أطلعت في جريدة عكاظ العدد: 3042 على مقال للكاتب الأستاذ نجيب يماني بعنوان (كشف وجه المرأة جائز باتفاق معظم العلماء). والأولى أن يقول (كشف وجه المرأة حرام باتفاق العلماء). وذلك للحقائق العلمية الشرعية عند المتقدمين أصحاب المذاهب الأربعة رضوان الله عليهم والتي أوجزها في نقاط:

1-
أن أصحاب المذاهب الأربعة متفقون على وجوب ستر المرأة لوجهها عن الرجال ولم يختلفوا في ذلك بتاتاً كما يعتقده الكاتب وإنما كان اختلافهم من قبيل اختلاف التنوع في الفروع وهو في العلة من أمر الشارع للنساء بستر وجوههن، فمن قائل لأن الوجه عورة ومن قائل ليس عورة بل (للفتنة والشهوة) المتحققة بالفطرة التي فطر الله العباد عليها تجاه النساء، وخلافهم هذا في اصول الفقة عند تخريج وتنقيح وتحقيق علة فريضة الحجاب بطلب الشارع ستر وجه المراة عن الرجال، فظهر اعتراض بعضهم على علة البعض الآخر، ان (الوجه والكفين ليسا بعورة) أكثر من ظهور علتهم في المسألة (الفتنة والشهوة)، فحسبه المتأخرون اليوم أنه خلاف بينهم في أصل المسألة، وإنما سبب اعتراضهم على لفظة (الوجه عورة) لأنها تكشفه في صلاتها ولو قيل أنه عورة لقيل وكيف لم تبطل صلاتها بكشفه؟ ولانه لا يلزم ان كل ما يجب ستره بالضرورة ان يكون من العورة فهناك امور يجب سترها وهي ليست بعورة، وكذلك استدلوا على أن الشريعة أباحت كشفه عند الحاجة والضرورة كالشهادة والخطبة وعند التبايع وتوثيق العقود أو كما في بعض الأحوال الأمنية لمعرفة شخصها للرجوع لها أو عليها، ولهذا فلم يناسب عندهم أن يقال فيما أباحته الشريعة للضرورة أنه عورة فتأنفه النفوس وتمتنع عن الأخذ بالرخص وتتعطل مصالحها، واختلافهم في علل المسائل والأحكام كثير فمثلاً في فريضة الزكاة فمن قائل أنها للنماء والبركة، ومن قائل أنها لتزكية وطهارة الأموال، فاذا زكت وطهرت من الاوساخ، عندها نمت وزادت فيها البركة، فأصل علة فرضها زكاة وظهارة المال، وهكذا قد يرى احدهم أن علته انسب وأظهر من علة الأخر، وقد يعترض بعضهم على علة الفريق الأخر لدرجة أن يحسبه من يرى نقاشهم أنهم مختلفون في أصل الفريضة، وهم إنما يختلفون في فروعها.
ولا أدل على ذلك من أننا لا نرى بين المتقدمين ذكر خلاف أو نزاع بينهم كما هو الخلاف والنزاع الحاصل اليوم بين الفريقين، بل نجد بعضهم يقول بعلة البعض الآخر مما يدل على أن الخلاف بينهم كان سائغا وواسعا وهو في العلة والفروع فقط من أمر الشارع للنساء بستر وجوههن، فهذا يريد ستره بعلة العورة وذاك يريد ستره بعلة الفتنة والشهوة.
فهم إذا اختلفوا فانما بختلفون في الفروع لا يختلفون في الاصول التي امر الله نبيه بتبليغها لامته، فخلافاتهم إنما هي في الفروع و إذا اختلفوا فإنما يختلفون فيما هو أشد وأزيد وفوق إجماعهم على ستر المرأة لوجهها عن الرجال ، لأن سترها لوجهها أصل الفريضة وهو الذي كان يظهر منهن في الجاهلية والإسلام قبل فرض الحجاب، ولهذا تجدهم في الحفاظ والحرص والاحتياط على حرمة هذا الأصل يختلفون فيما هو أشد وازيد من ستر لوجهها امام الرجال :
* فيختلفون في الخاطب هل ينظر لوجه من أراد نكاحها أم لا؟
* ويختلفون في الإماء هل يسترن وجوههن كالحرائر ؟ ولم يختلفوا في الحرائر بتاتا.
* ويختلفون هل تكشف الشابات اليافعات وجوههن عند الضرورة؟ أم ان الفتنة بهن اكبر فلا يكشفن.
* ويختلفون هل تكشف القواعد من النساء وجوههن أم لا لاختلاف الزمان وقلة الورع ولان لكل ساقطة لاقطة كما قال بعضهم ؟
* ويختلفون هل تكشف المرأة وجهها في (طريقها) الخالية من الرجال كفعل عائشة حين قالت في مرور الركبان (فإذا جاوزونا كشفناه)؟ كما قال القاضي عياض والنووي وابن مفلح وانها لو سترته مع خلو الطريق فسنة ومستحب لان له اصل وللاحتياط والورع من نظر الفجأة. أم يجب سترهن بمجرد خروجهن لاية (يدنين) عند الخروج من بيوتهن.
* ويختلفون في كراهة نظر وجه البنت من الخال والعم لابنة اخيه او اخته حتى لا يصفانها لأبنائهما؟
* ويختلفون هل تنظر المرأة للرجال؟
* ويختلفون من مثل قولهم (إذا أمنت أو خشية منه فتنة وشهوة) لا يقصدون به عموم الناس ولا عموم الأحوال إنما هو لناظر مخصوص ممن جاز نظره للمرأة وقت الضرورة، كالشاهد والمتبايع ونحوهم، فاشترط بعضهم شرطاً زائداً فوق الضرورة، وهو أمن الفتنة والشهوة منه أو عليه عند النظر، كمن كان معروفاً بالفسق وقلة الورع أو يعلم أنه يَشتهي ويتأثر فيُمنع من النظر ولو لحاجة، وذهب بعضهم لعدم اشتراطه مطلقا، وقالوا لا يسلم أحد من أن ينظر للمرأة ويأمن عدم تحرك شهوته، ولتوثيق الحقوق ومصالح الناس، وفرق بعضهم فأجازوه فيمن لا بد منه بنفسه كمثل الخاطب والقاضي وكما فيشاهد التحمل وشاهد الأداء ففي الأول: إذا خشي منه فتنة وشهوة قالوا لا ينظر ففي غيره غنية، ولكن في الثاني: أجازوه لأداء ما قد سبق وتحمله من الشهادة فليس في غيره غنية.
* ويختلفون هل تكشف المسلمة وجهها للكافرة ام لا؟
* ويختلفون هل تكشف المسلمة وجهها للمسلمة الفاسقة او لا؟
* ويختلفون هل تكشف السيدة وجهها على عبدها أو لا؟
* ويختلفون هل يرى المظاهر وجه زوجته او ياكل معها او يدخل عليها قبل كفارة الظهار او لا؟
* ويختلفون هل يرى المطلق طلاقا رجعيا وجه زوجته او ياكل معها او يدخل عليها قبل ان يراجعها او لا؟

* ومن ذلك خلافهم الفرعي في علة وسبب وجوب وفرض ستر المسلمة لزينتها ومن ذلك وجهها فمن قائل لانه عورة وكل بدن المراة عورة للحديث (المراة عورة) ومن قائل لا ليس العلة الأنسب والاقوى والأرجح في فرض ستر المسلمة لوجهها وزينتها العورة، وإن كانوا يقولون (المراة عورة ) في العموم للحديث، ولكن في تنقيح وتخريج مناط علة ستره لا يقولون بالعورة. بل بعلة (الفتنة والشهوة) الحاصلة والمتحققة غالبا ولا بد عند كشف شيء من زينتها. للاية (زين للناس حب الشهواتمن النساء) وللحديث (ما تركن فتنة اضر على الرجال من النساء) فقالوا العلة الأنسب والاقرب لمراد ومقاصد الشارع من فرض ستر المراة لوجهها وكل شي من زينتها عن الرجال للفتنة والشهوة الحاصلة بذلك، وكله صواب. ومن الخطأ ان نفرح بقول من قالوا (عورة) ونتمسك به وكانهم مختلفون مع من قالوا (ليس عورة) في اصل الفريضة، فليس بينهم خلاف في الاصول بتاتا.
ونتاج خلافهم انهم بهذه العلة علة (الفتنة والشهوة) كانوا اشد واوسع واشمل من القائلين بعلة العورة، لا كما يظن ويقال اليوم ان من قالوا بعلة العورة هم اكثر تشددا في فريضة الحجاب بل العكس.
بدليل انهم بعلة الفتنة والشهوة منعوا كثيرا من المسائل في فريضة الحجاب وهي ليست بعورة:
* منعوا النظر للامرد الحسن ولا عورة، وإنما بعلة الفتنة والشهوة .
* ومنعوا كشف المسلمة وجهها للكافرة والفاسقة ولا عورة.
* ومنعوانظر العم والخال لوجه ابنه أخيه واخته خشية من ان يصفانهما لابنائهم ولا عورة .
* ومنعوا المحرم الفاسق كالسكير وصاحب المخدرات ممن يخشى منه فتنة وشهوة من النظر لمحارمه وحجبوهن عنه ولا عورة .
*ومنعوا الزوج المظاهر والمطلق طلاقا رجعيا من النظر لوجه زوجته او الخلوة بها أو الاكل معها ولا عورة.
*ومنعوا نظر المراة للرجل خشية الفتنة والشهوة ولا عورة.
*ومنعوا كشف الاماء لوجوههن وفرضوا عليهن ستر وجوههن كالحرائر لان الفتنة والشهوة بهن كالفتنة والشهوة بغيرهن من الحرائر او اكثر.
ومنعوا النظر للمنقبة من خلف جلبابها للفتنة والشهوة ولا عورة.
ومنعوا وحرموا سماع صوتها من الرجال وهو عند اكثرهم ليس بعورة وإنما لعلتهم الفتنة والشهوة.
فكانوا بعلتهم الفتنة والشهوة اشد واوسع واشمل من علة القائلين بالعورة لهذا ذهب لها جمهور العلماء، حتى من الحنابلة كابن قدامة والمرداوي من أئمة الحنابلة وغيرهم والنووي والماوردي من أئمة الشافعية وغيرهم والاحناف والمالكية والظاهرية مع نصوصهم الواضحة كالشمس في فريضة ووجوب ستر المسلمة لوجهها.
وهذه من ادلة اجماعهم القاصمة لمذهب السفور اليوم ، والدالة على ان خلافهم كان في الفروع وفيما هو اشد وازيد وفوق اصل الفريضة بستر وجهها عن الرجال.

2- وأما تفسير الكاتب لقوله تعالى:{يا أيها النَّبِيُّ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ً} ]الأحزاب:59[. فهذه الآية مما تدل على ما ذكرناه في النقطة السابقة حيث أجمع عليها المفسرون قاطبة نقلا عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بأنها الأمر للنساء بلبس الجلابيب وتغطيتهن لوجوههن، ولم يذكروا عند تفسيرهم لها أي خلاف في ذلك بتاتاً، فهو إجماع صريح ثابت ومدون في كتبهم جميعا، بل ووصفوا كشفهن بابشع الاوصاف وانه كان ( من فعل الجاهلية) و(زي الاماء) و( تبذل وعادة العربيات). وبيننا وبين الكاتب كتب المفسرين على مر عصورهم. حتى أن شيخ الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي رحمه الله من كثرة ما رأى الإجماع والنقول المتواترة عن السلف في الآية قال في كتابه التفسير الوسيط (11/245). (والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب يستر جميع البدن، تلبسه الـمرأة فوق ثيابها، والمعنى: يا أيها النبي قل لأزواجك اللائي في عصمتك، وقل لبناتك اللائي هن من نَسْلك، وقل لنساء المؤمنين كافة، قل لهن: إذا ما خرجن لقضاء حاجتهن، فعليهن أن يَسدلن الجلابيب عليهن حتى يسترن أجسامهن ستراً تاماً من رؤوسهن إلى أقدامهن؛ زيادة في التستر والاحتشام، وبعداً عن مكان التهمة والريبة. قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سُود يلبسنها) انتهى.
وهذا رد على قول الكاتب: (فالقرآن الكريم لا يأمر بغطاء وجه النساء بقماش أسود) وبالتالي فكيف سيكون رد المتقدين عليه؟ لتعلم أنه لم يجرؤ أحد – عند التحقيق والبحث العلمي- أن يقول في الآية بخلاف النقل المتواتر عن السلف.
لان سورة الأحزاب نزلت في السنة الخامسة بفريضة الحجاب في البيوت ( فسالوهن من وراء حجاب) وشملوا مع امهات المؤمنين (نساء المسلمين) لم ينس احد ذكر نساء المسلمين عند تفسيره للاية وقد بينا في كتابنا لم ذكرت بيوت النبي بالذات في الاية فليراجع. ثم نزلت معها اية تعليمهم طريقة الحجاب اذا خرجن من بيوتهن ( يدنين عليهن من جلابيبهن) . ثم بعد فترة نزلت سورة النور في السنة السادسة للهجرة وفيها الرخص للنساء بقوله تعالي{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} وهي بإجماع أهل العلم أنها جاءت رخصة وتوسعة من الله لان تبدي المرأة ما تدعوا الحاجة إليه من زينتها فذكروا حال الشهادة والخطبة والعلاج والبيوع وحال انقاذها من غرق او حرق او ما انكشف رغما عنها من ريح او سقوط ونحو ذلك، فهي استثناء حال الضرورة الخارجة عن احوالها العادية ككل الاستثناءات عن الاصل العام والمقرر سلفا كقوله تعالى ( الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) وقوله( الا ما اضطررتم اليه) وكقوله( لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وكقوله ( الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) ونحو ذلك من الضرورات المستثناة. لا يجوز تفسيرها وكأنها صفة تشريع طريقة الحجاب. فيكون تحريفا وتبديلا وتصحيفا وخلطا، وهدما وغربة للدين، كمن يستدل بايات الفطر للمسافر والمريض ويقول صوم رمضان ليس بفرض وإنما سنة ومستحب ومن صامه فهو اتقى وافضل عياذا بالله. فلم يفرق بين الرخصة والفريضة ، ولا بين المستثنى من المستثنى منه ، فخلط بينهم.
كما جاء في نفس السورة أيضا الرخصة للقواعد.

3-
وأما كلام الكاتب عن خصوصية أمهات المؤمنين فلا أعلم أحدا من أهل العلم المتقدمين من يقول أن ستر الوجه كان فرضا عليهن وسنة على من سواهن، وهذه كتب أهل العلم التي نعلم حرص الأستاذ نجيب للرجوع إليها أين من قال فيها بمثل قوله؟ ثم هو دوما يدعوا إلى إعمال الفكر فكيف يقول أن الله فرض النقاب على من أسماهن أمهات للمؤمنين {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب:6] وجعله سنة على من سواهن من الأجنبيات!، فلو قيل بالعكس لكان هذا القول معقولاً لانهن امهات لا بحتجبن من ابنائهن ولكن الله فرض عليهن كغيرهن من نساء المسلمين الحجاب لهذا جاء بذكر بيوتهن بالذات حتى يشملهن الحجاب كغيرهن. وتفصيل ذلك في كتبنا ، مما تعلم معه أن الأستاذ نجيب يماني قلب المعنى والمقصد للخصوصية التي عند المتقدمين وفهمها فهما معكوسا، فهم قصدوا أن أمهات المؤمنين قد خصصن بالحجاب من أبنائهن بخلاف أمهات العالمين اللاتي ليس عليهن الاحتجاب من أبنائهن، فكان من قوة فريضة الأمر للمرأة بستر وجهها وعظيم شرفه وقدره أن دعي له من هن في حكم الأمهات ومن هن زوجات أفضل رسل الله عليهم الصلاة والسلام اللاتي الفتنة منهن وإليهن أبعد ممن سواهن.. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
وأتمنى نشرها في جريدتكم الموقرة حتى يعم النفع والنقاش البناء.

أخوكم/ تركي بن عمر بلحمر – جدة –

وللمزيد راجع مؤلفنا كتاب: (كشف الأسرار عن القول التليد فيما لحق مسألة الحجاب من تحريف وتبديل وتصحيف) وقد روجع من إدارة البحوث العلمية والإفتاء.
وكتيب ( خلاصة كتاب كشف الاسرار عن القول التليد...)
وكتابنا الذي صدر حديثا (إجماعات المذاهب الأربعة على فريضة الحجاب ورد قول من يفتري عليهم وجود خلاف بينهم في ستر المسلمة وجهها بالجلابيب السود).
ولتحميلها مجانا من هنا .
http://www.saaid.net/book/search.php...C8%E1%CD%E3%D1
وبالله التوفيق