تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 28 من 28 الأولىالأولى ... 1819202122232425262728
النتائج 541 إلى 556 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #541
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (540)
    سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
    صـ 75 إلى صـ 82


    ونقل القرطبي عن ابن العربي عند قوله تعالى : فادعوه بها [ 7 \ 180 ] أي : اطلبوا منه بأسمائه ، فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول : يا رحمان ارحمني ، يا رزاق [ ص: 75 ] ارزقني ، يا هادي اهدني ، يا تواب تب علي ، وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين ا هـ .
    مسألة

    يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله : بسم الله ، ولا يقول الرحمن الرحيم ؛ لأن اسم الرحمن الرحيم يقتضي الرحمة ، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح .

    ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ذبح قال : " بسم الله ، والله أكبر " أي : أكبر وأقدرك عليها ، وهو أكبر منك عليك منها .

    فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو ، كان حقا قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها ، فكان حقا من أهل الجنة ، والعلم عند الله تعالى .

    ولقد استوقفني طويلا مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلا لها وختاما وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد ، وإقامة الدليل ، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل ، فمكثت طويلا أتطلب ربطها بما قبلها ، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات ، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع ، ولا يشفي عليلا في مجتمعاتنا الحديثة ، أو يذهب شبه المدنية المادية ، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولا بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم ، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني ، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود ، ولم يكن مظنونا إخراجهم ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة .

    ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين فريق المؤمنين ، والكافرين .

    يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ، ومودة ، ورحمة ، وعطاء ، وإيثار على النفس .

    ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين ، واليهود ، وما كان بينهم من مواعدة ، وإغراء ، وتحريض ، ثم تخل عنهم وخذلان لهم .

    [ ص: 76 ] فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن ، وحزب الشيطان ، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك .

    ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما ، وفي ذلك تقرير المصير : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] .

    وهذه أخطر قضية في كل أمة أي : تقرير مصيرها ، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات ، ولو كانت جبلا أشم أو حجرا أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق ، والأمة والرسالة ، والبدء والنهاية ، وصراع الحق مع الباطل ، والكفر والإيمان ، والنفوس في الشح والإحسان ، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية .

    وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .

    فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض ، وتنقل من موقف إلى موقف ، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته ، نطق بتسبيحه ، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده ، فأوجده على مقتضى علمه به ، وسيره على النحو الذي أوجده عليه ، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضوهم ، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم ، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله ، فحث العباد بالأخذ به ، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة ، كان حقا هو الله وحده .

    ثم مرة أخرى : هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، برهان آخر في صور متعددة ، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدوس ، الملك المهيمن على ملكه القدوس ، المسلم من كل نقص ، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] .

    وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معا عالم الغيب والشهادة ، والملك القدوس والسلام المهيمن ، فنجدها مترابطة متلازمة ؛ لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه .

    [ ص: 77 ] والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه ، فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات : العلم والملك والتقديس والهيمنة ، حصل الكمال والجلال ، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر ، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ، وهنا ، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد .

    و ( البارئ ) الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير ، وليس كل من قدر شيئا أوجده إلا الله .

    و ( المصور ) المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها ، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى ، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه .

    وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق ، فإن الخلق والتقدير لابد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب ، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة ، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره .

    و ( المهيمن ) : يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره .

    والذي قدر فهدى ، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته ، وتقديره ، ويخضعه لهيمنته .

    ( المتكبر ) الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق ، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته ، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون .

    وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم : هو الله الخالق البارئ المصور وهو أعظم دليل كما تقدم ، وهو كما قال : دليل الإلزام ؛ لأن الخلق لابد لهم من خالق ، وهذه قضية منطقية مسلمة ، وهي أن كل موجود لابد له من موجد ، وقد ألزمهم في قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وهذا بالسير والتقسيم أن يقال : إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي : من العدم ، ومعلوم أن [ ص: 78 ] العدم لا يخلق شيئا ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، والعدم ليس أمرا وجوديا حتى يمكن له أن يوجد موجودا .

    أم هم الخالقون ؟

    وهم أيضا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم ، فيبقى المخلوق لابد له من خالق ، وهو الله تعالى : الخالق البارئ .

    ولو قيل من جانب المنكر : إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها ، كالأبوين للحيوان ، وكالحرث والسقي للنبات . . . إلخ ، فجاء قوله تعالى : المصور ، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذكورة أو الأنوثة ، أو من جنس اللون ، والطول والقصر والشبه ؟

    الجواب : لا وكلا ، بل ذلك لله وحده ، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، كما قال تعالى : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 ] .

    وكذلك في النبات توضع الحبة وتسقى بالماء ، فالتربة واحدة ، والماء واحد ، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض ، وذاك نبت على ساق ، وهذا كرم على عرش ، وذاك نخل باسقات ، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها ، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك ؟ وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض ؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معا ، لا وكلا . إنه هو الله الخالق البارئ المصور ، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعا وكرها .

    وهنا عود على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه ، وآيات وحدانيته ، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
    [ ص: 79 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ .

    نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِ أَوْلِيَاءَ ، وَلَفْظُ الْعَدُوِّ مُفْرَدٌ ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ .

    وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْفَرْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [ 20 \ 117 ] يَعْنِي بِالْعَدُوِّ إِبْلِيسَ .

    وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [ 18 \ 50 ] ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ لِمَا فِي السِّيَاقِ مِنَ الْقَرَائِنِ مِنْهَا قَوْلُهُ ( أَوْلِيَاءَ ) بِالْجَمْعِ ، وَمِنْهَا : تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ ، وَمِنْهَا : وَقَدْ كَفَرُوا بِوَاوِ الْجَمْعِ ، وَمِنْهَا يُخْرِجُونَ أَيْضًا بِالْجَمْعِ ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا : إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا [ 60 \ 2 ] وَكُلُّهَا بِضَمَائِرِ الْجَمْعِ .

    أَمَّا الْعَدُوُّ الْمُرَادُ هُنَا فَقَدْ عَمَّ وَخَصَّ فِي وَصْفِهِ فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ، وَخَصَّ بِوَصْفِهِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ، وَالْوَصْفُ بِالْكُفْرِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُمَا مَعًا لِلتَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْخَاصِّ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [ 2 \ 98 ] فَفِي ذِكْرِ الْخَاصِّ هُنَا وَهُوَ وَصْفُ الْعَدُوِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِين َ لِلتَّهْيِيجِ عَلَى مَنْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَقَوْلِهِ : وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [ 2 \ 191 ] .

    وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِين َ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [ 47 \ 13 ] أَيْ : مَكَّةَ ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ : إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [ ص: 80 ] [ 9 \ 40 ] الْآيَةَ .

    فَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِعَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ هُنَا خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ .

    وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَقِصَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الظَّعِينَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِإِخْبَارِهِمْ بِتَجَهُّزِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْمُرَادَ بِالْعَدُوِّ هُنَا ، وَلَكِنْ ، وَإِنْ كَانَتْ بِصُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُهْمَلُ ، فَقَوْلُهُ : عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ، وَقَوْلُهُ : وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ كَالْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، وَالْمُنَافِقِي نَ ، وَمَنْ تَجَدَّدَ مِنَ الطَّوَائِفِ الْحَدِيثَةِ .

    وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، فَفِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ [ 58 \ 14 ] .

    وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - .

    وَعَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " كَمَا تَقَدَّمَ ، وَعَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ 5 \ 51 ] .

    وَمِنَ الطَّوَائِفِ الْمُحْدَثَةِ كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ مِنْ شُيُوعِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَكَالْهِنْدُوك ِيَّةِ ، وَالْبُوذِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا الْعُمُومَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [ 5 \ 57 - 58 ] .

    فَكُلُّ مَنْ هَزِئَ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أَوِ اتَّخَذَهُ لَعِبًا وَلَهْوًا فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ تَنَاوُلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِيَّاهُ .

    تَنْبِيهٌ

    ذِكْرُ الْمُقَابَلَةِ هُنَا بَيْنَ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ فِيهِ إِبْرَازُ صُورَةِ الْحَالِ وَتَقْبِيحُ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تَتَنَافَى مَعَ الْمُوَالَاةِ وَالْمُسَارَّةِ لِلْعَدُوِّ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ نَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَضِيَّةَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي تَقْدِيمِ عَدُوِّي أَوَّلًا ، وَعَطْفِ عَدُوِّكُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : التَّقْدِيمُ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِدُونِ عِلَّةٍ ، وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ لِعِلَّةٍ ، وَمَا كَانَ بِدُونِ عِلَّةٍ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى [ ص: 81 ] مَا كَانَ بِعِلَّةٍ . ا هـ .

    وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ، وَبَلَاغِيٍّ ، وَهُوَ أَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هِيَ الْأَصْلُ ، وَهِيَ أَشَدُّ قُبْحًا ، فَلِذَا قُدِّمَتْ ، وَقُبْحُهَا فِي أَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ خَالِقِهِمْ ، وَشَكَرُوا غَيْرَ رَازِقِهِمْ ، وَكَذَّبُوا رُسُلَ رَبِّهِمْ وَآذَوْهُمْ .

    وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ ، وَالدَّيْلَمِيّ ُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَا نَصُّهُ : " إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبُدُ غَيْرِي ، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي " وَفِيهِ " خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ وَيَتَبَغَّضُون َ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي " كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُؤَكِّدُ بِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَمَا كَانَ سَبَبًا فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ .

    وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ الْأَصْلُ ، أَنَّ الْكَفَّارَ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَانْتَفَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ لَأَصْبَحُوا إِخْوَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَانْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَا كَوْنُهُ مُغَيًّا بِغَايَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ 4 \ 89 ] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ : وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ 60 \ 4 ] فَإِذَا هَاجَرَ الْمُشْرِكُونَ وَآمَنَ الْكَافِرُونَ ، انْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ وَجَاءَتِ الْمُوَالَاةُ .

    وَمِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ ، هُوَ الْكُفْرُ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ عَدَاوَةٌ لَا لِسَبَبِ الْكُفْرِ فَلَا يُنْهَى عَنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ ؛ لِتَخَلُّفِ الْعِلَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [ 64 \ 14 ] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 64 \ 14 ] .

    فَلَمَّا تَخَلَّفَ السَّبَبُ الْأَسَاسِيُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ ، جَاءَ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ لِسَبَبٍ آخَرَ هُوَ مَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [ 64 \ 15 ] ، فَكَانَ مُقْتَضَاهَا فَقَطِ الْحَذَرُ مِنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ ، وَكَانَ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ . وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

    وَقَدْ نَصَّ صَرَاحَةً عَلَى عَدَمِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي خُصُوصِ مَنْ لَمْ يُعَادُوهُمْ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [ ص: 82 ] الْآيَةَ [ 60 \ 8 ] .

    وَلِلْمُوَالَاة ِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ ، وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَضْوَاءِ :

    مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ 5 \ 51 ] ، وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِيهَا .

    وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عُرِضَ ضِمْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ 17 \ 9 ] ، وَبَيْنَ رَوَابِطِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ بِتَوَسُّعٍ .

    وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ [ 18 \ 50 ] الْآيَةَ .

    وَمِنْهَا فِي مَخْطُوطِ السَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ [ 47 \ 26 ] ، وَأَحَالَ فِيهَا عَلَى آيَةِ " الْمُمْتَحَنَةِ " هَذِهِ .

    وَمِنْهَا أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [ 47 \ 26 ] ، وَأَحَالَ عِنْدَهَا عَلَى مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ سُورَةِ " الشُّورَى " " وَبَنِي إِسْرَائِيلَ " .

    وَمِنْهَا فِي سُورَةِ " الْمُجَادِلَةِ " عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [ 58 \ 14 ] .

    وَفِيمَا كَتَبَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - بَيَانٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَجِدْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - تَعَرَّضَ لِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ خُصُوصِ التَّخْصِيصِ لِلْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ الْآيَةَ [ 60 \ 8 ] .

    وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِيهَا شَيْئًا مَعَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَسَيَأْتِي لَهَا بَيَانٌ لِذَلِكَ عِنْدَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

    تَنْبِيهٌ

    رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُمْ : إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ ؛ [ ص: 83 ] لِأَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ مَعَ قَوْلِهِ : وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ، فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِضَلَالِهِمْ عَنْ عُمُومِ إِيمَانِهِمْ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الضَّلَالَ هُنَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لَا مُطْلَقَ السَّبِيلِ .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #542
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (541)
    سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
    صـ 83 إلى صـ 90


    قوله تعالى : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .

    ( يثقفوكم ) أي : يدركوكم ، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ، والرمح المثقف المقوم .

    قال الراغب : ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة ، قال تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم [ 2 \ 191 ] ، وقال : فإما تثقفنهم في الحرب [ 8 \ 57 ] ا هـ .

    فهذه نصوص القرآن في أن الثقافة بمعنى الإدراك ، وقوله تعالى : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء الآية ، نص على أن العداوة وبسط اليد واللسان بالسوء يكون بعد أن يثقفوهم مع أن العداء سابق بإخراجهم إياهم من ديارهم ، فيكون هذا من باب التهييج وشدة التحذير ، وأن الذي يكون بعد الشرط هو بسط الأيدي بالسوء ؛ لأنهم الآن لا يقدرون عليهم بسبب الهجرة ، ومن أدلة القرآن على وجود العداوة بالفعل لدى عموم من دون المؤمنين في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر [ 3 \ 118 ] فقوله : من دونكم يشمل المشركين ، والمنافقين ، وأهل الكتاب ، وقوله : ودوا ما عنتم ، أي : في الحاضر ، وقوله : قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر لم يتوقف على الشرط المذكور في إن يثقفوكم ، فهم أعداء ، وقد بدت منهم البغضاء قولا وفعلا .

    وعلى هذا تكون الآية إعلان المقاطعة بين المؤمنين ، ومن دونهم وقوله : وودوا لو تكفرون ، قد بين تعالى سبب ذلك بأنه الحسد كما في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] .

    وقال تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا إلى قوله : [ ص: 84 ] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [ 4 \ 88 - 89 ] .
    قوله تعالى : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم .

    الأرحام تستعمل في القرآن لعموم القرابة ، كقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ 8 \ 75 ] ، وقوله تعالى : يفصل بينكم أي : بتقطع الأنساب بينهم ، كما بينه تعالى بقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .

    وقد بين تعالى نتيجة هذا الفصل بينهم يوم القيامة في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 34 - 37 ] ، وقوله في موضع آخر : وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه [ 70 \ 12 ] ، فعمت جميع الأقارب وبينت سبب الفصل بينهم ، وما يترتب عليه .

    وهذه الآية خطاب للمؤمنين في ذوي أرحامهم من المشركين ، كما في قصة سبب النزول في أمر حاطب بن أبي بلتعة في إرساله الخطاب لأهل مكة قبيل الفتح بأمر التجهز لهم .

    ومفهوم الوصف في أول السياق عدوي وعدوكم ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يدل بمفهوم المخالفة أن أولي الأرحام من المؤمنين قد لا يفصل بينهم يوم القيامة .

    ويدل لهذا المفهوم قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [ 52 \ 21 ] ، وقوله تعالى في دعاء الملائكة من حملة العرش للمؤمنين : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم [ 40 \ 8 ] .

    وهذه الآية بيان واضح في أن روابط الدين أقوى وألزم من روابط النسب .

    وهذا المعنى بالذات تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] والآية الآتية بيان واضح لحقيقة هذا المعنى وشموله في جميع الأمم .
    [ ص: 85 ] قوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك .

    الأسوة كالقدوة ، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة ، ولذا قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وهنا أيضا : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه [ 60 \ 4 ] .

    وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب ، وذلك بقوله : إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية .

    فالتأسي هنا في ثلاثة أمور :

    أولا : التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله .

    ثانيا : الكفر بهم .

    ثالثا : إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبدا إلى الغاية المذكورة حتى يؤمنوا بالله وحده ، وهذا غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم ، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبدا ، والسبب في ذلك هو الكفر ، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم .

    وهنا سؤال ، هو موضع الأسوة إبراهيم والذين معه بدليل العطف بينهما .

    وقوله تعالى : في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم فقائل القول لقومهم إبراهيم والذين مع إبراهيم ، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم .

    وقوله تعالى : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، فهذا القول من إبراهيم ليس موضع التأسي ، وموضع التأسي المطلوب في إبراهيم - عليه السلام - هو ما قاله مع قومه المتقدم جملة ، وما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 - 27 ] وهذا التبرؤ جعله باقيا في عقبه ، كما قال تعالى : وجعلها كلمة باقية في عقبه [ 43 \ 28 ] .

    وقوله تعالى : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك الآية ، لم يبين هنا سبب هذا [ ص: 86 ] الاستثناء وهل هو خاص بإبراهيم لأبيه ، أم لماذا ؟

    وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادئ دعوته حينما قال له أبوه : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا [ 19 \ 46 - 47 ] ، فكان قد وعده ووفى بعهده ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه ، لما تبين له أنه عدو لله .

    وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة في إبراهيم - عليه السلام - كما في قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، وفي هذه الآية وما قبلها أقوى دليل على أن دين الإسلام ليست فيه تبعية أحد لأحد ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .

    ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه مواقف مماثلة في أمم متعددة ، منها موقف نوح - عليه السلام - من ابنه لما قال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين [ 11 \ 45 ] ، فلما تبين له أمره أيضا من قوله تعالى : يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح [ 11 \ 46 ] قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم الآية [ 11 \ 47 ] ، فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه .

    ومنها : موقف نوح ولوط من أزواجهما في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا الآية [ 66 \ 10 ] .

    ومنها : موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين [ 66 \ 11 ] ، فتبرأت الزوجة من زوجها ، وهذا التأسي قد بين تمام البيان معنى قوله تعالى : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم [ 60 \ 3 ] أي : ولا آباؤكم ، ولا أحد من أقربائكم ، يوم القيامة يفصل بينكم ، وقول إبراهيم لأبيه : وما أملك لك من الله من شيء [ ص: 87 ] بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وكل نفس بما كسبت رهينة .

    وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا [ 6 \ 158 ] ، وقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [ 82 \ 19 ] .

    وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - محاضرة في كنو بنيجيريا في مجتمع فيه من يتعلق ببعض الأشخاص في اعتقاداتهم ، فعرض هذا الموضوع ، وبين عدم استطاعة أحد نفع أحد فكان لها وقع عظيم الأثر في النفوس ، ولعل الله ييسر طبعها مع طبع جميع محاضراته في تلك الرحلة الميمونة .
    مسألة

    جعل بعض المفسرين هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا شرع لنا بدليل التأسي بإبراهيم - عليه السلام - والذين معه ، وتحقيق هذه المسألة في كتب الأصول ، وهذه الآية وإن كانت دالة في الجملة على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إلا أنها ليست نصا في محل النزاع .

    وقد قسم الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - حكم المسألة إلى ثلاثة أقسام :

    قسم هو شرع لنا قطعا ، وهو ما جاء في شرعنا أنه شرع لنا كآية الرجم ، وكهذه الآية في العداوة والموالاة ، وإما ليس بشرع لنا قطعا كتحريم العمل يوم السبت ، وتحريم بعض الشحوم ، إلخ .

    وقسم ثالث : وهو محل النزاع ، وهو ما ذكر لنا في القرآن ، ولم نؤمر به ولم ننه عنه .

    فالجمهور على أنه شرع لنا لذكره لنا ، لأنه لو لم يكن شرعا لنا لما كان لذكره لنا فائدة ، واستدلوا بقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] ، وبهذه الآية أيضا ، والشافعي يعارض في هذا القسم ويقول : الآية في العقائد لا في الفروع ، ويستدل بقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ 5 \ 48 ] ، وعلى هذا التقسيم [ ص: 88 ] المذكور ، فالآية ليست نصا في محل النزاع ؛ لأننا أمرنا بالتأسي به في معين جاء في شرعنا الأمر به في أول السورة .

    تنبيه

    يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم أن الخلاف بين الشافعي ، والجمهور يكاد يكون شكليا ، وكل محجوج بما حج به الآخر ، وذلك كالآتي :

    أولا : قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، يدل على وجود شرعة وعلى وجود منهاج ، فإذا جئنا لاستدلال الجمهور : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، لم نجد فيه ذكر المنهاج ، ونجد واقع التشريع ، أن منهاج ما شرع لنا يغاير منهاج ما شرع لمن قبلنا كما في مشروعية الصيام قال تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ 2 \ 183 ] ، وهذا يتفق في أصل الشرعة ، ولكن جاء ما يبين الاختلاف في المنهاج في قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] ومعنى ذلك أنه كان محرما ، وهو ضمن منهاج من قبلنا وشرعتهم فاتفقنا معهم في الشرعة ، واختلف منهجنا عن منهجهم بإحلال ما كان منه حراما ، وهذا ملزم للجمهور ، وهكذا بقية أركان الإسلام في الصلاة فهي مشروعة للجميع ، كما في قوله تعالى : أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود [ 2 \ 125 ] ، وقوله : ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم [ 14 \ 37 ] وقوله عن عيسى : ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] ، وغير ذلك .

    وفي الحج : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، وقوله : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا الآية [ 22 \ 27 ] ، فجميع الأركان ، وهي فروع لا عقائد مشروعة في جميع الأديان على جميع الأمم ، فاشتركنا معهم في المشروعية ، ولكن هل كانت كلها كمنهجها عندنا في أوقاتها وأعدادها وكيفياتها ، لقد وجدنا المغايرة في الصوم واضحة ، وهكذا في غيرها ، فالشرعة عامة للجميع والمنهاج خاص كما يقول الشافعي ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد .

    [ ص: 89 ] إعادة هذه الآية تأكيد على معنى الآية الأولى .

    وقوله : لمن كان يرجو الله واليوم الآخر يفسره ما تقدم من قوله : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي [ 60 \ 1 ] ؛ لأنها تساويها في الماصدق ، وهنا جاء بهذا اللفظ ليدل على العموم ، وتكون قضية عامة فيما بعد لكل من يرجو الله واليوم الآخر ، أن يتأسى بإبراهيم - عليه السلام - والذين معه في موقفهم المتقدم .

    وقوله تعالى : ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ، التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموما .

    وهنا يحتمل تولي الكفار وموالاتهم ، فإن الله غني عنه حميد .

    قال ابن عباس : كمل في غناه ، ومثله قوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله [ 64 \ 6 ] .

    وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموما وخصوصا فجاء في خصوص الحج : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .

    وجاء في العموم قوله تعالى : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ؛ لأن أعمال العباد لأنفسهم ، كما قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ 29 \ 6 ] .

    وكما في الحديث القدسي : " لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا " .

    وقد بين تعالى غناه المطلق بقوله : لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد [ 31 \ 26 ] .
    قوله تعالى : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم .

    لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم ، وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا ؟ ولكن عسى من الله للتأكيد ، والتذييل بقوله تعالى : [ ص: 90 ] والله قدير يشعر بأنه فاعل ذلك لهم ، وقد جاء ما يدل على أنه فعله فعلا في سورة " النصر " حين دخل الناس في دين الله أفواجا ، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا طلقاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك موقف أبي سفيان وغيره ، وعام الوفود إلى المدينة بعد الفتح ، وفي التذييل بأن الله قدير ، يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده ، كما بينه قوله تعالى : لو أنفقت ما في الأرض جميعا الآية [ 8 \ 63 ] .

    ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار ، والهداية منحة من الله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .

    اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة من الآية في أول السورة ، ولكن في هاتين الآيتين صنفان من الأعداء وقسمان من المعاملة :

    الصنف الأول : عدو لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم ، فهؤلاء تعالى في حقهم : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم .

    والصنف الثاني : قاتلوا المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم ، وهؤلاء يقول تعالى فيهم : إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم .

    إذا فهما قسمان مختلفان وحكمان متغايران ، وإن كان القسمان لم يخرجا عن عموم عدوي وعدوكم المتقدم في أول السورة ، وقد اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة بعد النهي المتقدم ، ثم إنها نسخت بآية السيف أو غيرها على ما سيأتي .

    واعتبر الآية الثانية تأكيدا للنهي الأول ، وناقش بعض المفسرين دعوى النسخ في الأولى ، واختلفوا فيمن نزلت ومن المقصود منها ، والواقع أن الآيتين تقسيم لعموم العدو المتقدم في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ 60 \ 1 ] ، مع بيان كل قسم وحكمه ، كما تدل له قرائن في الآية الأولى ، وقرائن في هاتين الآيتين على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #543
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (542)
    سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
    صـ 91 إلى صـ 98



    أما التقسيم فقسمان : قسم مسالم لم يقاتل المسلمين ، ولم يخرجهم من ديارهم ، [ ص: 91 ] فلم ينه الله المسلمين عن برهم والإقساط إليهم ، وقسم غير مسالم يقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على إخراجهم ، فنهى الله المسلمين عن موالاتهم ، وفرق بين الإذن بالبر والقسط ، و بين النهي عن الموالاة والمودة ، ويشهد لهذا التقسيم ما في الآية الأولى من قرائن ، وهي عموم الوصف بالكفر ، وخصوص الوصف بإخراج الرسول وإياكم .

    ومعلوم أن إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من ديارهم كان نتيجة لقتالهم وإيذائهم ، فهذا القسم هو المعني بالنهي عن موالاته لموقفه المعادي ؛ لأن المعاداة تنافي الموالاة .

    ولذا عقب عليه بقوله تعالى : ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ، فأي ظلم بعد موالاة الفرد لأعداء أمته وأعداء الله ورسوله .

    أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم لا بقتال ، ولا بإخراج ، ولا بمعاونة غيرهم عليهم ولا ظاهروا على إخراجهم ، فهؤلاء من جانب ليسوا محلا للموالاة لكفرهم ، وليس منهم ما يمنع برهم والإقساط إليهم .

    وعلى هذا فإن الآية الثانية ليس فيها جديد بحث بعد البحث المتقدم في أول السورة ، وبقي البحث في الآية الأولى ، ومن جانبين : الأول : بيان من المعني بها ، والثاني : بيان حكمها ، وهل هي محكمة أم نسخت .

    وقد اختلفت أقوال المفسرين في الأمرين ، ولأهمية هذا المبحث وحاجة الأمة إليه في كل وقت ، وأشد ما تكون في هذا العصر لقوة تشابك مصالح العالم وعمق تداخلها ، وترابط بعضه ببعض في جميع المجالات ، وعدم انفكاك دولة عن أخرى مما يزيد من وجوب الاهتمام بهذا الموضوع .

    وإني مستعين الله في إيراد ما قيل فيها ، ثم مقدم ما يمكن أخذه من مجموع أقوال المفسرين ، وكلام الشيخ - رحمة الله عليه .

    القول الأول إنها منسوخة ، قال القرطبي عن أبي زيد : أنها كانت في أول الإسلام زمن الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخت ، قيل بآية : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ 9 \ 5 ] قاله قتادة .

    [ ص: 92 ] وقيل : كانت في أهل الصلح فلما زال زال حكمها وانتهى العمل بها بعد فتح مكة .

    وقيل : هي من أصحاب العهد حتى ينتهي عهدهم أو ينبذ إليهم أي أنها كانت مؤقتة بوقت ومرتبطة بقوم .

    وقيل : إنها كانت في العاجزين عن القتال من النساء والصبيان من المشركين .

    وقيل : إنها في ضعفة المؤمنين عن الهجرة حينما كانت الهجرة واجبة ، فلم يستطيعوا ، وعلى كل هذه الأقوال تكون قد نسخت ، بفوات وقتها وذهاب من عني بها .

    والقول الثاني : إنها محكمة قاله أيضا القرطبي ونقله عن أكثر أهل التأويل ، ونقل من أدلتهم أنها نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - جاءت إليها وهي لم تسلم بعد وكان بعد الهجرة ، وجاءت لابنتها بهدايا فأبت أن تقبلها منها وأن تستقبلها حتى تستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن لها وأمرها بصلتها وعزاه للبخاري ومسلم .

    وقال غيره : ذكره البخاري في تاريخه ، وذكر عن الماوردي أن قدومها كان في وقت الهدنة ، ومعلوم أن وقت الهدنة من القسم الأول الذي قيل : إنه منسوخ أي بانتهائها ، وعليه فالآية دائرة عند المفسرين بين الإحكام والنسخ .

    وإذا رجعنا إلى سبب نزول السورة وتقيدنا بصورة السبب ، نجد أولها نزل بعد انتهاء العهد بنقض المشركين إياه ، وعند تهيئ المسلمين لفتح مكة ، ومجيء أم أسماء وإن كان بعد الهدنة فهل كان النساء داخلات في العهد أم لا ؟ لعدم التصريح بذكرهن .

    وعليه فلا دلالة في قصة أم أسماء على عدم النسخ ولا على إثباته .

    وإذا رجعنا إلى عموم اللفظ نجد الآية صريحة شاملة لكل من لم يناصب المسلمين العداء ، ولم يظهر سوءا إليهم ، وهي في الكفار أقرب منها في المسلمين ؛ لأن الإحسان إلى ضعفة المسلمين معلوم بالضرورة الشرعية ، وعليه فإن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل قوي يقاوم صراحة هذا النص الشامل ، وتوفر شروط النسخ المعلومة في أصول التفسير .

    ويؤيد عدم النسخ ما نقله القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة ، وكذلك كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقاة [ 3 \ 28 ] بأن ذلك رخصة في حالة الخوف والضعف مع اشتراط سلامة الداخل في القلب ، فإن مفهومه [ ص: 93 ] أنها محكمة وباق العمل بها عند اللزوم ، ومفهومه أن المؤمنين إذا كانوا في حالة قوة وعدم خوف وفي مأمن منهم ، وليس منهم قتال ، وهم في غاية من المسالمة فلا مانع من برهم بالعدل والإقساط معهم ، وهذا مما يرفع من شأن الإسلام والمسلمين ، بل وفيه دعوة إلى الإسلام بحسن المعاملة ، وتأليف القلوب بالإحسان إلى من أحسن إليهم ، وعدم معاداة من لم يعادهم ، ومما يدل لذلك من القرائن التي نوهنا عنها سابقا ما جاء في التذييل لهذه الآية بقوله تعالى : إن الله يحب المقسطين فهذا ترشيح لما قدمنا كما قابل هذا بالتذييل على الآية الأخرى : ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ، ففيه مقابلة بين العدل والظلم فالعدل في الإحسان ، والقسط لمن يسالمك ، والظلم ممن يوالي من يعادي قومه .

    ومما ينفي النسخ عدم التعارض بين هذا المعنى ، وبين آية السيف ، لأن شرط النسخ التعارض ، وعدم إمكان الجمع ، ومعرفة التاريخ ، والجمع هنا ممكن والتعارض منفي ، وذلك لأن الأمر بالقتال لا يمنع الإحسان قبله ، كما أن المسلمين ما كانوا ليفاجئوا قوما بقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام ، وهذا من الإحسان قطعا ، ولأنهم قبلوا من أهل الكتاب الجزية ، وعاملوا أهل الذمة بكل إحسان وعدالة .

    وقصة الظعينة في صحيح البخاري صاحبة المزادتين لم يقاتلوها أو يأسروها أو يستبيحوا ماءها بل استاقوها بمائها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ من مزادتيها قليلا ، ودعا فيه ورده ، ثم استقوا وقال لها : اعلمي أن الله هو الذي سقانا ولم تنقص من مزادتيك شيئا ، وأكرموها وأحسنوا إليها ، وجمعوا لها طعاما ، وأرسلوها في سبيلها فكانت تذكر ذلك ، وتدعو قومها للإسلام .

    وقصة ثمامة لما جيء به أسيرا وربط في سارية المسجد ، وبعد أن أصبح عاجزا عن القتال لم يمنعهم من الإحسان إليه ، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق حتى فك أسره فأسلم طواعية ، وهكذا نص قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله الآية [ 76 \ 8 - 9 ] .

    ومعلوم أنه لم يكن ثم أسير بيد المسلمين إلا من الكفار .

    وفي سنة تسع وهي سنة الوفود ، فكان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين ، فيتلقون الجميع بالبر والإحسان كوفد نجران وغيرهم وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر [ ص: 94 ] ويفاوض في أسارى له ، فيأذن لهم - صلى الله عليه وسلم - ويستمع مفاخرتهم ويأمر من يرد عليهم من المسلمين ، وفي النهاية يسلمون ويجيزهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجوائز ، وهذا أقوى دليل على عدم النسخ ، لأن وفدا يأتي متحديا مفاخرا لكنه لم يقاتل ولم يظاهر على إخراجهم من ديارهم ، وجاء في أمر جار في عرف العرب فجاراهم فيه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أعلن لهم أنه ما بالمفاخرة بعث ، ولكن ترفقا بهم ، وإحسانا إليهم ، وتأليفا لقلوبهم ، وقد كان فأسلموا ، وهذا ما تعطيه جميع الأقوال التي قدمناها .

    وقد بحث إمام المفسرين الطبري هذه المسألة من نواحي النقل وأخيرا ختم بحثه بقوله ما نصه : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بذلك قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله : الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ، جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ؛ لأن بر المؤمنين من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرم ، ولا منهي عنه ، إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح .

    وقد بينا صحة ما قلنا في ذلك الخبر الذي ذكرناه عن الزبير في قصة أسماء وأمها .

    وقوله : إن الله يحب المقسطين ، يقول إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم ، فيبرون من برهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم ، انتهى منه .

    وفي تفسير آيات الأحكام للشافعي - رحمه الله - مبحث هام نسوقه أيضا بنصه لأهميته :

    قال الله عز وجل : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، قال : يقال والله أعلم : إن بعض المسلمين تأثر من صلة المشركين أحسب ذلك لما نزل فرض جهادهم وقطع الولاية بينهم وبينهم ونزل : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [ 58 \ 22 ] ، فلما خافوا أن تكون المودة الصلة بالمال أنزل : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ ص: 95 ] وقال الشافعي رحمه الله : وكانت الصلة بالمال ، والبر ، والإقساط ، ولين الكلام ، والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين ، وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين والإقساط إليهم ولم يحرم ذلك إلى من لم يظاهر عليهم بل ذكر الذين ظاهروا عليهم فناهم عن ولايتهم إذ كان الولاية غير البر والإقساط ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - فادى بعض أسارى بدر ، وقد كان أبو عزة الجمحي ممن من عليه ، وقد كان معروفا بعداوته والتأليب عليه بنفسه ولسانه ، ومن بعد بدر على ثمامة بن أثال ، وكان معروفا بعداوته ، وأمر بقتله ثم من عليه بعد أسره وأسلم ثمامة وحبس الميرة عن أهل مكة فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له أن يميرهم فأذن له فمارهم .

    وقال الله عز وجل : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] ، والأسرى يكونون ممن حاد الله ورسوله . ا هـ منه .

    وهذا الذي صوبه ابن جرير وصححه الشافعي - رحمه الله - الذي تقتضيه روح التشريع الإسلامي ، أما وجهة النظر التي وعدنا بتقديمها فهي أن المسلمين اليوم مشتركة مصالحهم بعضهم ببعض ومرتبطة بمجموع دول العالم من مشركين وأهل كتاب ، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية ؛ لتداخل المصالح وتشابكها ، ولاسيما في المجال الاقتصادي عصب الحياة اليوم من إنتاج أو تصنيع أو تسويق ، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير ، وبينه الشافعي ، وذكره الشيخ - رحمة الله عليه - في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية في عدة مناسبات من محاضراته ومن الأضواء نفسه ، وبشرط ما قاله الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - من سلامة الداخل أي : عدم الميل بالقلب ، ولو قيل بشرط آخر وهو مع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم ، أي أن العالم الإسلامي يتعاون أولا مع بعضه ، فإذا أعوزه أو بعض دوله حاجة عند غير المسلمين ممن لم يقاتلوهم ولم يظاهروا عدوا على قتالهم فلا مانع من التعاون مع تلك الدولة في ذلك ، ومما يؤيد كل ما تقدم عمليا معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده لليهود في خيبر .

    فمما لا شك فيه أنهم داخلون أولا في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ ص: 96 ] [ 60 \ 1 ] ، ومنصوص على عدم موالاتهم في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 5 \ 51 ] .

    ومع ذلك لما أخرجهم - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وحاصرهم بعدها في خيبر ، وفتحها الله عليه وأصبحوا في قبضة يده فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين ، ولا مظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم عاملهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقسط فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين ، فلم يتخذهم عبيدا يسخرهم فيها ، وبقيت معاملتهم بالقسط كما جاء في قصة ابن رواحة - رضي الله عنه - لما ذهب يخرص عليهم وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة ؛ ليخفف عنهم ، فقال لهم كلمته المشهورة : والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إلي ، ولن يحملني بغضي لكم ، ولا حبي له أن أحيف عليكم ، فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت ، وإما أن تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت ، فقالوا له : بهذا قامت السماوات والأرض أي : بالعدالة والقسط ، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه - صلى الله عليه وسلم - وخلافة الصديق ، وصدرا من خلافة عمر حتى أجلاهم عنها .

    ومثل ذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح وأعطاهم الصديق حتى منعهم عمر رضي الله عنه .

    وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة لأهميتها ومسيس الحاجة إليها اليوم .

    وفي الختام إن أشد ما يظهر وضوحا في هذا المقام ولم يدع أحد فيه نسخا قوله تعالى : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ 31 \ 15 ] .

    فهذه حسن معاملة ، وبر ، وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين ، فكان حق الأبوة مقدما ، ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك .

    وكذلك أيضا في نهاية هذه السورة نفسها قوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] .

    [ ص: 97 ] ثم قال تعالى : وآتوهم ما أنفقوا [ 60 \ 10 ] أي : آتوا المشركين أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم بعد هجرتهن ، فبعد أن أسلمت الزوجة وهاجرت وانحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر ، وبعدت عنه بالهجرة وفاتت عليه ، ولم يقدر عليها يأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن وهم مشركون ، ما أنفقوا من صداق عند الزواج ونحوه مع بقاء الأزواج على الكفر وعجزهم عن استرجاع الزوجات ، وعدم جواز موالاتهم قطعا لكفرهم ، وهذا من المعاملة بالقسط والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم .

    في قوله تعالى : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ، نص على امتحان المؤمنات المهاجرات ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن ما خرجت كرها لزوج ، أو فرارا لسبب ونحو ذلك ، ذكره ابن كثير وغيره .

    وقيل : كان امتحانهن بالبيعة الآتية : لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن [ 60 \ 12 ] الآية ، ومفهومه أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون .

    وفعلا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتحن من هاجر إليه والسبب في امتحانهن دون الرجال ، هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات ، كأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال ، فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] ، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجرا يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان فلا يحتاج إلى امتحان ، ولا يرد عليه مهاجر أم قيس ؛ لأنه أمر جانبي ، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنه في أول هذه السورة : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي [ 60 \ 1 ] الآية ، بخلاف النساء فليس عليهن جهاد ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعية ، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره ، فإنهن يخرجن باسم الهجرة فكان ذلك موجبا [ ص: 98 ] للتوثق من هجرتهن بامتحانهن ليعلم إيمانهن ، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى : الله أعلم بإيمانهن ، وفي حق الرجال : أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] ، وكذلك من جانب آخر ، وهو أن هجرة المؤمنات يتعلق عليها حق مع طرف آخر ، وهو الزوج فيفسخ نكاحها منه ، ويعوض هو عما أنفق عليها ، وإسقاط حقه في النكاح وإيجاب حقه في العوض قضايا حقوقية ، تتطلب إثباتا بخلاف هجرة الرجال ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، معلوم أن المؤمنات المهاجرات بعد الامتحان والعلم بأنهن مؤمنات لا ينبغي إرجاعهن إلى الكفار ؛ لأنهم يؤذونهن إن رجعن إليهم ، فلأي شيء يأتي النص عليه ؟

    قال كثير من المفسرين : إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية ، والتي كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه على المشركين ، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين لا يردونه على المسلمين فأخرجت النساء من المعاهدة وأبقت الرجال من باب تخصيص العموم ، وتخصيص السنة بالقرآن ، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم ، وقد بينه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مذكرة الأصول ، وذكر القاعدة من مراقي السعود بقوله :


    وخصص الكتاب والحديث به أو بالحديث مطلقا فلتنتبه


    ومما ذكره لأمثلة تخصيص السنة بالكتاب قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أبين من حي فهو ميت " ، أي : محرم ، جاء تخصيص هذا العموم بقوله تعالى : ومن أصوافها وأوبارها [ 16 \ 80 ] أي : ليس محرما .

    ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ 5 \ 3 ] جاء تخصيص هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ، ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت " الحديث قال القرطبي : جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها وكان كافرا ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال بعض المفسرين : إنها ليست مخصصة للمعاهدة ؛ لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء ، وإنما كانت في حق الرجال فقط .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #544
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (543)
    سُورَةُ الصَّفِّ
    صـ 99 إلى صـ 106





    [ ص: 99 ] وذكر القرطبي ، وابن كثير أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت فارة من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخويها وحبسها ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ردها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كان الشرط في الرجال لا في النساء " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والذي يظهر والله تعالى أعلم أنها مخصصة لمعاهدة الهدنة ، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن ، كما قاله ابن كثير .

    وقد روي أنها مخصصة عن عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل بن حيان والسدي .

    ويدل على أنها مخصصة أمران مذكوران في الآية :

    الأول منهما : أنها أحدثت حكما جديدا في حقهن وهو عدم الحلية بينهن وبين أزواجهن ، فلا محل لإرجاعهن ، ولا يمكن تنفيذ معاهدة الهدنة مع هذا الحكم فخرجن منها وبقي الرجال .

    والثاني منهما : أنها جعلت للأزواج حق المعاوضة على ما أنفقوا عليهن ، ولو لم يكن داخلات أولا لما كان طلب المعاوضة ملزما ، ولكنه صار ملزما ، وموجب إلزامه أنهم كانوا يملكون منعهن من الخروج بمقتضى المعاهدة المذكورة ، فإذا خرجن بغير إذن الأزواج كن كمن نقض العهد فلزمهن العوض المذكور ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، فيها تحريم المؤمنات على الكافرين ، والظاهر أن التحريم بالهجرة لا بالإسلام قبلها ، واتفق الجمهور على أنه إذا أسلم وهاجر أحد الزوجين بقيت العصمة إلى نهاية العدة ، فإن هاجر الطرف الآخر فيها ، فهما على نكاحهما الأول .

    وهنا مبحث زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زوجها أبي العاص بن الربيع .

    وقد كثر الخلاف في أمر ردها إليه هل كان بالعقد الأول ، أو جدد لها - صلى الله عليه وسلم - عقدا جديدا ، ومن أسباب كثرة الخلاف الربط بين تاريخ إسلامها وتاريخ إسلامه ، وبينهما ست سنوات وهذا خطأ ؛ لأن قبل نزول الآية لم يقع تحريم بين مسلمة وكافر ، ونزولها بعد الحديبية وإسلامها كان سنة ثمان ، فيحمل على عدم انقضاء عدتها ، وهذا يوافق على ما عليه الجمهور ، ونقل ابن كثير قولا ، وهو أن المسلمة كانت بالخيار إن شاءت فسخت نكاحها [ ص: 100 ] وتزوجت بعد انقضاء عدتها ، وإن شاءت انتظرت . ا هـ .

    وهذا القول له وجه ؛ لأنه بإسلامها لم يكن كفأ لها وإذا انتفت الكفاءة أعطيت الزوجة الخيار ، كقصة بريرة لما عتقت وكان زوجها مملوكا ، ولا يرده قوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن لأن ذلك في حالة كفر الزوج لقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى : وآتوهم ما أنفقوا ، يدل على أن الفرقة إذا جاءت بسبب من جهة الزوجة أن عليها رد ما أنفق الزوج عليها ، وكونه الصداق أو أكثر قد بحثه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مبحث الخلع في سورة " البقرة " .

    وقوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، أمر المؤمنين بفك عصمة زوجاتهم الكوافر ، فطلق عمر بن الخطاب يومئذ زوجتين ، وطلق طلحة بن عبيد الله زوجته أروى بنت ربيعة ، وعصم الكوافر عام في كل كافرة ، فيشمل الكتابيات لكفرهن باعتقاد الولد لله ، كما حققه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - ولكن هذا العموم قد خصص بإباحة الكتابيات في قوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ 5 \ 5 ] أي : الحرائر ، وبقيت الحرمة بين المسلم والمشركة بالعقد على التأبيد .

    ومفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين ، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين ، وعليه تكون حرمة المسلمة على الكافر مطلقا مشركا كان أو كتابيا على التأبيد لقوله تعالى : لا هن حل لهم ، أي : في الحاضر ، ولا هم يحلون لهن ، أي : في المستقبل ، وقد فصل الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - مسألة المحرمات من النكاح فيما تقدم عند قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات الآية [ 4 \ 25 ] .

    تنبيه

    هنا سؤال ، وهو : إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم ، وتحريم المسلمة على الكافر فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم ، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب ؟ والجواب من جانبين :

    الأول : أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والقوامة في الزواج للزوج قطعا لجانب الرجولة ، وإن تعادلا في الحلية بالعقد ؛ لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين ، [ ص: 101 ] فإذا امتلك رجل امرأة حل له أن يستمتع منها بملك اليمين ، والمرأة إذا امتلكت عبدا لا يحل لها أن تستمتع منه بملك اليمين ، ولقوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر لا يسلم لها دينها ، ولا لأولادها .

    والجانب الثاني : شمول الإسلام وقصور غيره ، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة ، وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية ، فهو يؤمن بكتابها وبرسولها ، فسيكون معها على مبدأ من يحترم دينها لإيمانه به في الجملة ، فسيكون هناك مجال للتفاهم ، وقد يحصل التوصل إلى إسلامها بموجب كتابها ، أما الكتابي إذا تزوج مسلمة ، فهو لا يؤمن بدينها ، فلا تجد منه احتراما لمبدئها ودينها ، ولا مجال للمفاهمة معه في أمر لا يؤمن به كلية ، وبالتالي فلا مجال للتفاهم ولا للوئام ، وإذا فلا جدوى من هذا الزواج بالكلية ، فمنع منه ابتداء .

    وقوله تعالى : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ، يعني صداقهن .

    ويدل بمفهومه أن النكاح بدون الأجور فيه جناح ، وقد جاء النص بهذا المفهوم في قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] ، فهبة المرأة نفسها بدون صداق خاص به صلى الله عليه وسلم ، فقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين ، لا يحله لغيره - صلى الله عليه وسلم - وقوله : إذا آتيتموهن أجورهن ، ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور .

    وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق كما في قوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن الآية [ 2 \ 236 ] .

    وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة ، أنه إن دخل بها فله صداق المثل ، ويدل لإطلاق الأجور على الصداق قوله تعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولا للحرائر : فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، إلى قوله فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن [ 4 \ 25 ] وفي نكاح أهل الكتاب : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين الآية [ 5 \ 5 ] ، وقوله تعالى [ ص: 102 ] للرسول صلى الله عليه وسلم : إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن [ 33 \ 50 ] ، وبهذا كله يرد على من استدل بلفظ الأجور على نكاح المتعة في قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن [ 4 \ 24 ] وتقدم مبحث المتعة موجزا للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن .
    قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف .

    القيد بالمعروف هنا للبيان ولا مفهوم له ؛ لأن كل ما يأمر به - صلى الله عليه وسلم - معروف ، وفيه حياتهن ، وقد بينه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] ، في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، ولكن فيه تنبيه على أن من كان في موضع الأمر من بعده لا طاعة له إلا في المعروف والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ 60 \ 13 ] .

    يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها ، وهذا ما يسمى عودا على بدء .

    قال أبو حيان : لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك تأكيدا لترك موالاتهم ، وتنفيرا للمسلمين عن توليهم وإلقاء المودة إليهم .

    وقال ابن كثير : ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة ، كما نهى عنها في أولها ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم ، أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم ، ولكنها تتضمن معنى جديدا ، وذلك للآتي :

    أولا : أنها نص في قوم غضب الله عليهم ، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض على العموم ؛ لأن كل كافر مغضوب عليه ، وحملها البعض على خصوص اليهود ؛ لأنه وصف صار عرفا لهم ، هو قول الحسن وابن زيد ، قاله أبو حيان ، ومما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مقدمة الأضواء ، أنه إذا اختلف في تفسير آية ، وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين كان مرجحا على الآخر ، وهو محقق هنا ، كما قال الحسن ، أصبح عرفا عليهم ، وقد خصهم تعالى في قوله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [ ص: 103 ] [ 5 \ 60 ] ، وقوله فيهم : فباءوا بغضب على غضب [ 2 \ 90 ] ، وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] ، ولو قيل : إنها في اليهود والمنافقين ، لما كان بعيدا ؛ لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في هذا الخصوص في سورة المجادلة في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون 30 [ 58 \ 14 ] ، وعلى هذا فتكون خاصة في اليهود والمنافقين ، والغرض من تخصيصها بهما وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في عدوي وعدوكم ، كما أسلفنا هو والله تعالى أعلم ، لما نهى أولا عن موالاة الأعداء ، وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام ، جاء بعدها ما يشيع الأمل بقوله : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة [ 60 \ 7 ] ، وعاديتم عامة باقية على عمومها ، ولكن اليهود ، والمنافقين لم يدخلوا في مدلول عسى تلك ، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم لئلا يطمع المؤمنون أو ينتظروا شيئا من ذلك ، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم ، كيأس اليهود والمنافقين في الآخرة ، أي : بعدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في عسى ، وفعلا كان كما أخبر الله ، فقد جعل المودة من بعض المشركين ولم يجعلها من بعض المنافقين ولا اليهود ، فهي إذا مؤسسة لمعنى جديد ، وليست مؤكدة لما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 104 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الصَّفِّ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 3 ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) .

    فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْكَارٌ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَيَانُ شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ وَمَقْتِهِ عَلَى مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَوْلَ الْمُغَايِرَ لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَالْمُعَاتَبِي نَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَوْجِ بَ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ إِلَّا أَنَّ مَجِيءَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَهُمَا يُشْعِرُ بِمَوْضُوعِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

    وَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ مَعَ تَعَدُّدِهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ حَوْلَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَمَعْرِفَةِ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .

    وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ وَتَمَنِّيهِمْ إِيَّاهُ .

    مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ 47 \ 20 ] .

    وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [ 4 \ 77 ] .

    وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [ ص: 105 ] [ 33 \ 15 ] .

    فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى : تَمَنَّوْا نُزُولَ سُورَةٍ يُؤْذَنُ فِيهَا بِالْقِتَالِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ صَارَ مَرْضَى الْقُلُوبِ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .

    وَفِي الثَّانِيَةِ : قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ ، فَتَمَنَّوُا الْإِذْنَ لَهُمْ فِيهِ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ رَجَعُوا وَتَمَنَّوْا لَوْ أُخْرِجُوا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ .

    وَفِي الثَّالِثَةِ : أَعْطَوُا الْعُهُودَ عَلَى الثَّبَاتِ وَعَدَمِ التَّوَلِّي ، وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ، فَلَمَّا كَانَ فِي أُحُدٍ وَقَعَ مَا وَقَعَ وَكَذَلِكَ فِي حُنَيْنٍ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ الْآيَةَ [ 33 \ 13 - 15 ] .

    فَفِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِعِتَابِهِمْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ ، وَهُوَ مَعْنَى : لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، وَيُقَابِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَدَحَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهُمْ حِينَ أَوْفَوْا بِالْعَهْدِ ، وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ 33 \ 23 ] .

    ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهَا : لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا الْآيَةَ [ 33 \ 24 - 25 ] ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ .

    فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُغَايِرَ لِلْقَوْلِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَوْجَبُوا الْعِتَابَ عَلَيْهِ ، كَمَا تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ وَفَّوْا بِالْعَهْدِ اسْتَوْجَبُوا الثَّنَاءَ عَلَى الْوَفَاءِ ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهَا عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ ، سَوَاءٌ فِي عَهْدٍ أَوْ وَعْدٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ .

    فَفِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [ 2 \ 44 ] .

    وَكَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ : وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [ 11 \ 88 ] .

    [ ص: 106 ] وَفِي الْعَهْدِ قَوْلُهُ : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [ 17 \ 34 ] .

    وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، مِنْهَا فِي سُورَةِ هُودٍ عِنْدَ قَوْلِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ .

    وَمِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [ 19 \ 54 ] ، فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " .

    وَبَحَثَ فِيهَا الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَالْخُلْفِ فِي الْوَعِيدِ ، وَعَقَدَ لَهَا مَسْأَلَةً ، وَسَاقَ آيَتِيِ " الصَّفِّ " هُنَاكَ .
    قوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 61 \ 4 ] .

    اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص ، فنقل بعضهم عن الفراء : أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته ، والجمهور : أنه المتلاصق المتراص المتساوي .

    والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه ، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص ، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه ؛ لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة ، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها .

    والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن وجه الشبه المراد هنا هو عموم القوة والوحدة .

    قال الزمخشري : يجوز أن يريد استواء بنائهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . ا هـ .

    ويدل لهذا الآتي :

    أولا قوله تعالى : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم [ 3 \ 121 ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #545
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (544)
    سُورَةُ الصَّفِّ
    صـ 107 إلى صـ 114



    فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش ، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة ، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في وضع الرماة في غزوة أحد حماية لظهورهم من التفاف العدو بهم [ ص: 107 ] لطبيعة المكان ، وكما فعل في غزوة بدر ورصهم ، وسواهم بقضيب في يده أيضا لطبيعة المكان .

    وهكذا ، فلابد في كل وقعة من مراعاة موقعها ، بل وظروف السلاح والمقاتلة .

    وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسرة وأجنحة ، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسئولية ، والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه ، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها - صلى الله عليه وسلم - وغير الموقع من مكان المعركة .

    وثانيا قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 - 46 ] .

    فذكر تعالى من عوامل النصر : الثبات عند اللقاء ، وذكر الله والطاعة ، والامتثال ، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة ، فتكون حملة رجل واحد ، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته ، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ 59 \ 14 ] ، وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص .

    وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم : " المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا " .

    فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيان المرصوص هنا ، وقد أثر عن أبي موسى - رضي الله عنه - قوله لأصحابه : الزموا الطاعة ؛ فإنها حصن المحارب .

    وعن أكثم بن صيفي : أقلوا الخلاف على أمرائكم ، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم ، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك ، ولا سيما ، وقد مر العالم الإسلامي بعدة تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر ، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم ، فضلا عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده ، وبالله تعالى التوفيق .
    [ ص: 108 ] قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين .

    قول موسى عليه السلام : لم تؤذونني ؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجمال في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] .

    وأحال عليه ابن كثير في تفسيره ، وساق حديث البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن موسى - عليه السلام - كان حييا ستيرا لا يرى من جلده شيئا استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ، إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وأن الله - عز وجل - أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ؛ ليأخذها ، وأن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله - عز وجل - وبرأه مما يقولون " . . . . إلى آخر القصة .

    ونقله غيره من المفسرين عندها ، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصيا بادعاء العيب فيه خلقة ، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى : فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] ، فإنه لا يصح في آية " الصف " هذه لأن قوله لهم : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم [ 61 \ 5 ] مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي ، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .

    أي : فلما زاغوا بما آذوا به موسى ، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال ، وقد آذوه كثيرا في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [ 2 \ 55 ] .

    وكذلك قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين [ 2 \ 93 ] .

    فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور ، ويقال لهم : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ ص: 109 ] فكله يساوي قوله : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ، لأن قد هنا للتحقيق ، ومع ذلك يؤذونه بقولهم : سمعنا وعصينا ، ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم ، ولذا قال لهم : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .

    وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم موسى لموسى في قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] .

    ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة ، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه ، وفي ما جاء به فبرأه الله مما قالوا في آية " الأحزاب " وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم ، والعلم عند الله تعالى .

    وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، تقدم كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - على هذا المعنى في سورة " الروم " ، عند الكلام على قوله تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله الآية [ 30 \ 10 ] .

    وقال : إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه ، وساق هذه الآية : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

    وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] .

    وأحال على سورة " بني إسرائيل " على قوله : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] .

    وعلى سورة " الأعراف " على قوله : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين [ 7 \ 101 ] .

    ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وأمثالها .

    ومما يلفت النظر هنا إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .

    [ ص: 110 ] وأن الهداية أيضا للقلب كما في قوله تعالى : ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [ 64 \ 11 ] .

    ولذا حرص المؤمنون على هذا الدعاء : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] فتضمن المعنيين ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .

    ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عيسى فذكرها معه ، مما يدل بمفهومه أنه لم يبشر به إلا عيسى - عليه السلام - ولكن لفظ عيسى مفهوم لقب ولا عمل عليه عند الأصوليين ، وقد بشرت به - صلى الله عليه وسلم - جميع الأنبياء ، ومنهم موسى - عليه السلام - ومما يشير إلى أن موسى مبشرا به قول عيسى - عليه السلام - في هذه الآية : مصدقا لما بين يدي ، والذي بين يديه هي التوراة أنزلت على موسى .

    وقد جاء صريحا التعريف به - صلى الله عليه وسلم - وبالذين معه في التوراة في قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا إلى قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة [ 48 \ 29 ] .

    كما جاء وصفهم في الإنجيل في نفس السياق ، في قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه [ 48 \ 29 ] إلى آخر السورة .

    وجاء النص في حق جميع الأنبياء في قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ 3 \ 81 ] .

    قال ابن كثير : قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه . ا هـ .

    وجاء مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عنه - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل ، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم ، وما قاله أيضا : [ ص: 111 ] والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه ، في حديث طويل ساقه ابن كثير ، وعزاه إلى أحمد رحمه الله .

    وكذلك دعوة نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم [ 2 \ 129 ] .

    ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت " .

    وقد خص عيسى بالنص على البشرى به صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل ، فهو ناقل تلك البشرى لقومه عما قبله .

    كما قال : مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومن قبله ناقل عمن قبله ، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام ، وأداها إلى قومه .

    وقوله تعالى : اسمه أحمد ، جاء النص أنه - صلى الله عليه وسلم - له عدة أسماء ، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " .

    وبهذه المناسبة فقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - باسمه أحمد هنا ، وباسمه محمد في سورة " محمد " صلى الله عليه وسلم .

    كما ذكر - صلى الله عليه وسلم - بصفات عديدة أجمعها ما يعد ترجمة ذاتية من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .

    وسيأتي المزيد من بيان ذلك عند قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] إن شاء الله تعالى .
    قوله تعالى : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .

    تقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : حجتهم داحضة عند ربهم [ 42 \ 16 ] في سورة " الشورى " وقوله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه [ 21 \ 18 ] في سورة " الأنبياء " .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم .

    [ ص: 112 ] فسرت التجارة بقوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ 61 \ 11 ] .

    التجارة : هي التصرف في رأس المال طلبا للربح كما قال تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم [ 2 \ 282 ] وقال تعالى : وتجارة تخشون كسادها [ 9 \ 24 ] .

    والتجارة هنا فسرت بالإيمان بالله ورسوله ، وبذل المال والنفس في سبيل الله ، فما هي المعارضة الموجودة في تلك التجارة الهامة ، بينها تعالى في قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] ، فهنا مبايعة ، وهنا بشرى وهنا فوز عظيم .

    وكذلك في هذه الآية : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب [ 61 \ 12 - 13 ] .

    وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر ، كما في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [ 2 \ 16 ] .

    حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته .

    وقد قال صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قال الشاعر :


    فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل


    وقول الآخر :


    بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما
    اشبرى المسلم إذ تنصرا
    فأطلق الشراء على الاستبدال .

    تنبيه

    [ ص: 113 ] في هذه الآية الكريمة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في قوله تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .

    وفي آية : إن الله اشترى من المؤمنين ، قدم النفس عن المال فقال : اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وفي ذلك سر لطيف .

    أما في آية " الصف " فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله .

    وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة ، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش ، وهو أهم من الجهاد بالسلاح ، فبالمال يشترى السلاح ، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية ، وبالمال يجهز الجيش ، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء ، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم ، وأعذر معهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، إلى قوله : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ 9 \ 91 - 92 ] .

    وكذلك من جانب آخر ، قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من جهز غازيا فقد غزا " .

    أما الآية الثانية فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة ، فقدم النفس ؛ لأنها أعز ما يملك الحي ، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب ، وأحسن ما قيل في ذلك :

    أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن

    فالتجارة هنا معاملة مع الله إيمانا بالله وبرسوله ، وجهادا بالمال والنفس ، والعمل في ذلك :

    أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن

    [ ص: 114 ] الصالح ، كما قيل أيضا :


    فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل


    وفي آية : إن الله اشترى تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله : فيقتلون بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم ، ويقتلون [ 9 \ 111 ] بالبناء للمجهول ، لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم ، ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية

    في هذه الآية أيضا إشعار المسلمين بالنصر في قوله تعالى : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [ 61 \ 14 ] ، ولكن لم يبين فيها هل كانوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله أم لا ؟

    وقد جاء ما يدل على أنهم بالفعل أنصار الله كما تقدم في سورة الحشر في قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] .

    وكذلك الأنصار في قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار [ 9 \ 100 ] ، وكقوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] فأشداء على الكفار هو معنى ينصرون الله ورسوله ، ثم جاء المثل المضروب لهم بالتآزر والتعاون في قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ 48 \ 29 ] فسماهم أنصارا ، وبين نصرتهم سواء من المهاجرين والأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #546
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (545)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 115 إلى صـ 122


    [ ص: 115 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ .

    بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى الْأُمِّيِّينَ فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ بِقَوْلِهِ : الْأُمِّيِّينَ أَيْ : الْعَرَبِ ، وَالْأُمِّيُّ : هُوَ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ . ا هـ .

    وَسُمِّي أُمِّيًّا نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ لَمْ يَعْرِفِ الْقِرَاءَةَ ، وَلَا الْكِتَابَةَ وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ .

    وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمِّيِّين َ هُمُ الْعَرَبُ بَعْثَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : رَسُولًا مِنْهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ 14 \ 37 ] ، و قَوْلُهُ تَعَالَى : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [ 2 \ 129 ] .

    قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - : وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِمُ ا هـ .

    وَفِي الْحَدِيثِ : " إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَقْرَأُ وَلَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ " ، وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ مِثْلَ كَتَبَةِ الْوَحْيِ ، عُمَرَ وَعَلِيًّا وَغَيْرِهِمْ .

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : رَسُولًا مِنْهُمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [ 7 \ 157 ] .

    وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] .

    وَكَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا بِمَعْنَى لَا يَكْتُبُ ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [ ص: 116 ] [ 49 \ 48 ] .

    وَبَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا مَعَ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ [ 25 \ 5 ] فَقَالَ : إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ 29 \ 48 ] .
    قوله تعالى : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في المذكرة المشار إليها : هذا عطف على قوله : في الأميين ، أي : بعث هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأميين ، وفي آخرين منهم ، وقيل : عطف على الضمير في قوله : يعلمهم ، أي يعلمهم ويعلم آخرين منهم ، والمراد بقوله : وآخرين كل من يأتي بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة بدليل قوله : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] .

    وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن قوله : وآخرين ، نزلت في فارس قوم سلمان ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ا هـ .

    وسبق أن قدمنا الكلام على هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ 59 \ 10 ] .

    ولكن سبقنا كلام الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - حين عثرنا عليه لزيادة الفائدة والاستئناس .
    قوله تعالى : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

    اختلف في مرجع اسم الإشارة هنا وفي المراد بالمتفضل به عليهم ، أهم الأمة الأمية تفضل الله عليها ببعثة نبي منهم فيهم ؟ أم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي تفضل الله تعالى عليه ببعثته معلما هاديا ؟ أم هم الآخرون الذين لم يلحقوا زمن البعثة ووصلتهم دعوتها ، وأدركوا فضلها ؟

    وقد اكتفى الشيخ - رحمة الله تعالى عليه وعلينا - في مذكرة الدراسة بقوله ذلك أي : المذكور من بعث هذا النبي الكريم في الأميين ، فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ومن عظم فضله تفضله على هذه الأمة بهذا النبي الكريم . ا هـ .

    [ ص: 117 ] وهذا القول منه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، يتضمن القولين الأول والثاني من الأقوال الثلاثة ، تفضل الله على الأميين ببعثة هذا النبي الكريم فيها ، وتفضل الله على النبي ببعثته فيهم مما لا يشعر بأنه لا خلاف بين هذه الأقوال الثلاثة ، وأنها من الاختلاف التنوعي أو هي من المتلازمات فلا مانع من إدارة الجميع ؛ لأن فضل الله تعالى قد شمل الجميع .

    وقد نص الأول بقوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ 3 \ 164 ] وهذا عين ما في سورة " الجمعة " سواء ، لأن الامتنان هو التفضل .

    ونص على الثاني بقوله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] .

    ونص على الثالث بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [ 5 \ 54 ] .

    فقوله : فسوف يأتي ، ويساوي : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم [ 62 \ 3 ] ، فهو خلاف تنوع ، وفضل الله شامل للجميع .
    قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : هذا مثل ضربه الله لليهود ، وهو أنه شبههم بحمار ، وشبه التوراة التي كلفوا العمل بما فيها بأسفار أي : كتب جامعة للعلوم النافعة ، وشبه تكليفهم بالتوراة بحمل ذلك الحمار لتلك الأسفار ، فكما أن الحمار لا ينتفع بتلك العلوم النافعة التي في تلك الكتب المحمولة على ظهره ، فكذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة ؛ لأنهم كلفوا باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وإظهار صفاته للناس فخانوا ، وحرفوا وبدلوا فلم ينفعهم ما في كتابهم من العلوم ا هـ .

    فأشار الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إلى أن وجه الشبه عدم الانتفاع بما تحملوه من التوراة وهم يعلمون ما فيها من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أوضح الله تعالى [ ص: 118 ] هذا في موضع آخر في قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ 2 \ 146 ] فقد جحدوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلم ينفعهم علمهم به .

    وهذه الآية أشد ما ينبغي الحذر منها ، وخاصة لطلاب العلم وحملته ، كما قال تعالى : بئس مثل القوم [ 62 \ 5 ] أي : تشبيههم في هذا المثل بهذا الحيوان المعروف .

    وقد سبق للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هذا المثال في عدة مواضع من الأضواء ، منها في الجزء الثاني عند قوله تعالى : فمثله كمثل الكلب الآية [ 7 \ 176 ] .

    ومنها في الجزء الثالث عند قوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد الآية [ 14 \ 18 ] .

    ومنها في الجزء الرابع عند قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس [ 18 \ 54 ] في سورة " الكهف " بما فيه الكفاية .

    والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله من قبيل التشبيه المفرد ، وأن وجه الشبه فيه مفرد وهو عدم الانتفاع بالمحمول ، كالبيت الذي فيه :


    كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول


    والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي ؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتبا نافعة ، والحامل حمارا لا علاقة له بها بخلاف ما في البيت ، لأن العيس يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه ، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه ، وفيه إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كلية أنهم وصلوا إلى حد الإلباس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل ، فنقلها الله إلى قوم أحق بها وبالقيام بها .
    قوله تعالى : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم والذين هادوا هم اليهود .

    [ ص: 119 ] ومعنى هادوا أي : رجعوا بالتوبة إلى الله من عبادة العجل .

    ومنه قوله تعالى : إنا هدنا إليك [ 7 \ 156 ] ، وكان رجوعهم عن عبادة العجل بالتوبة النصوح : حيث سلموا أنفسهم للقتل توبة وإنابة إلى الله كما بينه بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم إلى قوله فتاب عليكم [ 2 \ 54 ] .

    وقوله : إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في : إن زعمتم أنكم أولياء لله أي : إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله ، وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس ، فتمنوا الموت : لأن ولي الله حقا يتمنى لقاءه ، والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم . ا هـ .

    وفي قوله - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إشارة إلى بيان زعمهم المجمل في الآية وهو ما بينه تعالى بقوله عنهم وعن النصارى معهم : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه [ 5 \ 18 ] .

    وقد رد زعمهم عليهم بقوله تعالى : قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق .

    ومثل هذه الآية إن زعمتم قوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 2 \ 94 ] .

    وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : وقيل المراد بالتمني المباهلة ، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء الله .

    وقوله : إن زعمتم مع قوله : إن كنتم شرطان يترتب الأخذ منهما على الأول أي فتمنوا الموت ، إن زعمتم ، إن صدقتم في زعمكم ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :


    إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم

    وقوله تعالى : ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم .

    [ ص: 120 ] نص على أنهم لا يتمنون الموت أبدا ، وأن السبب هو ما قدمت أيديهم ، ولكن ليبين ما هو ما قدمت أيديهم الذي منعهم من تمني الموت .

    وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : لا يتمنونه لشدة حرصهم على الحياة كما بينه تعالى قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ 2 \ 96 ] فشدة حرصهم على الحياة ؛ لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار ، ولو تمنوا لماتوا من حينهم .

    وقوله : بما قدمت أيديهم الباء سببية والمسبب انتفاء تمنيهم وما قدمت أيديهم من الكفر ، والمعاصي . ا هـ .

    والذي أشار إليه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - من الأسباب من كفرهم ومعاصيهم ، قد بينه تعالى في موضع آخر صريحا في قوله تعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم [ 3 \ 181 ] .

    فالباء هنا سببية أيضا أي : ذوقوا عذاب الحريق بسبب ما قدمت أيديكم من هذه المذكورات ، ولهذا كله لن يتمنوا الموت ويود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، فقد أيقنوا الهلاك ويئسوا من الآخرة .

    كما قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ 60 \ 13 ] ، ولهذا كله لم يتمنوا الموت ، كما أخبر الله تعالى عنهم ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم .

    أي : إن فررتم من الموت بعدم تمنيه فلن يجعلكم تنجون منه وهو ملاقيكم لا محالة ، وملاقيكم بمعنى مدرككم ، كما في قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] .

    وقوله : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

    [ ص: 121 ] هذه الآية الكريمة ، وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم [ 22 \ 27 ] مع قوله : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ 2 \ 198 ] .

    ففي كل منهما نداء ، وأذان الحج صلاة وسعي وإتيان وذكر لله ، ثم انتشار وإفاضة مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلف الحجم ، وفي الكيف وإن تفاوتت التفاصيل ، وفي المباحث والأحكام كثرة وتنويع من متفق عليه ومختلف فيه ، مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهمية عن مباحث الحج ، وتتطلب عناية بها كالعناية به .

    وقد نقل عن الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - أنه كان عازما على بسط الكلام فيها كعادته - رحمة الله تعالى عليه - ولكن إرادته نافذة ، وقدرته غالية . وإن كل إنسان يستشعر مدى مباحث الشيخ وبسطه وتحقيقه للمسائل ليحجم ويترك الدخول فيها تقاصرا دونها ولا سيما وأن ربط هذه المباحث بنصوص القرآن ليس بالأمر المبين ، كما أشار إليه أبو حيان في مضمون قوله في نهاية تفسيره لهذه السورة بعد إيجاز الكلام عن أحكامها ، قال ما نصه : وقد ملأ المفسرون كثيرا من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن . ا هـ .

    فهو يشير بأن لفظ القرآن لا تعلق له بتلك الأحكام التي ناقشها المفسرون في مباحث الجمعة ، ولكن الدارس لمنهج الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في الأضواء ، والمتذوق لأسلوبه لم يقتصر على اللفظ فقط ، أي : دلالة النص التطابقي وتأمل أنواع الدلالات من تضمن والتزام وإيماء وتنبيه ، فإنه يجد لأكثر أو كل ما قاله المفسرون ، والمحدثون ، والفقهاء من المباحث أصولا من أصول تلك الدلالات .

    وإني أستلهم الله تعالى الرشد وأستمد ، العون والتوفيق لبيان كل ما يظهر من ذلك إن شاء الله ، فإن وفقت فبفضل من الله وخدمة لكتابه ، وإلا فإنها محاولة تغتفر بجانب القصور العلمي وتحسين القصد ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع .

    [ ص: 122 ] قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة ما نصه : إذا نودي للصلاة أي : قام المنادي بها ، وهو المؤذن يقول : حي على الصلاة .

    وقوله : من يوم الجمعة أي : من صلاة يوم الجمعة أي : صلاة الجمعة ا هـ .

    ومما يدل على أن المراد بها صلاة الجمعة نفسها دون بقية صلوات ذلك اليوم مجيء " من " التي للتبعيض ثم تبين هذا البعض بالأمر ، بترك البيع في قوله : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، لأن هذا خاص بالجمعة دون غيرها لوجود الخطبة ، وقد كانت معينة لهم قبل نزول هذه الآية ، وصلوها قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، كما سيأتي إن شاء الله .

    والمراد بالنداء هو الأذان ، كما أشار إليه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - وكما في قوله تعالى : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا [ 5 \ 58 ] .

    ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " .

    وقيل : النداء لغة هو النداء بصوت مرتفع لحديث : " فإنه أندى منك صوتا " .

    وقد عرف الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الأذان لغة عند قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا [ 22 \ 27 ] ، فقال : الأذان لغة : الإعلام .

    ومنه قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر [ 9 \ 3 ] ، وقول الحارث بن حلزة :

    آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء

    والأذان من خصائص هذه الأمة ، شعارا للمسلمين ونداء للصلاة .
    بدء مشروعيته :

    اختلف في بدء المشروعية ، والصحيح أنه بدئ بعد الهجرة ، وجاءت نصوص لكنها ضعيفة : أنه شرع ليلة الإسراء أو بمكة .

    منها عن علي - رضي الله عنه - عند البزار : أنه شرع مع الصلاة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #547
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (546)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 123 إلى صـ 130



    [ ص: 123 ] ومنها عن ابن عباس عند ابن حبان أنه شرع بمكة عن أول الصلاة .

    وقال ابن حجر : لا يصح شيء من ذلك .

    أما مشروعيته بعد الهجرة ، وفي المدينة ففيها نصوص عديدة صحيحة تبين بدأه وكيفيته .

    منها حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين وغيرهما قال : " كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد ، فتكلموا يوما في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بلال قم فناد بالصلاة " ، وفي الموطأ لمالك رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ؛ ليجتمع الناس للصلاة ، فأري عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان " .

    وبعض الروايات الأخرى عن غير ابن عمر وعند غير الشيخين بألفاظ أخرى ، وصور مختلفة منها قالوا : " انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا أي : أعلمه عند حضور الصلاة ، فلم يعجبه ذلك فذكر له القنع ، وهو الشبور لليهود فلم يعجبه ، فقال هذا من أمر اليهود " .

    وفي رواية أنس " أن ينوروا نارا فلم يعجبه شيء من ذلك كله " .

    وفي حديث عبد الله بن زيد : لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ؛ ليضرب به للناس لجمع الصلوات طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده ، فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ، فقلت : بلى ، فقال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " .

    ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال : تقول إذا أقمت للصلاة : الله أكبر الله أكبر ، أشهد [ ص: 124 ] أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله .

    فلما أصبحت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت فقال : " إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به ، فإنه أندى صوتا منك " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول :

    والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت ما رأى ، فقال صلى الله عليه وسلم : " فلله الحمد
    " رواه أبو داود .

    وفي رواية له ، فقال : " إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان " .

    فتبين من هذا كله أن الصحيح في مشروعية الأذان أنه كان بعد الهجرة ، وفي المدينة المنورة .

    وهنا سؤال حول مشروعية الأذان ، قال بعض الناس : كيف يترك أمر الأذان وهو بهذه الأهمية من الصلاة فيكون أمر مشروعيته رؤيا يراها بعض الأصحاب ، وطعن في سند الحديث واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فناد بالصلاة " والجواب عن هذا من عدة وجوه :

    منها : سند حديث عبد الله صحيح ، وقد ناقشه الشوكاني رحمه الله ، وذكر تصحيحه ومن صححه ويشهد لصحته ما قدمناه من رواية الموطأ بإرادة اتخاذ خشبتين ، فأري عبد الله بن زيد خشبتين الحديث ، وكذلك في الصحيحين إثبات التشاور فيما يعلم به حين الصلاة .

    ومنها : أنه لا يتعارض مع حديث ابن عمر ؛ لأن حديث ابن عمر لم يذكر ألفاظ النداء فيكون الجمع بينهما ، إما أن بلالا كان ينادي بغير هذه الصيغة ، ثم رأى عبد الله الأذان فعلمه بلالا .

    وقد يشهد لهذا الوجه ما جاء عن أبي ليلى قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وحدثنا أصحابنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين واحدة ، حتى لقد هممت أن أبث رجالا في الدور ينادون الناس بحين الصلاة ، وحتى هممت أن آمر [ ص: 125 ] رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا " ، قال : فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ، ثم قعد قعدة ، ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول : قد قامت الصلاة ، ولولا أن يقول الناس لقلت إني كنت يقظان غير نائم . فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد أراك الله خيرا فمر بلالا فليؤذن ، فقال عمر : أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكني لما سبقت استحييت " . لأبي داود أيضا .

    ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد هم أن يبث رجالا في الدور ، وعلى الآطام ينادون للصلاة ، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ ، وإما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان ، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه بلالا فنادى به ، ولا تعارض في ذلك كما ترى .

    ومنها أيضا : أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه ، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

    وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس ، والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث : " إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر " إلخ .

    ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما سمعها أقرها وقال : " إنها لرؤيا حق " ، أو لقد أراك الله حقا ، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال .

    ثم جاء بعد ذلك تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأبي محذورة فصار سنة ثابتة ، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به بمجرد الرؤيا ، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا .

    ومنها : أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به ، ولما أخبره عمر قال له : " سبقك بذلك الوحي " ذكر في مراسيل أبي داود .

    وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود .

    ومنها ما قيل : ترك مجيء بيان وتعليم الأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين ، ذكرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى [ ص: 126 ] وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه . وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل .

    من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة ، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه ، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم ، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله .
    فضل الأذان وآداب المؤذن

    لا شك أن الأذان من أفضل الأعمال ، وأن المؤذن يشهد له ما سمع صوته من حجر ومدر . إلخ .

    وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم : " أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة " .

    وقال عمر رضي الله عنه : لولا الخلافة لأذنت .

    وقال صلى الله عليه وسلم : " الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة ، واغفر للمؤذنين " . رواه أبو داود والترمذي ، إلى غير ذلك من فضائل الأذان ، فقيل : مؤتمن على الوقت ، وقيل : مؤتمن على عورات البيوت عند الأذان ، فقد حث - صلى الله عليه وسلم - المؤذنين على الوضوء له كما في حديث : " لا ينادي للصلاة إلا متوضئ " وإن كان الحدث لا يبطله اتفاقا .

    ولما كان بهذه المثابة كانت له آداب في حق المؤذنين :

    منها : أن يكونوا من خيار الناس ، كما عند أبي داود : " ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم " ، وعليه حذر - صلى الله عليه وسلم - من تولي الفسقة الأذان كما في حديث : " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن " المتقدم . فإن فيه زيادة عند البزار قالوا يا رسول الله : لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك فقال : " إنه يكون بعدي أو بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم " .

    ومنها : أنه يكره التغني فيه ؛ لأنه ذكر ودعاء إلى أفضل العبادات ، وقد جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجلا قال له : إني أحبك في الله ، قال ابن عمر : لكني أبغضك في الله ، فقال : ولم ؟ قال : لأنك تتغنى في أذانك .

    وفي المغني لابن قدامة : ولا يعتد بأذان صبي ولا فاسق ، أي ظاهر الفسق ، وعند المالكية : لا يحاكي في أذانه الفسقة .

    [ ص: 127 ] ومنها : ألا يلحن فيه لحنا بينا ، قال في المغني : ويكره اللحن في الأذان ، فإنه ربما غير المعنى ، فإن من قال : أشهد أن محمدا رسول الله ونصب لام رسول . أخرجه عن كونه خبرا .

    ولا يمد لفظة أكبر لأنه يجعل فيها ألفا فيصير جمع كبر ، وهو الطبل ، ولا يسقط الهاء من اسم الله والصلاة ولا الحاء من الفلاح ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤذن لكم من يدغم الهاء " الحديث أخرجه الدارقطني .

    فأما إن كان ألثغ لا تتفاحش جاز أذانه ، فقد روي أن بلالا كان يقول : أسهد بجعل الشين سينا ، نقله ابن قدامة ، ولكن لا أصل لهذا الأثر مع شهرته على ألسنة الناس ، كما في كشف الخفاء ومزيل الإلباس .

    ومن هذا ينبغي تعهد المؤذنين في هذين الأمرين اللحن والتلحين وكذلك الفسق ، وصفة المؤذنين ولا سيما في بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومصدر التأسي ، وموفد القادمين من كل مكان ليأخذوا آداب الأذان والمؤذنين عن أهل هذه البلاد المقدسة .
    ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منها مع بيان التثويب والترجيع

    مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة ، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح ، وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره رضي الله عنهم .

    وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم ، وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمه - صلى الله عليه وسلم - إليها .

    وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم ، ولم يذكر البخاري واحدا منهما ، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية ، وحديث : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة على ما سيأتي إن شاء الله .

    وعليه سنقدم حديث عبد الله ؛ لتقدمه في الزمن ، وألفاظه كما تقدم في بدء [ ص: 128 ] المشروعية ، هي : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

    ومجموعه خمسة عشرة كلمة أي جملة ، ففيه تربيع التكبير في أوله وتثنية باقيه ، وإفراد آخره ، وفيه الإقامة بتثنية التكبير في أوله في كلمة وإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، ولفظها : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

    قال الشوكاني : رواه أحمد وأبو داود ، وقال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وذكر له عدة طرق ، ومنها عند الحاكم ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، والبيهقي ، وابن ماجه .

    حديث أبي محذورة ، وحديث أبي محذورة كان بعد الفتح كما في السنن أنه خرج في نفر فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدما من حنين ، وأذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم ، فظل أبو محذورة في نفره يحكونه استهزاء به ، فسمعهم - صلى الله عليه وسلم - فأحضرهم فقال : " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ؟ فأشاروا إلى أبي محذورة ، فحبسه وأرسلهم ، ثم قال له : قم فأذن بالصلاة فعلمه " .

    أما ألفاظه : فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله ، والباقي كحديث عبد الله بن زيد مع زيادة ذكر الترجيع ، وقد ساقه مسلم في ثلاثة مواضع وبلفظ التكبير مرتين فقط :

    الموضع الأول : عن أبي محذورة نفسه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

    والموضع الثاني : في قصة الإغارة أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار ، فسمع رجلا يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على الفطرة " ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من النار " . . . الحديث .

    [ ص: 129 ] والموضع الثالث : عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله " الحديث ، فهذه كلها ألفاظ مسلم لأذان أبي محذورة ، ولم يذكر مسلم عن الإقامة إلا حديث أنس ، أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، وعند غير مسلم جاء حديث أبي محذورة بتربيع التكبير في أوله ، كحديث عبد الله بن زيد ، وبالترجيع والتثويب في الفجر ، وفيها أن الترجيع يكون أولا بصوت منخفض .

    ثم يرجع ويمد بهما - أي بالشهادتين - صوته ، وذلك عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، أما الإقامة فجاءت عن أبي محذورة روايتان : الأولى قال : وعلمني النبي - صلى الله عليه وسلم - الإقامة مرتين مرتين : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

    الثانية : مثل الأذان تماما بتربيع التكبير ، وبدون ترجيع ، وتثنية الإقامة أي : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

    فالأولى كالأذان في رواية مسلم ، والثانية كرواية الأذان عند غيره بدون ترجيع ولا تثويب ، وإضافة لفظ الإقامة مرتين .

    هذا مجموع ما جاء في أصول ألفاظ الأذان من حديثي عبد الله بن زيد وأبي محذورة .

    وبالنظر في حديث عبد الله بن زيد نجده لم تختلف ألفاظه لا في الأذان ولا في الإقامة ، وهو بتربيع التكبير في الأذان وبدون تثويب ولا ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلا لفظ الإقامة ، أما حديث أبي محذورة فجاء بعدة صور في الأذان وفي الإقامة .

    أما الأذان فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله وعند غيره بتربيعه ، وعند الجميع إثبات [ ص: 130 ] الترجيع في الشهادتين ، وأن الأولى منخفضة ، والثانية مرتفعة ، كبقية ألفاظ الأذان ، وأما الإقامة فجاءت مرتين مرتين ، وجاءت مثل الأذان تماما عند غير مسلم سوى الترجيع والتثويب مع تثنية الإقامة ، فكان الفرق بين الحديثين كالآتي :

    في ألفاظ الأذان ثلاث نقاط :

    أولا : ذكر الترجيع .

    ثانيا : التثويب .

    ثالثا : عدد التكبير في أوله .

    أما الترجيع فيجب أن يؤخذ به ; لأنه متأخر بعد الفتح ، ولا معارضة فيه ، لأنه زيادة بيان وبسند صحيح .

    وأما التثويب فقد ثبت من حديث بلال ، وكان أيضا متأخرا عن حديث عبد الله قطعا ، وقد ثبت أن بلالا أذن للصبح فقيل له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم فصرخ بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم .

    قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر ، أي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " اجعل ذلك في أذانك " فاختصت بالفجر .

    وذكر ابن قدامة - رحمه الله - في المغني عن بلال : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه أن يثوب في العشاء " رواه ابن ماجه ، وقال : دخل ابن عمر - رضي الله عنهما - مسجدا يصلي فيه ، فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له : أين ؟ فقال : أخرجتني البدعة ، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة .

    أما التكبير في أول الأذان ، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد ، وعند غير مسلم بتربيع التكبير ، وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سندا ، وبالنظر إلى ما عند غيره ، تجد فيه زيادة صحيحة ، وهي تربيع التكبير ، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع ; لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #548
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (547)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 131 إلى صـ 138




    أما الإقامة : ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم ، ولكنها في حديث أبي [ ص: 131 ] محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله ، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات ، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين ، وسند الجميع سواء .

    فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة ؟ من حيث الصناعة بكل منهما في السند سواء .

    وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان ، فلو كان الأمر قاصرا على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى ; لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة ، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح ، وعند مسلم أيضا وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة ، وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال : كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، والإقامة مرة مرة غير أنه كان يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، رواه أبو داود والنسائي .

    وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة .

    فمن حديث بلال : نشفع الأذان ، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير ; لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع ، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع ، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع ، ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة ، كان تحقق الشفع بجملتين ، فيأتي أربع تكبيرات ، وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين ، ولهذا وقع الخلاف .

    ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل ; لأننا نعد قولنا : حي على الصلاة ، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة ، وعليه فقولنا : الله أكبر الله أكبر كلمة ، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها ، فيأتي أربع تكبيرات : وهذا يتفق مع رواية الحديثين ، وحديث عبد الله تماما .

    وقال النووي في شرح مسلم : قال القاضي عياض : إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات . اهـ .

    وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان .

    [ ص: 132 ] أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله ، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر ، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة ، أي : فهي مرتين ، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة ، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان .

    ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله .

    قال ابن رشد في البداية ما نصه : اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة :

    إحداهما : تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى ، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره ، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان .

    والصفة الثانية : أذان المكيين ، وبه قال الشافعي ، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين ، وتثنية باقي الأذان .

    والصفة الثالثة : أذان الكوفيين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان ، وبه قال أبو حنيفة .

    والصفة الرابعة : أذان البصريين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين ، وحي على الصلاة وحي على الفلاح ، يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة ، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين .

    والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك ، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم ، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة ، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك ، وكذلك الكوفيون والبصريون ، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله . اهـ .

    [ ص: 133 ] ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقا ، ولم يورد نصا لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور ، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد ( 1 ) ص ( 564 ) وجاء مرويا عن بعض الصحابة في المصنف المذكور .

    وقال في الإقامة : أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها ، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة ، فهي مثنى مثنى ، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها اهـ .

    تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة ، وقد أجملها العلامة ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد تحت عنوان : فصل مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم - قال ما نصه :

    وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة ، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة ، وإقامة بلال ، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير ، وأخذ أبو حنيفة ، وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة ، وأخذ أحمد ، وأهل الحديث ، وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته ، أي : بتربيع التكبير وبدون ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة ، قال : وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة ; فإنه لا يكررها اهـ .

    ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار ، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة . أما في عدم إعادة التكبير ، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم ، وعدم تكريره للفظ الإقامة ، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق ، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة ، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده ، ولا تعارض مطلقا إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة .

    وقال ابن تيمية كلمة فصل في ذلك ، في المجموع ج 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه : فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئا من ذلك ، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك ، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته . اهـ .

    [ ص: 134 ] وقال ابن القيم في زاد المعاد في موضع آخر : مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه : وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه .

    وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه ، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة ، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقران .

    تنبيه

    قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء ، والصحيح أنه مرفوع ، كما في قصة بلال المتقدمة ، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكرارا لما سبق أن جاء عن بلال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائما فيها ؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام ، وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنه اعتبره بدعة وخرج من المسجد .
    كيفية أداء الأذان

    يؤدى الأذان بترسل وتمهل ; لأنه إعلان للبعيد ، والإقامة حدرا ; لأنها للحاضر القريب ، أما النطق بالأذان فيكون جزما غير معرب .

    قال في المغني : ذكر أبو عبد الله بن بطة ، أنه حال ترسله ودرجه أي : في الأذان والإقامة ، لا يصل الكلام بعضه ببعض ، بل جزما . وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة ، وقال : وروي عن إبراهيم النخعي قال : شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة ، قال : وهذا إشارة إلى إجماعهم .
    حكم الأذان والإقامة

    قال ابن رشد : واختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة ؟ وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية ؟ اهـ .

    فتراه يدور حكمه بين فرض العين والسنة المؤكدة ، والسبب في هذا الاختلاف ، اختلافهم في وجهة النظر في الغرض من الأذان هل هو من حق الوقت للإعلام بدخوله أو من حق الصلاة ، كذكر من أذكارها أو هو شعار للمسلمين يميزهم عن غيرهم ؟

    وسنجمل أقوال الأئمة - رحمهم الله - مع الإشارة إلى مأخذ كل منهم ثم بيان الراجح [ ص: 135 ] إن شاء الله .

    أولا : اتفق الشافعي ، وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر ، أي : أنه لا تتعلق به صحة الصلاة .

    وحكي عنه أنه فرض كفاية أي : للجماعة أو للجمعة خاصة ، والدليل لهم في ذلك حديث المسئ صلاته ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه معها الوضوء ، واستقبال القبلة ، ولم يعلمه أمر الأذان ولا الإقامة .

    ثانيا : مالك جاء عنه أنه فرض على المساجد التي للجماعة وليس على المنفرد فرضا ولا سنة .

    وعنه : أنه سنة مؤكدة على مساجد الجماعة ، ففرق مالك بين المنفرد ومساجد الجماعة . وفي متن خليل عندهم أنه سنة لجماعة تطلب غيرها في فرض وقتي ، ولو جمعة أي وما عدا ذلك فليس بسنة ، فلم يجعله على المنفرد أصلا . واختلف القول عنه في مساجد الجماعة ما بين الفرض والسنة المؤكدة ، واستدل بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح ، وكان يقول : إنما الأذان للإمام الذي يجتمع له الناس ، رواه مالك .

    وكذلك أثر ابن مسعود وعلقمة ، صلوا بغير أذان ولا إقامة . قال سفيان : كفتهم إقامة المصر ، وقال ابن مسعود : إقامة المصر تكفي ، رواهما الطبراني في الكبير بلين .

    ثالثا : وعند الحنابلة : قال الخرقي : هو سنة أي كالشافعي وأبي حنيفة ، وغير الخرقي قال كقول مالك .

    رابعا : عند الظاهرية فرض على الأعيان ، ويستدلون بحديث مالك بن الحويرث وصاحبه ، قال لهما صلى الله عليه وسلم : " إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما ، وليؤمكما أكبركما " . متفق عليه .

    فحملوا الأمر على الوجوب .

    هذا موجز أقوال الأئمة - رحمهم الله - مع الإشارة إلى أدلتهم في الجملة ، وحكمه كما رأيت دائر بين السنة عموما عند الشافعي وأبي حنيفة ، والوجوب عند الظاهرية .

    [ ص: 136 ] والسنة المؤكدة أو فرض الكفاية عند مالك وغيره على تفصيل في ذلك .

    وقد رأيت النصوص عند الجميع ، ولكن من أسباب الخلاف في حكم الأذان هو تردد النظر فيه هل هو في حق الوقت للإعلام بدخول الوقت ، أو هو حق الصلاة نفسها ، أو هو شعار للمسلمين ؟

    فعلى أنه من حق الوقت ، فأذان واحد ، فإنه يحصل به الإعلام ويكفي عن غيره ، ولا يؤذن من فاته أول الوقت ، ولا من يصلي في مسجد قد صليت فيه الفريضة أولا ولا للفوائت .

    وإن كان من حق الصلاة فهل هو شرط في صحتها أو سنة مستقلة .

    وعلى أنه للوقت للإعلام به ، فإنه يعارضه حديث قصة تعريسهم آخر الليل ، ولم يوقظهم إلا حر الشمس ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالانتقال عن ذلك الوادي ثم نزولهم والأمر بالأذان والإقامة ، فلا معنى لكونه للوقت في هذا الحديث ، وهو من رواية مالك في الموطأ .

    وعلى أنه للصلاة فله جهتان :

    الأولى : إذا كان المصلي منفردا ولا يطلب من يصلي معه .

    والثانية : أنه إذا كانوا جماعة .

    فإذا كان منفردا لا يطلب من يصلي معه ، فلا ينبغي أن يختلف في كونه ليس شرطا في صحة الصلاة ، وليس واجبا عليه ; لأن الأذان للإعلام ، وليس هناك من يقصد إعلامه .

    ولحديث المسئ صلاته المتقدم ذكره ، وقد يدل لذلك ظاهر نصوص القرآن في بيان شروط الصلاة التي هي : الطهارة ، والوقت ، وستر العورة ، واستقبال القبلة .

    ففي الطهارة قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية [ 5 \ 6 ] .

    وفي الوقت قال تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل الآية [ 11 \ 114 ] ونحوها .

    وفي العورة قال تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] .

    [ ص: 137 ] وفي القبلة قال تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ 2 \ 144 ] .

    وأما في الأذان فقال تعالى : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا [ 5 \ 58 ] .

    وقال في سورة " الجمعة " في هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة [ 62 \ 9 ] وكلاهما حكاية واقع ، وليس فيهما صيغة أمر كغير الأذان مما تقدم ذكره .

    أما حديث ابن الحويرث فهو في خصوص جماعة ، وليس في شخص واحد كما هو نص الحديث .

    وبقي النظر فيه في حق الجماعة ، هل هو على الوجوب في حقهم أم على الندب ؟ وإذا كان بالنصوص القرآنية المتقدمة أنه ليس شرطا لصحة صلاة الفرد ، فليس هو إذا بشرط في صحة صلاة الجماعة فيجعل الأمر فيه على الندب .

    وعليه حديث ابن أبي صعصعة أن أبا سعيد قال له : " أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء ; فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " . رواه البخاري ومالك في الموطأ والنسائي .

    ومحل الشاهد فيه قوله رضي الله عنه : فأذنت للصلاة فارفع صوتك ، فيفهم منه أنه إن لم يؤذن فلا شيء عليه ، وأنه يراد به الحث على رفع الصوت لمن يؤذن ولو كان في البادية ، لما يترتب عليه من هذا الأجر .

    أما كونه شعارا للمسلمين فينبغي أن يكون وجوبه متعلقا بالمساجد في الحضر ، فيلزم أهلها ، كما قال مالك والشافعي في حق المساجد .

    قال الشافعي : يقاتلون عليه إن تركوه ، ذكره النووي في المجموع لدليل الإغارة في الصبح أو الترك بسبب سماعه ، وكذلك يتعلق في السفر بالإمام ، وينبغي أن يحرص عليه [ ص: 138 ] لفعله - صلى الله عليه وسلم - في كل أسفاره في غزواته وفي حجه كما هو معلوم ، وما عدا ذلك فهو لا شك سنة لا ينبغي تركها .

    ولابن تيمية تقسيم نحو هذا في المجموع في الجزء الثاني والعشرين : وللأذان عدة جوانب تبع لذلك منها في حالة الجمع بين الصلاتين ، فقد جاءت السنة بالأذان والإقامة للأولى منهما ، والاكتفاء بالإقامة للثانية ، كما في الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، والمغرب والعشاء في المزدلفة على الصحيح ، وهو من أدلة عدم الوجوب لكل صلاة .

    ومنها أن لا أذان على النساء أي لا وجوب ، وإن أردن الفضيلة أتين به سرا ، وقد عقد له البيهقي بابا قال فيه : ليس على النساء أذان ولا إقامة ، وساق فيه عن عبد الله بن عمر موقوفا ، قال : ليس على النساء أذان ولا إقامة ، ثم ساق عن أسماء - رضي الله عنها - مرفوعا : " ليس على النساء أذان ولا إقامة ، ولا جمعة ولا اغتسال جمعة ، ولا تقدمهن امرأة ، ولكن تقوم في وسطهن " هكذا رواه الحكم بن عبد الله الأيلي وهو ضعيف ، وقال : ورويناه في الأذان والإقامة عن أنس بن مالك موقوفا ومرفوعا ، ورفعه ضعيف وهو قول الحسن وابن المسيب ، وابن سيرين والنخعي .
    تعدد المؤذنين لصلاة الجمعة ولبقية الصلوات الخمس في المسجد الواحد

    أولا : ما يتعلق بالجمعة ، صور التعدد لها فيه صورتان ، صورة تعدد الأذان أي قبل الوقت وبعد الوقت ، وصورة تعدد المؤذنين بعد الوقت على ما سيأتي في ذلك إن شاء الله ، أما تعدد الأذان فقد بوب له البخاري رحمه الله في صحيحه في باب الجمعة قال : باب الأذان يوم الجمعة ، وساق حديث السائب بن يزيد ، قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .

    فلما كان عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء
    ففيه الأذان أولا للوقت كبقية الصلوات ، وفيه أذان قبل الوقت زاده عثمان لما كثر الناس ، وهو المعنى الثالث ، والاثنان الآخران هما الأذان للوقت ، والإقامة الموجودان من قبل .

    وذكر ابن حجر - رحمه الله - في الشرح تنبيها قال فيه : ورد ما يخالف ذلك الخبر بأن عمر رضي الله عنه هو الذي زاد الأذان .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #549
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (548)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 139 إلى صـ 146



    [ ص: 139 ] ففي تفسير جويبر عن الضحاك عن زيادة الراوي ، عن برد بن سنان ، عن مكحول عن معاذ أن عمر أمر مؤذنيه أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس ، وأمر أن يؤذن بين يديه ، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، ثم قال عمر : نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين اهـ .

    ثم ناقش ابن حجر هذا الأثر وقال : إنه منقطع ثم ذكر أنه وجد له ما يقويه إلى آخر كلامه .

    فهذا دليل على تعدد الأذان للجمعة قبل الوقت وعند دخوله ، سواء من عمر أو من عثمان أو منهما معا ، رضوان الله عليهما .

    أما مكان هذا الأذان وزمانه ، فإن المكان قد جاء النص أنه كان على الزوراء .

    وقد كثر الكلام في تحديد الزوراء مع اتفاقهم أنها مكان بالسوق ، وهذا يتفق مع الغرض من مشروعيته لتنبيه أهل السوق بوقت الجمعة للسعي إليها .

    أما الزوراء بعينها فقال علماء تاريخ المدينة : إنه اسم للسوق نفسها ، وقيل : مكان منها مرتفع كان عند أحجار الزيت ، وعند قبر مالك بن سنان ، وعند سوق العباءة .

    والشيء الثابت الذي لم يقبل التغير ، هو قبر مالك بن سنان ، لكن يقولون عنده ، وليس في مكانه ، وقد بدا لي أن الزوراء هو مكان المسجد الذي يوجد الآن بالسوق في مقابلة الباب المصري المعروف بمسجد فاطمة ، ويبدو لي أن الزوراء حرفت إلى الزهراء ، والزهراء عند الناس يساوي فاطمة لكثرة قولهم فاطمة الزهراء ، ومعلوم قطعا أن فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لها مسجد في هذا المكان ، فلا صحة لنسبة هذا المسجد إليها ، بل ولا ما نسب لأبي بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - من مساجد في جوانب مسجد المصلى المعروف الآن بمسجد الغمامة ، وإنما صحة ما نسب إليهم - رضوان الله تعالى عليهم - هو أن تلك الأماكن كانت مواقفهم في مصلى العيد ، ولهذا تراها كلها في هذا المكان المتواجدة فيه .

    فأولهم أبو بكر - رضي الله عنه - وقد أخر موقفه عن موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى العيد تأدبا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء من بعده ، واختلفت أماكن مصلاهم فأقيمت تلك المساجد في أماكن قيامهم .

    [ ص: 140 ] أما ما ينسب إلى فاطمة الزهراء فلا مناسبة له ولا صحة له ، وقد قال بعض المتأخرين : إنه منسوب إلى إحدى الفضليات من نساء العصور المتأخرة ، واسمها فاطمة ، وعليه فلعلها قد جددته ولم تؤسسه ; لأنه لا موجب أيضا لتبرعها بإنشاء مسجد بهذا القرب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وبمناسبة العمل بالقضاء فقد عرض علي صك شرط وقف للأشراف الشراقمة بالمدينة المنورة ، وفي بعض تحديد أعيانه يقول : الواقع في طريق الزوراء ، ويحده جنوبا وقف الحلبي ، ووقف الحلبي موجود حتى الآن معروف يقع عن المسجد الموجود بالفعل في الجنوب الشرقي وليس بينه وبين المسجد المذكور إلا السور والشارع فقط ، وتاريخ هذا الصك قبل مائة سنة من تاريخ كتابة هذه الأحرف أي قبل عام ألف ومائتين من الهجرة .

    وبهذا ترجح عندي أن موضع أذان عثمان - رضي الله عنه - كان بذلك المكان ، وأنه المتوسط بسوق المدينة ، وتقدر مسافته عن المسجد النبوي بحوالي مائتين وخمسين مترا تقريبا .

    وقد كان الأذان الأول زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنارة ، وهكذا الأذان للوقت زمن الخلفاء الراشدين ، ثم من بعدهم ، أما هذا الأذان فكان ابتداؤه من الزوراء ، ثم نقل إلى باب المسجد ، ثم نقل إلى ما بين يدي الإمام ، وذلك زمن هشام بن عبد الملك ، ثم نقل إلى المنارة .

    أما زمانه فلم أقف على تحديد صحيح صريح ، كم كان بينه وبين الثاني ؟ وهل كان بعد دخول الوقت أو قبله ؟

    وقد ذكر ابن حجر في الفتح رواية عن الطبراني ما نصه : فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء ، فكان يؤذن عليها ، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول ، فإذا نزل أقام الصلاة ، وفي رواية له من هذا الوجه : فأذن بالزوراء قبل خروجه ; ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت ، إلى أن قال : وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات ، فألحق الجمعة بها ، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب ، فتراه يرجح كونه بعد دخول الوقت وعند خروج عثمان أي من بيته وكان يسكن إلى تلك الجهة ، ولكن هذا لا يتمشى مع الغرض من إيجاد هذا الأذان ، لأنه لما كثر [ ص: 141 ] الناس جعله في السوق لإعلامهم ، فإذا كان بعد الوقت ، فأي فائدة منه ، وكيف يعد ثالثا ، إنه يكون من تعدد المؤذنين لا من تعدد الأذان .

    ثم إن مسكن عثمان - رضي الله عنه - كان بجوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحله معروف حتى الآن ، وكان يعرف برباط عثمان ، فكيف يجعل هذا الأذان عند خروجه مع بعد ما بين الزوراء ومكان سكناه .

    ثم إن من المتفق عليه أن الأذان بين يدي الإمام هو الأذان الذي بعد دخول الوقت ، وتصح الصلاة بعده ، فالأذان الثالث كالأول بالنسبة للصبح ، وبهذا يترجح أنه كان قبل الوقت لا بعده ، كالأول للصبح ليتحقق الغرض منه ، وعليه ينبغي أن يراعى في زمنه ما بينه وبين الثاني وما يتحقق به الغرض من رجوع أهل السوق وتهيئهم للجمعة وهذا يختلف باختلاف الأماكن والبلاد ، وسواء كان قبل الوقت أو بعده ، فلا بد من زمن بينهما يتمكن فيه أهل السوق من الحضور إلى المسجد وإدراك الخطبة .

    ولو أخذنا بعين الاعتبار ما وقع لعثمان نفسه زمن عمر - رضي الله عنه - لما دخل المسجد وعمر يخطب فعاتبه على التأخير ، ثم أحدث عثمان هذا الأذان في عهده لوجدنا قرينة تقديمه عن الوقت لئلا يقع غيره فيما يقع هو فيه ، والله تعالى أعلم .

    وسيأتي نص ابن الحاج على أنه قبل الوقت .

    وهذا آخر ما يتعلق بتعدد الأذان يوم الجمعة ، وسيأتي التنبيه على ما يوجد من نداءات أخرى يوم الجمعة في بعض الأمصار عند الكلام على ما استحدث في الأذان وابتدع فيه ، مما ليس منه إن شاء الله .
    أما تعدد المؤذنين يوم الجمعة

    فقد جاء صريحا في صحيح البخاري في باب رجم الحبلى من الزنا في حديث طويل عن ابن عباس زمن عمر رضي الله عنه ، وفيه ما نصه : " فجلس عمر على المنبر ولما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله " إلى آخر الحديث .

    فهذا نص صريح من البخاري أنه كان لعمر مؤذنون ، وكانوا يؤذنون حين يجلس على المنبر ، وكان يجلس إلى أن يفرغوا من الأذان ، ثم يقوم فيخطب أي كان أذانهم كلهم بعد دخول الوقت .

    [ ص: 142 ] قال ابن الحاج في المدخل ، وكانوا ثلاثة يؤذنون واحدا بعد واحد ، ثم زاد عثمان أذانا آخر بالزوراء قبل الوقت ، فتحصل من هذا وجود تعدد المؤذنين لصلاة الجمعة ، وكانوا زمن عمر ثلاثة وكانوا يؤذنون متفرقين واحدا بعد واحد .

    وقد ذكر ابن حجر في الفتح أيضا ضمن كلامه على الحديث المتقدم تحت عنوان " المؤذن الواحد يوم الجمعة " رواية عن ابن حبيب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحدا بعد واحد ، فإذا فرغ الثالث قام فخطب .

    ثم قال : فإنه دعوى تحتاج إلى دليل ، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها .

    ثم قال : ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي ، وفي تعليق لسماحة رئيس الجامعة في الحاشية على ذلك قال في مخطوطة الرياض في مختصر المزني : وسواء كان في مختصر البويطي أو المزني فإن عزوه إلى الشافعي صحيح وابن حجر لم يعلق على وجود هذا الأثر بشيء .

    وقال النووي في المجموع : قال الشافعي - رحمه الله - في البويطي : والنداء يوم الجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر ، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر ; ليسمع الناس ، فيأتون إلى المسجد ، فإذا فرغوا خطب الإمام بهم ، فهذا أيضا نص الشافعي ينقله النووي على تعدد المؤذنين يوم الجمعة فوق المنارة جملة ، والإمام على المنبر ، وبهذا تظهر مشروعية تعدد الأذان للجمعة ، قبل وبعد الوقت من عمل الخلفاء الراشدين ، وفي توفر الصحابة المرضيين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - مما يصلح أن يقال فيه إجماع سكوتي في وفرة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كما ثبتت مشروعية تعدد الأذان بعد الوقت من فعل الخلفاء أيضا وإجماع الصحابة عليه مع أثر فيه نقاش مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

    أما ما يتعلق بالأذان لبقية الصلوات الخمس فكالآتي :

    أولا : تعدد الأذان ، فقد ثبت في حديث بلال وابن أم مكتوم في قوله - صلى الله عليه وسلم : " إن بلالا ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " متفق عليه ، وهذا في صلاة الفجر فقط لما في الحديث من القرائن المتعددة التي منها : " ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي [ ص: 143 ] ابن أم مكتوم ، أي إن أذان بلال قبل الفجر يحل الطعام وأذان ابن أم مكتوم بعد دخول الوقت حين يحرم الطعام على الصائم .

    وفي رواية : لم يكن ابن أم مكتوم يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت وكان بينهما من الزمن ، ففي بعض الروايات أنه لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا . رواه مسلم .

    وفي رواية للجماعة عن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن أو قال : ينادي بليل ; ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم " .

    قال الشوكاني : يريد القائم المتهجد إلى راحته ; ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا أو يتسحر ، إن كان له حاجة إلى الصيام ، ويوقظ النائم ; ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء ، فالأول يشعر بتواليهما مع فرق يسير ، والآخر يدل بالفرق بينهما ، وكلاهما صحيح السند .

    وقد فسر هذا النووي في شرح مسلم ونقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار بقوله : قال العلماء معناه : إن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ، ثم يرقب الفجر ، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ، ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر ، وهذا يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم : " ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم إلى آخره ، ويصدقه ما جاء في الأثر أيضا عن ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى فلا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت ، وهذا الأذان الأول للفجر هو مذهب الجمهور ما عدا الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - من الأئمة الأربعة ، وحمل أذان بلال على النداء بغير ألفاظ الأذان .

    قال الشوكاني : وعند الأحناف أن أبا حنيفة - رحمه الله - لما أذن بلال قبل الوقت أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع فيقول : إلا إن العبد قد نام ، وهذا الأثر رواه الترمذي ، وقال : حديث غير محفوظ .

    وفي فتح القدير للأحناف ، ما نصه : ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ، ويعاد في الوقت .

    وقال أبو يوسف : يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل ، قال في الشرح : وهو قول الشافعي ، وقال : لتوارث أهل الحرمين ، فيكون أبو يوسف صاحب أبي حنيفة [ ص: 144 ] - رحمهما الله - قد وافق الجمهور في مشروعية الأذان قبل الفجر قبل الوقت ، وإن ما استدل به أبو حنيفة ليس بمحفوظ ، وقد جوزه أبو يوسف في النصف الأخير من الليل .

    وجاء نص المالكية أنه في السدس الأخير ، قال في مختصر خليل : غير مقدم على الوقت إلا الصبح فبسدس الليل الأخير .

    وعند الحنابلة في المعنى ما نصه : قال أصحابنا : ويجوز الأذان للفجر بعد نصف الليل ، وهذا مذهب الشافعي إلى قوله :

    وقد روى الأثرم عن جابر قال : كان مؤذن مسجد دمشق يؤذن لصلاة الصبح في السحر بقدر ما يسير الراكب ستة أميال فلا ينكر ذلك مكحول ولا يقول فيه شيئا . اهـ .
    تنبيه

    قال في المغني : وقال طائفة من أهل الحديث : إذا كان مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعده ، فلا بأس أي : ليعرف الأول منهما من الثاني ويلتزما بذلك ; ليعلم الناس الفرق بين الأذانين كما كان زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى ملخصا .

    أما تعدد المؤذنين لبقية الأوقات الخمسة فكالآتي :

    أولا : فإن الأصل في ذلك عند العلماء هو حديث بلال وابن أم مكتوم المتقدم ذكره في صلاح الفجر ، ثم قاسوا عليه للحاجة بقية الصلوات ، كما استأنسوا لزيادة عمر وعثمان في الجمعة للجماعة لزيادة الإعلام كما تقدم .

    ثانيا : نسوق موجز الأقوال في ذلك عند الشافعية :

    قال النووي في شرح مسلم : باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد ، وساق كلامه على حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان : بلال وابن أم مكتوم .

    ثم قال ما نصه : وفي الحديث استحباب مؤذنين للمسجد الواحد ، يؤذن أحدهما قبل الفجر والآخر عند طلوعه .

    قال أصحابنا : فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة ، وأربعة فأكثر بحسب الحاجة .

    [ ص: 145 ] وقد اتخذ عثمان - رضي الله عنه - أربعة للحاجة عند كثرة الناس .

    قال أصحابنا : وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا ، فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة واحدة ، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه ، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم ، وإن ضاق الوقت ، فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره ، وإن كان ضيقا وقفوا معا وأذنوا ، وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تشويش ، فإن أدى إلى ذلك لم يؤذن إلا واحد ، اهـ .

    فهذا نص النووي على قول أصحابه أي : الشافعية في المسألة ساقه في شرح مسلم ، وقال في المجموع شرح المهذب على نص المتن إذ قال الماتن : والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة اثنين ، وذكر حديث بلال وابن أم مكتوم ، فإن احتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة ; لأنه كان لعثمان أربعة ، والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد ; لأن ذلك أبلغ في الإعلام .

    قال النووي في الشرح : قال أبو علي الطبري : تجوز الزيادة إلى أربعة ، ثم ناقش المسألة مع من خالفه في العدد ثم قال : العبرة بالمصلحة ، فكما زاد عثمان إلى أربعة للمصلحة جاز لغيره الزيادة .

    وذكر عن صاحب الحاوي إلى ثمانية ، ثم قال : فرع ، وساق فيه ما نصه :

    فإن كان للمسجد مؤذنان أذن واحد بعد واحد ، كما كان بلال وابن أم مكتوم ، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم ، فإن ضاق الوقت والمسجد كبير أذنوا في أقطاره كل واحد في قطر ; ليسمع أهل تلك الناحية ، وإن كان صغيرا أذنوا معا وإذا لم يؤد إلى تهويش .

    قال صاحب الحاوي وغيره : ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة فإن أدى إلى تهويش أذن واحد . إلخ .

    وفي صحيح البخاري ، باب من قال : ليؤذن في السفر مؤذن واحد ، وساق بسنده عن مالك بن الحويرث : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي ، فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما ورفيقا ، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا ، قال : " ارجعوا فكونوا فيهم ، وعلموهم وصلوا إذا حضرت الصلاة ، فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم " .

    قال في الفتح أثناء الشرح : وعلى هذا فلا مفهوم لقوله : مؤذن واحد في السفر لأن [ ص: 146 ] الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد ، ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة ولا يؤذنون جميعا .

    وقد قيل : إن أول من أحدث التأذين جميعا بنو أمية .

    وقال الشافعي في الأم : وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن ، ولا يؤذنون جميعا ، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه ، مؤذن ، يسمع من يليه في وقت واحد . اهـ .

    وهذا الذي حكاه الشارح عن الشافعي موجود في الأم ، ولكن بلفظ فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد . ا هـ .

    وهذا القدر كاف لبيان قول الشافعي وأصحابه ، من أن التعدد جائز بحسب المصلحة .

    وعند مالك جاء في الموطأ حديث بلال وابن أم مكتوم أيضا .

    وقال الباجي في شرحه : ويدل هذا الحديث على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد يؤذنان لصلاة واحدة .

    وروى علي بن زياد عن مالك : لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة مؤذنين وأربعة ، ولا بأس أن يتخذ في المسجد أربعة مؤذنين وخمسة .

    قال ابن حبيب : ولا بأس فيما اتسع وقته من الصلوات ، كالصبح والظهر والعشاء ، أن يؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد ، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة ، ولا يؤذن في المغرب إلا واحد .

    فهذا نص مالك والمالكية في جواز تعدد الأذان في المسجد الواحد ، يؤذنون واحدا بعد واحد .

    وفي متن خليل ما نصه : وتعدده وترتيبهم إلا المغرب ، وجمعهم كل على أذان .

    وذكر الشارح الخرشي : من خمسة إلى عشرة في الصبح والظهر والعشاء ، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة ، وفي المغرب واحد أو جماعة . إلخ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #550
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (549)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 147 إلى صـ 154




    وعند الحنابلة قال في المغني : فصل ، ولا يستحب الزيادة على مؤذنين لحديث [ ص: 147 ] بلال وابن أم مكتوم أيضا ، ثم قال : إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز .

    فقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان له أربعة مؤذنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر منهم كان مشروعا ، وإذا كان أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس ، فالمستعجب أن يؤذن واحد بعد واحد ; لأن مؤذني النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحدهما يؤذن بعد الآخر ، وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه ، إما أن يؤذن كل واحد في منارة أو ناحية أو دفعة واحدة في موضع واحد .

    قال أحمد : إن أذن عدة في منارة فلا بأس ، وإن خافوا من تأذين واحد بعد واحد فوات أول الوقت ، أذنوا جميعا دفعة واحدة .

    وعند الأحناف : جاء في فتح القدير شرح الهداية في سياق إجابة المؤذن وحكاية الأذان ما نصه : إذا كان في المسجد أكثر من مؤذن أذنوا واحدا بعد واحد ، فالحرمة للأول إلى أن قال : فإذا فرض أن سمعوه من غير مسجده تحقق في حقه السبب ، فيصير كتعددهم في المسجد الواحد ، فإن سمعهم معا أجاب معتبرا كون جوابه لمؤذن مسجده .

    هذه نصوص الأئمة - رحمهم الله - في جواز تعدد المؤذنين والأذان في المسجد الواحد للصلاة الواحدة متفرقين أو مجتمعين .

    وقال ابن حزم : ولا يجوز أن يؤذن اثنان فصاعدا معا ، فإن كان ذلك فالمؤذن هو المبتدئ إلى أن قال :

    وجائز أن يؤذن جماعة واحدا بعد واحد للمغرب وغيرها سواء في كل ذلك ، فلم يمنع تعدد الأذان من عدة مؤذنين في المسجد الواحد أحد من سلف الأمة .
    الحكمة في الأذان

    أما الحكمة في الأذان فإن أعظمها أن من خصائص هذه الأمة كما تقدم في أصل مشروعيته ، وقد اشتمل على أصول عقائد التوحيد تعلن على الملأ ، تملأ الأسماع حتى صار شعار المسلمين .

    ونقل عن القاضي عياض رحمه الله قوله :

    [ ص: 148 ] اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان مشتمل على نوعه من العقليات والسمعيات ، فأوله : إثبات الذات وما تستحقه من الكمالات والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله : الله أكبر وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه .

    ثم يصرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى ، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين ، ثم يصرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية ، وموضعها بعد التوحيد ; لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع ، وتلك المقدمات من باب الواجبات وبعد هذه القواعد كلمات العقائد العقليات ، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة ، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من جهة العقل .

    ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم ، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام . إلخ .

    ومراده بالعقليات في العقائد أي إثبات وجود الله وأنه واحد لا شريك له ، وهو المعروف عندهم بقانون الإلزام ، الذي يقال فيه : إن الموجود إما جائز الوجود أو واجبه ، فجائز الوجود جائز العدم قبل وجوده واستوى الوجود والبقاء في العدم قبل أن يوجد ، فترجح وجوده على بقائه في العدم ، وهذا الترجيح لا بد له من مرجح وهو الله تعالى . وواجب الوجود لم يحتج إلى موجد ، ولم يجز في صفة عدم وإلا لاحتاج موجده إلى موجد ، ومرجح وجوده على موجود .

    وهكذا فاقتضى الإلزام العقلي وجوب وجود موجد واجب الوجود ، وهذا من حيث الوجود فقط ، وقد أدخل العقل في بعض الصفات التي يستلزمها الوجود ، والحق أن العقل لا دخل له في العقائد من حيث الإثبات أو النفي ; لأنها سمعية ولا تؤخذ إلا عن الشارع الحكيم ، لأن العقل يقصر عن ذلك ، ومرادنا التنبيه على إدخال العقليات هنا فقط .

    وقد سقنا كلام القاضي عياض هذا في حكمة الأذان لوجاهته ، ولتعلم من خصوصية الأذان في هذه الأمة وغيرها به أنه ليس بصلصلة ناقوس أجوف ، ولا أصوات بوق أهوج ، ولا دقات طبل أرعن ، كما هو الحال عند الآخرين ، بل هو كلمات ونداء يوقظ القلوب من سباتها ، وتفيق النفوس من غفلتها ، وتكف الأذهان عن تشاغلها ، وتهيئ المسلم إلى هذه [ ص: 149 ] الفريضة العظمى ، ثانية أركان الإسلام وعموده .

    فإذا ما سمع الله أكبر الله أكبر مرتين ، عظم الله في نفسه ، واستحضر جلاله وقدسه واستصغر كل شيء بعد الله ، فلا يشغله شيء عن ذكر الله ; لأن الله أكبر من كل شيء ، فلا يشغل نفسه عنه أي شيء .

    فإذا سمع أشهد أن لا إله إلا الله ، علم أن من حقه عليه طاعة الله وعبادته .

    وإذا سمع : أشهد أن محمدا رسول الله ، علم أنه يلزمه استجابة داعي الله .

    وإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ، علم أن فلاحه في صلاته في وقتها لا فيما يشغله عنها .

    وهكذا فكان ممشاه إليها تخشعا ، وخطاه إلى المسجد تطوعا مع حضور القلب واستجماع الشعور .

    ومن هنا أيضا ندرك السر في طلب السامع محاكاة الأذان تبعا للمؤذن ليرتبط معه في إعلانه وعقيدته وشعوره ، كما جاء في أثر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رجلا قال : يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل مثل ما يقولون ، فإذا انتهيت فاسأل تعطه " . رواه أبو داود .

    وقد قدمنا هذا الموضوع هنا ، وإن كان ليس من منهج الكتاب ، ولكن لموجب اقتضاء ، ولمناسبة مبحث الأذان .

    أما الموجب فهو أني سمعت منذ أيام أثناء الكتابة في مباحث الأذان ، وسمعت من إذاعة لبلد عربي مسلم أن كاتبا استنكر الأذان في الصبح خاصة ، وفي بقية الأوقات بواسطة المكبر للصوت ، وقال : إنه يرهق الأعصاب وخاصة عند أداء الناس لأعمالهم أو عند الفراغ منها والعودة لراحتهم ، ولا سيما في الفجر عند نومهم ، فكان وقعه أليما أن يصدر ذلك وينشر ، ولكن أجاب عليه أحد خطباء الجمع في خطبة وافية ، وأفهمه أن الإرهاق والاضطراب إنما هو من عدم الاستجابة لهذا النداء ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الشيطان يبول في أذن النائم ، وأنه يعقد عليه ثلاث عقد ، فإذا ما استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، وإذا توضأ انحلت عقدة أخرى ، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة ، وأصبح نشيطا إلى غير ذلك من الرد الكافي .

    [ ص: 150 ] ولا شك أن مثل تلك الكتابة لا تصدر إلا ممن لا يعي معنى الأذان .

    هذا ما استوجب عرض الحكمة من الأذان ، وإن كانت مجانبة لمنهج الكتاب ، ولكن بمناسبة مباحث الأذان يغتفر ذلك ، وبالله التوفيق .
    محاكاة المؤذن

    تعتبر محاكاة المؤذن ربطا لسامع الأذان ، وتنبيها له لموضوعه ، جاء الحديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول " رواه البخاري .

    وفي رواية عنده عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال أي معاوية : وهو على المنبر مثل قول المؤذن إلى قوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، ولما قال المؤذن : حي على الصلاة ، قال معاوية : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذلك : حي على الفلاح ، ثم قال : هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم .

    وعند النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام بلال ينادي ، فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم : " من قال مثل هذا يقينا دخل الجنة " .

    كيفية المحاكاة ، في الحديث الأول : " فقولوا مثلما يقول " وهكذا يشعر بتتبعه جملة جملة ، وفي الحديث الثاني : فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم : " من قال مثل هذا " وبعد السكوت تنطبق المثلية بمجئ الأذان بعد فراغ المؤذن ، فوقع الاحتمال .

    وقد جاء عند مسلم وأبي داود ما يؤيد الأول ، فعن عمر - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال أشهد ألا إله إلا الله ، قال : أشهد ألا إله إلا الله ، ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : حي على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة " .

    فهذا نص صريح في أن محاكي المؤذن يتابعه جملة جملة إلى آخره ما عدا الحيعلتين ، فإنه يأتي بدلا منهما بالحوقلة ، وقالوا : إن الحيعلتين نداء للإقبال على المنادي ، وهذا يصدق في حق المؤذن ، أما الذي يحكي الأذان فلم يرفع صوته ولا يصدق [ ص: 151 ] عليه أن ينادي غيره فلا أجر له في نطقه بهما ، فيأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله لأمرين الأول : أنه ذكر يثاب عليه سرا وعلانية ، والثاني : استشعار بأنه لا حول له عن معصية ولا قوة له على طاعة إلا بالله العلي العظيم ، وفيه استعانة بالله وحوله وقوته على إجابة هذا النداء ، وأداء الصلاة مع الجماعة .

    وقد أخذ الجمهور بحديث عمر عند مسلم بمحاكاة المؤذن في جميع الأذان على النحو المقدم ، وعند مالك يكتفي إلى الحوقلة لحديث معاوية . ونص كتب المالكية أنه هو المشهور في المذهب وغير المشهور أي مقابل المشهور طلب حكاية الأذان جميعه ، ذكره الزمخشري على خليل .
    بعض الزيادات على ألفاظ الأذان

    تقدم ذكر الحوقلة عند الحيعلة في بعض روايات مسلم وغيره ، عند الشهادتين يقول زيادة : " وأنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا غفرت له ذنوبه " .
    الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤال الله له الوسيلة .

    وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ; فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة " وهذا عام للأذان في الصلوات الخمس إلا أنه جاء في المغرب والفجر بعض الزيادات ، ففي المغرب حكى النووي : أنه له أن يقول بعد النداء : " اللهم هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك وأصوات دعائك اغفر لي " ، ويدعو بين الأذان والإقامة ، ذكره صاحب المهذب وعزاه لحديث أم سلمة ، وأقره النووي في المجموع .

    أما في سماع أذان الفجر فيقول عند ( الصلاة خير من النوم ) : صدقت وبررت ، حكاه النووي في المجموع .

    وعن الرافعي يقول : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة خير من النوم .

    وإذا سمع المؤذن وهو في الصلاة ، نص العلماء على أنه لا يحكيه ; لأن في الصلاة [ ص: 152 ] لشغلا ، وإذا سمعه وهو في المسجد جالس نص أحمد أنه لا يقوم حالا للصلاة حتى يفرغ المؤذن أو يقرب .

    وإذا دخل المسجد وهو يؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين ، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس ، ذكره صاحب المغني عن أحمد رحمه الله .
    إجابة أكثر من مؤذن

    وللعلماء مبحث فيما لو سمع أكثر من مؤذن ، قال النووي : لم أر فيه شيئا لأصحابنا ، وفيه خلاف للسلف ، وقال حكاه القاضي عياض في شرح مسلم ، والمسألة محتملة ، ثم قال : والمختار أن يقال : المتابعة سنة متأكدة يكره تركها لتصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر ، وهذا يختص بالأول ; لأن الأمر لا يقتضي التكرار .

    وذكره صاحب الفتح وقال : وقال ابن عبد السلام : يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب . اهـ .

    وعند الأحناف الحق للأول .

    وأصل هذه المسألة في مبحث الأصول ، هل الأمر المطلق يقتضي تكرار المأمور به أم لا ؟

    وقد بحث هذا الموضوع فضيلة شيخنا - رحمة الله تعالى عليه - في مذكرة الأصول وحاصله : إن الأمر إما مقيد بما يقتضي التكرار أو مطلق عنه ، ثم قال : والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة ، ثم فصل - رحمة الله تعالى عليه - القول فيما اتفق عليه وما اختلف فيه ، ومنه تعدد حكاية المؤذن وبحثها بأوسع في الأضواء عن تعدد الفدية في الحج ، والواقع أن سبب الخلاف فيما اختلف فيه إنما هو من باب تحقيق المناط هل السبب المذكور مما يقتضي التعدد ، أم لا ؟

    والأسباب في هذا الباب ثلاثة أقسام قسم يقتضي التكرار قطعا ، وقسم لا يقتضيه قطعا ، وقسم هو محل الخلاف .

    فمن الأسباب المقتضية التكرار قطعا : ما لو ولد له توأمان فإن عليه عقيقتين ، [ ص: 153 ] ومنها : لو ضرب حاملا فأجهضت جنينين لوجبت عليه غرتان .

    ومن الأسباب التي لا تقتضي التكرار ما لو أحدث عدة أحداث من نواقض الوضوء فأراد أن يتوضأ فإنه لا يكرر الوضوء بعدد الأحداث ، ويكفي وضوء واحد ، وكذلك موجبات الغسل لو تعددت قبل أن يغتسل فإنه يكفيه غسل واحد عن الجميع .

    ومما اختلف فيه ما كان دائرا بين هذا وذاك ، كما لو ظاهر من عدة زوجات هل عليه كفارة واحدة نظرا لما أوقع من ظهارأم عليه عدة كفارات نظرا لعدد ظاهر منهن ؟ وكذلك إذا ولغ عدة كلاب في إناء هل يعفر الإناء مرة واحدة ، أم يتعدد التعفير لتعدد الولوغ من عدة كلاب ؟

    ومن ذلك ما قالوه في إجابة المؤذن إذا تعدد المؤذنون تعددت الأسباب ، فهل تتعدد الإجابة أم يكتفي بإجابة واحدة ؟ تقدم قول النووي أنه لم يجد شيئا لأصحابه ، وكلام العز بن عبد السلام بتعدد الإجابة وبالنظر الأصولي ، نجد تعدد المؤذنين ليس كتعدد نواقض الوضوء ; لأن المتوضئ إذا أحدث ارتفع وضوءه وليس عليه أن يتوضأ لهذا الحدث ، فإذا أحدث مرة أخرى لم يقع هذا الحدث الثاني على طهر ولم يجد حدثا آخر .

    وهكذا مهما تعددت الأحداث ، فإذا أراد الصلاة كان عليه أن يرفع حدثه فيكفي فيه وضوء واحد ، ولكن مستمع المؤذن حينما سمع المؤذن الأول فهو مطالب بمحاكاته ، فإن فرغ منه وسمع مؤذنا آخر ، فإن من حق هذا المؤذن الآخر أن يحاكيه ، ولا علاقة لأذان هذا بذاك ، فهو من باب تجدد السبب وتعدده أو هو إليه أقرب ، كما لو سمع أذان الظهر فأجابه ثم سمع أذان العصر فلا يكفي عنه إجابة أذان الظهر ، فإن قيل : قد اختلف الوقت وجاء أذان جديد ، فيقال : قد اختلف المؤذن فجاء أذان جديد .

    وأقرب ما يكون لهذه المسألة مسألة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره في حديث قوله صلى الله عليه وسلم : " آمين آمين " ثلاث مرات وهو يصعد المنبر ، ولما سئل عن ذلك قال : " أتاني جبريل فقال : يا محمد من ذكرت عنده ، ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل : آمين ، فقلت : آمين " ، وذكر بقية المسائل فإن بهذا يتعين تكرار الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند كل ما يسمع ذكره صلوات الله وسلامه عليه ، وهنا عليه تكرار محاكاة المؤذن ، كما رجحه ابن عبد السلام ، والله تعالى أعلم .

    [ ص: 154 ] تنبيه

    وإذا سمع المؤذن وهو في صلاة فلا يقول مثل ما يقول المؤذن ، وإذا كان في قراءة ، أو دعاء ، أو ذكر خارج الصلاة ، فإنه يقطعه ويقول مثل قول المؤذن .

    قاله ابن تيمية في الفتاوى وابن قدامة في المغني ، والنووي في المجموع .

    تنبيه

    ولا يجوز النداء للصلاة جمعة أو غيرها من الصلوات الخمس إلا بهذه الألفاظ المتقدم ذكرها ، وما عداها مما أدخله الناس لا أصل له ، كالتسبيح قبل الفجر ، والتسبيح والتحميد والتكبير يوم الجمعة بما يسمى بالتطليع ونحوه ، فكل هذا لا نص عليه ولا أصل له .

    وقد نص في فتح الباري ردا على ابن المنير ، حيث جعل بعض الهيئات أو الأقوال من مكملات الإعلام ، فقال ابن حجر : وأغرب ابن المنير ولو كان ما قاله على إطلاقه لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ، ومن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأذان ، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا .

    وفي الحاشية للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تعليق على كلام ابن المنير بقوله هذا فيه نظر . والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده ، كما أشار إليه الشارع بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه ، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات ، فتنبه .

    وقال في الفتح أيضا ما نصه : وما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في بعض البلاد دون بعض ، واتباع السلف الصالح أولى ، وقال ابن الحاج في المدخل مجلد 2 ص 452 ، وينهى المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل ، وإن كان ذكر الله تعالى حسنا وعلنا لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله وسلامه عليه ، ولم يعين فيها شيئا معلوما .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #551
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (550)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 155 إلى صـ 162




    وقال بعده بقليل : وكذلك ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند طلوع الفجر ، وإن كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر العبادات [ ص: 155 ] وأجلها ، فينبغي أن يسلك بها مسلكها ، فلا توضع إلا في مواضعها التي جعلت لها .

    وقال صاحب الإبداع في مضار الابتداع ، ما نصه : ومن البدع ما يسمى بالأولى والثانية ، أعني ما يقع قبل الزوال يوم الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك ، ولا خلاف في أن ذلك لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد السلف الصالح ، وإنما النظر في ذمه واستحسانه . ا هـ .

    وهذا النظر مفروغ منه في التنبيهات المتقدمة لابن حجر ، وابن الحاج ، وابن باز .

    والقاعدة الأصولية الفقهية : أن العبادات مبناها على التوقيف ، وما لم يكن دينا ولا عبادة عند السلف الصالح فلا حاجة إليه اليوم ، كما قال مالك رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .

    وقد ذكر صاحب الإبداع أيضا تاريخ إحداث رفع الصوت بالصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان ، فقال : كان ابتداء ذلك في أيام السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب وبأمره في مصر وأعمالها ، لسبب مذكور في كتب التاريخ . ا هـ .

    والسبب يتعلق ببدعة الفاطميين بسبب بعض الأشخاص على المنابر والمنائر ، فغير عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - ما كان على المنابر بقوله : إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر .

    وكذلك غير صلاح الدين ما كان بعد الأذان بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم .

    تنبيه

    من أسباب تمسك بعض البلاد بهذين العملين هو ألا يؤذن قبل الجمعة ، فاعتاضوا عن الأذان بما يسمى التطليع أو بالأولى والثانية أي : التطليعة الأولى والتطليعة الثانية ، وكذلك لا يؤذنون للفجر قبل الوقت فاستعاضوا عنه بالتسبيح والتكبير وغيره .

    أما الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب كل أذان ، فقد قاسوا المؤذن على السامع في حديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ; فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا " .

    فقالوا : والمؤذن أيضا يصلي ويسلم ، ثم زادوا في القياس خطة وجعلوا صلاة [ ص: 156 ] المؤذن وتسليمه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت مرتفع كالأذان ، وبهذا تعلم أنه ما أميتت سنة إلا ونشأت بدعة ، وأن قياس المؤذن على السامع ليس سليما .

    وتقدم لك أن محاكاة المؤذن لربط السامع بالأذان ; ليتجاوب معه في معانيه ، ولو قيل : إن للمؤذن أن يصلي ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سرا بعد الفراغ من الأذان ، وأن يسأل الله الوسيلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشارك في الأجرين : أجر الأذان ، وأجر سؤال الوسيلة لكان له أجر ، والعلم عند الله تعالى .
    حي على خير العمل في الأذان

    اتفق الأئمة - رحمهم الله - على أنها ليست من ألفاظ الأذان ، وحكاها الشوكاني عن العترة ، وناقش مقالتهم وآثارها بأسانيدها .

    ومما جاء فيها عندهم أثر عن ابن عمر ، أنه كان يؤذن بها أحيانا .

    ومنها عن علي بن الحسين أنه قال : هو الأذان الأول .

    ثم قال : وأجاب الجمهور عن كل ذلك بأن أحاديث ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما لم يثبت فيهما شيء من ذلك .

    قالوا : وإذا صح ما روي أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها .

    وقد أورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك ، ولكن من طريق لا يثبت النسخ بمثله . اهـ . ملخصا .

    وقد ذكر صاحب جمع الفوائد حديثا عن بلال - رضي الله عنه - أنه كان يؤذن للصبح فيقول : حي على خير العمل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم ، وترك حي على خير العمل ، وقال : رواه الطبراني في الكبير بضعف . اهـ .

    ولا يبعد أن يكون أثر بلال هذا هو الذي عناه علي بن الحسين ، وعلى كل فهذا الأثر وإن كان ضعيفا فإنه مرفوع ، وفيه التصريح بالمنع منها ، وعليه الأئمة الأربعة وغيرهم إلا ما عليه الشيعة فقط .

    ومن جهة المعنى ، فإن معناها لا يستقيم مع بقية النصوص الصحيحة الصريحة ، [ ص: 157 ] وذلك أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خير العمل أمر نسبي ، وأن خير جميع الأعمال كلها هو أولا وقبل كل شيء الإيمان بالله ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الأعمال أفضل يا رسول الله ؟ قال : " إيمان بالله " ، قيل : ثم ماذا ؟ فقال مرة : " الجهاد في سبيل الله " ، وقال مرة : " الصلاة على أول وقتها " ، وقال مرة : " بر الوالدين " وفي كل مرة يقدم إيمانا بالله .

    فعليه الإيمان بالله هو خير العمل ، وليست الصلاة ، ثم بعد الإيمان بالله فهو بحسب حال السائل وحالة كل شخص ، فمن كان قويا وليس عليه حق لوالديه ، فالجهاد أفضل الأعمال في حقه مع الحفاظ على الصلاة ، فإن كان ذا والدين ، فبرهما مقدم على كل عمل ، ولم لا ! فإن الصلاة على أول وقتها لغير هؤلاء ، فإطلاق القول بالصلاة خير العمل في حق جميع الناس لا يصح مع هذه الأحاديث ، ولهذا منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن يقولها ، وجعلها : خيرا من النوم ، وهذا لا نزاع فيه ولا بالنسبة لأي أحد من الناس ، والله تعالى أعلم .
    الصلاة بين أذان عثمان رضي الله عنه والأذان الذي بين يدي الإمام

    تعود الناس في جميع الأمصار صلاة ركعتين عند الأذان الأول ، والذي يقع الآن قبل الوقت وقبل جلوس الإمام على المنبر ، وهو المسمى عند الفقهاء بأذان عثمان ، وقد تساءل الناس عن هذه الصلاة ، أهي سنة أم لا ؟ ويتجدد هذا السؤال من حين إلى آخر ، وأجمع ما رأيت فيه هو كلام ابن تيمية في رسالة خاصة ، جوابا على سؤال وجه إليه هذا نصه :

    هل الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من أصحابه أو التابعين أو الأئمة ، أم لا ؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : بين كل أذانين صلاة ، هل هو مخصوص بيوم الجمعة ، أم هو عام في جميع الأوقات ؟ فأجاب بقوله :

    أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ، ولا نقل هذا عن أحد ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر ، ويؤذن بلال ثم يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبتين ، ثم يقيم بلال فيصلي بالناس ، فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه - صلى الله عليه وسلم - ولا نقل عن أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة ، ولا وقت بقوله : " صلاة مقدرة قبل الجمعة " بل ألفاظه فيها الترغيب [ ص: 158 ] في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله : " من بكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، وصلى ما كتب له " . . . الحديث .

    وهذا المأثور عن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر ، منهم من يصلي ثماني ركعات ، ومنهم من يصلي أقل من ذلك ، ولهذا كان جمهور الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد .

    ثم قال : وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه ، وهو المشهور من مذهب أحمد .

    وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة ، فمنهم من جعلها ركعتين ، ومنهم من جعلها أربعا تشبيها لها بسنة الظهر ، وقالوا : إن الجمعة ظهر مقصورة ، وهذا خطأ من وجهين وساقهما ، وخلاصة ما ساقه فيهما أن الجمعة لها خصائص لا توجد في الظهر فليست ظهرا مقصورة .

    وكذلك أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يصلي في سفره سنة للظهر ، أي : وهي مقصورة في السفر فلا تمسك في ذلك .

    أما عن حديث : " بين كل أذانين صلاة " فالصواب أنه لا يقال إن قيل الجمعة سنة راتبة مقدرة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " بين كل أذانين صلاة " مرتين ، وقال في الثالثة : " لمن شاء " .

    وهذا يدل على أن الصلاة مشروعة قبل الأوقات الخمسة ، وأن ذلك ليس بسنة راتبة ، وقد احتج بعض الناس بهذا على الصلاة يوم الجمعة .

    وعارض غيره قائلا : الأذان الذي على المنارة لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : ويتوجه عليه أن يقال : هذا الأذان الثالث لما سنه عثمان - رضي الله عنه - واتفق عليه المسلمون صار أذانا شرعيا ، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة ، وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب ، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه ، وهذا أعدل الأقوال .

    وكلام أحمد يدل عليه ، وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أن هذه سنة راتبة أو واجبة ، لا سيما إذا داوم الناس عليها ، فينبغي تركها أحيانا ، كما ينبغي [ ص: 159 ] ترك قراءة السجدة يوم الجمعة أحيانا .

    ثم قال : وإذا كان رجل مع قوم يصلونها ، فإن كان مطاعا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه ، بل عرفوا السنة ، فتركها حسن ، وإن لم يكن مطاعا ورأى في صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع ، أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقولهم له ونحو ذلك ، فهذا أيضا حسن .

    فالعمل الواحد يكون مستحبا فعله تارة ، وتركه تارة ، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية .

    كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم إلى آخره . اهـ ملخصا .

    فأنت تراه قد بين أولا أنها ليست من فعله - صلى الله عليه وسلم - لعدم وجود مكان لها في عهده ، ولا في عهد صاحبيه من بعده ، وأن فعلها بعد حديث عثمان - رضي الله عنه - يرجع إلى حال الشخص ، فإن كان عاميا التمس له مخرج من حديث : " بين كل أذانين صلاة " ، لا على أنها سنة راتبة .

    أما العالم الذي يقتدى به فإن كان مطاعا فتركها أحسن .

    وتعليم الناس متعين ، وإن كان غير مطاع ويرجو نفعهم أو يخشى خصومة عليهم تضيع عليهم منفعتهم منه ، ففعلها تأليفا لقلوبهم ، فهذا حسن . اهـ ملخصا .

    وهذا منه من أدق مسالك سياسة الدعوة إلى الله ، حيث ينبغي للداعي أن يراعي حالة العامة ، وأن يكون بفعله مؤثرا كتأثيره بقوله مع مراعاة الأحوال ما هو أصلح لهم فيما فيه سعة من الأمر ، كما بين أنها ليست بسنة راتبة .

    وقد ساق ضمنا كلام العلماء في حكم الصلاة قبل الجمعة مطلقا ، أي عند المجئ وقبل الأذان ، وهذا كله ما عدا الداخل للمسجد وقت الخطبة فيما يتعلق بتحية المسجد .

    وقال النووي في المجموع بعد مناقشة كلام المذهب ، قال :

    وأما السنة قبلها فالعمدة فيها حديث عبد الله بن معقل المذكور : " بين كل أذانين صلاة " ، والقياس على الظهر ، قال : وذكر أبو عيسى الترمذي أن عبد الله بن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربعا ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وهذا منهم على أنها [ ص: 160 ] راتبة الظهر انتقلت إلى الجمعة ، ولا علاقة لها بالأذان ، بل من حين مجيئه إلى المسجد .
    قوله تعالى : من يوم الجمعة .

    قال الزمخشري ونقله عنه أبو حيان : من في قوله : من يوم الجمعة بيان لإذا وتفسير له . اهـ .

    يعني : إذا نودي فهي بيان لإذا الظرفية وتفسير لها .

    الجمعة بضم الجيم والميم قراءة الجمهور ، وبضم الجيم وتسكين الميم قراءة عبد الله بن الزبير والأعمش وغيرهما ، وهما لغتان وجمعهما جمع وجمعات .

    قال الفراء : يقال الجمعة بإسكان الميم ، والجمعة بضمها والجمعة بفتح الميم ، فتكون صفة لليوم أي يجمع الناس .

    وقال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جمعة ، يعني : بضم الميم .

    وقال الفراء وأبو عبيد : والتخفيف أقيس وأحسن ، مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر ، وفتح الميم لغة بني عقيل ، وقيل : إنها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - حكاه القرطبي وغيره .

    وقال الزمخشري : قرئ بهن جميعا ، وقال غيره : والأول أصح لقول ابن عباس رضي الله عنهما .

    وذكر في سبب تسمية هذا اليوم عدة أسباب لا تناقض بين شيء منها .

    من ذلك ما قاله ابن كثير رحمه الله : إنها مشتقة من الجمع ، وأهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع .

    ومنها : أنه تم فيه خلق جميع الخلائق ، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، وفيه خلق آدم يعني جمع خلقه ، وفيه الحديث عن سلمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " يا سلمان ، ما يوم الجمعة " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم - أو - أبوكم " ، قال ابن كثير : وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا ، فالله أعلم .

    والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن ما حكاه عن أبي هريرة له حكم الرفع ، كما جاء [ ص: 161 ] في الموطأ في فضل يوم الجمعة أنه : " خير يوم تطلع فيه الشمس ، فيه خلق آدم " إلى آخر الحديث ، وسيأتي إن شاء الله عند بيان فضلها .

    وقد كان يقال له في الجاهلية يوم العروبة .

    ونقل عن الزجاج والفراء وأبي عبيدة : أن العرب العاربة كانت تسمي الأيام هكذا : السبت شبار ، الأحد أول ، الاثنين أهون ، الثلاثاء جبار ، الأربعاء دبار ، الخميس مؤنس ، الجمعة العروبة . وأول من نقل العروبة إلى الجمعة كعب بن لؤي ، نقل من بذل المجهود شرح أبي داود .

    وقيل : أول من سماه بالجمعة كعب بن لؤي ، وقد كان معروفا بهذا الاسم في أول البعثة ، كما جاء في سبب أول جمعة صليت بالمدينة .

    قال القرطبي : وأول من سماها جمعة : الأنصار ، ونقل عن ابن سيرين قوله : جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وقبل أن تنزل الجمعة هم الذين سموها الجمعة ، وذلك أنهم قالوا : إن لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام يوم ، وهو السبت ، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد ، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما ، لنتذاكر الله ، ونصلي فيه ونستذكر أو كما قالوا ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة وهو أبو أمامة رضي الله عنه ، فصلى بهم يومئذ ركعتين ، وذكرهم فسموه يوم الجمعة حتى اجتمعوا فذبح لهم سعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم .

    فهذه أول جمعة في الإسلام .

    أما أول جمعة أقامها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي التي أقامها مقدمه إلى المدينة حين نزل قباء يوم الاثنين ومكث الثلاثاء والأربعاء والخميس ، وفي صبيحة الجمعة نزل إلى المدينة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا فجمع بهم - صلى الله عليه وسلم - وخطب ، وهو موضع معروف إلى اليوم في بني النجار ، وقد ساق القرطبي خطبته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم ، ثم كانت الجمعة التي تلتها في الإسلام في قرية جوانا بالأحساء اليوم .

    وقد خص الله المسلمين بهذا اليوم وفضله ، كما قال ابن كثير وغيره لحديث أبي [ ص: 162 ] هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري ومسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد " ، لفظ البخاري . وفي لفظ لمسلم " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة ، المقضي بينهم قبل الخلائق " ذكره ابن كثير ، من خصائص يوم الجمعة .

    كما اختصت هذه الأمة بيوم الجمعة عن سائر الأيام ، فقد اختص يوم الجمعة نفسه بخصائص عن سائر الأيام ، أجمعها ما جاء في موطأ مالك عن أبي هريرة ، أنه قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان فيما حدثته أن قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أهبط من الجنة ، وفيه تيب عليه وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " .

    قال كعب : ذلك في كل سنة ، قلت : بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ، إلى المسجد الحرام ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء - أو - بيت المقدس " يشك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #552
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (551)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 163 إلى صـ 170




    قال أبو هريرة ، ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار ، وما حدثته به في يوم الجمعة فقلت : قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، قال : قال عبد الله بن سلام : كذب كعب ، فقلت : ثم قرأ التوراة ، فقال : بل هي في كل جمعة ، فقال عبد الله بن سلام : صدق كعب ، ثم قال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ؟ قال أبو هريرة فقلت له : أخبرني بها ولا تضن علي ، فقال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة في يوم [ ص: 163 ] الجمعة ، قال أبو هريرة : فقلت وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " ، وتلك الساعة ساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي " ، قال أبو هريرة : فقلت : بلى ، قال : فهو كذلك .

    فهذا نص صريح في أنه خير يوم طلعت عليه الشمس ، ثم بيان أن الخيرية فيه لما وقع به من أحداث ، وإلا فجميع الأيام حركة فلكية لا مزية فيها إلا ما خصها الله دون غيرها من الوقائع .

    وقد تعددت هنا في حق أبينا آدم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ولذا قيل : يوم الجمعة يوم آدم ، ويوم الاثنين يوم محمد - صلى الله عليه وسلم - أي لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن كثرة صيامه يوم الاثنين قال : " ذلك يوم ولدت فيه ، وعلي فيه أنزل " الحديث .

    ولما كان يوم الجمعة هو يوم آدم فيه خلق ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أنزل إلى الأرض ، وفيه تاب الله عليه ، وفيه قيام الساعة ، فكان يوم العالم من بدء أبيهم إلى منتهى حياتهم ، فكأنه في الإسلام يوم تزودهم إلى ذلك المصير .

    وروى البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ الم [ 32 \ 1 ] السجدة ، وهل أتى على الإنسان [ 76 \ 1 ] في فجر يوم الجمعة .

    قال ابن تيمية : وذلك لما فيهما من ذكر خلق الله آدم وحياة الإنسان ومنتهاه ، كما في سورة " السجدة " في قوله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 4 - 9 ] .

    وفي سورة : هل أتى على الإنسان ، قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 1 - 5 ] .

    [ ص: 164 ] ففي هذا بيان لخلق العالم كله جملة ثم خلق آدم ، ثم تناسل نسله ثم منتهاهم ومصيرهم ليتذكر بخلق أبيه آدم ، وما كان من أمره كيلا ينسى ولا يسهو عن نفسه .

    وهكذا ذكر مثل هذا التوجيه في الجملة ابن حجر في الفتح ، وناقش حكم قراءتهما والمداومة عليهما أو تركهما ، وذلك في باب ما يقرأ في صلاة الجمعة .

    وفي المنتقى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح : الم تنزيل [ 32 \ 1 - 2 ] ، وهل أتى على الإنسان ، وفي صلاة الجمعة بسورة " الجمعة " و " المنافقون " . رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي .

    وناقش الشوكاني السجود فيها أي في فجر الجمعة أو في غيرها من الفريضة ، إذا قرأ ما فيه سجدة تلاوة .

    وحكي السجود في فجر الجمعة عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن الزبير وقال : هو مذهب الشافعي ، وقال : كرهه مالك وأبو حنيفة وبعض الحنابلة ، فراجعه .
    الساعة التي في يوم الجمعة

    فقد تقدم كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - مع عبد الله بن سلام وهو قول الأكثر ، ويوجد عند مسلم : أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة ، وقد ناقش هذه المسألة جميع العلماء ، وحكى أقوالهم الزرقاني في شرح الموطأ ، وكلاهما بسند صحيح : إلا أن سند مالك لم يطعن فيه أحمد وسند مسلم قد نقل الزرقاني الكلام فيه ، ومن تكلم عليه ، والذي يلفت النظر ما يتعلق بقيام الساعة في يوم الجمعة من قوله صلى الله عليه وسلم : " وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس " ففيه التصريح بأن الدواب عندها هذا الإدراك الذي تفرق به بين أيام الأسبوع ، وعندها هذا الإيمان بيوم القيامة والإشفاق منه ، وأخذ منه العلماء أن الساعة تكون في يوم الجمعة وفي أوله ، فإذا كان هذا أمرا غيب عنا فقد أخبرنا به - صلى الله عليه وسلم - فعلينا أن نعطي هذا اليوم حقه من الذكر والدعاء ، مما يليق من العبادات إشفاقا أو تزودا لهذا اليوم ، لا أن نجعله موضع النزهة واللعب والتفريط ، وقد يكون إخفاؤها مدعاة للاجتهاد كل اليوم كليلة القدر ، وقد نفهم من هذا كله المعنى الصحيح لحديث : " من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب [ ص: 165 ] بدنة " إلى آخره ، وأن الحق فيه ما ذهب إليه الجمهور على ما سيأتي إن شاء الله عند مناقشة وقت السعي إلى الجمعة .

    قال النيسابوري في تفسيره : وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة ، إذ البكور إليها من شدة العناية بها .
    قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله .

    قرأ الجمهور : ( فاسعوا ) ، وقرأها عمر : ( فامضوا ) ، روى ابن جرير - رحمه الله - أنه قيل لعمر رضي الله عنه : إن أبيا يقرؤها ( فاسعوا ) ، قال : أما إنه أقرؤنا وأعلمنا بالمنسوخ ، وإنما هي ( فامضوا ) .

    وروي أيضا عن سالم أنه قال : ما سمعت عمر قط يقرؤها إلا فامضوا .

    وبوب له البخاري قال باب قوله : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم [ 62 \ 3 ] ، وقرأ عمر : فامضوا ، وذكر القرطبي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأه : فامضوا إلى ذكر الله ، وقال : لو كانت ( فاسعوا ) لسعيت حتى يسقط ردائي . اهـ .

    وبالنظر فيما ذكره القرطبي نجد الصحيح قراءة الجمهور لأمرين ، الأول : لشهادة عمر نفسه - رضي الله عنه - أن أبيا أقرؤهم وأعلمهم بالمنسوخ ، وإذا كان كذلك فالقول قوله ; لأنه أعلمهم وأقرؤهم . أما قراءة ابن مسعود فقال القرطبي : إن سنده غير متصل ; لأنه عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود ، وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود شيئا . اهـ .

    وقد اختلف في معنى السعي هنا ، وحاصل أقوال المفسرين فيه على ثلاثة أقوال لا يعارض بعضها بعضا :

    الأول : العمل لها ، والتهيؤ من أجلها .

    الثاني : القصد والنية على إتيانها .

    الثالث : السعي على الأقدام دون الركوب .

    واستدلوا لذلك بأن السعي يطلق في القرآن على العمل ، قاله الفخر الرازي . وقال : هو مذهب مالك والشافعي ، قال تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض [ 2 \ 205 ] ، وقال : [ ص: 166 ] إن سعيكم لشتى [ 92 \ 4 ] ، أي العمل .

    واستدلوا للثاني بقول الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ، ولكن سعي القلوب والنية .

    واستدلوا للثالث بما في البخاري عن أبي عبس بن جبر واسمه عبد الرحمن ، وكان من كبار الصحابة مشى إلى الجمعة راجلا ، وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار " . ذكره القرطبي ، ولم يذكره البخاري في التفسير .

    وبالتأمل في هذه الأقوال الثلاثة نجدها متلازمة لأن العمل أعم من السعي ، والسعي أخص ، فلا تعارض بين أعم وأخص ، والنية شرط في العمل ، وأولى هذه الأقوال كلها ما جاء في قراءة عمر - رضي الله عنه - الصحيحة : ( فامضوا ) ، فهي بمنزلة التفسير للسعي .

    وروي عن الفراء : أن المضي والسعي والذهاب في معنى واحد ، والصحيح أن السعي يتضمن معنى زائدا وهو الجد والحرص على التحصيل ، كما في قوله تعالى : والذين سعوا في آياتنا معاجزين [ 22 \ 51 ] ، بأنهم حريصون على ذلك : وهو أكثر استعمالات القرآن .

    قال الراغب الأصفهاني : السعي المشي السريع ، وهو دون العدو ، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا ، قال تعالى : وسعى في خرابها [ 2 \ 114 ] . وإذا تولى سعى في الأرض [ 2 \ 205 ] ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها [ 17 \ 19 ] ، وجمع الأمرين الخير والشر : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى [ 53 \ 39 - 40 ] ، وهو ما تشهد له اللغة ، كما في قول زهير بن أبي سلمى :


    سعى ساعيا غيظ ابن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم


    وكقول الآخر :


    إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد


    [ ص: 167 ] تنبيه

    من هذا كله يظهر أن السعي هو المضي مع مراعاة ما جاء في السنة من الحث على السكينة والوقار لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .

    وهذا أمر عام لكل آت إلى كل صلاة ولو كان الإمام في الصلاة لحديث أبي قتادة عند البخاري قال : بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال : ما شأنكم ؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ، قال : " فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " . ا هـ .

    وكذلك حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - لما ركع خلف الصف ودب حتى دخل في الصف وهو راكع ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " زادك الله حرصا ، ولا تعد " على رواية تعد من العود .
    وهنا يأتي مبحث بم تدرك الجمعة ؟

    الأقوال في القدر الذي به تدرك الجمعة ثلاثة ، وتعتبر طرفين وواسطة .

    الطرف الأول : القول بأنها لا تدرك إلا بإدراك شيء من الخطبة ، هذا ما حكاه ابن حزم عن مجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وعمر ، ولم يذكر له دليلا .

    والقول الآخر : تدرك ولو بالجلوس مع الإمام قبل أن يسلم ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، ومذهب ابن حزم ، بل عند أبي حنيفة رحمه الله : أنه لو أن الإمام سها وسجد ، وفي سجود السهو أدركه المأموم لأدرك الجمعة بإدراكه سجود السهو مع الإمام ; لأنه منها ، ولكن خالف الإمام أبا حنيفة صاحبه محمد على ما سيأتي .

    والقول الوسط هو قول الجمهور : أنها تدرك بإدراك ركعة كاملة مع الإمام ، وذلك بإدراكه قبل أن يرفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية ، فحينئذ يصلي مع الإمام ركعة ثم يضيف إليها أخرى وتتم جمعته بركعتين ، وإلا صلى ظهرا .

    أما الراجح من ذلك فهو قول الجمهور للأدلة الآتية :

    أولا : أن القول الأول لا دليل عليه أصلا ، ويمكن أن يلتمس لقائله شبهة من قوله [ ص: 168 ] تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، لحمل ذكر الله على خصوص الخطبة لقوله تعالى بعدها : فإذا قضيت الصلاة .

    فسمى الصلاة في الأول بالنداء إليها ، وسمى الصلاة أخيرا بانقضائها ، وذكر الله جاء بينهما ولكن يرده استدلال الجمهور الآتي .

    والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، وابن حزم استدل له بحديث " فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .

    والجمعة ركعتان فقط ، فإتمامها بتمام ركعتين ، واعتبروا إدراك أي جزء منها إدراكا لها ، وقد خالف أبا حنيفة في ذلك صاحبه محمد لأدلة الجمهور الآتية :

    وأدلة الجمهور من جانبين :

    الأول : خاص بالجمعة ، وهو حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى " أي فتتم له جمعة بركعتين ، وأخذوا من مفهوم إدراك ركعة ، أن من لم يدرك ركعة كاملة فلا يصح له أن يضيف لها أخرى ، وعليه أن يصلي ظهرا .

    والجانب الثاني : عام في كل الصلوات ، وهو حديث الصحيحين : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " .

    وقد رد الأحناف على الحديث الأول بأنه ضعيف ، واعتبروا الإدراك في الحديث الثاني ، يحصل بأي جزء .

    ورد عليهم الجمهور بالآتي :

    أولا : الحديث الخاص بمن أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى ، ذكره ابن حجر في بلوغ المرام .

    وقال : رواه النسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني واللفظ له ، وإسناده صحيح ، لكن قوى أبو حاتم إرساله ، وقال الصنعاني في الشرح : وقد أخرج الحديث من ثلاث عشرة طريقا عن أبي هريرة ، ومن ثلاث طرق عن ابن عمر ، وفي جميعها مقال إلى أن قال : ولكن كثرة طرقه يقوي بعضها بعضا ، مع أنه خرجه الحاكم من ثلاث طرق :

    [ ص: 169 ] إحداها : من حديث أبي هريرة : وقال فيها على شرط الشيخين إلى آخره . اهـ .

    وقال النووي في المجموع : ويغني عنه ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " فهذا نص صحيح ، وهو صريح في أن إدراك الصلاة إنما هو بإدراك ركعة ، وبالإجماع لا يكون إدراك الركعة بإدراك الجلوس قبل السلام ، لأن من دخل مع الإمام في إحدى الصلوات وهو جالس في التشهد لا يعتد بهذه الركعة إجماعا ، وعليه الصلاة كاملة .

    والنص الخاص أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى يجعل معنى الإدراك لركعة كاملة يعتد بها ، ومن لم يدرك ركعة كاملة لم يكن مدركا للجمعة .

    وقد حكى النووي في المجموع أن الجمعة تدرك بركعة تامة لحديث الصحيحين المذكور ، وقال : احتج به مالك في الموطأ ، والشافعي في الأم وغيرهما .

    وقال الشافعي معناه : لم تفته تلك الصلاة ، ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين ، وقال : وهو قول أكثر العلماء ، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، والأسود ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير ، والنخعي ، والزهري ، ومالك ، والأوزاعي ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي يوسف .

    وتقدم أن الذي وافق الجمهور من أصحاب أبي حنيفة ، إنما هو محمد لما في كتاب الهداية ما نصه :

    وقال محمد رحمه الله : إن من أدرك أكثر الركعة بنى عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر .

    وفي الشرح : أن أكثر الركعة هو بإدراك الركوع مع الإمام .

    وبالنظر في الأدلة نجد رجحان أدلة الجمهور للآتي :

    أولا : قوة استدلالهم بعموم : " من أدرك من الصلاة ركعة ، فقد أدرك الصلاة " ، وهذا عام في الجمعة وفي غيرها ، وهو من أحاديث الصحيحين .

    ثم بخصوص : " من أدرك من الجمعة ركعة مع الإمام فليضف إليها أخرى " ، وتقدم [ ص: 170 ] الكلام على سنده وتقوية طرقه بعضها ببعض .

    وقد أشرنا إلى معنى الإدراك وهو ما يمكن الاعتداد به في عدد الركعات ، وهي نقطة هامة لا ينبغي إغفالها ، وأن مفهوم من أدرك ركعة مع الإمام فليضف إليها أخرى ، أن من لم يدرك ركعة كاملة لا يتأتى له أن يضيف إليها أخرى ، بل عليه كما قال الجمهور أن يصلي أربعا .

    ثانيا : ضعف استدلال المعارض ; لأن : " ما أدركتم فصلوا " على من أدرك من الجمعة ركعة خاص بها .

    ثم إن معنى الإدراك ليس كما ذهب المستدل إليه ، بل لا بد أن يكون إدراكا لما يعتد به .

    وأشرنا إلى أن الإجماع على أن من لم يدرك ركعة كاملة لا يعتد بها في عدد الركعات ، ويشير إلى هذا المعنى حديث أبي بكرة حيث ركع قبل أن يصل إلى الصف ; ليدرك الركعة قبل أن يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه ، ولو كان إدراك الركعة يتم بأي جزء منها لما فعل أبو بكرة هذه الصورة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " هذا زادك الله حرصا ولا تعد " .

    ومعلوم أنه اعتد بتلك الركعة لإدراكه الركوع منها ، وبهذا تعلم أنه لا دليل لمن اشترط إدراك شيء من الخطبة ; لأن من أدرك ركعة فقد فاتته الخطبة كلها ، وفاتته الأولى من الركعتين ، وأدرك الجمعة بإدراك الثانية ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #553
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (552)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 171 إلى صـ 178




    حكم صلاة الجمعة عند الفقهاء

    قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله .

    فيه الأمر بالسعي إذا نودي إليها ، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف ، ولا صارف له هنا ، فكان يكفي حكاية الإجماع على وجوبها ، كما حكاه ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما ، ونقله الشوكاني ، وهو قول الأئمة الأربعة رحمهم الله ، ولكن وجد من يقول : إن الجمعة ليست واجبة ، ولعله ظن أن في الآية صارفا للأمر عن الوجوب ، وهو ما جاء في آخر السياق في قوله تعالى : وذروا البيع ذلكم خير لكم فقالوا : إن الأمر لتحصيل الخير المذكور ، وقد نقل عن بعض أتباع بعض الأئمة - رحمهم الله - ما يوهم أنها ليست بفرض ، وهو مسطر في كتبهم ، مما قد يغتر به بعض البسطاء ولا سيما مع ضعف [ ص: 171 ] الوازع وكثرة الشاغل في هذه الآونة ، مما يستوجب إيراده وبيان رده من أقوال أصحابهم وأئمتهم رحمهم الله جميعا .

    فعند المالكية حكاية ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة .

    وعند الشافعية قال الخطابي : فيها الخلاف هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية ؟

    وعند الأحناف قال في شرح الهداية : وقد نسب إلى مذهب أبي حنيفة أنها ليست بفرض .

    وكلها أقوال مردودة في المذهب من أصحابهم وأئمة مذاهبهم ، فلزم التنبيه عليها ، وبيان الحق فيها من كتبهم ، ومن كلام أصحابهم ، وإليك بيان ذلك :

    أما ما نسب لمالك - رحمه الله - فقد حكاه ابن العربي عن ابن وهب ورده بقوله : وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة ، ورد عليه قوله بتأويلين : أحدهما أن مالكا يطلق السنة على الفرض ، والثاني : أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيها سائر الصلوات ، حسب ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله المسلمون ، وقد روى ابن وهب عن مالك : عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء . ا هـ . نقلا من نيل الأوطار .

    ومما يؤيد قول ابن العربي في الوجه الأول ما ذكره الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن مالك وغيره في تحرزهم في الفتيا من قول حلال وحرام وواجب . . . إلخ ، في سياق ما وقع من خلاف والنهي عن التعصب ، وأن مالكا أشد تحفظا في ذلك ، ومما يؤيد الوجه الثاني أيضا رواية المدونة بما نصه ما قول مالك : إذا اجتمع الأضحى والجمعة أو الفطر فصلى رجل من أهل الحضر العيد مع الإمام ثم أراد ألا يشهد الجمعة هل يضع ذلك عنه شهود صلاة العيد ما وجب عليه من إتيان الجمعة ؟ قال لا ، كان مالك يقول : لا يضع ذلك عنه ما وجب عليه من إتيان الجمعة ، وقال مالك : ولم يبلغني أن أحدا أذن لأهل العوالي إلا عثمان ، ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان ، وكان يرى أن من وجبت عليه الجمعة لا يضعها عنه إذن الإمام ، وإن شهد مع الإمام قبل ذلك من يومه ذلك عيدا . اهـ من المدونة ، فهذه نصوص صريحة عن مالك أن الجمعة واجبة لا يضعها عمن وجبت عليه إذن الإمام بصرف النظر عن فقه مسألة العيد والجمعة ، فإن فيها خلافا مشهورا ، ولكن يهمنا [ ص: 172 ] تنصيص مالك على خصوص الجمعة ، وفي مختصر خليل عند المالكية ، ما نصه : ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر ، قال شارحه الخرشي : لزمت ووجب إثم تاركها وعقوبته ، فهذه أقوال المالكية وحقيقة مذهب مالك رحمه الله .

    أما الشافعية فقال صاحب المهذب ، ما نصه : صلاة الجمعة واجبة لما روى جابر وساق حديثه ، وقال النووي في المجموع شرح المهذب : إنما تتعين على كل مكلف حر ذكر مقيم بلا مرض ونحوه ، إلى أن قال : أما حكم المسألة فالجمعة فرض عين على كل مكلف غير أصحاب الأعذار ، والنقص المذكور بين هذا هو المذهب ، وهو المنصوص للشافعي في كتبه ، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما من بعض الأصحاب أنه غلط ، فقال : هي فرض كفاية ، قالوا : وسبب غلطه أن الشافعي قال : من وجبت عليه الجمعة وجبت عليه صلاة العيدين ، وغلط من فهمه ; لأن مراد الشافعي من خوطب بالجمعة وجوبا خوطب بالعيدين متأكدا ، واتفق القاضي أبو الطيب وسائر من حكى هذا الوجه على غلط قائله ، قال القاضي أبو إسحاق المروزي : لا يحل أن يحكى هذا عن الشافعي ولا يختلف أن مذهب الشافعي : أن الجمعة فرض عين ، ونقل ابن المنذر في كتابيه كتاب الإجماع والإشراق : إجماع المسلمين على وجوب الجمعة . اهـ من المجموع للنووي ، وهذا الذي حكاه النووي وابن المنذر والمروزي عن الشافعي هو المنصوص عنه في كتاب الأم للشافعي نفسه ، قال مجلد ( 1 ) ص 881 تحت عنوان : إيجاب الجمعة بعدما ذكر الآية إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، قال : ودلت السنة من فرض الجمعة على ما دل عليه كتاب الله تبارك وتعالى وساق حديث : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع " إلى أن قال : والتنزيل ثم السنة يدلان على إيجاب الجمعة ، وقال : ومن كان مقيما ببلد تجب فيه الجمعة من بالغ حر لا عذر له وجبت عليه الجمعة ، فهذه نصوص الشافعي عامة في الوجوب وخاصة في الأعيان ، وهذا بيان كاف لمذهب الشافعي - رحمه الله - من نص كتابه الأم . اهـ .

    الحديث الذي استدل به الشافعي رحمه الله : " نحن الآخرون السابقون " هو عين الحديث الذي بوب عليه البخاري وجوب الجمعة ، ووجه الاستدلال منه قوله صلى الله عليه وسلم : " ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم " ففيه التنصيص على الفرضية .

    [ ص: 173 ] أما الأحناف ، فقال في شرح الهداية ما نصه : وقد نسب إلى مذهب أبي حنيفة أنها ليست بفرض ، ثم قال : وهذا من جهلهم ، وسبب غلطهم قول القدوري : ومن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته ، وإنما أراد حرم عليه وصحت الظهر بترك الفرض ، إلى آخره .

    ثم قال : وقد صرح أصحابنا بأنها فرض آكد من الظهر ، وذكر أول الباب ، اعلم أن الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع ، فحكي الإجماع على وجوبها وجهل من نسب إلى مذهبهم القول بعدم فرضيتها ، وهذه أيضا حقيقة مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وأنها عند أصحابه آكد من الظهر .

    أما الحنابلة ، فقال في المغني ما نصه : الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع ، وساق الآية : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة الآية ، وقال بعدها : فصل : وتجب الجمعة والسعي إليها سواء كان من يقيمها سنيا أو مبتدعا أو عدلا أو فاسقا ، نص عليه أحمد ، وهذا أعم وأشمل ، حتى مع الإمام غير العادل وغير السني .

    فهذه نصوص المذاهب الأربعة في وجوب الجمعة وفرضها على الأعيان ، فلم يبق لأحد بعد ذلك أدنى شبهة يلتمسها من أي مذهب ، ولا تتبع شواذه للتهاون بفرض الجمعة لنيابة الظهر عنها .

    ثم اعلم أن في الآية قرينة على هذا الوجوب ، وأنه لا صارف للأمر عن وجوب السعي إليها ، وذلك أن مع الأمر بالسعي إليها الأمر بترك البيع والنهي عنه ، وإذا كان ترك البيع واجبا من أجلها فما وجب هو من أجله كان وجوبه هو أولى ، قال في المغني : فأمر بالسعي ، ويقتضي الأمر الوجوب ولا يجب السعي إلا إلى الواجب ، ونهى عن البيع لئلا يشغل به عنها ، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها ، وهو واضح كما ترى ، والأحاديث في الوعيد لتاركها بدون عذر مشهورة تؤكد هذا الوجوب .

    من ذلك حديث أبي الجعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله عليه قلبه " ، رواه أبو داود ، وسكت عنه .

    وفي المنتقى ، قال : رواه الخمسة أي ما عدا البخاري ومسلما ، وفي المنتقى عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما - سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره : " لينتهين [ ص: 174 ] أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين " ، رواه مسلم .

    وعن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : " لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم " رواه أحمد ومسلم .

    وقد فسر الطبع في حديث أبي الجعد بأنه طبع النفاق ، كما في قوله تعالى في سورة " المنافقون " : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 63 \ 3 ] ، وقيل : طبع ضلال ، كما في الحديث . ثم يكون أي : القلب كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، نسأل الله العافية والسلامة لنا ولجميع المسلمين والتوفيق لفضل هذا اليوم الذي خص الله به هذه الأمة .
    مسألة

    من المخاطب بالسعي هنا ؟ ، أي : من الذي تجب عليه الجمعة ؟ تستهل الآية الكريمة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا ، وهو نداء عام لكل مؤمن ذكر ، وأنثى ، وحر ، وعبد صحيح ومريض ، فشمل كل مكلف على الإطلاق كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام .

    وقوله تعالى : ( فاسعوا ) الواو فيه للجمع ، وإن كانت للمذكر إلا أنها عائدة إلى الموصول السابق وهو عام كما تقدم ، فيكون طلب السعي متوجها إلى كل مكلف إلا ما أخرجه الدليل .

    وقد أخرج الدليل من هذا العموم أصنافا ، منها : المتفق عليه ، ومنها المختلف فيه .

    فمن المتفق عليه : ما أخرج من عموم خطاب التكليف كالصغير والنائم والمجنون لحديث " رفع القلم عن ثلاثة " .

    وما خرج من خصوص الجمعة ، كالمرأة إجماعا فلا جمعة على النساء ، وكالمريض فلا جمعة عليه اتفاقا كذلك .

    وهو من يشق عليه أو يزيد مرضه ، ومن يمرضه تابع له ، وقد اختلف في المسافر [ ص: 175 ] والمملوك ، ومن في حكم المسافر وهم أهل البوادي .

    قال القرطبي : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا خطاب للمكلفين بإجماع ويخرج منه المرضى ، والزمنى ، والعبيد ، والنساء بالدليل ، والعميان ، والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة .

    روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا ، أو مسافرا ، أو امرأة ، أو صبيا ، أو مملوكا ، فمن استغنى بلهو ، أو تجارة ، استغنى الله عنه ، والله غني حميد " ، خرجه الدارقطني . اهـ .

    ويشهد لما رواه القرطبي ما رواه ابن حجر في بلوغ المرام عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوكا ، وامرأة ، وصبيا ، ومريضا " ، رواه أبو داود .

    وقال : طارق لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أبو داود أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه ، وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى . اهـ .

    قال الصنعاني : يريد المؤلف بهذا ، أي برواية عن أبي موسى أنه أصبح متصلا .

    قال : وفي الباب عن تميم الداري ، وابن عمر ومولى لابن الزبير ، رواه البيهقي وناقش سنده .

    وقال : وفيه أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا " خمسة لا جمعة عليهم : المرأة ، والمسافر ، والعبد ، والصبي ، وأهل البادية " . اهـ .

    وقد ذكر صاحب المنتقى حديث طارق كما ساقه صاحب البلوغ ، وقال الشوكاني فيه : قال الحافظ : وصححه غير واحد .

    وقال الخطابي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، وذكر صحبة طارق ، ونقل قول العراقي ، فإذا ثبتت صحبته فالحديث صحيح ، وغايته أن يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور ، إنما خالف فيه أبو إسحاق الاسفرائيني ، بل ادعى بعض الأحناف الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة . اهـ .

    [ ص: 176 ] وقال الشوكاني : على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى إلى آخره ، أي صار موصولا ، كما قال ابن حجر سابقا .

    ووجه حجية مرسل الصحابي عندهم ، هو أن الصحابي إذا أرسل الحديث ولم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - واسطة وتلك الواسطة هي صحابي آخر والصحابي ثقة ، فتكون الواسطة الساقطة ثقة ، فيصح الحديث ، ولذا ادعى بعض الأحناف أن مرسل الصحابي حجة لهذا السبب ، وعلى هذا مناقشة أهل الحديث والتفسير لهذه المسألة ، وبالتأمل في الآية الكريمة وعموم السياق يظهر من مجموعه شهادة القرآن ، إلى صحة ذلك لدلالة الإيماء .

    أما عن النساء ففيه الإجماع كما تقدم ، ويشهد له أن الدعوة إلى السعي إلى الجمعة ، وترك البيع من أجلها ، ثم الانتشار بعدها في الأرض والابتغاء من فضل الله بالعمل والكسب يشعر بأن هذا كله للرجال ; لأن المرأة محلها في بيتها ، كما في قوله تعالى : وقرن في بيوتكن [ 33 \ 33 ] .

    وتقدم لفضيلة والدنا الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث مفصل استدل بدليل قرآني على سقوط الجمعة عن النساء ، وذلك عند قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال [ 24 \ 36 - 37 ] . وبين - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مفهوم ( رجال ) هل هو مفهوم صفة أو مفهوم لقب ، وساق علاقة النساء بالمساجد في الجمعة وغيرها .

    أما المملوك فمما يستأني له أيضا من السياق في قوله تعالى : وذروا البيع ، إذ البيع والشراء ابتداء ليس من حق العبيد إلا بإذن السيد . وقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، فإن المملوك لا ينتشر في الأرض إلا بإذن السيد أيضا ، وكذلك المسافر فليس مشتغلا ببيع ولا محل اشتغال به ، وهو منتشر في الأرض بسفره وسفره شاغل له ، وبسفره يقصر الصلاة ويجمعها .

    وقد حكى الشوكاني الاتفاق بين الفقهاء على سقوط الجمعة عن المملوك إلا داود ، [ ص: 177 ] وكذلك المسافر إذا كان سائرا ، أما إذا كان نازلا ، فخالف فيه داود أيضا .

    ومما استدل به الجمهور على سقوط الجمعة عن المسافر وقت نزوله ما وقع من فعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، إذ كانت الوقفة يوم الجمعة ، وكان - صلى الله عليه وسلم - نازلا ولم يصل الجمعة ، بدليل أنه لم يجهر بالقراءة ، ونازع في ذلك ابن حزم وقال : غاية ما فيه ترك الجهر في الجهرية ، وهذا لا يبطلها ، ولكن يمكن أن يقال له : لقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " .

    والصلاة أثناء الحج مما يؤخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - كالجمع تقديما في عرفة ، وتأخيرا في مزدلفة ، ولا يتأتى أن يترك الجهر في الجهرية وهو أقل ما فيه أنه خلاف الأولى ويأمرهم أن يأخذوه عنه .

    ومن هذا كله صح ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا جمعة على مملوك ولا مسافر ، كما لا جمعة على المرأة والمريض ، وبالله تعالى التوفيق .

    قال ابن كثير : وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان ، ويعذر المسافر ، والمريض ، ويتم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار .

    أما سقوطها عن أهل البوادي ومن في حكمهم ، فهو قول للجمهور مع اختلافهم في تحقيق المناط في ذلك بين المصر والقرية ، والبادية ، وبالرجوع إلى أقوال الأئمة نجد الخلاف الآتي أقوال الأئمة في مكان الجمعة .

    أولا : عند أبي حنيفة - رحمه الله - قال في الهداية ما نصه : لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر ، ولا تجوز في القرية لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا فطر ، ولا أضحى إلا في مصر جامع " .

    وفسر الشارح ابن الهمام المصر بقوله : والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود ، وناقش الأثر الذي أورده المصنف قائلا : رواه ابن أبي شيبة موقوفا على علي رضي الله عنه : لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة ، صححه ابن حزم .

    ورواه عبد الرزاق من حديث عبد الرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - قال : لا تشريق ، ولا جمعة ، إلا في مصر جامع . اهـ .

    [ ص: 178 ] وذكر هذا الأثر القرطبي موقوفا على علي رضي الله عنه .

    وعند المالكية قال في متن خليل في فصل شروط الجمعة ما نصه : باستيطان بلد أو أخصاص لا خيم .

    وفسر الشارح الاستيطان بالعزم على الإقامة على نية التأبيد ، ولا تكفي نية الإقامة ولو طالت ، وجاء في المتن بعدها قوله : ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر المتوطن .

    وقال الشارح على كلمة متوطنا : هو أيضا من شروط الوجوب ، يعني : أنه يشترط في وجوبها الاستيطان ببلد يتوطن فيه ويكون محلا للإقامة يمكن الشراء فيه ، وإن بعدت داره من المنارة سمع النداء أو لم يسمع ، ولو على خمسة أميال أو ستة إجماعا ، لا تجب على مسافر ، ولا مقيم ولو نوى إقامة زمنا طويلا إلا تبعا . اهـ . أي تبعا لغيره .

    وعند الشافعي قال في المهذب ما نصه : ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية ; لأنه لم تقم جمعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية ، ولم ينقل أنها أقيمت في بدو ، فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز ; لأنه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو ، وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته ، فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها ; لأنهم في موضع الاستيطان .

    قال النووي في الشرح ما نصه : قال أصحابنا : يشترط لصحة الجمعة أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها شتاء وصيفا من تنعقد بهم الجمعة .

    قال الشافعي والأصحاب : سواء كان البناء من أحجار ، أو أخشاب ، أو طين ، أو قصب ، أو سعف أو غيرها ، وسواء فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق والقرى الصغار ، والأسراب المتخذة وطنا ، فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح الجمعة بلا خلاف ; لأنها لا تعد قرية ويرجع في الاجتماع والتفرق إلى العرف .

    وأما أهل الخيام فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء وصيفا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض فقولان ، ثم قال : أصحهما باتفاق الأصحاب لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم ، وبه قطع الأكثرون ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، ثم ذكر الدليل بقوله لحديث : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، ولم يصل هكذا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #554
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (553)
    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    صـ 179 إلى صـ 186


    [ ص: 179 ] وعند الحنابلة قال في المغني ، ما نصه :

    فصل : فأما الاستيطان فهو شرط في قول أكثر أهل العلم ، وهو الاستيطان في قرية على الأوصاف المذكورة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء ، ولا تجب على مسافر ، ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف ، أو في بعض السنة .

    فإن خربت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون فيها عازمون على إصلاحها فحكمها باق في إقامة الجمعة بها وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان .

    هذه خلاصة أقوال أهل المذاهب الأربعة متفقة على اشتراط الوطن والاستيطان ، وإن اختلفت في صفة الوطن من مصر أو قرية أو نحوها مبنية بحجر أو طين ، أو أخشاب ، أو خيام ثابتة صيفا وشتاء على ما تقدم .

    وقد انفرد أبو حنيفة ومعه صاحبه أبو يوسف باشتراط وجود الأمير والقاضي الذي يقيم الحدود احترازا من القاضي الذي لا يقيم الحدود ، كقاضي السوق ، أو إذا كان من يلي القضاء امرأة على مذهبه في ذلك وهي لا تقضي في الحدود لعدم جواز شهادتها فيها ، واكتفى الأئمة الثلاثة بمطلق الاستيطان ، ومعلوم أن الاستيطان يستلزم الإمارة شرعا وعقلا .

    أما شرعا ، فلقوله صلى الله عليه وسلم : " ما من ثلاثة لا يؤمرون عليهم أميرا إلا استحوذ عليهم الشيطان " .

    وعقلا ، فإن مستوطنين لا تسلم أحوالهم من خلافات ، ومشاحة فيما بينهم فلا بد من شخص يرجعون إليه ، وهو في معنى الأمير المطلوب ، كما أن الاستيطان يستلزم السوق لحوائجهم كما هو معلوم عرفا .

    وقد استدل الجمهور بحديث ابن عباس رضي الله عنه : أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثى ، وبحديث أبي أمامة أنه جمع بهم بالمدينة قبل مجئ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هزم من حرة بني بياضة يقال له : نقيع الخضمات ، مما لا يستلزم المصر الذي اشترطه أبو حنيفة رحمه الله .

    [ ص: 180 ] وأجاب الأحناف عن ذلك بعدم المعارضة بين حديث علي وحديث ابن عباس ، وفعل أبي أمامة ، وقالوا : إن قول علي لا يكون إلا عن سماع ، ولأن قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، ليس على إطلاقه بإنفاق الأمة ، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعا ، ولا في كل قرية عند ابن عباس ، بل يشترط ألا يظعن أهلها عنها صيفا ولا شتاء ، فكان خصوص المكان مرادا فيها إجماعا ، فقدر القرية من أخذ بحديث ابن عباس بأنها القرية الخاصة ، وقدر الأحناف المصر وقالوا : هو أولى لنص حديث علي : " إلا في مصر جامع " ، وقالوا : إن إقامتها في قرية جواثى غاية ما فيه تسمية جواثا قرية ، وهذه التسمية هي عرف الصدر الأول ، وهو لغة القرآن في قوله تعالى : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] أي : مكة والطائف ، ومكة بلا شك مصر ، وفي الصحاح أن جواثا حصن بالبحرين ، فهي مصر إذ الحصن لا يخلو عن حاكم عليهم وعالم ، أما صلاة أبي أمامة فلم تكن عن علم ولا تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا كانت شرعت الجمعة آنذاك ، فلا حجة فيه . والذي يقتضيه النظر بين هذه الأقوال والله تعالى أعلم : أن رأي الجمهور أرجح . ويتمشى مع قواعد مذهب أبي حنيفة في الجملة ; لأن الأحناف يتفقون مع الجمهور على تسمية المصر قرية كتسمية الطائف ومكة قرى .

    وجاء في القرآن : مكة : أم القرى [ 6 \ 92 ] ، فالقرية أعم من المصر ، ومذهب أبي حنيفة تقديم العام على الخاص في كثير من الأمور ، كما في حديث : " فيما سقت السماء العشر " ، فقدمه على حديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ، ومن هذا كله يتضح أن الاستيطان مجمع عليه ، فلا تصح في غير وطن ، ولا تلزم غير مستوطن ، ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة ، وشذ عن الأمة ، وليس له سلف فيما ذهب إليه ، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة ; لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله ، وترك البيع حتى لا يشغل عنها ، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها ; لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله أن هناك جماعة نوديت وكلفت باستجابة النداء والسعي ، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي ، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة لا يكون عقدا بين اثنين فقط ، ولا يكون عملا فرديا بل يشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين ومبايعات متعددة مما يشكل حالة السوق ، والسوق لا يكون في البوادي بل في القرى وللمستوطنين .

    [ ص: 181 ] والعادة أن أهل البوادي ينزلون إلى القرى والأمصار ; للتزود من أسواقها ، وإذا وجد السوق ، ووجدت الجماعة ، اقتضى ذلك وجود الحاكم لاحتمال المشاحة والمنازعات ، كما تقدم استلزام ذلك شرعا وعقلا ، كما أن قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، يدل على الكثرة ; لأن مادة الانتشار لا تطلق على الواحد ولا الاثنين ، كما في حديث : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ، ومنه انتشار الخبر لا يصدق على ما يكون بين اثنين ، أو أكثر ، إذا كانوا يتكتمون ، فإذا استفاض وكثر من يعرفه ، قيل له : انتشر الخبر .

    قال صاحب معجم مقاييس اللغة في مادة نشر : النون والشين والراء أصل صحيح يدل على فتح شيء وتشعبه ، فقوله : وتشعبه يدل على الكثرة .

    وقال يقال : اكتسى البازي ريشا نشرا ، أي : منتشرا واسعا طويلا ، ومعلوم أن ريش البازي كثير ، وهذا الوصف لا يتأتى من نفر قلائل في بادية ، بل لا يتأتى تحققه إلا من أهل القرى المستوطنين . ولعلنا في هذا قد أوضحنا هذه المسألة خاصة لهؤلاء الذين يقولون : إن الجمعة كالجماعة تصح من أي عدد في أي مكان على أية حالة كانوا ، وهو قول في الواقع لم يكن لهم فيه سلف ، وخالفوا به السلف والخلف ، مع ما في قولهم من هدم حكمة التشريع في إقامة الجمعة ، حيث إننا وجدنا حكمة الجماعة في العدد القليل ، ولأهل كل مسجد في كل ضاحية .

    ثم نأت الجمعة لأهل القرية والمصر ، ومن في ضواحيها على بعد خمسة أو ستة أميال ، كما قال المالكية ، وكما كان السلف يأتون إلى المدينة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من تجمع للمسلمين على نطاق أوسع من نطاق الجماعة .

    ثم يأتي العيد وهو على نطاق أوسع فيشمل حتى النساء يحضرن ذلك اليوم ، ثم يأتي الحج يأتون إليه من كل فج عميق ، ولعل مما يشهد لهذا ويرد على من خالفه ، ما جاء في اجتماع العيد والجمعة ، إذ خيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين النزول إلى الجمعة ، و بين الاكتفاء بالعيد أي : أهل الضواحي .

    ثم أخبرهم بأنه سيصلي الجمعة ، فلو أن الجمعة تصح منهم في منازلهم وضواحيهم ; لأرشدهم إلى ذلك وأعفاهم من النزول سواء في يوم العيد الذي يكون في يوم الجمعة ، أو [ ص: 182 ] في الجمعة من غير يوم العيد ، بل كانوا ينزلون من أطراف المدينة كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .
    العدد في الجمعة

    والواقع أن مسألة العدد في الجمعة قد كثر الخلاف فيها ، فمن قائل : تصح بواحد مع الإمام ، وعزاه ابن رشد للطبري ، ومن قائل باثنين مع الإمام وعزاه القرطبي للحسن ، ومن قائل بثلاثة مع الإمام وعزي لأبي حنيفة ، ومن قائل باثني عشر رجلا ، وعزاه القرطبي لربيعة ، ومن قائل بثلاثين ، ومن قائل بأربعين ، وهو قول الشافعي وأحمد . ومن قائل بكل عدد يتأتى في قرية مستوطنة ، وألا يكونوا ثلاثة ونحوها ، وهو قول مالك . قال في متن خليل : وبجماعة تتقرى بهم قرية بلا حد .

    وقال في الشرح : أي جماعة يمكنهم الدفع عن أنفسهم في الأمور الكثيرة لا النادرة ، وذلك يختلف بحسب الجهات إلى أن قال : وأفهم كلام المؤلف أن الاثني عشر لا تتقرى بهم قرية ، فقوله : بلا حد أي بعد الاثني عشر . اهـ .

    والواقع أن كل هذه الأقوال ليس عليها مستند يعول عليه في العدد ، بحيث لو نقص واحد بطلت ، ولكن الذي يشهد له الشرع من السماحة واليسر ، هو ما قاله مالك رحمه الله ، وما قدمنا من أن السياق يدل على وجود جماعة لها سوق ، ويتأتى منها الانتشار في الأرض بعد انقضاء الصلاة ، ولم نطل الكلام في هذه المسألة لعدم وجود نص صريح فيها ، وكل ما يستدل به فهو حكاية حال تحتمل الزيادة والنقص ولا يعمل بمفاهيمها ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض الآية .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - التنبيه على ما فيها من مبحث أصولي ، وهو الأمر بعد الحظر وأصح ما فيه أنه يرد الأمر المحظور إلى ما كان عليه قبل ورود الحظر عليه .

    مسألة

    وقت السعي إلى الجمعة ظاهر قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، أن السعي يكون بعد النداء ، وعند ترك البيع ، ومفهومه [ ص: 183 ] أن قبل النداء لا يلزم السعي ولا ترك البيع ، وهذا ظاهر من النص ، ولكن جاءت نصوص للحث على البكور إلى الجمعة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : " من بكر ، وابتكر ، ومشى ولم يركب ، وصلى ما تيسر له " . الحديث .

    وحديث : " من راح في الساعة الأولى " إلى آخر الحديث ، فكان البكور مندوبا إليه ، وهذا أمر مسلم به ، ولكن وقع الخلاف بين مالك والجمهور في مبدأ البكور ، ومعنى الساعة الأولى أي ساعة لغوية أو زمنية ، وهل هي الأولى من النهار أو الأولى بعد الأذان ؟ ، فقال مالك : إن الساعة لغوية ، وهي الأولى بعد الأذان ، إذ لا يجب السعي إلا بعده وقبله لا تكليف به .

    وحمل الجمهور الساعة على الساعة الزمنية ، وأن الأولى هي الأولى من النهار ، والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدة أمور :

    أولا : في لفظ حديث البكور ; لأن لفظ البكور لا يكون إلا لأول النهار ، ولا يقال لما بعد الزوال بكور ، بل يسمى عشيا ، كما في قوله تعالى : بكرة وعشيا [ 19 \ 11 ] وتكرار بكر ، وابتكر ، يدل على أنه في بكرة النهار وأوائله ، وكذلك لفظة : " من راح " لأن الرواح لأول النهار .

    ثانيا في الحديث : " وصلى ما تيسر " ، له دليل قاطع على أن هناك زمنا يتسع للصلاة بقدر ما تيسر له . أما على مذهب مالك ، فلا متسع لصلاة بعد النداء ، ولا سيما في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا أذان واحد ، وبعد النداء فلا متسع للصلاة .

    ثالثا : ما جاء عن بعض السلف ، كما تقدم أنه كان يصلي أربعا وثماني واثنتي عشرة ركعة ، وهذا كله لا يكون مع الساعات اللغوية ، وما جاء عند النيسابوري من قوله في تفسيره : وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج .

    وقيل : أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة ، والذي يقتضيه النظر في هذه المسألة ، هو أن زمن السعي له جهتان :

    جهة وجوب وإلزام ، وهذا لا شك أنه بعد النداء إلا من كان محله بعيدا ، بحيث لو انتظر حتى ينادى لها لا يدركها فيتعين عليه السعي إليها قبل النداء اتفاقا ; لأنه لا يتمكن من [ ص: 184 ] أداء ما وجب عليه من صلاة الجمعة إلا بذلك .

    وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهذا مخصوص من ظاهر النص المتقدم .

    الجهة الثانية : جهة ندب واستحباب ، وهذا لا يتقيد بزمن وإنما هو بحسب ظروف الشخص ، فمن تمكن من البكور ، ولم يتعطل ببكوره ما هو ألزم منه ، فيندب له البكور ، وبحسب ما يكون بكوره في الساعات الخمس المذكورة في الحديث يكون ما له من الأجر ، ويشهد لهذا المعنى أمران :

    الأول : حديث الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول ، فإذا حضر الإمام طوت الصحف وجلسوا يستمعون الذكر ، فكتابة الأول فالأول قبل خروج الإمام ، تدل على فضل الأولية قبل النداء كما تقدم .

    الأمر الثاني : أننا وجدنا لكل واجب مندوبا والسعي إلى الجمعة عند النداء واجب ، فيكون له مندوب وهو السعي قبل النداء ، فكما للصلاة والصيام والزكاة واجب ومندوب ، فكذلك للسعي واجب ومندوب ، فواجبه بعد النداء ، ومندوبه قبله ، والله تعالى أعلم .
    الغسل للجمعة

    في قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ترتيب السعي إلى ذكر الله على النداء ، ومعلوم أن هذا مقيد بسبق الطهر إجماعا ، وقد جاء في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ 5 \ 6 ] ، فكانت الطهارة بالوضوء شرطا في صحة الصلاة .

    وهنا في خصوص الجمعة لم يذكر شيء في خصوص الطهر لها بوضوء أو غسل .

    وقد جاءت أحاديث في غسل الجمعة منها حديث أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وسلم : " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " ، وفي لفظ : " طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة " ، وهذا نص صريح في وجوب الغسل على كل من بلغ سن الحلم .

    وجاء حديث آخر : " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ، وهذا نص صريح في أفضلية الغسل على الوضوء ، وبالتالي صحة الجمعة بالوضوء وهذا مذهب الجمهور .

    [ ص: 185 ] وقد جاء عند مالك في الموطأ : أن عثمان دخل يوم الجمعة ، وعمر يخطب فعاتبه على تأخره ، فأخبره أنه ما إن سمع النداء حتى توضأ ، وأتى إلى المسجد ، فقال له : والوضوء أيضا ، وذلك بمحضر من الصحابة ، فلم يأمره بالعودة إلى الغسل ، ولو كان واجبا لما تركه عثمان من نفسه ، ولا أقره عمر وتركه على وضوئه .

    فقال الجمهور : إن الحديث الأول قد نسخ الوجوب فيه بحديث المفاضلة المذكور ، واستدلوا على ذلك بأمرين : الأول قصة عمر مع عثمان هذه .

