوش ستكون كالجنود المرتزقة الذين تعوَّدت الإمبراطورية البيزنطية على استيرادهم قبل ذلك، فهم سيقومون بمهمة ثم يأخذون أجرهم، وينتهي بذلك دورهم.
    أما ما رآه الإمبراطور البيزنطي من آثار الحملات الصليبية السابقة، ومن جيش جودفري بوايون الآن فشيء يدعو إلى القلق العميق؛ لأن هذه الجموع التي جاءت بنسائها وأولادها جاءت لتستقر، كما أنها لا تحسب حسابًا للدولة البيزنطية العظمى. ثم إن الجيوش الصليبية النظامية كبيرة وقوية، وهذا الجيش الأول بقيادة جودفري جيش محترف، وله بأس وقوة، فكيف إذا اجتمعت الجيوش الصليبية كلها؟!
    ثم إن الإمبراطور البيزنطي استرجع بذاكرته قصة المغامر النورماندي رسل دي باليل Roussel de Bailleul الذي كان من الجنود المرتزقة المأجورة مع فرقته الإيطالية لدى الإمبراطورية البيزنطية، ثم ما لبث أن أعلن عصيانه سنة (465هـ) 1073م على الدولة البيزنطية وحاربها وأنزل بها ضررًا بالغًا، ولم تنته قصته إلا بفَقْد عدد مهم من المدن البيزنطية أخذها السلاجقة المسلمون بعد الاتفاق مع الإمبراطور البيزنطي على التخلص من رسل باليل في مقابل أخذ ما يسيطرون عليه من المدن، وإذا كان رسل باليل قد أحدث كل هذا الضرر بثلاثة آلاف مرتزقة كانوا معه، فكيف سيكون الحال مع جيش كجيش جودفري، أو المصيبة الكبرى لو اجتمعت الجيوش الصليبية كلها على أمر واحد.
    لذلك قرر الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين أن يتعامل بالحزم من أول الأمر مع جودفري، كما حرص كل الحرص على إنهاء مشكلته قبل أن يأتي جيش صليبي آخر فتزداد المشكلة تعقيدًا[18].

    [1]Michaud: nHist. Des Coisades, 1, pp. 146-147.
    [2] Runciman: op. cit., 1, p. 147.
    [3] William of Tyre 1, pp. 116-120.
    [4] Cam. Med Hist vol. 5, p. 281.
    [5] Grousset: Hist. des Croisades 1, pp. 24-25; Runciman, Hist. of the Crusaddes, 1, p. 142.
    [6] Runciman: op. cit. 1, p. 136.
    [7] Raymond d` Aguilers, in Peters (ed)., The first Crusade, pp. 181-211. William of Tyre 1, pp. 139-140.
    [8] Anna Comnena, p. 314: AOL, 1, pp. 121-122, 145: Hagenmeryer "chronologie", p. 248.
    [9] Gesta Francorun, pp. 6-13; Anna Comnena, pp. 326-329.
    [10] Runciman: op. cit. 1, p. 157.
    [11] Ostrogorsky: op. cit. ll, p. 381.
    [12] Chalandon: Premiere Croisade, p. 132.
    [13] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص118.
    [14] Anna Comnena, p. 315; Fulcherde Chartres, p. 72.
    [15] Setton: op. cit., 1, p. 12.
    [16] Albert d` Aix, 1v. pp. 299-305.
    [17] Idem, p.p. 304-305.

    [18] Chalandon: Premiere Croisade, p.p. 119-121.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


    الجيوش الصليبية في آسيا الصغرى-(14)

    بين الإمبراطور البيزنطي وجودفري
    قرر الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين أن يتعامل بحزم مع جودفري، فطلب من جودفري بوايون أن يقسم الولاء له، وهذا يعني أنه سيقسم أن يكون تابعًا للإمبراطور البيزنطي في الأراضي التي يمتلكها المسلمون الآن[1]، وبالتالي فإن جودفري لو نجح في أخذها فسيأخذها لصالح الإمبراطور البيزنطي لا لصالح نفسه، وبذلك يتحدد الوضع القانوني للبلاد منذ البداية، ويحتفظ الإمبراطور بكل الحقوق للدولة البيزنطية.

    وكان هذا -لا شك- طلبًا قاسيًا، وشرطًا في غاية الصعوبة!
    إن جودفري بوايون يدين بالولاء لإمبراطور آخر قد تتعارض أهدافه وأوامره مع الإمبراطور الأول، ثم إن جودفري جاء بناءً على دعوة الكنيسة الكاثوليكية، فكيف يُعطِي ولاءه للإمبراطور الذي يرعى الكنيسة الأرثوذكسية! ثم فوق ذلك وقبل كل ذلك إنه يريد لنفسه السيطرة والملك، وليس في اعتباراته أيُّ حقوق ماضية أو وقائع تاريخية. إنه يتعامل بأسلوب القراصنة، ولا يحتاج لمبرر كي يستولي على أملاك غيره[2]!!
    ونتيجة لهذه العوامل فإن جودفري قرر أن يُسوِّف في الاستجابة لطلب الإمبراطور البيزنطي، وذلك حتى تأتي بقية الجيوش الصليبية، ومن ثَمَّ يستطيعون أخذ موقف موحَّد يحمي أحلامهم، ولا يورِّطهم فيما لا يريدونه.
    غير أن الإمبراطور البيزنطي لم يعجبه هذا السلوك وأدرك أهداف جودفري؛ ولذلك فقد قرر عدم الانتظار، وأخذ قرار قطع التموين الغذائي عن جيش جودفري، فما كان من الجيش الصليبي إلا أن ردَّ بسلب ونهب الضياع والقرى المحيطة بالقسطنطينية، وتأثر الإمبراطور البيزنطي وقرر العدول عن رأيه، وأعاد التموين للجيش الصليبي، بل واستضاف الجيش الصليبي في ضاحية بيرا Pera (وهي من ضواحي القسطنطينية)[3]، ولكنه ظل مطالبًا جودفري بأن يقسم له بالتبعية والولاء، ولكن جودفري ماطل من جديد، وظل على هذه المماطلة ثلاثة أشهر كاملة من يناير إلى آخر مارس سنة 1097م، بل إنه رفض أن يقابل الإمبراطور البيزنطي أصلاً.

    جودفري يقسم بالولاء للإمبراطور البيزنطي
    في أوائل إبريل 1097م علم الإمبراطور البيزنطي أن الجيش النورماندي الإيطالي (وهو الجيش الخامس) قد قارب الوصول إلى القسطنطينية، وكان يعلم قوة هذا الجيش وبأسه، ولم يرد له أن يلتقي مع جيش جودفري إلا بعد الانتهاء من مشكلة جودفري؛ لذلك قرر من جديد أن يستثير جودفري بقطع الإمدادات عنه، فردَّ جودفري بمهاجمة بيرا ونَهْبها ثم إحراقها، بل قام بمهاجمة أسوار القسطنطينية نفسها[4]، وهنا اضطر الإمبراطور البيزنطي أن يخرج الجيش البيزنطي بكامل عدته وقوته، فلم يستطع جودفري الصمود طويلاً أمامه، وأدرك حجمه الحقيقي؛ ومن ثَمَّ قرر في بساطة أن يغيِّر مبادئه وولاءه، ويقسم يمين التبعية للإمبراطور البيزنطي[5]!!


    وهكذا عقدت اتفاقية في أوائل إبريل 1097م، أقسم بموجبها جودفري بوايون بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي، وسُجِّل في هذه الاتفاقية أن كل الأراضي التي كانت مملوكة للدولة البيزنطية قبل موقعة ملاذكرد ستعود ملكيتها للدولة البيزنطية في حال تحريرها على يد جودفري وجيشه، وهذا يعني أن طموح الدولة البيزنطية لا يقف على آسيا الصغرى فقط، بل يشمل أيضًا مدن أعالي الشام والعراق مثل أنطاكية والرها، بل إن بعض التفسيرات البيزنطية للاتفاقية شملت بيت المقدس نفسه على اعتبار أنه كان مملوكًا للدولة البيزنطية أيام الإمبراطور جستنيان (حكم من 527 إلى 565م)؛ وهذا سيؤدي إلى صراع طويل بين البيزنطيين والصليبيين طوال القرن التالي لهذه الاتفاقية[6].
    وبعد هذه الاتفاقية أظهر الإمبراطور البيزنطي الوُدَّ الكبير لجودفري، ومنحه كمًّا هائلاً من الهدايا القيمة[7]، غير أنه بسرعة نقله إلى آسيا الصغرى ليتجنب لقاءه مع جيش بوهيموند النورماندي؛ وبذلك يستطيع أن يُملِي شروطه على بوهيموند بمفرده[8].
    وصول جيش بوهيموند

    ما إن عبر جودفري بجيشه إلى آسيا الصغرى حتى وصل بوهيموند النورماندي! وكان هذا الجيش قد ركب البحر من إيطاليا، ونزل عند مدينة أفلونا Avlona في ألبانيا، ليخترق البلقان في طريقه إلى القسطنطينية[9]. وقد أفزع هذا الجيش الإمبراطور البيزنطي، لا لقوته وبأسه فقط ولكن لتذكيره بما فعله رسل باليل النورماندي[10]، وكذلك ذكريات حصار القسطنطينية (473هـ)سنة 1081م على يد الأمير بوهيموند نفسه، الذي يأتي على رأس جيشٍ أضعاف الجيش القديم، إضافةً إلى الجيوش الصليبية الأخرى[11].

    بوهيموند يعلن الولاء

    كانت هذه مخاوف الإمبراطور البيزنطي، غير أن بوهيموند قرر سلوك أسلوب آخر يضمن له المكاسب العظيمة؛ لقد أدرك بوهيموند قوة الإمبراطورية البيزنطية، وأدرك أيضًا أن الجيوش الصليبية لن تستطيع احتلال البلاد الإسلامية دون مساعدة البيزنطيين[12]، وأدرك ثالثة الخلاف الذي حدث بين الإمبراطور البيزنطي وجودفري، وكيف انتهى هذا الخلاف بقسم جودفري بعد أن فَقَد هيبته.
    أدرك بوهيموند من البداية ذلك، وبالتالي قد تتاح له فرصة أن يتزعم الجميع إذا ناصره في ذلك الإمبراطور القويّ، وعليه فقد أمر بوهيموند جنوده بالسلوك الحسن أثناء سيرهم في الأراضي البيزنطية[13]، وتوجَّه مباشرة إلى القسطنطينية، وعلى أسوارها ترك تانكرد ابن أخته على رئاسة الجيش، وتوجَّه هو إلى مقابلة الإمبراطور ليعلن بين يديه دون مقاومة قسمه بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي[14].
    ولكنه في ذات الوقت لم يعلن هذا القسم دون مطالب، فقد طلب صراحة أن يمنحه الإمبراطور البيزنطي إقطاعية كبرى في منطقة أنطاكية، وقد وافق الإمبراطور على هذا الطلب لتصبح هذه الاتفاقية بمنزلة الميلاد الأول لإمارة أنطاكية النورماندية فيما بعد[15]، وفوق ذلك فقد طلب بوهيموند من الإمبراطور البيزنطي أن يجعله قائدًا عامًّا لكل الجيوش المشاركة في الحروب، غير أن الإمبراطور رفض هذا الأمر[16]، ولعله رفض ذلك لكي لا يُرضِي جيشًا على حساب آخر، وبذلك تظل كل المفاتيح في يده هو دون أن يثير حفيظة أحد عليه.
    وبعد هذه الاتفاقية نقل الإمبراطور البيزنطي الجيش النورماندي إلى آسيا الصغرى ليحتل موقعه إلى جوار جيش جودفري بوايون، وكان ذلك في 26 من إبريل سنة 1097م[17].
    ريمون الرابع يخضع بالولاء للإمبراطور

    كان الجيش الثاني في الوصول هو جيش جنوب فرنسا والبروفنسال تحت قيادة الأمير ريمون الرابع أمير تولوز والبروفنسال، والذي سلك طريقًا بريًَّا، ووصل إلى القسطنطينية في أواخر إبريل سنة 1097م بعد أن قام ببعض التجاوزات في الطريق؛ مما حدا بالجيش البيزنطي أن يردعه في بعض المواقف[18].
    وعند وصول هذا الجيش إلى القسطنطينية طلب الإمبراطور البيزنطي من الأمير ريمون الرابع أن يحذو حذو الأمراء السابقين، ويقسم له بالتبعية والولاء، ولكن هذا الطلب جاء متعارضًا تمامًا مع أحلام ريمون الرابع الذي كان يريد قيادة كل الجيوش بحكم أنه المبعوث الرسمي للبابا الكاثوليكي، وفي جيشه أديمار المندوب البابوي، فكيف يقسم الآن لراعي الكنيسة الأرثوذكسية.
    ثم إنه رأى أن منافسه اللدود بوهيموند النورماندي قد أصبح صديقًا حميمًا للإمبراطور، وهذا يعني أن ريمون إن أقسم بالولاء للإمبراطور فقد يجعله تحت سيطرة إمرة بوهيموند، وهذا ما لا يقبله ريمون أبدًا؛ لذلك أعلن ريمون الرابع رفضه تمامًا لهذا القسم[19]، وأعلن أنه ما جاء إلى هنا إلا للمحاربة من أجل السيد المسيح لا من أجل الإمبراطور البيزنطي، لكن الإمبراطور أصرَّ على هذا الطلب مما أنذر بصدام مسلح قريب[20]، وزاد الطينة بلة أن بوهيموند أراد الصيد في الماء العكر، وذلك بإعلانه أنه في حال الصدام بين ريمون الرابع والإمبراطور البيزنطي، فإنه سينضم بقواته النورماندية القوية إلى الإمبراطور البيزنطي!
    وهنا تدخل جودفري بوايون وأقنع ريمون الرابع أن يرضخ للإمبراطور لقرب مواقع المسلمين، وأن احتمال هجومهم على الصليبيين قريب، فوافق ريمون على حلٍّ وسط يحفظ له ماء وجهه، وهو أن يقسم على احترام حياة الإمبراطور وشرفه، وألا يرتكب أمرًا يغضب الإمبراطور[21]. وإزاء هذه الأزمة قَبِل الإمبراطور بهذا الحل، بل إنه اجتمع بريمون الرابع اجتماعًا خاصًّا ذكر له فيه بدهاء أنه لا يطمئن لإعطاء بوهيموند إمارة الجيوش كلها، ولقد أتت هذه التصريحات أُكُلها، وهدأت نفس ريمون، وقرَّر أن يتحالف بقوة مع الإمبراطور البيزنطي[22].

    الجيوش الصليبية في آسيا الصغرى

    وصل الجيش الأخير وهو جيش روبرت أمير نورمانديا ومعه ستيفن أمير بلوا[23]، ولكنه وصل متأخرًا عن بقية الجيوش، وكان قد جاء عن طريق إيطاليا ثم ركب البحر إلى البلقان، ومنها اخترق الدولة البيزنطية إلى القسطنطينية، ولم يُسبِّب أية مشكلة في طريقه[24]، ولم يمانع زعيمَا هذا الجيش في القسم بالتبعية والولاء لإمبراطور الدولة البيزنطية، ومن ثَمَّ تم إغداق الهدايا عليهما، ثم ساعدهما الإمبراطور في عبور البسفور إلى آسيا الصغرى ليلحق هذا الجيش بالجيوش التي سبقت[25].
    بهذا تكون الجيوش الخمسة قد وصلت، ولم تخسر في الطريق شيئًا تقريبًا من قواتها، اللهم إلا ما حدث للجيش الرابع من هلكة في البحر إثر العاصفة البحرية، ولكنه كان جيشًا صغيرًا غير مؤثِّر، وبهذا وصلت الأعداد الغفيرة إلى آسيا الصغرى بلاد المسلمين.
    ومن المهم الآن أن نذكر أن أقل تقدير للمقاتلين الرجال في هذه الحملة الهائلة كان ثلاثمائة ألف مقاتل، بينما يصطحبون معهم نساءهم وأطفالهم بأعداد ضخمة وصلت بالحملة إلى مليون إنسان! وقوم جاءوا معهم بسبعمائة ألف امرأة وطفل جاءوا ليستوطنوا لا ليحاربوا قومًا ثم يعودوا.
    أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه رفض عرضًا من الصليبيين بقيادة الجيوش بنفسه، وآثر أن يبقى في القسطنطينية الحصينة ملقيًا بالجيوش الصليبية في التجربة، غير أنه حرص على إمداد الجيوش الصليبية بالمؤن اللازمة، وبالعيون والأدِلاَّء الخبيرة، وأيضًا ببعض الضباط البيزنطيين أصحاب الخبرة في حروب المسلمين، وهكذا صار الصدام بين الصليبيين والمسلمين قاب قوسين أو أدنى[26].

    [1] Runciman: op. cit., p. 149
    [2] Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 281.
    [3] Brehier, op. cit., p 113; Chalandon: Alexis Comnene, p.p. 178-179.
    [4] Albert d` Aix, p.p. 307-308.
    [5] Runciman: op. cit., p. 151.
    [6] Guillaman: de tyr, 1, p.p. 87-88; Grousset: op. cit. 1, p. 19.
    [7] Michaud: Hist. des Croisades, 1, p. 179.
    [8] Chalandon: Alexis Comnene, p. 138.
    [9] Setton : op., p. 155; Runciman: op. cit. 1, 155.
    [10] Schomberger: Racit de Byzance et des Croisades. Vol ll, p. 82.
    [11] Cam. Med. Hist vol. 5 p. 282.
    [12] Grousset : Hist des Croisades, 1, p. 21.
    [13] Chalandon: Premiere Croisade, p.p. 133-136.
    [14] Chalandon: Premiere Croisade, p. 132.
    [15] Iorga: Breve Hist. des Croisades, p. 51.
    [16] Brehier: op. cit., p. 311.
    [17] Cam. Med. Hist vol. 5 p. 281.
    [18] Grousset: Hist. des Croisades 1, p.p. 24-25.
    [19] Runciman: op. cit. 1, p. 136.
    [20] Raymond d`Aigles: Hist. Occid. 111, p. 238.
    [21] Cam. Med. Hist vol. 5 p. 283; Anna Comnena, pp. 239-231; Gesta Francorun, p. 13; Raymond d`Agueiler, in Petrs (ed.), pp. 140-142; William of Tyre: 1, pp. 139-146.
    [22] Runciman: op. cit. 1, p. 164.
    [23] Michaud: Hist. des Croisades Croisades, 1. p. 178.
    [24] Foucher de Chartres (Hist. Occid. 111), p.p. 331-332.
    [25] Chalandon: alexis Comnene, p.p. 188-189.
    [26] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 27.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


    الصدام مع السلاجقة الروم (15)



    توجه الجيوش الصليبية نحو نيقية
    كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى يتخذ من مدينة نيقية الحصينة عاصمة له، ومن ثَمَّ فالقوة الرئيسية لجيشه كانت بها؛ ولهذا فقد قرَّر الصليبيون أن يبدءوا بهذه المدينة لكي لا يتركوا خلفهم هذه القوة الكبيرة، ولكي لا يقطعوا على أنفسهم خطوط الإمداد البيزنطية. ومن ثَمَّ توجهت الجيوش الصليبية الغفيرة، ومعها فرقة صغيرة من الجيش البيزنطي لحصار المدينة المسلمة، وقد أمدَّ الإمبراطور البيزنطي الجيوش الصليبية في هذه الموقعة بآلات الحصار الضخمة وكثير من السلاح، وبدأ التوجه إليها في (490هـ) أواخر إبريل سنة 1097م[1].أين كان قلج أرسلان الأول في ذلك الوقت؟! إنه يجدر بنا قبل أن نعرف مكانه أن نأخذ فكرة عن شخصيته ومكانته!
    قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم
    إنه واحد من أهم السلاجقة في تاريخ آسيا الصغرى، لا لشخصيته ومكانته فقط، ولكن للأحداث الضخمة التي حدثت في عهده وغيَّرت خريطة المنطقة تغييرًا جذريًّا، إنه ابن سليمان بن قُتُلْمِش أعظم سلاجقة الروم ومؤسِّس دولتهم، وقد ورث قلج أرسلان عن أبيه شدة البأس في القتال وحسن التخطيط في الإدارة والمعارك؛ ولذلك استطاع مع صغر سنِّه عند تولِّيه الحكم -فلم يزِدْ على السابعة عشرة من عمره- أن يصبح الشخصية الأولى في منطقة آسيا الصغرى بكاملها.ومع هذه الكفاءة الإدارية والعسكرية إلا أننا لا نلمح في حياته توجهًا إسلاميًّا واضحًا، أو رغبة حقيقية في توحيد صفِّ المسلمين، إنما كان همُّه الأول هو توسيع الرقعة التي يحكمها، وتكثير الأتباع له؛ لذلك نجده لا يتردد كثيرًا في حرب المناوئين له، وإن كانوا من المسلمين، أو حتى من نفس عائلته التركية الكبرى، أو السلجوقية نفسها! وهذا الحب للتوسع كان أحيانًا يعمي بصره عن رؤية الأخطار على حقيقتها، فيهمل أحيانًا خطرًا ساحقًا، ويهتم أحيانًا بمشكلة بسيطة، مما يستغرب جدًّا من رجل مثله له كفاءة معلومة كما ذكرنا، وليس هذا إلا لأنه لم يكن -فيما يبدو لي- ينظر إلى مصلحة المسلمين، ولكن إلى مصلحته هو في المقام الأول.
    أين كان إذن قلج أرسلان الأول وقت تدفق القوات الصليبية الهائلة صوب مدينة نيقية العاصمة؟!
    قلج أرسلان والتوسع الأعمى

    لقد كان خارج مدينته، بل وعلى بُعد أكثر من تسعمائة كيلو متر إلى الشرق من المدينة! لقد كان يحاصر مدينة ملطية ذات الكثافة الأرمينية، حيث قام بينه وبين الزعيم المسلم غازي بن الدانشمند (وهو أحد الأتراك المسلمين الذين كانوا يحكمون شمال شرق آسيا الصغرى) نزاعٌ كبير حول ملكية هذه المدينة. وهذه الرغبة الجامحة للتوسع في مناطق جديدة جعلته لا يصرف كثير اهتمام إلى مسألة الصليبيين على خطورتها، بل إنه عندما علم بقدوم الجيوش الصليبية مؤخرًا إلى القسطنطينية ظنَّ أنها مثل جموع العامة الذين جاءوا قبل ذلك، ومن ثَمَّ توقع أن يقضي عليهم بفرقة من جيشه بسهولة، كما فعل مع جموع بطرس الناسك ووالتر المفلس[2].إضافةً إلى أنه خُدِع بمكيدة دبَّرها الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين، حيث أرسل بعض جواسيسه إلى قلج أرسلان الأول يُصوِّرون له الخلاف الذي كان بين الإمبراطور البيزنطي وزعماء الحملة الصليبية على أنه مستحكم لا حلَّ له، وبالتالي فلن يسمح الإمبراطور البيزنطي لهؤلاء الصليبيين بالعبور إلى آسيا الصغرى، وهذا الخداع خدَّر قلج أرسلان، وجعله يترك حامية صغيرة نسبيًَّا في مدينة نيقية العاصمة، ويتوجه بجيشه الرئيسي لحصار ملطية البعيدة. ومما يؤكد أنه كان مخدوعًا أنه ترك زوجته وولديه وكل أمواله وكنوزه في المدينة، ولو كان يشعر بأيِّ خطر ناحيتها ما فعل ذلك أبدًا[3].
    حصار الجيوش الصليبية لمدينة نيقية

    تدفقت الجيوش الصليبية الضخمة حول مدينة نيقية الحصينة، وبدأ الحصار يوم (21 من جمادى الأولى 490هـ) 6 من مايو 1097م، وكان الحصار من الجهات الثلاثة للمدينة باستثناء الجهة الغربية التي كانت تطل على بحيرة طولها اثنا عشر ميلاً، ولم يكن مع الجيوش الصليبية قوة بحرية تسمح لهم بإغلاق هذا المنفذ[4]، وبعد أسبوع من الحصار بدأ الصليبيون في قصف أسوار المدينة وأبراجها بالمجانيق التي أمدهم بها الإمبراطور البيزنطي.
    صمدت المدينة في بادئ الأمر، وبادلت الجيش الصليبي إطلاق السهام المسمومة، وألقت عليهم الكلاليب المحمومة، وأحدثت إصابات بالغة في الصليبيين، غير أنها لم تستطع فك الحصار[5]، وبالتالي أرسلت رسالة عاجلة إلى قلج أرسلان تطلب النجدة السريعة! أدرك قلج أرسلان خطورة الأمر، فتحرك بسرعة صوب عاصمته بعد أن رفع الحصار عن ملطية، ولكن طول المسافة ووعورة الطريق حالت دون وصوله بسرعة[6].
    الإمبراطور الداهية
    في هذه الأثناء أرسل الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين مندوبًا سريًّا إلى داخل المدينة، وهو القائد العسكري بوميتس، ليتفاوض مع الحامية المسلمة ليسلموا له المدينة بدلاً من سقوطها في يد الصليبيين، وخوَّفهم أن الصليبيين في غاية التوحُّش، وسوف يقومون بقتل كل من في المدينة عند سقوطها. وهذا في الواقع أمر صحيح رأيناه -بعد ذلك- في بيت المقدس وغيره من المدن التي أسقطها الصليبيون[7].أما لماذا حاول الإمبراطور التفاوض مع الحامية المسلمة دون علم الصليبيين؛ فلأنه كان يتوقع الغدر منهم، وعدم الالتزام باتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم كل المدن التي كانت تحت سيطرة الدولة البيزنطية سابقًا إلى الإمبراطور البيزنطي حين سقوطها. والواقع أن الحامية المسلمة بدأت تفكر في عرض الإمبراطور جديًّا، وخاصةً أنه وعد بحفظ دماء المسلمين وعدم نهب البلد، وحمايتها من الصليبيين.ثم إنه أقدم على خطوة أخرى ماكرة تحقِّق المنفعة للإمبراطورية من وجهتين؛ وهو أنه سمح عن طيب خاطر للإمدادات المسلمة أن تصل عن طريق البحرية إلى المدينة المحاصرة، وكان قادرًا على منعها باستخدام الأسطول البيزنطي القوي، وإنما فعل ذلك ليقنع الصليبيين من جهة أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه في حروبهم، ومن جهة أخرى لتطمئن الحامية المسلمة أنه سيفي بعهده لهم إنْ هم سلَّموا له المدينة.وبينما تفكر الحامية المسلمة في الأمر إذْ وصل قلج أرسلان الأول بجيشه، وذلك في (490هـ) يوم 21 من مايو 1097م، واشتبك بمجرَّد وصوله مع الجيوش الصليبية لفتح طريقٍ إلى داخل المدينة، ولكنه -للأسف- لم يستطع، وأدرك أنه لن يفلح في فك الحصار، بل إنه يَئِس من معركة يومٍ واحد، وانسحب بعيدًا ليترك مدينته تلقى مصيرها[8]، وهي واقعة بين شقي الرَّحَى: الصليبيين من ناحية، والدولة البيزنطية من ناحية أخرى!أكمل الإمبراطور البيزنطي لعبته بأن أخرج سفنه القوية لتمنع الإمداد البحري عن المدينة المسلمة، وبدأت المدينة تشعر بالأذى الشديد وتتوقع الهلكة القريبة، وخفَّت مقاومتها جدًّا، وأدرك الصليبيون أهمية الإمبراطور البيزنطي.وأدركت الحامية المسلمة أيضًا أهمية هذا الإمبراطور الداهية، فأسرعت الحامية قبل السقوط بقبول عرض الإمبراطور الذي سعد بذلك جدًّا وأسرع بالموافقة، ومن ثَمَّ فوجئت الجيوش الصليبية بعد خمسة أسابيع من الحصار بالأَعْلام البيزنطية ترتفع فجأة على أبراج المدينة كلها، وليأتي مندوب الإمبراطور ليعلن أن المدينة أصبحت بيزنطية، وليمنع الجيوش الصليبية من دخول المدينة خوفًا من نهبها،[9] وليوضع بوتوميتس قائدًا عسكريًّا على المدينة. وقرر الإمبراطور أن يتم عهده ويحفظ دماء المسلمين، بل إنه أعلن أنه على استعداد لإعادة زوجة قلج أرسلان وأخته وولديه إلى قلج أرسلان دون مقابل[10].وقفة تحليليةأثار ما فعله الإمبراطور البيزنطي حنق الصليبيين وشعروا أنهم قد خُدعوا، وغضبوا جدًّا للتسامح الذي أبداه الإمبراطور مع أهل المدينة، وكانوا يريدونها عبرة لكل المدن، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء بعد أن علموا أنهم يتعاملون مع قائد قويّ محنك صاحب خبرة طويلة، ويقود دولة تضرب جذورها في أعماق التاريخ[11].أما الإمبراطور البيزنطي فقد حفظ وعده بالفعل، ولا أعتقد -كما يحلِّل بعض المؤرخين- أنه فعل ذلك حبًّا في الأخلاق الحميدة، ولكن الذي يبدو لي ويستقيم مع سيرته وقصة حياته أنه يريد أن يستغل هذه الحادثة لإيقاع بقية المدن الإسلامية في آسيا الصغرى، فلو كانت الجيوش الصليبية تقدِّم الترهيب فهو يقدِّم الترغيب، ولو تعاون الصليبيون مع الأرمن الكاثوليك، فسيتعاون هو مع المسلمين!إنها حرب المصالح، ومباراة الاستحواذ. والذي يثبت ذلك أنه بعد السيطرة على قونية أخذ زوجة قلج أرسلان وولديه وتوجه إلى أقاليم مسيا Mysia وأيوينا ولسيديا في غرب آسيا الصغرى[12]، وبدأ يساوم المدن هناك على التسليم في مقابل دمائهم ودماء زوجة قلج أرسلان وولديه. وقد نجحت خطته وسلَّمت تلك المدن بسهولة، وما هي إلا فترة بسيطة حتى صارت كل مدن غرب آسيا الصغرى تابعة للدولة البيزنطية.إنه كان واضحًا أن الأمة الإسلامية في طور ضعفٍ شديد، وتتهاوى بسرعة، وكان السباق محمومًا بين الصليبيين والدولة البيزنطية لاقتسام الميراث الضخم؛ ميراث المسلمين!

    [1] Cam. Msd. Hist., vol. 5, p. 285.
    [2] Setton: op. cit 1, p.p. 288-289.
    [3] Runciman, op. cit. 1. p.p. 176-177.
    [4] وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار 1/231، 232؛ رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 1/264، 265.
    [5] Grousset: Hist. des Croisades 1, p. 29.
    [6] Gesta Francorum, p. 37.
    [7] وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار 1/242، 243.
    [8] Albert d`Aix, p.p. 320-321.
    [9] Brehier: op. cit., p. 312.
    [10] Runciman, op. cit., p. 180-182; Alexiad: pp 273-275.
    [11] Chalandon: Premiere Croisades, p. 167.
    [12] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 31.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    سقوط نيقية .. الأسباب والنتائج-(16)


    أسباب هزيمة المسلمين وسقوط نيقية

    لعلنا إن أردنا أن نحلِّل أسباب هذه الهزيمة القاسية للمسلمين في مدينة نيقية، فإنَّنا سنلحظ بعض الأسباب التي ستتكرر في كل المواقع التي سيخسر فيها المسلمون؛ لأنَّ هذه سُنَّة ثابتة في كل الأزمان. ومن أهم الأسباب التي تظهر لنا:

    أولًا: غياب التوجُّه الإسلامي والحميَّة الدينيَّة عند المقاتلين المسلمين، وشتان بين مَن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ومن يقاتل من أجل مصلحته وحياته الخاصة.
    ثانيًا: الصراعات المستحكمة بين المسلمين، وتفرُّق كلمتهم، والنزاع الدائر بينهم على معظم الجبهات، والله عز وجل يقول في كتابه: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ الأنفال: 46]. فالتنازع -كما هو واضح من الآية- سببٌ رئيس من أسباب الفشل وذهاب الريح.
    ثالثًا: عدم اكتراث المسلمين في الشام والعراق وشرق العالم الإسلامي ومصر بالحدث، وترك سلاجقة آسيا الصغرى يواجهون الأمر بمفردهم، وهذا سيكون له المردود السلبي على الجميع بعد ذلك.
    رابعًا: غياب الاستعداد العسكري المناسب؛ حيث كانت مخابرات السلاجقة ضعيفة لم تدرك كل هذه التحركات الصليبية إلا بعد فوات الأوان، بينما بذل الصليبيون والبيزنطيون الجهد كله في الإعداد لهذا اليوم، ولا بد لمن بذل أن يجد نتيجةً لجهده وإعداده.
    كانت هذه مجموعة من أهم الأسباب التي أدت إلى هزيمة نيقية وسقوطها، وهي أسباب إن وجدت في أي جيل فلا شكَّ أنه سيعاني من نفس الهزيمة، وسيقع في المشكلات والأزمات نفسها.

    آثار سقوط مدينة نيقية

    ومع أنَّ سقوط نيقية كان سقوط مدينة واحدة إلا أن الآثار المترتبة على سقوطها كانت هائلة:

    أولًا: ارتفعت جدًّا معنويَّات الجيش الصليبي، وزالت من النفوس أزمة سحق حملة الجموع الشعبية بقيادة بطرس الناسك ووالتر المفلس، ومِنْ ثَمَّ ظهر التصميم عند القادة والجنود في غزو العالم الإسلامي، على الرغم من الإصابات البالغة التي لحقت بالجيش في أثناء حصار نيقية، أو في أثناء القتال مع قلج أرسلان[1].

    ثانيًا: ارتفعت جدًّا المعنويات في أوروبا بعد الإحباط الذي عانت منه بعد مصيبة الحملات الشعبيَّة، وأدَّى هذا الارتفاع في المعنويَّات إلى تحميس جموع أخرى، وبالتالي ازداد تدفق الجيوش الصليبية من أوربا إلى آسيا الصغرى والشام، وبدأت الموانئ الإيطالية تفكر جديًّا في المشاركة في الحملات بصورة أساسية[2].

    ثالثًا: ارتفعت -أيضًا- معنويات الدولة البيزنطية، حيث كان سقوط نيقية يمثِّل أول ثأر لكرامة الدولة البيزنطية بعد هزيمة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ)؛ أي منذ أكثر من 27 سنة، وهذا رفع جدًّا من أسهم الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين[3].

    رابعًا: نتيجة ارتفاع معنويات الدولة البيزنطية تحركت بقَّوة مستغلَّة اضطراب السلاجقة، وبالتالي ضمت معظم أراضي غرب آسيا الصغرى إلى حوزة الإمبراطورية البيزنطية[4]، كما بدأت الإمبراطورية في مهاجمة عدة مدن أخرى في شمال آسيا الصغرى وعلى ساحل البحر الأسود. ولقد ظل غرب الأناضول بيزنطيًّا لمدة تزيد على ثلاثة قرون بعد موقعة نيقية[5]!

    خامسًا: في مقابل هذا الارتفاع الواضح في معنويَّات الصليبيين والبيزنطيين على حدٍّ سواء، كان هناك هبوط حادٍّ في معنويَّات المسلمين: جيشًا وشعبًا، وقادةً وجنودًا؛ فهذا سقوطٌ لأحصن مدن آسيا الصغرى، ممَّا يعني أنَّ سقوط المدن الأخرى سيكون أسهل، ثم إن هذا اتحادٌّ بين عملاقين كبيرين: الصليبيين الغربيين والبيزنطيين الشرقيين، ممَّا يعني أنَّ الأيام القادمة أصعب من التي مرَّت!

    سادسًا: من الآثار المهمَّة لهذه الموقعة ازدياد الرواسب النفسية السيئة بين الصليبيين والبيزنطيين، مما سيكون له أبلغ الأثر في خط سير الحملات بعد ذلك؛ فهذا الإمبراطور يتصرَّف في سريَّةٍ بعيدًا عن زعماء الصليبيِّين لمصالحه الخاصة، وهؤلاء الزعماء يحنقون على الإمبراطور ويتوجَّسون منه خيفة، وكان من الواضح أنَّ هناك نارًا شديدة تحت الرماد، وهذا الذي دعا الإمبراطور البيزنطي إلى الإصرار على أن يجتمع زعماء الصليبيين بعد الموقعة وقبل استكمال الغزو، وأن يعيدوا القسم له بالتبعية والولاء، وقد فعلوا جميعًا ذلك مرغمين، وإن كان بوهيموند قد أسرع لذلك دون تردد؛ ليستمر في كسب صداقة الإمبراطور، غير أن ريمون الرابع أصرَّ على عدم القسم بالولاء والتبعية[6]، ولكنه كرَّر قسمه بتعظيم حياة الإمبراطور، أيضًا لم يُقسم تانكرد ابن أخت بوهيموند؛ حيث لم يُقسِم من البداية مكتفيًا بقسم خاله بوهيموند، وهذا سيكون له آثارٌ فيما بعد على قراراته وتحركاته.

    سابعًا: حدث نشاط أرمني ملحوظ نتيجة الهزيمة التي مُني بها السلاجقة، و-أيضًا- نتيجة دخول الصليبيين الكاثوليك القريبين من الأرمن على عكس البيزنطيين الأرثوذكس؛ ومن هنا سيظهر تعاون ملحوظ بين الأرمن وبين الصليبيين، وظهرت دعوات من المدن ذات الكثافة الأرمينية تدعو الصليبيين إلى القدوم إليها، وخاصةً في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى، وهذا سيؤثر في خط سير الحملات الصليبية.

    ثامنًا: عسكريًّا فإن الطريق فُتح إلى وسط آسيا الصغرى، حيث كانت نيقية هي العقبة الكبرى في الطريق، وبالتالي فإن فرصة الصليبيين أصبحت كبيرة للوصول إلى عمق آسيا الصغرى، بل وبلوغ بلاد الشام[7].

    تاسعًا: بعد سقوط نيقية أسرع قلج أرسلان إلى مدينة قونية، واتخذها عاصمة جديدة له[8]، أو إن شئت فقل: قاعدة عسكرية جديدة له ينطلق منها في حربه ضدَّ الصليبيين، وهي مدينة على بُعد أربعمائة كيلو مترٍ من نيقية إلى الجنوب الشرقي منها، وهي وإن لم تكن في حصانة نيقيَّة نفسها إلَّا أنَّها كانت حصينة أيضًا.

    عاشرًا: قرر قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم وغازي بن الدانشمند زعيم التركمان تناسي خلافاتهما مؤقتًا، وتشكيل جبهة متَّحدة لحرب الصليبيين[9]، وهذا الاتحاد وإن كان نقطة إيجابية إلَّا أنَّه كان هشًّا؛ لعمق الخلافات بين الفريقين وقدمها، ولغياب الدافع الإسلامي الواضح للوَحْدة أو للقتال، وإنما كان اتحادهما لغرض الحفاظ على أملاكهم لا حمية للدين.


    [1] Cam. Med. Hist. vol 5, p. 285.
    [2] Runciman, op. cit., 1, p.p. 182-183; setton: op. cit. 1, p. 201.
    [3] Grousset: Hist. des Croisades, 1, pp 42-43.
    [4] Grousset: Hist, des Croisades, 1, pp. 41-43;
    [5] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/139.
    [6] Chalandon: Alexis Comnene, p. 193.
    [7] Oman: vol 1 p 279.

    [8] رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 1/278.
    [9] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/186، ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص134.
    Gesta Francorum, pp. 19-22; Fulcher de Chartres, pp. 83-87; William of Tyre, 1, pp. 169-173; Runciman, "Constantinople to Antioch", pp. 293-294; mayer, The Crusades, pp. 50-51.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية


    الجيوش الصليبية بعد نيقية-(17)



    انقسام الجيش الصليبي

    قرر الصليبيون الانطلاق مباشرة بعد راحة أسبوع واحد، وذلك في الاتجاه الجنوبي الشرقي صوب قونية العاصمة الجديدة لـ قلج أرسلان، وقد قسَّم الصليبيون جيشَهم إلى نصفين؛ أما النصف الأول فكان نورمانيًّا خالصًا حيث كان يضم نورمان إيطاليا، وعلى رأسهم بوهيموند وتانكرد، و-أيضًا- نورمان فرنسا بقيادة روبرت وستيفن، وكانت الرئاسة العامة لهذا النصف مع بوهيموند، وقد صحبت هذا القسم فرقة من الجيش البيزنطي، عليها القائد الخبير تاتيكيوس. أما النصف الثاني من الجيش الصليبي فكان مكوَّنًا من جنوب فرنسا بقيادة ريمون الرابع، و-أيضًا- جنود شمال فرنسا واللورين بقيادة جودفري، وكانت القيادة العامة في هذا القسم لريمون الرابع. وسارت الجيوش بشكلٍ متوازٍ يفصل بينهما حوالي عشرة كيلو مترات، على أن يكون اللقاء في منطقة خرائب مدينة دوريليوم[1]، وهي على بُعد حوالي مائة كيلو متر من نيقية في اتجاه الجنوب الشرقي.

    أهداف انقسام الجيش الصليبي

    انقسم الجيش الصليبي إلى نصفين لعدة أهداف؛ منها:
    1- أن هذا أفضل في تموين الجيش حيث يعتمد الجيش على الغذاء من المحاصيل الموجودة في المزارع بالطريق، وأيضًا يعتمد الجيش على الماء في العيون والآبار الموجودة بالمنطقة.
    2- سلاسة الحركة وسرعتها حيث لا تستوعب الطرق الموجودة -مهما اتسعت- لأعداد المقاتلين الهائلة.
    3- القضاء على جيوب فرق السلاجقة المتناثرة هنا وهناك[2].
    4- التمويه على المخابرات السلجوقية، حيث من الممكن أن تتصدى لأحد القسمين على اعتبار أنه الجيش بكامله، وهذا -لا شك- سيؤدِّي إلى خلل كبير في خطة القتال، وهو ما حدث بالفعل مع هذه الجيوش العملاقة.
    معركة دوريليوم

    وصل أحد الجيشين الصليبيين -الذي كان برئاسة بوهيموند- إلى منطقة دوريليوم، حيث وجد الجيش الإسلامي منتظرًا في هذه السهول والمرتفعات؛ والجيش الإسلامي كان عبارة عن جيش قلج أرسلان المتَّحِد مع جيش غازي بن الدانشمند. وكما توقع الصليبيون فقد ظنَّ الجيش الإسلامي أن جيش بوهيموند هو كل الجيش الصليبي، على الأقل في هذه المنطقة، ودارت معركة كبيرة بين الجيشين في (490هـ) 1 من يوليو 1097م، ودارت رَحَى المعركة في بداية الأمر على الجيش الصليبي، وتوقع المسلمون أن يتم لهم النصر بعد لحظات، لولا ظهور جيش ريمون الرابع وجودفري دي بوايون فجأةً واشتراكه المباشر في المعركة؛ مما أدى إلى انقلاب الأوضاع، وتبدُّل الحال، وسيطرة الصليبيين على مجريات القتال، على الرغم من إصابة بوهيموند النورماني.

    وما هي إلا لحظات حتى ظهر الضعف على الجيش الإسلامي، وحلت به الهزيمة المُرَّة، وانسحب قلج أرسلان بسرعة إلى داخل الأناضول، مخلِّفًا وراءه كمًّا هائلاً من المؤن والغنائم، ليتحقق للصليبيين نصر ثانٍ كبير، يُعرف في التاريخ بموقعة دوريليوم[3].

    حركة الجيوش الصليبية في آسيا الصغرى

    وهكذا تعمقت آثار سقوط نيقية بعد هزيمة دوريليوم، وارتفعت معنويات الصليبيين والبيزنطيين والأرمن أكثر وأكثر، وهبطت معنويات الجيش الإسلامي للحضيض، حتى إنَّ قلج أرسلان ما جَرُؤ بعد ذلك على مواجهة الجيش الصليبي وجهًا لوجه، بل إنه أخلى كل المدن والقرى التي في الطريق، حيث واصل الصليبيون زحفهم ليتسلموا المناطق الواسعة دون قتال يُذكر، بل الأدهى من ذلك أن الصليبيين وجدوا مدينة قونية -التي كان قلج أرسلان قد اتخذها عاصمة جديدة بعد سقوط نيقية- خاليةً تمامًا من السكان اللهم إلا بعض الأرمن[4]، فاحتلوها في يسرٍ، ثم تجاوزوها إلى مدينة هرقلة، فاحتلوها أيضًا[5]، ثم اتجهوا إلى الشمال الشرقي ليحتلوا مدينة قيصرية[6]، ثم اجتازوا مجموعة من سلاسل جبال طوروس ليصلوا إلى مدينة مَرْعَش (وهي مدينة غالب سكانها من الأرمن)، فاستقبلوا الصليبيين بحفاوة، وتسلَّم الصليبيون المدينة في (490هـ) 13 من أكتوبر 1097م.
    ومن الجدير بالذكر أنه حتى هذه اللحظة فإن الجيوش الصليبية كانت تسلِّم الدولة البيزنطية كل ما يُفتح من المدن، وهو ما اتفق عليه قبل ذلك في اتفاقية القسطنطينية[7]، وإن كان من الواضح أن هذا لم يكن عن طيب خاطر، ولكن لاضطرارهم إلى الخبرة البيزنطية وآلات الحصار والأدِلاَّء، وما إلى ذلك من وسائل مساعدة. وكان من الواضح -أيضًا- أن الصليبيين سينتهزون فرصة قريبة للخروج من هيمنة الدولة البيزنطية، فهم لم يقطعوا كل هذه المسافات، ولم ينفقوا كل هذه الأموال والأرواح حبًّا في النصارى الأرثوذكس، أو رغبة في ردِّ كرامة الإمبراطورية البيزنطية، إنما كان الهدف في الأساس هو الامتلاك الشخصي لكل أمير من أمراء الحملة، والتمتُّع بثروات الشرق، وهذا ما سيظهر في الخطوات القادمة من حركة الحملة الصليبية.
    الرغبة التوسُّعيَّة لدى الأمراء الصليبيين

    لعلَّ أوَّل مظاهر هذه الرغبة التوسُّعيَّة ظهرت عندما انفصل تانكرد النورماني ابن أخت بوهيموند، ومعه بلدوين أخو جودفري بوايون، ليقوما بغزو إقليم قليقية صاحب الكثافة الأرمينية[8]، وكانت بداية انفصال هاتين السريتين من جيش الصليبيين في (490هـ = 14 من سبتمبر 1097م)، وتوجها مباشرةً إلى مدينة طرسوس وذلك في (490هـ = 21 من سبتمبر 1097م).

    وكانت سرية تانكرد أسرع في الوصول إلى مدينة طرسوس، واشتبكت في صراع مع الحامية التركيَّة في داخل المدينة، وصبرت الحامية التركية لولا ظهور جيش بلدوين، فأدركت الحامية أن الأمل ضعيف في المقاومة[9]؛ لذلك أخلت المدينة ودخلها تانكرد أولاً، ورفع أعلامه عليها متناسيًا اتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم المدينة إلى الإمبراطورية البيزنطية، واستقبله السكان الأرمن بالترحاب[10]، ولكن بلدوين لم يعجبه هذا الأمر فثار وغضب، وكاد يدخل في صراعٍ مع تانكرد، ولم يكن غضبه لصالح الدولة البيزنطية بالطبع، وإنما كان غضبه لنفسه؛ فقد كان يريد المدينة له لا لتانكرد. وفي النهاية قَبِل تانكرد أن يترك المدينة لبلدوين، واتجه هو إلى مدينة أخرى هي موبسواسطيه، ورفع بلدوين أعلامه على المدينة طامعًا أن تكون ملكًا شخصيًّا له[11].
    وفي هذه الأثناء حدث أمران غيَّرا من سير الأحداث في منطقة طرسوس؛ أما الأمر الأول فهو أن بوهيموند كان قد أرسل ثلاثمائة من الجنود نجدةً إلى تانكرد ابن أخته، فوصل هؤلاء الجنود ليلًا إلى مدينة طرسوس، فوجدوا أن تانكرد قد غادرها، والمدينة أصبحت بيد بلدوين، فطلبوا المبيت إلى الصباح في داخل المدينة، ولكن بلدوين رفض دخولهم وأجبرهم على المبيت خارج المدينة، فناموا في العراء فدهمتهم فرقة من الأتراك وأبادوهم عن آخرهم[12]. ووصل هذا الأمر إلى الجيوش الصليبية، فحنقت أشد الحنق على بلدوين الذي كان سببًا في هلاك هذه الفرقة[13].
    وأما الأمر الثاني فهو أن أحد الأرمن المقرَّبين من بلدوين نصحه أن يترك هذه المدينة المحدودة، ويتجه إلى مدينة الرها على شاطئ الفرات؛ لأنها أخصب وأوسع وأعظم كثيرًا من طرسوس.
    طمع بلدوين في نصيحة الأرمني، وترك المدينة متجهًا ناحية الشرق، وفي الطريق وجد تانكرد على أبواب مدينة موبسواسطيه، فدار بينهما قتال بسبب الفرقة الإيطالية التي هلكت خارج أسوار طرسوس[14]، ثم تصالحا في النهاية وأكملا الطريق لملاقاة الجيش الصليبي الرئيس المتَّجه إلى أنطاكية.

    [1] Alexiad: p. 279; Oman: vol, 1, p.272; Gesta Francorum, pp. 19-22; Fulcher de Chartres, pp. 83-87; William of Tyre, 1, pp. 169-173; Runciman, "Constantinople to Antioch", pp. 293-294; mayer, The Crusades, pp. 50-51.
    [2] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/134.
    [3] Grousset. Op cit., 1, p. 35.
    [4] Gesta Francorum, pp. 55-57.
    [5] Setton: op cit., vol. 1, p. 295.
    [6] Gesta Francorum, pp. 61.
    [7] Cam.Med. Hist, vol. 5, p. 287.
    [8] Chalandon: premiere Croisades, p. 172.
    [9] فوشيه الشارتري: تاريخ الحملة إلى بيت المقدس ص52،51،
    Grousset: vol 1 p 46.

    [10] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 41.
    [11] Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 288.
    [12] Albert d`Alix, (Hist Occid) 1V, p.p. 346-347.
    [13] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/143.
    [14] Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 288
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    سياسة بلدوين في إمارة الرها-(18)




    ملخص المقال

    حوَّل بلدوين إمارة الرها إلى قطعة من الغرب الأوربي، فيها النظام الإقطاعي المعروف، حيث صار الصليبيون على رءوس الإقطاعيات.


    بعدما تصالح بلدوين وتانكرد إثر مقاتلتهما على أبواب مدينة "موبسواسطيه" أكملا الطريق لملاقاة الجيش الصليبي الرئيس المتَّجه إلى أنطاكية.
    ولكن عند وصولهم إلى الجيش الصليبي اجتمع زعماء الحملة الصليبية على لوم وتقريع بلدوين بما فيهم أخوه جودفري بوايون، واستغلَّ بلدوين هذا اللوم والعتاب ليغضب وينسحب بجيشه من الجيوش الصليبية الرئيسة متَّجهًا ناحية الرها في الشرق[1]، متناسيًا تمامًا قصَّة بيت المقدس والحجيج النصارى، فلم يكن له همٌّ إلا تأسيس مملكة خاصَّة به، وإن كانت بعيدة كلَّ البعد عن بيت المقدس وطريق الحجيج.
    وبالفعل خرج بلدوين من الجيش واتَّجه إلى الرها، وفي الطريق سلَّمت له كل المدن دون قتال، وغالبية سكانها كانت من الأرمن، ثم وصل إلى الرها، واستقبله أهلها الأرمن بالترحاب، وكان هذا على غير رغبة أميرها اليوناني ثوروس Thoros، الذي كان يدفع الجزية قبل ذلك للمسلمين[2]، وكان يأمل أن يستقلَّ بالمدينة لنفسه ليُصبح تابعًا للدولة البيزنطية لا لبلدوين، غير أن الأمير تعامل مع الأمر في واقعية، وقرَّر أن يأخذ حلًّا وسطًا، وهو أن يعرض على بلدوين أن يُصبح بمنزلة ابنه -وكان هذا الأمير مسنًّا- ومن ثَمَّ يُصبح الوريث الشرعي له على مدينة الرها وما حولها من مدن وقرى[3]، وهي منطقة غنيَّة خصبة، فوافق بلدوين على ذلك، ودخل المدينة، ثم إنه اتَّفق مع بعض الأرمن في المدينة على الغدر بثوروس، وبالفعل قتلوه، ليتسلَّم بلدوين مقاليد الحكم في المدينة، وليُؤسِّس أوَّل إمارةٍ صليبيَّةٍ في العالم الإسلامي، وهي إمارة الرها، وذلك في (491هـ= مارس سنة 1098م)[4].
    ولمَّا كانت الحامية الصليبيَّة في منطقة الرها صغيرة، والشعب بكامله من الأرمن تقريبًا، فقد اتَّخذ بلدوين عدَّة خطوات لتثبيت أركان إمارته، وعدم السماح بحدوث قلاقل أو اضطرابات.
    كان من هذه الخطوات التزاوج بين الصليبيِّين الغربيِّين والأرمن، وبدأ بلدوين بنفسه؛ حيث تزوَّج من الأميرة الأرمينيَّة أردا Arda، وهي ابنة أحد زعماء الأرمن[5].
    وكان من هذه الخطوات -أيضًا- توسيع رقعة إمارة الرها، وذلك على حساب العدو اللدود للأرمن وهم الأتراك، فاتَّجه بجيش مشترك من الصليبيين والأرمن إلى مدينة سُمَيْسَاط، وهي على بُعد مسيرة يوم من الرها (45 كيلو مترًا شرقي الرها)، وكان على رأسها أحد السلاجقة الأتراك، الذي أدرك من الوهلة الأولى أنْ لا طاقة له بحرب الجيش الصليبي الأرمني، وخاصةً بعد الهزائم المتتالية للسلاجقة في آسيا الصغرى، وعدم اهتمام سلاجقة فارس أو الشام بالأمر حتى هذه اللحظة، وهذا الإحباط دفعه إلى فعل شنيع؛ إذ طلب من بلدوين أن يقبل بشراء سُمَيْسَاط بالمال، ويُوَفِّر على نفسه القتال والحرب، وطلب الأمير التركي مبلغ عشرة آلاف دينار ذهبي مقابل تسليم المدينة بشعبها، ووافق بلدوين على الفور؛ فقد كانت خزينة الزعيم الراحل ثوروس مليئة بالأموال، ودفع المبلغ المطلوب، وتسلَّم المدينة المسلمة دون قتال[6]!!
    ولا شكَّ أن وجود مثل هؤلاء القادة المفرطين، والبائعين لكل شيء في مقابل المال هو تفسير واضح لهذا الاجتياح الصليبي للبلاد المسلمة!
    ولم يكتفِ بلدوين بضم سُمَيْسَاط ولكن أتبعها بعد ذلك بضم سَرُوج ثم البِيرَة لتتسع رقعة إمارة الرها[7]، وتُصبح مُرضيَّة لغرور الأمير الفرنسي بلدوين.
    ومن خطوات بلدوين -أيضًا- لتثبيت أقدامه في إمارة الرها أنه كان حريصًا عند ضمِّ المدن الإسلامية أن يُحَرِّر الأسرى الأرمن من السجون التركية، وخاصة في سُمَيْسَاط، وإرجاع هؤلاء الأسرى إلى عائلتهم الأرمينية دون مقابل؛ مما أكسبه مودَّة الشعب الأرمني وتعاطفه.
    وكان من الخطوات الرئيسية التي اتخذها بلدوين أنه أنكر تبعيَّتَه للإمبراطور البيزنطي، وتحلَّل صراحةً من اتفاقية القسطنطينية[8]، وضرب بهذا عصفورين بحجر واحد؛ فهو حقَّقَ أحلامه بتكوين إمارة يُصبح هو القائد الوحيد لها دون تبعيَّتِه لأحد، ثم إنه أرضى الشعب الأرمني جدًّا؛ حيث إنَّ الأرمن المتعصِّبِينَ لمذهبهم كان يحنقون بشدَّة على المذهب الأرثوذكسي؛ والجدير بالذكر أنَّ المذهب الأرمني أقرب إلى الكنيسة الغربيَّة منه إلى الأرثوذكس، ولكنه ليس متطابقًا معها، ومع ذلك فقد سمح بلدوين بالحريَّة العقائديَّة في إمارة الرها، ولم يضغط مطلقًا على الأرمن ليعتنقوا المذهب الكاثوليكي الغربي، ولا شكَّ أنَّ هذا وافق قبولًا عامًّا عند الشعب الأرمني[9].
    أمَّا بالنسبة إلى الإمبراطور البيزنطي فإنَّه لم يستطع أن يفعل شيئًا؛ لأنَّ الرها كانت بعيدة عن مركز قوَّته، وكان تركيزه الأساس على غرب آسيا الصغرى، ومدن منطقة قليقية، وعلى رأسها طَرَسُوس وأَذَنَة والمَصِّيصَة، كما كان مشغولًا جدًّا بأمر مدينة أنطاكية المهمَّة، التي يَتَّجِه إليها الجيش الصليبي الآن[10].
    أمَّا بالنسبة إلى بلدوين فإنه لم يكتفِ بقبول الشعب الأرمني له، فإنه يُدرك كقائد محنَّك أن هؤلاء ما استقبلوه بالترحاب إلاَّ هربًا من التبعية البيزنطية من ناحية، وهربًا من السيطرة التركية من ناحية أخرى، وأنهم متى توفَّرت لهم القوَّة فسوف يستقلُّون بحكمهم، ويطردون بلدوين وجيشه؛ لذلك بدأ بلدوين يسعى في تغيير التركيبة السكانية في إمارة الرها لصالح الصليبيين؛ ففعل مثلما يفعل اليهود الآن في فلسطين، حيث بدأ يرسل إلى أوربا يستقدم الصليبيين الغربيين، وخاصة من فرنسا للقدوم والاستيطان الكامل في إمارة الرها، فهو لم يكن يستقدم الجنود المرتزقة، ولكن كان يستقدم العائلات الأوربية برجالها ونسائها وأطفالها، وكان يستقدم -أيضًا- أصحاب الوجاهة والأمراء في مقابل مبالغ مالية كبيرة من المال، وإغراءات كثيرة تشمل إعطاء إقطاعيات خارج أسوار مدينة الرها تبلغ مساحات كبيرة؛ وهكذا حوَّل بلدوين إمارة الرها إلى قطعة من الغرب الأوربي، فيها النظام الإقطاعي المعروف هناك، حيث صار الصليبيون على رءوس الإقطاعيَّات، بينما الأرمن يعملون في الزراعة والتجارة تحت الهيمنة الصليبية[11].
    ولا شَكَّ أن هذه الأوضاع أثارت بعض الأرمن، فقاموا ببعض الثورات على حكم بلدوين، ولكن بلدوين قابلها بقسوةٍ بالغة وبردعٍ صارم؛ مما أدَّى إلى هدوء الأوضاع بعد ذلك في الإمارة بكاملها[12].
    وهكذا بالترغيب والترهيب، والتواصل مع الشعب الأرمني، والتعاون الوثيق مع نصارى غرب أوربا استطاع بلدوين أن يتمكَّن من حكم هذه الإمارة في عمق العالم الإسلامي، وكانت هذه الإمارة هي حاجز الصدِّ الأول ضدَّ سلاجقة فارس وشرق العالم الإسلامي لوقوعها في الطريق بينهم وبين منطقة الشام وبيت المقدس، حيث ستكون هناك بقية الإمارات والممالك الصليبية، وهي لكونها قريبة جدًّا من إمارة الموصل وديار بكر والجزيرة (وهي مناطق إسلامية صرفة من ناحية التركيبة السكانية)، فإنها كانت أشدَّ الإمارات الصليبية إيذاءً للمسلمين؛ غير أنها من الناحية الأخرى كانت أضعف الإمارات الصليبية؛ لبُعدها عن بقيَّة الإمارات الصليبية في الشام، ولعدم قدرتها على الإفادة من الأساطيل الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط[13]، ولكونها تحكم شعبًا من الأرمن له أطماعه الخاصة، ثم لقربها من الموصل التي ستشهد -مستقبلاً- نهضةً إسلامية جهادية سيكون لها أثرٌ في حياة إمارة الرها.
    ولنعُدْ بعد هذه الرحلة في مدينة الرها وما حولها إلى الجيوش الصليبية، وهي تقطع الطرق الوعرة في آسيا الصغرى من خلال طبيعة الجبال القاسية، وندرة الماء في بعض الأماكن، وحدوث ما يمكن أن نُسَمِّيه بحرب العصابات من الأتراك المتفرِّقين هنا وهناك، إلا أنهم في النهاية وصلوا إلى المدينة المهمَّة جدًّا: مدينة أنطاكية، وكان وصولهم هذا في (490هـ= 21 من أكتوبر 1097م)[14].

    [1] Albert d`Alix, (Hist Occid) III XX VII..
    [2] Guibert de Nogent. 111. p. 156.
    [3] Matthieu d`Edesse (Doc. Ar.) 1, p. 35; Runciman: op. cit. 1, p. 204.
    [4] Matthieu d`Edesse, 1, pp. 37-38.
    [5] Guillaume de Tyr, p. 402.
    [6] Guillaume de Tyr, 1, p. 159.
    [7] Albert d`Aix (Hist. Occid. 1v). pp. 356-357. 445-446; Grousset: L`Empire du Levant, p. 402.
    [8] Runciman: op. cit., 1, p. 206.
    [9] Runciman: op. cit., 1, p. 211.
    [10] Setton: op. cit., 1, p. 304.
    [11] Michaud: op. Cit. 1, p. 235; Runciman: op. cit., 1, p. 211.
    [12] Albert d`Aix, p. 443, & Guillaume de Tyr. 285.
    [13] محمد سهيل طقوش: تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ص92.
    [14] Raymond d`Agueiler, in peters, pp. 160. ff; William of Tyre, 1, pp. 204-220.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    مدينة أنطاكية .. أهميتها ومكانتها-(19)

    أهمية أنطاكية



    تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى، بل لا نبالغ إن قلنا إنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره، وذلك لمميزات خاصَّة تفوَّقت بها هذه المدينة على غيرها.

    فهي أولًا: مدينة رئيسة منذ قديم الزمان، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون.

    وثانيًا: هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح اسم المسيحيين، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل: "ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً"[1]. وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له[2].

    وثالثًا: وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة[3].

    ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان، بل ومن العراق، ليستوطنوا في هذه المنطقة، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين، وصارت المدينة إسلامية آمنة، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها[4].
    ورابعًا: فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين[5].

    وخامسًا: تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام، بل من أحصن مدن العالم آنذاك، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم[6].

    ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله سبحانه وتعالى لهذه المدينة، فضلًا عن القلاع والحصون؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق، ويحدها من الغرب نهر العاصي، وهي محاطة -أيضًا- من الشمال بمستنقعات وأحراش. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة، فضلًا عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم.
    سادسًا: تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى[7]، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام، كما أن بقاءها بما فيها من جنود وحامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها.

    سابعًا: هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا.

    ثامنًا: التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس، وأيضًا من النصارى الأرمن؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا اضطهاد عنصري.

    تاسعًا: التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ= أول نوفمبر سنة 969م)، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس[8]، وأحدث سقوطها دويًّا كبيرًا في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين، وهي في الوقت نفسه المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي.

    كما أنَّ الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها، وأخرجت الباقي، وهجَّرتهم خارجها، واستقدمت جموعًا كبيرة من المسيحيين ليعيشوا فيها، وظلَّ الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر؛ أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ= 1071م)؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن، مما أدَّى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد، بل إنَّ العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة، وقد أدَّى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن -على كراهيتها لهم- لمقاومة السلاجقة؛ وهذا أدَّى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر، وخرجوا عن تبعيَّة الدولة البيزنطية، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها، واستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ= 1078م) استطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها[9].
    غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم، وذلك في سنة (477هـ= 1085م)[10]، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة، ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة. وهذا التاريخ القريب -كما نرى- أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف؛ فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة: المسلمين بقيادة السلاجقة، والدولة البيزنطية والأرمن، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية!

    عاشرًا وأخيرًا: أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند، الزعيم النورماندي الشرس، فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا، وبالتحديد في سنة (473هـ= 1081م) لإسقاط أنطاكية، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص.

    ولذلك فإن بوهيموند لم ينسَ أنطاكية أبدًا، ويأخذ القضية كثأر قديم، ويضحِّي بكل شيء من أجل استحواذها، وليس في ذهنه دين ولا صليب، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية. إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية!
    هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا، وهي محطُّ أنظار الجميع، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة.



    [1] سفر أعمال الرسل: 11/62.
    [2] محمد حامد الناصر: الجهاد والتجديد ص79،
    Runciman: op. cit. 1, p. 213
    [3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/495،494، وابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 2/105، وياقوت الحموي: معجم البلدان 1/269.
    [4] البلاذري: فتوح البلدان ص160.
    [5] Runciman: op. cit. 1, p. 213.
    [6] Grousset: Hist. des Croisades 1, p. 72.
    [7] Chalandon: Premiere Croisade, p. 181.
    [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/495،494.
    [9] حامد غنيم أبو سعيد: الجبهة الإسلامية في مواجهة المخططات الصليبية ص91.
    [10] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/139،138.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    حصار أنطاكية-(20)


    ملخص المقال

    مدينة أنطاكية مدينة عريقة دينيا وسياسيا واقتصاديا، وبالتالي فهي تمثل أهمية كبرى للصليبيين، فكانت خطوتهم هي إسقاطها، فتم حصار أنطاكية



    ياغي سيان .. حاكم أنطاكية
    كان يحكم أنطاكية أحد العسكريين التركمان الأشداء، وهو ياغي سيان، ومن خلال استعراض قصته سنجد أنه كان من الزعماء السياسيِّين والعسكريِّين المتميِّزين، وكانت له حكمة بالغة في التراتيب الإداريَّة، والمواقف السياسيَّة، والقتال الحربي، وإن لم يكن متحليًا بالأخلاق الإسلامية الرفيعة، فليس عنده مبدأ معيَّن، فقد يُصادق إنسانًا ويُعاديه في يومٍ آخر لتعارض المصالح[1]، وهو في قتاله لا يُقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولكن يُقاتل من أجل حبِّ البقاء، وحبِّ التملك والسيطرة، وحبِّ الكرسيِّ، وما إلى ذلك من أمور الدنيا.
    وهذه النوعيَّة من الحكام -مع كفاءَتها السياسيَّة والعسكريَّة- لا تصلح للحفاظ على هيبة المسلمين طويلًا؛ فهم -لا شكَّ- يسقطون وتسقط معهم الشعوب التي قبلت بهم، وتسقط كذلك المدن والدول التي يحكمونها؛ فإنَّ النصر في المفهوم الإسلامي لا يكون إلا من عند الله، والله سبحانه وتعالى لا ينصر إلا من نصره، يقول تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. ويقول -أيضًا-: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126].
    وهذا الذي لم يضع نصر الله في حساباته لا ينصره الله عز وجل أبدًا، وإن قعد في كرسيِّه عشرات السنين، وإن تعلَّم علوم الحرب والسياسة، وفَقِه في أمور القيادة والإدارة.
    قصة ياغي سيان
    لعلَّنا إذا راجعنا قصة ياغي سيان نفهم طبيعته، ومن ثَمَّ نفهم قصة حصار أنطاكية. لقد كان ياغي سيان قائدًا من القوَّاد المهرة للسلطان السلجوقي الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان الذي قاد دولة السلاجقة العظام، وهي التي كانت تسيطر على فارس والعراق وأجزاء من الشام من سنة (464هـ إلى سنة 485هـ= من 1072 إلى 1092م)، وكان أخو ملكشاه وهو تتش بن ألب أرسلان يحكم الشام، وحدث قتال بين تتش وسليمان بن قتلمش زعيم سلاجقة الروم الذي حرَّر أنطاكية بعد احتلال دام 119 سنة من الدولة البيزنطية، وذلك في سنة (477هـ= 1085م)، وكانت نتيجة قتال تتش وسليمان أن قُتل سليمان، وذلك في سنة (478هـ= 1086م).
    وهكذا صارت أنطاكية من أملاك تتش[2]، غير أن ملكشاه نزع أنطاكية من ملك أخيه وأعطاها إلى ياغي سيان، وذلك في سنة (479هـ= 1087م)[3]. وهذا -لا شك- أوغر صدر تتش تجاه ياغي سيان، ولكن قوَّة ملكشاه منعت تتش من اتخاذ أي موقف تجاه ياغي سيان، ومرت السنوات ومات ملكشاه في سنة (484هـ= 1092م)؛ أي بعد خمس سنوات من ولاية ياغي سيان على أنطاكية، ومع أنَّنا توقعنا صدامًا قويًّا بين تتش وياغي سيان على أنطاكية، إلَّا أنَّ ياغي سيان استطاع بحكمته وسياسته أن يتقرب إلى تتش مما جعله يُقِرُّه على أنطاكية، بل وبدأ ياغي سيان يخطب لتتش في أنطاكية[4]، ثم اشترك ياغي سيان مع تتش سنة (488هـ= 1095م) في حرب بركياروق بن ملكشاه ابن أخي تتش! وانخذل ياغي سيان أثناء القتال؛ مما أدى إلى هزيمة تتش وقتله في سنة (488هـ= 1095م)[5]، ليعود ياغي سيان إلى حكم أنطاكية منفردًا، ويتولَّى أولاد تتش حكم الشام بالتقاسم، فيأخذ رضوان بن تتش حلب، ويأخذ دقاق بن تتش دمشق[6].
    وكعادة هذا الزمان دار الصراع بين الإخوة بغية التوسُّع والتملُّك، وأسرع كل زعيم يضم إليه ما حوله من مدن، وطمع رضوان زعيم حلب في أنطاكية القريبة، فحدث بينه وبين ياغي سيان شقاق وصراع، انتصر فيه ياغي سيان وبقي محتفظًا بأنطاكية، ثم دارت حرب مباشرة بين رضوان زعيم حلب ودقاق أخيه زعيم دمشق وذلك في سنة (489هـ) 1096م، وللعجب الشديد فإن ياغي سيان انضم إلى رضوان! وحاول رضوان احتلال دمشق ولكنه فشل في ذلك[7]. ثم مرت الأيام وأراد دقاق أن يغزو حلب، فانضم ياغي سيان في هذه المرة إلى دقاق في الحرب ضد رضوان، غير أنهم لم يتمكنوا من غزو حلب[8]!!
    إنه كان يعيش حياة الجنود المرتزقة الذين يقاتلون في جيشٍ بغية درهم أو دينار، فإذا دفع الطرف الآخر أكثر انضم إليه ونسي ولاءَه الأول.
    إنَّ هذه القصة لا تعطينا فقط انطباعًا عن طبيعة حاكم أنطاكية ياغي سيان؛ بل تعطينا انطباعًا أوسع وأشمل عن طبيعة ذلك الزمن بأسره، فهؤلاء هم الحكام في منطقة الشام يوم غزو الجيوش الصليبية.
    وليست المشكلة في الحكام فقط، فهؤلاء الزعماء لا يقاتلون بمفردهم في الحروب؛ إنما يقاتلون بجيوش، ومن وراء الجيوش شعوب، ولا شك أن هذه الجيوش التي لا تعرف لها قضية، وهذه الشعوب التافهة المغيَّبة تستحق ما يحدث لها من نكبات وأزمات.
    وهكذا عندما جاءت الجيوش الصليبية حول أنطاكية في أكتوبر سنة (460هـ= 1097م)، كان ياغي سيان حاكمًا للمدينة منذ عشر سنوات كاملة، وعلى خلاف وشقاق كبير مع أقرب المدن إليه وهي حلب، والعلاقة بينه وبين المدن الأخرى عَلاقات فاترة لا تقوم إلا على المصالح والمنافع الدنيوية.
    حصار أنطاكية


    وجاء الصليبيون بحدِّهم وحديدهم! وأحكموا قبضتهم حول المدينة!
    وقف الجيش النورماني الإيطالي بقيادة بوهيموند أمام الجهة الشمالية للمدينة عند باب بولس، ووقف جيش جودفري بوايون في الجهة الشمالية الغربية في مواجهة باب الجنينة، ووقفت بقية الجيوش وعلى رأسها روبرت وستيفن وهيو والأمير ريمون الرابع كلهم من الناحية الغربية أمام باب الكلب[9]، وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الناحية الشرقية والجنوبية كانت محاطة بالجبال العالية؛ ولذلك لم يكن عندها جيوش[10].
    وغنيٌّ عن البيان أن الدولة البيزنطية كانت تشارك في هذا الحصار بسرية بيزنطية على رأسها قائد محترف هو تاتيكيوس Tatikios؛ وذلك لكي يحفظ حق الدولة البيزنطية في المدينة بعد سقوطها.
    وكان بالمدينة -كما مرَّ بنا- عددٌ كبير من النصارى الأرثوذكس والأرمن؛ تقول الرواية اللاتينية أنهم خرجوا من المدينة بمجرَّد قدوم الجيوش الصليبية، وأمدوهم بأسرار كثيرة عن مداخل المدينة ومخارجها ووسائل الدفاع وكميات المؤن وأعداد المقاتلين، وما إلى ذلك من معلومات تسهِّل فتح المدينة[11].
    وكان ياغي سيان قد أعدَّ المؤن الكثيرة التي تكفي الحياة المدنية لمدَّة طويلة من الزمن[12]، وكذلك استعدَّ الصليبيون بكميات من المؤن جمعوها من القرى المجاورة عن طريق السلب والنهب[13]، كما وصل إلى ميناء السويدية عند مصب نهر العاصي (وهو ميناء قريب جدًّا من أنطاكية) أسطولٌ جنويٌّ يحمل إمدادات مهمة للصليبيين[14].
    وفوق ذلك فميناء اللاذقية القريب -أيضًا- كان قد وقع تحت سيطرة القرصان البولوني ونمار[15]، وكان يمد الصليبيين بما يحتاجونه من مؤن. وهكذا أغلق الصليبيون الطرق المؤدية إلى أنطاكية وسيطروا على الموانئ الغربية، ولم يعد أمام المسلمين المحاصَرين إلا ما هو داخل المدينة من مؤن وسلاح.
    ياغي سيان يطلب النجدة
    من داخل المدينة المحاصَرة أرسل ياغي سيان رسائل تطلب النجدة من زعماء الإمارات الإسلامية المجاورة، وما من شك أنه لم يستطع أن يرسل رسالة إلى رضوان أمير حلب نظرًا للخيانة القريبة التي فعلها ياغي سيان بانضمامه إلى دقاق بعد أن كان محالفًا لرضوان؛ لذلك أرسل ياغي سيان إلى دقاق ملك دمشق، وجناح الدولة أمير حمص، وهما يقعان على بُعد أكثر من مائة وأربعين كيلو مترًا من المدينة، بل إنه أرسل إلى كربوغا أمير الموصل التي تقع على بُعد سبعمائة كيلو متر، وكذلك إلى بركياروق سلطان سلاجقة فارس وهو أبعد وأبعد[16]، ولم يتمكَّن كما ذكرنا من طلب المساعدة من حلب التي تقع على مسافة أقل من ستين كيلو مترًا من أنطاكية!!
    ومرت الأيام ثقيلة على الطرفين؛ فالمدينة المحاصَرة لا يصل إليها أي إمداد خارجي، وكذلك الصليبيون يمرون بأزمة واضحة؛ إذ إن الجيوش هائلة، والمؤن ليست كافية في هذه المنطقة المحدودة، وهم لا يستطيعون الابتعاد كثيرًا عن أنطاكية؛ لكي لا يعطوا فرصة للمحاصَرين أن يخرجوا. وقد حدث ذات مرة أن ابتعدت بعض الجيوش الصليبية للإغارة على بعض القرى، فخرج ياغي سيان لقتال الجيوش المتبقية، وكاد ينتصر عليهم لولا مهارة بوهيموند وسيطرته على الموقف حتى عودة بقية الجيوش[17]. وهكذا صار الحصار صعبًا على الصليبيين كما كان صعبًا على المسلمين، غير أنه كان على الصليبيين أشق وأصعب، وخاصةً أن الحصار بدأ في (490هـ= 21 من أكتوبر 1097م)، وقد دخلت الأشهر الباردة، وهم في العراء يعانون الجوع والبرد.
    الإمدادات الإسلامية لأنطاكية
    وبعد مرور أكثر من شهرين على الحصار جاءت نجدة إسلامية من دمشق على رأسها دقاق السلجوقي، ومن حمص وعلى رأسها جناح الدولة حسين بن ملاعب، والتقوا مع الجيش الصليبي في منطقة جنوب أنطاكية عند البارة[18] في آخر ديسمبر (490هـ= 1097م)[19]، وكان الجيش الصليبي يبحث في هذا المكان عن إمدادات غذائية، ودارت معركة ظهر فيها تفوق المسلمين وإن لم يحقِّقوا نصرًا حاسمًا[20]، ومع ذلك فقد قرر دقاق الانسحاب والعودة إلى دمشق ليؤمِّن مدينته، ويدرس الموقف من جديد! وفي هذه الأثناء أرسل له الصليبيون رسالة يسكِّنونه فيها ويخدِّرونه، إذ قالوا له أنهم ما جاءوا إلى هذه المناطق إلا لتحرير المدن الشمالية التي كانت ملكًا للدولة البيزنطية مثل الرها وأنطاكية، وأنهم ليس لهم حاجة في دمشق ما دامت لا تقاتلهم. وقد أقنعت هذه الكلمات دقاق فترك أنطاكية تواجه مصيرها، وسكن في مدينته[21]!!
    الفوضى في الجيوش الصليبية
    هكذا عاد الموقف صعبًا من جديد، ولكن مع بدايات السنة الميلادية الجديدة ودخول شهر يناير (491هـ= 1098م)، واشتداد البرد وقلة الزاد بدأت الأزمة تتفاقم جدًّا في المعسكر الصليبي، بل نشأت الفوضى بين الجند، وظهرت الاعتراضات هنا وهناك، بل ظهرت دعوات بفك الحصار، بل وأشد من ذلك بدأت تظهر حالات هروب من المنطقة بكاملها، وكانت المفاجأة أنه كان على رأس الهاربين بطرس الناسك الذي كان يُجمِّع الجيوش في فرنسا قبل ذلك، مما يؤكِّد عدم وجود البُعد الديني تمامًا في رؤيته، ولقد جدَّ تانكرد في إثره حتى عثر عليه وهو في طريقه للقسطنطينية، وأجبره على العودة للبقاء مع الجيش الصليبي[22]، وكانت عودته عودة مخزية مشينة، وضَّحت أهداف الحملة الصليبية تمامًا.
    دهاء بوهيموند النورماندي
    كان بوهيموند النورماني يرقب كل هذه الأوضاع، ويحاول أن يوظِّف الظروف لخدمة مآربه الخاصة، ومطامعه الكبيرة في الحصول على أنطاكية لصالحه هو، وكان يعلم أن الأمراء الصليبيين سينافسونه فيها، كما أن صديقه الإمبراطور البيزنطي لن يسمح له بأخذ أنطاكية[23]، التي تعتبر من أهم المطامع البيزنطية في المنطقة.
    فماذا يفعل بوهيموند إزاء هذا الوضع؟!
    لقد كان داهيةً على أعلى مستوى، وكان ماكرًا إلى أبعد حدود المكر!
    لقد أعلن بوهيموند -وهم في هذه المرحلة الحرجة من الحصار- أنه ما عاد يطيق البقاء في هذه الظروف، وأن عنده ارتباطات كبيرة خاصَّة بمملكته في إيطاليا، ومن ثَمَّ فهو سيسحب جيشه من الحصار، ويقفل راجعًا إلى إيطاليا[24]!
    لقد كانت هذه كارثة بالنسبة إلى الجيوش الصليبية! فالجميع يعلم أن أقوى الفرق مطلقًا هي فرقة بوهيموند، ولعله هو أمهر القادة وأقدرهم على وضع الخطط الحربية وأصبرهم على القتال، وعودة بوهيموند إلى إيطاليا كانت تعني بالنسبة إليهم فشل الحملة الصليبية، وضياع كل المكاسب المتحققة والمرجوة، وضياع كل ما جرى إنفاقه حتى هذه اللحظة من أموال وأرواح وأوقات.
    لقد كان تهديدًا يحمل كارثة للصليبيين، وكان بوهيموند القائد الماكر يعلم قيمته في الجيش، ولم يكن في قرارة نفسه يفكر في العودة، فإنه ما جاء إلى هذه البلاد نصرة للرب، ولا حماية للحجيج، ولا صداقة للإمبراطور البيزنطي؛ إنما جاء من أجل أنطاكية، وأنطاكية فقط، فموقفه هذا لم يكن إلا لعبة سياسية خطيرة، ولكنه لعبها بدرجة عالية من الاحتراف!
    دبَّ الهلع في قلوب زعماء الجيوش الصليبية، والتفوا حول بوهيموند يتوسلون إليه ألا يتركهم، ثم اجتمعوا على منحه أنطاكية له خالصة دون مشاركة في حال سقوطها، فتحقق له ما يريد؛ ومن هنا قرر البقاء والعمل معهم بكل طاقته!! وهكذا سيطر بوهيموند على الموقف مع زعماء الحملة الصليبية[25].
    لكن بقيت له مشكلة، وهي وجود السرية البيزنطية بزعامة تاتيكيوس، واتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم أنطاكية إلى الدولة البيزنطية، ويمين الولاء والتبعية الذي أقسمه لهذا الإمبراطور قبل ذلك[26].
    ماذا يفعل في هذه الالتزامات؟!
    لقد بدأ بوهيموند في استفزاز القائد البيزنطي تاتيكيوس، وبدأ ينكر أي جهود بيزنطية في المساعدة، بل بدأ يفعل ما هو أخطر إذ أشاع أن هناك تنسيقًا سريًّا بين تاتيكيوس والأتراك المسلمين، وأن هناك خيانة للقضية الصليبية، وهذا قد حدث قبل ذلك عند إسقاط نيقية، فلماذا لا يحدث الآن؟
    أثارت هذه الإشاعات غضب تاتيكيوس، فأسرع إلى الزعماء الصليبيين يشكو لهم، غير أنهم وجدوها فرصة للتخلص من الالتزامات تجاه الدولة البيزنطية، وقالوا أن الدولة لم تساعدهم في أزمتهم بشيء يُذكر، ومن ثَمَّ فهي البادئة بنقض الاتفاقية، وفي هذا مبرر للصليبيين ألا يلتزموا باتفاقيتهم. وهنا شعر تاتيكيوس بالخطر على نفسه، فانتهز الفرصة وهرب ليلاً إلى قبرص عن طريق ميناء السويدية[27].
    وهكذا تحقق هدف بوهيموند في إبعاد الدولة البيزنطية عن الساحة على الأقل عند لحظات سقوط أنطاكية، وبذلك يضمن أن تكون له لا لغيره.

    [1] دولة السلاجقة ص469.
    [2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6/300.
    [3] ابن واصل: مفرج الكروب 1/19.
    [4] ابن العديم: زبدة حلب 2/108.
    [5] ابن العديم: زبدة حلب 3/111.
    [6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/244، 245؛ وابن العديم زبدة حلب 2/120.
    [7] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص132.
    [8] أبو الفدا: المختصر في تاريخ البشر حوادث سنة (491هـ)
    [9] Guillaume de Tyr 1, pp. 174-175.
    [10] ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة أنطاكية.
    [11] Gesta Francourn. P.69.
    [12] Runciaman, op. Cit., 1, p. 215.
    [13] Raymond d`Agueiler, in Peters, pp. 160 ff; William of Tyre, 1, pp. 204-220; Hagenmeyer, "Chronologie", pp. 514-516, 529-530.
    [14] Raymond d`Agiles (HIst. Occid. Lll), p. 242 & Carfo (Hist., Occid V), p. 50.
    [15] Heyd: Hist. du Commerce, 1, p. 133.
    [16] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص134.
    [17] Idem. P. 202.
    [18] البارة: بليدة في منطقة أريحا محافظة أدلب السورية، كان بها حصن، ما زالت خرائب شاهدة على عظم ماضيها. معجم البلدان.
    [19] Setevenson: op. cit., p. 26.
    [20] ابن العديم: زبدة الحلب 2/132.
    [21] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/15.
    [22] Gesta Francorum, pp. 77-79.
    [23] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.
    [24] Grousset: Hist. des Croisades 1, p. 70.
    [25] رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 1/317،316،
    Chalandon: Alexis Comnene, p. 201 & Premiere Croisade p. 193.
    [26] Brehier: op. cit., p. 213.
    [27] Setton: op cit., pp. 313-314; Runciaman, op. Cit., 1, p. 224.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

    سقوط أنطاكية-(21)

    ملخص المقال


    سقوط أنطاكية كان مأساة حقيقية، وحدثا مروعا هز العالم الإسلامي بأسره، كما هز العالم المسيحي، وهذا السقوط لم يكن لقوة الصليبيين بقدر ما كان بضعف المسلمين

    استطاع بوهيموند بذكائه ودهائه أن يحقق هدفه في إبعاد الدولة البيزنطية عن الساحة على الأقل عند لحظات سقوط أنطاكية، وبذلك يضمن أن تكون له لا لغيره! وبدأ بوهيموند من جديد ينسق الجيوش، ويرسل الفرق هنا وهناك للإتيان بالمؤن والغذاء، وأخذ يبثُّ الحماسة في قلوب الجنود الصليبيين وزعمائهم[1].
    سفارة شيعية فاطمية للصليبيين
    في هذه الأثناء وفي (491هـ= يناير سنة 1098م) حدث أمرٌ غيَّر كثيرًا في سير الأحداث، وأضاف قوَّة ملموسة إلى المعسكر الصليبي؛ لقد جاءت سفارة من دولة مصر تعرض التفاهم والتفاوض مع الجيش الصليبي لتحقيق مصالح مشتركة!!
    لقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم العبيديين المعروفين بـالفاطميين، وهم من الشيعة الإسماعيلية، وكانوا على خلاف كبير مع السلاجقة السُّنَّة، وكذلك مع الخلافة العباسية السُّنِّيَّة؛ ففكر هؤلاء العبيديون في التعاون مع الصليبيين لحرب السلاجقة السنة!! وكان الخليفة العبيديّ في ذلك الوقت هو المستعلي بالله، وإن كانت الأمور كلها في يد الوزير الأفضل بن بدر الجماليِّ. وكان عرض الدولة العبيدية يشمل الاتفاق مع الصليبيين على تقسيم الشام بينهما، فيأخذ الصليبيون أنطاكية ومدن الشمال، بينما يأخذ العبيديون بيت المقدس. وكان العبيديون بالفعل يسيطرون على بيت المقدس حيث قاموا باحتلاله سنة (491هـ= 1097م)، حينما كان السلاجقة مشغولين بحرب الصليبيين في آسيا الصغرى[2].
    لقد كانت هذه السفارة تحمل البشريات للجيش الصليبي، بينما كانت طعنة نافذة في صدر -بل في ظهر- الأمة الإسلامية!!
    آثار السفارة الفاطمية الشيعية
    لقد كان لهذه السفارة من الآثار السلبية ما يخرج عن حدِّ التخيل:
    فأولاً: رفعت هذه السفارة جدًّا من معنويات الجيش الصليبي؛ إذ علموا أنهم يتعاملون مع أمَّة ضائعة، ليس لها من همٍّ إلا التملك والثروة، وأنهم على استعداد لبيع بعضهم البعض، ولو كان المشتري هم الصليبيون.
    وثانيًا: سيؤدِّي هذا الجهد العبيديّ إلى تشتيت السلاجقة السُّنَّة، وإحداث الاضطراب بين صفوفهم؛ فالصليبيون سيهاجمون من الشمال، والعبيديون من الجنوب.
    ثالثًا: سيأمن الصليبيون من هجوم الدولة المصرية التي كانت تملك جيشًا كبيرًا، بالإضافة إلى أسطول بحري قوي، كان من الممكن أن يغيِّر الموقف في أنطاكية وغيرها لو كان يملكه مخلصون للمسلمين.
    رابعًا: وهو أمر مهم جدًّا أن هذه السفارة تعني الاعتراف من الدولة المصرية لهذا الكيان الجديد القادم على أرض المسلمين، وأن له الأحقية الشرعية في أرض أنطاكية[3]، وعندها لا يجوز للمسلمين أن يُطالبوا بهذه الأرض؛ فقد أعطوها في مقابل أرض بيت المقدس، وسينسى الناس بعد ذلك أنَّ كلتا الأرضين مسلم!!
    لقد كانت خيانة بكل المقاييس!!
    ولقد أظهر الصليبيون الترحاب بالسفارة مع أنهم يعزمون تمامًا على أخذ بيت المقدس، بل ويعلنون ذلك جهرةً في كل محافلهم، ولكنهم قبلوا بهذا الطرح مؤقتًا[4]، وسوف يتجاهلونه مستقبلاً كما تجاهلوا وعودهم للدولة البيزنطية، وهو ما يسمى في أعرافهم سياسة، ولكنها -للأسف- سياسة لا تنجح إلا مع الأغبياء أو العملاء! ولقد كان كثير من زعماء المسلمين في ذلك الوقت من أحد هذين الصنفين أو منهما معًا!
    كان هذا هو موقف الدولة العبيدية الشيعية.
    موقف رضوان بن تتش
    وماذا كان موقف رضوان بن تُتش حاكم حلب؟!
    إن موقفه خطير جدًّا؛ فهو وإن كان على خلاف مع ياغي سيان إلا أنه يعتبر أنطاكية من ممتلكاته الشخصية[5]، وأن ياغي سيان استولى عليها، ومن ثَمَّ فالصليبيون الآن يأخذون جزءًا من ميراثه، فوق أنهم قريبون جدًّا منه، وقد يتوجَّهون إلى حلب بعد سقوط أنطاكية؛ لذلك انتهز رضوان فرصة قدوم طلب نجدة من ياغي سيان بعد أن يَئِس ياغي سيان من دقاق وغيره، فأسرع بتجهيز جيش لملاقاة الصليبيين، وصاحبه في حملته أمير حماة وبعض القوات من ديار بكر[6]، واجتمعت كل القوات في حارم على بُعد ثلاثين كيلو مترًا شرق أنطاكية.
    إنهم لم يخرجوا ليحفظوا دين الإسلام وأرضه وأعراض المسلمين!! بل خرجوا حفظًا لأملاكهم، أو ذرًّا للرماد في العيون. وهذه النوعية من الجيوش لا تُنصر عادةً!
    تم الاتفاق بين رضوان من ناحية وياغي سيان من ناحية أخرى على الخروج في وقت متزامن من حارم وأنطاكية لحرب الصليبيين من الشرق والغرب، فيقع بذلك الصليبيون في كمين بين الفريقين[7].
    الخطة محكمة، لكن القلوب مريضة والأجساد عليلة!
    هزيمة قاسية للتحالف المريض
    تسربت أنباء الخطة عن طريق نصارى حلب إلى الجيش الصليبي[8]، فخرج بوهيموند بنفسه على رأس فرقة صغيرة من الفرسان تبلغ سبعمائة فارس فقط، وترك جيشه محاصِرًا لأنطاكية، والتقى بوهيموند بهذه الفرقة الصغيرة مع جيوش حلب وحماة وديار بكر عند بحيرة العمق في شرق أنطاكية[9]، وللأسف الشديد فإن كثرة الجيوش الإسلامية لم تغنِ عنها شيئًا، وإذا بالقلة الصليبية تسيطر على الموقف بسرعة، وأسرعت الجيوش الإسلامية بالفرار[10]، وقُتل منهم عدد كبير، وقطَّع بوهيموند رءوسهم، وحملها على أسِنَّة الرماح، وعاد مسرعًا إلى أنطاكية.
    في هذه الأثناء كان ياغي سيان قد خرج لحرب الجيوش الصليبية بعد ابتعاد بوهيموند، إلا أنه -للأسف- هُزم هو الآخر فدخل مسرعًا إلى حصونه، ثم جاء بوهيموند وألقى بالرءوس المقطَّعة داخل أسوار أنطاكية؛ ليرسل رسالة رعب إلى ياغي سيان وشعبه[11]!
    إمدادات صليبية
    استمر حصار أنطاكية، بل وبدأ الصليبيون في بناء قلعة مجاورة على تل قريب من أسوار أنطاكية لاستخدامها في قصف أسوار أنطاكية، والتحصن بداخلها من السهام المسلمة[12]. وأثناء بناء القلعة، وفي (491هـ= 4 من مارس سنة 1098م) وصل أسطول إنجليزي إلى ميناء السويدية يحمل كميات كبيرة من الزاد والسلاح وآلات الحصار؛ مما رفع معنويات الجيش الصليبي جدًّا، ثم تمَّ لهم بناء القلعة في (491هـ= 19 من مارس 1098م)، وبذلك صار الحصار مشددًا بشكل أكبر وأخطر[13].
    ياغي سيان واستغاثة سلجوقية
    جدد ياغي سيان استغاثته بسلطان سلاجقة فارس بركياروق، وكذلك بواليه على الموصل كربوغا[14]، وقد استجاب كربوغا لنداء ياغي سيان، وجهَّز جيشًا كبيرًا، ولكنه -للأسف- قرر أن يحاصر الرها ويحاول إسقاطها قبل أن يأتي إلى أنطاكية، والذي دفعه إلى ذلك قرب إمارة الرها -وعلى رأسها الداهية بلدوين- من إمارة الموصل، فخَشِي كربوغا إن أخذ جيشه وذهب إلى أنطاكية (وهي على بُعد أكثر من سبعمائة كيلو متر من الموصل) أن يهجم بلدوين على الموصل الخالية من الجيوش. وهكذا أضاع هذا الأمر عدة أسابيع من كربوغا[15]، وهو في محاولة فاشلة لإسقاط الرها، ولم يتحرك في اتجاه أنطاكية إلا في (491هـ= أواخر شهر مايو 1098م).
    أثار قدوم كربوغا في الطريق إلى أنطاكية الفزع في الجيش الصليبي، فالأخبار تقول أن جيشه كبير، والصليبيون قد تعبوا من طول الحصار، فقد مرت عليهم حتى الآن أكثر من سبعة أشهر، وهم مرابضون أمام أسوار أنطاكية، وفي هذه الحالة السيئة وفي يوم 2 من يونيو 1098م قرر ستيفن دي بلوا الانسحاب من المعركة ليأسه من فتح أنطاكية، وأخذ معه عدد كبير من الفرنسيين، واتجه إلى ميناء الأسكندرونة ليقفل عائدًا إلى فرنسا[16]!
    لقد تأزم الموقف جدًّا على الفريقين!
    الخيانة الأرمنية
    في هذه الأثناء لعبت الخيانة دورها؛ لقد ظهر في أنطاكية رجل أرمني الأصل تظاهر بالإسلام اسمه نيروز أو فيروز، وتبادل الرسائل السرية مع الأرمن الموجودين في الجيش الصليبي، وكان كثير من الأرمن من أهل أنطاكية خرجوا من المدينة عند بدء الحصار وانضموا إلى الجيش الصليبي[17]، وقال هذا الرجل الأرمني: إنه يعلم أسرارًا قد تسهِّل فتح حصون أنطاكية. لقد كان هذا الرجل مقربًا من ياغي سيان، وكان ياغي سيان يوليه حراسة عدد من أبراج أنطاكية المهمة.
    وصلت هذه المعلومات إلى بوهيموند شخصيًّا، فتكتمها عن بقية الزعماء الصليبيين، وتراسل مع هذا الأرمني الذي طلب مالاً وإقطاعًا في البلد بعد سقوطها، فأقره بوهيموند على ذلك[18]. جمع بوهيموند زعماء الحملة الصليبية وأعاد على أسماعهم خطورة الموقف، وتيقن مرة ثانية من أنهم سيسلمونه أنطاكية إذا تم فتحها[19]، ثم بدأ يحدِّد لحظة الهجوم وساعة الصفر، وكانت في (491هـ) صباح يوم 3 من يونيو 1098م، أي بعد يوم واحد من رحيل ستيفن دي بلوا ومن معه من الفرنسيين. فتح نيروز الأرمني الأبواب في برجه وفي بعض الأبراج المجاورة، بل إن بعض الروايات تذكر أنه قتل أخًا له؛ لكي لا يكشف قصة المؤامرة.
    وهكذا انسابت الجيوش الصليبية الكبيرة داخل المدينة مع الساعات الأولى من الصباح. أسرعت الأرمن في داخل المدينة بالانضمام إلى الصليبيين[20]، وأدرك ياغي سيان المؤامرة بعد فوات الأوان، وقرر الهروب في مجموعة من الأتراك، غير أن الأرمن من أهل أنطاكية أحاطوا به وقتلوه، وحملوا رأسه إلى الصليبيين[21]؛ لتسقط بذلك كل عزيمة عند الشعب المسلم والجنود على حد سواء.
    سقوط أنطاكية

    سادت موجة من الذعر كبيرة في داخل أنطاكية، وانطلق الصليبيون يستبيحون المدينة بعد الحصار الطويل، وقتل من الرجال والنساء والأطفال ما يخرج عن حد الإحصاء، وسبيت أعداد هائلة من النساء والأطفال[22]، وسرعان ما ارتفعت أعلام بوهيموند النورماني على أسوار أنطاكية وأبراجها.
    لقد كان سقوطًا مروعًا هزَّ العالم الإسلامي بأسره، كما هزَّ العالم المسيحي.
    إنها المدينة القديمة الجميلة الحصينة التي تحمل تاريخًا إسلاميًّا مسيحيًّا طويلاً، ثم إنَّه السقوط المروع بعد حصار أكثر من سبعة أشهرٍ متصلة، ثم إنها المذبحة الهائلة التي سقط فيها عشرات الآلاف من المسلمين[23]!
    وأسرع الصليبيون لدفن الجثث المتراكمة؛ لئلا تنتشر الأوبئة في المدينة فتُهلِك الجيش بأكمله، وبدءوا أيضًا في الانتشار في الحصون والأبراج، وسيطروا سيطرة كاملة على مداخل المدينة ومخارجها[24].
    الجيوش الإسلامية تحاصر الصليبيين
    في هذه الأثناء كان كربوغا يتحرك بجيشه من الرها بعد أن يَئِس من إسقاطها، ثم توقف في مرج دابق على بُعد 650 كيلو مترًا تقريبًا من أنطاكية؛ حيث عقد اجتماعًا مع بعض رءوس الإمارات من الأمراء والملوك ليكوِّن جيشًا كبيرًا لإنقاذ أنطاكية، وكان جيش كربوغا هذا مرسَلاً من قِبل بركياروق سلطان السلاجقة وأقوى الشخصيات السلجوقية في ذلك الوقت؛ لذلك أذعن لكربوغا عدد كبير من الأمراء منهم دقاق صاحب دمشق، وأرسلان تتش صاحب سنجار، وجناح الدولة أمير حمص وغيرهم، غير أن رضوان صاحب حلب رفض الخروج في جيش فيه أخوه دقاق عدوه اللدود[25]!!
    وهكذا خرج الجيش السلجوقي الكبير إلى أنطاكية، ووصل إليها بعد حوالي ستة أيام من سقوطها، وحاول كربوغا اقتحام المدينة ولكنه فشل لحصانتها[26]، فقام بضرب الحصار حولها، لتنقلب الآية؛ فالصليبيون داخل أنطاكية محصورون، والمسلمون من خارجها مُحاصِرون لها! وقد بدأ هذا الحصار في 8 من يونيو 1098م[27].
    وعاش الصليبيون معاناة حقيقية، فالمدينة كانت قد خلت تقريبًا من الغذاء بعد حصار المسلمين بها مدةَ سبعة أشهر متصلة، وشعر الصليبيون بالندم لقدومهم إلى الشرق، وقد صاروا على أبواب مجاعة مهلكة، وقد اضطروا إلى أكل الميتة وورق الشجر[28]!
    ماذا يفعل الصليبيون في هذا الموقف العصيب؟ لقد فكَّر الصليبيون في الاستعانة بالإمبراطور البيزنطي؛ إنها حياة المصالح.
    إنهم يحتاجون إليه الآن، فلا مانع عندهم من التزلف مرة ثانية، والتملق، والنفاق!
    النجدة البيزنطية للصليبيين
    وجد الإمبراطور البيزنطي هذه الاستغاثة الصليبية فرصة لامتلاك أنطاكية المحبوبة، فخرج بنفسه على رأس جيش كبير مخترقًا آسيا الصغرى صوب أنطاكية، لكنه في الطريق وصلته أنباء بكبر حجم الجيش السلجوقي، وبكونه مؤلَّفًا من أكثر من إمارة، فخاف على نفسه وسلطانه، وقال: إن حماية القسطنطينية والبيزنطيين أعظم عنده ألف مرة من حماية أنطاكية والصليبيين. فقرر الرجوع فجأة، وعبثًا حاول رسل الصليبيين إثناءه عن رأيه، ولكنهم فشلوا[29]!
    إن القضية ليست دينية أبدًا!
    إن كل زعيم من هؤلاء لا يهتم إلا بملكه وعرشه!
    ماذا فعل بوهيموند؟
    ساء وضع الصليبيين أكثر؛ وبعد 4 أيام فقط من الحصار بدأ الصليبيون يتركون مواقعهم الأمامية في المقاومة من الإجهاد والتعب، ويتجهون إلى البيوت في داخل المدينة. وهذا يوضِّح روح اليأس والإحباط التي سيطرت على الصليبيين، وواجه بوهيموند الموقف بصلابة نادرة. إنه يرى حُلمه ينهار، ويرى أنطاكية الجميلة تضيع من يده بعد كل هذا الجهد، بل يرى حياته وحياة جنده على مقربة من النهاية، فماذا فعل بوهيموند؟! لقد أحرق الدور والبيوت الداخلية، وذلك في (491هـ= 12 من يونيو 1098م)؛ ليجبر الجنود على تركها والعودة إلى مواقعهم الأمامية[30].
    لقد كان قائدًا من طراز عجيب! ومع ذلك فالقبضة الإسلامية محكمة حول أنطاكية.
    وكان من الممكن أن تكون نهاية جيوش الصليبيين بكاملها، لولا الأحداث المؤسفة التي حدثت في داخل الجيش الإسلامي!! ليتيقن المسلمون من الحقيقة القائلة: "إن أعداءنا لا يُنصرون علينا بقوتهم، ولكن بضعفنا!".
    ماذا حدث في الجيش الإسلامي؟!
    لقد شعر كربوغا أن جيشه وإن كان كبيرًا إلا أنَّ جيوش الصليبيين أكبر، ولو حدث وخرج الصليبيون للقتال فقد تدور الدائرة على المسلمين إن طال الحصار، ففكر كربوغا أن أفضل طريقة لتقوية الجيش الإسلامي هي إعادة فتح التفاوض مع رضوان بن تتش أمير حلب لينضم إليهم بجيشه؛ فجيش حلب كبير، ورضوان نفسه كفاءة عسكرية معروفة، والأهم من ذلك أن حلب مدينة قريبة وغنية جدًّا، وتستطيع إمداد الجيش الإسلامية بالمؤن اللازمة والسلاح وأدوات الحصار.
    كانت هذه فكرة كربوغا، وهي فكرة صائبة لا شك، لكنها لا تصلح مع هذه الزعامات الفارغة. إن الأمر وصل إلى إثارة قلق دقاق نفسه[31]، وغضب من كربوغا، وحدث الشقاق والخلاف في الجيش المسلم، وأعلن دقاق عن رغبته في العودة إلى دمشق، وخاصةً أنه كان يخاف من توسع العبيديين في جنوب الشام[32]، وهذا -ولا شك- خلق جوًّا من التوتر في الجيش الإسلامي.
    وأضاف إلى هذا التوتر خوف جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص من انتقام يوسف بن أبق أمير الرَّحبة ومَنْبِج الذي كان مواليًا لرضوان، فاعتبر جناح الدولة وجوده في الجيش الإسلامي عداءً لرضوان وحلفائه، ومن ثَمَّ عاش في توتر كبير أثَّر في معنويات الجيش بكامله[33].
    لقد ذاق المسلمون ثمرات الوَحْدة المؤقتة التي حدثت بينهم، وانكمش الصليبيون داخل أنطاكية، وكانوا على أبواب الهلكة، والآن ها هم يتفرقون ليذوقوا ويلات التشتُّت والتشرذم! يقول تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 150].
    ثم زاد الطينة بلة، وعظمت الكارثة بظهور فتنة عنصرية في الجيش، حيث نشأ خلاف بين العنصر التركي والعنصر العربي في الجيش، وكان على رأس الأتراك كربوغا قائد الجيوش وأمير الموصل، وكان على رأس العرب أمير اسمه وثاب بن محمود المرداسي، وثارت فتنة زكَّاها رضوان من بعيدٍ برسائله المحفزة للتركمان ضد العرب[34]! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلاَنِ التي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ"[35].
    كان هذا هو الوضع في الجيش الإسلامي!
    بوهيموند وخدعة الحرب
    ونعود إلى داخل أسوار أنطاكية؛ لقد شعر بوهيموند -على الرغم من عناده وإصراره- بقرب النهاية، فأرسل في يوم 27 من يونيو 1098م -بعد تسعة عشر يومًا من الحصار- سفارةً إلى كربوغا من رجلين أحدهما بطرس الناسك، يعرض عليه فك الحصار وتأمين الجيوش في سبيل رحيلها[36]. وعلى الرغم من التفكك الذي كان في جيش كربوغا إلا أنه خاف أولاً من خيانة بوهيموند وهي خيانة متوقعة، ثم إنه شعر بضعف الصليبيين فطمع في القضاء عليهم تمامًا في معركة فاصلة. ويبدو أنه لم يقدر مدى الضعف الذي يسيطر على جنود الجيوش الإسلامية وقادتها. وهكذا رفض كربوغا السفارة، ومن ثَمَّ لم يعد أمام بوهيموند إلا قرار الحرب، والحرب السريعة قبل أن يهلك الجيش الصليبي من الجوع.
    نظر بوهيموند في جيشه فوجد حالتهم النفسية في الحضيض، فأراد أن يرفع من معنوياتهم، ويرسخ عندهم مفهوم النصر الأكيد في المعركة القادمة، فماذا فعل؟!
    لقد أشاع بواسطة كاهن من أهل مرسليا اسمه بطرس برتولوني أن القديس أندراوس الرسول ظهر لهذا الكاهن في الحلم ثلاث مرات ليدله على مكان في كنيسة القديس بطرس بأنطاكية، دفنت فيه الحربة التي طعن بها المسيح عليه السلام، وأنهم إذا حفروا ووجدوا الحربة فإنهم يحملونها أمام جيوشهم، وهذا الجيش يتحقق له النصر لا محالة!
    ثم كان من بوهيموند أن أمر الكاهن وبعض الرهبان بالحفر للبحث عن الحربة المزعومة، ثم أخرجوا حربة من الحَفْر، وقالوا: إن هذه معجزة، وإن هذا الجيش منصورٌ[37]!
    وبالطبع فإن هذه قصة لفَّقها بوهيموند وأتباعه لتحميس جيشه، ولا يُقِرُّ عامة المؤرخين بصدق هذه الحادثة، ولا غرابة فهؤلاء القساوسة الذين لفَّقوا الحكاية يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. وعندنا في عقيدتنا يقينٌ أن المسيح عليه السلام لم يُقتل أصلاً، يقول تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
    فهذه الحربة -ولا شك- فِرْية أرادوا بها رفع معنويات المقاتلين الصليبيين، وقد تحقق لهم مرادهم، وعادت لكثيرٍ من الجند الحماسة، وقرروا الخروج من اليوم التالي مباشرة لحرب المسلمين.
    هزيمة نكراء
    وفي صبيحة اليوم التالي 28 من يونيو 1098م بدأ الصليبيون في الخروج من المدينة للقتال، وأشار المسلمون على كربوغا أن يبدأ في قتالهم قبل أن يكتمل خروجهم، إذ كانوا يخرجون في جماعات صغيرة، غير أنه رفض وأصرَّ على اكتمال خروجهم ثم يبدأ بقتالهم؛ يقول بعض المؤرخين: إن هذا ضيَّع عليه فرصة قتالهم منفردين. ولكن يبدو أنه كان يريد خروجهم بالكامل حتى لا يبقى أحد منهم بداخل المدينة متحصنًا، فخشي إن قاتل الجماعات الصغيرة التي تخرج أن يمتنع بقية الجيش من الخروج[38].
    ومن الواضح أن كربوغا كانت تملؤُه الثقة بالنفس والاعتزاز بالأعداد التي معه، وأغراه حالة البؤس التي كانت عليها الجيوش الصليبية بعد الحصار الطويل، و-أيضًا- طلبهم منه أن يرفع الحصار. كل ذلك أدى إلى تركه لهم حتى اكتمل عددهم، ورتبوا صفوفهم تحت قيادة كل زعمائهم، وكان ريمون الرابع يتقدمهم وهو رافع للحربة المزعومة.
    ودارت معركة شرسة جدًّا أمام أسوار أنطاكية، وكانت الغلبة في البداية للمسلمين، لكنَّ الصليبيين كانوا يقاتلون قتال حياة أو موت، وعلى العكس كان المسلمون يقاتلون للحفاظ على ملكهم وثرواتهم، ومَن قاتل على هذه النوايا فهو لا يريد أن يموت، وهي نوايا لا تصلح أبدًا لجيش مسلم يريد الانتصار. وما أعظم ما قاله رسول الله r وهو يحفز جيشه ليلة بدر على القتال في صبيحة اليوم التالي! فكان يقول لهم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"[39].
    إنه في هذا الموقف لا يشجعهم على الحفاظ على حياتهم، لكن يشجعهم على بذلها في سبيل الله، ولا يجعل همهم غنائم العدو أو بلاده، ولو كانت هذه البلد هي مكة المكرمة، ولكن يجعل همهم دخول الجنة. وشتَّان بين كل ما رأيناه من رسول الله r في ليلة بدر، وما حدث في يوم 28 من يونيو 1098م؛ إذ ما لبث الزعماء المسلمون أن تزعزعوا، وبدأ كل منهم يحاول النَّأْي بنفسه وجيشه، وكان من أوائل الذين فروا التركمان بما فيهم دقاق ملك دمشق، وثبت جناح الدولة فترة ثم أسرع بالفرار هو الآخر، ثم فرَّ في النهاية كربوغا نفسه[40]، وأسرع المسلمون في كل اتجاه، وكانت الأوامر من قادة الصليبيين ألا يلتفت الجيش إلى الأسلاب والغنائم وإنما يتتبعون المسلمين.
    وهكذا تمت مطاردة شرسة لمسافة ثلاثة كيلو مترات شرق أنطاكية حتى حصن حارم[41]، قُتل فيها عدد كبير من المسلمين، ثم عاد الصليبيون ليجمعوا ما لا يحصى من الغنائم والمؤن والسلاح، ووصل كربوغا في فراره إلى الموصل، وكذلك دقاق إلى دمشق.
    لقد كانت مأساة حقيقية لهذا التجمُّع الإسلامي!
    وما أشد الشَّبه بين هذه التجمعات الفاشلة التي رأيناها، وبين تجمع الجيوش العربية لحرب اليهود في سنة (1367هـ) 1948م في فلسطين؛ فالجيوش لم تخرج لله، ولم تخرج لتكون كلمة الله هي العليا، ولا تعرف قرآنًا ولا سنة، إنما خرجت لذرِّ الرماد في العيون، أو للحفاظ على مُلك بائدٍ، أو لأخذ نصيب من الأرض، ومَن كانت هذه نواياه فلا يتحقق له نصر أبدًا.
    ولنا في التاريخ عبرة!

    [1] Michaud: op. Cit., 1, p. 304.
    [2] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.
    [3] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/163.
    [4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/418.
    [5] Setton: op. cit., 1, p. 315.
    [6] ابن العديم زبدة الحلب 2/129.
    [7] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 86.
    [8] Guillaume de Tyr, 1, p. 194.
    [9] Chalandon: Premiere Croisade pp. 195.
    [10] ابن العديم: زبدة الحلب 1/347.
    Guillaume de Tyr, 1, p. 196.
    [11] Gesta Francorum. pp. 80-86.
    [12] Cam. Med Hist. vol. 5, p. 291.
    [13] Guillaum de Ttr, 1, p. 198.
    [14] Michaud: op. cit., pp. 264-267.
    [15] وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة في ما وراء البحار 1/318، 319؛ رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 1/346.
    [16] Runciman, op. cit., 1, p. 238.
    [17] Gesta Francorunm, p. 69.
    [18] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/168، وابن العديم: زبدة الحلب 2/134.
    [19] Gesta Francorunm, p. 100.
    [20] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/417.
    [21] ابن العديم: زبدة الحلب 2/134.
    [22] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.
    [23] قدرت المصادر الصليبية عدد المسلمين الذين ذبحهم الصليبيين في أنطاكية بعشرة آلاف.
    [24] Michaud: op. cit., 1, 292.
    [25] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/418، ابن العديم: زبدة الحلب 2/156.
    [26] ابن العديم: زبدة الحلب 2/136.
    [27] Cam. Med Hist. : vol. 5 , p. 292.
    [28] ابن العديم: زبدة الحلب 2/137،
    Runciman, op. cit., 1, p. 238.
    [29] Gesta Francorun, pp. 147-148.
    [30] Guillaume de Tyr, 1, p. 255.
    [31] ابن العديم: زبدة الحلب 2/136.
    [32] Runciman, op. cit., 1, p. 249.
    [33] ابن العديم: زبدة الحلب 2/136.
    [34] ابن العديم: زبدة الحلب 2/136.
    [35] أبو داود: كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب (5116)، وأحمد (8721)، والبيهقي في سنه الكبرى (20851)، وقال الألباني: حديث حسن (1787) انظر: صحيح الجامع.
    [36] Chalandon: Premiere Croisade, p. 220.
    [37] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/16،15، وزابوراف: الصليبيون في الشرق ص93-107،
    Raymond d`Aguiler, in Peters (ed.), The First Crusades, pp. 166-168, 174-175, 178-185, 189-194.
    [38] ابن العديم: زبدة الحلب 2/137.
    [39] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 627، ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 338، ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 420، السهيلي: الروض الأنف 3/ 71.
    [40] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/16.
    [41] Gesta Francorum, p. 159.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •