حديث: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "مَن أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره".
قوله: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هو شك من الراوي.قوله: (من أدرك ماله بعينه)، وفي رواية لمسلم: إذا وجد عنده المتاع ولم يفرِّقه، ولأبي داود: (أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه فهو أحق به"، فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئًا، كان أسوة الغُرماء، ولابن أبي شيبة: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحق به من الغرماء، إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئًا، فهو أسوة الغرماء.
قال الحافظ: (قوله: "من أدرك ماله بعينه"، استدل به على أن شرط استحقاق صاحب المال دون غيره أن يجدَ ماله بعينه، لم يتغيَّر ولم يتبدل، وإلا فإن تغيَّرت العين في ذاتها بالنقص مثلًا أو في صفة من صفاتها، فهي أسوة للغرماء)[1].
قوله: (عند رجل أو إنسان) شك من الراوي أيضًا.
قوله: (قد أفلس) أي: تبيَّن إفلاسه.قال الحافظ: (المفلس شرعًا من تزيد ديونه على موجوده، سُمي مفلسًا؛ لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير إشارة إلى أنه صار لا يملِك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس، أو سُمي بذلك؛ لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس؛ لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلسًا.قوله: (فهو أحق به من غيرها).
قال الحافظ: أي كائنًا من كان وارثًا وغريمًا، وبهذا قال جمهور العلماء، قال واختلف القائلون في صورة، وهي ما إذا مات ووجدت السلعة، فقال الشافعي: الحكم كذلك وصاحب السلعة أحق بها من غيره، وقال مالك وأحمد: هو أسوة الغرماء، واحتجَّا بما في مرسل مالك: (وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء"، وفرَّقوا بين الفلس والموت بأن الميت خرِبت ذِمَّته، فليس للغرماء محل يرجعون إليه، فاستووا في ذلك بخلاف المفلس، واحتج الشافعي بما رواه من طريق عمر بن خلدة قاضي المدينة عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه، وهو حديث حسن يحتج بمثله أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم، وزاد بعضهم في آخره: إلا أن يترك صاحبه وفاء، ورجَّحه الشافعي على المرسل، وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن عبدالرحمن؛ لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره، لم يذكروا ذلك، بل صرح ابن خلدة عن أبي هريرة بالتسوية بين الإفلاس والموت، فتعيَّن المصير إليه؛ لأنها زيادة من ثقة، وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي، وجمع الشافعي أيضًا بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما إذا مات مفلسًا، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن على ما إذا مات مليئًا؛ والله أعلم.قال: ويلتحق بالمبيع المؤجر، فيرجع مكتري الدابة أو الدار إلى عين دابته وداره ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح عند الشافعية والمالكية، واستدل به على حلول الدين المؤجل بالفلس؛ من حيث إن صاحب الدين أدرك متاعه بعينه، فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجل، وهو قول الجمهور، لكن الراجح عند الشافعية أن المؤجل لا يحل بذلك؛ لأن الأجل حق مقصود، له فلا يفوت، واستدل به على أن لصاحب المتاع أن يأخذه وهو الأصح من قولي العلماء، والقول الآخر يتوقف على حكم الحاكم كما يتوقف ثبوت الفلس، قال: واستدل به على أن الرجوع إنما يقع في عين المتاع دون زوائده المنفصلة؛ لأنها حدثت على ملك المشتري وليست بمتاع الباب)[2]؛ انتهى والله أعلم.
وقال البخاري: باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة، فهو أحق به، وقال الحسن: إذا أفلس وتبيَّن لم يجز عتقه، ولا بيعه، ولا شراؤه، وقال سعيد بن المسبب: قضى عثمان من اقتضى من حقه قبل أن يفلس، فهو له، ومن عرف متاعه بعينه، فهو أحق به.
وقال ابن المنير: أدخل هذه الثلاثة؛ إما لأن الحديث مطلق، وإما لأنه وارد في البيع، والآخران أولى؛ لأن ملك الوديعة لم ينتقل، والمحافظة على وفاء من اصطنع بالقرض معروفًا مطلوب؛ انتهى.
تتمة:
قال في الاختيارات: وإذا ظهر المقترض مفلسًا، ووجد المقرض عين ماله، فله الرجوع بعيد ماله بلا ريب، والدين الحال يتأجَّل بتأجيله، سواء كان الدين قرضًا أو غيره، وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد، ويتخرَّج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل بعد لزوم العقد، قال: ولو اقترض من رجل قروضًا متفرقة، ووكل المقرض في ضبطها أو ابتاع منه شيئًا، ووكل البائع في ضبط المبيع حفظًا أو كتابة، فينبغي أن يكون قول هذا المؤتمن ها هنا مقبولًا، ويجب على المقترض أن توفي المقرض في بلد القرض، ولا يكلفه مؤونة السفر والحمل، وقال أيضًا: وإذا لزم الإنسان الدين بغير معاوضة كالضمان ونحوه، ولم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه في الإعسار، وهو مذهب أحمد وغيره، قال: ومن طولب بأداء دين عليه، فطلب إمهالًا أُمهل بقدر ذلك اتفاقًا، لكن إذا خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته أو بكفيل، أو برسم عليه ورق، فإن كان قادرًا على وفاء دينه وامتنع، أُجبر على وفائه بالضرب والحبس، ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم[3].
قال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعًا، لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر، وللحاكم أن يبيع عليه ماله، ويقضي دينه، قال: وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء ومطل صاحب الحق، حتى أخرجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك، فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، وممن عرف بالقدرة، فادعى إعسارًا وأمكن عادة قُبل، وليس له إثبات إعساره عند غيره من حبسه بلا إذنه، ويقضي دينه من مال له فيه شبهة، لأنه لا يبقى شبهة بترك واجب، ولو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته، لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس، بل يستحقها عليها بعد الحبس؛ كحبسه في دين غيرها، فله إلزامها ملازمة بيته، ولا يدخل عليها أحد بلا إذنه، ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه، أسكنها حيث شاء، ولا يجب حبسه بمكان معين، فيجوز حبسه في دار نفسه، بحيث لا يمكن من الخروج ولو كان قادرًا على أداء الدين، وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح، فله ذلك؛ إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله، ومن ضاق ماله عن ديونه، صار محجورًا عليه بغير حكم حاكم بالحجر، وهو رواية عن أحمد، ومن عليه نفقة واجبة، فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة، وكلام أحمد يدل عليه، وإن توزع المحجور عليه لحظر في الرشد، فشهد شاهدان برشده قبل؛ لأنه قد يعلم بالاستفاضة، ومع عدم البينة له على وليه أنه لا يعلم رشده ما صرفه في الحرام، أو كان صرفه في مباح قدرًا زائدًا على المصلحة، ولو وصى من فسقه ظاهر أو لا، وجب إنفاذه؛ كحاكم فاسق حكم بالعدل، والولاية على الصبي والمجنون والسفيه، تكون لسائر الأقارب، ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي، وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم، وهو مذهب أبي حنيفة ومنصوص الشافعي في "الأم"، وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم، فضعيف جدًّا، والحاكم العاجز كالعدم، قال: ولو مات الوصي وجهل بقاء مال وليِّه، كان دينًا في تركته، ولوصي اليتيم أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته، ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًّا خبيرًا بما ولي عليه، أمينًا عليه، والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به، ولا يستحق الأجرة المسماة، لكن إذا عمل لليتامى، استحق أجرة المثل كالعمل في سائر العقود الفاسدة، ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرُّفه، ولو قدر صدقه، فتسليطه عليه عدوان، وتردَّد أبو العباس فيما إذا لم يمكن الولي خلاص حق موليه إلا برفع من هو عليه إلى والٍ يظلمه، ويستحب التجارة بمال اليتيم؛ لقول عمر وغيره: اتجروا بأموال اليتامى؛ كيلا تأكلها الصدقة[4].
فائدة:روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد عين ماله عند رجل، فهو أحق به ويتبع البيع من باعه"، وفي لفظ: "إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه، فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن"؛ رواه أحمد وابن ماجه.

[1] فتح الباري: (5/ 63).
[2] فتح الباري: (5/ 65).
[3] الاختيارات الفقهية، (1/ 476).
[4] الاختيارات الفقهية، (1/ 480).


رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/sharia/0/141020/#ixzz6RuW8Z8LI