    والثاني : قول عائشة - رضي الله عنها - كانوا في أول الأمر هم فعلة أنفسهم فكانوا يأتون إلى المسجد ويشتد عرقهم فتظهر لهم روائح فعزم عليهم - صلى الله عليه وسلم - بالغسل ، ولما فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفوا مؤنة العمل ، رخص لهم في ذلك ، وهذا هو مذهب الجمهور ، كما قدمنا .

    وعند الظاهرية وجوب الغسل ، ولكن لليوم لا للجمعة ; لنص الحديث : " غسل يوم الجمعة " ولم يقل الغسل لصلاة الجمعة ، واستدلوا لما ذهبوا إليه من النصوص في تعهد الشعور والأظافر والغسل بصيغة عامة كل يوم على الإطلاق ، وقيدوه في الغسل بخصوص الجمعة ، وعليه فإن من لم يغتسل عندهم قبل الصلاة فعليه أن يغتسل بعدها ، وأنه ليس شرطا عندهم لصحتها ، والذي يظهر هو صحة مذهب الجمهور لأمرين :

    الأول : أن مناسبة الغسل في هذا اليوم أنسب ما تكون لهذا التجمع ، كما أشارت عائشة - رضي الله عنها - فإذا أهدرنا هذه المناسبة كان يوم الجمعة وغيره سواء .

    الثاني : أن سياق الآية يشير إشارة خفية إلى عدم وجوب الغسل ; لأنه لم يذكر نوع طهارة عند السعي بعد الأذان ، ومعلوم أنه لا بد من طهر لها ، فيكون إحالة على الآية الثانية العامة في كل الصلوات : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، فيكتفى بالوضوء وتحصل الفضلية بالغسل ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما .

    في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها .

    وقال الزمخشري : حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وذكر قراءة أخرى ، انفضوا [ ص: 186 ] إليه يعود الضمير إلى اللهو ، وهذا توجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذبيان :


    وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار


    فذكر الدهر والعيش ، وأعاد عليهما ضميرا منفردا اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به ، وهو كما قال ابن مالك : وحذف ما يعلم جائز .

    وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - لهذا نظائر في غير عود الضمير ، كقوله تعالى : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] ، فالتي تقي الحر ، تقي البرد ، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر ، ولكن المقام هنا خلاف ذلك .

    وقد قال الشيخ عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب : لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو ، بدلالة لفظة أو على ذلك ، ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو ، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة ، والجواب : أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سببا في الانفضاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم انفضوا من أجل العير ، واللهو كان من أجل قدومها ، مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله . أما في العطف بأو فواضح ، كقوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا [ 4 \ 112 ] .

    وأما الواو فهو فيها كثير كقوله : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة [ 2 \ 45 ] وقوله : والله ورسوله أحق أن يرضوه [ 9 \ 62 ] ، وقوله : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 \ 34 ] . اهـ .

    أي : أن هذه الأمثلة كلها يذكر فيها أمران ، ويعود الضمير على واحد منهما .

    وبناء على جواب الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - يمكن القول بأن عود الضمير على أحد المذكورين ، إما لتساويهما في الماصدق ، وإما لمعنى زائد فيما عاد عليه الضمير .

    فمن المتساويين قوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما لتساويهما في النهي والعصيان ، ومما له معنى زائد قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها أي : الصلاة ; لأنها أخص من عموم الصبر ، ووجود الأخص يقتضي وجود الأعم دون العكس ، ولأن الصلاة وسيلة للصبر ، كما في الحديث : كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر هم فزع إلى الصلاة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #555
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (554)
    سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
    صـ 187 إلى صـ 194



    [ ص: 187 ] وكذلك قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ، أي : الفضة ; لأن كنز الفضة أوفر ، وكانزوها أكثر فصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع ، ولدى كثير من الناس ، فكان توجيه الخطاب إليهم أولى ، ومن ناحية أخرى لما كانت الفضة من الناحية النقدية أقل قيمة ، والذهب أعظم ، كان في عود الضمير عليها تنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه أشمل وأعم ، وأشد تخويفا لمن يكنزون الذهب .

    أما الآية هنا ، فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - لعود الضمير على التجارة ، فإنه في السياق ما يدل عليه ، وذلك في قوله تعالى بعدها : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة [ 62 \ 11 ] ، فذكر السببين المتقدمين ; لانفضاضهم عنه - صلى الله عليه وسلم - ثم عقبه بقوله تعالى ، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله : والله خير الرازقين [ 62 \ 11 ] ، والرزق ثمرة التجارة ، فكان هذا بيانا قرآنيا لعود الضمير هنا على التجارة دون اللهو ، والعلم عند الله تعالى .

    تنبيه

    قال أبو حيان عن ابن عطية : تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية ; لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين . اهـ .

    يريد بقوله : في الرؤية : ( وإذا رأوا ) ، وبقوله : مع التفضيل : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ، أي : لأن اللهو أبين في الظهور ، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى ، أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط ; لأن اللهو لا خير فيه مطلقا فليس محلا للمفاضلة ، وآخر ذكر التجارة ; لتكون أقرب لذكر الرزق لارتباطهما معا ، فلو قدمت التجارة هنا أيضا لكان ذكر اللهو فاصلا بينها وبين قوله تعالى : والله خير الرازقين ، وهو لا يتناسق مع حقيقة المفاضلة .
    [ ص: 188 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ .

    قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ : الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُنَافِقُو نَ : جَمْعُ مُنَافِقٍ ، وَهُوَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ ، وَيُسِرُّ الْكُفْرَ .

    ( قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) ، أَيْ : قَالُوا ذَلِكَ نِفَاقًا وَخَوْفًا ، وَلَمْ يَقُولُوهُ خَالِصًا مِنْ قُلُوبِهِمْ . وَلِذَا قَالَ اللَّهُ : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ، وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِمْ حَقٌّ ; لِأَنَّ بَوَاطِنَهُمْ تُكَذِّبُ ظَوَاهِرَهُمْ ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا كَسْرُ هَمْزَةِ إِنَّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهَا بَعْدَ فِعْلٍ مُعَلَّقٍ بِاللَّامِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفُتِحَتْ ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْمَصْدَرِ .

    وَلِأَبِي حَيَّانَ قَوْلٌ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ إِذْ قَالَ : إِنَّ قَوْلَهُمْ : ( نَشْهَدُ ) يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ ، وَلِذَلِكَ تُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ ، وَكَذَا فِعْلُ الْيَقِينِ ، وَالْعَلَمُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ : إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ، أَعْنِي : بِقَصْدِ التَّوْكِيدِ بِإِنَّ وَاللَّامِ ، ثُمَّ قَالَ : وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُوَاطِىءَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ ، هَذَا بِالنُّطْقِ وَذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ ، وَفَضَحَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ .

    أَيْ : لَمْ تُوَاطِئُ قُلُوبُهُمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِكَ ، وَاعْتِقَادُهُم ْ أَنَّكَ غَيْرُ رَسُولٍ ، فَهُمْ كَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ ، أَوْ كَاذِبُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ ، إِذْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كَذِبٌ .

    وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيذَانًا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [ 48 \ 28 - 29 ] .

    تَنْبِيهٌ

    [ ص: 189 ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْحَثٌ بَلَاغِيٌّ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ إِلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ فَقَالُوا : الْخَبَرُ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَنْحَصِرُ فِيهِمَا بِلَا وَاسِطَةٍ ، وَالْمُخْبِرُ إِمَّا صَادِقٌ وَإِمَّا كَاذِبٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ أَوْ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِقَادِ .

    قَالَ السَّعْدُ فِي التَّلْخِيصِ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ ، لَا لِلْوَاقِعِ ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَأِ ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْكَذِبِ .

    وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ : مَا كَذَبَ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَاحِظِ وَهُوَ صِدْقُ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ مُسْتَدِلًّا بِالْآيَةِ : وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ، مَعَ قَوْلِهِمْ : إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ خَبَرَهُمْ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ .

    وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجَاحِظِ الْقَوْلُ بِوُجُودِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَهِيَ عَدَمُ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَلَوْ طَابَقَ الْوَاقِعَ ، وَلَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ يَرُدُّ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيُبْطِلُ اسْتِدْلَالَ الْجَاحِظِ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ تَكْذِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ قَالُوا نَشْهَدُ ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوا شَهَادَتَهُمُ التَّأْكِيدَ الْمُشْعِرَ بِالْقَسَمِ وَالْمُوحِيَ بِمُطَابَقَةِ الْقَوْلِ لِمَا فِي الْقَلْبِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي كَوْنِ إِخْبَارِهِمْ بِصُورَةِ الشَّهَادَةِ وَالْحَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَهُوَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِاعْتِقَادِهِم ْ .

    وَالْقُرْآنُ يَنْفِي وُجُودَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [ 10 \ 32 ] .

    أَمَّا فِقْهُ الْيَمِينِ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَأَحْكَامُهَا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ الْآيَةَ [ 5 \ 89 ] .

    [ ص: 190 ] وَذُكِرَ فِي مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ :

    الثَّانِي مِنْهُمَا : هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَيُظْهِرُ خِلَافَهُ وَعَزَاهُ لِمَالِكٍ ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَسَاقَ أَسْمَاءَ كَثِيرِينَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَدِّ اللُّغَوِيِّ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّين َ ، وَالْحَدِّ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ يُقْبَلُ شَرْعًا مَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّهُ حَدُّ عِلْمِهِ ، وَلِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الشَّرْعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
    قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة .

    قرئ ( أيمانهم ) بفتح الهمزة جمع يمين ، وقرئ بكسرها من الإيمان ضد الكفر ، أي : ما أظهروه من أمور الإسلام .

    ومما تقدم أن من أنواع البيان إذا كان في الآية قراءتان ، وفيها ما يرجح إحداهما ، وتقدم كلام أبي حيان تخريجه على اليمين .

    وللشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة التدريس قوله : الأيمان جمع يمين ، وهي الحلف والجنة الترس ، وهو المجن الذي تتقى به السيوف والنبال والسهام في الحرب ، والمعنى أن المنافقين إذا ظهر شيء من نفاقهم أو سمعت عنهم كلمة كفر ، حلفوا بالله أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فيجعلون حلفهم ترسا يقيهم من مؤاخذة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنبهم . كما قال تعالى : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر الآية [ 9 \ 74 ] . وقال : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . وقال : يحلفون بالله لكم ليرضوكم الآية [ 9 \ 62 ] ، ونحو ذلك ، فهذه نصوص تدل على أنهم يحلفون أيمانا على أيمانهم .

    ومن جهة المعنى : أن أيمانهم وحلفهم منصب على دعوى إيمانهم ، فلا انفكاك بين اليمين والإيمان ; لأنهم يحلفون أنهم مؤمنون ، واليمين أخص من الإيمان ، وحمله على الأخص يقتضي وجود الأعم ، فالحلف على الإيمان يستلزم دعوى الإيمان وزيادة ، ومجرد دعوى الإيمان لا يستلزم التأكيد بالإقسام والحلف .

    قوله تعالى : فصدوا عن سبيل الله .

    [ ص: 191 ] قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : أي بسبب اتخاذهم أيمانهم جنة وخفاء كفرهم الباطن ، تمكنوا من صد بعض الناس عن سبيل الله ، لأن المسلمين يظنونهم إخوانا وهم أعداء ، وشر الأعداء من تظن أنه صديق ولذا حذر الله نبيه منهم بقوله : هم العدو فاحذرهم [ 63 \ 4 ] ، وصدهم الناس عن سبيل الله كتعويقهم عن الجهاد ; كما بينه بقوله : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا الآية [ 33 \ 18 ] . وبقوله : وقالوا لا تنفروا في الحر الآية [ 9 \ 81 ] . وقوله : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية [ 3 \ 168 ] .

    قوله تعالى : إنهم ساء ما كانوا يعملون .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ( ساء ) فعل جامد لإنشاء الذم بمعنى بئس . اهـ .

    وقد بين تعالى تلك الإساءة من المنافقين في عدة جهات منها قوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا [ 2 \ 9 ] . وقوله : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم [ 4 \ 142 ] .

    وكان خداعهم بالقول وبالفعل ، وخداعهم بالقول في قوله عنهم : يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم [ 48 \ 11 ] .

    وخداعهم في الفعل في قوله عنهم : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس [ 4 \ 142 ] .

    وفي الجهاد قولهم : إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا [ 33 \ 13 ] .
    قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم .

    في هذه الآية نص على أن الطبع على قلوبهم نتيجة لكفرهم بعد إيمانهم ، ومثله قوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] . وكقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .

    [ ص: 192 ] وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن بعض العلماء : ذلك بأنهم آمنوا ، أي : بألسنتهم نفاقا ثم كفروا بقلوبهم في الحقيقة . اهـ .

    وتقدم في أول سورة البقرة ختم الله على قلوبهم [ 2 \ 7 ] فهم لا يعقلون بعد هذا الطبع ، ومع هذا الختم كقوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [ 18 \ 57 ] .
    قوله تعالى : هم العدو فاحذرهم .

    فيه ما يشعر بحصر العداوة في المنافقين مع وجودها في المشركين واليهود ، ولكن إظهار المشركين شركهم ، وإعلان اليهود كفرهم مدعاة للحذر طبعا .

    أما هؤلاء فادعاؤهم الإيمان وحلفهم عليه ، قد يوحي بالركون إليهم ولو رغبة في تأليفهم ، فكانوا أولى بالتحذير منهم لشدة عداوتهم ولقوة مداخلتهم مع المسلمين ، مما يمكنهم من الاطلاع على جميع شئونهم .

    وقد جاء في آخر السورة كله كاشفا لحقيقتهم ومبينا شدة عداوتهم سواء في قولهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا [ 63 \ 7 ] ، أو في تآمرهم على المسلمين في قولهم : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ 63 \ 8 ] . وقوله : إن الله لا يهدي القوم الفاسقين [ 63 \ 6 ] .

    ( هم ) هنا المنافقون ; كقوله تعالى : إن المنافقين هم الفاسقون [ 9 \ 67 ] .
    قوله تعالى : ولله خزائن السماوات والأرض .

    تقدم بيانه للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض [ 39 \ 63 ] .
    قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ما فيها من القول بالموجب .
    قوله تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله .

    [ ص: 193 ] تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ 18 \ 46 ] ، وقد بين سبب لهو المال والولد عن ذكر الله ، بأن العبد يفتن في ذلك في قوله تعالى الآتي في سورة " التغابن " : إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [ 64 \ 15 ] .

    أي : لمن سخر المال في طاعة الله ، وبالتأمل في آخر هذه السورة ، وآخر التي قبلها نجد اتحادا في الموضوع والتوجيه .

    فهناك قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [ 62 \ 11 ] .

    وجاء عقبه مباشرة سورة : إذا جاءك المنافقون [ 63 \ 1 ] ، ولعله مما يشعر أن الذين بادروا بالخروج للعير هم المنافقون ، وتبعهم الآخرون لحاجتهم لما تحمل العير ، وهنا بعدما ركن المنافقون للمال جاء : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا فكانت أموالهم فتنة لهم في مقالتهم تلك ، فحذر الله المؤمنين بقوله : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ، سواء كان المراد بالأموال خصوص ذكر الخطبة والعير المتقدم ذكرهما ، أو عموم العبادات والمكتسبات .
    قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم .

    فيه الإنفاق من بعض ما رزقهم ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث الاقتصاد في الإنفاق عند قوله في أول سورة " البقرة " : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] .
    قوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها .

    وكذلك لا يقدمها عليه ; كما في قوله تعالى : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 10 \ 49 ] .

    وبين تعالى عدم تأخرهم مع أنهم وعدوا بأنهم يصدقون ويكونون من الصالحين ، مشيرا للسبب في قوله تعالى : والله خبير بما تعملون [ 64 \ 11 ] أي : لو أخركم ; لأن شيمتكم الكذب وخلف الوعد ، وأن هذا دأب أمثالهم كما بينه تعالى في قوله : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ ص: 194 ] [ 14 \ 44 ] .

    وقوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها [ 23 \ 99 - 100 ] .

    فقوله تعالى عنهم : كلا إنها كلمة هو قائلها ، تعادل في ماصدقها .

    قوله تعالى : والله خبير بما تعملون .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #556
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,805

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (555)
    سُورَةُ التَّغَابُنِ
    صـ 195 إلى صـ 202




    أي : لو أخرهم لن يصدقوا ، ولن يكونوا من الصالحين ، والله تعالى محيط علمه بما سيكون ، كإحاطته بما قد كان ، والله تعالى أعلم .
    [ ص: 195 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ التَّغَابُنِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

    تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَمَدْلُولِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْحَشْرِ " وَ " الْحَدِيدِ " ، وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّسْبِيحِ ، وَالْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ ، وَالتَّذْيِيلُ هُنَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، نَافِذٌ فِيهِ أَمْرُهُ ، مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ أَمْرِهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 67 \ 1 ] .

    وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ " يس " : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 36 \ 82 - 83 ] .

    وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَتَصْرِيفِهِ لِأُمُورِ مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ ، أَنْ جَعَلَ الْعَالَمَ كُلَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ بِحَمْدِهِ تَنْفِيذًا لِحِكْمَةٍ فِيهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 28 \ 70 ] ، فَجَمَعَ الْحَمْدَ وَالْحُكْمَ مَعًا لِجَلَالَةِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ .
    قوله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة : المعنى أن الله هو الذي خلقكم وقدر على قوم منكم الكفر ، وعلى قوم منكم الإيمان ، ثم بعد ذلك يهدي كلا لما قدره عليه كما قال : والذي قدر فهدى [ 87 \ 3 ] ، فيسر الكافر إلى العمل بالكفر ، ويسر المؤمن للعمل بالإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . اهـ .

    ومن المعلوم أن هذا النص من مأزق القدرية والجبرية ، وأن أهل السنة يؤمنون أن كلا بقدر الله ومشيئته ، كما قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية : وهم أهل السنة وسط بين [ ص: 196 ] قول : إن العبد مجبور على عمله لا اختيار له كالورقة في مهب الريح . وبين قول : إن العبد يخلق فعله بنفسه ، ويفعل ما يريد بمشيئته .

    وأهل السنة يقولون بقوله تعالى : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ 81 \ 29 ] .

    وقد ذكر القرطبي أقوال الطائفتين من أهل العلم ، ولكل طائفة ما استدلت به ، الأولى عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا ، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا " .

    بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " .

    وقال : قال علماؤنا : تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم .

    الثانية : ما جاء في قوله : وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، قالوا : وتمام الكلام : و هو الذي خلقكم ، ثم وصفهم فقال : فمنكم كافر ومنكم مؤمن .

    وكقوله تعالى : والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه [ 24 \ 45 ] ، قالوا : فالله خلقهم والمشي فعلهم .

    واختاره الحسين بن الفضل ، قال : لأنه لو خلقهم كافرين ومؤمنين لما وصفهم بفعلهم ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " . الحديث . اهـ .

    وبالنظر في هاتين المقالتين نجد الآتي :

    أولا : التشبيه في المقالة الثانية لا يسلم ; لأن وصف الدواب في حالة المشي ليس وصفا فعليا ، وإنما هو من ضمن خلقه تعالى لها ولم يكن منها فعل في ذلك .

    ثانيا : ما استدلت به كل طائفة من الحديثين لا تعارض بينهما ; لأن الحديث الأول : " إن أحدكم ليعمل " لبيان المصير والمنتهى ، وفق العلم الأزلي والإرادة القدرية .

    [ ص: 197 ] والحديث الثاني لبيان مبدأ وجود الإنسان في الدنيا وأنه يولد على الفطرة حينما يولد ، أما مصيره فبحسب ما قدر الله عليه .

    وقد نقل القرطبي كلاما للزجاج وقال عنه : هو أحسن الأقوال ونصه : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد أن خلق الله إياه ; لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه ، لأن وجود خلاف المقدر عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل .

    قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، وهو الذي عليه جمهور الأمة . اهـ .

    ولعل مما يشهد لقول الزجاج قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 96 ] .

    هذا حاصل ما قاله علماء التفسير ، وهذا الموقف كما قدمنا من مأزق القدر والجبر ، وقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام ، وبتأمل النص وما يكتنفه من نصوص في السياق مما قبله وبعده ، نجد الجواب الصحيح والتوجيه السليم ، وذلك ابتداء من قوله تعالى : له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .

    فكون الملك له لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، وكونه على كل شيء قدير يفعل في ملكه ما يريد .

    ثم قال : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .

    ثم جاء بعدها
    قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور .

    فخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة آيتان من آيات الدلالة على البعث ، كما قال تعالى في الأولى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .

    وقال في الثانية : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] .

    [ ص: 198 ] ولذا جاء عقبها قوله : وإليه المصير .

    أي : بعد الموت والبعث ، فكأنه يقول لهم : هو الذي خلقكم وخلق لكم آيات قدرته على بعثكم ، من ذلك خلق السماوات والأرض ، ومن ذلك خلقكم وتصويركم في أحسن تقويم ، فكأن موجب ذلك الإيمان بقدرته تعالى على بعثكم بعد الموت ، وبالتالي إيمانكم بما بعد البعث ، من حساب وجزاء وجنة ونار ، ولكن فمنكم كافر ومنكم مؤمن .

    وقد جاء بعد ذكر الأمم قبلهم وبيان أحوالهم جاء تفنيد زعم الكفار بالبعث والإقسام على وقوعه في قوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير [ 64 \ 7 ] ; لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، ويشهد لهذا التوجيه في قوله تعالى في سورة الإنسان : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 1 - 3 ] .

    فقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج كقوله تعالى : هو الذي خلقكم [ 64 \ 2 ] .

    ثم قال : فجعلناه سميعا بصيرا ، وهما حاستا الإدراك والتأمل ، فقال : إنا هديناه السبيل مع استعداده للقبول والرفض .

    وقوله : إما شاكرا وإما كفورا ، مثل قوله هنا : فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، أي بعد التأمل والنظر وهداية السبيل بالوحي ، ولذا جاء في هذا السياق من هذه السورة : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] .

    وبكل ما تقدم في الجملة يظهر لنا أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعا وبصرا ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى ، ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم وأرسل إليه رسله وهداه النجدين ، ثم هو بعد ذلك إما شاكرا وإما كفورا ولو احتج إنسان في الدنيا بالقدر لقيل له : هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك ، أم أن الله أمرك ونهاك وبين لك الطريق .

    [ ص: 199 ] وعلى كل ، فإن قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها ، كما قال علي رضي الله عنه : القدر سر الله في خلقه .

    وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا ذكر القضاء فأمسكوا " ، ولكن على المسلم النظر فيما أنزل الله من وحي وبعث من رسل .

    وأهم ما في الأمر هو جري الأمور على مشيئة الله وقد جاء موقف عملي في قصة بدر ، يوضح حقيقة القدر ويظهر غاية العبر في قوله تعالى : إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور [ 8 \ 43 ] .

    فهو تعالى الذي سلم من موجبات التنازع والفشل بمقتضى علمه بذات الصدور .

    ثم قال : وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور [ 8 \ 44 ] ، فقد أجرى الأسباب على مقتضى إرادته فقلل كلا من الفريقين في أعين الآخر ; ليقضي الله أمرا كان في سابق علمه مفعولا ، ثم بين المنتهى ، : وإلى الله ترجع الأمور ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد .

    فيه استنكار الكفار أن يكون من يهديهم بشرا لا ملكا ، كما قال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، وقوله تعالى : أبشرا منا واحدا نتبعه [ 54 \ 25 ] .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة : فشبهتهم هذه الباطلة ردها الله في آيات كثيرة كقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا [ 6 \ 9 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا [ 12 \ 109 ] أي : لا ملائكة وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق الآية [ 25 \ 20 ] .

    قوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ ص: 200 ] إلى قوله : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
    قوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير .

    قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أي : أن الكفار ادعوا أنهم لا يبعثون قائلين : إن العظام الرميم لا تحيا ، قل لهم يا نبي الله : بلى وربي لتبعثن ، وبلى حرف يأتي لأحد معنيين الأول رد نفي ، كما هنا .

    الثاني : جواب استفهام مقترن بنفي نحو قوله : ألست بربكم قالوا بلى [ 7 \ 172 ] ، وقوله : وربي قسم بالرب على البعث الذي هو الإحياء بعد الموت ، وقد أقسم به عليه في القرآن ثلاث مرات ، الأول هذا .

    والثاني قوله : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق [ 10 \ 53 ] .

    الثالث قوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] . اهـ .

    وقوله : ثم لتنبؤن بما عملتم ، بينه تعالى بقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وقوله : وذلك على الله يسير اسم الإشارة راجع إلى البعث ويسره أمر مسلم ; لأن الإعادة أهون من البدء ، كما قال تعالى عن الكفار : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 78 - 79 ] ، وقوله : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ 31 \ 28 ] ، وقال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] .
    قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا .

    النور هنا هو القرآن كما قال تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، وهو القرآن ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات [ 57 \ 9 ] من سورة " الحديد " ، وفي المذكرة سماه نورا ; لأنه كاشف [ ص: 201 ] ظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والنفاق .
    قوله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع .

    يوم الجمع هو يوم القيامة ، وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ظرف منصوب باذكر مقدرة أو بقوله : خبير [ 64 \ 8 ] .

    فيكون المعنى : أنه يوم القيامة خبير بأعمالكم في الدنيا لم يخف عليه منها شيء فيجازيكم عليها ، سمي يوم الجمع ; لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، كما قال تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام عليه في عدة مواضع منها في الجزء الثالث عند قوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس [ 11 \ 103 ] .

    ومنها في الجزء السابع عند الآية المتقدمة : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون [ 56 \ 49 - 50 ] .

    ومن أصرح الأدلة فيه : آية " الشورى " : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، ثم قال : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] .

    قوله تعالى : ذلك يوم التغابن .

    الغبن : الشعور بالنقص ومثله الخبن لاشتراكهما في حرفين من ثلاثة ، كما في فقه اللغة : فبينهما تقارب في المعنى كتقاربهم في الحرف المختلف ، وهو الغين والخاء ولخفاء الغين في الحلق وظهور الخاء عنها كان الغبن لما خفي ، والخبن لما ظهر .

    وقد بين تعالى موجب الغبن للغابن والمغبون فقال : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ 64 \ 9 ] ، وبين حال المغبون بقوله : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير [ 64 \ 10 ] .

    وقد بين العلماء حقيقة الغبن في هذا المقام بأن كل إنسان له مكان في الجنة ومكان في النار ، فإذا دخل أهل النار النار بقيت أماكنهم في الجنة ، وإذا دخل أهل الجنة الجنة [ ص: 202 ] بقيت أماكنهم في النار .

    وهناك تكون منازل أهل الجنة في النار لأهل النار ، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة يتوارثونها عنهم ، فيكون الغبن الأليم ، وهو استبدال مكان في النار بمكان في الجنة ورثوا أماكن الآخرين الذين ذهبوا إلى النار .
    قوله تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم .

    في هذه الآية الكريمة نص صريح بأن ما يصيب أحدا مصيبة إلا بإذن الله .

    ومعلوم أنه كذلك ما يصيب أحدا خير إلا بإذن الله على حد قوله : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] أي : والبرد .

    ولكن التنصيص على المصيبة هنا ; ليدل أن كل شيء ينال العبد إنما هو بإذن الله ; لأن الجبلة تأبى المصائب وتتوقاها ، ومع ذلك تصيبه ، وليس في مقدوره دفعها بخلاف الخير ، قد يدعي أنه حصله باجتهاد منه كما قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي [ 28 \ 78 ] .

    وقوله : ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، قرئ ( يهدأ ) بالهمز من الهدوء ، و ( قلبه ) بالرفع ، وهي بمعنى يهدي قلبه ; لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، فيسترجع فيطمئن قلبه بهذا ولا يجزع ، وهذا من خصائص المؤمن .

    كما قال صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له حتى الشوكة يشاكها في قدمه " .

    ومثل هذا قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .

    أي : إلى ما يلزمهم من امتثال وصبر ولذا جاء بعدها : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [ 64 \ 12 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •