تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 28 الأولىالأولى 12345678910111213 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (41)

    سورة النساء (14)

    وقال ابن قدامة في " المغني " : وروي هذا القول يعني إدراك الظهر مثلا بما [ ص: 301 ] تدرك به العصر في الحائض تطهر ، عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور .

    قال الإمام أحمد : عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده ، قال : لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها ، إلى أن قال : ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة : تصلي المغرب والعشاء ، فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر جميعا ; ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية ، اهـ منه بلفظه مع حذف يسير ، وهو تصريح من هذا العالم الجليل الحنبلي بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر ، وللظهر إلى الغروب كقول مالك رحمه الله تعالى وأما أول وقت العشاء فقد أجمع المسلمون على أنه يدخل حين يغيب الشفق .

    وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيان أول وقت العشاء ثم صلى العشاء حين غاب الشفق .

    وفي حديث بريدة المتقدم عند مسلم وغيره ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق .

    وفي حديث أبي موسى عند مسلم وغيره : ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا وهو أمر لا نزاع فيه .

    فإذا علمت إجماع العلماء على أن أول وقت العشاء هو مغيب الشفق ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في الشفق ، فقال بعض العلماء : هو الحمرة ، وهو الحق .

    وقال بعضهم : هو البياض الذي بعد الحمرة ، ومما يدل على أن الشفق هو الحمرة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة " .

    قال الدارقطني في " الغرائب " : هو غريب وكل رواته ثقات ، وقد أخرج ابن خزيمة في " صحيحه " عن عبد الله بن عمر مرفوعا : " ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق " الحديث .

    قال ابن خزيمة : إن صحت هذه اللفظة أغنت عن غيرها من الروايات ، لكن تفرد بها محمد بن يزيد . [ ص: 302 ] قال ابن حجر في " التلخيص " : محمد بن يزيد هو الواسطي وهو صدوق ، وروى هذا الحديث ابن عساكر وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر .

    وقال الحاكم أيضا : إن رفعه غلط ، بل قال البيهقي : روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ، ولا يصح فيه شيء ولكن قد علمت أن الإسناد الذي رواه ابن خزيمة به في " صحيحه " ليس فيه مما يوجب تضعيفه إلا محمد بن يزيد ، وقد علمت أنه صدوق . ومما يدل على أن الحمرة الشفق ما رواه البيهقي في " سننه " عن النعمان بن بشير قال : " أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء " كان - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثة " لما حققه غير واحد من أن البياض لا يغيب إلا بعد ثلث الليل وسقوط القمر لثالثة الشهر قبل ذلك كما هو معلوم .
    وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .

    قال ابن العربي : وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق .

    قال ابن سيد الناس في " شرح الترمذي " : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ، وهو الذي حد - صلى الله عليه وسلم - خروج أكثر الوقت به فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل يقينا بالشفق الذي هو الحمرة . اهـ .

    وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم ، وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه ، وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض ، وفي " القاموس " الشفق الحمرة ولم يذكر البياض .

    وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة : الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه الله من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا ; لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه الله يقول : " الشفق هو الحمرة " والمسافر لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة ، أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب [ ص: 303 ] الحمرة ، فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه . اهـ . من " المغني " لابن قدامة .

    وقال أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه : الشفق البياض الذي بعد الحمرة ، وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة ، وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول ، وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل ، وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر .

    فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل ، ما أخرجه البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها : " كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول " .

    وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره : " أنه - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق ، وفي الليلة الثانية أخره حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم قال : الوقت فيما بين هذين " .

    وفي حديث جابر ، وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل : " أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق ، وفي الليلة الثانية صلاها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال : الوقت فيما بين هذين الوقتين " ، إلى غير ذلك من الروايات الدالة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول .

    ومن الروايات الدالة على امتداده إلى نصف الليل ، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال : " أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلى ، ثم قال : قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها " . قال أنس : كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ .

    وفي حديث عبد الله بن عمرو المتقدم عند أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود : " ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل " وفي بعض رواياته : " فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل " .

    ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى " ، رواه مسلم في " صحيحه " .

    واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح [ ص: 304 ] لا يمتد بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ، فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعا ، فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل .

    فالجواب : أن الجمع ممكن ، وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري .

    ويدل لهذا : إطباق من ذكرنا سابقا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب ، والعشاء ، ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقا ، إنما خالف في المغرب لا في العشاء ، مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمن بن عوف ، وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع ; لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع ، كما تقرر في علوم الحديث ، ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه ; لأنه تعبدي محض .

    وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل ، وما دل على امتداده إلى الفجر ، ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف ، والظاهر في الجمع والله تعالى أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفا لآخر وقت العشاء الاختياري .

    وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية ، وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات . فبعض العلماء رجح روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري ، وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة ، وزيادة العدل مقبولة .

    وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم .

    وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : " وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا " الحديث .

    وفي حديث جابر المتقدم ، في إمامة جبريل أيضا : " ثم صلى الفجر حين برق [ ص: 305 ] الفجر ، وحرم الطعام على الصائم " ، ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق ، فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم ، ولا تجوز به صلاة الصبح ، والصادق بخلاف ذلك فيهما ، وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار ، وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس ، فمن الروايات الدالة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفا : " ثم جاءه حين أسفر جدا فقال : قم فصله فصلى الفجر " .

    وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفا : " ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض " الحديث . وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني .

    وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : " ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت " .

    ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : " ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس " .

    وفي رواية لمسلم : " ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول " ، والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات أن الوقت المنتهي إلى الإسفار هو وقت الصبح الاختياري ، والممتد إلى طلوع الشمس وقتها الضروري ، وهذا هو مشهور مذهب مالك .

    وقال بعض المالكية : لا ضروري للصبح فوقتها كله إلى طلوع الشمس وقت اختيار ، وعليه فوجه الجمع هو ما قدمنا عن ابن سريج في الكلام على آخر وقت العشاء ، والعلم عند الله تعالى .

    فهذا الذي ذكرنا هو تفصيل الأوقات الذي أجمل في قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ 4 ] ، وبين بعض البيان في قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] ، وقوله : وأقم الصلاة طرفي النهار الآية [ 11 \ 114 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون الآية [ 30 \ 17 ] ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (42)

    سورة النساء (15)

    قوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ، [ ص: 306 ] نهى الله تعالى المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن ، وهو الضعف في طلب أعدائهم الكافرين ، وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من القتل والجراح فالكفار كذلك ، والمسلم يرجو من الله من الثواب والرحمة ما لا يرجوه الكافر ، فهو أحق بالصبر على الآلام منه ، وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [ 3 \ 139 \ 140 ] ، وكقوله : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم [ 47 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ذكر في هذه الآية أن من فعل ذنبا فإنه إنما يضر به خصوص نفسه لا غيرها ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] ، وقوله : ومن أساء فعليها [ 41 \ 46 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه علم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن يعلمه ، وبين في مواضع أخر أنه علمه ذلك عن طريق هذا القرآن العظيم الذي أنزله عليه ، كقوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه .

    ونهى في موضع آخر عن التناجي بما لا خير فيه ، وبين أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين ، وهو قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ 58 \ 10 ، 9 ] .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : أو إصلاح بين الناس ، لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا .

    [ ص: 307 ] ولكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم [ 49 \ 10 ] ، وقوله : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما [ 49 \ 9 ] ، فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر ، وكقوله تعالى : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ 8 ] .

    وقال بعض العلماء : إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله : إلا من أمر بصدقة أو معروف [ 4 \ 114 ] ، يبينه قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 ، 2 ، 3 ] ، وقوله : إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 ] ، والآية الأخيرة فيها أنها في الآخرة ، والأمر بالمعروف المذكور إنما هو في الدنيا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وإن يدعون إلا شيطانا مريدا المراد في هذه الآية بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له ، ونظيره قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] ، وقوله عن خليله إبراهيم مقررا له : ياأبت لا تعبد الشيطان [ 19 \ 44 ] ، وقوله عن الملائكة : بل كانوا يعبدون الجن الآية [ 34 \ 41 ] ، وقوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم [ 36 \ 137 ] ، ولم يبين في هذه الآيات ما وجه عبادتهم للشيطان ، ولكنه بين في آيات أخر أن معنى عبادتهم للشيطان إطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ما جاءت به الرسل من عند الله تعالى ، كقوله : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، وقوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] ، فإن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف اتخذوهم أربابا ؟ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم " ، وذلك هو معنى اتخاذهم إياهم أربابا . ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرا له على ما جاءت به الرسل ، فهو كافر بالله ، عابد للشيطان ، متخذ الشيطان ربا ، وإن سمى اتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء ; لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها ، كما هو معلوم .
    [ ص: 308 ] قوله تعالى : وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ، بين هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض ، بقوله : ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله [ 4 \ 119 ] ، والمراد بتبتيك آذان الأنعام شق أذن البحيرة مثلا وقطعها ليكون ذلك سمة وعلامة لكونها بحيرة أو سائبة ، كما قاله قتادة والسدي وغيرهما ، وقد أبطله تعالى بقوله : ما جعل الله من بحيرة الآية [ 5 \ 103 ] ، والمراد ببحرها شق أذنها كما ذكرنا ، والتبتيك في اللغة : التقطيع ، ومنه قول زهير : [ البسيط ]


    حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها بتك

    أي : قطع ، كما بين كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض في آيات أخر كقوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 16 ] وقوله : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته الآية [ 17 \ 62 ] ، ولم يبين هنا هل هذا الظن الذي ظنه إبليس ببني آدم أنه يتخذ منهم نصيبا مفروضا وأنه يضلهم تحقق لإبليس أو لا ، ولكنه بين في آية أخرى أن ظنه هذا تحقق له ، وهي قوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه الآية [ 34 \ 20 ] ، ولم يبين هنا الفريق السالم من كونه من نصيب إبليس ، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 ، 40 ] وقوله : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] إلى غير ذلك من الآيات ولم يبين هنا هل نصيب إبليس هذا هو الأكثر أو لا ، ولكنه بين في مواضع أخر أنه هو الأكثر ، كقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 13 \ 1 ] وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] وقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 16 \ 116 ] وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] . وقد ثبت في الصحيح أن نصيب الجنة واحد من الألف والباقي في النار .
    قوله تعالى : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
    قال بعض العلماء : معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة [ ص: 309 ] الإسلام التي خلقهم الله عليها ، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [ 30 \ 30 ] ، إذ المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر . فقوله : لا تبديل لخلق الله ، خبر أريد به الإنشاء إيذانا بأنه لا ينبغي إلا أن يمتثل ، حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة ، ونظيره قوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ 2 \ 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ويشهد لهذا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تجدون فيها من جدعاء " ، وما رواه مسلم في " صحيحه " عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .

    وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق الله خصاء الدواب ، والقول بأن المراد به الوشم ، فلا بيان في الآية المذكورة ، وبكل من الأقوال المذكورة قال جماعة من العلماء : وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه ; لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان ، أما خصاء بني آدم فهو حرام إجماعا ; لأنه مثلة وتعذيب وقطع عضو ، وقطع نسل من غير موجب شرعي ، ولا يخفى أن ذلك حرام .

    وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره ، وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي ، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره ، ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز ، وخصى عروة بن الزبير بغلا له ، ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم ، وإنما جاز ذلك ; لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير الله ، وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ، ومنهم من كره ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " . قاله القرطبي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر وكان يقول هو : نماء خلق الله ، وكره ذلك عبد الملك بن مروان .

    وقال الأوزاعي : كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل .

    [ ص: 310 ] وقال ابن المنذر : وفيه حديثان :

    أحدهما : عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل " .

    والآخر : حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم " ، والذي في " الموطأ " من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ، ويقول : فيه تمام الخلق .

    قال أبو عمر ، يعني في ترك الإخصاء : تمام الخلق ، وروي نماء الخلق .

    قال القرطبي : بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا : قلت : أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تخصوا ما ينمي خلق الله " رواه عن الدارقطني شيخه قال : حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا قراد ، حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره .

    قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك . اهـ من القرطبي بلفظه ، وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق الله الوشم ، فهو يدل أيضا على أن الوشم حرام .

    وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله عز وجل ، يعني قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

    وقالت طائفة من العلماء : المراد بتغيير خلق الله في هذه الآية هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة .

    وقال الزجاج : إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل ، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ، فجعلوها آلهة يعبدونها ، فقد غيروا ما خلق الله .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (43)

    سورة النساء (16)

    [ ص: 311 ] وما روي عن طاوس رحمه الله من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هذا من قول الله تعالى : فليغيرن خلق الله [ 14 \ 119 ] ، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله ، فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه - صلى الله عليه وسلم - نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة ، وكانت حبشية سوداء ، ومن ذلك إنكاحه - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود ، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة بن كلاب ، وقد سها طاوس رحمه الله مع علمه وجلالته عن هذا .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلما إن لم يكن لها ولي خاص مجبر . قالوا : والسوداء دنية مطلقا ; لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء ، والحق أن السوداء قد تكون شريفة ، وقد تكون جميلة ، وقد قال بعض الأدباء : [ الوافر ]


    وسوداء الأديم تريك وجها ترى ماء النعيم جرى عليه رآها ناظري فرنا إليها
    وشكل الشيء منجذب إليه


    وقال آخر : [ الوافر ]


    ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها
    كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها


    وقال آخر في سوداء : [ السريع ]


    أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعده
    لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحده


    وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة .

    وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام [ 4 \ 119 ] يدل على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك . أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربا بذلك للأصنام فهو كفر بالله إجماعا ، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضا أنه لا يجوز ، ولذا أمرنا - صلى الله عليه وسلم - : " أن نستشرف العين ، والأذن ، ولا نضحي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، [ ص: 312 ] ولا خرقاء ، ولا شرقاء " . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، والبزار ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي ، وأعله الدارقطني ، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء مشقوقة الأذن طولا ، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقا مستديرا ، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء .

    قال مالك والليث : المقطوعة الأذن لا تجزئ ، أو جل الأذن قاله القرطبي ، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر ، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن . فقال مالك ، والشافعي : لا تجزئ ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك ، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي ، وجماعة الفقهاء ، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية ، لم يبين هنا شيئا من أمانيهم ، ولا من أماني أهل الكتاب ، ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله عنهم : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله في أماني أهل الكتاب : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم الآية [ 2 \ 111 ] ، وقوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية [ 5 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله : ليس بأمانيكم الآية [ 4 \ 123 ] ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
    قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله في حال كونه محسنا ; لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي ، وصرح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد [ ص: 313 ] استمسك بالعروة الوثقى ، وهو قوله تعالى : ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 31 \ 22 ] ، ومعنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه ، وانقياده لله تعالى بامتثال أمره ، واجتناب نهيه في حال كونه محسنا ، أي : مخلصا عمله لله لا يشرك فيه به شيئا مراقبا فيه لله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فالله تعالى يراه ، والعرب تطلق إسلام الوجه ، وتريد به الإذعان والانقياد التام ، ومنه قول زيد بن نفيل العدوي : [ المتقارب ]


    وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
    له الأرض تحمل صخرا ثقالا



    قوله تعالى : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الآية ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو ، ولكنه بينه في أول السورة وهو قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية [ 4 \ 3 ] ، كما قدمناه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقوله هنا : وما يتلى [ 4 \ 127 ] في محل رفع معطوفا على الفاعل الذي هو لفظ الجلالة ، وتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن [ 4 \ 127 ] ، أيضا : ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ، وذلك قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية ، ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا ، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله : وترغبون أن تنكحوهن ، هو عن أي : ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهن وجمالهن ، أي : كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال ، فلا يحل لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن ، كما تقدم عنعائشة رضي الله عنها .

    وقال بعض العلماء : الحرف المحذوف هو " في " أي : ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن ، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك : أغناني زيد وعطاؤه ، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية ، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها ، وكذلك إسناد الإفتاء إلى الله حقيقي ، وإسناده إلى ما يتلى [ ص: 314 ] مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما .

    وقال بعض العلماء : إن قوله : وما يتلى عليكم ، في محل جر معطوفا على الضمير ، وعليه فتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيما يتلى عليكم ، وهذا الوجه يضعفه أمران :

    الأول : أن الغالب أن الله يفتي بما يتلى في هذا الكتاب ، ولا يفتي فيه لظهور أمره .

    الثاني : أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية ، وأجازهابن مالك مستدلا بقراءة حمزة ، والأرحام بالخفض عطفا على الضمير من قوله : تساءلون به [ 4 \ 1 ] ، وبوروده في الشعر كقوله : [ البسيط ]


    فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب


    بجر الأيام عطفا على الكاف ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]


    نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف


    بجر الكعب معطوفا على الضمير قبله وقول الآخر : [ الطويل ]


    وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا


    فقوله : ولا الأرض بالجر معطوفا على الضمير وقول الآخر : [ الوافر ]


    أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها


    فسواها في محل جر بالعطف على الضمير .

    وأجيب عن الآية بجواز كونها قسما ، والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه ، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 ، 39 ] ، وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ، ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، وجعل منه قوله تعالى : حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] ، فقال إن قوله : ومن في محل جر عطفا على الضمير المجرور في قوله : حسبك ، وتقرير المعنى عليه : حسبك الله ، [ ص: 315 ] أي : كافيك ، وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله : ومن اتبعك ، أن يكون منصوبا معطوفا على المحل ; لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر : [ الطويل ]


    إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند


    بنصب الضحاك كما ذكرنا ، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين [ 15 \ 20 ] فقال : ومن عطف على ضمير الخطاب في قوله : لكم وتقرير المعنى عليه ، وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش ، وكذلك إعراب وما يتلى بأنه مبتدأ خبره محذوف أو خبره في الكتاب ، وإعرابه منصوبا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره ، ويبين لكم ما يتلى ، وإعرابه مجرورا على أنه قسم ، كل ذلك غير ظاهر .

    وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب [ 4 \ 127 ] ، آيات المواريث ; لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فأنزل الله آيات المواريث .

    وعلى هذا القول ، فالمبين لقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله : يوصيكم الله في أولادكم الآيتين [ 4 \ 11 ] . وقوله في آخر السورة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر .

    تنبيه

    المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : وترغبون أن تنكحوهن [ 4 \ 127 ] ، أصله مجرور بحرف محذوف ، وقد قدمنا الخلاف هل هو " عن " ، وهو الأظهر ، أو هو " في " وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق ، وبه قال الكسائي والخليل : وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفا .

    وقال الأخفش : هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]


    وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين بها أنا طالبه


    بجر " دين " عطفا على محل " أن تكون " أي : لكونها حبيبة ولا لدين ، ورد أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم ، كقول زهير : [ الطويل ]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (43)

    سورة النساء (16)

    [ ص: 311 ] وما روي عن طاوس رحمه الله من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هذا من قول الله تعالى : فليغيرن خلق الله [ 14 \ 119 ] ، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله ، فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه - صلى الله عليه وسلم - نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة ، وكانت حبشية سوداء ، ومن ذلك إنكاحه - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود ، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة بن كلاب ، وقد سها طاوس رحمه الله مع علمه وجلالته عن هذا .

    قال مقيده - عفا الله عنه - : ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلما إن لم يكن لها ولي خاص مجبر . قالوا : والسوداء دنية مطلقا ; لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء ، والحق أن السوداء قد تكون شريفة ، وقد تكون جميلة ، وقد قال بعض الأدباء : [ الوافر ]


    وسوداء الأديم تريك وجها ترى ماء النعيم جرى عليه رآها ناظري فرنا إليها
    وشكل الشيء منجذب إليه


    وقال آخر : [ الوافر ]


    ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها
    كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها


    وقال آخر في سوداء : [ السريع ]


    أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعده
    لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحده


    وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة .

    وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام [ 4 \ 119 ] يدل على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك . أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربا بذلك للأصنام فهو كفر بالله إجماعا ، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضا أنه لا يجوز ، ولذا أمرنا - صلى الله عليه وسلم - : " أن نستشرف العين ، والأذن ، ولا نضحي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، [ ص: 312 ] ولا خرقاء ، ولا شرقاء " . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، والبزار ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي ، وأعله الدارقطني ، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء مشقوقة الأذن طولا ، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقا مستديرا ، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء .

    قال مالك والليث : المقطوعة الأذن لا تجزئ ، أو جل الأذن قاله القرطبي ، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر ، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن . فقال مالك ، والشافعي : لا تجزئ ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك ، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي ، وجماعة الفقهاء ، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية ، لم يبين هنا شيئا من أمانيهم ، ولا من أماني أهل الكتاب ، ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله عنهم : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله في أماني أهل الكتاب : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم الآية [ 2 \ 111 ] ، وقوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية [ 5 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله : ليس بأمانيكم الآية [ 4 \ 123 ] ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
    قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله في حال كونه محسنا ; لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي ، وصرح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد [ ص: 313 ] استمسك بالعروة الوثقى ، وهو قوله تعالى : ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 31 \ 22 ] ، ومعنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه ، وانقياده لله تعالى بامتثال أمره ، واجتناب نهيه في حال كونه محسنا ، أي : مخلصا عمله لله لا يشرك فيه به شيئا مراقبا فيه لله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فالله تعالى يراه ، والعرب تطلق إسلام الوجه ، وتريد به الإذعان والانقياد التام ، ومنه قول زيد بن نفيل العدوي : [ المتقارب ]


    وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
    له الأرض تحمل صخرا ثقالا



    قوله تعالى : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الآية ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو ، ولكنه بينه في أول السورة وهو قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية [ 4 \ 3 ] ، كما قدمناه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقوله هنا : وما يتلى [ 4 \ 127 ] في محل رفع معطوفا على الفاعل الذي هو لفظ الجلالة ، وتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن [ 4 \ 127 ] ، أيضا : ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ، وذلك قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية ، ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا ، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله : وترغبون أن تنكحوهن ، هو عن أي : ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهن وجمالهن ، أي : كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال ، فلا يحل لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن ، كما تقدم عنعائشة رضي الله عنها .

    وقال بعض العلماء : الحرف المحذوف هو " في " أي : ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن ، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك : أغناني زيد وعطاؤه ، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية ، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها ، وكذلك إسناد الإفتاء إلى الله حقيقي ، وإسناده إلى ما يتلى [ ص: 314 ] مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما .

    وقال بعض العلماء : إن قوله : وما يتلى عليكم ، في محل جر معطوفا على الضمير ، وعليه فتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيما يتلى عليكم ، وهذا الوجه يضعفه أمران :

    الأول : أن الغالب أن الله يفتي بما يتلى في هذا الكتاب ، ولا يفتي فيه لظهور أمره .

    الثاني : أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية ، وأجازهابن مالك مستدلا بقراءة حمزة ، والأرحام بالخفض عطفا على الضمير من قوله : تساءلون به [ 4 \ 1 ] ، وبوروده في الشعر كقوله : [ البسيط ]


    فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب


    بجر الأيام عطفا على الكاف ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]


    نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف


    بجر الكعب معطوفا على الضمير قبله وقول الآخر : [ الطويل ]


    وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا


    فقوله : ولا الأرض بالجر معطوفا على الضمير وقول الآخر : [ الوافر ]


    أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها


    فسواها في محل جر بالعطف على الضمير .

    وأجيب عن الآية بجواز كونها قسما ، والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه ، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 ، 39 ] ، وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ، ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، وجعل منه قوله تعالى : حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] ، فقال إن قوله : ومن في محل جر عطفا على الضمير المجرور في قوله : حسبك ، وتقرير المعنى عليه : حسبك الله ، [ ص: 315 ] أي : كافيك ، وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله : ومن اتبعك ، أن يكون منصوبا معطوفا على المحل ; لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر : [ الطويل ]


    إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند


    بنصب الضحاك كما ذكرنا ، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين [ 15 \ 20 ] فقال : ومن عطف على ضمير الخطاب في قوله : لكم وتقرير المعنى عليه ، وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش ، وكذلك إعراب وما يتلى بأنه مبتدأ خبره محذوف أو خبره في الكتاب ، وإعرابه منصوبا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره ، ويبين لكم ما يتلى ، وإعرابه مجرورا على أنه قسم ، كل ذلك غير ظاهر .

    وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب [ 4 \ 127 ] ، آيات المواريث ; لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فأنزل الله آيات المواريث .

    وعلى هذا القول ، فالمبين لقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله : يوصيكم الله في أولادكم الآيتين [ 4 \ 11 ] . وقوله في آخر السورة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر .

    تنبيه
    المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : وترغبون أن تنكحوهن [ 4 \ 127 ] ، أصله مجرور بحرف محذوف ، وقد قدمنا الخلاف هل هو " عن " ، وهو الأظهر ، أو هو " في " وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق ، وبه قال الكسائي والخليل : وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفا .

    وقال الأخفش : هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]
    وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين بها أنا طالبه
    بجر " دين " عطفا على محل " أن تكون " أي : لكونها حبيبة ولا لدين ، ورد أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم ، كقول زهير : [ الطويل ]

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (44)

    سورة النساء (17)

    [ ص: 316 ]
    بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا


    بجر " سابق " لتوهم دخول الباء على المعطوف عليه الذي هو خبر ليس ، وقول الآخر : [ الطويل ]


    مشائم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها


    واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا في المصدر المنسبك من ، " أن " ، بجر " ناعب " لتوهم الباء وأجاز سيبويه الوجهين . وصلتهما عند الجمهور خلافا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شيء عند أمن اللبس ، وعقده ابن مالك في " الكافية " بقوله : [ الرجز ]


    وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى


    وإذا حذف حرف الجر مع غير " أن " وأن نقلا على مذهب الجمهور ، وقياسا عند أمن اللبس في قول الأخفش فالنصب متعين ، والناصب عند البصريين الفعل ، وعند الكوفيين نزع الخافض كقوله : [ الوافر ]


    تمرون الديار ولن تعوجوا كلامكم علي إذن حرام


    وبقاؤه مجرورا مع حذف الحرف شاذ ، كقول الفرزدق : [ الطويل ]


    إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع


    أي : أشارت الأصابع بالأكف ، أي : مع الأكف إلى كليب .

    وقوله تعالى : وأن تقوموا لليتامى بالقسط الآية ، القسط : العدل ، ولم يبين هنا هذا القسط الذي أمر به لليتامى ، ولكنه أشار له في مواضع أخر كقوله : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ 6 \ 152 ] ، وقوله : قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح [ 2 \ 220 ] ، وقوله : فأما اليتيم فلا تقهر [ 93 \ 9 ] ، وقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى الآية [ 2 \ 177 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، فكل ذلك فيه القيام بالقسط لليتامى .
    قوله تعالى : وأحضرت الأنفس الشح الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأنفس أحضرت الشح ، أي : جعل شيئا حاضرا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها ; لأنها جبلت عليه .

    [ ص: 217 ] وأشار في موضع آخر أنه لا يفلح أحد إلا إذا وقاه الله شح نفسه وهو قوله تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] ، ومفهوم الشرط أن من لم يوق شح نفسه لم يفلح وهو كذلك ، وقيده بعض العلماء بالشح المؤدي إلى منع الحقوق التي يلزمها الشرع ، أو تقتضيها المروءة ، وإذا بلغ الشح إلى ذلك ، فهو بخل وهو رذيلة ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة ، والميل الطبيعي ; لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا [ 4 \ 3 ] ، أي : تجوروا في الحقوق الشرعية ، والعرب تقول : عال يعول إذا جار ومال ، وهو عائل ، ومنه قول أبي طالب : [ الطويل ]


    بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل


    أي : غير مائل ولا جائر ، ومنه قول الآخر : [ البسيط ]


    قالوا تبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين


    أي : جاروا ، وقول الآخر : [ الوافر ]


    ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي


    أي : جار ومال ، أما قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري : [ الوافر ]


    وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل


    وقول جرير : [ الكامل ]


    الله نزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل


    وقوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 8 ] ، فكل ذلك من العيلة ، وهي الفقر ، ومنه قوله تعالى : وإن خفتم عيلة الآية [ 9 \ 28 ] ، فعال التي بمعنى جار واوية العين ، والتي بمعنى افتقر يائية العين .

    وقال الشافعي رحمه الله : معنى قوله : ألا تعولوا [ 4 \ 3 ] ، أي : يكثر عيالكم [ ص: 318 ] من عال الرجل يعول إذا كثر عياله ، وقول بعضهم : إن هذا لا يصح وإن المسموع أعال الرجل بصيغة الرباعي على وزن أفعل ، فهو معيل إذا كثر عياله فلا وجه له ; لأن الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية ، ولأن عال بمعنى كثر عياله لغة حمير ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]


    وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا


    يعني : وإن كثرت ماشيته وعياله ، وقرأ الآية طلحة بن مصرف ألا تعيلوا وبضم التاء من أعال إذا كثر عياله على اللغة المشهورة .
    قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ذكر في هذه الآية الكريمة أن الزوجين إن افترقا أغنى الله كل واحد منهما من سعته وفضله الواسع ، وربط بين الأمرين بأن جعل أحدهما شرطا والآخر جزاء .

    وقد ذكر أيضا أن النكاح سبب للغنى ، بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [ 24 \ 32 ] .
    قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها ، وأتى بغيرهم بدلا منهم ، وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر ، وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلا منهم ، وهو قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] .

    وذكر في موضع آخر أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن أولئك المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرا منهم ، وهو قوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] .

    وذكر في موضع آخر أن ذلك هين عليه غير صعب ، وهو قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [ 14 \ 19 ، 20 ] ، أي : ليس بممتنع ولا صعب .
    قوله تعالى : أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن جميع العزة له جل وعلا .

    [ ص: 319 ] وبين في موضع آخر أن العزة التي هي له وحده أعز بها رسوله ، والمؤمنين ، وهو قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] ، أي : وذلك بإعزاز الله لهم والعزة الغلبة ، ومنه قوله تعالى : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] ، أي : غلبني في الخصام ، ومن كلام العرب من عز بز يعنون من غلب استلب ، ومنه قول الخنساء : [ المتقارب ]
    كأن لم يكونوا حمى يختشى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا


    قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ، هذا المنزل الذي أحال عليه هنا هو المذكور في سورة " الأنعام " ، في قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [ 6 \ 68 ] ، وقوله هنا : فلا تقعدوا معهم ، لم يبين فيه حكم ما إذا نسوا النهي حتى قعدوا معهم ، ولكنه بينه في " الأنعام " بقوله : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] .
    قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، في معنى هذه الآية أوجه للعلماء :

    منها : أن المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلا ، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله عنهم ويشهد له قوله في أول الآية : فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين الآية [ 4 \ 141 ] ، وهو ظاهر . قال ابن عطية : وبه قال جميع أهل التأويل ، كما نقله عنه القرطبي ، وضعفه ابن العربي زاعما أن آخر الآية غير مردود إلى أولها .

    ومنها : أن المراد بأنه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلا ، يمحو به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم ، كما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان ، أنه قال : " وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، وإن الله قد أعطاني لأمتي ذلك حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا " ، ويدل لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، [ ص: 320 ] وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا [ 24 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    ومنها : أن المعنى أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ 42 \ 30 ] .

    قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا وهو راجع في المعنى إلى الأول ; لأنهم منصورون لو أطاعوا ، والبلية جاءتهم من قبل أنفسهم في الأمرين .

    ومنها : أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا شرعا ، فإن وجد فهو بخلاف الشرع .

    ومنها : أن المراد بالسبيل الحجة ، أي : ولن يجعل لهم عليهم حجة ، ويبينه قوله تعالى : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا [ 25 \ 33 ] ، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة منع دوام ملك الكافر للعبد المسلم ، والعلم عند الله تعالى .

    قوله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ، بين في هذه الآية الكريمة صفة صلاة المنافقين بأنهم يقومون إليها في كسل ورياء ، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا ، ونظيرها في ذمهم على التهاون بالصلاة ، قوله تعالى : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى الآية [ 9 \ 54 ] ، وقوله : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الآية [ 107 \ 4 ] ، ويفهم من مفهوم مخالفة هذه الآيات أن صلاة المؤمنين المخلصين ليست كذلك ، وهذا المفهوم صرح به تعالى في آيات كثيرة بقوله : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 23 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون [ 23 \ 9 ] ، وقوله : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة الآية [ 24 \ 37 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (45)

    سورة النساء (18)

    قوله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في أسفل طبقات النار ، عياذا بالله تعالى .

    [ ص: 321 ] وذكر في موضع آخر أن آل فرعون يوم القيامة يؤمر بإدخالهم أشد العذاب ، وهو قوله : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .

    وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهو قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهو قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

    [ 5 \ 115 ] ، فهذه الآيات تبين أن أشد أهل النار عذابا المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أصحاب المائدة ، كما قاله ابن عمر رضي الله عنهما والدرك بفتح الراء وإسكانها ، لغتان معروفتان وقراءتان سبعيتان .
    قوله تعالى : ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك الآية ، لم يبين هنا سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلها ، ولكنه بينه في سورة " البقرة " بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 54 ] .
    قوله تعالى : وقلنا لهم لا تعدوا في السبت الآية ، لم يبين هنا هل امتثلوا هذا الأمر ، فتركوا العدوان في السبت أو لا ، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا وأنهم اعتدوا في السبت ، كقوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت الآية [ 2 \ 65 ] ، وقوله : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت الآية [ 7 \ 163 ] .
    قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ، لم يبين هنا هذا البهتان العظيم الذي قالوه على الصديقة مريم العذراء ، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أنه رميهم لها بالفاحشة ، وأنها جاءت بولد لغير رشدة في زعمهم الباطل لعنهم الله وذلك في قوله : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون ارتكاب الفاحشة ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، أي : زانية ، فكيف تفجرين ووالداك ليسا كذلك ، وفي القصة أنهم رموها بيوسف النجار وكان من الصالحين ، والبهتان أشد الكذب الذي يتعجب منه .
    قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية ، لم يبين هنا ما هذه الطيبات التي حرمها عليهم بسبب ظلمهم ، ولكنه بينها في سورة " الأنعام " [ ص: 322 ] بقوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [ 6 \ 146 ] .
    قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية ، لم يبين هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل ، ولكنه بينها في سورة " طه " بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 \ 134 ] ، وأشار لها في سورة " القصص " بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .
    قوله تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ، هذا الغلو الذي نهوا عنه هو وقول غير الحق هو قول بعضهم : إن عيسى ابن الله ، وقول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو إله مع الله سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا ، كما بينه قوله تعالى : وقالت النصارى المسيح ابن الله [ 9 \ 30 ] ، وقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [ 5 \ 17 ] ، وقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، وأشار هنا إلى إبطال هذه المفتريات بقوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم الآية [ 4 \ 171 ] ، وقوله : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله الآية [ 4 \ 172 ] ، وقوله : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام [ 5 \ 75 ] ، وقوله : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] .

    وقال بعض العلماء : يدخل في الغلو وغير الحق المنهي عنه في هذه الآية ما قالوا من البهتان على مريم أيضا ، واعتمده القرطبي وعليه فيكون الغلو المنهي عنه شاملا للتفريط والإفراط .

    وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط ، وهو معنى قول مطرف بن عبد الله : الحسنة بين سيئتين وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى ، [ ص: 323 ] ولقد أجاد من قال : [ الطويل ]


    ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

    وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ، وقولوا عبد الله ورسوله " .
    قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، ليست لفظة " من " في هذه الآية للتبعيض ، كما يزعمه النصارى افتراء على الله ، ولكن " من " هنا لابتداء الغاية ، يعني : أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حيا من الله تعالى ; لأنه هو الذي أحياه به ، ويدل على أن من هنا لابتداء الغاية .

    قوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي : كائنا مبدأ ذلك كله منه جل وعلا ويدل لما ذكرنا ما روي عن أبي بن كعب ، أنه قال : " خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ، ثم ردها إلى صلب آدم ، وأمسك عنده روح عيسى عليه الصلاة والسلام " ; فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام ، وهذه الإضافة للتفضيل ; لأن جميع الأرواح من خلقه جل وعلا ، كقوله : وطهر بيتي للطائفين [ 22 \ 26 ] ، وقوله : ناقة الله الآية [ 91 \ 13 ] . وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله ، فيقال : هذا روح من الله ، أي : من خلقه ، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، فاستحق هذا الاسم ، وقيل : سمي روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام المذكورة في سورة " الأنبياء " " والتحريم " ، والعرب تسمي النفخ روحا ; لأنه ريح تخرج من الروح ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]


    فقلت له : ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا


    وعلى هذا القول ، فقوله : وروح معطوف على الضمير العائد إلى الله الذي هو فاعل ألقاها ، قاله القرطبي ، والله تعالى أعلم .

    وقال بعض العلماء : وروح منه ، أي : رحمة منه ، وكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه ، قيل ومنه : وأيدهم بروح منه [ 8 \ 22 ] ، أي : برحمة منه ، حكاه القرطبي أيضا ، وقيل ، روح منه ، أي : برهان منه وكان عيسى برهانا وحجة على [ ص: 324 ] قومه ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وأنزلنا إليكم نورا مبينا المراد بهذا النور المبين القرآن العظيم ; لأنه يزيل ظلمات الجهل والشك كما يزيل النور الحسي ظلمة الليل ، وقد أوضح تعالى ذلك بقوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله : واتبعوا النور الذي أنزل معه [ 7 \ 157 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك الآية ، صرح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين يرثان الثلثين ، والمراد بهما الأختان لغير أم ، بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء ، ولم يبين هنا ميراث الثلاث من الأخوات فصاعدا ، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن الأخوات لا يزدن على الثلثين ، ولو بلغ عددهن ما بلغ ، وهو قوله تعالى في البنات : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك [ 4 \ 11 ] ، ومعلوم أن البنات أمس رحما ، وأقوى سببا في الميراث من الأخوات ، فإذا كن لا يزدن على الثلثين ولو كثرن فكذلك الأخوات من باب أولى ، وأكثر علماء الأصول على أن فحوى الخطاب ، أعني : مفهوم الموافقة ، الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق ، من قبيل دلالة اللفظ ، لا من قبيل القياس ، خلافا للشافعي وقوم ، وكذلك المساوئ على التحقيق ، فقوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، يفهم منه من باب أولى حرمة ضربهما ، وقوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية [ 99 \ 7 ] ، يفهم منه من باب أولى أن من عمل مثقال جبل يراه من خير وشر ، وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، يفهم منه من باب أولى قبول شهادة الثلاثة والأربعة مثلا من العدول ، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء ، يفهم منه من باب أولى النهي عن التضحية بالعمياء ، وكذلك في المساوئ ، فتحريم أكل مال اليتيم يفهم منه بالمساواة منع إحراقه وإغراقه ، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الراكد ، يفهم منه كذلك أيضا النهي عن البول في إناء وصبه فيه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أعتق شركا له في عبد " الحديث . يفهم منه كذلك أن الأمة كذلك ، ولا نزاع في هذا عند جماهير العلماء ، وإنما خالف فيه بعض الظاهرية .

    ومعلوم أن خلافهم في مثل هذا ، لا أثر له ، وبذلك تعلم أنه تعالى لما صرح بأن [ ص: 325 ] البنات وإن كثرن ليس لهن غير الثلثين ، علم أن الأخوات كذلك من باب أولى ، والعلم عند الله تعالى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (46)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (1)


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    [ ص: 326 ]

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حِلِّيَّةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ; وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [ 5 \ 3 ] ، إِلَى قَوْلِهِ : وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، فَالْمَذْكُورَا تُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَالْمَوْقُوذَة ِ وَالْمُتَرَدِّي َةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ ; فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ .

    وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْجَنِينِ إِذَا ذُكِّيَتْ أَمُّهُ وَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا مَيِّتًا .

    وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ " كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ .

    وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : إِنَّهُ حَسَنٌ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، يَعْنِي إِنَّ شِئْتُمْ ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى إِيجَابِ الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ ، وَيَدُلُّ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ جَائِزًا ، ثُمَّ حُرِّمَ لِمُوجِبٍ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الْمُوجِبِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِي الْقُرْآنِ لِلْجَوَازِ ، نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، وَقَوْلِهِ : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [ 62 \ 10 ] ، وَقَوْلِهِ : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 222 ] .

    وَلَا يُنْقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [ 9 \ 5 ] ; لِأَنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ تَحْرِيمِهِ الْعَارِضِ بِسَبَبِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا : إِنَّهَا أَشْهُرُ الْإِمْهَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [ 9 \ 2 ] ، أَوْ [ ص: 327 ] قُلْنَا : إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [ 9 \ 36 ] .

    وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ وُجُوبٍ ، فَالصَّيْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَانَ جَائِزًا فَمُنِعَ لِلْإِحْرَامِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ بِقَوْلِهِ : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، فَيَرْجِعُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ الْجَوَازُ ، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِينَ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَمُنِعَ مِنْ أَجْلِهَا ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا فِي قَوْلِهِ : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْآيَةَ ، فَيَرْجِعُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ الْوُجُوبُ .

    وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ .

    قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : وَهَذَا أَمْرٌ بَعْدَ الْحَظْرِ ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَى السَّبْرِ أَنَّهُ يُرَدُّ الْحُكْمُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَدَّهُ ، فَوَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَمُسْتَحَبٌّ ، أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ .

    وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ أُخْرَى ، وَالَّذِي يَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

    وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ عَقَدَهَا فِي ( مَرَاقِي السُّعُودِ ) بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]


    وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَظْلِ وَبَعْدَ سُؤَالٍ قَدْ أَتَى لِلْأَصْلِ


    أَوْ يَقْتَضِي إِبَاحَةً لِلْأَغْلَبِ إِذَا تَعَلَّقَ بِمِثْلِ السَّبَبِ

    إِلَّا فَذَا الْمَذْهَبُ وَالْكَثِيرُ لَهُ إِلَى إِيجَابِهِ مَصِيرُ

    وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَغَيْرُ التَّامِّ الْمَعْرُوفُ بِـ " إِلْحَاقِ الْفَرْدِ بِالْأَغْلَبِ " حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ ، كَمَا عَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي كِتَابِ " الِاسْتِدْلَالِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]


    وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ



    فَإِنْ يَعُمَّ غَيْرَ ذِي الشِّقَاقِ فَهُوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ



    وَهُوَ فِي الْبَعْضِ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبْ يُسَمَّى لُحُوقَ الْفَرْدِ بِالَّذِي غَلَبْ


    فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى مَا اخْتَرْنَا ، [ ص: 328 ] وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الْحُكْمِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ بِرِدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [ 2 \ 217 ] .

    وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ ، فَيُقَيِّدُ إِحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ ، خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ بِإِحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ [ ص: 330 ] مُطْلَقًا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، فِي قَوْلِهِ : وَأَرْجُلَكُمْ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ : وَاحِدَةٌ شَاذَّةٌ ، وَاثْنَتَانِ مُتَوَاتِرَتَان ِ .

    أَمَّا الشَّاذَّةُ : فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ ; وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرَت َانِ : فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ .

    أَمَّا النَّصْبُ : فَهُوَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ ، وَابْنِ عَامِرٍ ، وَالْكِسَائِيِّ ، وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ مِنَ السَّبْعَةِ ، وَيَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ .

    وَأَمَّا الْجَرُّ : فَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ ، وَحَمْزَةَ ، وَأَبِي عَمْرٍو ، وَعَاصِمٍ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ .

    أَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ : فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا ، لِأَنَّ الْأَرْجُلَ فِيهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوُجُوهِ ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ .

    وَإِنَّمَا أُدْخِلَ مَسْحُ الرَّأْسِ بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ مُحَافَظَةً عَلَى التَّرْتِيبِ ، لِأَنَّ الرَّأْسَ يُمْسَحُ بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ ; وَمِنْ هُنَا أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَسْبَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .

    وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ : فَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِجْمَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ عَنِ الْغَسْلِ كَالرَّأْسِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّوَعُّدِ بِالنَّارِ لِمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " .

    اعْلَمْ أَوَّلًا ، أَنَّ الْقِرَاءَتَيْن ِ إِذَا ظَهَرَ تَعَارُضُهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ لَهُمَا حُكْمُ الْآيَتَيْنِ ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ : وَأَرْجُلَكُمْ ، بِالنَّصْبِ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ، فَهِيَ تُفْهِمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ إِنَّمَا هِيَ لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مَنْصُوبَةٌ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ ، وَالْعَرَبُ تَخْفِضُ الْكَلِمَةَ لِمُجَاوَرَتِهَ ا لِلْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّ إِعْرَابَهَا النَّصْبُ ، أَوِ الرَّفْعُ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (47)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (2)


    وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْخَفْضَ بِالْمُجَاوَرَة ِ مَعْدُودٌ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي يُتَحَمَّلُ [ ص: 331 ] لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ خَاصَّةً ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي الْعَطْفِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ .

    وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْأَخْفَشُ ، وَأَبُو الْبَقَاءِ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ .

    وَلَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا الزَّجَّاجُ ، وَإِنْكَارُهُ لَهُ ، مَعَ ثُبُوتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَتَبَّعِ الْمَسْأَلَةَ تَتَبُّعًا كَافِيًا .

    وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْخَفْضَ بِالْمُجَاوَرَة ِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَأَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .

    فَمِنْهُ فِي النَّعْتِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]


    كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عِرَانِينِ وَدْقِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ

    بِخَفْضٍ " مُزَمَّلِ " بِالْمُجَاوَرَة ِ ، مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ " كَبِيرُ " الْمَرْفُوعِ بِأَنَّهُ خَبَرُ " كَأَنَّ " وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]


    تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلَا نَدَبُ


    إِذِ الرِّوَايَةُ بِخَفْضِ " غَيْرِ " ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لِلْمُجَاوَرَةِ ، مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ " سُنَّةَ " الْمَنْصُوبِ بِالْمَفْعُولِي َّةِ .

    وَمِنْهُ فِي الْعَطْفِ ، قَوْلُ النَّابِغَةِ : [ الْبَسِيطُ ]


    لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَسِيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ وَمُوثَقٍ فِي حِبَالِ الْقَدِّ مَجْنُوبِ


    بِخَفْضٍ " مُوثَقٍ " لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " أَسِيرٌ " الْمَرْفُوعِ بِالْفَاعِلِيَّ ةِ .

    وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]


    وَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مَا بَيْنَ مُنْضِجٍ صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ


    بِجَرٍّ " قَدِيرٍ " لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى " صَفِيفَ " الْمَنْصُوبِ بِأَنَّهُ مَفْعُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ " مُنْضِجٍ " ، وَالصَّفِيفُ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَصْفُوفُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى الْجَمْرِ لِيَنْشَوِيَ ، وَالْقَدِيرُ : كَذَلِكَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَهُوَ الْمَجْعُولُ فِي الْقِدْرِ مِنَ اللَّحْمِ لِيَنْضُجَ بِالطَّبْخِ .

    [ ص: 332 ] وَهَذَا الْإِعْرَابُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ ، لِأَنَّ الْإِنْضَاجَ وَاقِعٌ عَلَى كُلٍّ مِنَ الصَّفِيفِ وَالْقَدِيرِ ، فَمَا زَعَمَهُ " الصَّبَّانُ " فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى " الْأَشْمُونِيِّ " مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ " أَوْ قَدِيرٍ " مَعْطُوفٌ عَلَى " مُنْضِجٍ " بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ وَطَابِخِ قَدِيرٍ . . . الْخَ ، ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْمُنْضِجَ شَامِلٌ لِشَاوِي الصَّفِيفِ ، وَطَابِخِ الْقَدِيرِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَطْفِ الطَّابِخِ عَلَى الْمُنْضَجِ لِشُمُولِهِ لَهُ ، وَلَا دَاعِيَ لِتَقْدِيرِ " طَابِخٍ " مَحْذُوفٍ .

    وَمَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ مِنْ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " شِوَاءٍ " ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ " الصَّبَّانُ " ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ بِذَلِكَ : وَصَفِيفٍ قَدِيرٍ ، وَالْقَدِيرُ لَا يَكُونُ صَفِيفًا .

    وَالتَّحْقِيقُ : هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي .

    وَمِنَ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ فِي الْعَطْفِ ، قَوْلُ زُهَيْرٍ : [ الْكَامِلُ ]


    لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا بَعْدِي سَوَافِي الْمَوْرِ وَالْقَطْرِ


    بِجَرِّ " الْقَطْرِ " لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " سَوَافِي " الْمَرْفُوعِ ، بِأَنَّهُ فَاعِلُ غَيَّرَ .

    وَمِنْهُ فِي التَّوْكِيدِ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْبَسِيطُ ]


    يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كُلَّهُمُ أَنْ لَيْسَ وَصْلٌ إِذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ


    بِجَرِّ " كُلِّهِمْ " عَلَى مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ ، لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّهُ تَوْكِيدُ " ذَوِيِ " الْمَنْصُوبِ بِالْمَفْعُولِي َّةِ .

    وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي الْعَطْفِ - كَالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [ 56 \ 22 ] ، عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ ، وَالْكِسَائِيِّ .

    وَرِوَايَةُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ بِالْجَرِّ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ، إِلَى قَوْلِهِ : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [ 56 \ 21 ] ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَحُورٌ عِينٌ ، حُكْمُهُ الرَّفْعُ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَاعِلِ " يَطُوفُ " الَّذِي هُوَ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [ 56 \ 17 ] .

    وَقِيلَ : هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ .

    أَيْ : وَفِيهَا حُورٌ عِينٌ ، أَوْ لَهُمْ حُورٌ عِينٌ .

    [ ص: 333 ] وَإِذَنْ فَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى .

    وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى قَوْلَ الشَّمَّاخِ ، أَوْ ذِي الرُّمَّةِ : [ الْكَامِلُ ]


    بَادَتْ وَغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ الْبِلَا إِلَّا رَوَاكِدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاءُ
    وَمُشَجَّجٌ أَمَّا سَوَاءُ قِذَالِهِ فَبَدَا وَغَيَّبَ سَارَهُ الْمَعْزَاءُ


    لِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِنَصْبِ " رَوَاكِدَ " عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ، وَرَفْعِ مُشَجَّجٍ عَطْفًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا رَوَاكِدُ وَمُشَجَّجٌ ، وَمُرَادُهُ بِالرَّوَاكِدِ أَثَافِي الْقِدْرِ ، وَبِالْمُشَجَّج ِ وَتَدُ الْخِبَاءِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ وَجْهَ الْخَفْضِ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ ، وَالْكِسَائِيِّ هُوَ الْمُجَاوَرَةُ لِلْمَخْفُوضِ ، كَمَا ذَكَرْنَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ : إِنَّ الْعَطْفَ عَلَى أَكْوَابٍ ، أَيْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ ، وَبِحُورٍ عِينٍ ، وَلِمَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وَفِي حُورٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ ، أَيْ فِي مُعَاشَرَةِ حُورٍ .

    وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَدُّ ، بِأَنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ مَعَ الشَّرَابِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [ 55 \ 72 ] .

    وَالثَّانِي فِيهِ أَنَّ كَوْنَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وَفِي حُورٍ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ، وَتَقْدِيرُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَا وَجْهَ لَهُ .

    وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِجَوَابَيْنِ ، الْأَوَّلُ : أَنَّ الْعَطْفَ فِيهِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ الْمَعْنَى : يَتَنَعَّمُونَ بِأَكْوَابٍ وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَحُورٍ . قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ .

    الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْحُورَ قِسْمَانِ :

    1 - حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ .

    2 - وَحُورٌ يُطَافُ بِهِنَّ عَلَيْهِمْ

    قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ صِفَاتِ الْحُورِ الْعِينِ كَوْنُهُنَّ يُطَافُ بِهِنَّ كَالشَّرَابِ ، فَأَظْهَرُهَا الْخَفْضُ بِالْمُجَاوَرَة ِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .

    وَكَلَامُ الْفَرَّاءِ ، وَقُطْرُبٍ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَمَا رُدَّ بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ عَلَى أَكْوَابٍ مِنْ كَوْنِ الْحُورِ لَا يُطَافُ بِهِنَّ يُرَدُّ بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ عَلَى وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ، فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُورَ يَطُفْنَ عَلَيْهِمْ كَالْوِلْدَانِ ، وَالْقَصْرُ فِي الْخِيَامِ يُنَافِي ذَلِكَ .

    وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ خَفْضَ وَأَرْجُلِكُمْ ; لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ [ ص: 334 ] الْكُبْرَى " ، فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ : بَابُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " وَأَرْجُلَكُمْ " نَصْبًا ، وَأَنَّ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَسْلِ ، وَأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا خَفْضًا ، فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُجَاوَرَةِ ، ثُمَّ سَاقَ أَسَانِيدَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْأَعْرَجِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ ، وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئِ ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُمْ قَرَءُوهَا كُلُّهُمْ : وَأَرْجُلَكُمْ ، بِالنَّصْبِ .

    قَالَ : وَبَلَغَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا نَصْبًا ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ ، وَعَنْ عَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْشَى ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ ، كُلُّ هَؤُلَاءِ نَصَبُوهَا .

    وَمَنْ خَفَضَهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُجَاوَرَةِ ، قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانُوا يَقْرَءُونَهَا بِالْخَفْضِ ، وَكَانُوا يَغْسِلُونَ ، اهـ كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ .

    وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ فِي الْقُرْآنِ فِي النَّعْتِ قَوْلُهُ تَعَالَى : عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [ 11 \ 84 ] ، بِخَفْضِ مُحِيطٍ مَعَ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَذَابِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [ 11 \ 26 ] ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَنَّ النَّعْتَ لِلْعَذَابِ ، وَقَدْ خُفِضَ لِلْمُجَاوَرَةِ ، كَثْرَةُ وُرُودِ الْأَلَمِ فِي الْقُرْآنِ نَعْتًا لِلْعَذَابِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ 85 \ 22 ] ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِخَفْضِ مَحْفُوظٍ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : " هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ " بِخَفْضِ خَرِبٍ لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ لَحْنًا لَا يُتَحَمَّلُ إِلَّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ بَاطِلَةٌ ، وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَّرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ ، هُوَ أَنَّ اللَّبْسَ هُنَا يُزِيلُهُ التَّحْدِيدُ بِالْكَعْبَيْنِ ، إِذْ لَمْ يَرِدْ تَحْدِيدُ الْمَمْسُوحِ ، وَتُزِيلُهُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ قِيلَ قِرَاءَةُ الْجَرِّ الدَّالَّةُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ بِأَنْ تَجْعَلَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ ; لِأَنَّ الرُّءُوسَ مَجْرُورَةٌ بِالْبَاءِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ : [ الرَّجَزُ ]


    وَجَرُّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ رَاعَى فِي الِاتْبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ


    وَابْنُ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ أَوْرَدَ هَذَا فِي " إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ " فَحُكْمُهُ عَامٌّ ، أَيْ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْوَصْفُ ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]


    وَاجُرُرْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ كَمُبْتَغِي جَاهٍ وَمَالًا مَنْ نَهَضْ


    [ ص: 335 ] فَالْجَوَابُ أَنَّ بَيَانَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ ، كَمَا ذَكَرَ ، تَأْبَاهُ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ النَّاطِقَةُ بِخِلَافِهِ ، وَبِتَوَعُّدِ مُرْتَكِبِهِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ بِخِلَافِ بَيَانِ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةَ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا .

    فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

    قَالَ : تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا ، وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

    وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثِ بْنِ جُزْءٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ ، وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ " ; وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " .

    وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَيْقِيبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، قَالَ : فَمَا بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ شَرِيفٌ وَلَا وَضِيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا .

    وَثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الْوُضُوءِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوئِهِ ، إِمَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ .

    وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ " . ثُمَّ قَالَ : " هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " .

    وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِمَسْحِهِمَا .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (48)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (3)

    وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا . وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْمَسْحَ عَلَى الْغَسْلِ أَيْضًا ، وَتَقُولُ تَمَسَّحْتُ بِمَعْنَى تَوَضَّأْتُ ، وَمَسَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ أَيْ غَسَلَهَا ، [ ص: 336 ] وَمَسَحَ اللَّهُ مَا بِكَ أَيْ غَسَلَ عَنْكَ الذُّنُوبَ وَالْأَذَى ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَسْحِ فِي الْأَرْجُلِ هُوَ الْغَسْلُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ الَّذِي لَيْسَ بِغَسْلٍ ، وَلَيْسَ مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ، وَلَا مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةٌ عَنِ الْأُخْرَى مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ جَوَازُ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ ، وَحَرَّرَ أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَيْنَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَالْجَرِّ بِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ يُرَادُ بِهَا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ ، لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهَا عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ ، وَهُمَا مِنَ الْمَغْسُولَاتِ بِلَا نِزَاعٍ ، وَأَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ يُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ مَعَ الْغَسْلِ ، يَعْنِي الدَّلْكَ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا .

    وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا فِي الرِّجْلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا ; أَنَّ الرِّجْلَيْنِ هُمَا أَقْرَبُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ إِلَى مُلَابَسَةِ الْأَقْذَارِ لِمُبَاشَرَتِهِ مَا الْأَرْضَ فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ لَهُمَا بَيْنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَالْمَسْحِ أَيِ الدَّلْكِ بِالْيَدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ .

    وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ : الْمَسْحُ ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْخُفِّ .

    وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي قِرَاءَةِ الْخَفْضِ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، إِذَا لَبِسَهُمَا طَاهِرًا ، مُتَوَاتِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا مَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَالْقَوْلُ بِنَسْخِهِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ يَبْطُلُ بِحَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقِيلَ لَهُ : تَفْعَلُ هَكَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ ، لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

    وَيُوَضِّحُ عَدَمَ النَّسْخِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ " الْمُرَيْسِيعِ " .

    وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، مَعَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَوَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

    وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ فِي غَزْوَةِ " الْمُرَيْسِيعِ " ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، وَأَشَارَ لَهُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي " نَظْمِ الْمَغَازِي " ، بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ : [ الرَّجَزُ ]


    وَالْإِفْكُ فِي قُفُولِهِمْ وَنُقِلَا أَنَّ التَّيَمُّمَ بِهَا قَدْ أُنْزِلَا


    [ ص: 337 ] وَالتَّيَمُّمُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجُلُودِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِلْدِ إِذَا كَانَ صَفِيقًا سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : لَا يُمْسَحُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْجِلْدِ ; فَاشْتَرَطُوا فِي الْمَسْحِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْسُوحَ خُفًّا مِنْ جُلُودٍ ، أَوْ جَوْرَبًا مُجَلَّدًا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ ، يَعْنُونَ مَا فَوْقَ الْقَدَمِ وَمَا تَحْتَهَا لَا بَاطِنَهُ الَّذِي يَلِي الْقَدَمَ .

    وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ ، وَأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا ، وَقَالُوا : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْسَحْ عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ; فَلَا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَطْرِ قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا ، وَهِيَ : هَلْ يَلْحَقُ بِالرُّخَصِ مَا فِي مَعْنَاهَا ، أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَيْهَا وَلَا تُعَدَّى مَحَلَّهَا ؟ .

    وَمِنْ فُرُوعِهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ " الْعَرَايَا " مِنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ ، هَلْ يَجُوزُ إِلْحَاقًا بِالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَوْ لَا ؟ .

    وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُهُمْ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْجِلْدِ ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّرْخِيصِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْحِ عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ، وَلِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ، وَالْمُوقَيْنِ .

    قَالُوا : وَالْجَوْرَبُ : لِفَافَةُ الرِّجْلِ ، وَهِيَ غَيْرُ جِلْدٍ .

    وَفِي الْقَامُوسِ : الْجَوْرَبُ لِفَافَةُ الرِّجْلِ ، وَفِي اللِّسَانِ : الْجَوْرَبُ لِفَافَةُ الرِّجْلِ ، مُعَرَّبٌ وَهُوَ بِالْفَارِسِيةِ " كَوْرَبُ " .

    وَأَجَابَ مَنِ اشْتَرَطَ الْجِلْدَ بِأَنَّ الْجَوْرَبَ هُوَ الْخُفُّ الْكَبِيرُ ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَمَّا الْجُرْمُوقُ وَالْمُوقُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنَ الْخِفَافِ .

    وَقِيلَ : إِنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَقِيلَ : إِنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ ، وَفِي الْقَامُوسِ : الْجُرْمُوقُ : كَعُصْفُورٍ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، وَفِي الْقَامُوسِ أَيْضًا : الْمُوقُ خُفٌّ غَلِيظٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، وَفِي اللِّسَانِ : الْجُرْمُوقُ ، خُفٌّ صَغِيرٌ ، وَقِيلَ : خُفٌّ صَغِيرٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، فِي اللِّسَانِ أَيْضًا : الْمُوقُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ ، وَالْمُوقُ : الْخُفُّ اهـ .

    قَالُوا : وَالتَّسَاخِينُ : الْخِفَافُ ، فَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ [ ص: 338 ] عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : نَفْسُ الْجِلْدِ لَا أَثَرَ لَهُ ، بَلْ كُلُّ خُفٍّ صَفِيقٍ سَاتِرٍ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ يُمْكِنُ فِيهِ تَتَابُعُ الْمَشْيِ ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ .
    مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

    الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ; وَقَالَ الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ : لَا يَجُوزُ ، وَحَكَى نَحْوَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُدَ ، وَالتَّحْقِيقُ عَنْ مَالِكٍ ، وَجُلِّ أَصْحَابِهِ ، الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ .

    وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا ، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ .

    قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَهُ إِلَّا مَالِكًا فِي رِوَايَةٍ أَنْكَرَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ، وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِهِ ، وَمُوَطَّأُهُ ، يَشْهَدُ لِلْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ، وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ .

    وَقَالَ الْبَاجِيُّ : رِوَايَةُ الْإِنْكَارِ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " وَظَاهِرُهَا الْمَنْعُ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّ الْغَسْلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : آخِرُ مَا فَارَقْتُ مَالِكًا عَلَى الْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ; وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، فَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ " الْمُوَطَّأِ " : وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتُهُ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ ، مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، اهـ .

    وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ " الْمُهَذَّبِ " : وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ " الْإِجْمَاعِ " ، إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَة ُ فِي مَسْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَتَرْخِيصُهُ فِيهِ ، وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ . قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ : رُوِّينَا جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، [ ص: 339 ] وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ ، وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

    قُلْتُ : وَرَوَاهُ خَلَائِقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، غَيْرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَأَحَادِيثُهُم ْ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا .

    قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ ، وَسَلْمَانَ ، وَبُرَيْدَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ ، وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَأُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي بَكْرَةَ ، وَبِلَالٍ ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ .

    قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَرُوِّينَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ .

    قَالَ : وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، قَالَ : لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اخْتِلَافٌ . اهـ .

    وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَهِيَ آخِرُ مُغَازِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِجَرِيرٍ : إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ، قَالَ : مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ .

    وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَسْخِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي مَشْرُوعِيَّتِه ِ ، فَالْخِلَافُ فِيهِ لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ .
    الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَسْلِ الرِّجْلِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : غَسْلُ الرِّجْلِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمَسْحَ رَغْبَةً عَنِ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِمْ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ .

    وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ هُوَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعْظَمِ [ ص: 340 ] الْأَوْقَاتِ ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَشَقَّةً .

    وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ .

    وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : " بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي " .

    وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ ؟ قَالَ : " بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ ; بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ " .

    وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ " الْحَدِيثَ .

    قَالُوا : وَالْأَمْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ ، قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَأَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ ، وَعَزَاهُ لِشَيْخِهِ تَقِيِّ الدِّينِ ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَدَمَاهُ ، بَلْ إِنْ كَانَتَا فِي الْخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِمَا ، وَلَمْ يَنْزِعْهُمَا ، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ غَسَلَ الْقَدَمَيْنِ ، وَلَمْ يَلْبَسِ الْخُفَّ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، اهـ .

    وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُفِّ : أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ فِيهِ فِي مَوَاضِعِ النُّزُولِ ، وَعِنْدَ الْحَطِّ وَالتَّرْحَالِ ، وَفِي الْحَوَائِجِ الَّتِي يَتَرَدَّدُ فِيهَا فِي الْمَنْزِلِ ، وَفِي الْمُقِيمِ نَحْوُ ذَلِكَ ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ لَابِسِي الْخِفَافِ .
    الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِذَا كَانَ الْخُفُّ مُخَرَّقًا ، فَفِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ مِنْ تَخْرِيقِهِ قَدْرُ ثُلُثِ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ آخِرُ حَدِّ الْيَسِيرِ ، وَأَوَّلُ حَدِّ الْكَثِيرِ .

    وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (49)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (4)

    [ ص: 341 ] وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنْكَشِفَ مِنَ الرِّجْلِ حُكْمُهُ الْغَسْلُ ، وَالْمَسْتُورُ حُكْمُهُ الْمَسْحُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ لَا يَجُوزُ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْسِلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَيَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ فِي الْأُخْرَى ، لَا يَجُوزُ لَهُ غَسْلُ بَعْضِ الْقَدَمِ مَعَ مَسْحِ الْخُفِّ فِي الْبَاقِي مِنْهَا .

    وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْخَرْقَ الْكَبِيرَ يَمْنَعُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ دُونَ الصَّغِيرِ . وَحَدَّدُوا الْخَرْقَ الْكَبِيرَ بِمِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ .

    قِيلَ : مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ الْأَصَاغِرِ ، وَقِيلَ : مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ .

    وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى جَمِيعِ الْخِفَافِ ، وَإِنْ تَخَرَّقَتْ تَخْرُّقًا كَثِيرًا مَا دَامَتْ يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ فِيهَا ; وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .

    وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : امْسَحْ عَلَيْهِمَا مَا تَعَلَّقَا بِالْقَدَمِ ، وَإِنْ تَخَرَّقَا ، قَالَ : وَكَانَتْ كَذَلِكَ خِفَافُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مُخَرَّقَةً مُشَقَّقَةً ، اهـ .

    وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَوْلُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الثَّوْرِيِّ ، وَمَنْ وَافَقَهُ هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ .

    وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَبُقُولِ الثَّوْرِيِّ أَقُولُ ، لِظَاهِرِ إِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَوْلًا عَامًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْخِفَافِ . اهـ ، نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ قَوِيٌّ .

    وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ رِجْلِهِ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، وَعَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ رِجْلِهِ . هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

    وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي ، الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ خَرْقُهُ حَتَّى يَمْنَعَ تَتَابُعَ الْمَشْيِ فِيهِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى خِفَافِ الْمُسَافِرِينَ ، وَالْغُزَاةِ عَدَمُ السَّلَامَةِ مِنَ التَّخْرِيقِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
    الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَسْحِ عَلَى [ ص: 342 ] النَّعْلَيْنِ بِأَحَادِيثَ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَرْوَانَ ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ " ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبَيْهَقِيُّ .

    ثُمَّ قَالَ : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ ضَعَّفَ هَذَا الْخَبَرَ ، وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ ، وَهُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ : لَا يَحْتَمِلَانِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمَ ا الْأَجِلَّةَ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْخَبَرَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالُوا : مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَقَالَ : لَا نَتْرُكُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ أَبِي قَيْسٍ وَهُزَيْلٍ ، فَذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْ مُسْلِمٍ لِأَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيِّ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : عَلِيُّ بْنُ شَيْبَانَ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا قُدَامَةَ السَّرَخْسِيَّ يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ : قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : لَوْ حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ مَا قَبِلْتُهُ مِنْكَ ، فَقَالَ سُفْيَانُ : الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ أَوْ وَاهٍ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، اهـ .

    وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثْتُ أَبِي بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ أَبِي : لَيْسَ يُرْوَى هَذَا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ ، قَالَ أَبِي : إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ ، يَقُولُ : هُوَ مُنْكَرٌ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْمَسْحِ رَوَاهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ ، وَرَوَاهُ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ، وَخَالَفَ النَّاسَ .

    وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرْوُونَهُ عَلَى الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَبِي قَيْسٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِنْ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا بِالْمُتَّصِلِ ، وَبَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ مُرَادَ أَبِي دَاوُدَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ وَغَيْرَ قَوِيٍّ ، فَعَدَمُ اتِّصَالِهِ ، إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَالضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي مُوسَى ، وَعَدَمُ قُوَّتِهِ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عِيسَى بْنَ سِنَانٍ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَعِيسَى بْنُ سِنَانٍ ضَعِيفٌ ، اهـ .

    [ ص: 343 ] وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : لَيِّنُ الْحَدِيثِ ، وَاعْتَرَضَ الْمُخَالِفُونَ تَضْعِيفَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، قَالُوا : أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَسَكَتَ عَنْهُ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ ، قَالُوا : وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، قَالُوا : وَأَبُو قَيْسٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ : ثِقَةٌ ثَبْتٌ ، وَهُزَيْلٌ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ ، وَأَخْرَجَ لَهُمَا مَعًا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُمَا لَمْ يُخَالِفَا النَّاسَ مُخَالَفَةَ مُعَارَضَةٍ ، بَلْ رَوَيَا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا رَوَوْهُ بِطْرِيقٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مُعَارَضٍ ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ قَالُوا : وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ سَمَاعِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَبِي مُوسَى ، لِأَنَّ الْمُعَاصَرَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا حَقَّقَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ ; وَلِأَنَّ عَبْدَ الْغَنِيِّ قَالَ فِي " الْكَمَالِ " : سَمِعَ الضَّحَّاكُ مِنْ أَبِي مُوسَى ، قَالُوا : وَعِيسَى بْنُ سِنَانٍ ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي " الْجَنَائِزِ " حَدِيثًا فِي سَنَدِهِ عِيسَى بْنُ سِنَانٍ هَذَا ، وَحَسَّنَهُ .

    وَيَعْتَضِدُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكُ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا ، قَالَ : مَا هُنَّ ؟ فَذَكَرَهُنَّ ، وَقَالَ فِيهِنَّ : رَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السَّبْتِيَّةَ ، قَالَ : أَمَّا النِّعَالُ السَّبْتِيَّةُ ، " فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا " .

    قَالَ الْبَيْهَقِيُّ ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ : وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ ، فَزَادَ فِيهِ : وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا ; وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَلَا يُنَافِي غَسْلَهُمَا ، فَقَدْ يَغْسِلُهُمَا فِي النَّعْلِ ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا .

    وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : بَالَ عَلِيٌّ ، وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ ، قَالَ : " بَالَ عَلِيٌّ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ " .

    وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا نَحْوَهُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ بِسَنَدٍ آخَرَ ، وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ [ ص: 344 ] بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ " .

    ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَوَاهُ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِمَنَاكِيرَ هَذَا أَحَدُهَا ، وَالثِّقَاتُ رَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ .

    وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنِ الثَّوْرِيِّ هَكَذَا ، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، ثَنَا سُفْيَانُ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ " ، اهـ .

    قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ : وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِي ُّ ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، فَحَكَيَا فِي الْحَدِيثِ : " رَشًّا عَلَى الرِّجْلِ وَفِيهَا النَّعْلُ " ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَسَلَهَا فِي النَّعْلِ .

    فَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ ، وَوَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، فَحَكَوْا فِي الْحَدِيثِ غَسْلَهُ رِجْلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ .

    وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْعَدَدِ الْيَسِيرِ ، مَعَ فَضْلِ حِفْظِ مَنْ حَفِظَ فِيهِ الْغَسْلَ بَعْدَ الرَّشِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ ، وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيّ ُ ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، ثَنَا مُسَدَّدٌ ، وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى ، قَالَا : ثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ عَبَّادٌ : قَالَ : أَخْبَرَنِي أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ " .

    وَقَالَ مُسَدَّدٌ : إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ " وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ، أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَهُ .

    وَهَذَا الْإِسْنَادُ غَيْرُ قَوِيٍّ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ، اهـ كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ .

    وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ مِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ [ ص: 345 ] بِهِ ، وَمِنْهَا مَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُ : " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي النَّعْلَيْنِ " .

    ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ فِي النَّعْلَيْنِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِيهِمَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، أَنَّهُ قَالَ : " أَمَّا النِّعَالُ السَّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا " اهـ .

    وَمُرَادُ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ " وَيَتَوَضَّأُ " فِيهَا أَنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِيهَا ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدَّمْنَا رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ " وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا " .

    وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَنْعِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْ نِ : وَالْأَصْلُ وُجُوبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ ، أَوْ إِجْمَاعٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَلَا عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، اهـ .

    وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِينَ بِثُبُوتِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا : إِنَّ التِّرْمِذِيَّ صَحَّحَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ هُزَيْلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، وَحَسَّنَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَوْسٍ ، وَصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَسْحِ عَلَى النِّعَالِ السَّبْتِيَّةِ .

    قَالُوا : وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَالُوا : وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وَنَعْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا .

    وَيَقُولُ : " كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ "
    ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ .

    وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : الْمَنْعُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافُ الْآثَارِ . هَذَا حَاصِلُ مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْ نِ .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (50)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (5)

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْ نِ ، أَنَّ [ ص: 346 ] الْجَوْرَبَيْنِ مُلْصَقَانِ بِالنَّعْلَيْنِ ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ مَعَ إِمْكَانِ تَتَابُعِ الْمَشْيِ فِيهِ ، وَالْجَوْرَبَان ِ صَفِيقَانِ فَلَا إِشْكَالَ .

    وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِانْفِرَادِهِم َا ، فَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَهُ ، وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى سَاتِرٍ لَهَا ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ ، وَلَا بِالْبَدَلِ .

    وَالْمَسْحُ عَلَى نَفْسِ الرِّجْلِ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَنْعِ ذَلِكَ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
    الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .

    فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ .

    وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِي ِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حُسَيْنٍ .

    وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَالْمُغِيرَةُ ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ .

    وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْ جَمِيعِهِمْ .

    وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .

    وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ .

    وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : التَّوْقِيتُ ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .

    وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : التَّوْقِيتُ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .

    وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِتَوْقِيتِ الْمَسْحِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِذَلِكَ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ ، يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ [ ص: 347 ] حِبَّانَ .

    وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا " ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ فِي الْعِلَلِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْجَارُودِ ، وَالْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَغَيْرُهُمَا .

    وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ : " أَمَرَنَا ، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ غَائِطٍ ، وَلَا بَوْلٍ ، وَلَا نَوْمٍ ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ " ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَصَحَّحَاهُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ .

    قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ ، أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَمَدَارُهُ عَلَى عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ ، وَهُوَ صَدُوقٌ ، سَيِّئُ الْحِفْظِ ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا ، قَالَهُ ابْنُ مِنْدَهْ ، اهـ .

    وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ تَوْقِيتِ الْمَسْحِ وَقَالُوا : إِنَّ مَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ طَاهِرٌ ، مَسَحَ عَلَيْهِمَا مَا بَدَا لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ خَلْعُهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ .

    وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ .

    وَيُرْوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

    وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا ، وَلَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَنَحْوِهِ " . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ .

    وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ، يَعْتَضِدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ التَّوْقِيتِ .

    [ ص: 348 ] وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِ التَّوْقِيتِ مَا لَفْظُهُ : وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ، وَفِي لَفْظٍ : " لَوْ مَضَى السَّائِلُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا " ، يَعْنِي لَيَالِيَ التَّوْقِيتِ لِلْمَسْحِ .

    وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ هَذَا الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ صَحَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ادِّعَاءَ النَّوَوِيِّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " الِاتِّفَاقَ عَلَى ضَعْفِهِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ .

    وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ . إِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِلْجَدَلِيِّ سَمَاعٌ مِنْ خُزَيْمَةَ ، مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطِهِ ، وَهُوَ ثُبُوتُ اللُّقِىِّ .

    وَقَدْ أَوْضَحَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ ، أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِىِّ بِثُبُوتِ الْمُعَاصَرَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .

    فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ ، ظَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ ، وَلَمْ يَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ ، وَلَا حُجَّةَ فِي ظَنِّ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ .

    فَالْجَوَابُ : أَنَّ خُزَيْمَةَ هُوَ ذُو الشَّهَادَتَيْن ِ الَّذِي جَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَثَابَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَعَدَالَتُهُ ، وَصِدْقُهُ ، يَمْنَعَانِهِ مِنْ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ إِلَّا وَهُوَ عَارِفٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ، بِأُمُورٍ أُخَرَ اطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ .

    وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَمَ التَّوْقِيتِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَقَالَ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : يَوْمًا ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَيَوْمَيْنِ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَمَا شِئْتَ " .

    وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا .

    فَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي عَدَمِ التَّوْقِيتِ صَحِيحٌ ، وَيَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ ، وَبِالْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى عُمَرَ ، وَابْنِهِ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

    تَنْبِيهٌ

    الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ [ ص: 349 ] الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُنَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِلْمُسَافِرِ ، وَالْمُقِيمِ ، وَالْمُقَيَّدُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ لِلْمُسَافِرِ وَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلْمُقِيمِ ; فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ فِي ذَلِكَ الزَّائِدِ ، فَالْمُطْلَقُ يُصَرِّحُ بِجَوَازِهِ ، وَالْمُقَيَّدُ يُصَرِّحُ بِمَنْعِهِ ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، فَتُرَجَّحُ أَدِلَّةُ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا أَحْوَطُ ، كَمَا رَجَّحَهَا بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَبِأَنَّ رُوَاتَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ ، وَبِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ .

    وَقَدْ تَرْجَّحَ أَدِلَّةُ عَدَمِ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ، وَبِأَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ أَمْرًا ، وَالْمَانِعُ مِنْهَا نَافٍ لَهُ ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنَ النَّافِي .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَالنَّفْسُ إِلَى تَرْجِيحِ التَّوْقِيتِ أَمْيَلُ ; لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ أَحْوَطُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : [ الرَّجَزُ ]


    إِنِ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ


    وَقَالَ الْآخَرُ : [ الرَّجَزُ ]


    وَذُو احْتِيَاطٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ مَنْ فَرَّ مَنْ شَكٍّ إِلَى يَقِينِ


    وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " .

    فَالْعَامِلُ بِأَدِلَّةِ التَّوْقِيتِ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْن ِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ تَقُولُ بِبُطْلَانِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

    وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّوْقِيتِ اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ .

    فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَدَاوُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَغَيْرُهُمْ ، إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ التَّوْقِيتِ مِنْ أَوَّلِ حَدَثٍ يَقَعُ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .

    وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِزِيَادَةٍ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ : مِنَ الْحَدَثِ إِلَى الْحَدَثِ .

    قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَهِيَ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ ثَابِتَةً .

    وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْحَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ وَقْتِهَا مِنْ حِينِ جَوَازِ فِعْلِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ .

    [ ص: 350 ] وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَمْسَحُ بَعْدَ الْحَدَثِ .

    وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ، الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَدَاوُدَ ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

    وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَحَادِيثِ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ ، وَهِيَ أَحَادِيثٌ صِحَاحٌ .

    وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِمْ بِهَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " صَرِيحٌ ، فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا ظَرْفٌ لِلْمَسْحِ .

    وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنَ الْمَسْحِ ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ لِي ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

    وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِ الْخُفِّ ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
    الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ .

    فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِهِ .

    وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنِ الْحَسَنِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .

    وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ أَكْثَرِ أَعْلَى الْخُفِّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي عِنْدَهُ مَسْحُ قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ .

    وَحُجَّةُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ ، حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ .

    قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ " : إِسْنَادُهُ حَسَنٌ .

    وَقَالَ فِي " التَّلْخِيصِ " : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (51)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (6)

    [ ص: 351 ] واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني ، وأن البيهقي قال : لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح ، اهـ ; لأن عبد خير المذكور ، ثقة مخضرم مشهور ، قيل إنه صحابي .

    والصحيح أنه مخضرم وثقه يحيى بن معين ، والعجلي ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة .

    وأما كون الشيخين لم يخرجا له ، فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم .

    وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان !

    وذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه ، وأن مسح أسفله مستحب .

    وذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معا ، فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت ، ولم يعد أبدا ، وإن اقتصر على أسفله أعاد أبدا .

    وعن مالك أيضا أن مسح أعلاه واجب ، ومسح أسفله مندوب .

    واحتج من قال بمسح كل من ظاهر الخف وأسفله ، بما رواه ثور بن يزيد ، عن رجاء بن حيوة ، عن وراد ، كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلى الخف وأسفله " ، أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، وابن الجارود .

    وقال الترمذي : هذا حديث معلول ، لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم ، وسألت أبا زرعة ومحمدا عن هذا الحديث فقالا : ليس بصحيح ، ولا شك أن هذا الحديث ضعيف .

    وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما .
    الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَهُمَا مُحْدِثًا ، أَوْ بَعْدَ تَيَمُّمٍ ، لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا .

    وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ ، كَمَنْ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَأَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَأَدْخَلَهَا أَيْضًا فِي الْخُفِّ ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ .

    [ ص: 352 ] ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ ، فَقَالُوا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّهُ لَبِسَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ .

    وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، كَحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّهُ قَالَ : " دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ " فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعِ الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أَدْخَلْتُ الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ ، وَهُمَا طَاهِرَتَانِ " فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا .

    وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ لَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ : " إِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ " .

    وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُتَقَدِّمِ : " أَمَرَنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَ ا عَلَى طُهْرٍ " الْحَدِيثَ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ .

    وَقَالُوا : وَالطَّهَارَةُ النَّاقِصَةُ كَلَا طَهَارَةٍ .

    وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ لُبْسِ الْخُفِّ فَأَجَازُوا لُبْسَ خُفِّ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَالْمَسْحَ عَلَيْهِ ، إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَمُلَتْ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ .

    قَالُوا : وَالدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَدَاوُدُ . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ قَاعِدَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، " وَهِيَ هَلْ يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ ، أَوْ لَا يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِتَمَامِ الْوُضُوءِ ؟ " ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْحَدَثَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ ، فَلَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ جُزْءٌ ، وَأَنَّهُ قَبْلَ تَمَامِ الْوُضُوءِ مُحْدِثٌ ، وَالْخُفُّ يُشْتَرَطُ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ لُبْسِهِ غَيْرَ مُحْدِثٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، اهـ .
    تَنْبِيهٌ

    جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ ، لِأَنَّهُمَا قُرْبَةٌ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ ص: 353 ] يَقُولُ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ قَائِلًا : إِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تَشْتَرِطُ فِيهَا النِّيَّةُ ، كَطَهَارَةِ الْخَبَثِ .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ : إِلَى الْمَرَافِقِ [ 5 \ 6 ] ، هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُ الْمُرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ ؟ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . أَوْ خَارِجَةٌ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْمُرَافِقِ فِيهِ ؟ .

    وَالْحُقُّ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ ، وَوُجُوبُ غَسْلِ الْمَرَافِقِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ هَلْ يَجِبُ تَعْمِيمُهُ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ : يَجِبُ تَعْمِيمُهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْأَحْوَطُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَسْحِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ التَّعْمِيمُ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ : أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ كَافٍ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : الرُّبُعُ ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ : الثُّلُثُ ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ : الثُّلُثَانِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ " ، وَحَمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ بِنَزْعِهَا ضَرَرٌ ، وَظَاهِرُ الدَّلِيلِ الْإِطْلَاقُ .

    وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ " ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِدْلَال ِ بِهِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالنَّاصِيَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكْتَفَى بِهَا ، بَلْ مَسَحَ مَعَهَا عَلَى الْعِمَامَةِ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ : الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ ، وَالْعِمَامَةِ .

    وَالظَّاهِرُ مِنَ الدَّلِيلِ جَوَازُ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

    وَمَا قَدَّمَنَا مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ بِالتَّيَمُّمِ ، مَعَ أَنَّ فِيهِ بَعْضُ خِلَافٍ كَمَا يَأْتِي ، لِأَنَّهُ لِضَعْفِهِ عِنْدَنَا كَالْعَدَمِ ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ الْآيَةَ ، اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ مِنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُحْتَمِلَةٌ ، لِأَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ ، فَيَتَعَيَّنُ فِي التَّيَمُّمِ التُّرَابُ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ; وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، أَيْ مَبْدَأُ ذَلِكَ الْمَسْحِ كَائِنٌ مِنَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ مَالَهُ غُبَارٌ ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، [ ص: 354 ] وَأَحْمَدُ ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعًا .

    فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشَارَةً إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [ 5 \ 6 ] ، فَقَوْلُهُ : مِنْ حَرَجٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ زِيدَتْ قَبْلَهَا مِنْ ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ ، فَهِيَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ : [ الرَّجَزُ ]


    وَفِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْهَا يُذْكَرْ إِذَا بُنِي أَوْ زِيدَ مِنْ مُنَكَّرْ


    فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ ، وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ كَوْنُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الرِّمَالُ أَوِ الْجِبَالُ ، فَالتَّكْلِيفُ بِخُصُوصِ مَا فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ، لَا يَخْلُو مِنْ حَرَجٍ فِي الْجُمْلَةِ .

    وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي ، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ ، فَلْيُصَلِّ " ، وَفِي لَفْظٍ : " فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ " الْحَدِيثَ .

    فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْجِبَالُ أَوِ الرِّمَالُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ الَّذِي هُوَ الْحِجَارَةُ ، أَوِ الرَّمْلُ طَهُورٌ لَهُ وَمَسْجِدٌ ; وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ مِنْ تَعَيُّنِ كَوْنِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَإِنْ قِيلَ : وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ التُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا ، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ " الْحَدِيثَ ، فَتَخْصِيصُ التُّرَابِ بِالطَّهُورِيَّ ةِ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

    الْأَوَّلُ : أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ مَذْكُورًا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، مِمَّا يَمْنَعُ فِيهِ اعْتِبَارُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَوَانِعَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : [ الرَّجَزُ ]

    [ ص: 355 ]
    أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ


    وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْقَدِيدِ مِنَ الْحُوتِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [ 16 \ 14 ] ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ، فَيَجُوزُ أَكْلُ الْقَدِيدِ مِمَّا فِي الْبَحْرِ .

    الثَّانِي : أَنَّ مَفْهُومَ التُّرْبَةِ مَفْهُومُ لَقَبٍ ، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ .

    الثَّالِثُ : أَنَّ التُّرْبَةَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الصَّعِيدِ ; وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، سَوَاءٌ ذُكِرَا فِي نَصٍّ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [ 2 \ 238 ] ، أَوْ ذُكِرَا فِي نَصَّيْنِ كَحَدِيثِ : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " ، عِنْدَ أَحْمَدَ ، وَمُسْلِمٍ ، وَابْنِ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيّ ِ ، وَغَيْرِهِمْ ، مَعَ حَدِيثِ : " هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا " ، يَعْنِي شَاةً مَيِّتَةً عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَذِكْرُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الْأَوَّلِ ، وَجِلْدِ الشَّاةِ فِي الْأَخِيرِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوَّلِ ، وَمِنَ الْجُلُودِ فِي الثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ : [ الرَّجَزُ ]


    وَذِكْرُ مَا وَافَقَهُ مِنْ مُفْرَدِ وَمَذْهَبُ الرَّاوِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ


    وَلَمْ يُخَالِفْ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ ، إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ إِلَّا التَّخْصِيصُ .

    وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْبَعْضِ نَفْيُ احْتِمَالِ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْعَامِ ، وَالصَّعِيدُ فِي اللُّغَةِ : وَجْهُ الْأَرْضِ ، كَانَ عَلَيْهِ تُرَابٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، قَالَهُ الْخَلِيلُ ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، وَالزَّجَّاجُ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ : لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [ 18 \ 8 ] ، أَيْ أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ، وَقَالَ تَعَالَى : فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [ 18 \ 40 ] ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]


    كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدُ بِهِ دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (52)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (7)

    [ ص: 356 ] وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا ; لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَجَمْعُ الصَّعِيدِ صُعُدَاتٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ : " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الصُّعُدَاتِ " ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ أَجْلِ تَقْيِيدِهِ بِالطَّيِّبِ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : " الطَّيِّبُ " هُوَ الطَّاهِرُ ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهِ ، تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا ، أَوْ حِجَارَةً ، أَوْ مَعْدِنًا ، أَوْ سَبْخَةً ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ طَاهِرًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .

    وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الطَّيِّبُ : الْحَلَالُ ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ : الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ : التُّرَابُ الْمُنْبِتُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ الْآيَةَ [ 7 \ 58 ]

    فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَانِ : طَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَهُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ الطَّاهِرُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ ، وَلَا مَغْصُوبٍ ; وَطَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْخَالِصَانِ ، وَالْيَاقُوتُ وَالزُّمُرُّدُ ، وَالْأَطْعِمَةُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّجَاسَاتُ وَغَيْرُ هَذَا هُوَ الْوَاسِطَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمَعَادِنُ .

    فَبَعْضُهُمْ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَيْهَا كَمَالِكٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَمِنْ ذَلِكَ الْحَشِيشُ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ خُوَيْزٍ مِنْدَادُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَشِيشِ إِذَا كَانَ دُونَ الْأَرْضِ ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَنْعُ ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّيَمُّمُ عَلَى الثَّلْجِ ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " ، وَ " الْمَبْسُوطِ جَوَازُهُ " ، قِيلَ : مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : عِنْدَ عَدَمِ الصَّعِيدِ ، وَفِي غَيْرِهِمَا مَنْعُهُ .

    وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْعُودِ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ ، وَفِي " مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ " أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ فِي الْعُودِ الْمُتَّصِلِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهَا ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَةٍ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجَزَأَهُ ، قَالَ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ : يَجُوزُ بِالْأَرْضِ ، وَكُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ ، وَالْمَدَرِ وَغَيْرِهَا حَتَّى قَالَا : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَدِ وَالثَّلْجِ أَجْزَأَهُ .

    وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجِيزُهُ بِالْكُحْلِ ، وَالزَّرْنِيخِ ، وَالنَّوْرَةِ ، وَالْجَصِّ ، وَالْجَوْهَرِ الْمَسْحُوقِ ، وَيَمْنَعُهُ بِسُحَالَةِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالرَّصَاصِ ، لِأَنَّ [ ص: 357 ] ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ .

    وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ ، وَابْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُمَا أَجَازَاهُ بِالْمِسْكِ ، وَالزَّعْفَرَان ِ ، وَأَبْطَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ ، وَمَنَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ بِالسِّبَاخِ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ ، وَعَنْهُ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّمَ ، وَهُوَ فِي طِينٍ أَنَّهُ يَطْلِي بِهِ بَعْضَ جَسَدِهِ ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .

    وَأَمَّا التُّرَابُ الْمَنْقُولُ فِي طَبَقٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِهِ ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْعُهُ .

    وَمَا طُبِخَ كَالْجَصِّ ، وَالْآجُرِّ فَفِيهِ أَيْضًا خِلَافٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْمَنْعُ أَشْهَرُ .

    وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْجِدَارِ ، فَقِيلَ : جَائِزٌ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ بِجَوَازِهِ لِلْمَرِيضِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا .

    وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْجِدَارِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَعَادِنِ غَيْرَ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ مَا لَمْ تُنْقَلْ ، وَجَوَازُهُ عَلَى الْمِلْحِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ ، وَمَنْعُهُ بِالْأَشْجَارِ ، وَالْعِيدَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى اللُّبَدِ ، وَالْوَسَائِدِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ .

    وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، تَيَمَّمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ ، وَتَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَعَمَّدْتُهُ ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ قَوْلَ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ ، مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]


    يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعِبُ الزَّحَالِيقِ


    وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]


    تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي


    وَقَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ : [ الْمُتَقَارِبُ ]


    تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ


    وَقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ : [ الطَّوِيلُ ]


    سَلِ الرَّبْعَ أَنَّى يَمَّمَتْ أُمُّ طَارِقٍ وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا


    [ ص: 358 ] وَالتَّيَمُّمُ فِي الشَّرْعِ : الْقَصْدُ إِلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِمَسْحِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ مِنْهُ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَكَوْنُ التَّيَمُّمِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَهُوَ الْحَقُّ .
    مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ

    الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّيَمُّمِ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ، وَكَذَلِكَ عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ .

    وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ الْقَوْلَ بِرُجُوعِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ مَنَعَ التَّيَمُّمَ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَتُهُ إِلَّا لِصَاحِبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ; حَيْثُ قَالَ : أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا الْآيَةَ [ 4 \ 43 ] ، وَرَدُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

    الْأَوَّلُ : أَنَا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [ 4 \ 43 ] ، فَسَّرَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَإِذًا فَذِكْرُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْجِمَاعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّمْسِ ، أَوِ الْمُلَامَسَةِ بِحَسَبِ الْقِرَاءَتَيْن ِ ، وَالْمَجِيءُ مِنَ الْغَائِطِ دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِ التَّيَمُّمِ لِحَالَتَيِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ، وَالْأَصْغَرِ .

    الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، صَرَّحَ بِالْجَنَابَةِ غَيْرَ مُعَبِّرٍ عَنْهَا بِالْمُلَامَسَة ِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا التَّيَمُّمَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَنْهَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [ 5 \ 6 ] ، ثُمَّ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا الْآيَةَ [ 5 \ 6 ] .

    فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُحْدِثِ ، وَالْجُنُبِ جَمِيعًا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

    الثَّالِثُ : تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ : " أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " ، [ ص: 359 ] وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ ، وَنَفَخَ فِيهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ، وَكَفَّيْهِ " .

    وَأَخْرَجَا فِي صَحِيحَيْهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ; فَإِذَا هُمْ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ ، فَقَالَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ ؟ قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " .

    وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ .
    الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، هَلْ تَكْفِي لِلتَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ لَا ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ : تَكْفِي ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكَفَّيْنِ وَالْوَجْهِ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَنَقْلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا .

    وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا لِلْوَجْهِ ، وَالْأُخْرَى لِلْكَفَّيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الثَّانِيَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِسُنِّيَّتِهَا كَمَالِكٍ ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَابْنُ سِيرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ شَيْءٌ مَرْفُوعًا ، إِلَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : " أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولًا ، وَمُسْلِمٌ تَعْلِيقًا ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا ضَرْبَتَانِ كَمَا رَأَيْتَ ، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ عَمَّارٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ .
    الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ يَلْزَمُ فِي التَّيَمُّمِ مَسْحُ غَيْرِ الْكَفَّيْنِ ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمُ الْمَسْحَ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَاللَّيْثُ ، كُلُّهُمْ يَرَوْنَ بُلُوغَ التَّيَمُّمِ بِالْمِرْفَقَيْ نِ فَرْضًا وَاجِبًا ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَابْنُ نَافِعٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي .

    [ ص: 360 ] قَالَ ابْنُ نَافِعٍ : مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاةَ أَبَدًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الْمُدَوَّنَةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ ، وَرُوِيَ التَّيَمُّمُ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرْفُوعًا ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَعَمَّارٍ ، وَالْأَسْلَعِ ، وَسَيَأْتِي مَا فِي أَسَانِيدِ رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْمَقَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يَمْسَحُ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْآبَاطِ .

    وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّيَمُّمِ هُوَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فَقَطْ ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتُ الرَّفْعِ إِلَّا حَدِيثَ عَمَّارٍ : وَحَدِيثَ أَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ .

    أَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ ، فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا ، كَمَا رَأَيْتَ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا . وَوَرَدَ فِي غَيْرِهِمَا بِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَنِصْفِ الذِّرَاعِ ، فَفِيهِمَا مَقَالٌ سَيَأْتِي ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنْ كَانَ ذَاكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَكُلُّ تَيَمُّمٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ ، وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْرِفُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيُّ الْمُجْتَهِدُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " .

    وَأَمَّا فِعْلُ ابْنُ عُمَرَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَا يُعَارَضُ بِهِ مَرْفُوعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَمَّارٍ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (53)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (8)

    وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ يَتَوَارَى فِي السِّكَكِ ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حَائِطٍ ، وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ بِهَا ذِرَاعَيْهِ " ، وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ . وَقَالَ أَحْمَدُ ، وَالْبُخَارِيُّ : يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ التَّيَمُّمِ . أَيْ [ ص: 361 ] هَذَا ، زَادَ الْبُخَارِيُّ : خَالَفَهُ أَيُّوبُ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَالنَّاسُ ، فَقَالُوا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَلَهُ .

    وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : لَمْ يُتَابِعْ أَحَدٌ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَوَوْهُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَمُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ هَذَا هُوَ الْعَبْدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ ، قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ ، لَيِّنُ الْحَدِيثِ .

    وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَابْنِ الْهَادِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَابَعَةُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ ، وَلَا عَلَى الذِّرَاعَيْنِ ; لِأَنَّ الضَّحَّاكَ لَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ فِي رِوَايَتِهِ ، وَابْنَ الْهَادِ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ " مَسَحَ وَجْهَهَ وَيَدَيْهِ " ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ : " الْتَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .

    قَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ : وَقَفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ ، وَهُشَيْمٌ وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ الصَّوَابُ ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، مَعَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ ظَبْيَانَ ضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ ، وَابْنُ مَعِينٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ .

    وَهُوَ ابْنُ ظَبْيَانَ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ ، قَاضِي بَغْدَادَ ، قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ " : ضَعِيفٌ .

    وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا عَلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ ، ثُمَّ نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا فَمَسَحْنَا بِهَا وُجُوهَنَا ، ثُمَّ ضَرَبْنَا ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحْنَا مِنَ الْمَرَافِقِ إِلَى الْأَكُفِّ " الْحَدِيثَ ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ .

    قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْقُوفًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَرَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِي ُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانَيِّ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ ، وَنَافِعٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " وَفِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَتَانِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .

    قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ [ ص: 362 ] مُحَمَّدٍ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَزْرَةَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ ، قَالَ : " جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ، وَإِنِّي تَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ ، فَقَالَ : اضْرِبْ ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بِهِمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .

    ضَعَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَرُدَّ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، لَكِنَّ رِوَايَتَهُ الْمَذْكُورَةَ شَاذَّةٌ ; لِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ رَوَاهُ عَنْ عَزْرَةَ مَوْقُوفًا ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا .

    وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ فِي " حَاشِيَةِ السُّنَنِ " ، عَقِبَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَالصَّوَابُ مَوْقُوفٌ ، قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " ، وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ مَقْبُولٌ ، وَقَالَ فِي " التَّلْخِيصِ " أَيْضًا ، وَفِي الْبَابِ عَنِ الْأَسْلَعِ ، قَالَ : " كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ ، فَأَرَانِي التَّيَمُّمَ ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ الْأَرْضَ وَاحِدَةً ، فَمَسَحْتُ بِهَا وَجْهِيَ ثُمَّ ضَرَبْتُ بِهَا الْأَرْضَ فَمَسَحْتُ بِهَا يَدَيَّ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالطَّبَرَانِي ُّ ، وَفِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا .

    وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا : " التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " ، تَفَرَّدَ بِهِ الْحَرِيشُ بْنُ الْخِرِّيتِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، وَالْحَرِيشُ شَيْخٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ .

    وَحَدِيثُ : " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ : تَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْكَفَّيْنِ " ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ ، وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ .

    وَحَدِيثُ عَمَّارٍ : " كُنْتُ فِي الْقَوْمِ حِينَ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فَأَمَرَنَا فَضَرَبْنَا وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ ، ثُمَّ ضَرْبَةً أُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .

    رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا عَنْ عَمَّارٍ أَوْلَى مِنْهُ .

    وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَكْثَرُ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ عَنْ عَمَّارٍ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ فَكُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ ، اهـ ، مِنْهُ ; فَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ [ ص: 363 ] عَمَّارٍ ، وَأَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .

    فَإِذَا عَرَفْتَ نُصُوصَ السُّنَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ الْكَفَّانِ فَقَطْ ، وَلَا يَبْعُدُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّيْنِ ، وَسُنِّيَّةِ الذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّيْنِ .

    وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْوَارِدَةُ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ تَدُلُّ عَلَى السُّنِّيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الطُّرُقَ الضَّعِيفَةَ الْمُعْتَبَرَ بِهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَصْلُحَ مَجْمُوعُهَا لِلِاحْتِجَاجِ : لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ ، فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِالْمَوْقُوفَا تِ الْمَذْكُورَةِ .

    وَالْأَصْلُ إِعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .
    الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ لَا ؟ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَجُلُّ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ .

    وَدَلِيلُ تَقْدِيمِ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ، وَآيَةِ الْمَائِدَةِ ، حَيْثُ قَالَ فِيهِمَا : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ .

    وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " ، يَعْنِي قَوْلَهُ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ [ 2 \ 158 ] ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ " ابْدَءُوا " بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ ، مُسْتَدِلًّا بِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ " التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ " ، مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنَّ تَصْنَعَ هَكَذَا ، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ نَفَضَهَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ " الْحَدِيثَ .

    وَمَعْلُومٌ أَنْ " ثُمَّ " تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، وَأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ مُؤَخَّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ ، وَكَمَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ : [ الْوَافِرُ ]

    [ ص: 364 ]
    هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ


    عَلَى رِوَايَةِ " الْوَاوِ " ، فَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ هَذَا نَصٌّ فِي تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ ، وَلِلْإِسْمَاعِ يلِيِّ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْحَمَّالِ ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَا لَفْظُهُ : " إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْفُضَهُمَا ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلَى شِمَالِكَ ، وَشِمَالِكَ عَلَى يَمِينِكَ ، ثُمَّ تَمْسَحَ عَلَى وَجْهِكَ " قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَجْهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ ، وَسُنِّيَّتِهِ .
    الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَلْ يَرْفَعُ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ أَوْ لَا ؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ صِعَابِ الْمَسَائِلِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ ، فَكَيْفَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ مُحْدِثٌ ؟ وَإِنْ قُلْنَا : صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، فَكَيْفَ نَقُولُ : لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ ؟ .

    اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :

    الْأَوَّلُ : أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ .

    الثَّانِي : أَنَّهُ يَرْفَعُهُ رَفْعًا كُلِّيًّا .

    الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَرْفَعُهُ رَفْعًا مُؤَقَّتًا .

    حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ الْمُتَقَدِّمِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ فَرَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : " مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانٌ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ؟ " قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ . قَالَ : " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " . إِلَى أَنْ قَالَ : وَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ ، قَالَ : " اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ " الْحَدِيثَ . وَلِمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا " ، يَعْنِي الْجُنُبَ الْمَذْكُورَ . وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي أَنَّ تَيَمُّمَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْفَعْ جَنَابَتَهُ .

    وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ مَوْصُولًا ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ [ ص: 365 ] وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، فَقَالَ عَمْرٌو : إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [ 4 \ 29 ] ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرٍو هَذَا : وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ .

    فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَمْرٍو بِلَا وَاسِطَةٍ ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَبُو قَيْسٍ ، لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ ، بَلْ فِيهَا أَنَّهُ غَسَلَ مَغَابِنَهُ فَقَطْ .

    وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ ، وَفِيهِ : " فَتَيَمَّمَ " ، وَرَجَّحَ الْحَاكِمُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَلَى الْأُخْرَى .

    وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ مَا فِي الرِّوَايَتَيْن ِ جَمِيعًا ، فَيَكُونَ قَدْ غَسَلَ مَا أَمْكَنَ ، وَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ، انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ لِابْنِ حَجَرٍ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْن ِ مُتَعَيَّنٌ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، وَعُلُومِ الْحَدِيثِ .

    وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، فَإِنَّهُ أَثْبَتَ بَقَاءَ جَنَابَتِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ .

    وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ ، وَالطَّبَرَانِي ِّ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ .

    وَذَكَرَ فِي " الْفَتْحِ " أَنَّهُ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ " الْحَدِيثَ .

    قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ، عَنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ : وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ ، فَقِيلَ هَكَذَا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (54)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (9)

    وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ خَالِدٍ ، وَقِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْهُ ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، وَقِيلَ عَنْهُ بِإِسْقَاطِ [ ص: 366 ] الْوَاسِطَةِ ، وَقِيلَ فِي الْوَاسِطَةِ مِحْجَنٌ ، أَوِ ابْنُ مِحْجَنٍ ، أَوْ رَجَاءُ بْنُ عَامِرٍ ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، وَكُلُّهَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِي ِّ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كُلُّهُ عَلَى أَيُّوبَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا أَبُو حَاتِمٍ ، وَمَدَارُ طَرِيقِ خَالِدٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ ، وَغَفَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ : إِنَّهُ مَجْهُولٌ ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ " .

    وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي ابْنِ بُجْدَانَ الْمَذْكُورِ : لَا يُعْرَفُ حَالُهُ ، تَفْرَّدَ عَنْهُ أَبُو قِلَابَةَ ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، ثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ : " الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ . وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ " .

    وَقَالَ : لَا نَعْلَمُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا ، أَخْرَجَهُ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ ، وَسَاقَ فِيهِ قِصَّةَ أَبِي ذَرٍّ ، وَقَالَ : لَمْ يَرَوْهُ إِلَّا هِشَامٌ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، وَلَا عَنْ هِشَامٍ إِلَّا الْقَاسِمُ ، تَفَرَّدَ بِهِ مُقَدَّمُ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ فِي الْعِلَلِ : إِنَّ إِرْسَالَهُ أَصَحُّ ، انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ بِلَفْظِهِ ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَصْحِيحَ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتِّرْمِذِيِّ ، وَأَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنِ الْقَطَّانِ ، وَابْنِ حِبَّانَ .

    وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ : " فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ " ; لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَوْ كَانَ التَّيَمُّمُ رَفَعَهَا ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى إِمْسَاسِ الْمَاءِ الْبَشَرَةَ .

    وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ : بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا " ، وَبِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ آنِفًا : " التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ " ، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الْآيَةَ ، وَبِالْإِجْمَاع ِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ بِهِ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَاءِ بِهِ ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ مِنَ التَّنَاقُضِ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ تَعَيُّنُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْتَظِمُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى أَمْكَنَ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]

    [ ص: 367 ] وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَّا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بُيِّنَا

    وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمَذْكُورُ هُوَ : أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا لَا كُلِّيًّا ، وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ بِهِ الْمَجْمَعَ عَلَيْهَا يَلْزَمُهَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ غَيْرُ مُحْدِثٍ ، وَلَا جُنُبٍ لُزُومًا شَرْعِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ .

    وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ أَوِ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ إِمْكَانِهِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ أَيْضًا يَلْزَمُهُ لُزُومًا شَرْعِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَنَّ الْحَدَثَ مُطْلَقًا لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَيَتَعَيَّنُ الِارْتِفَاعُ الْمُؤَقَّتُ . هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ وَقْتَ عَامِلِ الْحَالِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ الْحَالِ ، فَالْحَالُ وَعَامِلُهَا إِذًا مُقْتَرِنَانِ فِي الزَّمَانِ ، فَقَوْلُكَ : جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكًا مَثَلًا ، لَا شَكَّ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَجِيءِ فِيهِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ الضَّحِكِ ، وَعَلَيْهِ فَوَقْتُ صَلَاتِهِ ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ كَوْنِهِ جُنُبًا ; لِأَنَّ الْحَالَ هِيَ كَوْنُهُ جُنُبًا وَعَامِلُهَا قَوْلُهُ " صَلَّيْتَ " ، فَيَلْزَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْجَنَابَةَ مُتَّحِدٌ ، وَلَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَالَ الْمُقَدَّرَةَ لَا تُقَارِنُ عَامِلَهَا فِي الزَّمَانِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [ 39 \ 73 ] ; لِأَنَّ الْخُلُودَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ الدُّخُولِ أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا ; لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ .

    فَالْمُقَارَنَة ُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَامِلِهَا فِي الزَّمَنِ لَا شَكَّ فِيهَا ، وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَابَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ فِي نَفْسِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ ، فَالرَّفْعُ الْمُؤَقَّتُ الْمَذْكُورُ لَا يَسْتَقِيمُ ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

    الْأَوَّلُ : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ عُذْرَهُ بِخَوْفِهِ الْمَوْتَ إِنِ اغْتَسَلَ .

    وَالْمُتَيَمِّم ُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ جَنُبٌ قَطْعًا ، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ عُذْرَهُ الْمُبِيحَ لِلتَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْمَوْتِ أَقَرَّهُ وَضَحِكَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْوَجْهِ .

    الثَّانِي : أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَنَابَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلَوْ كَانَ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِ غَيْرُ جُنُبٍ ، كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ فِي وَقْتٍ هُوَ فِيهِ لَيْسَ بِخَمْرٍ فِي [ ص: 368 ] قَوْلِهِ : إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [ 12 \ 36 ] ، نَظَرًا إِلَى مَآلِهِ فِي ثَانِي حَالٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

    وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّيَمُّمِ ، هَلْ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا ؟ جَوَازُ وَطْءِ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ ، وَصَلَّتْ بِالتَّيَمُّمِ لِلْعُذْرِ الَّذِي يُبِيحُهُ ، فَعَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ .

    وَكَذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ وَلَبِسَ الْخُفَّيْنِ ، فَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ .

    وَكَذَلِكَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ ، لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَة ُ ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ ، وَبَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ .
    الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ فَرِيضَتَانِ أَوْ لَا ؟ .

    ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِهِ فَرِيضَتَانِ ، أَوْ فَرَائِضُ مَا لَمْ يُحْدِثْ ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالزُّهْرِيُّ .

    وَذَهَبَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا إِلَى أَنَّهُ لَا تُصَلَّى بِهِ إِلَّا فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ ; وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَرَبِيعَةَ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَغَيْرِهِمْ .

    وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّيَمُّمِ ، لَيْسَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ ، وَظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ ، وَبِحَدِيثِ : " الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ " الْحَدِيثُ ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ : " وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا " ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [ 5 \ 6 ] .

    وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا مَكْتُوبَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ [ ص: 369 ] لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُحْدِّثِينَ ، وَالْأُصُولِيِّ ينَ ، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ ، وَالْحَسَنُ ضَعِيفٌ جِدًّا قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : مَتْرُوكٌ ، وَقَالَ فِيهِ مُسْلِمٌ ، فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : قَالَ لِي شُعْبَةُ : ائْتِ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ ، فَقُلْ لَهُ : لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ ، فَإِنَّهُ يَكْذِبُ .

    وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَمَّا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُنَنِهِ : الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، اهـ . وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى إِجْمَاعًا سُكُوتِيًا ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَكِنَّ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَسَكَتَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى تَصْحِيحِهِ لَهُ فِي " التَّلْخِيصِ " ، " وَالْفَتْحِ " ، تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ عَامِرًا الْأَحْوَلَ ضَعَّفَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَقِيلَ : لَمْ يَسْمَعْ مِنْ نَافِعٍ ، وَضَعَّفَ هَذَا الْأَثَرَ ابْنُ حَزْمٍ وَنَقَلَ خِلَافَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ : لَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا ، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ .

    وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي قَتَادَةُ ، وَهَذَا فِيهِ إِرْسَالٌ شَدِيدٌ بَيْنَ قَتَادَةَ ، وَعَمْرٍو ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ فِيهِ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " بِالْإِسْنَادِ الَّذِي فِيهِ الْمَذْكُورَانِ .

    أَمَّا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ ، فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ ، كَثِيرُ الْخَطَأِ ، وَالتَّدْلِيسِ ، وَأَمَّا الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ فِي رَأْيِهِ ، وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ ، وَفِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ ، وَقَالَ فِيهِ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا جَابِرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ [ ص: 370 ] الْهَمْدَانِيُّ ، وَكَانَ كَذَّابًا ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيِّ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُفَضَّلٍ عَنْ مُغِيرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ عَلِيٍّ فِي التَّيَمُّمِ ، فِي بَابِ : " التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ " وَسَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْمَذْكُورِينَ ، أَعْنِي حَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ ، وَالْحَارِثَ الْأَعْوَرَ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي حَجَّاجٍ فِي بَابِ " الْمَنْعِ مِنَ التَّطْهِيرِ بِالنَّبِيذِ " : لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَضَعَّفَهُ فِي بَابِ : " الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ " ، وَقَالَ فِي بَابِ : " الدِّيَةِ أَرْبَاعٌ " : مَشْهُورٌ بِالتَّدْلِيسِ ، وَأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَضَعَّفَ الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ فِي بَابِ : " مَنْعِ التَّطْهِيرِ بِالنَّبِيذِ أَيْضًا " .

    وَقَالَ فِي بَابِ : " أَصْلِ الْقَسَامَةِ " ، قَالَ الشَّعْبِيُّ : كَانَ كَذَّابًا .
    الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إِذَا كَانَ فِي بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ، هَلْ يَتَيَمَّمُ لِطَهَارَةِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدَنِهِ . فَيَكُونُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنْ طَهَارَةِ الْخَبَثِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ ، أَوْ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا ؟ .

    ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْخَبَثِ ، وَإِنَّمَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْحَدَثِ فَقَطْ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِنَّمَا دَلَّا عَلَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ : أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ 4 \ 43 ] .

    وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، وَحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا : التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْجَنَابَةِ ، وَأَمَّا عَنِ النَّجَاسَةِ فَلَا ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلْحَاقًا لَهَا بِالْحَدَثِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي وُجُوبِ إِعَادَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ .

    وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ بِتُرَابٍ ، وَيُصَلِّي ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [ الْآيَةَ [ 5 \ 15 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ لَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .

    فَمِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَبَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ 3 \ 23 ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (55)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (10)


    [ ص: 371 ] يَعْنِي يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْرَاةِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذَلِكَ مُنْكِرُونَ لَهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ ، مَا أَخْفَوْهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِمْ ، وَإِنْكَارِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 2 \ 89 ] .

    وَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَارُهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [ 4 \ 60 ] ، وَقَوْلِهِ : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [ 6 \ 146 ] .

    فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا ، وَقَالُوا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ، فَكَذَّبَهُمُ الْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ 3 \ 93 ] .

    وَمِنْ ذَلِكَ كَتْمُ النَّصَارَى بِشَارَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ كُتُبِهِمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ .

    قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ ، وَهُمَا هَابِيلُ ، وَقَابِيلُ .

    وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ الْحَسَنِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [ 15 \ 31 ] ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَجْهَلُ الدَّفْنَ حَتَّى يَدُلَّهُ عَلَيْهِ الْغُرَابُ ، فَقِصَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْغُرَابِ فِي الدَّفْنِ ، وَمَعْرِفَتِهِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَةَ وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ أَنْ [ ص: 372 ] يَتَمَرَّنَ النَّاسُ عَلَى دَفْنِ الْمَوْتَى ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [ الْآيَةَ ] ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفَّسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا لِحُكْمِ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِنَفْسٍ ، أَوْ بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ جَائِزٌ ، فِي قَوْلِهِ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] ، وَفِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ [ 2 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [ 17 \ 33 ] .

    وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِيهَا أَنَّ الذَّكَرَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِجْمَاعًا ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَذَلِكَ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا ، وَأَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ كَذَلِكَ بِالْعَبْدِ إِجْمَاعًا ، وَإِنَّمَا لَمْ نَعْتَبِرْ قَوْلَ عَطَاءٍ بِاشْتِرَاطِ تَسَاوِي قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ ، لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرُدُّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ ، لِأَنَّهَا إِذَا قُتِلَتْ بِالْمَرْأَةِ ، فَقَتْلُهَا بِالرَّجُلِ أَوْلَى ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا .

    وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلِيٌّ ، وَالْحَسَنُ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا حَتَّى يَلْتَزِمَ أَوْلِيَاؤُهَا قَدْرَ مَا تَزِيدُ بِهِ دِيَتُهُ عَلَى دِيَتِهَا ; فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ أَخَذُوا دِيَتَهَا .

    وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ : أَنَّهَا إِنْ قَتَلَتْ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ ، وَأَخَذَ أَوْلِيَاؤُهُ أَيْضًا زِيَادَةَ دِيَتِهِ عَلَى دِيَتِهَا ، أَوْ أَخَذُوا دِيَةَ الْمَقْتُولِ وَاسْتَحْيَوْهَ ا .

    قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ أَيْضًا : رَوَى هَذَا الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا .

    وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ ، عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُمَا قَالَا : إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا [ ص: 373 ] فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ ، وَهَذَا يُعَارِضُ رِوَايَةَ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ ; وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ : " سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ " وَالْإِقْرَارُ فِي الْحُدُودِ ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ : وَلَا يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَكِنْ هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ ، أَنَّ أَوْلِيَاءَ الرَّجُلِ إِذَا قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَهَذَا قَوْلٌ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ ، وَأَنَّهُ إِمَّا الْقِصَاصُ فَقَطْ ، وَإِمَّا الدِّيَةُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ ، فَرَتَّبَ الِاتِّبَاعَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَفْوِ دُونَ الْقِصَاصِ .

    وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ " الْحَدِيثَ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ; وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، وَعَطَاءٍ ، أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ قُتِلَ بِهَا .

    وَالتَّحْقِيقُ قَتْلُهُ بِهَا مُطْلَقًا ; كَمَا سَتَرَى أَدِلَّتَهُ ، فَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ السَّلِيمَ الْأَعْضَاءِ إِذَا قَتَلَ أَعْوَرَ أَوْ أَشَلَّ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَلَا يَجُبْ لِأَوْلِيَائِهِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ بِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ .

    وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ ، مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضَّ رَأْسَ يَهُودِيٍّ بِالْحِجَارَةِ قِصَاصًا بِجَارِيَةٍ فَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَتْلِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ، وَالسِّلَاحِ .

    وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ " قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ " : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، ثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيُّ ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ ، وَالسُّنَنُ ، وَالدِّيَاتُ ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَكَانَ فِيهِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ " .

    [ ص: 374 ] وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَوْصُولًا أَيْضًا النَّسَائِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ مَا نَصُّهُ : وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، وَغَيْرُهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ " ، وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ ، رَوَاهُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالدَّارِمِيُّ ، وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ هَذَا مَشْهُورٌ بَيْنَ مُصَحِّحٍ لَهُ ، وَمُضَعِّفٍ ; وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ : ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا . وَصَحَّحَهُ أَيْضًا - مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةِ ، لَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ - جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

    وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ ، مَعْرُوفٌ مَا فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهِ عَنِ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ لِتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ ، قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى شُهْرَتِهِ مَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : وُجِدَ كِتَابٌ عِنْدَ آلِ حَزْمٍ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مَحْفُوظٌ ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ : لَا أَعْلَمَ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ كِتَابًا أَصَحَّ مِنْ كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ هَذَا ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ ، وَيَدَعُونَ رَأْيَهُمْ .

    وَقَالَ الْحَاكِمُ : قَدْ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِمَامُ عَصْرِهِ الزُّهْرِيُّ بِالصِّحَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ ، ثُمَّ سَاقَ ذَلِكَ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِمَا ، وَضَعَّفَ كِتَابَ ابْنِ حَزْمٍ هَذَا جَمَاعَةٌ ، وَانْتَصَرَ لِتَضْعِيفِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي مُحَلَّاهُ .

    وَالتَّحْقِيقُ : صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَهُ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَحْكَامَ الدِّيَاتِ ، وَالزَّكَوَاتِ ، وَغَيْرِهَا ، وَنُسْخَتُهُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

    وَالْحَدِيثُ : وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ كَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ .

    وَمِنْ أَدِلَّةِ قَتْلِهِ بِهَا عُمُومُ حَدِيثِ : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " الْحَدِيثَ ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ [ ص: 375 ] يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " الْحَدِيثَ ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

    فَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقْتَضِي قَتْلَ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ صَالِحٌ لِتَخْصِيصِ النَّصِّ بِهِ ، نَعَمْ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ سُؤَالَانِ :

    الْأَوَّلُ : مَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْمِ مُوسَى ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ 5 \ 48 ] .

    السُّؤَالُ الثَّانِي : لِمَ لَا يُخَصَّصُ عُمُومُ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْن ِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [ 2 \ 178 ] ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ ، لِأَنَّهَا فَصَّلَتْ مَا أُجْمِلَ فِي الْأُولَى ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُخَاطَبَةٌ بِهَا صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ الْآيَةَ .

    الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ : أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ : أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ لَنَا فِي كِتَابِنَا ، وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا أَنَّهُ يَكُونُ شَرْعًا لَنَا ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَارِدٌ فِي كِتَابِنَا ، أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّهُ مَا قَصَّ عَلَيْنَا فِي شَرْعِنَا إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ ، وَنَعْمَلَ بِمَا تَضْمَّنَ .

    وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَمَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ بِالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِهِمْ ، وَوَبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذَلِكَ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ 37 \ 137 ، 138 ] .

    فِي قَوْلِهِ : أَفَلَا تَعْقِلُونَ تَوْبِيخٌ لِمَنْ مَرَّ بِدِيَارِهِمْ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ ، وَيَعْقِلْ ذَلِكَ لِيَجْتَنِبَ الْوُقُوعَ فِي مِثْلِهِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ هَدَّدَ الْكَفَّارَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَلِلْكَافِرِين َ أَمْثَالُهَا [ 47 \ 10 ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (56)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (11)
    صـ 376 إلى صـ 380

    [ ص: 376 ] وَقَالَ فِي حِجَارَةِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا ، أَوْ دِيَارِهِمُ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا : وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ 11 \ 83 ] ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِحَالِهِمْ ، فَيَجْتَنِبَ ارْتِكَابَ مَا هَلَكُوا بِسَبَبِهِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .

    وَقَالَ تَعَالَى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ 12 \ 111 ] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ قَصَصَهُمْ فِي الْقُرْآنِ لِلْعِبْرَةِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، قَالَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ 6 \ 90 ] ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ لَنَا ; لِأَنَّهُ قُدْوَتُنَا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [ 33 \ 21 ] ، وَيَقُولُ : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الْآيَةَ [ 3 \ 31 ] ، وَيَقُولُ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [ 59 \ 7 ] .

    وَيَقُولُ : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الْآيَةَ [ 4 \ 80 ] ، وَمِنْ طَاعَتِهِ اتِّبَاعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ كُلِّهُ ، إِلَّا مَا قَامَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتِ بِشَرْعِنَا شَرْعًا لَنَا ، إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى النَّسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، فَقَالَ : إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتَ بِشَرْعِنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا ، إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا ، وَخَالَفَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ فِي أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ الْأُمَّةَ ; وَاسْتَدَلَّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، وَلِلثَّانِي : بِأَنَّ الصِّيغَةَ الْخَاصَّةَ بِالرَّسُولِ لَا تَشْمَلُ الْأُمَّةَ وَضْعًا ، فَإِدْخَالُهَا فِيهَا صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، فَيُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وَحَمْلُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، وَالدِّينِ فِي قَوْلِهِ : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ الْآيَةَ [ 42 \ 13 ] عَلَى خُصُوصِ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ دُونَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْعَقَائِدِ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ 21 \ 25 ] ، وَقَالَ : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ 16 \ 36 ] ، وَقَالَ : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ 43 \ 45 ] .

    وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فِي الْأُصُولِ ، وَاخْتِلَافِهِم ْ فِي الْفُرُوعِ ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ " ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ [ ص: 377 ] عَنْهُ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - وَغَفَرَ لَهُ : أَمَّا حَمْلُ الْهُدَى فِي آيَةِ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، وَالدِّينِ فِي آيَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْحِيدِ دُونَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ " ص " ، عَنْ مُجَاهِدٍ : " أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ : مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السَّجْدَةَ فِي " ص " ، فَقَالَ : أَوَ مَا تَقْرَأُ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ 6 \ 84 و 90 ] ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

    فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فِي الْهُدَى فِي قَوْلِهِ : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فَرْعٌ مِنَ الْفُرُوعِ لَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ .

    وَأَمَّا الثَّانِي : فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّ اسْمَ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ الْإِسْلَامَ ، وَالْإِيمَانَ ، وَالْإِحْسَانَ ، حَيْثُ قَالَ : " هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [ 3 \ 19 ] ، وَقَالَ : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا [ 3 \ 85 ] .

    وَصَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْمَلُ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالْحَجِّ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " بُنِي الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ " الْحَدِيثَ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ خُصُوصُ الْعَقَائِدِ ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا الْآيَةَ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

    وَأَمَّا الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَحْوِ قَوْلِهِ : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى شُمُولِ حُكْمِهِ لِلْأُمَّةِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ ، إِلَى غَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَيْثُ يُعَبِّرُ فِيهِ دَائِمًا بِالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ عُمُومُ حُكْمِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الطَّلَاقِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ [ 65 \ 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْكُلِّ حُكْمًا تَحْتَ قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ ، وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [ 66 \ 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [ 66 \ 2 ] ; [ ص: 378 ] فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ حُكْمِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [ 33 \ 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ 4 \ 94 ] ، فَقَوْلُهُ : بِمَا تَعْمَلُونَ ، يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، وَكَقَوْلِهِ : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ [ 10 \ 61 ] ، ثُمَّ قَالَ : وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا الْآيَةَ .

    وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ آيَةُ الرُّومِ ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ ، أَمَّا آيَةُ الرُّومِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [ 30 \ 30 ] ، ثُمَّ قَالَ : مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [ 30 \ 31 ] ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرِ ، الْمُخَاطَبِ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ : فَأَقِمْ وَجْهَكَ ، الْآيَةَ .

    وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُنِيبِينَ ، فَلَوْ لَمْ تُدْخِلِ الْأُمَّةُ حُكْمًا فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالَ : مُنِيبًا إِلَيْهِ ، بِالْإِفْرَادِ ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ الْحَقِيقِيَّةَ ، أَعْنِي الَّتِي لَمْ تَكُنْ سَبَبِيَّةً ، تَلْزَمُ مُطَابَقَتُهَا لِصَاحِبِهَا ، إِفْرَادًا ، وَجَمْعًا ، وَتَثْنِيَةً ، وَتَأْنِيثًا ، وَتَذْكِيرًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ : جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكِينَ ، وَلَا جَاءَتْ هِنْدٌ ضَاحِكَاتٍ ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَحْزَابِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسْدِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ 33 \ 37 ] ، فَإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
    وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِشُمُولِ حِكْمَتِهِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ الْآيَةَ ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا أَيْضًا فِي الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ : خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ 33 \ 50 ] ; لِأَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ ، لَوْ كَانَ حُكْمُهُ خَاصًّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ : خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

    وَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَخْيِيرَ الزَّوْجَةِ طَلَاقٌ ، بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ، فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا ; مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْآيَتَيْنِ [ 33 \ 28 ] .

    وَأَخْذَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنُونَةَ الزَّوْجَةِ بِالرِّدَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ 39 \ 65 ] ، وَهُوَ خِطَابٌ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

    [ ص: 379 ] وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ " شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا " ، أَنَّ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَيْنِ ، طَرَفٌ يَكُونُ فِيهِ شَرْعًا لَنَا إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، ثُمَّ بُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا ، كَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، وَبُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَطَرَفٌ يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شَرْعٍ لَنَا إِجْمَاعًا وَهُوَ أَمْرَانِ :

    أَحَدُهُمَا : مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَرْعِنَا أَصْلًا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، كَالْمُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِ يَّاتِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ ، وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا ، وَمَا نَهَانَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَصْدِيقِهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا لَنَا إِجْمَاعًا .

    وَالثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، وَبُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَنَا ، كَالْآصَارِ ، وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا عَنَّا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [ 7 \ 157 ] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [ 2 \ 286 ] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ : نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ " .

    وَمِنْ تِلْكَ الْآصَارِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَقَعَ لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ ، حَيْثُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ إِلَّا بِتَقْدِيمِ أَنْفُسِهِمْ لِلْقَتْلِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ 2 \ 54 ] .

    وَالْوَاسِطَةُ هِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَهِيَ مَا ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، وَلَمْ يُبَيَّنْ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا ، وَلَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَنَا ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ كَوْنُهُ شَرْعًا لَنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ رَأَيْتَ أَدِلَّتَهُمْ عَلَيْهِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، يَلْزَمُنَا الْأَخْذُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ .

    مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ 17 \ 33 ] ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ ، التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ مَشْرُوعٌ لَنَا ، [ ص: 380 ] حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " ، الْحَدِيثَ .

    وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، حَيْثُ قَالَ : بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، إِلَى قَوْلِهِ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابَقَتُهَا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مُسْتَمِرٌّ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ; وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ " ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ " بِكِتَابِ اللَّهِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَأْخُذُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، كَمَا أَوْضَحْنَا دَلِيلَهُ .

    فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : إِنَّ الْقَرِينَةَ الْجَازِمَةَ رُبَّمَا قَامَتْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ شَاهِدِ يُوسُفَ شَقَّ قَمِيصِهِ مِنْ دُبُرٍ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِ ، وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ الْآيَةَ [ 12 \ 26 ، 27 ، 28 ] ، فَذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا مُقَرِّرًا لَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَمِنْ هُنَا أَوْجَبَ مَالِكٌ حَدَّ الْخَمْرِ عَلَى مَنِ اسْتَنْكَهَ فَشُمَّ فِي فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ ، لِأَنَّ رِيحَهَا فِي فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى شُرْبِهِ إِيَّاهَا .

    وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ لِلرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا فَتَزُفُّهَا إِلَيْهِ وَلَائِدُ ، لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ أَمْرٌ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى عَيْنِهَا أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ ، وَتَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ .

    وَكَذَلِكَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَيَأْتِيهِ الصَّبِيُّ ، أَوِ الْوَلِيدَةُ بِطَعَامٍ ، فَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى إِذَنْ أَهْلِ الطَّعَامِ لَهُ فِي الْأَكْلِ ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (57)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (12)
    صـ 381 إلى صـ 385


    مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ 17 \ 33 ] ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ ، التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ مَشْرُوعٌ لَنَا ، [ ص: 380 ] حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " ، الْحَدِيثَ .

    وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، حَيْثُ قَالَ : بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، إِلَى قَوْلِهِ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابَقَتُهَا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مُسْتَمِرٌّ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ; وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ " ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ " بِكِتَابِ اللَّهِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَأْخُذُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، كَمَا أَوْضَحْنَا دَلِيلَهُ .

    فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : إِنَّ الْقَرِينَةَ الْجَازِمَةَ رُبَّمَا قَامَتْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ شَاهِدِ يُوسُفَ شَقَّ قَمِيصِهِ مِنْ دُبُرٍ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِ ، وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ الْآيَةَ [ 12 \ 26 ، 27 ، 28 ] ، فَذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا مُقَرِّرًا لَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَمِنْ هُنَا أَوْجَبَ مَالِكٌ حَدَّ الْخَمْرِ عَلَى مَنِ اسْتَنْكَهَ فَشُمَّ فِي فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ ، لِأَنَّ رِيحَهَا فِي فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى شُرْبِهِ إِيَّاهَا .

    وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ لِلرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا فَتَزُفُّهَا إِلَيْهِ وَلَائِدُ ، لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ أَمْرٌ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى عَيْنِهَا أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ ، وَتَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ .

    وَكَذَلِكَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَيَأْتِيهِ الصَّبِيُّ ، أَوِ الْوَلِيدَةُ بِطَعَامٍ ، فَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى إِذَنْ أَهْلِ الطَّعَامِ لَهُ فِي الْأَكْلِ ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ .

    وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إِبْطَالَ الْقَرِينَةِ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا ، مِنْ أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ لَمَّا جَعَلُوا يُوسُفَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ، جَعَلُوا عَلَى قَمِيصِهِ دَمَ سَخْلَةٍ ، لِيَكُونَ الدَّمُ عَلَى قَمِيصِهِ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِمْ فِي أَنَّهُ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ، فَأَبْطَلَهَا يَعْقُوبُ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا ، وَهِيَ عَدَمُ شَقِّ [ ص: 381 ] الْقَمِيصِ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا كَيِّسًا ، يَقْتُلُ يُوسُفَ ، وَلَا يَشُقُّ قَمِيصَهُ ؟ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [ 12 \ 18 ] ، وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْغُرْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ، فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [ 12 \ 72 ] ، وَأَخَذَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ضَمَانَ الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَفَالَةِ ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ : لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [ 12 \ 66 ] .

    وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ تَلُومُ الْقَاضِيَ لِلْخُصُومِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْآجَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ صَالِحٍ : فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [ 11 \ 65 ] .

    وَأَخَذُوا وُجُوبَ الْإِعْذَارِ إِلَى الْخَصْمِ الَّذِي تَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ بِـ " أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ ؟ " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مَعَ الْهُدْهُدِ : لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [ 27 \ 21 ] ، وَأَخَذَ الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى ، وَصِهْرِهِ شُعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ الْآيَةَ [ 28 \ 27 ] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ 5 \ 48 ] ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تُنْسَخُ فِيهَا أَحْكَامٌ كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ ، وَيُجَدَّدُ فِيهَا تَشْرِيعُ أَحْكَامٍ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ .

    وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ لِكُلٍّ شِرْعَةٍ وَمِنْهَاجٍ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ ، وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، مَشْرُوعٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَالْعَكْسِ عَلَى التَّحْقِيقِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِعَدَمِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا يَتَشَبَّثُ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ : وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [ 2 \ 178 ] ، وَسَتَرَى تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِيهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - قَرِيبًا .

    وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي - الَّذِي هُوَ لِمَ لَا يُخَصِّصْ عُمُومَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ؟ هُوَ [ ص: 382 ] مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنًى آخَرَ ، غَيْرِ مُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ ، يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ .

    قَالَ صَاحِبُ " جَمْعِ الْجَوَامِعِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : وَشَرْطُهُ أَلَّا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ تُرِكَ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ ، إِلَى أَنْ قَالَ : أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ، يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَتْلِ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ ، أَوِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ ، وَلَا لِعَكْسِهِ بِالْمَنْطُوقِ .

    وَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ ، أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلَتَا ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا : نَقْتُلُ بِعَبْدِنَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ ، وَبِأُمَّتِنَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ ، تَطَاوُلًا مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَزَعَمَا أَنَّ الْعَبْدَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَرِّ مِنْ أُولَئِكَ ، وَأَنَّ أُنْثَاهُمْ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ مِنَ الْآخَرِينَ ، تَطَاوُلًا عَلَيْهِمْ ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْقُرْطُبِيُّ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، وَقَتَادَةَ .

    وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، لِأَنَّهُمْ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، وَبَنُو النَّضِيرِ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ .

    فَالْجَمِيعُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى قَوْمٍ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ الْعَبْدَ مِنَّا لَا يُسَاوِيهِ الْعَبْدُ مِنْكُمْ ، وَإِنَّمَا يُسَاوِيهِ الْحُرُّ مِنْكُمْ ، وَالْمَرْأَةُ مِنَّا لَا تُسَاوِيهَا الْمَرْأَةُ مِنْكُمْ ، وَإِنَّمَا يُسَاوِيهَا الرَّجُلُ مِنْكُمْ ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ الْمُتَطَاوِلُ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَشْرَفَ مِنْهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ هُنَا .
    وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ .

    وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَزَيْدٌ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي ، وَغَيْرُهُ .

    وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ [ ص: 383 ] دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " الْحَدِيثَ ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .

    فَعُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبِيدُ ، وَكَذَلِكَ عُمُومُ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ " ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيِّ : " وَمِنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ " ، هَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ .

    وَأُجِيبَ عَنْهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِمَا سَتَرَاهُ الْآنَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا دُخُولُ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَدِيثِ : " الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " . وَعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ ، وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِينَ ، فَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي عُمُومَاتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :

    الْأَوَّلُ : وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الْعَبِيدَ دَاخِلُونَ فِي عُمُومَاتِ النُّصُوصِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا .

    الثَّانِي : وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّ ةِ ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِكَثْرَةِ عَدَمِ دُخُولِهِمْ ، كَعَدَمِ دُخُولِهِمْ فِي خِطَابِ الْجِهَادِ ، وَالْحَجِّ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ [ 2 \ 228 ] ، فَالْإِمَاءُ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ .

    الثَّالِثُ : وَذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّصَّ الْعَامَّ ، إِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ ، فَهُمْ دَاخِلُونَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ ، وَأَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " إِلَى أَنَّ دُخُولَهُمْ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]

    وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرْ مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرْ وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي دُخُولِهِمْ فِي عُمُومَاتِ النُّصُوصِ ، وُجُوبُ صَلَاةِ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَمْلُوكَيْن ِ ، فَعَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْعُمُومِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْعُقُوبَةِ بِبَدَنِهِ يَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ ، قَالَهُ صَاحِبُ " نَشْرِ الْبُنُودِ شَرَحِ مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي [ ص: 384 ] شَرْحِ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ آنِفًا ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبِيدِ فِي عُمُومِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَلَا إِشْكَالَ .

    وَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِمْ فِيهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ إِدْخَالِهِمْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يُعْلَمُ مِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ الْآتِيَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ :

    الْأَوَّلُ : أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ تَرَكُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ ، وَأَثْبَتَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَالْبُخَارِيُّ سَمَاعَهُ عَنْهُ .

    قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي كِتَابِ " الْجِنَايَاتِ " مَا نَصُّهُ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ رَغِبُوا عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ .

    وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ ، وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ " النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ " : إِنَّ أَكْثَرَ الْحُفَّاظِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ .

    الثَّانِي : أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ، وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَهُ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ : قَالَ قَتَادَةُ : ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ نَسِيَ هَذَا الْحَدِيثَ ، قَالَ : لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، قَالَ الشَّيْخُ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ لَمْ يَنْسَ الْحَدِيثَ ، لَكِنْ رَغِبَ عَنْهُ لِضَعْفِهِ .

    الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ " مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِعَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَتَأَوَّلُوا الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ كَانَ عَبْدَهُ ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَقَدُّمُ الْمِلْكِ مَانِعًا مِنَ الْقِصَاصِ .

    الرَّابِعُ : أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْجُمْهُورُ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَسَتَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مُفَصَّلَةً ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَالنَّهْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَمْرِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .

    الْخَامِسُ : مَا ادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَلَالَتَهُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ 17 \ 33 ] ، وَوَلِيُّ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ ، مَا نَصُّهُ : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : [ ص: 385 ] وَلَقَدْ بَلَغَتِ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ إِلَى أَنْ قَالُوا : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ . وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهَ قَتَلْنَاهُ " ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ .

    وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ، وَالْوَلِيُّ هَاهُنَا : السَّيِّدُ ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً ; أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ . اهـ .

    وَتَعَقَّبَ الْقُرْطُبِيُّ تَضْعِيفَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ هَذَا عَنْ سَمُرَةَ ، بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ ، وَابْنَ الْمَدِينِيِّ صَحَّحَا سَمَاعَهُ مِنْهُ ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَضْعِيفَ الْأَكْثَرِ لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ; وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ مُخَالَفَةُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ لَهُ .

    السَّادِسُ : أَنَّ الْحَدِيثَ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ ، وَالْمُبَالَغَة ِ فِي الزَّجْرِ .

    السَّابِعُ : مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ .

    قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : وَيُؤَيِّدُ النُّسَخَ فَتْوَى الْحَسَنِ بِخِلَافِهِ .

    الثَّامِنُ : مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَلَكِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ هَذَا الْمَفْهُومِ ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ .

    وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - بِأَدِلَّةٍ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : " أَنْ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا ، فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفَاهُ سَنَةً ، وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً " ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنِ الشَّامِيِّينَ ، قَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ .

    وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ شَامِيٌّ دِمَشْقِيُّ ، قَالَ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَلَكِنَّ دُونَهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الشَّامِيَّ ، قَالَ فِيهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَحْمُودِ ، وَعِنْدَهُ غَرَائِبُ .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (58)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (13)
    صـ 386 إلى صـ 390


    وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ ، فَقَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الصَّابُونِيُّ الْأَنْطَاكِيُّ ، قَاضِي الثُّغُورِ ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ الرَّمْلِيُّ ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ [ ص: 386 ] الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ بِلَفْظِ الْمَتْنِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يَهِمُ ، فَتَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ بِهِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ .

    وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ كَوْنُهُ قَوِيًّا فِي الشَّامِيِّينَ ، دُونَ الْحِجَازِيِّين َ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَالْبُخَارِيِّ ، وَلِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ ، وَغَيْرِهِ ، مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : " أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا ، فَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً ، وَنَفَاهُ سَنَةً ، وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ " . وَلَكِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ مَتْرُوكٌ .

    وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " أَنَّهُ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ اتَّهَمَهَا سَيِّدُهَا ، فَأَقْعَدَهَا فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَرْجُهَا ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " لَا يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكِهِ ، وَلَا وَلَدٌ مِنْ وَالِدِهِ " ، لَأَقَدْنَاهَا مِنْكَ فَبَرَزَهُ ، وَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ ، وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ : اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَأَنْتِ مُوَلَّاةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " .

    قَالَ أَبُو صَالِحٍ ، وَقَالَ اللَّيْثُ : وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْمُولٌ بِهِ ، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ عِيسَى الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ . ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ حَمَّادٍ يَذْكُرُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .

    وَقَالَ فِيهِ الشَّوْكَانِيُّ : هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ " ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ : وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ ، وَإِسْنَادُهُ الْمَذْكُورُ فِيهِ جُوَيْبِرٌ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا .

    وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ : فِيهِ جُوَيْبِرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَتْرُوكِينَ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ ، مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الْجُعْفِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ " تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَابِرٌ الْمَذْكُورُ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ضَعِيفٌ [ ص: 387 ] رَافِضِيٌّ .

    وَقَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ : مَتْرُوكٌ ، وَوَثَّقَهُ قَوْمٌ مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ " النَّهْيِ عَنِ الْإِمَامَةِ جَالِسًا " عَنِ الدَّارَقُطْنِي ِّ : أَنَّهُ مَتْرُوكٌ .

    وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : كَانَ لِزِنْبَاعٍ عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرًا ، أَوِ ابْنَ سَنْدَرٍ ، فَوَجَدَهُ يُقَبِّلُ جَارِيَةً لَهُ ، فَأَخَذَهُ فَجَبَّهُ ، وَجَدَعَ أُذُنَيْهِ وَأَنْفَهُ ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَوْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ " ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُقِدْهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِ بِي ، فَقَالَ : " أُوصِي بِكَ كُلَّ مُسْلِمٍ " .

    قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ : الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرٍو مُخْتَصَرًا ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ تَضْعِيفَ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ .

    وَرُوِيَ عَنْ سَوَّارِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، هَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : سَوَّارُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مُسْتَصْرِخٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : حَادِثَةٌ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " وَيْحَكَ مَا لَكَ ؟ " فَقَالَ : شَرٌّ ، أَبْصَرَ لِسَيِّدِهِ جَارِيَةً ، فَغَارَ ، فَجَبَّ مَذَاكِيرَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " عَلَيَّ بِالرَّجُلِ " ، فَطُلِبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ " ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَنْ نُصْرَتِي ؟ ، قَالَ : " عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ " ، أَوْ قَالَ : " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ ، مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ : مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَلَا يُقْتَلَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْعَبْدِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ .

    وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا لَا يَقْتُلَانِ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ " ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْكَثِيرَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا ، [ ص: 388 ] وَيُقَوِّيهِ حَتَّى يَصْلُحَ الْمَجْمُوعُ لِلِاحْتِجَاجِ .

    قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " مَا نَصُّهُ : وَثَانِيًا بِالْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ ; بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، فَإِنَّهَا قَدْ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَتَعْتَضِدُ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَلَّا يُقْتُلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ بِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَصَّ لَهُ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ ، فَعَدَمُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحَرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِلَّا دَاوُدُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِإِطْبَاقِ الْحُجَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُتِلَ خَطَأً فَفِيهِ الْقِيمَةُ ، لَا الدِّيَةُ .

    وَقَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ بِمَا إِذَا لَمَّ تَزِدْ قِيمَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِأَنَّ شَبَهَ الْعَبْدِ بِالْمَالِ أَقْوَى مَنْ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْمَالِ مِنْ بَيْعٍ ، وَشِرَاءٍ ، وَإِرْثٍ ، وَهَدِيَّةٍ ، وَصَدَقَةٍ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ حُرٌّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوبِهِ فِي قَذْفِ أُمِّ الْوَلَدِ خَاصَّةً .

    وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حَدِّ الْحُرِّ بِقَذْفِهِ الْعَبْدَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مِنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ " ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَلَدِهِ فِي الدُّنْيَا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

    هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ .
    وَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِهِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " وَغَيْرِهِ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ .

    وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ ، وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي ِّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ " ، [ ص: 389 ] وَهُوَ مُرْسَلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ضَعِيفٌ ، فَابْنُ الْبَيْلَمَانِي ِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَوْ وَصَلَ ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَ ، وَتَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " لِهَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : بَابُ " بَيَانِ ضَعْفِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ " ، وَذَكَرَ طُرُقَهُ ، وَبَيَّنَ ضَعْفَهَا كُلَّهَا .

    وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِي ُّ الْحَافِظُ : ابْنُ الْبَيْلَمَانِي ِّ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

    وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ ، مَا نَصُّهُ : وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ مَا رَوَوْهُ مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ " لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي ِّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْفُوعًا ، قَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ : لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .

    وَالصَّوَابُ عَنْ رَبِيعَةَ ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي ِّ مُرْسَلٌ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ الْبَيْلَمَانِي ِّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ضَعْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ مُبَيِّنًا بُطْلَانَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا .

    فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ " كِتَابَةِ الْعِلْمِ " ، وَفِي بَابِ " لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ " ، أَنَّ أَبَا جُحَيْفَةَ سَأَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَّأَ النَّسَمَةَ ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِهِ ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ، قُلْتُ : وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ ؟ ، قَالَ : الْعَقْلُ ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ ، وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ .

    فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ ، قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ ، مُبَيِّنٌ عَدَمَ صِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ بِخِلَافِهِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا : وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ ، وَلَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ هَذَا ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قُلْتُ : فَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ ، وَهُوَ يُخَصِّصُ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ ، وَعُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ 5 \ 45 ] ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي حُكْمِ [ ص: 390 ] الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَالْمُسْلِمِين َ وَالْكُفَّارِ .

    وَأَمَّا حُكْمُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَطْرَافِ ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ ; فَكُلُّ شَخْصَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ ، فَيُقْطَعُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى ، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ ، وَيُقْطَعُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ ، كَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ ، وَالْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ .

    وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاقِصَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْكَامِلِ فِي الْجِرَاحِ ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عَبْدٍ جَرَحَ حُرًّا ، وَلَا مِنْ كَافِرٍ جَرَحَ مُسْلِمًا ، وَهُوَ مُرَادُ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ بِقَوْلِهِ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : وَالْجُرْحُ كَالنَّفْسِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ، إِلَّا نَاقِصًا جَرَحَ كَامِلًا ، يَعْنِي فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لَهُ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَصَّارِ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وِفَاقًا لِلْأَكْثَرِ ، وَمَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ ، لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ ، فَلَا يُقْطَعُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " ، وَغَيْرُهُ .

    وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْبَدَلِ ، فَلَا يُقْطَعُ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ ، وَلَا النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ ، وَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَلَا الْعَبْدُ بِالْحُرِّ .

    وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ ، وَلَا الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الرَّجُلِ بِطَرَفِ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا بِطَرَفِهِ ، كَمَا لَا تُؤْخَذُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى .

    وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ ، بِأَنَّ مَنْ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، يَجْرِي فِي الطَّرَفِ بَيْنَهُمَا ، كَالْحُرَّيْنِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ يَبْطُلُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّ التَّكَافُؤَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ ; بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِمُسْتَأْمَنٍ ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّاقِصَةَ بِالْكَامِلَةِ ; لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ وُجِدَتْ ، وَمَعَهَا زِيَادَةٌ ، فَوَجَبَ أَخْذُهَا بِهَا إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ ، كَمَا تُؤْخَذُ نَاقِصَةُ الْأَصَابِعِ بِكَامِلَةِ الْأَصَابِعِ .

    وَأَمَّا الْيَسَارُ وَالْيَمِينُ ، فَيُجْرَيَانِ مَجْرَى النَّفْسِ لِاخْتِلَافِ مَحَلَّيْهِمَا ، وَلِهَذَا اسْتَوَى بَدَلُهُمَا ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَاقِصَةً عَنْهَا شَرْعًا ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ كَمَا ذَكَرَ الْمُخَالِفُ ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    الحلقة (59)

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ (14)
    صـ 391 إلى صـ 395


    [ ص: 391 ] وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ ، بَيْنَ مَنْ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ 5 \ 45 ] .

    وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ; مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ مَالٌ كَالْبَهَائِمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَبِأَنَّ أَنْفُسَ الْعَبِيدِ مَالٌ أَيْضًا كَالْبَهَائِمِ ، مَعَ تَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِصَاصِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ .

    وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ :

    الْأَوَّلُ : كَوْنُهُ عَمْدًا ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ أَيْضًا .

    الثَّانِي : كَوْنُهُمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ .

    الثَّالِثُ : إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [ 16 \ 126 ] ، وَيَقُولُ : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ 2 \ 194 ] ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ ، فِيهِ الْقِصَاصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَكَالْجِرَاحِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَفْصِلٍ ، كَقَطْعِ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ مِنْ مَفْصِلَيْهِمَا .

    وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْعُضْوِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ ، بَلْ مِنْ نَفْسِ الْعَظْمِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْقِصَاصَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ ، إِلَّا فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ ، كَقَطْعِ الْفَخِذِ ، وَغَيْرِهَا .

    وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ .

    وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : لَا يَجُبِ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ ، إِلَّا فِي السِّنِّ .

    [ ص: 392 ] وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ ، بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانٍ ، عَنْ نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ ، عَنْ أَبِيهِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ ، أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ فَقَطَعَهَا ، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرِيدُ الْقِصَاصَ ، فَقَالَ : " خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا " وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ .

    قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ ، وَدَهْثَمُ بْنُ قُرَّانٍ الْعُكْلِيُّ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ لَيْسَ حَدِيثُهُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ ، وَنِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ أَيْضًا ، وَأَبُوهُ جَارِيَةُ بْنُ ظَفَرٍ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ ، اهـ . مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ .

    وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي دَهْثَمٍ الْمَذْكُورِ : مَتْرُوكٌ ، وَفِي نِمْرَانَ الْمَذْكُورِ : مَجْهُولٌ ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ، إِنَّمَا هُوَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْمَسْأَلَةِ ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْقِصَاصِ ، يَقُولُونَ : إِنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِهِ ، يَقُولُونَ : لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ ، أَوْ نَقْصٍ ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ .

    وَمِنْ هُنَا مَنَعَ الْعُلَمَاءُ الْقِصَاصَ ، فِيمَا يُظَنُّ بِهِ الْمَوْتُ ، كَمَا بَعْدَ الْمُوَضِّحَةِ مِنْ مُنَقِّلَةٍ أَطَارَتْ بَعْضَ عِظَامِ الرَّأْسِ ، أَوْ مَأْمُومَةٍ وَصَلَتْ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ ، أَوْ دَامِغَةٍ خَرَقَتْ خَرِيطَتَهُ ، وَكَالْجَائِفَة ِ ، وَهِيَ الَّتِي نَفَذَتْ إِلَى الْجَوْفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ .

    وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْقِصَاصَ فِي الْمَأْمُومَةِ . وَقَالُوا : مَا سَمِعْنَا بِأَحَدٍ قَالَهُ قَبْلَهُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالْعَوْرَاءِ ، وَالْيَدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
    تَنْبِيهٌ

    إِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي اقْتَصَّ مِنْهُ ، عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَغَيْرِهِمْ .

    وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيِّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ .

    [ ص: 393 ] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، يُسْقَطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، وَيَجِبُ الْبَاقِي فِي مَالِهِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .

    وَالْحُقُّ أَنَّ سِرَايَةَ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْقَوَدُ ، قَتَلَهُ الْحَقُّ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَغَيْرِهِمَا ، بِخِلَافِ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ جِدًّا .

    وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ عَيْنٌ ، وَلَا أُذُنٌ ، وَلَا يَدٌ يُسْرَى بِيُمْنَى ، وَلَا عَكْسُ ذَلِكَ ، لِوُجُوبِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فِي الْقِصَاصِ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، وَشَرِيكٍ أَنَّهُمَا قَالَا : بِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

    وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ حَتَّى تَنْدَمِلَ جِرَاحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، ثُمَّ زَادَ جُرْحُهُ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ .

    وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ، مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ ، فَجَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَقِدْنِي ، فَقَالَ : " حَتَّى تَبْرَأَ " ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : أَقِدْنِي ، فَأَقَادَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرِجْتُ ، فَقَالَ : " قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي ، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ " ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ صَاحِبُهُ ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .

    وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْقِصَاصِ قَبْلَ الْبُرْءِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا ، أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ بَعْدَ الْقِصَاصِ هَدَرٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَتْ هَدَرًا ، بَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ ، فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ حَقَّهُ .
    وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ . فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ : أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [ 5 \ 32 ] ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ 5 \ 33 ] .

    قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : الْمُحَارَبَةُ هِيَ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُضَادَّةُ ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ ، وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ ، يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ [ ص: 394 ] مِنَ الشَّرِّ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [ 2 \ 205 ] .

    فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَارِبَ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ ، وَيُخِيفُ السَّبِيلَ ، ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ جَزَاءَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ هِيَ : أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهَا ، يَفْعَلُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِالْمُحَارِبِ ، كَمَا هُوَ مَدْلُولٌ ، أَوْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ .

    وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ 2 \ 196 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ 5 \ 89 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [ 5 \ 95 ] .

    وَكَوْنُ الْإِمَامِ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَقَالَ : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَرَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهِ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ ، فَالِاسْتِقْلَا لُ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى لُزُومِ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]



    كَذَاكَ مَا قَابَلَ ذَا اعْتِلَالِ مِنَ التَّأَصُّلِ وَالِاسْتِقْلَا لِ
    إِلَى قَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]



    كَذَاكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يَحْتَمِلُ

    وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ ، وَفِيهَا قُيُودٌ مُقَدَّرَةٌ ، وَإِيضَاحُهُ : أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَقَتَّلُوا إِذَا قَتَلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ ، أَوْ يُصَلَّبُوا إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، [ ص: 395 ] أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، إِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ .

    قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ ، وَغَيْرِهِمْ .

    وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، إِذَا قَتَلَ قُتِلَ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ ، فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْآيَةِ ، هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِقُيُودٍ تَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابٍ ، أَوْ سُنَّةٍ ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ لِهَذَا بِذَلِكَ ، لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ ، خَبَرًا مَرْفُوعًا ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَنَسٍ :

    حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ : أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنَيِّينَ ، إِلَى أَنْ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ : فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ ، فَقَالَ : مَنْ سَرَقَ ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ ، فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ ، وَرِجْلَهُ بِإِخَافَتِهِ ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ ، وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ ، فَاصْلُبْهُ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ ، وَلَكِنْ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خَلَّطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ رَاوِيهِ عَنْهُ ابْنَ الْمُبَارَكَ ، وَلَا ابْنَ وَهْبٍ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُمَا عَنْهُ أَعْدَلُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا ، وَابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ يَرَى عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِمَا فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا ، وَذَكَرْنَا مَعَهُ مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنَ الْمَتْنِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِلْجُمْهُورِ .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •