تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 5 من 28 الأولىالأولى 123456789101112131415 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 81 إلى 100 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #81
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (80)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (6)
    صـ 496 إلى صـ 500

    واستدل أهل هذا القول بما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وفي رواية عن أبيه ، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " والعشر في التمر [ ص: 496 ] والزبيب والحنطة والشعير " ، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال : " إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الأربعة : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب " .

    وعن أبي بردة ، عن أبي موسى ، ومعاذ : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم ، فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة ، الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب " ، رواها كلها الدارقطني ، قاله ابن قدامة في " المغني " .

    قال مقيده - عفا الله عنه : أما ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة ، فإسناده واه ; لأنه من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي ، وهو متروك ، قاله ابن حجر في " التلخيص " ، وما رواه الدارقطني من حديث موسى بن طلحة ، عن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة ، قال فيه أبو زرعة : موسى عن عمر مرسل ، قاله ابن حجر أيضا ، وما عزاه للدارقطني عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، ومعاذ ، رواه الحاكم ، والبيهقي ، عن أبي بردة ، عنهما .

    وقال البيهقي : رواته ثقات ، وهو متصل ، قاله ابن حجر أيضا ، وقال مالك وأصحابه : تجب الزكاة في كل مقتات مدخر ، وذلك عنده في ثمار الأشجار ، إنما هو التمر والزبيب فقط ، ومشهور مذهبه وجوب الزكاة في الزيتون ، إذا بلغ حبه خمسة أوسق ، ولكنها تخرج من زيته بعد العصر ، فيخرج عشره أو نصف عشره على ما سيأتي ، فإن لم يبلغ حبه خمسة أوسق ، فلا زكاة عنده في زيته ، وحكم السمسم ، وبزر الفجل الأحمر ، والقرطم حكم الزيتون في مشهور مذهبه ، يخرج من زيتها إن بلغ حبها النصاب .

    وقال اللخمي : لا يضم زيت بعضها إلى بعض لاختلاف أجناسها ، ومشهور مذهبه عدم وجوبها في التين ، وأوجبها فيه جماعة من أصحابه بمقتضى أصوله ، وقال ابن عبد البر : أظن مالكا ما كان يعلم أن التين ييبس ، ويقتات ، ويدخر ، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب ، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس ، ولا تدخر كالرمان ، والفرسك ، والذي تجب فيه من الحبوب عنده هو ما يقتات ويدخر ، وذلك الحنطة ، والشعير ، والسلت والعلس ، والدخن ، والذرة ، والأرز ، والعدس ، والجلبان ، واللوبيا ، والجلجلان ، والترمس ، والفول ، والحمص ، والبسيلة .

    ومشهور مذهبه أن الكرسنة لا زكاة فيها ; لأنها علف ، وعن أشهب وجوب الزكاة فيها ، وهي من القطاني على مشهور مذهبه في باب الربا ، دون باب الزكاة .

    [ ص: 497 ] وقيل هي البسيلة ، وجميع أنواع القطاني عند مالك جنس واحد في الزكاة ، فلو حصد وسقا من فول ، ووسقا من حمص ، وآخر من عدس ، وآخر من جلبان ، وآخر من لوبيا ، وجب عليه أن يضم بعضها إلى بعض ، ويخرج الزكاة منها كل واحد بحسبه ، وكذلك يضم عنده القمح ، والشعير ، والسلت بعضها إلى بعض ، كالصنف الواحد ، وتخرج الزكاة منها كل بحسبه ، ولا يضم عنده تمر إلى زبيب ، ولا حنطة إلى قطنية ، ولا تمر إلى حنطة ، ولا أي جنس إلى جنس آخر ، غير ما ذكرنا عنه ضمه لتقارب المنفعة فيه عنده ، والنوع الواحد ، كالتمر ، والزبيب ، والحنطة يضم بعض أنواعه إلى بعض كصيحاني ، وبرني ، وسمراء ، ومحمولة ، وزبيب أسود ، وزبيب أحمر ، ونحو ذلك .

    ولا زكاة عند مالك - رحمه الله - في شيء من الفواكه غير ما ذكرنا ، كالرمان - والتفاح - والخوخ والإجاص ، والكمثرى ، واللوز ، والجوز ، والجلوز ، ونحو ذلك كما لا زكاة عنده في شيء من الخضراوات ، قال في " الموطإ " : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي سمعت من أهل العلم : أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة ، الرمان ، والفرسك ، والتين ، وما أشبه ذلك ، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه .

    قال : ولا في القضب ، ولا في البقول كلها صدقة ، ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة ، حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ، ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب . اهـ .

    والفرسك : بكسر الفاء والسين بينها راء ساكنة آخره كاف - الخوخ ، وهي لغة يمانية ، وقيل : نوع مثله في القدر ، وهو أجرد أملس أحمر وأصفر جيد ، وقيل : ما ليس ينفلق عن نواة من الخوخ . وإذا كان الزرع أو الثمر مشتركا بين اثنين فأكثر ، فقد قال فيه مالك في " الموطإ " : في النخيل يكون بين الرجلين فيجذان منه ثمانية أوسق من التمر أنه لا صدقة عليهما فيها ، وأنه إن كان لأحدهما منها ما يجذ منه خمسة أوسق ، وللآخر ما يجذ أربعة أوسق ، أو أقل من ذلك في أرض واحدة ، كانت الصدقة على صاحب الخمسة الأوسق ، وليس على الذي جذ أربعة أوسق أو أقل منها صدقة ، وكذلك العمل في الشركاء كلهم في كل زرع من الحبوب كلها يحصد ، أو النخل يجذ ، أو الكرم يقطف ، فإنه إذا كان كل رجل منهم يجذ من التمر ، أو يقطف من الزبيب خمسة أوسق ، أو يحصد من الحنطة خمسة أوسق ، فعليه الزكاة ، ومن كان حقه أقل من خمسة أوسق ، فلا صدقة عليه .

    وإنما تجب الصدقة على من بلغ جذاذه ، أو قطافه ، أو حصاده خمسة أوسق ، انتهى من [ ص: 498 ] " موطإ " مالك - رحمه الله .

    وإذا أمسك ذلك الحب أو التمر الذي أخرج زكاته سنين ، ثم باعه - فحكمه عند مالك ما ذكره في " موطئه " حيث قال : السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها الحنطة ، والتمر ، والزبيب ، والحبوب كلها ، ثم أمسكه صاحبه بعد أن أدى صدقته سنين ، ثم باعه ، أنه ليس عليه في ثمنه زكاة ، حتى يحول على ثمنه الحول من يوم باعه ، إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها ، وأنه لم يكن للتجارة .

    وإنما ذلك بمنزلة الطعام ، والحبوب ، والعروض يفيدها الرجل ، ثم يمسكها سنين ، ثم يبيعها بذهب أو ورق ، فلا يكون عليه في ثمنها زكاة حتى يحول عليها الحول من يوم باعها ، فإن كان أصل تلك العروض للتجارة ; فعلى صاحبها فيها الزكاة حين يبيعها ، إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به ، انتهى في " الموطإ " ، وهذا في المحتكر ، أما المدير فإنه يقومها بعد حول من زكاته ، كما في " المدونة " عن ابن القاسم .

    هذا هو حاصل مذهب مالك - رحمه الله - فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب ، ومذهب الشافعي - رحمه الله : أنه لا تجب الزكاة في شيء من ثمار الأشجار أيضا ، إلا فيما كان قوتا يدخر ، وذلك عنده التمر والزبيب فقط ، كما تقدم عن مالك ، ولا تجب عنده في سواهما من الثمار كالتين ، والتفاح ، والسفرجل ، والرمان ، ونحو ذلك ; لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة ، ولا تجب عنده في طلع الفحال ; لأنه لا يجيء منه الثمار .

    واختلف قوله في الزيتون ، فقال في القديم ، تجب فيه الزكاة ; لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعل في الزيت العشر ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : في الزيتون الزكاة ، وقال في الجديد : لا زكاة في الزيتون ; لأنه ليس بقوت فهو كالخضراوات .
    واختلف قول الشافعي - رحمه الله - أيضا في الورس ، فقال في القديم : تجب فيه الزكاة ، لما روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كتب إلى بني خفاش ، أن أدوا زكاة الذرة والورس ، وقال في الجديد : لا زكاة فيه ; لأنه نبت لا يقتات ، فأشبه الخضراوات ، وقال الشافعي - رحمه الله - من قال : لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران ، ومن قال : يجب في الورس ، فيحتمل أن يوجب في الزعفران ; لأنهما [ ص: 499 ] طيبان ، ويحتمل ألا يوجب في الزعفران ، ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق ، والزعفران نبات ، واختلف قوله أيضا في العسل فقال في القديم : يحتمل أن تجب فيه ، ووجهه ما روي أن بني شبابة " بطن من فهم " كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحل كان عندهم العشر ، من عشر قرب قربة ، وقال في الجديد : لا تجب ; لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض .

    واختلف قوله أيضا في القرطم ، وهو حب العصفر ، فقال في القديم : تجب إن صح فيه حديث أبي بكر - رضي الله عنه - وقال في الجديد : لا تجب ; لأنه ليس بقوت ، فأشبه الخضراوات ، قاله كله صاحب " المهذب " ، وقال النووي في " شرح المهذب " : الأثر المروي عن عمر : " أنه جعل في الزيت العشر " ، ضعيف ، رواه البيهقي ، وقال : إسناده منقطع ، وراويه ليس بقوي ، قال : وأصح ما روي في الزيتون قول الزهري : مضت السنة في زكاة الزيتون ، أن يؤخذ ممن عصر زيتونه حين يعصره ، فيما سقت السماء أو كان بعلا العشر ، وفيما سقي برش الناضح نصف العشر ، وهذا موقوف لا يعلم اشتهاره ، ولا يحتج به على الصحيح .

    وقال البيهقي : وحديث معاذ بن جبل ، وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - أعلى ، وأولى أن يؤخذ به ، يعني روايتهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهما ، لما بعثهما إلى اليمن : " لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة : الشعير ، والحنطة ، والتمر ، والزبيب " .

    وأما الأثر المذكور عن ابن عباس فضعيف أيضا ، والأثر المذكور عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ضعيف أيضا ، ذكره الشافعي وضعفه هو وغيره ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، واتفق أصحابنا في كتب المذهب على ضعفه ، قال البيهقي : ولم يثبت في هذا إسناد تقوم به حجة ، قال : والأصل عدم الوجوب فلا زكاة فيما لم يرد فيه حديث صحيح ، أو كان في معنى ما ورد به حديث صحيح ، وأما حديث بني شبابة في العسل فرواه أبو داود ، والبيهقي ، وغيرهما من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده بإسناد ضعيف ، قال الترمذي في جامعه : لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا كبير شيء ، قال البيهقي : قال الترمذي في كتاب " العلل " : قال البخاري : ليس في زكاة العسل شيء يصح .

    فالحاصل أن جميع الآثار ، والأحاديث التي في هذا الفصل ضعيفة ، انتهى كلام [ ص: 500 ] النووي .

    وقال ابن حجر في " التلخيص " في أثر عمر المذكور في الزيتون : رواه البيهقي بإسناد منقطع ، والراوي له عثمان بن عطاء ضعيف ، قال : وأصح ما في الباب قول ابن شهاب : " مضت السنة في زكاة الزيتون " إلخ .

    وقال في " التلخيص " أيضا ، في أثر ابن عباس المذكور في الزيتون : ذكره " صاحب المهذب " ، عن ابن عباس ، وضعفه النووي ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم .

    وقال ابن حجر أيضا : روى الحاكم في تاريخ " نيسابور " من طريق عروة ، عن عائشة مرفوعا : " الزكاة في خمس : في البر ، والشعير ، والأعناب ، والنخيل ، والزيتون " ، وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن ، وهو الوقاصي : متروك الحديث .

    وقال ابن حجر في الأثر المذكور عن أبي بكر : أنه كان يأخذ الزكاة من حب العصفر ، وهو القرطم ، لم أجد له أصلا ، وقال في " التلخيص " أيضا في خبر أخذه - صلى الله عليه وسلم - زكاة العسل : أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " في العسل في كل عشرة أزقاق زق " ، وقال في إسناده مقال ، ولا يصح ، وفي إسناده صدقة السمين ، وهو ضعيف الحفظ .

    وقد خولف ، وقال النسائي : هذا حديث منكر ، ورواه البيهقي ، وقال : تفرد به صدقة ، وهو ضعيف ، وقد تابعه طلحة بن زيد ، عن موسى بن يسار ، ذكره المروزي ، ونقل عن أحمد تضعيفه ، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه ، فقال : هو عن نافع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل ، ونقل الحاكم في تاريخ " نيسابور " ، عن أبي حاتم ، عن أبيه ، قال : حدث محمد بن يحيى الذهلي بحديث كاد أن يهلك ، حدث عن عارم ، عن ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا : " أخذ من العسل العشر " .

    قال أبو حاتم : وإنما هو عن أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده كذلك : حدثناه عارم ، وغيره قال : ولعله سقط من كتابه عمرو بن شعيب ، فدخله هذا الوهم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #82
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (81)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (7)
    صـ 501 إلى صـ 505

    قال الترمذي : وفي الباب عن عبد الله بن عمرو ، قلت : رواه أبو داود والنسائي من [ ص: 501 ] رواية عمرو بن الحارث المصري ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : " جاء هلال " أحد بني متعان " إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشور نحل له ، وسأله أن يحمي واديا له يقال له " سلبة " فحماه له ، فلما ولى عمر كتب إلى سفيان بن وهب ، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحم له سلبة ، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء .

    قال الدارقطني : يروى عن عبد الرحمن بن الحارث ، وابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب مسندا ، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عمرو بن شعيب مرسلا ، عن عمر مرسلا ، قلت : فهذه علته ، وعبد الرحمن ، وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان ، ولكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات ، وتابعهما أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجه ، وغيره كما مضى .

    قال الترمذي : وفيه عن أبي سيارة ، قلت : هو المتعي ، قال : " قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي نحلا ، قال : " أد العشور " ، قال : قلت يا رسول الله احم لي جبلها ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والبيهقي من رواية سليمان بن موسى ، عن أبي سيارة ، وهو منقطع .

    قال البخاري : لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة ، وليس في زكاة العسل شيء يصح ، وقال أبو عمر : لا تقوم بهذا حجة ، قال : وعن أبي هريرة ، قلت : رواه البيهقي ، وفي إسناده عبد الله بن محرر ، وهو متروك ، ورواه أيضا من حديث سعد بن أبي ذباب : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمله على قومه ، وأنه قال لهم : " أدوا العشر في العسل " ، وأتى به عمر ، فقبضه ، فباعه ، ثم جعله في صدقات المسلمين " ، وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري ، والأزدي ، وغيرهما .

    قال الشافعي : وسعد بن أبي ذباب ، يحكي ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بشيء ، وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه ، وقال الزعفراني ، عن الشافعي : الحديث في أن في العسل العشر ضعيف ، واختياري أنه لا يؤخذ منه ، وقال البخاري : لا يصح فيه شيء .

    وقال ابن المنذر : ليس فيه شيء ثابت ، وفي " الموطأ " عن عبد الله بن أبي بكر قال : " جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي ، وهو بمنى : ألا تأخذ من الخيل ، ولا من العسل صدقة " ، انتهى كلام ابن حجر بلفظه .

    [ ص: 502 ] وقال في " التلخيص " أيضا : إن حديث معاذ : أنه لم يأخذ زكاة العسل ، وأنه قال : " لم يأمرني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء " ، أخرجه أبو داود في " المراسيل " ، والحميدي في " مسنده " ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي من طريق طاوس عنه ، وفيه انقطاع بين طاوس ومعاذ ، لكن قال البيهقي : هو قوي ; لأن طاوسا كان عارفا بقضايا معاذ .

    قال مقيده - عفا الله عنه : ولا شك أن إخراج زكاته أحوط ، وهو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ونقله صاحب " المغني " عن مكحول ، والزهري ، وسليمان بن موسى ، والأوزاعي ، وإسحاق .

    وحجتهم الأحاديث التي رأيت ، ولا شيء فيه عند مالك ، والشافعي في الجديد ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، وابن المنذر ، وغيرهم .

    وحجتهم عدم صحة ما ورد فيه ، وأن الأصل براءة الذمة ، وأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن .

    وقال أبو حنيفة : إن كان في أرض للعشر ففيه الزكاة ، وإلا فلا زكاة فيه ، ونصاب العسل ، قيل : خمسة أفراق ، وهو قول الزهري ، وقيل : خمسة أوسق ، وبه قال أبو يوسف ، ومحمد .

    وقال أبو حنيفة : تجب في قليله وكثيره ، والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي ، وقيل : ستون رطلا ، وقيل : مائة وعشرون رطلا ، وقيل : ثلاثة آصع ، وقيل : غير ذلك . قاله في " المغني " .

    وأما الحبوب : فلا تجب الزكاة عند الشافعي إلا فيما يقتات ويدخر منها ، ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه التي لا تقتات ولا تدخر ، ولا في شيء من الخضراوات ، فمذهبه يوافق مذهب مالك ، كما قدمنا ، إلا أن الشافعي لا يضم بعض الأنواع إلى بعض ، ومالك يضم القطاني بعضها إلى بعض في الزكاة ، وكذلك القمح ، والشعير ، والسلت ، كما تقدم .
    وأما مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - فهو وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض ، مما ييبس ، ويبقى ، مما يكال . فأوصاف المزكي عنده مما تنبته الأرض ثلاثة : وهي الكيل ، والبقاء ، واليبس ، فما كان كذلك من الحبوب والثمار وجبت فيه عنده ، سواء كان قوتا أم لا ، وما لم يكن كذلك لم تجب فيه ; فتجب عنده في الحنطة ، والشعير ، والسلت ، [ ص: 503 ] والأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطاني كالباقلا ، والعدس ، والحمص ، والأبازير كالكمون ، والكراويا ، والبزر كبزر الكتان ، والقثاء ، والخيار ، وحب البقول كالرشاد ، وحب الفجل ، والقرطم ، والسمسم ، ونحو ذلك من سائر الحبوب ، كما تجب عنده أيضا فيما جمع الأوصاف المذكورة من الثمار ، كالتمر ، والزبيب ، واللوز ، والفستق ، والبندق . ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه : كالخوخ ، والإجاص ، والكمثرى ، والتفاح ، والتين ، والجوز ، ولا في شيء من الخضر : كالقثاء ، والخيار ، والباذنجان ، واللفت ، والجزر ، ونحو ذلك .

    ويروى نحو ما ذكرنا عن أحمد في الحبوب ، عن عطاء ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وقال أبو عبد الله بن حامد : لا شيء في الأبازير ، ولا البزر ، ولا حب البقول .

    قال صاحب " المغني " : ولعله لا يوجب الزكاة إلا فيما كان قوتا ، أو أدما ; لأن ما عداه لا نص فيه ، ولا هو في معنى المنصوص ; فيبقى على النفي الأصلي . ولا زكاة في مشهور مذهب أحمد - رحمه الله - فيما ينبت من المباح الذي لا يملك ، إلا بأخذه : كالبطم ، وشعير الجبل ، وبزر قطونا ، وبزر البقلة ، وحب النمام ، وبزر الأشنان ، ونحو ذلك ، وعن القاضي : أنه تجب فيه الزكاة ، إذا نبت بأرضه .

    والصحيح الأول ، فإن تساقط في أرضه حب كحنطة مثلا فنبت ، ففيه الزكاة ; لأنه يملكه . ولا تجب الزكاة فيما ليس بحب ، ولا ثمر ، سواء وجد فيه الكيل والادخار أو لم يوجد ، فلا تجب في ورق مثل ورق السدر ، والخطمي ، والأشنان ، والصعتر ، والآس ، ونحوه ; لأنه ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص ، ولا زكاة عنده في الأزهار : كالزعفران ، والعصفر ، والقطن ; لأنها ليست بحب ، ولا ثمر ، ولا هي بمكيل ; فلم تجب فيها زكاة كالخضراوات .

    قال الإمام أحمد - رحمه الله : ليس في القطن شيء ، وقال : ليس في الزعفران زكاة ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، قاله ابن قدامة في " المغني " .

    واختلفت عن أحمد - رحمه الله - الرواية في الزيتون : فروى عنه ابنه صالح : أن فيه الزكاة ، وروي عنه : أنه لا زكاة فيه ، وهو اختيار أبي بكر ، وظاهر كلام الخرقي يقتضيه ، قاله أيضا صاحب المغني ، وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فإنه قائل بوجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، طعاما كان أو غيره ، وقال أبو يوسف عنه : إلا الحطب ، والحشيش ، والقصب ، والتبن ، والسعف ، وقصب الذريرة ، وقصب السكر . اهـ . والذريرة : قصب [ ص: 504 ] يجاء به من الهند ، كقصب النشاب ، أحمر يتداوى به ، وممن قال مثل قول أبي حنيفة النخعي ، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز ، وهو قول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، ونصره ابن العربي المالكي في أحكامه ، قال : وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق . هذا هو حاصل مذاهب الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - في تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض ، وسنشير إن شاء الله إلى دليل كل واحد منهم فيما ذهب إليه .

    أما أبو حنيفة : فقد احتج على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من قليل وكثير بعموم هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها ; لأن الله قال فيها : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] الآية ، وبعموم قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض الآية [ 2 \ 267 ] ، وبعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، الحديث ، ولم يقبل تخصيصه بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأن القاعدة المقررة في أصوله - رحمه الله : أن العام قطعي الشمول ، والتناول لجميع أفراده كما أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]


    وهو على فرد يدل حتما وفهم الاستغراق ليس جزما بل هو عند الجل بالرجحان
    والقطع فيه مذهب النعمان


    فما كان أقل من خمسة أوسق يدخل عنده دخولا مجزوما به في عموم الآيات المذكورة والحديث ، فلا يلزم عنده تخصيص العام بالخاص ، بل يتعارضان ، وتقديم ما دل على الوجوب أولى من تقديم ما دل على غيره للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب .

    وأما مالك والشافعي - رحمهما الله تعالى - فحجتهما في قولهما : إنه لا زكاة غير النخل والعنب من الأشجار ، ولا في شيء من الحبوب إلا فيما يقتات ويدخر ، ولا زكاة في الفواكه ولا الخضراوات ; لأن النص والإجماع دلا على وجوب الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وكل واحد منها مقتات مدخر ، فألحقوا بها كل ما كان في معناها لكونه مقتاتا ومدخرا ، ولم يريا أن في الأشجار مقتاتا ولا مدخرا غير التمر والزبيب ; فلم يشاركهما في العلة غيرهما من الثمار ، ولذا قال جماعة من أصحاب مالك بوجوبها في التين [ ص: 505 ] على أصول مذهب مالك ; لأنه كالزبيب في الاقتيات والادخار .

    وقال ابن عبد البر : الظاهر أن مالكا ما كان يعلم أن التين كذلك ، وأما الحبوب فيوجد فيها الاقتيات والادخار ، فألحقا بالحنطة والشعير كل ما كان مقتاتا مدخرا ، كالأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطاني ، ونحو ذلك ، فهو إلحاق منهما - رحمهما الله - للمسكوت بالمنطوق ; بجامع العلة التي هي عندهما الاقتيات والادخار ; لأن كونه مقتاتا مدخرا مناسب لوجوب الصدقة فيه ; لاحتياج المساكين إلى قوت يأكلون منه ويدخرون .

    وأما أحمد - رحمه الله - فحجته في قوله : إن الزكاة تجب فيما يبقى وييبس ويكال ، أما ما لا ييبس ولا يبقى ، كالفواكه ، والخضراوات ، لم تكن تؤخذ منه الزكاة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ولا زمن الخلفاء الراشدين .

    ودليله في اشتراطه الكيل قوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ، قال : فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن محل الواجب في الوسق ، وهو خاص بالمكيل ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

    أما دليل الجمهور منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - على أن الفواكه والخضراوات لا زكاة فيها فظاهر ; لأن الخضراوات كانت كثيرة بالمدينة جدا ، والفواكه كانت كثيرة بالطائف ، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنه أخذ الزكاة من شيء من ذلك .

    قال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد كان بالطائف الرمان ، والفرسك ، والأترج ، فما اعترضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ذكره ، ولا أحد من خلفائه ، قلت : وهذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة ، وأن الخضراوات ليس فيها شيء ، وأما الآية فقد اختلف فيها : هل هي محكمة أو منسوخة ، أو محمولة على الندب ؟ ولا قاطع يبين أحد محاملها ، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه : أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد استقرار الأحكام بالمدينة ، أفيجوز أن يتوهم متوهم ، أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ، ولا خلافة أبي بكر حتى عمل بذلك الكوفيون ؟ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا ، أو قال به .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #83
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (82)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (8)
    صـ 506 إلى صـ 510

    قلت : ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [ 5 \ 67 ] ، أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه [ ص: 506 ] أو بيانه ؟ حاشاه من ذلك ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] ، ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا ، وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - فيما رواه الدارقطني : إن المقاثئ كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء . وقال الزهري والحسن : تزكى أثمان الخضر إذا أينعت وبلغ الثمن مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه ، ولا حجة في قولهما لما ذكرنا .

    وقد روى الترمذي عن معاذ : أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الخضراوات ، وهي البقول ، فقال : " ليس فيها شيء " ، وقد روي هذا المعنى عن جابر ، وأنس ، وعلي ، ومحمد بن عبد الله بن جحش ، وأبي موسى ، وعائشة ، ذكر أحاديثهم الدارقطني - رحمه الله - وقال الترمذي : ليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة - رحمه الله - بحديث صالح بن موسى عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة " ، قال أبو عمر : وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا ، وإنما هو من قول إبراهيم .

    قلت وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها ، لم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، بما ذكرنا . اهـ . كلام القرطبي .

    وحجة من قال : بأنه لا زكاة في غير الأربعة المجمع عليها التي هي : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، هي الأحاديث التي قدمنا في أول هذا المبحث ، وفيها حديث معاذ وأبي موسى الذي تقدم عن البيهقي أنه قوي متصل ، وقال أبو يوسف ومحمد : ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية ، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة ، وكان محمد يعتبر في العصفر ، والكتان ، والبزر ، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق ; كان العصفر والكتان تبعا للبزر ، وأخذ منه العشر أو نصف العشر ، وأما القطن فليس عنده فيما دون خمسة أحمال شيء ، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي ، والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء ، فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة ، وقال أبو يوسف : وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر ، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج فيه ما في الزعفران ، وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول ، وهو مخالف لما عليه أهل مذهبه مالك وأصحابه . قاله القرطبي .
    [ ص: 507 ] تنبيه

    من قال : لا زكاة في الرمان ، وهم جمهور العلماء ، ومن قال : لا زكاة في الزيتون ، يلزم على قول كل منهم أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، منسوخة أو مرادا بها غير الزكاة ; لأنها على تقدير أنها محكمة ، وأنها في الزكاة المفروضة ، لا يمكن معها القول بعدم زكاة الزيتون والرمان ; لأنها على ذلك صريحة فيها ; لأن المذكورات في قوله تعالى : والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ، يرجع إلى كلها الضمير في قوله : كلوا من ثمره [ 6 \ 141 ] ، وقوله : وآتوا حقه يوم حصاده ، كما هو واضح لا لبس فيه . فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولا أوليا لا شك فيه ، فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية ، أو أنها في غير الزكاة المفروضة ، والله تعالى أعلم ، وعنأبي يوسف : أنه أوجب الزكاة في الحناء ، واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جدا من جهة النظر ; لأنه قال : ما أنبتته الأرض ضربان : موسق ، وغير موسق ، فما كان موسقا وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه " ، وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة ; لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، ولا يخصص بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأنه غير موسق أصلا .

    قال مقيده - عفا الله عنه : وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها ، إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ، ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف ، ولو كان العموم شاملا لذلك لبينه - صلى الله عليه وسلم - وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة ، وأدلة أقوالهم مما ذكرنا .

    فاعلم أن جمهور العلماء قالوا : لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعدا ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " الحديث . أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ومسلم من حديث جابر - رضي الله عنه .

    وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - وأصحابهم ، وهو قول ابن عمر ، وجابر ، وأبي أمامة بن سهل ، وعمر بن عبد العزيز ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وعطاء ، ومكحول ، والحكم ، والنخعي ، وأهل المدينة ، والثوري والأوزاعي ، وابن أبي [ ص: 508 ] ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أهل العلم ، كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره .

    وقال ابن قدامة في " المغني " : لا نعلم أحدا خالف فيه إلا أبا حنيفة ، ومن تابعه ، ومجاهدا ، وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعا ، وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح ، وقيل : هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر ، ويجمع على أوسق في القلة وأوساق ، وعلى وسوق في الكثرة . واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده - صلى الله عليه وسلم - والمد بالتقريب : ملء اليدين المتوسطتين ، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي ، فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ، ومن الصيعان ثلاثمائة ، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل ، والرطل : وزن مائة وثمانية وعشرين درهما مكيا ، وزاد بعض أهل العلم أربعة أسباع درهم ، كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير ، كما حرره علماء المالكية ، ومالك - رحمه الله - من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم ، وقيل فيه غير ما ذكرنا .

    وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثالثة المذكورة في أول هذا المبحث ، وهو تعيين القدر الواجب إخراجه ، فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة ، كالذي يسقيه المطر ، أو النهر ، أو عروقه في الأرض ، وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر ، وهذا ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر ، وابن عمر ، فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا ، وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر ، بلا خلاف بين العلماء ، وإن كان أحد الأمرين أغلب فقيل : يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعا له ، وبه قال أحمد ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وعطاء ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقيل : يؤخذ بالتقسيط ، وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية ، وحكى بعضهم رواية عن مالك : أن المعتبر ما حيي به الزرع وتم ، وممن قال بالتقسيط من الحنابلة : ابن حامد ، فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطا ، كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في رواية عبد الله ، قاله في " المغني " ; وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه بتحقق الكلفة ، وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جدا . وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر ؟ فالقول قول رب المال بغير يمين ; لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ، ولا وقص في الحبوب والثمار ، بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه .
    [ ص: 509 ] مسائل تتعلق بهذا المبحث

    المسألة الأولى : قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب ، وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما ; لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب ; فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب ، ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة ، حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق ، ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف ، فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب ، وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلا ، فلا زكاة فيه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، لا من الرطب والعنب ، وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه وبينه ، وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمرا أو زبيبا ، وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء ، والرفق بأرباب الثمار ، فإن أصابته بعد الخرص جائحة ، اعتبرت ، وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة ، فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعدا أخرج الزكاة ، وإلا فلا . ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء .

    وممن قال بخرص النخيل والأعناب : الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله تعالى - وعمر بن الخطاب ، وسهل بن أبي حثمة ، ومروان ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وعطاء ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وعبد الكريم بن أبي المخارق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وحكي عن الشعبي : أن الخرص بدعة ، ومنعه الثوري ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم ، وإنما كان الخرص تخويفا للقائمين على الثمار ; لئلا يخونوا ، فأما أن يلزم به حكم فلا .

    قال مقيده - عفا الله عنه : لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة " تبوك " فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " اخرصوها " ، فخرصناها ، وخرصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق ، وقال : " أحصيها حتى نرجع إليك ، إن شاء الله " ، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك ، فذكر الحديث .

    قال : " ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة عن حديقتها [ ص: 510 ] كم بلغ ثمرها ؟ قالت : بلغ عشرة أوسق "
    ، فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص ، كما ترى .

    وعن عتاب بن أسيد - رضي الله عنه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم " أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان .

    وعن عتاب - رضي الله عنه - أيضا قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب ، كما يخرص النخل ، فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا " ، أخرجه أيضا أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني .

    والتحقيق في حديث عتاب هذا : أنه من مراسيل سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى ; لأنه لم يدرك عتابا ; لأن مولد سعيد في خلافة عمر ، وعتاب مات يوم مات أبو بكر - رضي الله عنهما - وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إن من أصحابنا : من قال يحتج بمراسيل ابن المسيب مطلقا ، والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور : أن يسند ، أو يرسل من جهة أخرى ، أو يقول به بعض الصحابة ، أو أكثر العلماء ، وقد وجد ذلك هنا ; فقد أجمع العلماء من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر ، والزبيب .

    قال مقيده - عفا الله عنه : وبما ذكره النووي تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل ، والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقا ، فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل ، وروى هذا الحديث الدارقطني بسند فيه الواقدي متصلا ، فقال عن سعيد بن المسيب ، عن المسور بن مخرمة ، عن عتاب بن أسيد .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #84
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (83)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (9)
    صـ 511 إلى صـ 515

    وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة ، فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص ، أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص ; لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق " ، أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وقد أعل بأن فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ، ولم يعرف ، وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة ، وابن جريج مدلس ; فلعله تركها تدليسا ، قاله ابن حجر ، وقال ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال : فرواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، وأرسله معمر ، ومالك ، وعقيل : فلم يذكروا أبا [ ص: 511 ] هريرة ، وأخرج أبو داود من طريق ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق .

    وقال ابن حجر في " التلخيص " أيضا : روى أحمد من حديث ابن عمر : " أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم " ، الحديث .

    وروى أبو داود والدارقطني من حديث جابر : " لما فتح الله على رسوله خيبر أقرهم ، وجعلها بينه وبينهم ، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم " ، الحديث ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس .

    وروى الدارقطني عن سهل بن أبي حثمة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أباه خارصا ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن أبا حثمة قد زاد علي " الحديث ، ثم ذكر ابن حجر حديث عتاب ، وحديث عائشة اللذين قدمناهما ، ثم قال وفي الصحابة ، لأبي نعيم من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على الخرص ، فقال : " أثبت لنا النصف ، وأبق لهم النصف ، فإنهم يسرقون ، ولا نصل إليهم " .

    فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ظن وتخمين باطل ، بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر ، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير ، فهو كتقويم المتلفات ، ووقت الخرص حين يبدو صلاح الثمر ، كما قدمنا لما قدمنا من الرواية : " بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث الخارص ، فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل " ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .

    والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه ، فقيل : هو سنة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر به ، وقيل : واجب ; لما تقدم في حديث عتاب من قوله : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب " ، الحديث المتقدم ، قالوا : الأمر للوجوب ، ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء ، والأظهر عدم الوجوب ; لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي ، والله تعالى أعلم .

    واختلف العلماء القائلون بالخرص ، هل على الخارص أن يترك شيئا ؟ ، فقال بعض العلماء : عليه أن يترك الثلث أو الربع ، لما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - قال : قال [ ص: 512 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا خرصتم فخذوا ، ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي ، عن سهل بن أبي حثمة ، وقد قال البزار : إنه انفرد به ، وقال ابن القطان : لا يعرف حاله ، فالجواب : أن له شاهدا بإسناد متفق على صحته : " أن عمر بن الخطاب أمر به ، قاله الحاكم ، ومن شواهده : ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعا : " خففوا في الخرص " ، الحديث ، وفي إسناده ابن لهيعة .

    وممن قال بهذا القول الإمام أحمد ، وإسحاق ، والليث ، وأبو عبيد ، وغيرهم ، ومشهور مذهب مالك ، والصحيح في مذهب الشافعي : أن الخارص لا يترك شيئا .

    قال مقيده - عفا الله عنه : والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب ; لثبوت الحديث الذي صححه ابن حبان ، والحاكم بذلك ، ولم يثبت ما يعارضه ; ولأن الناس يحتاجون إلى أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم ، وضيوفهم ، وأصدقاءهم ، وسؤالهم ; ولأن بعض الثمر يتساقط ، وتنتابه الطير ، وتأكل منه المارة ، فإن لم يترك لهم الخارص شيئا ، فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه ، ولا يحسب عليهم .

    وهذا مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور ، فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص ، فقال بعض العلماء : لا زكاة عليه فيما زاد ، وتلزمه فيما نقص ; لأنه حكم مضى .

    وقال بعضهم : يندب الإخراج في الزائد ، ولا تسقط عنه زكاة ما نقص .

    قال مقيده - عفا الله عنه ، أما فيما بينه وبين الله ، فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد ، وأما فيما بينه وبين الناس ، فإنها قد تجب عليه ، قال خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " : وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج ، وهل على ظاهره أو الوجوب ؟ تأويلان .

    قال شارحه المواق من المدونة : قال مالك : من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس ، قال بعض شيوخنا : لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب ، وهو صواب كالحاكم يحكم بحكم ، ثم يظهر أنه خطأ صراح . ابن عرفة ، على هذا حملها الأكثر ، وحملها ابن رشيد ، وعياض على الاستحباب .

    قال مقيده - عفا الله عنه : ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر ، وعليه أكثر المالكية ، وهو الصحيح عند الشافعية ، وأما النقص : فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به ، [ ص: 513 ] فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به ، وإن ادعى غلط الخارص .

    فقد قال بعض أهل العلم : لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين ، وقال بعض العلماء : تقبل دعواه غلط الخارص ، إذا كانت مشبهة ، أما إذا كانت بعيدة ، كدعواه زيادة النصف أو الثلثين ، فلا يقبل قوله في الجميع ، وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي ، وأحمد ، إلا أن بعض الشافعية قال : يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه ، وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمدا ، فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف ، كما لو ادعى جور الحاكم ، أو كذب الشاهد ، وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص ، ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه ، نص عليه علماء الشافعية ، وإن ادعى رب الثمر : أنه أصابته جائحة أذهبت بعضه ، فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله ، كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلا قيل بيمين .

    وقيل : لا ، وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس ، كأن يقول : هلكت بحريق ، وقع في الجرين في وقت كذا ، وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه ، فإن علم وقوع السبب الذي ذكر ، وعموم أثره صدق بلا يمين ، وإن اتهم حلف ، قيل : وجوبا ، وقيل : استحبابا ، وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده ، فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب ، ثم القول قوله في الهلاك به ، وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي في شرح المهذب ، ووجهه ظاهر ، والله تعالى أعلم .

    وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر ، والزبيب ، فلا يخرص الزيتون ، والزرع ، ولا غيرهما ، وأجازه بعض العلماء في الزيتون ، وأجازه بعضهم في سائر الحبوب .

    والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر ، والعنب لثلاثة أمور :

    الأول : أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد ، وغيره من الأحاديث .

    الثاني : أن غيرهما ليس في معناهما ; لأن الحاجة تدعو غالبا إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمرا ، والعنب قبل أن يكون زبيبا ، وليس غيرهما كذلك .

    الثالث : أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها ، والعنب ظاهر أيضا مجتمع في عناقيده ، فحرزهما ممكن ، بخلاف غيرهما من الحبوب ، فإنه متفرق في شجره ، والزرع مستتر في سنبله .

    [ ص: 514 ] والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب ; لما قدمنا ، وقال المالكية : يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب ، ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها .
    المسألة الثانية : لا يجوز إخراج زكاة الثمار إلا من التمر اليابس والزبيب اليابس ، وكذلك زكاة الحبوب لا يجوز إخراجها إلا من الحب اليابس بعد التصفية ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع ، فإن دفع زكاة التمر بسرا أو رطبا ، أو دفع زكاة الزبيب عنبا ، لم يجزه ذلك ; لأنه دفع غير الواجب ; لأن الواجب تمر وزبيب يابسان إجماعا .

    وقد قال ابن قدامة في " المغني " : فإن كان المخرج للرطب رب المال لم يجزه ، ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف ; لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه ، كما لو أخرج الصغير عن الماشية الكبار ، وهو نص صريح منه في أن الرطب غير الواجب ، وأن منزلته من التمر الذي هو الواجب كمنزلة صغار الماشية من الكبار التي هي الواجبة في زكاة الماشية .

    وقال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : فلو أخرج الرطب والعنب في الحال لم يجزئه بلا خلاف ، ولو أخذه الساعي غرمه بلا خلاف ; لأنه قبضه بغير حق ، وكيف يغرمه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف في آخر الباب .

    الصحيح : الذي قطع به الجمهور ، ونص عليه الشافعي - رضي الله عنه - أنه يلزمه قيمته .

    والثاني : يلزمه مثله وهما مبنيان على أن الرطب والعنب مثليان أم لا ، والصحيح المشهور أنهما ليسا مثليين ، ولو جف عند الساعي ، فإن كان قدر الزكاة أجزأ ، وإلا رد التفاوت ، أو أخذه ، كذا قاله العراقيون وغيرهم ، وحكى ابن كج وجها أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض ، قال الرافعي : وهذا الوجه أولى والمختار ما سبق . انتهى كلام النووي بلفظه ، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب والعنب بلا خلاف عند الشافعية .

    وقال صاحب " المهذب " ما نصه : فإن أخذ الرطب وجب رده ، وإن فات وجب رد قيمته ، ومن أصحابنا من قال : يجب رد مثله ، والمذهب الأول لأنه لا مثل له ; لأنه يتفاوت ، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض . اهـ . منه بلفظه ، وهو صريح في عدم إجزاء [ ص: 515 ] الرطب في زكاة التمر ، وهذا الذي ذكرنا عن عامة العلماء من أن الزكاة لا تؤخذ إلا من التمر ، والزبيب اليابسين ، هو مذهب مالك وعامة أصحابه وفي الموطإ ما نصه :

    قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل تخرص على أهلها وثمرها في رؤوسها إذا طاب وحل بيعه ، ويؤخذ منه صدقته تمرا عند الجذاذ ، إلى أن قال : وكذلك العمل في الكرم . انتهى محل الفرض منه بلفظه ، وفيه تصريح مالك - رحمه الله - بأن الأمر المجتمع عليه من علماء زمنه ، أن الزكاة تخرج تمرا ، وهو يدل دلالة واضحة على أن من ادعى جواز إخراجها من الرطب أو البسر ، فدعواه مخالفة للأمر المجتمع عليه عند مالك وعلماء زمنه .

    ومن أوضح الأدلة على ذلك : أن البلح الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب كبلح مصر وعنبها ، لا يجوز الإخراج منه مع تعذر الواجب الذي هو التمر والزبيب اليابسان ، بل تدفع الزكاة من ثمنه أو قيمته عند مالك وأصحابه ، فلم يجعلوا العنب والرطب أصلا ، ولم يقبلوهما بدلا عن الأصل ، وقالوا : بوجوب الثمن إن بيع ، والقيمة إن أكل .

    قال خليل في مختصره : وثمن غير ذي الزيت وما لا يجف ، ومراده بقوله : وما لا يجف ، أن الرطب والعنب اللذين لا ييبسان يجب الإخراج من ثمنهما لا من نفس الرطب والعنب ، وفي المواق في شرح قول خليل ، وإن لم يجف ما نصه :

    قال مالك : إن كان رطب هذا النخل لا يكون تمرا ، ولا هذا العنب زبيبا ، فليخرص أن لو كان ذلك فيه ممكنا ، فإن صح في التقدير خمسة أوسق أخذ من ثمنه . انتهى محل الفرض منه بلفظه ، وهو نص صريح عن مالك أنه لا يرى إخراج الرطب ، والعنب في الزكاة ; لعدوله عنهما إلى الثمن في حال تعذر التمر والزبيب اليابسين ، فكيف بالحالة التي لم يتعذرا فيها .

    والحاصل أن إخراج الرطب والعنب عما يبس من رطب وعنب ، لم يقل به أحد من العلماء ، ولا دل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس ، وأما الذي لا ييبس كبلح مصر وعنبها ، ففيه قول مرجوح عند المالكية بإجزاء الرطب والعنب ، ونقل هذا القول عن ابن رشد ، وسترى - إن شاء الله - في آخر هذا المبحث كلام الشافعية والحنابلة فيه ، فإن قيل : فما الدليل على أنه لا يجزئ إلا التمر والزبيب اليابسان دون الرطب والعنب ؟

    فالجواب : أن ذلك دلت عليه عدة أدلة :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #85
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (84)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (10)
    صـ 516 إلى صـ 520


    [ ص: 516 ] الأول : هو ما قدمنا من حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النخل ؛ فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا " ، وقد قدمنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني ، وقد قدمنا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب ، وقدمنا أيضا أن الاحتجاج بمثل هذا المرسل من مراسيل سعيد صحيح عند الأئمة الأربعة ، فإذا علمت صحة الاحتجاج بحديث سعيد بن المسيب هذا ، فاعلم أنه نص صريح في : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بخرص العنب والنخل ، وأن تؤخذ زكاة العنب زبيبا ، وصدقة النخيل تمرا ، فمن ادعى جواز أخذ زكاة النخل رطبا أو بسرا ، فدعواه مخالفة لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أمر بأخذها في حال كونها تمرا في النخل وزبيبا في العنب ، ومعلوم أن الحال وصف لصاحبها ، قيد لعاملها ، فكون زكاة النخل تمرا وصف لها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجها في حال كونها متصفة به ، وكذلك كونها تمرا قيد لأخذها ، فهو تقييد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذها بأن يكون في حال كونها تمرا ، فيفهم منه أنها لا تؤخذ على غير تلك الحال ، ككونها رطبا مثلا ، وإذا اتضح لك أن أخذها رطبا - مثلا - مخالف لما أمر به - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه قال في الحديث المتفق عليه : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد " ، وفي رواية في الصحيح : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وفي الكتاب العزيز : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] .

    ومما يوضح لك أن إخراج الرطب مثلا في الزكاة مخالف لما سنه وشرعه - صلى الله عليه وسلم - من أخذها تمرا ، وزبيبا يابسين ما ذكره البيهقي في " السنن الكبرى " في باب " كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب " ، فإنه قال فيه : وأخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني ، أنبأ بشر بن أحمد ، أنبأ أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، أخبرني الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب كما يخرص النخل ، ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا " ، قال : فتلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النخل والعنب . اهـ منه بلفظه ، وفيه التصريح بأن : إخراج التمر والزبيب هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمخرج الرطب والعنب مخالف لسنته - صلى الله عليه وسلم - كما ترى .

    الدليل الثاني : إجماع المسلمين على أن زكاة الثمار والحبوب من نوع ما تجب الزكاة في عينه ، والعين الواجبة فيها الزكاة هي : التمر والزبيب اليابسان ، لا الرطب [ ص: 517 ] والعنب بدليل إجماع القائلين بالنصاب في الثمار ، على أن خمسة الأوسق التي هي النصاب لا تعتبر من الرطب ، ولا من العنب ، فمن كان عنده خمسة أوسق من الرطب أو العنب ، ولكنها إذا جفت نقصت عن خمسة أوسق ، فلا زكاة عليه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، فلو أخرج الزكاة من الرطب أو العنب لكان مخرجا من غير ما تجب في عينه الزكاة كما ترى ، ويدل له ما ذكره الزرقاني في " شرح الموطإ " ، فإنه قال فيه في شرح قول مالك : ثم يؤدون الزكاة على ما خرص عليهم ، ما نصه : ومبنى التخريص أن يحزر ما في النخل ، أو العنب من التمر اليابس إذا جذ ، على حسب جنسه ، وما علم من حاله أنه يصير إليه عند الإتمار ; لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا . انتهى محل الفرض منه بلفظه .

    وقد تقرر عند جماهير العلماء أن لفظة إنما للحصر وهو الحق ، فقول الزرقاني : لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا ، معناه : حصر أخذ زكاة النخل في خصوص التمر دون غيره من رطب ونحوه ; معللا بذلك اعتبار النصاب من التمر اليابس ; لأن الإخراج مما تجب في عينه الزكاة من الثمار والحبوب وهو واضح ، ولا يرد على ما ذكرنا أن وقت وجوب الزكاة هو وقت طيب الثمر قبل أن يكون يابسا ; لإجماع العلماء على أنه لا يجب إخراجها بالفعل إلا بعد أن يصير تمرا يابسا ; ولإجماعهم أيضا على أنه إن أصابته جائحة اعتبرت ، فتسقط زكاة ما أجيح ، كما تسقط زكاة الكل إن لم يبق منه نصاب ، وسيأتي له زيادة إيضاح .

    الدليل الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذها تمرا بعد الجذاذ ، لا بلحا ، ولا رطبا ، والله جل وعلا يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، ويقول : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، ويقول : من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية [ 4 \ 80 ] ، ويقول : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني الآية [ 3 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    قال البخاري في " صحيحه " ، باب " أخذ صدقة التمر عند صرام النخل " : وهل يترك الصبي فيمس الصدقة ، حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي ، حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل ، فيجيء هذا بتمره ، وهذا من تمره ، حتى يصير عنده كوما من تمر ، فجعل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - يلعبان بذلك التمر ، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجها من فيه ، فقال : " أما [ ص: 518 ] علمت أن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يأكلون الصدقة " . اهـ .

    فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ صدقة النخل تمرا بعد الجذاذ ، وقد تقرر في الأصول أن صيغة المضارع بعد لفظة كان في نحو : كان يفعل كذا ، تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل ، فقول أبي هريرة في هذا الحديث المرفوع الصحيح : كان صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالتمر عند صرام النخل " .

    الحديث يدل دلالة واضحة على أن إخراج التمر عند الجذاذ هو الذي كان يفعل دائما في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يأخذ في الزكاة ذلك التمر اليابس ، فمن ادعى جواز إخراج زكاة النخل رطبا أو بلحا ، فهو مخالف لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرح هذا الحديث المذكور آنفا ما نصه : " قال الإسماعيلي : قوله عند صرام النخل ، أي : بعد أن يصير تمرا ; لأن النخل قد يصرم وهو رطب ، فيتمر في المربد ، ولكن ذلك لا يتطاول ، فحسن أن ينسب إلى الصرام ، كما في قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، فإن المراد بعد أن يداس وينقى ، والله تعالى أعلم " ، اهـ . منه بلفظه وهو واضح فيما ذكرنا .

    وبما ذكرنا تعلم أن ما يدعيه بعض أهل العلم من المتأخرين من جواز إخراج زكاة النخل رطبا وبسرا غير صحيح ، ولا وجه له ، ولا دليل عليه ، وأما إن كان التمر لا ييبس ، كبلح مصر ، وعنبها ، فقد قدمنا عن مالك وأصحابه : أن الزكاة تخرج من ثمنه إن بيع ، أو قيمته إن أكل ، لا من نفس الرطب أو العنب .

    وقد قدمنا عن ابن رشد قولا مرجوحا بإجزاء الرطب والعنب في خصوص ما لا ييبس ، ومذهب الشافعي - رحمه الله - في زكاة ما لا ييبس : أنه على القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع ، فيجوز القسم ، ويجعل العشر أو نصفه متميزا في نخلات ، ثم ينظر المصدق ، فإن رأى أن يفرق عليهم فعل ، وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل ، وأما على القول بأن القسمة بيع فلا تجوز في الرطب والعنب ، ويقبض المصدق عشرها مشاعا بالتخلية بينه وبينها ، ويستقر عليه ملك المساكين ، ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرقه عليهم ، وهكذا الحكم عنده فيما إذا احتيج إلى قطع الثمرة رطبا ، خوفا عليها من العطش ونحوه .

    وحكم هذه المسألة في المذهب الحنبلي فيه قولان :

    أحدهما : أنه يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص ، [ ص: 519 ] ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة ، ويأخذ ثمرتها ، وبين أن يجذها ويقاسمه إياها بالكيل ، ويقسم الثمرة في الفقراء ، وبين أن يبيعها من رب المال أو غيره ، قبل الجذاذ أو بعده ، ويقسم ثمنها في الفقراء .

    القول الثاني : أن عليه الزكاة من تمر وزبيب يابسين ، قاله أبو بكر ، وذكر أن أحمد رحمه الله نص عليه ، قاله صاحب " المغني " ، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب أحمد - رحمه الله - في المسألتين ، أعني الثمر الذي لا ييبس ، والذي احتيج لقطعه قبل اليبس .
    المسألة الثالثة : اختلف في وقت وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض من ثمر وحب ، فقال جمهور العلماء : تجب في الحب إذا اشتد ، وفي الثمر إذا بدا صلاحه ، فتعلق الوجوب عند طيب التمر ، ووجوب الإخراج بعد الجذاذ .

    وفائدة الخلاف أنه لو تصرف في الثمر والحب قبل الوجوب لم يكن عليه شيء ، وإن تصرف في ذلك بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة عنه .

    ومن فوائده أيضا : أنه إذا مات بعد وقت الوجوب زكيت على ملكه ، وإن مات قبل الوجوب زكيت على ملك الورثة ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال :

    الأول : أنه وقت الجذاذ ، قاله محمد بن مسلمة ; لقوله تعالى : يوم حصاده .

    الثاني : يوم الطيب ; لأن ما قبل الطيب يكون علفا ، لا قوتا ولا طعاما ، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به ، وجب الحق الذي أمر الله به ، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب .

    الثالث : أنه يكون بعد تمام الخرص ; لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة ، فيكون شرطا لوجوبها ، كمجيء الساعي في الغنم ، وبه قال المغيرة ، والصحيح الأول ; لنص التنزيل ، والمشهور في المذهب الثاني ، وبه قال الشافعي . اهـ منه .

    وقد قدمنا أن مالكا - رحمه الله - يقول : بأن كل ما أكله المالك أو تصدق به يحسب عليه ، وجمهور العلماء يخالفونه - رحمه الله - في ذلك ، واحتجوا لأن ما يأكله لا يحسب عليه بقوله تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده . وبالحديث المتقدم : أن على الخارص أن يدع الثلث أو الربع ، وقوله تعالى : يوم حصاده ، قرأه ابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم بفتح الحاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان مشهورتان [ ص: 520 ] كالصرام والصرام ، والجذاذ والجذاذ ، والقطاف والقطاف .

    فائدة : ينبغي لصاحب الحائط إذا أراد الجذاذ ألا يمنع المساكين من الدخول ، وأن يتصدق عليهم ; لقوله تعالى في ذم أصحاب الجنة المذكورة في سورة القلم : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين الآيات [ \ 17 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية [ 6 \ 145 ] . هذه الآية الكريمة صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها ، التي هي : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله ، ولكنه تعالى بين في بعض المواضع تحريم غير المذكورات ، كتصريحه بتحريم الخمر في سورة المائدة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .

    وقال بعض العلماء لا يحرم مطعوم إلا هذه الأربعة المذكورة ، وهو قول يروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، قال القرطبي : ويروى عنهم أيضا خلافه ، وقال البخاري في " صحيحه " : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال عمرو : قلت لجابر بن زيد : يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن لحوم الحمر الأهلية " ، فقال : " قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وقرأ : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما . اهـ . وقال ابن خويز منداد من المالكية : تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره ، إلا ما استثني في الآية من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .

    ولهذا قلنا : إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان ، والخنزير مباحة .

    وقال القرطبي : روي عن عائشة ، وابن عباس ، وابن عمر إباحة أكل لحوم السباع ، والحمر ، والبغال ، وذكر حديث البخاري الذي قدمنا آنفا .

    ثم قال : وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع ، فقال : لا بأس بها ، فقيل له حديث أبي ثعلبة الخشني ، فقال : لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه .

    وسئل الشعبي عن لحم الفيل ، والأسد ، فتلا هذه الآية .

    وقال القاسم : كانت عائشة تقول - لما سمعت الناس يقولون : حرم كل ذي ناب من السباع - ذلك حلال ، وتتلو هذه الآية : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #86
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (85)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (11)
    صـ 521 إلى صـ 525

    قال مقيده - عفا الله عنه : اعلم أنا نريد في هذا المبحث أن نبين حجة من قال بعدم تحريم لحوم السباع ، والحمير ، ونحوها ، وحجة من قال بمنعها ، ثم نذكر الراجح بدليله .

    واعلم أولا : أن دعوى أنه لا يحرم مطعوم غير الأربعة المذكورة في هذه الآية باطلة ، بإجماع المسلمين ; لإجماع جميع المسلمين ; ودلالة الكتاب والسنة على تحريم الخمر ، فهو دليل قاطع على تحريم غير الأربعة .

    ومن زعم أن الخمر حلال لهذه الآية ، فهو كافر بلا نزاع بين العلماء ، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذين استدلوا بهذه الآية على عدم تحريم ما ذكر ، قالوا : إن الله حصر المحرمات فيها في الأربعة المذكورة ، وحصرها أيضا في النحل فيها في قوله : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 173 ] ; لأن إنما أداة حصر عند الجمهور ، والنحل بعد الأنعام ; بدليل قوله في النحل : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل الآية [ 16 \ 118 ] ، والمقصوص المحال عليه هو المذكور في الأنعام ، في قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية [ 6 \ 146 ] ; ولأنه تعالى قال في الأنعام : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية [ 6 \ 148 ] ، ثم صرح في النحل بأنهم قالوا ذلك بالفعل ، في قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء الآية [ 16 \ 135 ] ; فدل ذلك على أن النحل بعد الأنعام ، وحصر التحريم أيضا في الأربعة المذكورة في سورة البقرة ، في قوله : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فقالوا : هذا الحصر السماوي الذي ينزل به الملك مرة بعد مرة في مكة في الأنعام ، والنحل ، وفي المدينة عند تشريع الأحكام في البقرة لا يمكننا معارضته ، ولا إخراج شيء منه إلا بدليل قطعي المتن ، متواتر كتواتر القرآن العظيم .

    فالخمر مثلا دل القرآن على أنها محرمة فحرمناها ; لأن دليلها قطعي ، أما غيرها كالسباع ، والحمر ، والبغال : فأدلة تحريمها أخبار آحاد يقدم عليها القاطع ، وهى الآيات المذكورة آنفا .
    تنبيه

    اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلا بالسنة على [ ص: 522 ] الأربعة المذكورة في الآيات ، كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرآن ، أو زيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين ، أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، غير ظاهر عندي ; لوضوح الفرق بين الأمرين ; لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 \ 2 ] ، في الأول ، وآية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية ، في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات ، ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء ; لأن الزيادة على النص ليست نسخا له عند الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله .

    وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين ; لأن الزيادة عنده نسخ ، والقرآن لا ينسخ بأخبار الآحاد ; لأنه قطعي المتن وليست كذلك ، أما زيادة محرم آخر على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية ، فليست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول ، وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن ; لدلالة الحصر القرآني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة ، وبين الأمرين فرق واضح ، وبه تعلم أن مالكا - رحمه الله - ليس ممن يقول : بأن الزيادة على النص نسخ ، اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفيا بالنص قبلها ، فكونها إذن ناسخة واضح ، وهناك نظر آخر ، قال به بعض العلماء : وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي ; لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل ، كما قاله جمع من أهل الأصول .

    وإذا كانت إباحته عقلية : فرفعها ليس بنسخ حتى يشترط في ناسخها التواتر ، وعن ابن كثير في " تفسيره " هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين .

    قال مقيده - عفا الله عنه : وكونه نسخا أظهر عندي ; لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعا ، فتكون إباحة شرعية ; لدلالة القرآن عليها ، ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف ، وأشار في " مراقي السعود " إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخا بقوله : [ الرجز ]

    وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا

    وهذا قول جمهور العلماء ، ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد ، وما لا ينافي لا يكون [ ص: 523 ] ناسخا ، وهو ظاهر .

    واعلم أن مالك بن أنس - رحمه الله - اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع ، فروي عنه أنها حرام ، وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في " الموطأ " ; لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ، ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - بإسناده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع " ، ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " ، ثم قال : وهو الأمر عندنا ، وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها ، وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه ، وروي عنه أيضا أنها مكروهة ، وهو ظاهر " المدونة " ، وهو المشهور عند أهل مذهبه ، ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا ، ومن جملتها الآية التي نحن بصددها .

    وما روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة من إباحتها ، وهو قول الأوزاعي .

    قال مقيده - عفا الله عنه : الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور : من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام ، ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات ، ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن ; لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها .

    وقد قرر العلماء : أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما ; لاحتمال صدق كل منهما في وقتها ، وقد اشترط عامة النظار في التناقض اتحاد الزمان ; لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها ، كما لو قلت : لم يستقبل بيت المقدس ، قد استقبل بيت المقدس ، وعنيت بالأولى ما بعد النسخ ، وبالثانية ما قبله ، فكلتاهما تكون صادقة ، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه : يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف ، أعني الإيجاب والسلب ، من زمان ، ومكان ، وشرط ، وإضافة ، وقوة ، وفعل ، وتحصيل ، وعدول ، وموضوع ، ومحمول ، وجزء ، وكل ، بقولي : [ الرجز ]

    والاتحاد لازم بينهما فيما سوى الكيف كشرط علما والجزء والكل مع المكان والفعل والقوة والزمان إضافة تحصيل أو عدول ووحدة الموضوع والمحمول

    فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حراما غير الأربعة المذكورة ، فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك ، فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد ، فذلك لا ينافي الحصر [ ص: 524 ] الأول لتجدده بعده ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه ، وإن منعه أكثر أهل الأصول .

    وإذا عرفت ذلك : فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا ، وأقوال العلماء فيها .

    فمن ذلك كل ذي ناب من السباع ، فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة ، وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها ، وتحريمها ، أما حديث أبي ثعلبة فمتفق عليه ، وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في " صحيحه " عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " كل ذي ناب من السباع ، فأكله حرام " .

    والأحاديث في الباب كثيرة ، وبه تعلم أن التحقيق : هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع .

    والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه ، ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم : أنه لم يثبت النهي عنه - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عباس : أنه - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن كل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير " . اهـ .

    فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلا منهما ذو عداء وافتراس ، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه .

    والأصل في النهي التحريم ، وبتحريم ذي الناب من السباع ، وذي المخلب من الطير ، قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود .

    وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع ، وأن مشهور مذهبه الكراهة ، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها ، والحق التحريم لما ذكرنا .

    ومن ذلك الحمر الأهلية ، فالتحقيق أيضا أنها حرام ، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف ; لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها ، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، وسلمة بن الأكوع ، وعبد الله بن عمر ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وأنس ، وأبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنهم - وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم ، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري ، ومسلم : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية " ، وهذا صريح صراحة [ ص: 525 ] تامة في التحريم ، ولفظ حديث أنس عندهما أيضا : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " ، وفي رواية لمسلم : " فإنها رجس من عمل الشيطان " ، وفي رواية له أيضا : " فإنها رجس " أو " نجس " .

    قال مقيده - عفا الله عنه : حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لحوم الحمر الأهلية رجس ، صريح في تحريم أكلها ، ونجاسة لحمها ، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها ، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم . والله تعالى أعلم .

    ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني - رضي الله عنه - قال : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أصابتنا السنة ، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت الحمر الأهلية ، فقال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية " . اهـ .

    والجوال : جمع جالة ، وهي التي تأكل الجلة ، وهي في الأصل البعر ، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة .

    قال النووي في " شرح المهذب " : اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث .

    قال الخطابي ، والبيهقي : هو حديث يختلف في إسناده ، يعنون مضطربا ، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها .

    وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضا ; لما رواه أحمد ، والترمذي من حديث جابر ، قال : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر ، لحوم الحمر الإنسية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " ، أصل حديث جابر هذا في " الصحيحين " كما تقدم ، وهو بهذا اللفظ ، بسند لا بأس به . قاله ابن حجر والشوكاني .

    وقال ابن كثير " في تفسيره " : وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : " ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمر ، ولم ينهنا عن الخيل " ، وهو دليل واضح على تحريم البغال ، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعا ; لصحة النصوص بتحريمها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #87
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (86)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (12)
    صـ 526 إلى صـ 530

    وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء :

    فمنعها مالك - رحمه الله - في أحد القولين ، وعنه أنها مكروهة ، وكل من القولين صححه بعض المالكية ، والتحريم أشهر عندهم .

    وقال أبو حنيفة - رحمه الله : أكره لحم الخيل ، وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه ، وقال : لم يطلق أبو حنيفة فيها التحريم ، وليست عنده كالحمار الأهلي .

    وصحح عنه صاحب " المحيط " ، وصاحب " الهداية " ، وصاحب " الذخيرة " التحريم ، وهو قول أكثر الحنفية .

    وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل : الأوزاعي ، وأبو عبيد ، وخالد بن الوليد - رضي الله عنه - وابن عباس ، والحكم .

    ومذهب الشافعي وأحمد - رحمهما الله تعالى - جواز أكل الخيل ، وبه قال أكثر أهل العلم .

    وممن قال به : عبد الله بن الزبير ، وفضالة بن عبيد ، وأنس بن مالك ، وأسماء بنت أبي بكر ، وسويد بن غفلة ، وعلقمة ، والأسود ، وعطاء ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وغيرهم .

    كما نقله عنهم النووي ، في " شرح المهذب " ، وسنبين - إن شاء الله - حجج الجميع ، وما يقتضي الدليل رجحانه .

    اعلم أن من منع أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث :

    أما الآية ، فقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، فقال : قد قال تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ 16 \ 5 ] ، فهذه للأكل ، وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها ، فهذه للركوب لا للأكل ، وهذا تفصيل من خلقها وامتن بها ، وأكد ذلك بأمور :

    أحدها : أن اللام للتعليل ، أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة ، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر ، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية .

    ثانيها : عطف البغال والحمير عليها ، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم .

    ثالثها : أن الآية الكريمة سيقت للامتنان ، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان .

    [ ص: 527 ] والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ، ويترك أعلاها ، لا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها .

    رابعها : لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة .

    وأما الحديث : فهو ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير " .

    ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة ، بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقا ، والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين ، فلو فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع من الآية لما أذن في الأكل ، وأيضا آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل ، بل فهم من التعليل ، وحديث جابر ، وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما ، كلاهما صريح في جواز أكل الخيل ، والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول .

    وأيضا فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة ، فهي إنما تدل على ترك الأكل ، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه ، أو خلاف الأولى ، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز .

    وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل ، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة . فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما ، وفي غير الأكل اتفاقا ، وإنما ذكر الركوب والزينة ; لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل .

    ونظيره حديث البقرة المذكور في " الصحيحين " حين خاطبت راكبها فقالت : " إنا لم نخلق لهذا ، إنا خلقنا للحرث " ، فإنه مع كونه أصرح في الحصر ، لم يقصد به إلا الأغلب ، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا .

    وأيضا فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة ، ولا قائل بذلك .

    وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها ، فهو استدلال بدلالة الاقتران ، وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول ، كما أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]

    أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور

    [ ص: 528 ] وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان : فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب ، فخوطبوا بما عرفوا وألفوا ، ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم ، وشدة الحاجة إليها في القتال ، بخلاف الأنعام : فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال ، وللأكل ; فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه .

    فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا .

    وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها ، سبب لفنائها وانقراضها :

    فيجاب عنه : بأنه أذن في أكل الأنعام ولم تنقرض ، ولو كان الخوف عن ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض ، فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل ، قاله ابن حجر .

    وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد - رضي الله عنه : فهو مردود من وجهين :

    الأول : أنه ضعفه علماء الحديث ، فقد قال ابن حجر في " فتح الباري " في باب " لحوم الخيل " ما نصه : " وقد ضعف حديث خالد أحمد ، والبخاري ، وموسى بن هارون ، والدارقطني ، والخطابي ، وابن عبد البر ، وعبد الحق ، وآخرون .

    وقال النووي في " شرح المهذب " : واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم ، على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف ، وذكر أسانيد بعضهم بذلك ، وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب ، في إسناده صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب ، ضعفه غير واحد ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : لين ، وفيه أيضا : والده يحيى المذكور ، الذي هو شيخه في هذا الحديث ، قال فيه في " التقريب " : مستور .

    الوجه الثاني : أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد ، فإنه معارض بما هو أقوى منه ، كحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر ، ورخص في لحوم الخيل " ، وفي لفظ في " الصحيح " : " وأذن في لحوم الخيل " ، وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - قالت : " نحرنا فرسا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه " متفق عليهما .

    ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد ، وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل ، والعلم عند الله تعالى ، ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط ، كما قال بعض أهل العلم : [ الرجز ]

    [ ص: 529 ] وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن

    ومن ذلك الكلب : فإن أكله حرام عند عامة العلماء ، وعن مالك قول ضعيف جدا بالكراهة .

    ولتحريمه أدلة كثيرة ، منها : ما تقدم في ذي الناب من السباع ; لأن الكلب سبع ذو ناب ، ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه ، وقد ثبت النهي عن ثمنه في " الصحيحين " من حديث أبي مسعود الأنصاري ، مقرونا بحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة ، وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - بلفظ : " ثمن الكلب خبيث " ، الحديث ، وذلك نص في التحريم لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث الآية [ 7 \ 157 ] .

    فإن قيل : ما كل خبيث يحرم ; لما ورد في الثوم أنه خبيث ، وفي كسب الحجام أنه خبيث ، مع أنه لم يحرم واحد منهما .

    فالجواب : أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلا على تحريمه ، وما أخرجه دليل يخرج ، ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه ، كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب والسنة ، يخرج منها بعض الأفراد بمخصص ، وتبقى حجة في الباقي ، وهذا مذهب الجمهور ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]

    وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينا يبن

    فإن قيل : تحريم الخبائث لعلة الخبث ، وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضا في العلة لا تخصيصا لها .

    فالجواب : أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة ، لا إبطال لها ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]

    منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح

    إلخ . . . . كما حررناه في غير هذا الموضع .

    ومن الأدلة على تحريم الكلب : ما ثبت في " الصحيحين " من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه ، وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم ، فلو كان أكله مباحا ، لكان اقتناؤه [ ص: 530 ] مباحا .

    وإنما رخص - صلى الله عليه وسلم - في كلب الصيد ، والزرع ، والماشية ; للضرورة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من اتخذ كلبا ، إلا كلب صيد ، أو زرع ، أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، ومنه أيضا ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ، ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط " ، ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ : " نقص كل يوم من عمله قيراطان " ، وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عمر من طرق في بعضها قيراط ، وفي بعضها قيراطان .

    والأحاديث في الباب كثيرة ، وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله ، إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل ، وهو ظاهر ، ومن ذلك ما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث جابر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن المغفل - رضي الله عنهم : من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ، ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها ، ولم يرخص - صلى الله عليه وسلم - فيها إلا لضرورة الصيد ، أو الزرع ، أو الماشية .

    وإذا عرفت أن في كلب الصيد ، وما ذكر معه ، بعض المنافع المباحة ، كالانتفاع بصيده ، أو حراسته الماشية ، أو الزرع ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في بيعه .

    فمنهم من قال : بيعه تابع للحمه ، ولحمه حرام ; فبيعه حرام ، وهذا هو أظهر الأقوال دليلا ; لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ، مقرونا بحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وهو نص صحيح صريح في منع بيعه .

    ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا ، قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب " ، وقال : " إن جاء يطلب ثمن الكلب ، فاملأ كفه ترابا " .

    قال النووي في " شرح المهذب " ، وابن حجر في " الفتح " : إسناده صحيح ، وروى أبو داود أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا : " لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي " ، قال ابن حجر في " الفتح " : إسناده حسن ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إسناده حسن صحيح .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #88
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (87)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (13)
    صـ 531 إلى صـ 535

    وإذا حققت ذلك ، فاعلم أن القول بمنع بيع الكلب الذي ذكرنا أنه هو الحق ، عام في المأذون في اتخاذه وغيره ; لعموم الأدلة ، وممن قال بذلك : أبو هريرة ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، وربيعة ، والحكم ، وحماد ، والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وابن المنذر ، وغيرهم ، وهو المشهور الصحيح من مذهب مالك ، خلافا لما ذكره القرطبي في " المفهم " : من أن مشهور مذهبه الكراهة ، وروي عن مالك أيضا جواز بيع كلب الصيد ونحوه ، دون الذي لم يؤذن في اتخاذه ، وهو قول سحنون ; لأنه قال : أبيع كلب الصيد وأحج بثمنه .

    وأجاز بيعه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة من صيد ، أو حراسة لماشية مثلا ، وحكى نحوه ابن المنذر عن جابر ، وعطاء ، والنخعي ، قاله النووي .

    وإن قتل الكلب الماذون فيه ككلب الصيد ، ففيه القيمة عند مالك ، ولا شيء فيه عند أحمد ، والشافعي ، وأوجبها فيه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة .

    وحجة من قال : لا قيمة فيه ، أن القيمة ثمن ، والنص الصحيح نهى عن ثمن الكلب ، وجاء فيه التصريح بأن طالبه تملأ كفه ترابا ، وذلك أبلغ عبارة في المنع منه .

    واحتج من أوجبها بأنه فوت منفعة جائزة فعليه غرمها .

    واحتج من أجاز بيع الكلب ، وألزم قيمته إن قتل ، بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد " ، وعن عمر - رضي الله عنه : أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما ، وقضى في كلب ماشية بكبش .

    واحتجوا أيضا بأن الكلب المأذون فيه تجوز الوصية به ، والانتفاع به ، فأشبه الحمار .

    وأجاب الجمهور بأن الأحاديث والآثار المروية في جواز بيع كلب الصيد ولزوم قيمته كلها ضعيفة .

    قال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : " وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين " ، وهكذا أوضح الترمذي ، والدارقطني ، والبيهقي ضعفها ، والاحتجاج بجواز الوصية به وشبهه بالحمار مردود بالنصوص الصحيحة ، المصرحة بعدم حلية ثمنه ، وما ذكره ابن عاصم المالكي في " تحفته " من قوله : [ الرجز ]

    واتفقوا أن كلاب الباديه يجوز بيعها ككلب الماشيه

    [ ص: 532 ] فقد رده عليه - رحمه الله - علماء المالكية ، وقد قدمنا أنه قول سحنون .

    واعلم أن ما روي عن جابر ، وابن عمر مرفوعا مما يدل على جواز بيع كلب الصيد كله ضعيف ، كما بين تضعيفه ابن حجر في " فتح الباري " في باب " ثمن الكلب " .

    قال القرطبي : وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس .
    ومن ذلك القرد ، فإنه لا يجوز أكله ، قال القرطبي في " تفسيره " : قال أبو عمر ، يعني ابن عبد البر : أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكله ، ولا يجوز بيعه ; لأنه لا منفعة فيه .

    قال : وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب : سئل مجاهد عن أكل القرد ، فقال : ليس من بهيمة الأنعام ، قلت : ذكر ابن المنذر أنه قال : روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم ، قال : يحكم به ذوا عدل ، قال : فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه ; لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد ، وفي " بحر المذهب " للروياني على مذهب الشافعي .

    وقال الشافعي : يجوز بيع القرد ; لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع . اهـ .

    وقال النووي في " شرح المهذب " : القرد حرام عندنا ، وبه قال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، ومكحول ، والحسن ، وابن حبيب المالكي .

    وقال ابن قدامة في " المغني " : وقال ابن عبد البر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ، ولا يجوز بيعه ، وروي عن الشعبي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن لحم القرد " ، ولأنه سبع ، فيدخل في عموم الخبر ، ولأنه مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة .

    وقد قدمنا جزم ابن حبيب ، وابن عبد البر من المالكية : بأنه حرام ، وقال الباجي : الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه : أنه ليس بحرام .

    ومن ذلك الفيل : فالظاهر فيه أنه من ذوات الناب من السباع ، وقد قدمنا أن التحقيق فيها التحريم ; لثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب الجمهور .

    وممن صححه من المالكية : ابن عبد البر ، والقرطبي .

    [ ص: 533 ] وقال بعض المالكية كراهته أخف من كراهة السبع ، وأباحه أشهب ، وعن مالك في " المدونة " : كراهة الانتفاع بالعاج ، وهو سن الفيل .

    وقال ابن قدامة في " المغني " : والفيل محرم ، قال أحمد : ليس هو من أطعمة المسلمين ، وقال الحسن : هو مسخ ، وكرهه أبو حنيفة ، والشافعي ، ورخص في أكله الشعبي ، ولنا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وهو من أعظمها نابا ; ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة للخبائث . اهـ .

    وقال النووي في " شرح المهذب " : الفيل حرام عندنا ، وعند أبي حنيفة ، والكوفيين ، والحسن ، وأباحه الشعبي ، وابن شهاب ، ومالك في رواية .

    وحجة الأولين أنه ذو ناب . اهـ .

    ومن ذلك الهر ، والثعلب ، والدب : فهي عند مالك من ذوات الناب من السباع ، وعنه رواية أخرى أنها مكروهة كراهة تنزيه ، ولا تحريم فيها قولا واحدا ، والهر الأهلي والوحشي عنده سواء .

    وفرق بينهما غيره من الأئمة كالشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة : فمنعوا الأهلي .

    قال ابن قدامة في " المغني " : فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا ومالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي .

    وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن أكل الهر ، وقال ابن قدامة في " المغني " أيضا : واختلفت الرواية في الثعلب ، فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه ، وهذا قول أبي هريرة ، ومالك ، وأبي حنيفة ; لأنه سبع ; فيدخل في عموم النهي ، ونقل عن أحمد إباحته ، واختاره الشريف أبو جعفر ، ورخص فيه عطاء ، وطاوس ، وقتادة ، والليث ، وسفيان بن عيينة ، والشافعي ; لأنه يفدى في الإحرام والحرم ، إلى أن قال : واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر ، والقول فيه كالقول في الثعلب .

    وحكى النووي اتفاق الشافعية على إباحة الثعلب ، وقال صاحب " المهذب " : وفي سنور الوحش وجهان :

    أحدهما : لا يحل ; لأنه يصطاد بنابه فلم يحل ، كالأسد والفهد .

    والثاني : يحل ; لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي ، فيحرم الأهلي منه ، [ ص: 534 ] ويحل الوحشي كالحمار .

    وأما الدب : فهو سبع ذو ناب عند مالك ، والشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة ، وقال أحمد : إن كان الدب ذا ناب منع أكله ، وإن لم يكن ذا ناب فلا بأس بأكله .

    واختلف العلماء في جواز أكل الضبع : وهو عند مالك كالثعلب ، وقد قدمنا عنه أنه سبع في رواية ، وفي أخرى أنه مكروه ، ولا قول فيه بالتحريم ، والأحاديث التي قدمناها في سورة " المائدة " بأن الضبع صيد تدل على إباحة أكلها ، وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه كان يأكل الضباع ، قاله القرطبي ، ورخص في أكلها الشافعي وغيره ، وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : قال الشافعي : وما يباع لحم الضباع بمكة إلا بين الصفا والمروة .

    وحجة مالك في مشهور مذهبه : أن الضبع من جملة السباع ; فيدخل في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ولم يخص سبعا منها عن سبع ، قال القرطبي : وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي ; لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ، وليس مشهورا بنقل العلم ، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه ، قال أبو عمر : وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة ، روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات ، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار . اهـ .

    قال مقيده - عفا الله عنه : للمخالف أن يقول أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع ، ودليل إباحة الضبع خاص ، ولا يتعارض عام وخاص ; لأن الخاص يقضي على العام ، فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول .

    ومن ذلك القنفذ : فقد قال بعض العلماء بتحريمه ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وأبي هريرة ، وأجاز أكله الجمهور ، منهم مالك ، والشافعي ، والليث ، وأبو ثور ، وغيرهم .

    واحتج من منعه بما رواه أبو داود ، والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال : ذكر القنفذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " هو خبيث من الخبائث " .

    واحتج من أباحه ، وهم الجمهور ، بأن الحديث لم يثبت ، ولا تحريم إلا بدليل . قال البيهقي في السنن الكبرى ، بعد أن ساق حديث أبي هريرة المذكور في خبث القنفذ : هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد ، وهو إسناد فيه ضعف .

    وممن كره أكل القنفذ : أبو حنيفة وأصحابه . قاله القرطبي وغيره .
    [ ص: 535 ] ومن ذلك حشرات الأرض : كالفأرة ، والحيات ، والأفاعي ، والعقارب ، والخنفساء ، والعظاية ، والضفادع ، والجرذان ، والوزغ ، والصراصير ، والعناكب ، وسام أبرص ، والجعلان ، وبنات وردان ، والديدان ، وحمار قبان ، ونحو ذلك .

    فجمهور العلماء على تحريم أكل هذه الأشياء ; لأنها مستخبثة طبعا ، والله تعالى يقول : ويحرم عليهم الخبائث .

    وممن قال بذلك : الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وابن شهاب ، وعروة ، وغيرهم - رحمهم الله تعالى .

    ورخص في أكل ذلك : مالك ، واشترط في جواز أكل الحيات أن يؤمن سمها .

    وممن روي عنه الترخيص في أكل الحشرات : الأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، واحتجوا بما رواه أبو داود ، والبيهقي ، من حديث ملقام بن تلب ، عن أبيه تلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري - رضي الله عنه - قال : صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما .

    واحتجوا أيضا بأن الله حرم أشياء ، وأباح أشياء ، فما حرم فهو حرام ، وما أباح فهو مباح ، وما سكت عنه فهو عفو .

    وقالت عائشة - رضي الله عنها - في الفأرة : ما هي بحرام ، وقرأت قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية .

    ويجاب عن هذا بأن ملقام بن تلب مستور لا يعرف حاله ، وبأن قول أبيه تلب بن ثعلبة - رضي الله عنه - لم أسمع لحشرة الأرض تحريما لا يدل على عدم تحريمها ، كما قاله الخطابي ، والبيهقي ; لأن عدم سماع صحابي لشيء لا يقتضي انتفاءه كما هو معلوم ، وبأنه تعالى لم يسكت عن هذا ; لأنه حرم الخبائث ، وهذه خبائث ، لا يكاد طبع سليم يستسيغها ، فضلا عن أن يستطيبها ، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب ، إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع ، كما قال أحد شعرائهم : [ الطويل ]


    أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن غريبا لديكم يأكل الحشرات


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #89
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (88)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (14)
    صـ 536 إلى صـ 540

    والربى جمع ربية ، وهي الفأرة ، قاله القرطبي ، وفي " اللسان " أنها دويبة بين الفأرة وأم حبين ، ولتلك الحاجة الشديدة لما سئل بعض العرب عما يأكلون ، قال : كل ما دب [ ص: 536 ] ودرج ، إلا أم حبين ، فقال : لتهن أم حبين العافية .

    وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح قتل الفأرة ، وما ذكر معها من الفواسق ، فدل ذلك على عدم إباحتها .

    واعلم أن ما ذكره بعض أهل العلم ، كالشافعي ، من أن كل ما يستخبثه الطبع السليم من العرب الذين نزل القرآن عليهم في غير حال ضرورة الجوع حرام ; لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث الآية ، استدلال ظاهر ، لا وجه لما رده به أهل الظاهر من أن ذلك أمر لا يمكن أن يناط به حكم ; لأنه لا ينضبط ; لأن معنى الخبث معروف عندهم ، فما اتصف به فهو حرام ، للآية .

    ولا يقدح في ذلك النص على إباحة بعض المستخبثات ، كالثوم ; لأن ما أخرجه الدليل يخصص به عموم النص ، ويبقى حجة فيما لم يخرجه دليل ، كما قدمنا .

    ويدخل فيه أيضا كل ما نص الشرع على أنه خبيث ، إلا لدليل يدل على إباحته ، مع إطلاق اسم الخبث عليه .

    واستثنى بعض أهل العلم من حشرات الأرض الوزغ ، فقد ادعى بعضهم الإجماع على تحريمه ، كما ذكره ابن قدامة في " المغني " عن ابن عبد البر .

    قال مقيده - عفا الله عنه : ويدل له حديث أم شريك المتفق عليه : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأوزاغ ، وكذلك روى الشيخان أيضا عن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - موصولا عند مسلم ، ومحتملا للإرسال عند البخاري ، فإن قوله : وزعم سعد بن أبي وقاص أنه أمر بقتله ، محتمل لأن يكون من قول عائشة ، ومحتمل لأن يكون من قول عروة ; وعليهما فالحديث متصل ، ويحتمل أن يكون من قول الزهري ; فيكون منقطعا ، واختاره ابن حجر في " الفتح " ، وقال : كأن الزهري وصله لمعمر ، وأرسله ليونس . اهـ ، ومن طريق يونس رواه البخاري ، ومن طريق معمر رواه مسلم ، وروى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة مرفوعا : الترغيب في قتل الوزغ ، وكل ذلك يدل على تحريمه .
    واختلف العلماء أيضا في ابن آوى ، وابن عرس ، فقال بعض العلماء بتحريم أكلهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وأبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - قال في " المغني " : سئل أحمد عن ابن آوى ، وابن عرس ، فقال : كل شيء ينهش بأنيابه من السباع ، وبهذا قال [ ص: 537 ] أبو حنيفة ، وأصحابه . اهـ .

    ومذهب الشافعي - رحمه الله - الفرق بينهما ، فابن عرس حلال عند الشافعية بلا خلاف ; لأنه ليس له ناب قوي ، فهو كالضب ، واختلف الشافعية في ابن آوى .

    فقال بعضهم : يحل أكله ; لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب .

    والثاني : لا يحل ; لأنه مستخبث كريه الرائحة ، ولأنه من جنس الكلاب ، قاله النووي ، والظاهر من مذهب مالك كراهتهما .

    وأما الوبر ، واليربوع ، فأكلهما جائز عند مالك وأصحابه ، وهو مذهب الشافعي ، وعليه عامة أصحابه ، إلا أن في الوبر وجها عندهم بالتحريم .

    وقد قدمنا أن عمر أوجب في اليربوع جفرة ، فدل ذلك على أنه صيد ، ومشهور مذهب الإمام أحمد أيضا جواز أكل اليربوع ، والوبر .

    وممن قال بإباحة الوبر : عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وابن المنذر ، وأبو يوسف .

    وممن قال بإباحة اليربوع أيضا : عروة ، وعطاء الخراساني ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم صاحب " المغني " .

    وقال القاضي من الحنابلة بتحريم الوبر ، قال في " المغني " : وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، إلا أبا يوسف ، وقال أيضا : إن أبا حنيفة قال في اليربوع أيضا : هو حرام ، وروي ذلك عن أحمد أيضا ، وعن ابن سيرين ، والحكم ، وحماد ; لأنه يشبه الفأر ، ونقل النووي في " شرح المهذب " عن صاحب " البيان " عن أبي حنيفة تحريم الوبر ، واليربوع ، والضب ، والقنفذ ، وابن عرس .

    وممن قال بإباحة الخلد والضربوب : مالك وأصحابه .

    وأما الأرنب : فالتحقيق أن أكلها مباح ; لما ثبت في " الصحيحين " عن أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم : " أهدي له عضو من أرنب فقبله " ، وفي بعض الروايات " فأكل منه " ، وقال ابن قدامة في " المغني " : أكل الأرنب سعد بن أبي وقاص ، ورخص فيها أبو سعيد ، وعطاء ، وابن المسيب ، والليث ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، ولا نعلم أحدا قائلا بتحريمها ، إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص . اهـ .

    [ ص: 538 ] وأما الضب : فالتحقيق أيضا جواز أكله ; لما ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عمر : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " كلوا أو أطعموا فإنه حلال " ، وقال : " لا بأس به ، ولكنه ليس من طعامي " ، يعني الضب ، ولما ثبت أيضا في " الصحيحين " من حديث خالد - رضي الله عنه : " أنه أكل ضبا في بيت ميمونة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه " ، وقد قدمنا قول صاحب " البيان " عن أبي حنيفة بتحريم الضب .

    ونقل في " المغني " عن أبي حنيفة أيضا ، والثوري تحريم الضب ، ونقل عن علي النهي عنه ، ولم نعلم لتحريمه مستندا ، إلا ما رواه مسلم في " الصحيح " من حديث جابر - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أتي بضب ، فأبى أن يأكله " قال : " إني لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت " ، وأخرج مسلم نحوه أيضا من حديث أبي سعيد مرفوعا ، فكأنه في هذا الحديث علل الامتناع منه باحتمال المسخ ، أو لأنه ينهش ، فأشبه ابن عرس ، ولكن هذا لا يعارض الأدلة الصحيحة الصريحة التي قدمناها بإباحة أكله ، وكان بعض العرب يزعمون أن الضب من الأمم التي مسخت ، كما يدل له قول الراجز : [ الرجز ]


    قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر الله إسرائينا


    فإن هذه المرأة العربية أقسمت على أن الضب إسرائيلي مسخ .
    وأما الجراد : فلا خلاف بين العلماء في جواز أكله ، وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن أبي أوفى ، أنه قال : " غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد " . اهـ .

    وميتة الجراد من غير ذكاة حلال عند جماهير العلماء ; لحديث " أحلت لنا ميتتان ودمان " الحديث .

    وخالف مالك الجمهور ، فاشترط في جواز أكله ذكاته ، وذكاته عنده ما يموت به بقصد الذكاة ، وهو معنى قول خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " : وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به ، ولو لم يعجل كقطع جناح .

    واحتج له المالكية بعدم ثبوت حديث ابن عمر المذكور : " أحلت لنا ميتتان " ، الحديث ; لأن طرقه لا تخلو من ضعف في الإسناد ، أو وقف ، والأصل الاحتياج إلى الذكاة ; لعموم : حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] ، وقال ابن كثير في تفسير سورة المائدة ما نصه : " وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن [ ص: 539 ] أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالسمك والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " ، وكذا رواه أحمد بن حنبل ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو ضعيف .

    قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا ، قلت : وثلاثتهم كلهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض ، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح . اهـ من ابن كثير ، وهو دليل لما قاله المالكية ، والله تعالى أعلم .

    قال مقيده - عفا الله عنه : لكن للمخالف أن يقول : إن الرواية الموقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم عنه صحيحة ، ولها حكم الرفع ; لأن قول الصحابي : أحل لنا ، أو حرم علينا ، له حكم الرفع ; لأنه من المعلوم أنهم لا يحل لهم ، ولا يحرم عليهم ، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقرر في علوم الحديث ، وأشار النووي في " شرح المهذب " إلى أن الرواية الصحيحة الموقوفة على ابن عمر لها حكم الرفع ، كما ذكرنا وهو واضح ، وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير ذكاة .

    والمالكية قالوا : لم يصح الحديث مرفوعا ، وميتة الجراد داخلة في عموم قوله : حرمت عليكم الميتة الآية [ 5 \ 3 ] ، وافتقار الجراد إلى الذكاة بما يموت به ، كقطع رأسه بنية الذكاة ، أو صلقه ، أو قليه .

    كذلك رواية أيضا عن الإمام أحمد ، نقلها عنه النووي في " شرح مسلم " و " شرح المهذب " ، والله تعالى أعلم .
    وأما الطير : فجميع أنواعه مباحة الأكل إلا أشياء منها ، اختلف فيها العلماء .

    فمن ذلك كل ذي مخلب من الطير يتقوى به ويصطاد : كالصقر ، والشاهين ، والبازي ، والعقاب ، والباشق ، ونحو ذلك .

    وجمهور العلماء على تحريم كل ذي مخلب من الطير كما قدمنا ، ودليلهم ثبوت النهي عنه في " صحيح مسلم " ، وغيره ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة .

    ومذهب مالك - رحمه الله : إباحة أكل ذي المخلب من الطير ; لعموم قوله تعالى : [ ص: 540 ] قل لا أجد الآية ; ولأنه لم يثبت عنده نص صريح في التحريم .

    وممن قال كقول مالك : الليث ، والأوزاعي ، ويحيى بن سعيد ، وقال مالك : لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير ، وقال ابن القاسم : لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله ؛ الرخم ، والعقبان ، والنسور ، والحدأة ، والغربان ، وجميع سباع الطير ، وغير سباعها ، ما أكل الجيف منها ، وما لم يأكلها .

    ولا بأس بأكل الهدهد ، والخطاف ، وروي على كراهة أكل الخطاف ابن رشد ; لقلة لحمها مع تحرمها بمن عششت عنده ، انتهى من " المواق " في شرحه لقول خليل في " مختصره " وطير ، ولو جلالة .

    ومن ذلك الحدأة ، والغراب الأبقع لما تقدم من أنهما من الفواسق التي يحل قتلها في الحل والحرم ; وإباحة قتلها دليل على منع أكلها ، وهو مذهب الجمهور خلافا لمالك ، ومن وافقه ، كما ذكرنا آنفا .

    وقالت عائشة - رضي الله عنها : إني لأعجب ممن يأكل الغراب ، وقد أذن - صلى الله عليه وسلم - في قتله ، وقال صاحب " المهذب " ، بعد أن ذكر تحريم أكل الغراب الأبقع : ويحرم الغراب الأسود الكبير ; لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع .

    وفي الغداف ، وغراب الزرع وجهان :

    أحدهما : لا يحل ; للخبر .

    والثاني : يحل ; لأنه مستطاب يلقط الحب ، فهو كالحمام ، والدجاج ، وقال ابن قدامة في " المغني " ويحرم منها ما يأكل الجيف ، كالنسور ، والرخم ، وغراب البين وهو أكبر الغربان ، والأبقع . قال عروة : ومن يأكل الغراب ، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات . اهـ .

    قال مقيده - عفا الله عنه : الظاهر المتبادر أن كل شيء أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله بغير الذكاة الشرعية أنه محرم الأكل ; إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزا لما أذن - صلى الله عليه وسلم - في إتلافه كما هو واضح .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #90
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (89)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (15)
    صـ 541 إلى صـ 545


    وقال النووي : الغراب الأبقع حرام بلا خلاف ; للأحاديث الصحيحة ، والأسود الكبير فيه طريقان :

    [ ص: 541 ] إحداهما : أنه حرام .

    والأخرى : أن فيه وجهين ، أصحهما التحريم .

    وغراب الزرع : فيه وجهان مشهوران : أصحهما أنه حلال ، وهو الزاغ ، وهو أسود صغير ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين . اهـ ، منه بالمعنى في " شرح المهذب " .

    ومن ذلك الصرد ، والهدهد ، والخطاف ، والخفاش وهو الوطواط .

    ومذهب الشافعي : تحريم أكل الهدهد والخطاف .

    قال صاحب " المهذب " : ويحرم أكل الهدهد والخطاف ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتلهما ، وقال النووي في " شرح المهذب : أما حديث النهي عن قتل الهدهد ، فرواه عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل أربع من الدواب : " النملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصرد " ، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ، ومسلم ذكره في آخر كتابه ، ورواه ابن ماجه في كتاب الصيد بإسناد على شرط البخاري ، وأما النهي عن قتل الخطاف فهو ضعيف ومرسل ، رواه البيهقي بإسناده عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، وهو من تابعي التابعين ، أو من التابعين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن قتل الخطاطيف " ، ثم قال : قال البيهقي : هذا منقطع ، قال : وروى حمزة النصيبي فيه حديثا مسندا إلا أنه كان يرمى بالوضع . اهـ

    ومما ذكره النووي : تعلم أن الصرد ، والهدهد لا يجوز أكلهما في مذهب الشافعي ; لثبوت النهي عن قتلهما ، وقال النووي أيضا : وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه ، أنه قال : " لا تقتلوا الضفادع ; فإن نقيقها تسبيح ، ولا تقتلوا الخفاش ; فإنه لما خرب بيت المقدس قال : يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم ، قال البيهقي : إسناده صحيح .

    قال مقيده - عفا الله عنه : والظاهر في مثل هذا الذي صح عن عبد الله بن عمرو ، من النهي عن قتل الخفاش ، والضفدع أنه في حكم المرفوع ; لأنه لا مجال للرأي فيه ; لأن علم تسبيح الضفدع ، وما قاله الخفاش لا يكون بالرأي ، وعليه فهو يدل على منع أكل الخفاش والضفدع .

    وقال ابن قدامة في " المغني " : ويحرم الخطاف ، والخشاف ، أو الخفاش وهو الوطواط ، وقال الشاعر : [ الكامل ]

    [ ص: 542 ]
    مثل النهار يزيد أبصار الوري نورا ويعمي أعين الخفاش


    قال أحمد : ومن يأكل الخشاف ؟ ، وسئل عن الخطاف ، فقال : لا أدري ، وقال النخعي : أكل الطير حلال إلا الخفاش ، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تأكلها العرب . اهـ ، من " المغني " . والخشاف هو الخفاش ، وقد قدمنا عن مالك وأصحابه جواز أكل جميع أنواع الطير ، واستثنى بعضهم من ذلك الوطواط .

    وفي الببغا ، والطاوس وجهان للشافعية : قال البغوي وغيره : وأصحهما التحريم .

    وفي العندليب ، والحمرة لهم أيضا وجهان : والصحيح إباحتهما ، وقال أبو عاصم العبادي : يحرم ملاعب ظله ، وهو طائر يسبح في الجو مرارا كأنه ينصب على طائر ، وقال أبو عاصم أيضا : والبوم حرام كالرخم ، قال : والضوع ، بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة ، حرام على أصح القولين ، قال الرافعي : هذا يقتضي أن الضوع غير البوم ، قال : لكن في " صحاح الجوهري " أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام ، وقال المفضل : هو ذكر البوم ، قال الرافعي : فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم إجراؤه في البوم ; لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان ، قاله النووي : ثم قال : قلت : الأشهر أن الضوع من جنس الهام ; فلا يلزم اشتراكهما في الحكم .

    وأما حشرات الطير ، كالنحل ، والزنابير ، والذباب ، والبعوض ، ونحو ذلك : فأكلها حرام عند الشافعي ، وأحمد ، وأكثر العلماء ; لأنها مستخبثة طبعا ، والله تعالى يقول : ويحرم عليهم الخبائث .

    ومن ذلك الجلالة : وهي التي تأكل النجس ، وأصلها التي تلتقط الجلة بتثليث الجيم : وهي البعر ، والمراد بها عند العلماء : التي تأكل النجاسات من الطير والدواب .

    ومشهور مذهب الإمام مالك : جواز أكل لحم الجلالة مطلقا ، أما لبنها وبولها فنجسان في مشهور مذهبه ، ما دام النجس باقيا في جوفها ، ويطهر لبنها وبولها عنده إن أمسكت عن أكل النجس ، وعلفت علفا طاهرا مدة يغلب على الظن فيها عدم بقاء شيء في جوفها من الفضلات النجسة ، وكره كثير من العلماء لحم الجلالة ولبنها ، وحجتهم حديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ألبان الجلالة ، قال النووي في " شرح المهذب " : حديث ابن عباس صحيح ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . اهـ .

    [ ص: 543 ] وقال النووي في حد الجلالة : والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة ، وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن ، فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة فجلالة ، وإلا فلا . وأكل لحم الجلالة وشرب لبنها مكروه عند الشافعية ، والصحيح عندهم أنها كراهة تنزيه ، وقيل : كراهة تحريم .

    وقال ابن قدامة في " المغني " : قال أحمد : أكره لحوم الجلالة وألبانها ، قال القاضي في المجرد : هي التي تأكل القذر ، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها .

    وفي بيضها روايتان : وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها ، وتحديد الجلالة يكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ، ولا هو ظاهر كلامه ، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير ، وقال الليث : إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه ، وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان :

    إحداهما : أنها محرمة .

    والثانية : أنها مكروهة غير محرمة ، وهذا قول الشافعي ، وكره أبو حنيفة لحومها ، والعمل عليها حتى تحبس ، ورخص الحسن في لحومها وألبانها ; لأن الحيوانات لا تتنجس بأكل النجاسات ; بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه ، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ، ولو نجس لما طهر بالإسلام ، ولا الاغتسال ، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس . اهـ .

    والظاهر كراهة ركوب الجلالة ، وهو مكروه عند الشافعي ، وأحمد ، وعمر ، وابنه عبد الله ، وروي عن ابن عمر مرفوعا كراهة ركوب الجلالة ، أخرجه البيهقي وغيره .

    والسخلة المرباة بلبن الكلبة حكمها حكم الجلالة فيما يظهر ، فيجري فيها ما جرى فيها ، والله تعالى أعلم .

    ومن ذلك الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات ، أو سمدت بها ، فأكثر العلماء على أنها طاهرة ، وأن ذلك لا ينجسها ، وممن قال بذلك مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، خلافا للإمام أحمد ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات ، أو سمدت بها ، وقال ابن عقيل : يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ، ولا يحكم بتنجيسها ; لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة ، كالدم يستحيل في أعضاء [ ص: 544 ] الحيوان لحما ، ويصير لبنا ، وهذا قول أكثر الفقهاء ، منهم أبو حنيفة ، والشافعي ، وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول : مكتل عرة مكتل بر ، والعرة : عذرة الناس ، ولنا ما روي عن ابن عباس : كنا نكري أراضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس ، ولأنها تتغذى بالنجاسات ، وتترقى فيها أجزاؤها ، والاستحالة لا تطهر ، فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات ، كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات . اهـ ، من المغني بلفظه .
    قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنهم سيقولون : لو شاء الله ما أشركنا ، وذكر في غير هذا الموضع أنهم قالوا ذلك بالفعل ، كقوله في النحل : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه الآية [ \ 35 ] وقوله في الزخرف : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم الآية [ \ 20 ] .

    ومرادهم : أن الله لما كان قادرا على منعهم من الإشراك ، ولم يمنعهم منه ، أن ذلك دليل على رضاه بشركهم ، ولذلك كذبهم هنا بقوله : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن [ 6 \ 148 ] ، وكذبهم في الزخرف ، بقوله : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ \ 20 ] ، وقال في الزمر : ولا يرضى لعباده الكفر الآية [ \ 7 ] .
    قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا

    الآية ، الظاهر في قوله : ما حرم ربكم عليكم أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا ، أو تركا ; لأن كلا من ترك الواجب ، وفعل الحرام حرام ، فالمعنى وصاكم ألا تشركوا ، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا .

    وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله : ذلكم وصاكم به الآية [ 6 \ 185 ] .
    قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق الآية ، نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل ; ونهى في سورة الإسراء عن قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه ، مع أنه غير واقع في الحال ، بقوله : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ 17 \ 31 ] ، وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - معناه حين سأله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه : " أي الذنب أعظم ؟ فقال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون الآية [ 25 \ 68 ] .

    [ ص: 545 ] وأخذ بعض أهل العلم من هذه الآية منع العزل ; لأنه وأد خفي ، وحديث جابر : " كنا نعزل والوحي ينزل " يدل على جوازه ، لكن قال جماعة من أهل العلم : إنه لا يجوز عن الحرة إلا بإذنها ، ويجوز عن الأمة بغير إذنها . والإملاق : الفقر ، وقال بعض أهل العلم : الإملاق الجوع .

    وحكاه النقاش عن مؤرج ، وقيل : الإملاق الإنفاق ، يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن عليا قال لامرأته : أملقي ما شئت من مالك .

    وحكي هذا القول عن منذر بن سعيد ، ذكره القرطبي ، وغيره ، والصحيح الأول .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #91
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (90)

    سُورَةُ الْأَنْعَامِ (16)
    صـ 546 إلى صـ 549

    قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده الآية ، قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم الغاية في قوله : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] أنه إذا بلغ أشده ، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن ، وليس ذلك مرادا بالآية ، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها : أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله ، إن أونس منه الرشد ، كما بينه تعالى بقوله : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم الآية [ 4 \ 6 ] .

    والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ ; بدليل قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا الآية .

    والبلوغ يكون بعلامات كثيرة ، كالإنبات ، واحتلام الغلام ، وحيض الجارية ، وحملها ، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة ، ومن العلماء من قال : إذا بلغت قامته خمسة أشبار فقد بلغ ، ويروى هذا القول عن علي ، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب : [ الكامل ]


    ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار

    يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار


    والأشد ، قال بعض العلماء : هو واحد لا جمع له كالآنك ، وهو الرصاص ، وقيل : واحده شد ، كفلس وأفلس ، قاله القرطبي وغيره ، وعن سيبويه أنه جمع شدة ، ومعناه حسن ; لأن العرب تقول : بلغ الغلام شدته ، إلا أن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود ، [ ص: 546 ] كما قاله الجوهري ، وأما أنعم ، فليس جمع نعمة ، وإنما هو جمع نعم من قولهم بئس ونعم ، قاله القرطبي ، وقال أيضا : وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع ، يقال : أتيته شد النهار ، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة : [ الكامل ]


    عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم


    وقال الآخر : [ الطويل ]


    تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق


    قال مقيده - عفا الله عنه : ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]


    شد النهار ذراعا عيطل نصف قامت فجاوبها نكد مثاكيل


    فقوله : " شد النهار " يعني وقت ارتفاعه ، وهو بدل من اليوم ، في قوله قبله :


    يوما يظل به الحرباء مصطخدا كأن ضاحيه بالشمس محلول


    فشد النهار بدل من قوله يوما ، بدل بعض من كل ، كما أن قوله : " يوما " بدل من إذا في قوله قبل ذلك : [ البسيط ]


    كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل


    لأن الزمن المعبر عنه " بإذا " هو بعينه اليوم المذكور في قوله : " يوما يظل " البيت ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى [ 79 \ 34 ، 35 ] ، وقوله : فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء الآية [ 80 \ 33 ، 34 ] ، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل ، وقوله : " ذراعا عيطل " خبر كأن في قوله : " كأن أوب ذراعيها " البيت .

    وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا ، وإن جازت لغة ، كما قال سحيم بن وثيل : [ الوافر ]


    أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشئون
    [ ص: 547 ] تنبيه

    قال مالك وأصحابه : إن الرشد الذي يدفع به المال إلى من بلغ النكاح ، هو حفظ المال ، وحسن النظر في التصرف فيه ، وإن كان فاسقا شريبا ، كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله ، قال ابن عاصم المالكي في " تحفته " : [ الرجز ]


    وشارب الخمر إذا ما ثمرا لما يلي من ماله لن يحجرا

    وصالح ليس يجيد النظرا في المال إن خيف الضياع حجرا


    وقال الشافعي ومن وافقه : لا يكون الفاسق العاصي رشيدا ; لأنه لا سفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك ، لا حرج عليه لعدم قصده ، ولم يذكر هنا عقابا لمن تعمد ذلك ، ولكن توعده بالويل في موضع آخر ، ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة ، وذلك في قوله : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 1 - 6 ] .

    وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله ، وأحسن عاقبة ، وهو قوله تعالى : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [ 17 \ 35 ] .
    قوله تعالى : وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول ، ولو كان على ذي قرابة ، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك ، ولو كان على نفسه أو والديه ، وهو قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين الآية [ 4 \ 135 ] .
    قوله تعالى : وبعهد الله أوفوا الآية ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله ، وصرح في موضع آخر أن عهد الله سيسأل عنه يوم القيامة ، بقوله : [ ص: 548 ] وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، أي : عنه .
    قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة ; لئلا يقولوا : لو أنزل علينا كتاب لعملنا به ، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى ، الذين لم يعملوا بكتبهم ، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك ، وأنه لما أنزل عليهم ، ما زادهم نزوله إلا نفورا وبعدا عن الحق ; لاستكبارهم ومكرهم السيئ ، وهو قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 42 ] .
    قوله تعالى : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها الآية .

    قال بعض العلماء : إن هذا الفعل أعني " صدف " في هذه الآية لازم ، ومعناه أعرض عنها ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

    وقال السدي : " صدف " في هذه الآية متعدية للمفعول ، والمفعول محذوف ، والمعنى : أنه صد غيره عن اتباع آيات الله ، والقرآن يدل لقول السدي ; لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله ، صرح به في قوله : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله [ 6 \ 157 ] ، إذا لا إعراض أعظم من التكذيب ، فدل ذلك على أن المراد بقوله : وصدف عنها ، أنه صد غيره عنها ، فصار جامعا بين الضلال والإضلال .

    وعلى القول الأول فمعنى " صدف " مستغنى عنه بقوله " كذب " ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن ، وهو قول السدي .
    قوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه .

    اهـ .

    وقوله : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب الآية [ 16 \ 88 ] .

    وقد يوجه قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد بأن المراد بتكذيبه ، وإعراضه : أنه لم يؤمن بها قلبه ، ولم تعمل بها جوارحه ، ونظيره قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ، 32 ] ، ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه ، قال ابن كثير في " تفسيره " بعد أن أشار إلى هذا : [ ص: 549 ] ولكن كلام السدي أقوى وأظهر ، والله أعلم . اهـ .

    وإطلاق " صدف " بمعنى أعرض كثير في كلام العرب ، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث : [ الطويل ]


    عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل


    وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى ، ومنه أيضا قول ابن الرقاع : [ البسيط ]


    إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف


    أي : معرضات .
    قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة ، وذكر ذلك في موضع آخر ، وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفا ، وهو قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، وذكره في موضع آخر ، وزاد فيه أنه جل وعلا يأتي في ظلل من الغمام ، وهو قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية [ 2 \ 210 ] ، ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمر كما جاء ويؤمن بها ، ويعتقد أنه حق ، وأنه لا يشبه شيئا من صفات المخلوقين ، فسبحان من أحاط بكل شيء علما : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 210 ] .
    قوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي الآية .

    قال بعض العلماء : المراد بالنسك هنا النحر ، لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات : هي النحر ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى ، ويدل لهذا قوله تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] ، وقال بعض العلماء : النسك جميع العبادات ، ويدخل فيه النحر ، وقال بعضهم : المراد بقوله : وانحر وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر في الصلاة ، والله تعالى أعلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #92
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (91)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(1)
    صـ 3 إلى صـ 9

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    سُورَةُ الْأَعْرَافِ


    قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه الآية .

    قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : حرج أي شك ، أي لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقا ، وعلى هذا القول فالآية ، كقوله تعالى : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 2 \ 147 ] وقوله : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] ، وقوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 10 \ 49 ] .

    والممتري : هو الشاك ; لأنه مفتعل من المرية وهي الشك ، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .

    والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن ، كقول الراجز : [ الرجز ]


    إياك أعني واسمعي يا جارة
    وكقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم الآية [ 2 \ 120 و 145 ] و [ 13 \ 137 ] .

    ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من ذلك ، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم .

    وجمهور العلماء : على أن المراد بالحرج في الآية الضيق . أي لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك ، لأن تحمل عداوة الكفار ، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر ، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة " ، أخرجه مسلم . والثلغ : الشدخ ، وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ ، وهذا البطش مما [ ص: 4 ] يضيق به الصدر .

    ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] ، وقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 181 \ 6 ] وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] .

    ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب : الضيق . وذلك معروف في كلامهم ، ومنه قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] ، وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، وقوله : يجعل صدره ضيقا حرجا [ 6 \ 125 ] ، أي : شديد الضيق ، إلى غير ذلك من الآيات ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ، أو جميل : [ الكامل ]


    فخرجت خوف يمينها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرج
    وقول العرجي [ السريع ] :


    عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي
    والمراد بالإحراج في البيتين :

    الإدخال في الحرج . بمعنى الضيق كما ذكرنا .
    قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين .

    لم يبين هنا المفعول به لقوله لتنذر ، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر ، كقوله : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وقوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 \ 14 ] ، وقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا الآية [ 78 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله : لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] فالإنذار للكفار ، والذكرى للمؤمنين ، ويدل لذلك قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وقوله : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] .

    [ ص: 5 ] ولا ينافي ما ذكرنا - من أن الإنذار للكفار ، والذكرى للمؤمنين - أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم ، في قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [ 36 \ 11 ] ; لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصورا عليهم ، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم ; لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم .

    ومن أساليب اللغة العربية : التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء .

    وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث : أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين :

    أحدهما : عام لجميع الناس ، كقوله : ياأيها المدثر قم فأنذر [ 74 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .

    وهذا الإنذار العام : هو الذي قصر على المؤمنين قصرا إضافيا في قوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية ; لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم .

    والثاني : إنذار خاص بالكفار ; لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب ، وهو الذي يذكر في القرآن مبينا أنه خاص بالكفار دون المؤمنين ، كقوله : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ، وقوله هنا : لتنذر به وذكرى للمؤمنين اهـ .

    والإنذار في اللغة العربية : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
    قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ، خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم ، بأنه أهلك كثيرا من القرى بسبب تكذيبهم الرسل ، فمنهم من أهلكها بياتا ، أي : ليلا ، ومنهم من أهلكها وهم قائلون ، أي في حال قيلولتهم ، والقيلولة : الاستراحة وسط النهار . يعني : فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] ، وقوله : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين [ 28 \ 58 ] ، وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ، ثم بين أنه [ ص: 6 ] يريد تهديدهم بذلك بقوله : وللكافرين أمثالها إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلا في حالة النوم ، أو ضحى في حالة اللعب ، في قوله تعالى : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 ، 98 ] ، وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى : أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 45 ، 46 ، 47 ] .
    قوله تعالى : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين .

    بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات ، أو في حال القيلولة ، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين .

    وأوضح هذا المعنى في قوله : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 11 - 15 ] .

    قال ابن جرير رحمه الله : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " . حدثنا بذلك ابن حميد ، حدثنا جرير عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " قال : قلت لعبد الله كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 7 \ 5 ] .
    قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .

    لم يبين هنا الشيء المسئول عنه المرسلون ، ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم .

    وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم ، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم .

    قال في الأول : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] .

    [ ص: 7 ] وقال في الثاني : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] .

    وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون ، وهو قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 ، 93 ] .

    وهنا إشكال معروف : وهو أنه تعالى قال هنا : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وقال أيضا : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، وقال : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] ، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة ، مع أنه قال : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وقال : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] .

    وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وسنزيده إيضاحا هنا إن شاء الله تعالى .

    اعلم أولا : أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة ، أخص من السؤال المثبت فيها ; لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالا عن ذنوب خاصة ، فإنه قال : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] فخصه بكونه عن الذنوب ، وقال : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فخصه بذلك أيضا ، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والموءودة مثلا ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه ; لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب ، ويزيد ذلك إيضاحا قوله تعالى : ليسأل الصادقين عن صدقهم الآية [ 5 \ 119 ] ، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله الآية [ 33 \ 8 ] ، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم الآية [ 33 \ 8 ] ، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات : المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام ; لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء ، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع ; لأنه نوع من أنواع العذاب ، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون .

    وقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون [ 52 \ 15 ] . إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .

    بين تعالى في هذه الآية [ ص: 8 ] الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا ، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائبا عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا ، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق ، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [ 58 \ 7 ] ، وقوله : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] .

    تنبيه

    في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني ، القائلين : إنه تعالى عالم بذاته ، لا بصفة قامت بذاته ، هي العلم ، وهكذا في قولهم : قادر مريد ، حي سميع ، بصير متكلم ، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله : فلنقصن عليهم بعلم \ [ 7 \ 7 ] 30 ونظيره قوله تعالى : أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] . وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه .
    قوله تعالى : والوزن يومئذ الحق بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه ، ولا ظلم ، فلا يزاد في سيئات مسيء ، ولا ينقص من حسنات محسن .

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    الحرف المنير \ سحر \ أضواء البيان \ ج 2 \ من ص 292 - إلى ص . . . . . . . . . 302
    قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون .

    [ ص: 9 ] بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من ثقلت موازينهم أفلحوا ، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم ، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا .

    وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة ، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار ، وذلك في قوله : وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة ، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار ، وذلك في قوله : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 6 - 11 ] .

    وبين أيضا خسران من خفت موازينه ، بقوله : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 103 ، 104 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش . لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .

    وقوله : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 ، 54 ] .

    وذكر كثيرا من ذلك في سورة النحل كقوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .

    ال بعض العلماء : معناه : ما منعك أن تسجد ، و " لا " صلة ، ويشهد لهذا قوله تعالى : في سورة " ص " قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ \ 75 ] ، وقد أوضحنا زيادة لفظة " لا " وشواهد ذلك من القرآن ، ومن كلام العرب في سورة البلد ، في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " والعلم عند الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #93
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (92)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(2)
    صـ 10 إلى صـ 15

    قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الْجَانُّ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ ، فَقَدْ زَادَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَوْصَافًا لِلنَّارِ الَّتِي خَلَقَهُ مِنْهَا . مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا نَارُ السَّمُومِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [ 15 \ 27 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا خُصُوصُ الْمَارِجِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [ 55 \ 15 ] ، وَالْمَارِجُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ النَّارِ لِأَنَّهُ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ .

    وَسُمِّيَتْ نَارَ السَّمُومِ ; لِأَنَّهَا تَنْفُذُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ لِشِدَّةِ حَرِّهَا . وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا : " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " . وَرَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ 7 \ 13 ] .

    بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّهُ عَامَلَ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ حَيْثُ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَاظُمَ وَالتَّكَبُّرَ ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ صَاغِرًا حَقِيرًا ذَلِيلًا ، مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ مَا كَانَ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ 7 \ 13 ] ، وَالصَّغَارُ : أَشَدُّ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ ، وَقَوْلِهِ : اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [ 7 \ 18 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يَنَالُ مَا أَرَادَ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ نَقِيضُ ذَلِكَ . وَصَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [ 40 \ 56 ] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرًا مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنِ الْكِبْرِ ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِين َ مِنْهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِصَرْفِ صَاحِبِهِ عَنْ فَهْمِ آيَاتِ اللَّهِ ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [ 7 \ 146 ] . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الثَّوَاءِ فِي النَّارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ [ 39 \ 60 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [ 37 \ 35 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ [ 16 \ 23 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَعَاذَ مِنَ الْمُتَّصِفِ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا مِمَّا هُوَ شَرٌّ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ 40 \ 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ [ ص: 11 ] نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ ، وَعَوَاقِبِهِ الْوَخِيمَةِ ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآيَةِ : أَنَّ الْمُتَوَاضِعَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا يَرْفَعُهُ اللَّهُ .

    وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى مَكَانَةِ الْمُتَوَاضِعِي نَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ 25 \ 63 ] ، وَقَوْلِهِ : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ 28 \ 83 ] وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلُ ]


    تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالْبَدْرِ تُبْصِرُ وَجْهَهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ رَفِيعُ وَلَا تَكُ كَالدُّخَّانِ يَعْلُو بِنَفْسِهِ
    إِلَى صَفَحَاتِ الْجَوِّ وَهُوَ وَضِيعُ
    وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ الْمُتَنَبِّي : [ الْوَافِرُ ]


    وَلَوْ لَمْ يَعْلُ إِلَّا ذُو مَحَلٍّ تَعَالَ الْجَيْشُ وَانْحَطَّ الْقَتَامُ
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمَنْظَرِينَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْغَايَةَ الَّتِي أَنْظَرَهُ إِلَيْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي " الْحِجْرِ " وَ " ص " مُبَيِّنًا أَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ الْإِنْظَارِ هُوَ يَوْمُ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ .

    لِقَوْلِهِ : فِي سُورَةِ " الْحِجْرِ " وَ " ص " فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ \ 80 ] فَقَدْ طَلَبَ الشَّيْطَانُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ، وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ .

    وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : الْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُولَى ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيُوقِعُ بَنِي آدَمَ فِيهِ قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ سَيُطِيعُونَهُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " سَبَأٍ " أَنَّ ظَنَّهُ هَذَا صَدَقَ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ الْآيَةَ [ \ 20 ] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [ 38 \ 84 ، 85 ] .

    بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ لِإِبْلِيسَ : اخْرُجْ مِنْهَا فِي حَالِ كَوْنِكِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا . وَالْمَذْءُومُ : الْمَعِيبُ أَوِ الْمَمْقُوتُ ، وَالْمَدْحُورُ : الْمُبْعَدُ عَنِ الرَّحْمَةِ ، الْمَطْرُودُ ، وَأَنَّهُ أَوْعَدَهُ بِمَلْءِ جَهَنَّمَ مِنْهُ . وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ [ ص: 12 ] أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ 38 \ 84 ، 85 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [ 17 \ 63 ، 64 ] ، وَقَوْلِهِ : فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [ 26 \ 94 ، 95 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ .

    حَذَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَنِي آدَمَ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْهِمْ ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّهُ حَذَّرَ آدَمَ مِنْ مَكْرِ إِبْلِيسَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ ، وَلَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ عَدُوِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا الْآيَةَ .

    ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ، اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَصَوَابٌ ، بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَهَا ، وَأَنَّهُمْ مَا فَعَلُوهَا ، إِلَّا لِأَنَّهَا صَوَابٌ وَرُشْدٌ .

    وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ 43 \ 23 ] .

    وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 2 \ 170 ] ، وَقَوْلِهِ : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 5 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [ 43 \ 24 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [ 37 \ 69 ، 70 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .

    فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ :

    الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أَيْ كَمَا سَبَقَ لَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ ، فَإِنَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَيْهِ ، فَمَنْ سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ صَارَ إِلَى السَّعَادَةِ ، وَمَنْ [ ص: 13 ] سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ شَقِيٌّ صَارَ إِلَى الشَّقَاوَةِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ : فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [ 7 \ 30 ] ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ 64 \ 2 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 119 ] ، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَقِيٍّ ، وَسَعِيدٍ خَلَقَهُمْ .

    الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ 7 \ 29 ] ، أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّلًا ، وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ، فَإِنَّهُ يُعِيدُكُمْ مَرَّةً أُخْرَى ، وَيَبْعَثُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ مِتُّمْ وَصِرْتُمْ عِظَامًا رَمِيمًا ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ : كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا الْآيَةَ [ 21 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [ 30 \ 27 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [ 36 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [ 22 \ 5 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .

    وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَمِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ طَاعَتُهُمْ لَهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَعَ ذَلِكَ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هُدًى .

    وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَخْسَرُ النَّاسِ عَمَلًا ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [ 18 \ 103 ، 104 ] .

    تَنْبِيهٌ

    هَذِهِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ ظَنُّهُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ لَمْ تَتْرُكْ فِي الْحَقِّ لَبْسًا وَلَا شُبْهَةً ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِ لِلْكُفْرِ لَا يَكَادُ يُفَكِّرُ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَجَاجًا فِي الْبَاطِلِ ، وَعِنَادًا [ ص: 14 ] فَلِذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ .

    مَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالَ إِنْكَارٍ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ، كَاللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ ، وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ كَالْأَنْعَامِ ، وَالْحَرْثِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْكُفَّارُ ، وَكَاللَّحْمِ وَالْوَدَكِ الَّذِي حَرَّمَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْحَجِّ .

    وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا ، كَقَوْلِهِ : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [ 16 \ 116 ] ، وَقَوْلِهِ : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [ 6 \ 140 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ 10 \ 59 ] ، وَطَلَبُهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ طَلَبُ إِعْجَازٍ أَنْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ، وَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَهِدَ لَهُمْ شُهُودُ زُورٍ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ \ [ 6 \ 150 ] 30 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَتْبَاعَ يُطِيعُونَ السَّادَةَ الْكُبَرَاءَ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ [ 33 \ 67 ، 68 ] ، وَبَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " سَبَأٍ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [ \ 31 - 33 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .

    وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ : أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُضَاعِفَ الْعَذَابَ لِلْمَتْبُوعِين َ ، [ ص: 15 ] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِلْمَتْبُوعِين َ لَا تَنْفَعُ الْأَتْبَاعَ ، وَلَا تُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ ، كَقَوْلِهِ : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ 43 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا : قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ [ 7 \ 38 ] ، وَقَوْلِهِ : وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ 7 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [ 40 \ 48 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ .

    ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، يَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْحِقْدِ ، وَالْحَسَدِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارَ فِي الْجَنَّةِ ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ نَزْعَ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ يَقَعُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ آمِنِينَ مِنَ النَّصَبِ ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْحِجْرِ " : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [ \ 47 ، 48 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ .

    ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ حِجَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا الْحِجَابَ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ الْآيَةَ [ 57 \ 13 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ .

    ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ، يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَلَا أَهْلِ النَّارِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [ 3 \ 106 ] .

    فَبَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ سِيمَا أَهْلِ النَّارِ ، كَمَا قَالَ أَيْضًا فِي سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [ 83 \ 24 ] ، وَقَالَ : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ الْآيَةَ [ 75 \ 22 ] ، وَقَالَ فِي سِيمَا أَهْلِ النَّارِ : كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا الْآيَةَ [ 10 \ 27 ] ، وَقَالَ : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ الْآيَةَ [ 80 \ 40 ] ، وَقَالَ : وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [ 20 \ 102 ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #94
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (93)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(3)
    صـ 16 إلى صـ 20

    قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ .

    ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ [ ص: 16 ] الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ قَالُوا لِرِجَالٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ : يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ ، وَلَا كَثْرَةُ جَمَاعَتِكُمْ وَأَنْصَارِكُمْ ، وَلَا اسْتِكْبَارُكُم ْ فِي الدُّنْيَا .

    وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَجْهَ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يُحْشَرُ فَرْدًا ، لَا مَالَ مَعَهُ ، وَلَا نَاصِرَ ، وَلَا خَادِمَ ، وَلَا خَوَلَ . وَأَنَّ اسْتِكْبَارَهُ فِي الدُّنْيَا يُجْزَى بِهِ عَذَابَ الْهَوْنِ فِي الْآخِرَةِ ، كَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [ 6 \ 94 ] ، وَقَوْلِهِ : وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [ 19 \ 95 ] ، وَقَوْلِهِ : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ، وَقَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [ 46 \ 20
    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ .

    بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْكَفَّارَ ، إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِالْحَقِّ ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ شُفَعَاءُ فَيُنْقِذُوهُمْ ، أَوْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيُصَدِّقُوا الرُّسُلَ ، وَيَعْمَلُوا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ ؟ وَهَلْ يُرَدُّونَ ؟ وَمَاذَا يَفْعَلُونَ لَوْ رُدُّوا ؟ وَهَلِ اعْتِرَافُهُمْ ذَلِكَ بِصِدْقِ الرُّسُلِ يَنْفَعُهُمْ ؟ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَبَيَّنَ : أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ بُقُولِهِ : فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ الْآيَةَ [ 26 \ 100 ] ، وَقَوْلِهِ : فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [ 74 \ 48 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [ 21 \ 28 ] مَعَ قَوْلِهِ : وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [ 39 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ \ [ 9 \ 96 ] 30 ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ 32 \ 12 ، 13 ]

    فَقَوْلُهُ : وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الْآيَةَ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ وَجَبَتْ لَهُمْ ، فَلَا يُرَدُّونَ ، وَلَا يُعْذَرُونَ ، وَقَوْلُهُ : وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [ 35 \ 37 ] .

    فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ قَطَعَ عُذْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; بِالْإِمْهَالِ مُدَّةً يَتَذَكَّرُونَ فِيهَا ; وَإِنْذَارِ الرُّسُلِ ، [ ص: 17 ] وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ رَدِّهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ 14 \ 44 ] ، جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ : أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [ 40 \ 12 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [ 40 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ الْآيَةَ [ 42 \ 45 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [ 42 \ 44 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [ 7 \ 53 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ الْآيَةَ .

    فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا ، وَعَلَى وُجُوبِ الْعَذَابِ ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ .

    وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ ; وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [ 6 \ 28 ] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ وُجِدَ ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِي نَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَا يَحْضُرُونَهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 46 ] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَا دُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ الْآيَةَ [ 9 \ 47 ] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ 23 \ 75 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ : قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ لَا يَنْفَعُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [ 67 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 39 \ 71 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ . \ 5
    قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .

    لَمْ يُفَصِّلْ هُنَا ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي سُورَةِ " فُصِّلَتْ " بِقَوْلِهِ : قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ ص: 18 ] وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [ 9 \ 12 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ .

    هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ 48 \ 10 ] وَنَحْوَ ذَلِكَ ; أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِشْكَالًا ضَلَّ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى التَّعْطِيلِ وَقَوْمٌ إِلَى التَّشْبِيهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ أَيَّ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ :

    أَحَدُهُمَا : تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ فِي صِفَاتِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .

    وَالثَّانِي : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِفُ اللَّهَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [ 2 \ 140 ] ، وَلَا يَصِفُ اللَّهَ بَعْدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي قَالَ فِيهِ : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ 53 \ 3 ، 4 ] فَمِنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَاعِمًا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَعْلَمَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا . سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .

    وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ يُشَابِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ ، فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُلْحِدٌ ضَالٌّ ، وَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَنْزِيهِهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ، وَالتَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ ، سَالِمٌ مِنْ وَرْطَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهَا هَذَا . هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ 42 \ 11 ] فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا مُمَاثَلَةَ الْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْإِتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ .

    وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّرَّ فِي تَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا : [ ص: 19 ] وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ ; أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَّصِفُ بِهِمَا جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ ، فَبَيْنَ أَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا ، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ بِهِمَا عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ وَصْفِهِ تَعَالَى ، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ ، وَلِذَا جَاءَ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بُعْدَ قَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِلْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا لَبْسَ مَعَهُ وَلَا شُبْهَةَ الْبَتَّةَ ، وَسَنُوضِّحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا بِحَسْبِ طَاقَتِنَا ، وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا التَّوْفِيقُ .
    اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّ الْمُتَكَلِّمِي نَ قَسَّمُوا صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ :

    صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ ، وَصِفَةُ مَعْنًى ، وَصِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ جَامِعَةٌ ، وَالصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ تَتَدَاخَلُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ ; لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مَادَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، فَهِيَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ ، وَلَيْسَتْ كُلُّ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ فِعْلِيَّةً فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ ، يَجْتَمِعَانِ فِي نَحْوِ الْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَتَتَفَرَّدِ الْفِعْلِيَّةُ فِي نَحْوِ الِاسْتِوَاءِ ، وَتَتَفَرَّدُ الْإِضَافِيَّةُ فِي نَحْوِ كَوْنِهِ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ وَالْفَوْقِيَّة َ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ ، وَلَيْسَتَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالْقَوَانِينِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْمَنْطِقِيّ َةِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِالنَّفْسِيَّة ِ فِي حَقِّ اللَّهِ الْوُجُودَ فَقَطْ وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُوهِمَ لِلْمَحْذُورِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ صَحِيحًا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ النَّفْسِيَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا تَكُونُ إِلَّا جِنْسًا أَوْ فَصْلًا ، فَالْجِنْسُ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، وَالْفَصْلُ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجِنْسَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَفْرَادٍ مُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ ، وَأَنَّ الْفَصْلَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الْجِنْسِ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، فَإِنَّهُ صِفَتُهُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تَفْصِلُهُ عَنِ الْفَرَسِ مَثَلًا الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْجَوْهَرِيَّة ِ وَالْجِسْمِيَّة ِ وَالنَّمَائِيَّ ةِ وَالْحَسَاسِيَّ ةِ ، وَوَصْفُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِشَيْءٍ يُرَادُ بِهِ اصْطِلَاحًا مَا بَيِّنًا لَكَ ; مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اشْتِرَاكٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ ، وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ ، حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ .

    [ ص: 20 ] وَالْفَصْلَ : هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَعْضَ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْجِنْسِ عَنْ بَعْضٍ ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .

    وَسَنُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ عَلَى تَقْسِيمِهِمْ لَهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا ، وَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَوْصُوفٌ بِهَا ، وَأَنَّهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا وَصْفُ الْمَخْلُوقِ بِهَا ، وَلَكِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِوَصْفِ الْمَخْلُوقِ ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ ، وَيَلْزَمُهُمْ ضَرُورَةٌ فِيمَا أَنْكَرُوا مِثْلَ مَا أَقَرُّوا بِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ .

    فَمِنْ ذَلِكَ : الصِّفَاتُ السَّبْعُ ، الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي وَهِيَ : الْقُدْرَةُ ، وَالْإِرَادَةُ ، وَالْعِلْمُ ، وَالْحَيَاةُ ، وَالسَّمْعُ ، وَالْبَصَرُ ، وَالْكَلَامُ .

    فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُدْرَةِ :

    وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 2 \ 284 ] وَ [ 3 \ 29 ] وَ [ 3 \ 189 ] وَ [ 5 \ 19 ] وَ [ 5 \ 40 ] وَ [ 8 \ 41 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [ 5 \ 34 ] فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً لَائِقَةً بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ، وَأَثْبَتَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ قُدْرَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ وَالْحُدُوثِ الْفَنَاءِ ، وَبَيْنَ قُدْرَتِهِ ، وَقُدْرَةِ مَخْلُوقِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِ مَخْلُوقِهِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْإِرَادَةِ : فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [ 11 \ 107 ] وَ [ 85 \ 16 ] ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ 36 \ 82 ] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ 2 \ 185 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 8 \ 67 ] ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [ 33 \ 13 ] ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [ 61 \ 8 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَائِقَةٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةٌ أَيْضًا مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #95
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (94)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(4)
    صـ 21 إلى صـ 25

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ : وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ 24 \ 35 ] ، لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 166 ] [ ص: 21 ] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [ 7 \ 7 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [ 51 \ 28 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ 12 \ 68 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ عِلْمِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحَيَاةِ : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ 2 \ 55 ] ، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [ 40 \ 65 ] ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْآيَةَ [ 25 \ 58 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [ 19 \ 15 ] ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ 21 \ 30 ] ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ [ 30 \ 19 ] .

    فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا حَيَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا حَيَاةٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ; وَبَيْنَ حَيَاةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ 22 \ 75 ] وَ [ 31 \ 28 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [ 76 \ 2 ] ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [ 19 \ 38 ] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ يَلِيقَانِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ مُنَاسِبَانِ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ سَمْعِ الْخَالِقِ وَبَصَرِهِ ، وَسَمْعِ الْمَخْلُوقِ وَبَصَرِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ 4 \ 164 ] ، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [ 7 \ 144 ] ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [ 9 \ 6 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    [ ص: 22 ] وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهِ : فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [ 12 \ 54 ] ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [ 36 \ 65 ] ، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [ 19 \ 29 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَلِلْمَخْلُوقِ كَلَامٌ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ . وَبَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .

    وَهَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ يُثْبِتُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِنَفْيِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي .

    وَالْمُعْتَزِلَ ةُ يَنْفُونَهَا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا فَيَقُولُونَ : هُوَ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ ، مُرِيدٌ عَلِيمٌ ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، مُتَكَلِّمٌ بِذَاتِهِ لَا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ ، وَلَا إِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ ، هَكَذَا فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْ تَعَدُّدِ الْقَدِيمِ ! !

    وَمَذْهَبُهُمُ الْبَاطِلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَنَاقُضُهُ عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِذَا عُدِمَ فَالِاشْتِقَاقُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ فَإِذَا عُدِمَ السَّوَادُ عَنْ جِرْمٍ مَثَلًا اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَسْوَدُ ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سَوَادٌ ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ بِذَاتٍ ، اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ : هِيَ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهَا بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَقُمْ بِهَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]


    وَعِنْدَ فَقْدِ الْوَصْفِ لَا يُشْتَقُّ وَأَعْوَزَ الْمُعْتَزِلِيّ َ الْحَقُّ
    وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمَعْنَوِيَّة ُ عِنْدَهُمْ : فَهِيَ الْأَوْصَافُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى : قَادِرًا ، مُرِيدًا ، عَالِمًا حَيًّا ، سَمِيعًا بَصِيرًا ، مُتَكَلِّمًا .

    وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالْمَعَانِي ، وَعَدُّ الْمُتَكَلِّمِي نَ لَهَا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّة َ ، زَاعِمِينَ أَنَّهَا أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، وَلَا مَعْدُومٍ ; وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّة َ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ تَخْيِيلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَه َا ; لِأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ حَاكِمٌ حُكْمًا لَا يَتَطَرَّقُهُ شَكٌّ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْبَتَّةَ ، فَالْعُقَلَاءُ كَافَّةٌ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ ، فَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ قَطْعًا ، وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْدُومٍ ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ قَطْعًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا تَرَى .

    [ ص: 23 ] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي اتِّصَافِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِالْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ مُنَافَاةَ صِفَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ مِثْلَهُ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَوِيّ َةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِهَا .

    وَأَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَهُمْ : فَهِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ عِنْدُهُمُ : الْقِدَمُ ، وَالْبَقَاءُ ، وَالْوَحْدَانِي َّةُ ، وَالْمُخَالَفَة ُ لِلْخَلْقِ ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ .

    وَضَابِطُ الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ عِنْدَهُمْ : هِيَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ .

    أَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ : فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَةِ الْمَعْنَى ، فَالْقِدَمُ مَثَلًا عِنْدَهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ بِالْمُطَابَقَة ِ ، إِلَّا سَلْبَ الْعَدَمِ السَّابِقِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْقُدْرَةُ مَثَلًا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْعَجْزِ ، وَالْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْجَهْلِ ، وَالْحَيَاةُ تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْمَوْتِ ، فَلِمَ لَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ سَلْبِيَّةً أَيْضًا ؟

    فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْقُدْرَةَ مَثَلًا تَدُلُّ بِالْمُطَابَقَة ِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ قَائِمٍ بِالذَّاتِ ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَأَتَّى بِهَا إِيجَادُ الْمُمْكِنَاتِ وَإِعْدَامُهَا عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ ، وَإِنَّمَا سَلَبَتِ الْعَجْزَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ بِالذَّاتِ يَلْزَمُهُ نَفْيُ ضِدِّهِ عَنْهَا لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَقْلًا ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي الْمَعَانِي .

    أَمَّا الْقِدَمُ عِنْدَهُمْ مَثَلًا : فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوُجُودُ ، إِلَّا سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي السَّلْبِيَّاتِ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِدَمَ ، وَالْبَقَاءَ اللَّذَيْنِ يَصِفُ الْمُتَكَلِّمُو نَ بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى زَاعِمِينَ ، أَنَّهُ وَصَفَ بِهِمَا نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الْآيَةَ [ 57 \ 3 ] - جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَصْفُ الْحَادِثِ بِهِمَا أَيْضًا ، قَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْقِدَمِ : وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [ 36 \ 39 ] ، وَقَالَ : قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [ 12 \ 95 ] ، وَقَالَ : أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [ 26 \ 75 ، 76 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْبَقَاءِ : وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [ 37 \ 77 ] ، وَقَالَ : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [ 16 \ 96 ] ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْحَادِثَ بِالْأَوَّلِيَّ ةِ وَالْآخِرِيَّةِ الْمَذْكُورَتَي ْنِ فِي الْآيَةِ ، قَالَ : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، قَالَ : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [ 2 \ 163 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ [ ص: 24 ] وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغِنَى : وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [ 35 \ 15 ] ، وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 14 \ 8 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغِنَى : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ الْآيَةَ [ 4 \ 6 ] ، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ الْآيَةَ [ 24 \ 32 ] ، فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَالْحَادِثُ مَوْصُوفٌ بِهَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحُدُوثِهِ وَفَنَائِهِ ، وَعَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ ، وَبَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي .

    وَأَمَّا الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ عِنْدَهُمْ ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ : الْوُجُودُ ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْوُجُودَ عَيْنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَعُدَّهُ صِفَةً ، كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَالِقَ مَوْجُودٌ ، وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ ، وَوُجُودُ الْخَالِقِ يُنَافِي وُجُودَ الْمَخْلُوقِ ، كَمَا بَيَّنَّا .

    وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ ، زَاعِمًا أَنَّهُمَا طَرَفَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي زَعْمِهِمْ .

    وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ ، فَإِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ كَمُنَافَاةِ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَلْقَهُ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْآيَةَ [ 51 \ 58 ] ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [ 34 \ 39 ] ، وَقَالَ : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا الْآيَةَ [ 11 \ 6 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الْآيَةَ [ 4 \ 8 ] ، وَقَالَ : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 233 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ ، فَقَالَ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا الْآيَةَ [ 36 \ 71 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ 66 \ 7 ] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِتَعْلِيمِ خَلْقِهِ فَقَالَ : الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [ 55 \ 1 - 4 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الْآيَةَ [ 62 \ 2 ] .

    وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [ 5 \ 4 ] ، وَوَصَفَ [ ص: 25 ] نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُنَبِّئُ ، وَوَصَفَ الْمَخْلُوقَ بِذَلِكَ ، وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [ 66 \ 3 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِيتَاءِ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [ 2 \ 258 ] ، وَقَالَ : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [ 2 \ 269 ] ، وَقَالَ : وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [ 11 \ 3 ] ، وَقَالَ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [ 57 \ 21 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ 4 \ 20 ] ، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [ 4 \ 2 ] ، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ 4 \ 4 ] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .

    وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَيْضًا ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .

    وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْجَامِعَةُ ، كَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ ، وَالْمُلْكِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهَا أَيْضًا يَكْثُرُ جَدًّا وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ .

    وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ مِنْهَا مُنَافٍ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ . قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْعُلُوِّ وَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ : وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ 2 \ 255 ] ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [ 4 \ 34 ] ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [ 13 \ 9 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِظَمِ : فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ 26 \ 63 ] ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [ 17 \ 40 ] ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [ 27 \ 23 ] ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ 9 \ 129 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْكِبَرِ : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ 67 \ 12 ] ، وَقَالَ : إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [ 17 \ 31 ] ، وَقَالَ : إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [ 8 \ 73 ] ، وَقَالَ : وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [ 2 \ 143 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ 2 \ 45 ] .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #96
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (95)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(5)
    صـ 26 إلى صـ 30

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعُلُوِّ : وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ 19 \ 57 ] ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [ 19 \ 50 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمُلْكِ : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْآيَةَ [ 59 \ 23 ] ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْآيَةَ [ 59 \ 23 ] ، وَقَالَ : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ الْآيَةَ [ 12 \ 43 ] ، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [ 12 \ 50 ] ، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [ 18 \ 79 ] ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [ 2 \ 247 ] ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [ 3 \ 26 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِزَّةِ : فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ 2 \ 209 ] ، يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ 62 \ 1 ] ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ 38 \ 9 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِزَّةِ : قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآيَةَ [ 12 \ 51 ] ، فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ 38 \ 23 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [ 59 \ 23 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا : كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [ 40 \ 35 ] ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ [ 39 \ 60 ] ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [ 26 \ 130 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 51 \ 58 ] ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ 22 \ 40 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً الْآيَةَ [ 41 \ 15 ] ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 52 ] ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ 28 \ 26 ] ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً الْآيَةَ [ 30 \ 54 ] [ ص: 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ ، وَجَلَالِهِ . وَإِنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا لِذَوَاتِ الْحَوَادِثِ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُو نَ ; هَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ أَنَّهَا صِفَاتُ مَعَانٍ أَثْبَتَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَفْسِهِ ، كَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ .

    قَالَ فِي وَصْفِهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِهِمَا :

    فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ 16 \ 47 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ 9 \ 128 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحِلْمِ : لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [ 22 \ 59 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [ 37 \ 101 ] ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ 9 \ 114 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 2 \ 182 ] وَ [ 5 \ 34 ] وَ [ 5 \ 39 ] وَ [ 5 \ 98 ] وَ [ 8 \ 69 ] وَ [ 9 \ 5 ] وَ [ 9 \ 99 ] وَ [ 9 \ 102 ] وَ [ 24 \ 62 ] وَ [ 29 \ 14 ] وَ [ 60 \ 12 ] وَ [ 73 \ 20 ] . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [ 49 \ 3 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ 42 \ 43 ] ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ الْآيَةَ [ 45 \ 14 ] ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [ 2 \ 263 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالرِّضَى وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهِ أَيْضًا فَقَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [ 5 \ 119 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْمَحَبَّةِ ، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهَا ، فَقَالَ : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [ 5 \ 54 ] ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ 3 \ 31 ] .

    [ ص: 28 ] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَغْضَبُ إِنِ انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ فَقَالَ : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 5 \ 60 ] ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 4 \ 93 ] .

    وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغَضَبِ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا .

    وَالْمَقْصُودُ عِنْدَنَا ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، مَعَ إِيضَاحِ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ بَالِغٌ مِنْ غَايَاتِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ مَا يَقْطَعُ عَلَائِقَ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
    فَإِذَا حَقَّقْتَ كُلَّ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَتَمَدَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةَ الِاسْتِوَاءِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَالْجَلَالِ ; الْقَاضِيَةِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ ، الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ .

    الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ : بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ . قَوْلُهُ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ 54 ] .

    الْمَوْضِعُ الثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [ \ 3 ، 4 ] .

    الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ [ ص: 29 ] يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 ، 3 ، 4 ] .

    الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [ 2 - 6 ] .

    الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ : قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [ 58 ، 59 ] .

    الْمَوْضِعُ السَّادِسُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 4 ، 5 ] .

    الْمَوْضِعُ السَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [ 4 ] .

    وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ : لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 43 \ 13 ] ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ الْآيَةَ [ 23 \ 28 ] ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ الْآيَةَ [ 11 \ 44 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِوَاءً لَائِقًا بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا اسْتِوَاءً مُنَاسِبًا لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; عَلَى نَحْوِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ .

    وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّأَمُّلُ فِي أُمُورٍ :

    الْأَمْرُ الْأَوَّلُ : أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ ، وَلَا [ ص: 30 ] يَجُوزُ فِي حَقِّهِ مُشَابَهَةُ الْحَوَادِثِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَثَلًا أَنَّهُ : سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مُخَالِفَانِ لِأَسْمَاعِ الْحَوَادِثِ وَأَبْصَارِهِمْ ، لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ ، وَالْيَدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ بِحَالٍ .

    الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ أَيْضًا ، فَكَمَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، لَهُ ذَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ ذَوَاتِ الْخَلْقِ ، فَلَهُ تَعَالَى صِفَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَلْقِ .

    الْأَمْرُ الثَّالِثُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا .

    اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّهُ غَلِطَ فِي هَذَا خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ - هُوَ مُشَابَهَةُ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ ، وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ كُفْرٌ ; لِأَنَّ مَنْ شَبَّهَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْقَوْلُ فِيهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا .

    وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قِيلَ لَهُ : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [ 16 \ 44 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، وَأَحْرَى فِي الْعَقَائِدِ وَلَا سِيَّمَا مَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لَا يَلِيقُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .

    وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ وَمِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ ، هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #97
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (96)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(6)
    صـ 31 إلى صـ 35

    الْفَهُمُ الْمُتَبَادِرُ لِكُلِّ عَاقِلٍ : هُوَ مُنَافَاةُ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي ذَاتِهِ ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ ، لَا وَاللَّهِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ * . ***

    وَالْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَتَشْبِيهٌ - إِنَّمَا جَرَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ تَنْجِيسُ قَلْبِهِ ، بِقَدْرِ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، فَأَدَّاهُ شُؤْمُ التَّشْبِيهِ إِلَى نَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا ، مَعَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، هُوَ الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ ، فَكَانَ هَذَا الْجَاهِلُ مُشَبِّهًا أَوَّلًا ، وَمُعَطِّلًا ثَانِيًا ، فَارْتَكَبَ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، وَلَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَارِفًا بِاللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي ، مُعَظِّمًا لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي ، طَاهِرًا مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ - لَكَانَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِهِ : أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، بَالِغٌ مِنَ الْكَمَالِ ، وَالْجَلَالِ مَا يَقْطَعُ أَوْهَامَ عَلَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ، فَيَكُونُ قَلْبُهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ، مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ : بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا ، قُلْنَا : أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ ؟

    فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : لَا ، فَنَقُولُ : مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ 20 \ 110 ] ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ 112 \ 1 - 4 ] ، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [ 16 \ 74 ] .

    فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ :

    الْأَوَّلُ : تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ .

    وَالثَّانِي : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا ، أَوْ نَفْيًا ; وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ ، أَلَا تَرَى إِلَى [ ص: 32 ] قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ ، فَهُوَ عَامِّيٌّ [ الطَّوِيلُ ] :


    وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ
    وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ : سَبْعُ سَمَاوَاتٍ ، وَسَبْعُ أَرْضِينَ . فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ .

    وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .

    ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ رَحْمَتَهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُحْسِنِينَ ، وَأَوْضَحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صِفَاتِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ سَيَكْتُبُهَا لَهُمْ فِي قَوْلِهِ : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الْآيَةَ [ 7 \ 156 ] .

    وَوَجْهُ تَذْكِيرِ وَصْفِ الرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ فِي قَوْلِهِ : قَرِيبٌ [ 7 \ 56 ] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ تَزِيدُ عَلَى الْعَشْرَةِ . نَذْكُرُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضًا ، وَنَتْرُكُ مَا يَظْهَرُ لَنَا ضَعْفُهُ أَوْ بُعْدُهُ عَنِ الظَّاهِرِ .

    مِنْهَا : أَنَّ الرَّحْمَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّحِمِ ، فَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى .

    وَمِنْهَا : أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانَتْ قَرَابَةَ نَسَبٍ تَعَيَّنَ التَّأْنِيثُ فِيهَا فِي الْأُنْثَى فَتَقُولُ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَرِيبَتِي أَيْ فِي النَّسَبِ ، وَلَا تَقُولُ : قَرِيبٌ مِنِّي . وَإِنْ كَانَتْ قَرَابَةَ مَسَافَةٍ جَازَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ ، فَتَقُولُ : دَارُهُ قَرِيبٌ وَقَرِيبَةٌ مِنِّي ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [ 42 \ 17 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [ 33 \ 63 ] ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]


    لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
    وَمِنْهَا : أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا .

    وَمِنْهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : قَرِيبٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ [ ص: 33 ] الْمُحْسِنِينَ .

    وَمِنْهَا : أَنَّهَا شُبِّهَتْ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى .

    وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عَلَى فَعِيلٍ رُبَّمَا شُبِّهَتْ بِالْمَصْدَرِ الْآتِي عَلَى فَعِيلٍ ، فَأُفْرِدَتْ لِذَلِكَ ; قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الصَّدِيقَ فِي قَوْلِهِ : أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ 24 \ 61 ] ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
    وَهُنَّ صَدِيقٌ لِمَنْ لَمْ يَشِبْ
    ا اهـ وَالظَّهِيرَ فِي قَوْلِهِ : وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [ 66 \ 4 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْجُهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ .

    قِرَاءَةُ عَاصِمٍ بُشْرًا بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ : جَمْعُ بَشِيرٍ ، لِأَنَّهَا تَنْتَشِرُ أَمَامَ الْمَطَرِ مُبَشِّرَةً بِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ الْآيَةَ [ 30 \ 46 ] ، وَقَوْلُهُ : بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [ 7 \ 57 ] ، يَعْنِي بِرَحْمَتِهِ الْمَطَرَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [ 42 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [ 42 \ 28 ] .

    بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَحْمِلُ السَّحَابَ عَلَى الرِّيحِ ، ثُمَّ يَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [ 35 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [ 32 \ 27 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الْآيَةَ ، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ ، وَقَوْمِ هُودٍ عَجَبَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَجُلٍ ; وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ . قَالَ فِي عَجَبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [ 10 \ 2 ] ، وَقَالَ : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [ 50 \ 2 ] ، وَقَالَ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ [ ص: 34 ] رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 64 \ 6 ] ، وَقَالَ : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ الْآيَةَ [ 54 \ 23 ، 24 ] ، وَقَالَ : وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [ 23 \ 34 ] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْعَجَبَ مِنْ إِرْسَالِ بَشَرٍ مَانِعٍ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ : وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [ 17 \ 94 ] .

    وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا الْآيَةَ [ 21 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [ 25 \ 20 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا الْآيَةَ [ 6 \ 9 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ الْآيَةَ [ 54 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ 29 \ 14 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتُجَادِلُونَن ِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الْجِدَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَبَيْنَ عَادٍ . وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ قَطْعِهِ دَابِرَ عَادٍ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَةَ [ 69 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [ 51 \ 41 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ الْآيَةَ .

    ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَقْرَهَا بَاشَرَتْهُ جَمَاعَةٌ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ : أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَادَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَبَاشَرَ [ ص: 35 ] عَقْرَهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [ 29 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا الْآيَةَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ الْعَذَابُ كَقَوْلِهِ : وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [ 11 \ 64 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ 7 \ 73 ] ، وَقَوْلِهِ : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [ 11 \ 65 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ . لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ رَجْفَةِ الْأَرْضِ بِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ صَيْحَةُ الْمَلَكِ بِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [ 11 \ 67 ] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَكَ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ شِدَّةِ الصَّيْحَةِ ، وَفَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي .

    وَبَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الرِّسَالَةَ الَّتِي أَبْلَغَهَا نَبِيُّهُ صَالِحٌ إِلَى قَوْمِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ .

    بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ اللِّوَاطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ الْآيَةَ [ 7 \ 81 ] ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [ 26 \ 165 ] ، وَقَوْلِهِ : وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [ 29 \ 29 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #98
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (97)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(7)
    صـ 36 إلى صـ 40

    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ .

    ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا خُصُوصُ أَهْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي " الذَّارِيَاتِ " بِقَوْلِهِ : فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ 51 \ 35 ، 36 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا : إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ 7 \ 83 ] ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : فَبَيَّنَ أَنَّهَا خَائِنَةٌ ، وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِيمَا أَصَابَ قَوْمَهَا مِنَ الْهَلَاكِ ، قَالَ فِيهَا هِيَ وَامْرَأَةِ نُوحٍ : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [ 66 \ 10 ] ، وَقَالَ فِيهَا وَحْدَهَا : أَعْنِي امْرَأَةَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 81 ] [ ص: 36 ] وَقَوْلُهُ هُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [ 7 \ 84 ] .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَطَرَ مَا هُوَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَطَرُ حِجَارَةٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا كَقَوْلِهِ : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [ 15 \ 74 ] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السِّجِّيلَ الطِّينُ بِقَوْلِهِ فِي " الذَّارِيَاتِ " : لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [ 51 \ 33 ] ، ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَطَرَ مَطَرُ سُوءٍ لَا رَحْمَةٍ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [ 25 \ 40 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " الشُّعَرَاءِ " : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [ 173 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا .

    الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : وَتَبْغُونَهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَذْكِيرِ السَّبِيلِ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [ 7 \ 146 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ .

    بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [ 11 \ 94 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [ 7 \ 78 ] ، وَقَوْلِهِ : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ [ 7 \ 92 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ الْآيَةَ [ 26 \ 189 ] ، فَإِنْ قِيلَ : الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ رَجْفَةٌ ، وَذَكَرَ فِي هُودٍ أَنَّهُ صَيْحَةٌ ، وَذَكَرَ فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ .

    فَالْجَوَابُ : مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ . اهـ مِنْهُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ .

    بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الرِّسَالَاتِ الَّتِي أَبْلَغَهَا رَسُولُهُ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ [ ص: 37 ] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [ 11 \ 84 ] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ ، وَبَيَّنَ نُصْحَهُ لَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ الْآيَةَ [ 11 \ 89 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [ 7 \ 93 ] ، أَنْكَرَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَسَى ، أَيِ : الْحُزْنَ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْلَاغِهِمْ ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ لَجَاجًا وَعِنَادًا ، وَإِنْكَارُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَنَهَى نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ 5 \ 68 ] ، وَمَعْنَى لَا تَأْسَ : لَا تَحْزَنْ ، وَقَوْلِهِ : وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 16 \ 127 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا .

    ذَكَرَ أَنْبَاءَهُمْ مُفَصَّلَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، كَالْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا خَبَرُ نُوحٍ وَهُودٍ ، وَصَالِحٍ وَلُوطٍ ، وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ ، مَعَ أُمَمِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ : بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ .

    مِنْهَا : أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ، لِاسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ فِيمَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسٍ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 96 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [ 10 \ 101 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ ، فَآمَنُوا كَرْهًا ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ طَوْعًا . وَيُرْوَى هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْأَوَّلِ .

    وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً لَكَفَرُوا أَيْضًا ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا فِي الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ؛ أَيْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ . وَيَدُلُّ لِمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [ 6 \ 28 ] لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .

    [ ص: 38 ] وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ أَوَّلَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ . وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ شُؤْمَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ سَبَبٌ لِلطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الْهُدَى ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [ 4 \ 155 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ 61 \ 5 ] ، وَقَوْلِهِ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [ 2 \ 10 ] ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [ 63 \ 3 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ ، وَكُلُّهَا حَقٌّ . فَنَذْكُرُ جَمِيعَهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ .

    بَيَّنَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ظَلَمُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا مُوسَى ، وَصَرَّحَ فِي النَّمْلِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَاحِدِينَ لَهَا ، مَعَ أَنَّهُمْ مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّهَا حَقٌّ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَعُلُوِّهِمْ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ 13 ، 14 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ .

    ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ مُوسَى نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَيَاضَ خَالٍ مِنَ الْبَرَصِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " وَ " الْقَصَصِ " فِي قَوْلِهِ فِيهِمَا : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [ 12 \ 32 ] ، أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ .

    بَيَّنَ هُنَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِآيَةِ الْعَصَا وَالْيَدِ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ سَاحِرٌ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا قَالَ فِرْعَوْنُ : وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي " الشُّعَرَاءِ " أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [ 26 \ 34 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا السِّحْرَ الْعَظِيمَ مَا هُوَ ؟ وَلِمَ يُبَيِّنْ هَلْ أَوْجَسَ مُوسَى فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ مِنْهُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي [ ص: 39 ] يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ 66 - 96 ] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا مَعَ مُوسَى مَوْعِدًا لِوَقْتِ مُغَالَبَتِهِ مَعَ السَّحَرَةِ ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " طَهَ " فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ : فَلَنَأْتِيَنَّ كَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ الْآيَةَ [ 58 - 59 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ لَأَصُلِّبَنَّك ُمْ أَجْمَعِينَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الشَّيْءَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَصْلُبُهُمْ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، كَقَوْلِهِ فِي " طَهَ " وَلَأُصَلِّبَنّ َكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ الْآيَةَ [ 71 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ .

    ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِنْ أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَقَوْمِهِ فَقَالُوا : مَا جَاءَنَا هَذَا الْجَدْبُ وَالْقَحْطُ إِلَّا مِنْ شُؤْمِكُمْ ، وَذُكِرَ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ [ 4 \ 78 ] ، وَذُكِرَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَعَ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ : قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ الْآيَةَ [ 27 \ 47 ] ، وَذُكِرَ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ فِي قَوْلِهِ : قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُ مْ الْآيَةَ [ 36 \ 18 ] ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ شُؤْمَهُمْ مِنْ قِبَلِ كُفْرِهِمْ ، وَمَعَاصِيهِمْ ، لَا مِنْ قِبَلِ الرُّسُلِ ؛ قَالَ فِي " الْأَعْرَافِ " : أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ 131 ] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فِي قَوْمِ صَالِحٍ : قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [ 27 \ 47 ] ، وَقَالَ فِي " يس " : قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ الْآيَةَ [ 19 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 59 ] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْحُسْنَى الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ 28 \ 5 ، 6 ] .
    [ ص: 40 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي الْآيَةَ .

    اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ النَّافُونَ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمُ الْبَاطِلِ ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَ ، إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَبْصَارِهِمْ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ 75 \ 22 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ 83 \ 15 ] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا .

    وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ 10 \ 26 ] الْحُسْنَى : الْجَنَّةُ ، وَالزِّيَادَةُ : النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ 50 \ 35 ] ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ ، وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ : جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهَا عَقْلًا فِي دَارِ الدُّنْيَا : قَوْلُ مُوسَى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [ 7 \ 143 ] ; لِأَنَّ مُوسَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْجَائِزُ وَالْمُسْتَحِيل ُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا شَرْعًا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَمْنُوعَةٌ شَرْعًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ " الْأَعْرَافِ " هَذِهِ ، وَحَدِيثُ " إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا " ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَخَافَةَ عُقُولِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ، وَأَوْضَحَ هَذَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا الْآيَةَ [ 89 ] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا حُذِفَ فِيهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا الْآيَةَ [ 7 \ 148 ] ، أَيِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النُّكْتَةَ فِي حَذْفِهِ دَائِمًا التَّنْبِيهُ : عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّلَفُّظُ بِأَنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِنْ جَمَادٍ إِلَهٌ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ دَائِمًا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [ 20 \ 88 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #99
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (98)

    سُورَةُ الْأَعْرَافِ(8)
    صـ 41 إلى صـ 45

    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لِنَكُونُنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

    [ ص: 41 ] بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَبَدَةَ الْعِجْلِ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا ، وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " بِتَوْبَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِالْقَتْلِ وَتَوْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ 54 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ الْآيَةَ .

    أَوْضَحَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ فِي " طَهَ " قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا الْآيَةَ [ 86 ، 87 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي الْآيَةَ .

    أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى مَا اعْتَذَرَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ هَارُونَ لِأَخِيهِ مُوسَى عَمَّا وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّوْمِ ، وَأَوْضَحَهُ فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ 94 ] ، وَصَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَاءَتِهِ بِقَوْلِهِ :

    وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ 20 \ 90 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا .

    هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ 11 \ 17 ] ، وَقَيَّدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ بِبُلُوغِ هَذَا الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ 6 \ 19 ] ، وَصَرَّحَ بِشُمُولِ رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ : وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّين َ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ [ 3 \ 20 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ الْآيَةَ .

    لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَثْرَةَ كَلِمَاتِهِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : [ ص: 42 ] قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [ 18 \ 109 ] ، وَقَوْلِهِ : الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [ 31 \ 27 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الْآيَةَ .

    هَذَا الْمِيثَاقُ الْمَذْكُورُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [ 3 \ 187 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ .

    فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ :

    أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَى أَخْذِهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ : هُوَ إِيجَادُ قَرْنٍ مِنْهُمْ بَعْدَ قَرْنٍ ، وَإِنْشَاءُ قَوْمٍ بَعْدَ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ 6 \ 133 ] ، وَقَالَ : هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ [ 35 \ 39 ] ، وَقَالَ : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ [ 27 \ 62 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ 7 \ 172 ] ، أَنَّ إِشْهَادَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَالُوا بَلَى ، أَيْ : قَالُوا ذَلِكَ بِلِسَانِ حَالِهِمْ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ ، وَنَظِيرُهُ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ لِسَانِ الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ 9 \ 17 ] ، أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ 100 \ 6 ، 7 ] أَيْ : بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا .

    وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ : أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [ 7 \ 172 ، 173 ] ، قَالُوا : فَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ ، وَهُمْ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ; [ ص: 43 ] لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَمَا لَا عِلْمَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِخْبَارُ الرُّسُلِ بِالْمِيثَاقِ الْمَذْكُورِ كَافٍ فِي ثُبُوتِهِ ، قُلْنَا :

    قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : " الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَلِهَذَا قَالَ : أَنْ تَقُولُوا الْآيَةَ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

    فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ، وَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ قَائِلُهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ الْآبَاءِ فِي صُورَةِ الذَّرِّ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، ثُمَّ أَرْسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّسُلَ مُذَكِّرَةً بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الَّذِي نَسِيَهُ الْكُلُّ وَلَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ وَإِخْبَارُ الرُّسُلِ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ بِوُجُودِهِ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .

    أَمَّا وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، وَمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا - تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ - بِكَثْرَةٍ - بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ بِإِنْذَارِ الْفِطْرَةِ ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ 17 \ 55 ] ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نَخْلُقَ عُقُولًا ، وَنَنْصُبَ أَدِلَّةً ، وَنُرَكِّزَ فِطْرَةً .

    وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ 17 \ 15 ] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ عُذْرُهُمْ : هُوَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لَا نَصْبَ الْأَدِلَّةِ وَالْخَلْقِ عَلَى الْفِطْرَةِ .

    وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرُّسُلُ لِقَطْعِهَا بَيَّنَهَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [ 134 ] ، وَأَشَارَ لَهَا فِي " الْقَصَصِ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ 47 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قُطِعَ عُذْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي ذَلِكَ [ ص: 44 ] بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [ 67 \ 8 ، 9 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 39 \ 71 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ : كُلَّمَا ، فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ، صِيغَةُ عُمُومٍ ، وَأَنَّ لَفْظَةَ : الَّذِينَ ، فِي قَوْلِهِ : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، صِيغَةُ عُمُومٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهُ .

    وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي صُورَةِ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ كَمَا ذَكَرَ هُنَا ، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : قَالَ أَبُو عُمَرَ ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ، لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمُ اهـ . مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَلْ يُكْتَفَى فِي الْإِلْزَامِ بِالتَّوْحِيدِ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرُوا ؟ هُوَ مَبْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ ، هَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِكُفْرِهِمْ ؟ وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " ، أَوْ يُعْذَرُونَ بِالْفَتْرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ :

    ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعُ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِنَا ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ الْآيَةَ .

    ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ لِهَذَا الْخَسِيسِ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا - بِالْكَلْبِ ، وَلَمْ تَكُنْ حَقَارَةُ الْكَلْبِ مَانِعَةً مِنْ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْمَثَلَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ فِي قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [ 22 \ 73 ] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِبَيْتِ [ ص: 45 ] الْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ 29 \ 41 ] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ 62 \ 5 ] ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحِي مِنْ بَيَانِ الْعُلُومِ النَّفِيسَةِ عَنْ طَرِيقِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

    هَدَّدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِتَهْدِيدَيْنِ :

    الْأَوَّلُ : صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : وَذَرُوا فَإِنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ .

    وَالثَّانِي : فِي قَوْلِهِ : سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَهَدَّدَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ فِي سُورَةِ حم " السَّجْدَةِ " بِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [ 40 ] ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ الْآيَةَ ، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ : الْمَيْلُ ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ ، وَمَعْنَى إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ مَا كَاشْتِقَاقِهِم ُ اسْمَ اللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ ، وَاسْمَ الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ ، وَاسْمَ مَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَحَدَ وَأَلْحَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَتَانِ يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَبِضَمِّهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الثَّانِي .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ .

    هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [ 79 \ 42 ، 43 ، 44 ] ، وَقَوْلِهِ : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [ 6 \ 59 ] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ [ 31 \ 34 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #100
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثانى
    الحلقة (99)

    سُورَةُ الْأَنْفَالِ (1)
    صـ 46 إلى صـ 50


    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ .

    وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فِي قَوْلِهِ فِي " الْأَنْعَامِ " : قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [ ص: 46 ] [ 50 ] ، وَقَالَ : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [ 62 \ 26 ، 27 ] ، وَقَالَ : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [ 27 \ 65 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قِيلَ : الْمَالُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الْخَيْرِ بِمَعْنَى الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ 100 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [ 2 \ 180 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ الْآيَةَ [ 2 \ 215 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

    وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَكْثِرٌ جِدًّا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; لِأَنَّ عَمَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دِيمَةً ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ .

    ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، أَيْ : لِيَأْلَفَهَا وَيَطْمَئِنَّ بِهَا ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ أَزْوَاجَ ذُرِّيَّتِهِ كَذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [ 30 \ 21 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .

    فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا :

    الْأَوَّلُ : أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ، فَحَمَلَتْ ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ ، فَقَالَ لَهَا سَمِّي هَذَا الْوَلَدَ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ ، وَالْحَارِثُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَقَالَ تَعَالَى : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا [ 7 \ 190 ] أَيْ وَلَدًا إِنْسَانًا ذَكَرًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ بِتَسْمِيَتِهِ عَبْدَ الْحَارِثِ ، وَقَدْ جَاءَ بِنَحْوِ هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَهُوَ مَعْلُولٌ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ .

    الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا آتَى آدَمَ وَحَوَّاءَ صَالَحًا كَفَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا ، وَأَسْنَدَ فِعْلَ الذُّرِّيَّةِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ ; لِأَنَّهُمَا أَصْلٌ لِذُرِّيَّتِهِم َا كَمَا قَالَ : وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [ 7 \ 11 ] ، أَيْ بِتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ لِأَنَّهُ أَصْلُهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ : ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ : [ ص: 47 ] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [ 7 \ 190 ، 191 ] ، وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، لَا آدَمُ وَحَوَّاءُ ، وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

    بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَبَيَّنَ أَنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ يُعَامَلُ بِاللِّينِ ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهْلِهِ وَإِسَاءَتِهِ . وَأَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ لَا مَنْجَى مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَ ةِ بِاللَّهِ مِنْهُ ، قَالَ فِي الْأَوَّلِ : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ 7 \ 199 ] ، وَقَالَ فِي الثَّانِي : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ 7 \ 200 ] ، وَبَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ .

    أَحَدُهُمَا : فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ 32 \ 1 ] ، قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [ 96 ] ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ 79 ، 98 ] .

    وَالثَّانِي : فِي حم " السَّجْدَةِ " قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [ 41 \ 34 ] ، وَزَادَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْطَاهُ كُلُّ النَّاسِ ، بَلْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ إِلَّا لِذِي الْحَظِّ الْكَبِيرِ وَالْبَخْتِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ فَقَالَ : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ 41 \ 35 ] ، ثُمَّ قَالَ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ 41 \ 36 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ .

    ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِخْوَانَ الْإِنْسِ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَ الْإِنْسَ فِي الْغَيِّ ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ 19 \ 83 ] ، وَقَوْلِهِ : يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [ 6 \ 128 ] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ بَعْضَ الْإِنْسِ إِخْوَانٌ لِلشَّيَاطِينِ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [ 17 \ 27 ] .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْأَنْفَالِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ .

    اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ هُنَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ :

    الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ مَا شَذَّ عَنِ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ يَذْهَبُ مِنَ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفَالِ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَيْئًا ، وَهُوَ الْآتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [ 59 \ 6 ] ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ .

    الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْخُمُسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .

    الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُمُسُ الْخُمُسِ .

    الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .

    الْخَامِسُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفَالُ السَّرَايَا خَاصَّةً ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الشَّعْبِيُّ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ : مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ السَّرَايَا زِيَادَةً عَلَى قِسْمِهِمْ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَسْمِ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، وَقُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ قَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبْضِ " قَالَ : فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي ، قَالَ : فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اذْهَبْ فَخُذْ سَلَبَكَ " ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : [ ص: 49 ] حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِيَ اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي ضَعْهُ " قَالَ : فَوَضَعْتُهُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ : عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا السَّيْفُ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي ، قَالَ : فَإِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي قَالَ : قُلْتُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا ، قَالَ : كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ ، وَلَيْسَ هُوَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِيَ فَهُوَ لَكَ ، قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ 8 \ 1 ] ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ ، أَخْبَرَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ : نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ : أَصَبْتُ سَيْفًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : نَفِّلْنِيهِ ، فَقَالَ : " ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْآيَةَ ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي نُزُولِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [ 29 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [ 5 \ 90 ] ، وَآيَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ يَقُولُ : أَصَبْتُ سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ السَّيْفُ يُدْعَى بِالْمَرْزُبَان ِ ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ النَّفْلِ أَقْبَلْتُ بِهِ فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّفْلِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ ، فَرَآهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، اهـ كَلَامُ ابْنُ كَثِيرٍ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ لَمَّا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ هُمُ الَّذِينَ حُزْنَا الْغَنَائِمَ ، وَحَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِنَا فِيهَا نَصِيبٌ ، وَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدْءًا ، وَلَوْ هُزِمْتُمْ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " ، وَقَالَ ، صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ; وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، فَالْآيَةُ [ ص: 50 ] مُشْكِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 8 \ 41 ] .

    وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَنَسَبُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ : إِنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ لِأَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا بَعْدَ قَسْمِ غَنَائِمِ بَدْرٍ - غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ " الْحَدِيثَ . فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي تَخْمِيسِ غَنَائِمِ بَدْرٍ ; لِأَنَّ قَوْلَ عَلَيٍّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَوْمَئِذٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا تَرَى .

    فَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، بَيَّنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ قَصْرَ الْغَنَائِمِ عَلَى الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ، وَأَنَّهَا تُعْطَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لَلْغَانِمِينَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ : إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا ، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْجُمْهُورِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثِ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ . فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّصْرِيحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ 9 \ 124 ] ، وَقَوْلِهِ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ الْآيَةَ [ 48 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا الْآيَةَ [ 74 \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى الْآيَةَ [ 47 \ 17 ] .

    وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَاتُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ يَنْقُصُ ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ : " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •