بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (544)
سُورَةُ الصَّفِّ
صـ 107 إلى صـ 114
فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش ، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة ، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في وضع الرماة في غزوة أحد حماية لظهورهم من التفاف العدو بهم [ ص: 107 ] لطبيعة المكان ، وكما فعل في غزوة بدر ورصهم ، وسواهم بقضيب في يده أيضا لطبيعة المكان .
وهكذا ، فلابد في كل وقعة من مراعاة موقعها ، بل وظروف السلاح والمقاتلة .
وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسرة وأجنحة ، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسئولية ، والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه ، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها - صلى الله عليه وسلم - وغير الموقع من مكان المعركة .
وثانيا قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 - 46 ] .
فذكر تعالى من عوامل النصر : الثبات عند اللقاء ، وذكر الله والطاعة ، والامتثال ، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة ، فتكون حملة رجل واحد ، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته ، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ 59 \ 14 ] ، وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص .
وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم : " المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا " .
فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيان المرصوص هنا ، وقد أثر عن أبي موسى - رضي الله عنه - قوله لأصحابه : الزموا الطاعة ؛ فإنها حصن المحارب .
وعن أكثم بن صيفي : أقلوا الخلاف على أمرائكم ، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم ، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك ، ولا سيما ، وقد مر العالم الإسلامي بعدة تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر ، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم ، فضلا عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده ، وبالله تعالى التوفيق .
[ ص: 108 ] قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين .
قول موسى عليه السلام : لم تؤذونني ؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجمال في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] .
وأحال عليه ابن كثير في تفسيره ، وساق حديث البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن موسى - عليه السلام - كان حييا ستيرا لا يرى من جلده شيئا استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ، إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وأن الله - عز وجل - أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ؛ ليأخذها ، وأن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله - عز وجل - وبرأه مما يقولون " . . . . إلى آخر القصة .
ونقله غيره من المفسرين عندها ، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصيا بادعاء العيب فيه خلقة ، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى : فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] ، فإنه لا يصح في آية " الصف " هذه لأن قوله لهم : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم [ 61 \ 5 ] مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي ، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
أي : فلما زاغوا بما آذوا به موسى ، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال ، وقد آذوه كثيرا في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [ 2 \ 55 ] .
وكذلك قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين [ 2 \ 93 ] .
فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور ، ويقال لهم : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ ص: 109 ] فكله يساوي قوله : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ، لأن قد هنا للتحقيق ، ومع ذلك يؤذونه بقولهم : سمعنا وعصينا ، ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم ، ولذا قال لهم : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .
وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم موسى لموسى في قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] .
ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة ، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه ، وفي ما جاء به فبرأه الله مما قالوا في آية " الأحزاب " وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، تقدم كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - على هذا المعنى في سورة " الروم " ، عند الكلام على قوله تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله الآية [ 30 \ 10 ] .
وقال : إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه ، وساق هذه الآية : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] .
وأحال على سورة " بني إسرائيل " على قوله : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] .
وعلى سورة " الأعراف " على قوله : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين [ 7 \ 101 ] .
ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وأمثالها .
ومما يلفت النظر هنا إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .
[ ص: 110 ] وأن الهداية أيضا للقلب كما في قوله تعالى : ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [ 64 \ 11 ] .
ولذا حرص المؤمنون على هذا الدعاء : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] فتضمن المعنيين ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عيسى فذكرها معه ، مما يدل بمفهومه أنه لم يبشر به إلا عيسى - عليه السلام - ولكن لفظ عيسى مفهوم لقب ولا عمل عليه عند الأصوليين ، وقد بشرت به - صلى الله عليه وسلم - جميع الأنبياء ، ومنهم موسى - عليه السلام - ومما يشير إلى أن موسى مبشرا به قول عيسى - عليه السلام - في هذه الآية : مصدقا لما بين يدي ، والذي بين يديه هي التوراة أنزلت على موسى .
وقد جاء صريحا التعريف به - صلى الله عليه وسلم - وبالذين معه في التوراة في قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا إلى قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة [ 48 \ 29 ] .
كما جاء وصفهم في الإنجيل في نفس السياق ، في قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه [ 48 \ 29 ] إلى آخر السورة .
وجاء النص في حق جميع الأنبياء في قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ 3 \ 81 ] .
قال ابن كثير : قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه . ا هـ .
وجاء مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عنه - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل ، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم ، وما قاله أيضا : [ ص: 111 ] والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه ، في حديث طويل ساقه ابن كثير ، وعزاه إلى أحمد رحمه الله .
وكذلك دعوة نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم [ 2 \ 129 ] .
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت " .
وقد خص عيسى بالنص على البشرى به صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل ، فهو ناقل تلك البشرى لقومه عما قبله .
كما قال : مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومن قبله ناقل عمن قبله ، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام ، وأداها إلى قومه .
وقوله تعالى : اسمه أحمد ، جاء النص أنه - صلى الله عليه وسلم - له عدة أسماء ، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " .
وبهذه المناسبة فقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - باسمه أحمد هنا ، وباسمه محمد في سورة " محمد " صلى الله عليه وسلم .
كما ذكر - صلى الله عليه وسلم - بصفات عديدة أجمعها ما يعد ترجمة ذاتية من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .
وسيأتي المزيد من بيان ذلك عند قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .
تقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : حجتهم داحضة عند ربهم [ 42 \ 16 ] في سورة " الشورى " وقوله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه [ 21 \ 18 ] في سورة " الأنبياء " .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم .
[ ص: 112 ] فسرت التجارة بقوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ 61 \ 11 ] .
التجارة : هي التصرف في رأس المال طلبا للربح كما قال تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم [ 2 \ 282 ] وقال تعالى : وتجارة تخشون كسادها [ 9 \ 24 ] .
والتجارة هنا فسرت بالإيمان بالله ورسوله ، وبذل المال والنفس في سبيل الله ، فما هي المعارضة الموجودة في تلك التجارة الهامة ، بينها تعالى في قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] ، فهنا مبايعة ، وهنا بشرى وهنا فوز عظيم .
وكذلك في هذه الآية : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب [ 61 \ 12 - 13 ] .
وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر ، كما في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [ 2 \ 16 ] .
حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قال الشاعر :
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وقول الآخر :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما
اشبرى المسلم إذ تنصرا
فأطلق الشراء على الاستبدال .
تنبيه
[ ص: 113 ] في هذه الآية الكريمة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في قوله تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .
وفي آية : إن الله اشترى من المؤمنين ، قدم النفس عن المال فقال : اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وفي ذلك سر لطيف .
أما في آية " الصف " فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله .
وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة ، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش ، وهو أهم من الجهاد بالسلاح ، فبالمال يشترى السلاح ، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية ، وبالمال يجهز الجيش ، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء ، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم ، وأعذر معهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، إلى قوله : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ 9 \ 91 - 92 ] .
وكذلك من جانب آخر ، قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من جهز غازيا فقد غزا " .
أما الآية الثانية فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة ، فقدم النفس ؛ لأنها أعز ما يملك الحي ، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب ، وأحسن ما قيل في ذلك :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
فالتجارة هنا معاملة مع الله إيمانا بالله وبرسوله ، وجهادا بالمال والنفس ، والعمل في ذلك :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن
[ ص: 114 ] الصالح ، كما قيل أيضا :
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل
وفي آية : إن الله اشترى تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله : فيقتلون بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم ، ويقتلون [ 9 \ 111 ] بالبناء للمجهول ، لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم ، ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية
في هذه الآية أيضا إشعار المسلمين بالنصر في قوله تعالى : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [ 61 \ 14 ] ، ولكن لم يبين فيها هل كانوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله أم لا ؟
وقد جاء ما يدل على أنهم بالفعل أنصار الله كما تقدم في سورة الحشر في قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] .
وكذلك الأنصار في قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار [ 9 \ 100 ] ، وكقوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] فأشداء على الكفار هو معنى ينصرون الله ورسوله ، ثم جاء المثل المضروب لهم بالتآزر والتعاون في قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ 48 \ 29 ] فسماهم أنصارا ، وبين نصرتهم سواء من المهاجرين والأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . والعلم عند الله تعالى .