تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 28 الأولىالأولى ... 789101112131415161718192021222324252627 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (320)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 326 إلى صـ 332




    وقال النسائي في سننه أيضا : أخبرنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا أبو التياح ، قال : حدثني موسى بن سلمة الهذلي ، أن ابن عباس قال : أمرت [ ص: 325 ] امرأة سنان بن سلمة الجهني ، أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمها ماتت ولم تحج ، أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها ؟ قال : " نعم ، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها ؟ فلتحج عن أمها " ، وهذا الإسناد صحيح . وفي لفظ عند النسائي أيضا ، عن ابن عباس ، بإسناد آخر : أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيها ، مات ولم يحج . قال : " حجي عن أبيك " وإسناده صحيح أيضا . وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس بإسناد آخر صحيح .

    وقال المجد في المنتقى : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاحجج عن أبيك " رواه الدارقطني . انتهى من المنتقى .

    وقال الترمذي في سننه : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، نا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها ؟ قال " نعم ، حجي عنها " . اهـ . ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . اهـ . وأخرج البيهقي نحوه بإسناد صحيح .

    وقال الشافعي في مسنده : أخبرنا سعيد بن سالم ، عن حنظلة ، سمعت طاوسا يقول : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، فقالت : إن أمي ماتت ، وعليها حج ، قال : " حجي عن أمك " ولا يخفى أن حديث الشافعي هذا مرسل ، ولكنه معتضد بما تقدم من الأحاديث ، وبما سيأتي إن شاء الله .

    وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني علي بن حجر السعدي ، حدثنا علي بن مسهر أبو الحسن ، عن عبد الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت قال : فقال " وجب أجرك وردها عليك الميراث ، قالت : يا رسول الله ، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط ، أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها " . انتهى من صحيح مسلم .

    فهذه الأحاديث وأمثالها : هي حجة من قال : إن من وجب عليه الحج في الحياة ، وترك مالا وجب أن يحج عنه ، وليست كلها ظاهرة في ذلك . ولكن بعضها ظاهر فيه [ ص: 326 ] كتشبيهه بدين الآدمي ونحو ذلك مما تقدم . وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية ، وإن كانت تحتاج إلى مال . والأعمال البدنية تسقط بالموت ، فلا وجوب لعمل بعد الموت ، والذي يحج عنه متطوع ، وفاعل خيرا . قالوا : ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل ، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه ، والميت ينتفع بالحج عنه ، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد ، أن القضاء عنه واجب ، بل يجوز أن يكون قضاؤه عنه غير واجب عليه .

    واحتجوا أيضا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت : واردة بعد الاستئذان في الحج عنه ، قالوا : والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر ، فهو للإباحة ; لأن الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة .

    قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث الأمر : فإن ورد بعد حظر - قال الإمام : أو استئذان - فللإباحة . وقال أبو الطيب ، والشيرازي ، والسمعاني والإمام : للوجوب ، وتوقف إمام الحرمين . انتهى منه . فتراه صدر بأن الأمر بعد الاستئذان للإباحة ، والخلاف في المسألة معروف ، وقد ذكرنا فيه أقوال أهل العلم ، في أبيات مراقي السعود في أول سورة المائدة .

    ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة : أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما اصطادوه بالجوارح ، واستأذنوه في أكله ، نزل في ذلك قوله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ 5 \ 4 ] فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة ; لأنه وارد بعد سؤال واستئذان .

    ومن أمثلته من السنة : حديث مسلم : أأصلي في مرابض الغنم ؟ قال " نعم " الحديث ، فإن معنى " نعم " هنا : صل فيها . وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة ; لأنه بعد الاستئذان ، وخلاف أهل الأصول في مسألة الأمر بعد الحظر أو الاستئذان معروف .

    هذا هو حاصل كلامهم في المستطيع بغيره ، ووجوب الحج عمن وجب عليه في الحياة ، ومات قبل أن يحج وترك مالا ، وقد علمت أدلتهم ومناقشتها .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأحاديث التي ذكرنا تدل قطعا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت .

    وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورا ، وعليه فلو فرط ، وهو قادر على [ ص: 327 ] الحج حتى مات مفرطا مع القدرة ، أنه يحج عنه من رأس ماله ، إن ترك مالا ; لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته ، فكانت دينا عليه ، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال : " فدين الله أحق أن يقضى " .

    أما من عاجله الموت قبل التمكن ، فمات غير مفرط ، فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه ، ولا دين لله عليه ; لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته ، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقد دلت الأحاديث المذكورة على جواز حج الرجل عن المرأة وعكسه ، وعليه عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا الحسن بن صالح بن حي .

    والأحاديث المذكورة حجة عليه ، وقد قدمنا أن مالكا رحمه الله ومن وافقوه ، لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث التي ذكرنا مع كثرتها وصحتها ; لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] . وقوله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] والمعضوب والميت ليس واحد منهما بمستطيع ; لصدق قولك : إنه غير مستطيع بنفسه .

    واعلم أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول : لا يحج أحد عن أحد ; معناه عنده : أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض .

    والمعضوب عنده ليس بقادر ، وأحرى الميت ، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية ، فإن أوصى به صح من الثلث ، وتطوع وليه بالحج عنه ، خلاف الأولى عنده ، بل مكروه .

    والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج ، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك ، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه .

    والحاصل : أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة ، وفي غير الفرض مكروهة ، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلا للحج .

    قال خليل بن إسحاق في مختصره : ومنع استنابة صحيح في فرض ، وإلا كره . اهـ .

    وقال شارحه الخطاب : ويدخل في قول المصنف : وإلا كره ، بحسب الظاهر ثلاث صور : استنابة الصحيح في النفل ، واستنابة العاجز في الفرض وفي النفل ، لكن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان ; لأن العاجز لا فريضة عليه . اهـ .

    واعلم أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم ، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك ومن وافقه ، والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 328 ] تنبيه

    اعلم أن ما عليه جمهور العلماء من جواز الحج عن المعضوب والميت محله فيما إذا كان الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه حجة الإسلام ، خلافا لمن لم يشترط ذلك ، واحتج الجمهور القائلون بأن النائب عن غيره في الحج لا بد أن يكون حج عن نفسه حجة الإسلام بحديث جاء في ذلك .

    قال أبو داود في سننه : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، وهناد بن السري - المعنى واحد - قال إسحاق : ثنا عبدة بن سليمان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . قال " من شبرمة ؟ قال : أخ لي - أو : قريب لي - قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حج عن نفسك ، ثم عن شبرمة " وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شبرمة ؟ قال : قريب لي . قال : هل حججت قط ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذه عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة " ، وإسناد هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجه ، رجاله كلهم ثقات ، معروفون ، إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة ، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه : عزرة ، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث ، عند أبي داود وابن ماجه ذكراه غير منسوب ، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى ، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، ولم يخصه ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة ، ولم يذكره الذهبي في الميزان ، وقد ذكره ابن حجر في التقريب ، وقال فيه : مقبول ، وقد روى هذا الحديث أيضا الدارقطني ، وابن حبان في صحيحه وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : هذا إسناد صحيح ، ليس في هذا الباب أصح منه ، أخرجه أبو داود في السنن عن إسحاق بن إسماعيل ، وهناد بن السري ، عن عبدة ، وقال : يحيى بن معين : أثبت الناس سماعا ، عن سعيد عبدة بن سليمان ، ثم قال : قال الشيخ : وكذلك رواه أبو يوسف القاضي ، عن سعيد ، ثم ساق بإسناده رواية أبي يوسف ، وأورد متن الحديث كما سبق ، ثم قال : وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر ، عن ابن أبي عروبة ، ورواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفا على ابن عباس ، ومن رواه مرفوعا حافظ ثقة ، فلا يضره خلاف من خالفه ، وعزرة هذا هو عزرة بن [ ص: 329 ] يحيى ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت أبا علي الحافظ يقول ذلك ، وقد روى قتادة أيضا عن عزرة بن تميم ، وعن عزرة بن عبد الرحمن . اهـ من البيهقي ، وقد أورد روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور ، وذكره ابن حجر في التلخيص وأطال فيه الكلام ، وذكر كلام البيهقي في تصحيحه ، وكلام من لم يصححه وذكر طرقه ثم قال ما نصه : فيجتمع من هذا صحة الحديث . اهـ محل الغرض منه .

    وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود ، والدارقطني ، والبيهقي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ثم ذكر لفظ أبي داود كما قدمنا ، ثم قال : وإسناده على شرط مسلم ، والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن ، وذلك من رجال مسلم ، والواقع خلاف ذلك ، وهو عزرة بن يحيى كما جزم به البيهقي ، ثم قال النووي : ورواه البيهقي بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقا من تصحيح البيهقي للحديث ، وأن رفعه أصح من وقفه .

    فتحصل من هذا كله : أن الحديث صالح للاحتجاج ، وفيه دليل على أن النائب في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه . وقاس العلماء العمرة على الحج في ذلك ، وهو قياس ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

    وخالف في ذلك بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه ، فقالوا : يصح حج النائب عن غيره وإن لم يحج عن نفسه ، واستدلوا بظواهر الأحاديث التي ذكرناها في الحج عن المعضوب والميت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها : " حج عن أبيك ، حج عن أمك " ، ونحو ذلك من العبارات ، ولم يسأل أحدا منهم هل حج عن نفسه أو لا . وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة ; لأنه لا يتعارض عام وخاص ، فلا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام ، والعلم عند الله تعالى .
    تنبيه

    قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر ، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي ؟

    اختلف أهل العلم في ذلك ، وسنبين هنا إن شاء الله أقوالهم وحججهم ، وما [ ص: 330 ] يرجحه الدليل عندنا من ذلك ، فممن قال : إن وجوبه على التراخي ; الشافعي وأصحابه . قال النووي : وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، ونقله الماوردي عن ابن عباس ، وأنس ، وجابر ، وعطاء ، وطاوس ، وممن قال إنه على الفور الإمام أحمد ، وأبو يوسف ، وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني . قال النووي : ولا نص في ذلك لأبي حنيفة ، وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي : إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج ، قال : يحج ولا يتزوج ; لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده ، وهذا يدل على أنه على الفور . انتهى .

    وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران ، كلاهما شهره بعض علماء المالكية .

    أحدهما : أنه على الفور ، والثاني : أنه على التراخي ، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات ، فإن خشيه وجب عندهم فورا اتفاقا .

    قال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي : وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف . اهـ .

    وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره : خلاف ، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول .

    وقال الشيخ المواق في كلامه على قول خليل المذكور ما نصه الجلاب : من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره إلا من عذر ، وفرضه على الفور دون التراخي والتسويف ، وعن ابن عرفة هذا للعراقيين ، وعزا لابن محرز والمغاربة وابن العربي ، وابن رشد : أنه على التراخي ما لم يخف فواته . وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم :

    أما الذين قالوا : إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة ، منها : أنهم قالوا : إن الحج فرض عام ست من الهجرة ، ولا خلاف أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهم محرمون بعمرة ، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف ، ويدل عليه ما تقدم في حديث كعب بن عجرة الذي نزل فيه : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ ص: 331 ] [ 2 \ 196 ] ، وذلك متصل بقوله : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا الآية [ 2 \ 196 ] ، ولذا جزم الشافعي وغيره بأن الحج فرض عام ست . قالوا : وإذا كان الحج فرض عام ست ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر ، فذلك دليل على أنه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج بعد نزول الآية . قالوا : ولا سيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان ، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يحج ، قالوا : واستخلف عتاب بن أسيد ، فأقام للناس الحج سنة ثمان ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ، ولم يحجوا ، قالوا : ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع ، وانصرف عنها قبل الحج ، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، فأقام للناس الحج سنة تسع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج ، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ، ولم يحجوا ، ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع ، قالوا : فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور ، بل على التراخي .

    واستدلوا لذلك أيضا بما جاء في صحيح مسلم في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي رضي الله عنه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاءه رجل من أهل البادية فقال : يا محمد صلى الله عليه وسلم ، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك . قال : صدق . قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال : فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا ، قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قال : صدق . ثم ولى قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لئن [ ص: 332 ] صدق ليدخلن الجنة " . انتهى من صحيح مسلم ، قالوا : هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج ، وقد زعم الواقدي وغيره : أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة كان عام خمس ، قالوا : وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه : بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس ، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضا عام خمس ، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي ، لا على الفور .

    ومن أدلتهم على أنه على التراخي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة " فدل ذلك على جواز تأخير الحج ، وهو دليل على أنه على التراخي .

    ومن أدلتهم أيضا : أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى ، أو إلى سنين ، ثم فعله ; فإنه يسمى مؤديا للحج لا قاضيا له بالإجماع ، قالوا : ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء .

    ومن أدلتهم على أنه على التراخي : ما هو مقرر في أصول الشافعية ، وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن ، لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد . فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر .

    ومن أدلتهم : أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة . قالوا : فهي على التراخي ، ويقاس الحج عليها ، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين .

    ومنها : أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي ، بجامع أن كليهما واجب ، ليس له وقت معين : قالوا : ولكن ثبتت آثار : أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة . هذا هو حاصل أدلة القائلين بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور . وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضا بأدلة ، ومنعوا أدلة المخالفين .

    فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك ، وهي على قسمين :

    قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا ، والثناء على من فعل ذلك .

    والقسم الثاني : يدل على توبيخ من لم يبادر ، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل ; لأنه قد يكون اقترب أجله ، وهو لا يدري .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (321)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 333 إلى صـ 339


    أما آيات القسم الأول فكقوله : [ ص: 333 ] وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [ 3 \ 133 ] وقوله تعالى : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض الآية [ 57 \ 21 ] ، فقوله : وسارعوا وقوله : سابقوا إلى مغفرة فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته ، وجنته جل وعلا ، وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره ، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي ، وكقوله : فاستبقوا الخيرات الآية [ 2 \ 148 ] ، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال . وصيغ الأمر في قوله : وسارعوا وقوله : سابقوا ، وقوله : فاستبقوا تدل على الوجوب ; لأن الصحيح المقرر في الأصول : أن صيغة افعل ، إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب ، وإليه أشار في المراقي بقوله :

    وافعل لدى الأكثر للوجوب . . إلخ

    وذلك لأن الله تعالى يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وقال جل وعلا : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فصرح جل وعلا ، بأن أمره قاطع للاختيار ، موجب للامتثال ، وقد سمى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية ، وذلك في قوله : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] يعني قوله له : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] وإنما قال موسى لأخيه هارون قبل أن يعلم حقيقة الحال ، فلما علمها قال : رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين [ 7 \ 151 ] ومما يدل على اقتضاء الأمر الوجوب : أن الله جل وعلا عنف إبليس لما خالف الأمر بالسجود ، وذلك في قوله : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] والنصوص بمثل هذا كثيرة ، وقد أجمع أهل اللسان العربي : أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، مثلا ، فلم يمتثل أمره فأدبه على ذلك ، أن ذلك التأديب واقع موقعه ; لأنه عصاه بمخالفة أمره ، فلو قال العبد : ليس لك أن تؤدبني ، لأن أمرك لي بقولك : اسقني ماء ، لا يقتضي الوجوب - لقال له أهل اللسان : كذبت ، بل الصيغة ألزمتك ، ولكنك عصيت سيدك ، فدل ما ذكر على أن الشرع واللغة دلا على اقتضاء الأمر المجرد الوجوب ، وذلك يدل على أن قوله : سابقوا وقوله : وسارعوا يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورا .

    ومن الآيات التي فيها الثناء على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى : [ ص: 334 ] إنهم كانوا يسارعون في الخيرات الآية [ 21 ] . وقوله تعالى : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 61 ] .

    وأما القسم الدال على التخويف من الموت قبل الامتثال المتضمن الحث على الامتثال : فهو أن الله جل وعلا أمر خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه ، كخلقه للسماوات والأرض ، ونحو ذلك من الآيات من كتابه كقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية [ 10 \ 101 ] ، وقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] ، وقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 17 - 20 ] . ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل ، فقد يقترب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعالجة الموت ، وذلك في قوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] إذ المعنى : أولم ينظروا في أنه عسى أن يكون أجلهم قد اقترب ، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت ، وفي الآية دليل واضح ، على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر ؛ خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك .

    ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور ، أحاديث جاءت دالة على ذلك ، ولا يخلو شيء منها من مقال ، إلا أنها تعتضد بالآيات المذكورة ، وبما سنذكره إن شاء الله بعدها .

    منها ما أخرجه أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي ، عن فضيل ، يعني ابن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعجلوا إلى الحج " يعني الفريضة . فقوله في هذا الحديث : تعجلوا ، يدل على الفور ، وقد نقل حديث أحمد هذا المجد في المنتقى بحذف الإسناد على عادته ، فقال : عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعجلوا إلى الحج " - يعني الفريضة - " فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " . رواه أحمد . انتهى منه .

    وقد سكت على هذا الحديث ، وسكت عليه أيضا شارحه الشوكاني في نيل الأوطار ، وظاهر سكوتهما عليه : أنه صالح للاحتجاج عندهما ، والظاهر عدم صلاحية هذا الحديث بانفراده [ ص: 335 ] للاحتجاج ; ففي سنده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي ، وهو لا يحتج بحديثه ; لأنه ضعفه أكثر أهل العلم بالحديث ، وكان شيعيا من غلاتهم ، وكان ممن يكفر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : صدوق ، سيئ الحفظ ، نسب إلى الغلو في التشيع .

    والحاصل : أن أكثر أهل العلم لا يحتجون بحديثه ، وانظر إن شئت أقوال أهل العلم في تهذيب التهذيب ، والميزان وغيرهما .

    ومن أدلتهم أيضا على ذلك : ما رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن مهران أبي صفوان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل " . اهـ . ورواه أبو داود : حدثنا مسدد ، ثنا [ أبو ] معاوية محمد بن خازم ، عن الأعمش ، عن الحسن بن عمرو ، عن مهران أبي صفوان ، عن ابن عباس قال : " من أراد الحج فليتعجل " . اهـ . وقال الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو بكر بن إسحاق ، أنبأنا أبو المثنى ، ثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن أبي صفوان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل " ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وأبو صفوان هذا سماه غيره مهران ، مولى لقريش ، ولا يعرف بالجرح . انتهى منه . وأقره الحافظ الذهبي على تصحيحه لهذا الإسناد ، ولا يخلو هذا السند من مقال ; لأن فيه مهران أبا صفوان ، قال فيه ابن حجر في التقريب : كوفي مجهول ، وقال صاحب الميزان : لا يدرى من هو . وقال فيه في تهذيب التهذيب : روى عن ابن عباس : " من أراد الحج فليتعجل " ، وعنه الحسن بن عمرو الفقيمي ، قال أبو زرعة : لا أعرفه إلا في هذا الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات . قلت : وقال الحاكم لما أخرج حديثه هذا في المستدرك : لا يعرف بجرح . انتهى منه ، وهو دليل على أن حديث مهران المذكور معتبر به ، فيعتضد بما قبله ، وبما بعده ، مع أن ابن حبان عده في الثقات ، وصحح حديثه الحاكم ، وأقره الذهبي على ذلك . اهـ .

    وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا علي بن محمد ، وعمرو بن عبد الله ، قالا : ثنا وكيع ، ثنا إسماعيل أبو إسرائيل ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن الفضل - أو أحدهما عن الآخر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل ; فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الضالة ، وتعرض الحاجة " . اهـ . وفي سنده : إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي ، وقد قدمنا قريبا أن الأكثرين ضعفوه .

    [ ص: 336 ] ومن أدلتهم على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من لم يحبسه مرض ، أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " قال ابن حجر في التلخيص : هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات . وقال العقيلي والدارقطني : لا يصح فيه شيء .

    قلت : وله طرق .

    أحدها : أخرجه سعيد بن منصور في السنن وأحمد وأبو يعلى والبيهقي من طرق عن شريك عن ليث بن أبي سليم ، عن ابن سابط ، عن أبي أمامة بلفظ : " من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " . لفظ البيهقي ، ولفظ أحمد : " من كان ذا يسار فمات ولم يحج " الحديث . وليث ضعيف ، وشريك سيئ الحفظ ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله ، ورواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن ابن سابط قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة " فذكره مرسلا .

    وكذا ذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي الأحوص ، عن ليث مرسلا ، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى ، عن شريك مخالفة للإسناد الأول ، وراويها عن شريك عمار بن مطر ضعيف . وقال الذهبي في الميزان ، بعد أن ذكر طريق أبي يعلى هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي ، عن شريك : هذا منكر عن شريك .

    الثاني : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ; وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] " رواه الترمذي ، وقال : غريب ، وفي إسناده مقال ، والحارث يضعف ، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول ، وسئل إبراهيم الحربي عنه ؟ فقال : من هلال . وقال ابن عدي : يعرف بهذا الحديث ، وليس الحديث بمحفوظ . وقال العقيلي : لا يتابع عليه ، وذكر في الميزان حديث علي هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور ، وقال : قال البخاري : منكر الحديث . وقال الترمذي : مجهول ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه . اهـ . وقال فيه في التقريب : متروك . وقد روي عن علي موقوفا ، ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا ، وقال المنذري : طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه .

    الثالث : عن أبي هريرة رفعه : " من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس ، [ ص: 337 ] أو حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ; فليمت أي الميتتين شاء : إما يهوديا أو نصرانيا " رواه ابن عدي ، من طريق عبد الرحمن الغطفاني ، عن أبي المهزم - وهما متروكان - عن أبي هريرة ، وله طريق صحيحة ; إلا أنها موقوفة ، رواها سعيد بن منصور والبيهقي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فتنظر كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية ; ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين " لفظ سعيد ، ولفظ البيهقي أن عمر قال : ليمت يهوديا أو نصرانيا - يقولها ثلاث مرات - رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة ، وخليت سبيله .

    قلت : وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط ، علم أن لهذا الحديث أصلا ، ومحمله على من استحل الترك ، وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع والله أعلم . اهـ من التلخيص الحبير بلفظه .

    وقول ابن حجر : ومحمله على من استحل الترك ، هو قول من قال من المفسرين : إن الكفر في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] يحمل على مستحل الترك ، ولا دليل عليه ، ووجه الدلالة من الأحاديث المذكورة على ما فيها من المقال أنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج ؛ كالمرض ، أو الحاجة الظاهرة ، أو السلطان الجائر . فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات ، وهو آثم بالتأخير . فدل على أن وجوب الحج على الفور ، وأنه لا يجوز التراخي فيه إلا لعذر ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار ، بعد أن ساق الطرق التي ذكرناها عن صاحب التلخيص : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا . وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذا الحديث من الموضوعات ، فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني : لا يصح في الباب شيء ; لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن . اهـ . محل الغرض منه .

    ومن أدلتهم أيضا على أن وجوب الحج على الفور ، ما قدمناه في سورة البقرة ، من حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل " قال عكرمة : سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك - يعني حديث الحجاج بن عمرو المذكور فقالا : صدق . وقد قدمنا أن هذا الحديث ثابت من رواية الحجاج بن عمرو الأنصاري وابن عباس وأبي هريرة ، وقد قدمنا أنه رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة والحاكم ، والبيهقي ، وقد [ ص: 338 ] قدمنا أنه سكت عليه أبو داود والمنذري ، وحسنه الترمذي ، وأن النووي قال فيه : رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه والبيهقي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ومحل الشاهد من الحديث المذكور قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث ، عند أبي داود ، وابن ماجه : " فقد حل ، وعليه الحج من قابل " ; لأن قوله : " من قابل " دليل على أن الوجوب على الفور ، وقد قدمنا هناك ما يدل على أن ذلك القضاء الواجب على المحصر بمرض أو نحوه إنما هو في حجة الإسلام ، وأنه لا قضاء على المحصر في غيرها ، وبينا أدلة ذلك هناك في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] والرواية التي ذكرنا هناك : " فقد حل ، وعليه حجة أخرى " ، وهذه الرواية قد بينتها رواية : " وعليه الحج من قابل " وهي ثابتة ، وهي دالة على الفور ، مفسرة للرواية التي ذكرنا هناك .

    فهذه الأحاديث - مع تعددها واختلاف طرقها - تدل على أن وجوب الحج على الفور ، وتعتضد بالآيات القرآنية التي قدمناها ، وتعتضد بما سنذكره - إن شاء الله - من كلام أهل الأصول .

    واعلم أن المخالفين قالوا : إن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء ، وأن حديث : " من أراد أن يحج فليتعجل " - مع ضعفه - حجة لهم لا عليهم ; لأنه وكل الأمر إلى إرادته ، فدل على أنه ليس على الفور ، ولا يخفى أن الأحاديث التي ذكرنا لا يقل مجموعها عن درجة الاحتجاج ، على أن وجوب الحج على الفور .

    ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور ، هو أن الله أمر به ، وأن جماعة من أهل الأصول قالوا : إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور . أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورا لامتثال أوامر الله كقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم [ 3 \ 133 ] ، وكقوله : سابقوا إلى مغفرة من ربكم الآية [ 57 \ 21 ] ، وبينا دلالة تلك الآيات وأمثالها على اقتضاء الأمر الفور ، وأوضحنا ذلك .

    وأما اللغة : فإن أهل اللسان العربي ، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، فلم يفعل ، فأدبه ، فليس للعبد أن يقول له : صيغة افعل في قولك : اسقني ماء ، تدل على التراخي ، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر ، بل يقولون : إن الصيغة ألزمتك فورا ، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي .

    [ ص: 339 ] وأما العقل : فإنا لو قلنا : إن وجوب الحج على التراخي ، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها ، وإما لا ، والقسم الأول ممنوع ; لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة ، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه إن قلنا : إنه ليس على الفور .

    والحاصل : أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع .

    والقسم الثاني الذي هو : أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه ; لأن ما جاز تركه جوازا لم تعين له غاية ينتهي إليها ، فإن تركه جائز إلى غير غاية ، وهذا يقتضي عدم وجوبه ، والمفروض وجوبه .

    فإن قيل : غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه .

    فالجواب : أن البقاء إلى زمن متأخر ، ليس لأحد أن يظنه ؛ لأن الموت يأتي بغتة ، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة ، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك : وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] ولا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات ، ولا سيما العبادات الشاقة كالحج . والإنسان طويل الأمل ، يهرم ، ويشب أمله ، وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه .

    فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور ، ومنعوا أدلة المخالفين ، قالوا إن قولكم : إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة ، فإن قدومه سنة خمس ، وقد ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج ، وأن قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست في عمرة الحديبية ، فدلت على أن الحج مفروض عام ست ، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر ، كل ذلك مردود ، بل الحج إنما فرض عام تسع ، قالوا : والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع .

    وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة ضمام المذكور ما نصه : وزعم الواقدي أن قدومه كان في سنة خمس ، وفيه نظر . وذكر ابن هشام عن أبي عبيد أن قدومه كان سنة تسع ، وهذا عندي أرجح . اهـ منه ، وانظر ترجيح ابن حجر لكون قدومه عام تسع .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (322)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 340 إلى صـ 346




    وذكر ابن كثير قدوم ضمام المذكور في حوادث سنة تسع ، مع أنه ذكر قول من قال : إن قدومه كان قبل عام خمس ، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام ، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] فهو أنها لم يذكر فيها إلا [ ص: 340 ] وجوب الإتمام بعد الشروع ، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب ، وقد أجمع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة ، وجب عليه الإتمام ، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب .

    قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه : وأما قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرضية الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء .

    فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟

    قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ، ويدل عليه أن أهل مكة ، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين ، لما أنزل الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ 9 \ 28 ] فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية ، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان عام تسع ، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف ، والله أعلم . انتهى من زاد المعاد .

    فتحصل أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، لم تدل على وجوب الحج ابتداء ، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة ، والخلاف في وجوبها معروف ، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه .

    بل الذي أجمعوا عليه : هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها ، كما هو ظاهر الآية ، وأن قصة ضمام بن ثعلبة ، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر وغيره ، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة ، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفا ; لأن آية : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] هي الآية التي فرض بها الحج .

    وهي من صدر سورة آل عمران ، وقد نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران ، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام [ ص: 341 ] تبوك سنة تسع كما تقدم قريبا ، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

    وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة ; لأنه انصرف من مكة والحج قريب ، ولم يحج لأنه لم يفرض .

    فإن قيل : سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة مع تمكنه منه وقدرته عليه ، أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت ، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع ، بل أخر حجه إلى عام عشر ، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر .

    فالجواب والله تعالى أعلم : أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي ، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة ، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام ، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ 9 \ 28 ] ، و ( عامهم هذا ) هو عام تسع ، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع ، ولذا أرسل عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي بـ " براءة " وأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا عريان ، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك ، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم ، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه : عام عشر ، وقد بادر بالحج فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وأجابوا عن قولهم : كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي ، أن يفسخوا حجهم في عمرة ، دليل على تأخير الحج ; لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة ، وحلوا منه - بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها ، وتأخير الحج إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى ، وذلك ليس بواقع هنا ، فلا تأخير للحج في الحقيقة ; لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة ، فلا تأخير كما ترى ، وأجابوا عن قولهم : إنه لو أخره من سنة إلى أخرى ، أو سنين ، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع ، ولو حرم التأخير لكان قضاء - بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول ، والحج لم يوقت بزمن معين ، والعمر كله وقت له ، وذلك لا ينافي وجوب المبادرة خوفا من طرو العوائق ، أو نزول الموت قبل [ ص: 342 ] الأداء ، كما تقدم إيضاحه .

    وأجابوا عن قولهم : إن من تمكن من أداء الحج ثم أخره ثم فعله ، لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره . ولو كان التأخير حراما لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز - بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته ، بل لا ترد إلا بما يؤدي إلى الفسق ، وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف وقول من قال : إنه لم يرتكب حراما ، وشبهة الأدلة التي أقاموها على ذلك ، هذا هو حاصل أدلة الفريقين .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو أن وجوب أوامره جل وعلا - كالحج - على الفور لا على التراخي ، لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة ، وللخوف من مباغتة الموت كقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم الآية [ 3 \ 133 ] وما قدمنا معها من الآيات ، وكقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور ، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر ، والعلم عند الله تعالى ، وأشار في مراقي السعود إلى أن مذهب مالك أن وجوب الأمر على الفور بقوله :

    وكونه للفور أصل المذهب وهو لدى القيد بتأخير أبي
    المسألة الثانية

    اعلم أن من أراد الحج له أن يحرم مفردا الحج ، وله أن يحرم متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وله أن يحرم قارنا بين الحج والعمرة ، وإنما الخلاف بين العلماء فيما هو الأفضل من الثلاثة المذكورة .

    والدليل على التخيير بين الثلاثة ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع . فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة وعمرة ، ومنا من أهل بالحج . الحديث . وهو نص صريح متفق عليه في جواز الثلاثة المذكورة . وقال النووي في شرح المهذب : وجواز الثلاثة قال به العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما أنهما كانا ينهيان عن التمتع . انتهى محل الغرض من كلامه .

    [ ص: 343 ] وقال أيضا في شرح مسلم : وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة .

    وقال ابن قدامة في المغني : وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام ، بأي الأنساك الثلاثة شاء ، واختلفوا في أفضلها .

    وفي رواية في الصحيح عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل . قالت عائشة رضي الله عنها : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت في من أهل بالعمرة " . هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو صريح في جواز الثلاثة المذكورة .

    وبه تعلم أن ادعاء بعض المعاصرين أن إفراد الحج ممنوع ، مخالف لما صح باتفاق مسلم والبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأطبق عليه جماهير أهل العلم . وحكى غير واحد عليه الإجماع ، وسنذكر إن شاء الله كلام أهل العلم في التفضيل بينها مع مناقشة الأدلة .
    المسألة الثالثة

    اعلم أن ممن قال : إن الإفراد أفضل من التمتع والقران : مالك ، وأصحابه ، والشافعي - في الصحيح من مذهبه - وأصحابه .

    قال النووي في شرح المهذب : وبه قال عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر ، وعائشة ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وداود . واحتج من قال بتفضيل إفراد الحج على غيره بأدلة متعددة .

    الأول : أحاديث صحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنه أفرد في حجة الوداع من رواية جابر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم . أما حديث عائشة فقد ذكرناه آنفا .

    قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة وعمرة ، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . الحديث . هذا لفظ البخاري ومسلم ، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج . ولا يحتمل لفظ عائشة هذا غير إفراد الحج ; لأنها ذكرت معه التمتع والقران ، وأن بعض الناس تمتع وبعضهم قرن ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فهو الحج المفرد ، ولا يحتمل غيره .

    وفي رواية في الصحيح عنها رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 344 ] فقال : " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل " . قالت عائشة رضي الله عنها : " فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت في من أهل بالعمرة " . هذا لفظ مسلم في صحيحه . وهو لا يحتمل غير الإفراد بحال ; لأنها ذكرت القران والتمتع والإفراد ، وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج ، فدل على أنها لا تريد القران ولا غيره . وفي رواية عنها في الصحيح قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج ، وفي رواية عنها في الصحيح أيضا : ولا نذكر إلا الحج . وفي رواية عنها في الصحيح أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج . وفي رواية عنها رضي الله عنها في الصحيح : ولا نرى إلا أنه الحج . كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم . وبعضها في البخاري .

    وأما حديث جابر فقد روى عنه عطاء قال : حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، الحديث . هذا لفظ البخاري ومسلم ، وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : لبيك اللهم لبيك بالحج . هذا لفظ البخاري ومسلم أيضا ، وفي رواية في الصحيح عن عطاء : حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج ، الحديث . هذا لفظ البخاري في صحيحه . وفي حديثه - أعني جابرا رضي الله عنه - الطويل المشهور في صحيح مسلم الذي بين فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان ، وساقها أحسن سياقة من أولها إلى آخرها . وقد دل ذلك على ضبطه لها وحفظه وإتقانه ما نصه : قال جابر رضي الله عنه : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، الحديث . وهو تصريح منه رضي الله عنه بالإفراد دون التمتع والقران لقوله : لسنا نعرف العمرة .

    وفي رواية عنه في الصحيح قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج ، الحديث .

    وفي رواية عنه في الصحيح أيضا قال : أهللنا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصا وحده . وكلا الروايتين عنه بلفظ مسلم في الصحيح . وفي صحيح مسلم أيضا عنه : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج . الحديث . وفي رواية في صحيح مسلم عنه أيضا : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج .

    وأما حديث ابن عمر : فقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب ، وعبد الله بن عون الهلالي ، قالا : حدثنا عباد بن عباد المهلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، [ ص: 245 ] عن نافع عن ابن عمر في رواية يحيى قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا . وفي رواية ابن عون : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا ، وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا هشيم ، حدثنا حميد ، عن بكر ، عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا : قال بكر : فحدثت بذلك ابن عمر ، فقال : لبى بالحج وحده ، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس : ما تعدوننا إلا صبيانا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لبيك عمرة وحجا " وحدثني أمية بن بسطام العيشي ، حدثنا يزيد ، يعني ابن زريع ، حدثنا حبيب بن الشهيد ، عن بكر بن عبد الله ، حدثنا أنس رضي الله عنه : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما - بين الحج والعمرة - قال : فسألت ابن عمر ؟ فقال : أهللنا بالحج . فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر ، فقال : كأنما كنا صبيانا . انتهى منه .

    وحديث ابن عمر هذا لا يحتمل غير إفراد الحج ، فلا يحتمل القران ولا التمتع بحال ; لأن فيه أن بكرا قال لابن عمر : إن أنسا يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة ، فرد ابن عمر على أنس دعواه القران قائلا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وحده ، وهذا صريح في الإفراد كما ترى . وحديث ابن عمر المذكور أخرجه البخاري أيضا . اهـ .

    وفي رواية : أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال : بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال ابن عمر : أهل بالحج . فانصرف ثم أتاه من العام المقبل ، فقال : بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ألم تأتني عام أول ؟ قال : بلى ، ولكن أنس بن مالك يزعم أنه قرن . قال ابن عمر رضي الله عنهما : إن أنس بن مالك كان يدخل على النساء وهن منكشفات الرءوس ، وإني كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج . رواه البيهقي بإسناده . وقال النووي في شرح المهذب : إن إسناده صحيح .

    وأما حديث ابن عباس ، فهو ما رواه عنه البخاري ومسلم قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج . الحديث . هذا لفظ البخاري ومسلم .

    وفي رواية في الصحيح عنه رضي الله عنه : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، لفظ مسلم . وفي رواية عنه في الصحيح : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهل بالحج . وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح : ثم ركب راحلته ، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج . كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم ، رحمه الله تعالى .

    [ ص: 246 ] وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج . الحديث .

    قالوا : فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردا ، ورواتها من أضبط الصحابة وأتقنهم ، قالوا : فمنهم جابر الذي عرف ضبطه وحفظه ، وخصوصا ضبطه لحجته صلى الله عليه وسلم . ومنهم ابن عمر الذي رد على أنس ، وذكر أن لعاب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسه . ومنهم : عائشة رضي الله عنها ، وحفظها وضبطها واطلاعها على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك معروف . ومنهم : ابن عباس رضي الله عنهما ، ومكانته في العلم والحفظ معروفة .

    الأمر الثاني من الأمور التي احتج بها القائلون بأفضلية الإفراد على التمتع والقران - هو إجماع أهل العلم على أن المفرد إذا لم يفعل شيئا من محظورات الإحرام ، ولم يخل بشيء من النسك ، أنه لا دم عليه ، وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران يدل على أنه أفضل منهما ; لأن الكامل بنفسه الذي لا يحتاج إلى الجبر بالدم أفضل من المحتاج إلى الجبر بالدم .

    وأجاب المخالفون عن هذا بأن دم التمتع والقران ليس دم جبر لنقص فيهما ، وإنما هو دم نسك محض لزم في ذلك النسك . واحتجوا على أنه دم نسك بجواز أكل القارن والمتمتع من دم قرانه وتمتعه ، قالوا : لو كان جبرا لما جاز الأكل منه كالكفارات ، وبأن الجبر في فعل ما لا يجوز ، والتمتع والقران جائزان ، فلا جبر في مباح .

    ورد هذا من يخالف في ذلك قائلا : إنه دم جبر لا دم نسك ، بدليل أن الصوم يقوم مقامه عند العجز عنه . قالوا : والنسك المحض كالأضاحي والهدايا لا يكون الصوم بدلا منه عند العجز عنه ، فلا يكون الصوم بدلا من دم إلا إذا كان دم جبر . قالوا : ولا مانع من الأمر بعبادة مع ما يجبرها ويكملها ، ولا مانع من أن يرد دليل خاص على جواز الأكل من بعض دماء الجبر .

    قالوا : والدليل على وقوع الجبر في المباح : لزوم فدية الأذى المنصوص في آية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية [ 2 \ 196 ] ، ولا شك أنه جبر في فعل مباح . وكذلك من لبس لمرض ، أو حر أو برد شديدين ، أو أكل صيدا للضرورة المبيحة للميتة ، أو احتاج للتداوي بطيب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (323)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 347 إلى صـ 353

    قالوا : ومن الأدلة على أنه دم جبر لا نسك سقوطه عن أهل مكة المنصوص عليه في [ ص: 347 ] قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] فلو كان دم نسك محض لكان على الجميع من حاضري المسجد الحرام وغيرهم لاستوائهم جميعا في حكم النسك المحض . وهذا على قول الجمهور : إن الإشارة في قوله : " ذلك " راجعة إلى لزوم دم التمتع ؛ أي : وأما من كان أهله حاضري المسجد الحرام ، فلا دم عليه إن تمتع بالعمرة إلى الحج . خلافا لابن عباس ومن وافقه من الحنفية وغيرهم في قولهم : إن الإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] راجعة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج ، وإن أهل مكة لا تمتع لهم ; لأنه على قول الجمهور لا فرق بين الآفاقي ، وحاضري المسجد الحرام موجبا لوجوب دم التمتع على الأول وسقوطه عن الثاني ، إلا أن الأول تمتع بالترفه بسقوط أحد السفرين لأحد النسكين ؛ ولذلك قال مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه : إنه إن سافر بعد إحلاله من العمرة وأحرم للحج في سفر جديد ، أنه لا دم تمتع عليه لزوال العلة . مع اختلافهم في قدر السفر المسقط للدم المذكور ؛ فبعضهم يكتفي بسفر مسافة القصر ، وهو مذهب أحمد ، وهو مروي عن عطاء وإسحاق والمغيرة ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني . وبعضهم يكتفي بالرجوع إلى الميقات ، وهو مذهب الشافعي ، وبعضهم يشترط الرجوع إلى محله الذي جاء منه ، وعزاه في المغني لأبي حنيفة وأصحابه . وبعضهم يشترط ذلك أو سفر مسافة بقدره ، أعني قدر مسافة المحل الذي جاء منه ، وهو مذهب مالك وأصحابه . وهذا يدل على أن دم التمتع دم جبر لنقص السفر المذكور ، بدليل أن السفر إن حصل عندهم سقط الدم لزوال علة وجوبه .

    الأمر الثالث من الأمور التي استدل بها القائلون بأفضلية الإفراد : بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التمتع والقران .

    قال البيهقي في السنن الكبرى : أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنبأنا أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني حيوة ، أخبرني أبو عيسى الخراساني ، عن عبد الله بن القاسم الخراساني ، عن سعيد بن المسيب : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب ، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج .

    أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ، أنبأ عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أبي شيخ الهنائي واسمه [ ص: 248 ] خيوان بن [ خلدة ] أن معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفف النمور ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : وأنا أشهد ، قال : أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : والله إنها لمعهن . وكذلك رواه حماد بن سلمة والأشعث بن بزاز عن قتادة ، وقال : حماد بن سلمة في حديثه : ولكنكم نسيتم . ورواه مطر الوراق ، عن أبي شيخ في متعة الحج . انتهى من البيهقي .

    وقد ذكر النووي في شرح المهذب عن البيهقي أنه ذكر بإسناده الحديثين اللذين سقناهما عنه آنفا ، ثم قال في الأول منهما : ورواه أبو داود في سننه . وقد اختلفوا في سماع سعيد بن المسيب عن عمر ، لكنه لم يرو هنا عن عمر ، بل عن صحابي غير مسمى ، والصحابة كلهم عدول .

    ثم قال في الثاني منهما : رواه البيهقي بإسناد حسن . انتهى .

    وقال أبو داود رحمه الله في سننه : حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرنا حيوة ، أخبرني أبو عيسى الخراساني ، عن عبد الله بن القاسم ، عن سعيد بن المسيب : أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب ، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج .

    حدثنا موسى أبو سلمة ثنا حماد ، عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا ، وعن ركوب جلود النمور ؟ قالوا : نعم ، قال : فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ فقالوا : أما هذا فلا ، فقال : أما إنها معهن ، ولكنكم نسيتم . انتهى منه .

    الأمر الرابع من الأمور التي استدل بها القائلون بأفضلية الإفراد على غيره ، أنه هو الذي كان الخلفاء الراشدون يفعلونه بعده صلى الله عليه وسلم ، وهم أفضل الناس وأتقاهم ، وأشدهم اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس مفردا ، وحج عمر بن الخطاب عشر سنين بالناس مفردا ، وحج عثمان رضي الله عنه بهم مدة خلافته مفردا . قالوا : فمدة هؤلاء الخلفاء الراشدين الثلاثة حول أربع وعشرين سنة وهم يحجون بالناس مفردين ، ولو لم يكن الإفراد أفضل من غيره لما واظبوا عليه هذه المدة الطويلة .

    [ ص: 349 ] قال النووي في شرح المهذب ، وشرح مسلم في أدلة من فضل الإفراد : ومنها أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج ، وواظبوا عليه ، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان . واختلف فعل علي رضي الله عنهم أجمعين . وقد حج عمر بالناس عشر حجج مدة خلافته كلها مفردا ، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم ، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على الإفراد مع أنهم الأئمة الأعلام ، وقادة الإسلام ، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم ، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم . وأما الخلاف عن علي وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز ، وقد قدمنا عنهم ما يوضح هذا . انتهى منه .

    الأمر الخامس من الأمور التي استدل بها القائلون بأفضلية الإفراد : هو ما ذكره النووي في شرح المهذب قال : ومنها أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة ، وكره عمر وعثمان وغيرهما ممن ذكرناه قبل هذا التمتع ، وبعضهم كره التمتع والقران ، وإن كانوا يجوزونه على ما سبق تأويله ، فكان ما أجمعوا على أنه لا كراهة فيه أفضل . انتهى منه .

    وقال البيهقي في السنن الكبرى : فثبت بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التمتع والقران والإفراد ، وثبت بمضي النبي صلى الله عليه وسلم في حج مفرد ، ثم باختلاف الصدر الأول في كراهية التمتع والقران دون الإفراد ، كون إفراد الحج عن العمرة أفضل . والله أعلم . انتهى منه .

    وقال البيهقي في السنن الكبرى أيضا : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا : ثنا علي بن عمر الحافظ ، ثنا الحسين بن إسماعيل ، ثنا أبو هشام ، ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه قال : حججت مع أبي بكر رضي الله عنه فجرد ، ومع عمر رضي الله عنه فجرد ، ومع عثمان رضي الله عنه فجرد .

    أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا عبد الكريم بن الهيثم ، ثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب ، أنبأ نافع : أن ابن عمر كان يقول : إن عمر رضي الله عنه كان يقول : أن تفصلوا بين الحج والعمرة ، وتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج ، أتمم لحج أحدكم وأتم لعمرته . انتهى منه .

    ثم ساق البيهقي بسنده عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب رضي [ ص: 350 ] الله عنهم عن أبيهما عن علي أنه قال : يا بني أفرد الحج ، فإنه أفضل . اهـ . وساق بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : جردوا الحج . وفي رواية له عنه ، أنه أمر بإفراد الحج قال فكان أحب أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر . انتهى من البيهقي .

    وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه : قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني ، ثنا الحسين بن إسماعيل ، ثنا أبو هشام ، ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو حصين ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه قال : حججت مع أبي بكر فجرد ، ومع عمر فجرد ، ومع عثمان فجرد . تابعه الثوري ، عن أبي حصين ، وهذا إنما ذكرناه ها ههنا ; لأن الظاهر أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم : إنما يفعلون هذا عن توقيف . والمراد بالتجريد هاهنا : الإفراد ، والله أعلم .

    وقال الدارقطني : ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل ، ومحمد بن مخلد قالا : ثنا علي بن محمد بن معاوية الرزاز ، ثنا عبد الله بن نافع ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد ، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج ، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، فبعث عمر فأفرد الحج ، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج ، ثم توفي أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج . ثم حج فأفرد الحج ثم حج عمر سنيه كلها فأفرد الحج ، في إسناده عبد الله بن عمر العمري ، وهو ضعيف . لكن قال الحافظ البيهقي : له شاهد بإسناد صحيح . انتهى من البداية والنهاية لابن كثير .

    وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثني هارون بن سعيد الإبلي ، حدثنا أبو وهب ، أخبرني عمرو وهو ابن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن أن رجلا من أهل العراق قال له : سل لي عروة بن الزبير ، عن رجل يهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا ؟ فإن قال لك : لا يحل ، فقل له : إن رجلا يقول ذلك ، قال : فسألته فقال : لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج ، قلت : فإن رجلا كان يقول ذلك . قال : بئسما قال . فتصداني الرجل فسألني فحدثته فقال : فقل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك ؟ قال : فجئته ، فذكرت له ذلك فقال : من هذا ؟ فقلت : لا أدري ، قال : فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني ، أظنه عراقيا ؟ فقلت : لا أدري . قال : فإنه قد كذب ، قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : أن [ ص: 351 ] أول شيء بدأ به حين قدم مكة ، أنه توضأ ثم طاف بالبيت ، ثم حج أبو بكر ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم يكن غيره ، ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم يكن غيره ، ثم معاوية ، وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي - الزبير بن العوام - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره ، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ، ثم لم يكن غيره ، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ، ثم لم ينقضها بعمرة ، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ؟ ولا أحد ممن مضى كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون ، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان ، وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط ، فلما مسحوا الركن حلوا ، وقد كذب فيما ذكر من ذلك . انتهى من صحيح مسلم ، وفيه التصريح من عروة بن الزبير رضي الله عنهما بأن الخلفاء الراشدين والمهاجرين والأنصار كانت عادتهم أن يأتوا مفردين بالحج ، ثم يتمونه كما رأيت .

    وقال النووي في شرح الحديث المذكور : وقوله : " ثم لم يكن غيره " ، وكذا قال فيما بعده : ولم يكن غيره ، هكذا هو في جميع النسخ ( غيره ) بالغين المعجمة والياء ، قال القاضي عياض : كذا هو في جميع النسخ ، قال : وهو تصحيف وصوابه : ثم لم تكن عمرة . بضم العين المهملة وبالميم ، وكان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك ، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع ، فأعلمه عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه ، ولا من جاء بعده . هذا كلام القاضي .

    قلت : هذا الذي قاله من أن قول ( غيره ) تصحيف ، ليس كما قال ، بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى ; لأن قوله ( غيره ) يتناول العمرة وغيرها .

    ويكون تقدير الكلام : ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره ؛ أي : لم يغير الحج ، ولم ينقله ويفسخه إلى غيره ؛ لا عمرة ولا قران ، والله أعلم . انتهى كلام النووي ، وهو صواب .

    وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي : أنه سأل عروة بن الزبير ، فقال : قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ، ثم طاف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه ، فكان أول [ ص: 352 ] شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك ، ثم حج عثمان رضي الله عنه ، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم معاوية وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي - الزبير بن العوام - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ، ثم لم تكن عمرة ، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ، ثم لم ينقضها عمرة ، وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ، ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ، ثم لا يحلون . وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان ، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة ، فلما مسحوا الركن حلوا . انتهى منه .

    وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضا : حدثنا أصبغ ، عن ابن وهب ، أخبرني عمرو ، عن محمد بن عبد الرحمن ، ذكرت لعروة قال : فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ، ثم طاف ، ثم لم تكن عمرة ، ثم حج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مثله ، ثم حججت مع أبي - الزبير رضي الله عنه - فأول شيء بدأ به الطواف ، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه ، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة ، فلما مسحوا الركن حلوا . انتهى منه .

    قالوا : وجواب ابن عباس رضي الله عنهما عن حديث عروة المذكور لا يدفع احتجاج عروة بما ذكر ، وكذلك جواب ابن حزم ، وقد أجاب عروة ابن عباس فأسكته .

    أما جواب ابن عباس الذي ذكروه ، فهو ما رواه الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال أبو بكر وعمر . وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن أيوب قال : قال عروة لابن عباس : ألا تتقي الله ، ترخص في المتعة ، فقال ابن عباس : سل أمك يا عرية ، فقال عروة : أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا . فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ، أحدثكم عن رسول الله ، وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر ، فقال عروة : لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها منك . اهـ . قالوا : فترى عروة أجاب ابن عباس بجواب أسكته به .

    ولا شك أن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها ، لا يمكن ابن عباس أن ينكر ذلك .

    [ ص: 353 ] وأما جواب ابن حزم فهو قوله : إن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر من عروة ، وأنه - يعني ابن عباس - خير من عروة وأولى منه بالنبي والخلفاء الراشدين ، ثم ساق آثارا من طريق البزار وغيره عن ابن عباس ، يذكر فيها التمتع ، عن أبي بكر وعمر ، وأن أول من نهى عنه معاوية ، ولا يخفى سقوط كلام ابن حزم المذكور رده على عروة بن الزبير رضي الله عنهما . أما قوله : إن ابن عباس أعلم من عروة وأفضل ، فلا يرد رواية عروة بسند صحيح عن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا يفردون كما ثبت في صحيح مسلم . وابن عباس لم يعارض عروة بأن فعلهما كان مخالفا لما ذكره عروة من الإفراد ، وإنما احتج بأن أمر النبي أولى بالاتباع من أمرهما ، وقد أجابه عروة بأنهما ما فعلا إلا ما علما من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكمل وأتبع لسنته صلى الله عليه وسلم ، وأما الآثار التي رواها من طريق ليث وغيره فلا يخفى أنها لا تعد شيئا مع ما ثبت في الصحيحين عنهم من الروايات التي لا مطعن فيها أنهم كانوا يفضلون الإفراد .

    ومن فهم كلامهم حق الفهم - أعني الخلفاء الراشدين - علم أنهم رضي الله عنهم يعلمون جواز التمتع والقران علما لا يخالجه شك ، ولكنهم يرون أنه أتم للحج والعمرة أن يفصل بينهما كما لا يخفى ، والمعنى غير خاف ، بل هو ظاهر من سياق السؤال والجواب لمن تأمل ذلك ، ومما يدل على صحة ما ذكره عروة بن الزبير في حديث مسلم المذكور من أن الخلفاء كانوا يفردون ما ثبت في الصحيحين من نحو ذلك ، عن عمر وعثمان رضي الله عنهما .

    قال البخاري في صحيحه : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فقال : بما أهللت ؟ قلت : أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : هل معك من هدي ؟ قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني - أو : غسلت رأسي - فقدم عمر رضي الله عنه فقال : إن نأخذ بكتاب الله ، فإنه يأمر بالتمام ، قال الله : وأتموا الحج والعمرة [ 2 \ 196 ] وإن نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يحل حتى نحر الهدي . انتهى منه ، ونحوه أخرجه مسلم أيضا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ




    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (324)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 354 إلى صـ 360


    وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور : محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة ، أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام ، [ ص: 354 ] فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج ، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا دالة على ذلك ; لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله ، لكن الجواب عن ذلك هو ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ولولا أن معي الهدي لأحللت " فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي ، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر أنه منع منه سدا للذريعة ، وقال المازري : قيل إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة ، وقيل : العمرة في أشهر الحج ، ثم الحج من عامه . وعلى الثاني : إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل ، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها . وقال عياض : الظاهر أنه نهى عن الفسخ ، ولهذا كان يضرب الناس عليه ، كما رواه مسلم بناء على معتقده : أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة .

    قال النووي : والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ، ثم الحج من عامه ، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد ، كما يظهر من كلامه ، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة ، وبقي الاختلاف في الأفضل . انتهى الغرض من كلام ابن حجر في الفتح ، وهو واضح في أن عمر رضي الله عنه ما كان يرى إلا تفضيل الإفراد على غيره ، وشاهد لصحة قول من قال : إنه حج بالناس عشر حجج مفردا ، وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، وابن بشار ، قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال : على يدي دار الحديث : تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال : إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وإن القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله ، وأبتوا نكاح هذه النساء ، فإن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة . وحدثنيه زهير بن حرب ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث : فافصلوا حجكم من عمرتكم ، فإنه أتم لحجكم ، وأتم لعمرتكم . اهـ منه .

    وهو دليل على ما ذكرنا من أن عمر رضي الله عنه يرى أن الإفراد أفضل ، ويدل على صدق من قال : إنه حج عشر حجج بالناس مفردا كما تقدم .

    وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن علي بن حسين ، عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما ، وعثمان ينهى عن المتعة ، وأن يجمع بينهما ، الحديث . وفيه [ ص: 355 ] التصريح بأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أفضلية الإفراد على غيره لنهيه عن التمتع والقران الثابت في الصحيح كما رأيت .

    وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة قال : قال عبد الله بن شقيق : كان عثمان ينهى عن المتعة ، وكان علي يأمر بها ، الحديث . وفيه التصريح بنهي عثمان رضي الله عنه ، عن التمتع ، وبما ذكرنا كله تعلم أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم كانوا يرون الإفراد أفضل ، وكان هو الذي يفعلونه كما رأيت الروايات الصحيحة بذلك ، وهو المعروف عنهم رضي الله عنهم فما ورد مما يخالف ذلك فهو مردود بما رأيت .
    تنبيه

    فإن قيل : هؤلاء الذين يفضلون الإفراد ، كمالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وكأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ومن ذكرنا سابقا ممن يقول بأفضلية الإفراد على غيره من أنواع النسك بأي جواب يجيبون عن الأحاديث الصحيحة الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه كان متمتعا والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه أمر كل من لم يسق هديا من أصحابه ، بأن يتحلل من إحرامه بعمرة ، فالذين أحرموا بالإفراد أمرهم بفسخ الحج في عمرة ، والتحلل التام من تلك العمرة ، وتأسف هو صلى الله عليه وسلم على أنه ساق الهدي الذي صار سببا لمنعه من التحلل بعمرة ، وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يتأسف على فوات العمرة ، إلا وهي أفضل من غيرها ، والقران الذي اختاره الله له لا يكون غيره أفضل منه ، لأن الله لا يختار لنبيه في نسكه إلا ما هو الأفضل .

    فالجواب : أن المالكية والشافعية يقولون : إن التمتع الذي أمر به صلى الله عليه وسلم من كان مفردا وذلك بفسخ الحج في العمرة ، لا شك أنه في ذلك الوقت وفي تلك السنة أفضل من غيره ، ولكن لا يلزم من أفضليته في ذلك الوقت أن يكون أفضل فيما سواه .

    وإيضاح ذلك : أنه دلت أدلة سيأتي قريبا تفصيلها إن شاء الله ، على أن تحتم فسخ الحج المذكور في العمرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به خاص بذلك الركب وبتلك السنة ، وأنه ما أمر بذلك لأفضلية ذلك في حد ذاته ، ولكن لحكمة أخرى خارجة عن ذاته ؛ وهي أن يبين للناس أن العمرة في أشهر الحج جائزة ، وما فعله صلى الله عليه وسلم أو أمر به للبيان والتشريع ، [ ص: 356 ] فهو قربة في حقه ، وإن كان مكروها أو مفضولا ، فقد يكون الفعل بالنظر إلى ذاته مفضولا أو مكروها ، ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يأمر به لبيان الجواز ، فيصير قربة في حقه ، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول ، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله :


    وربما يفعل للمكروه مبينا أنه للتنزيه فصار في جانبه من القرب
    كالنهي أن يشرب من فم القرب


    وقال في نشر البنود في شرحه للبيتين المذكورين : يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه المنهي عنه ، مبينا بذلك الفعل أن النهي للتنزيه لا للتحريم ، فصار ذلك الفعل في حقه قربة يثاب عليها لما فيه من البيان ، كنهيه عن الشرب من أفواه القرب ، وقد شرب منها . انتهى منه .

    وليس قصدنا أن التمتع والقران مكروهان ، بل لا كراهة في واحد منهما يقينا ، ولكن المقصود بيان أن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز ، يكون بهذا الاعتبار أفضل من غيره ، وإن كان غيره أفضل منه ، بالنظر إلى ذاته ، وهذه هي الأدلة الدالة على أنه فعل ذلك لبيان الجواز ، ولذلك يختص بذلك الركب وتلك السنة .

    الأول منها : حديث ابن عباس المتفق عليه ، الذي قدمناه قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برئ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال " الحل كله " قالوا : فقوله في هذا الحديث المتفق عليه : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله : فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم أن يجعلوا حجهم عمرة ، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه ، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل ، وقد تقرر في مسلك النص ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف التعليل ، كما قدمناه مرارا ، قالوا : فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، لا ارتباط بينه وبين قوله : فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، ظاهر السقوط كما ترى ؛ لأنه لو لم يقصد به ذلك ، لكان ذكره قليل الفائدة .

    [ ص: 357 ] ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هناد بن السري ، عن ابن أبي زائدة ، ثنا ابن جرير ، ومحمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ، ومن دان دينهم ، كانوا يقولون : إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر . فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم . اهـ .

    وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور ، دال على ذلك ، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازما ؛ لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور ، كما دل عليه حديثه ، وهو يرى بقاء حكمه ، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ، ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك .

    الدليل الثاني من أدلتهم على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز ، وأنه خاص بذلك الركب وتلك السنة ، هو ما جاء من الأحاديث دالا على ذلك ، قال أبو داود في سننه : حدثنا النفيلي ، ثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا ؟ قال : " بل لكم خاصة " . اهـ .

    وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا عبد العزيز ، وهو الدراوردي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : " بل لنا خاصة " . اهـ .

    وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا أبو مصعب ، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل لنا خاصة " .

    وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : وحدثنا سعيد بن منصور ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة .

    [ ص: 358 ] وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن عياش العامري ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كانت لنا رخصة . يعني المتعة في الحج . وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير ، عن فضيل ، عن زبيد ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : قال أبو ذر رضي الله عنه : لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ، يعني متعة النساء ومتعة الحج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء ، قال : أتيت إبراهيم النخعي ، وإبراهيم التيمي فقلت : إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام ، فقال إبراهيم النخعي : لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك ، قال قتيبة : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه أنه مر بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال : إنما كانت لنا خاصة دونكم . وقال البيهقي وغيره من الأئمة : مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة . واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هناد ، يعني ابن السري ، عن ابن أبي زائدة ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن سلم بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم ، وضعفت رواية أبي داود هذه ، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس . وقد قال : عن عبد الرحمن بن الأسود . وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث ، حتى يصح السماع من طريق أخرى . ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين :

    الأولى : أن مشهور مذهب مالك ، وأحمد ، وأبي حنيفة رحمهم الله صحة الاحتجاج بالمرسل ، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، كما قدمناه مرارا .

    والثانية : أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم ، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها ، كما هو مقرر في الأصول . وقد قدمناه مرارا أيضا .

    وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين :

    [ ص: 359 ] الأولى منهما : تضعيف الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود والنسائي وابن ماجه فيه ابنه الحارث بن بلال ، وهو مجهول ، قالوا : وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور : هذا الحديث لا يثبت عندي ، ولا أقول به ، قال : وقد روى فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيا ، أين يقع الحارث بن بلال منهم ؟ قالوا : وحديث أبي ذر عند مسلم موقوف عليه ، وليس بمرفوع ، وإذا كان الأول في سنده مجهول ، والثاني موقوفا ، تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج .

    الجهة الثانية من جهتي رد الحديثين المذكورين : هي أنهما معارضان بأقوى منهما ، وهو حديث جابر المتفق عليه : أن سراقة بن مالك بن جعشم ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل للأبد " وفي رواية في الصحيح : فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : " دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد " ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود ، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج ، قالوا : ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح . وقد قال ابن حجر في التقريب فيه : هو مقبول ، قالوا : واعتضد حديثه بما رواه مسلم عن أبي ذر ، كما رأيته آنفا قالوا : إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه ، فهو حديث صحيح له حكم الرفع ، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره ، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال ، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي ، وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر ، فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه ، وبعده من الكذب ، يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك ، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه ، قالوا : ويعتضد حديث الحارث بن بلال المذكور أيضا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان على الإفراد ، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره ، لما هو معلوم من تقاهم وورعهم ، وحرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور . وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم ، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار ، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم . قالوا : ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف [ ص: 360 ] لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإجابته له بقوله : بل للأبد - لا يستقيم ; لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما ، والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ; لأنهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى ، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين : أن حديث بلال بن الحارث المزني ، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة : التحتم والوجوب ، فتحتم فسخ الحج في العمرة ووجوبه ، خاص بذلك الركب ، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد . وقوله في حديث جابر : بل للأبد ، محمول على الجواز وبقاء المشروعية إلى الأبد . فاتفق الحديثان .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا صوابه في حديث : " بل للأبد " وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين ، هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ؛ وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم ، وحمل التأبيد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة ، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية ، كما لا يخفى .

    واعلم : أن الشافعية والمالكية ، ومن وافقهم يقولون : إن قوله صلى الله عليه وسلم " بل للأبد " لا يراد به فسخ الحج في العمرة ، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج ، وقال بعضهم : المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية والشافعية قول النبي لسراقة : " بل للأبد " ليس هو معناه ، بل معناه : بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة ، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، بل صريح في ذلك .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ





    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (325)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 361 إلى صـ 367



    وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول : ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه : فقال صلى الله عليه وسلم : " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة . " فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه [ ص: 361 ] واحدة في الأخرى وقال : " دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد " . انتهى المراد منه . وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور وجواب النبي له يدل على تأبيد مشروعيته كما ترى ؛ لأن الجواب مطابق للسؤال ، فقول المالكية والشافعية ومن وافقهم بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع ، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح بخلافه كما ترى .

    ودعواهم أن المراد بقوله : " بل لأبد أبد " جواز العمرة في أشهر الحج ، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران - بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى ، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى : أن العمرة اندرجت في الحج ؛ أي اندرج وجوبها في وجوبه ، فلا تجب العمرة ؛ وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة ، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى .

    والصواب إن شاء الله : هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة ، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه .

    وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد : أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ، ما نصه : قلت : لا معارضة بينهم وبينه حتى يقدموا عليه ؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ، ولم يذكروا حكم غيرهم ، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة ، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم . اهـ .

    وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك ، وعلمت أن جوابهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز ، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره ، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته .

    فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ، وكلها ثابتة في الصحيحين وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة بأنه كان مفردا التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا مفردا ، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج ، فصار قارنا ، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه ، وأحاديث القران [ ص: 362 ] عندهم حق ، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا ، وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران ، فلا منافاة . أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا فلا إشكال فيها ; لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج ، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له ، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة " كفعله له . قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز ، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره ، فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته ، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، قالوا : ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا ، لأنهم أحلوا وهو باق على إحرامه ، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم ، بأنه صار معتمرا مع حجه لما أمرهم بالعمرة ، والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي ، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز ، وعمرته التي بها صار قارنا لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم ، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما ، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال ، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك .

    قالوا : وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة ، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك .

    قالوا : وما قاله جماعة من أجلاء العلماء ، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع - لا داعي له ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا متكررا في سنين متعددة : وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست ، وعمرة القضاء عام سبع ، وعمرة الجعرانة عام ثمان ، وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر الحج .

    قالوا : وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كاف غاية الكفاية ، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة . وكذلك قوله : " ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل " المتقدم في حديث عائشة .

    وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه ، تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر - لا شك في أنه ليس بصحيح ، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع ، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة ، والدليل على ذلك هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه ، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث .

    [ ص: 363 ] قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، الحديث . وفيه : فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ؛ أي الحل ؟ قال " الحل كله " : وفي البخاري قال " حله كله " فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح : فتعاظم ذلك عندهم ، دليل على أنه في ذلك الوقت لم يزل عظيما عندهم . ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية ، لما تعاظم الأمر عندهم ، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه ، بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر - دليل على أن العمرة عام ست وعام سبع وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها . وكذلك إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة ، السابق في حديث عائشة . والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مودع حريص على إتمام البيان ، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم .

    وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور : فتعاظم عندهم ؛ أي : لما كانوا يعتقدونه أولا ، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج : فكبر ذلك عندهم . انتهى منه .

    قالوا : ولشدة عظمه عندهم ، لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولا ، حتى غضب عليهم بسبب ذلك . وبذلك كله يتضح لك أن ما كان مستحكما في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر .

    قالوا : وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هديا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره هو مع حجته - أعني قرانه بينهما - أمر محتاج إليه جدا للبيان المذكور .

    ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم يزل بالكلية : ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ : " وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة : يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، فقالوا : ننطلق إلى منى ، وذكر أحدنا يقطر ؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت " الحديث . هذا لفظ البخاري رحمه الله ، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يحلوا : ننطلق إلى [ ص: 364 ] منى ، وذكر أحدنا يقطر ؟ يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى . وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز . وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم ؛ لأن قوله " فتعاظم ذلك عندهم " يحتمل أن يكون موجب التعاظم أنهم كانوا أولا محرمين بحج ، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت " ، الحديث . وفيه : فقالوا : كيف نجعلها متعة ، وقد سمينا الحج ؟ إلى آخر الحديث ، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة ; لأنهم قد سموا الحج ، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت ; لأن حديث جابر المذكور - أعني قوله : فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر - لا يحتمل هذا الاحتمال ، بل معناه : أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم ، لأنه في وقت الحج كما بينا ، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير ، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور ، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا .

    ويبين أيضا أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم ؛ حيث قال رحمه الله في صحيحه : حدثنا ابن نمير ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا ، وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فما ندري أشيء بلغه من السماء ، أم شيء من قبل الناس ؟ فقال " أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم " ، الحديث .

    فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح : فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج لم يزل ، ولولا ذلك لما كبر عليهم ، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج ، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا . وعلى هذا الذي ذكروه ، فالذي استدبره من أمره ، ولو استقبله لم يسق الهدي : هو ملاحظة البيان المذكور ، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع ، وهو مودع ، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور ; لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان ; لأنها ليست مع الحج ، فهي مستقلة عنه ، فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له . وقد [ ص: 365 ] أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم بتفضيل الإفراد على غيره ، من أنواع النسك ، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالا على أفضلية القران أو التمتع ، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
    المسألة الرابعة

    ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك ، وممن قال بهذا أبو حنيفة ، وأصحابه ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، والمزني ، وابن المنذر ، وأبو إسحاق المروزي ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة ، دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجته .

    منها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج " الحديث ، أخرجاه بهذا اللفظ .

    ومنها : ما أخرجه الشيخان متصلا بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير ، عن عائشة : أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء .

    ومنها : ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما من حديث قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر " أنه قرن الحج إلى العمرة ، وطاف لهما طوافا واحدا " ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ومنها : ما رواه الشيخان ، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء . الحديث ، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث ، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير ، وفي الحج . ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور : القران ، بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم وغيره المصرحة بذلك .

    قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين : [ ص: 366 ] أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ، ثم لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه ، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ، ثم تركت الكي فعاد .

    حدثناه محمد بن المثنى وابن بشار ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن حميد بن هلال ، قال : سمعت مطرفا قال : قال لي عمران بن حصين بمثل حديث معاذ .

    وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار . قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن مطرف : قال : بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فاكتم عني ، وإن مت فحدث بها إن شئت : إنه قد سلم علي ، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب الله ، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال رجل برأيه ما شاء .

    وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب ، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فيها رجل برأيه ما شاء . انتهى منه .

    وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع : القران ، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران ; لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج .

    ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة " ففي بعض روايات حديثه ، قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما " الحديث ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران ، ومخالفة ابن عمر له في ذلك ، قائلا : إنه أفرد ، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق ، وعبد العزيز بن صهيب ، وحميد ، أنهم سمعوا أنسا رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهل بهما جميعا : " لبيك عمرة وحجا ، لبيك عمرة وحجا " وقد روى عن أنس رضي الله عنه حديث قران النبي هذا ستة عشر رجلا ، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ، وهم الحسن البصري وأبو قلابة ، وحميد بن هلال ، وحميد بن عبد الرحمن الطويل ، وقتادة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وثابت [ ص: 367 ] البناني ، وبكر بن عبد الله المزني ، وعبد العزيز بن صهيب ، وسليمان التيمي ، ويحيى بن أبي إسحاق ، وزيد بن أسلم ، ومصعب بن سليم ، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين ، وأبو قزعة ، وهو سويد بن حجر الباهلي .

    ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وعن أبيها ، قالت : يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " . انتهى منهما بلفظه . وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك ، كما جزم به النووي في شرح مسلم .

    ومنها : ما رواه البخاري في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق ، يقول : " أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة " . اهـ . وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة ، يدل على القران ، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور . بل معناه القران كما ذكرنا وجزم به غير واحد ، والله تعالى أعلم ، والأحاديث بمثل ما ذكرنا كثيرة .

    وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد منها بضعة وعشرين حديثا ، عن سبعة عشر صحابيا ، وهم جابر ، وعائشة ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، والبراء بن عازب ، وحفصة أم المؤمنين ، وأبو قتادة ، وابن أبي أوفى وأبو طلحة ، والهرماس بن زياد ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا ، وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران ، مع ما ثبت عنه من النهي عنه ، يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران .

    وبالجملة : فثبوت كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا طرفا منها - لا مطعن فيه ، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث بأنه أحرم أولا مفردا ، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا . والذين قالوا بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا في ابتداء إحرامه ، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ





    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (326)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 368 إلى صـ 374



    منها : حديث ابن عمر المتفق عليه ، وقد قدمناه في هذا المبحث ، وفيه : وبدأ [ ص: 368 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ؛ وهو تصريح منه رضي الله عنه بأنه أهل بالعمرة قبل الحج . ومنها : حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري ، وقد قدمناه أيضا وفيه : " وقل عمرة في حجة " ، وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه ، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد والأحاديث الواردة بالقران والأحاديث الواردة بالتمتع ، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد ، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد : إفراد أعمال الحج ؛ لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد ، فيطوف لهما طوافا واحدا ، ويسعى لهما سعيا واحدا ، على أصح الأقوال وأقواها دليلا .

    وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح ؛ لأن الصحابة يطلقون التمتع على القران كما قدمنا في حديث عمران بن حصين ، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما ، وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ، فقال عثمان : دعنا منك ، فقال : إني لا أستطيع أن أدعك ، فلما رأى ذلك علي أهلهما جميعا . فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم ، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم ، وأقره عثمان ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك .

    ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث ، فإن في لفظه عند الشيخين : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى ، فساق الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج " فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران .
    المسألة الخامسة

    اعلم : أن حجة من قال بأن التمتع أفضل مطلقا ، ومن قال بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي ، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد ، هي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم في عمرة ، كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها ، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه على سوقه للهدي الذي كان سببا لعدم تحلله بالعمرة معهم . قالوا : لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك لما أمر به أصحابه ، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " .

    [ ص: 369 ] تنبيهات

    التنبيه الأول :

    اعلم أن دعوى من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا التمتع المعروف ، وأنه حل من عمرته ثم أحرم للحج - باطلة بلا شك . وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه كان قارنا ، وأنه لم يحل حتى نحر هديه ، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها ، وعن أبيها .

    فإن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " والأحاديث بمثله كثيرة . وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة هو ما أخرجه مسلم في صحيحه :

    حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس قال : قال ابن عباس : قال معاوية : أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص ؟ قلت له : لا أعلم هذا إلا حجة عليك . وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، حدثني الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس : أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة - أو : رأيته يقصر عنه بمشقص - وهو على المروة . انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ : قال : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ، فالاستدلال بهذا الحديث على أن النبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين : الأول : أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع ، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها .

    التنبيه الثاني

    ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات ، بعد أن نحر هديه . وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا ، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا كما سبق إيضاحه ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى ، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس . فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء [ ص: 370 ] الواقعة سنة سبع من الهجرة ; لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما ، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان ، هذا هو الصحيح المشهور ، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع ، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ; لأن هذا غلط فاحش ، فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي " وفي رواية : " حتى أحل من الحج " والله تعالى أعلم . انتهى كلام النووي ، ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع لا يصح بحال ، والعلم عند الله تعالى .

    التنبيه الثالث

    اعلم أن دعوى من ادعى أنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلا من أحرم بالعمرة وحدها ، وأن من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة ، لم يحل أحد منهم حتى كان يوم النحر - دعوى باطلة أيضا ; لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بكل الوضوح والصراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل من لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة ، سواء كان مفردا أو قارنا ، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر . انتهى منه ; لأن الذين لم يحلوا من القارنين والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم .

    التنبيه الرابع

    اعلم أن دعوى من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أحرم إحراما مطلقا ، ولم يعين نسكا ، وأنه لم يزل ينتظر القضاء ، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة - أنها دعوى غير صحيحة ، وإن قال الإمام الشافعي في اختلاف الحديث : إن ذلك ثابت عن [ ص: 371 ] النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن الروايات المتواترة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة ، من إفراد أو قران أو تمتع ، لا تمكن معارضتها لقوتها وتواترها ، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة ، وإن اختلف في نوعه ، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك ، منها حديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نذكر حجا ولا عمرة . وفي لفظ : يلبي ولا يذكر حجا ولا عمرة ، ونحو ذلك من الأحاديث ، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة . وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة ، فأفاد وأجاد ، والعلم عند الله تعالى .

    التنبيه الخامس

    اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفردا والواردة بأنه كان قارنا والواردة بأنه كان متمتعا لا يمكن الجمع البتة بينها ، إلا الواردة منها بالتمتع والواردة بالقران ، فالجمع بينهما واضح ; لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران ، كما هو معروف عنهم ، ولا يمكن النزاع فيه ، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع قد يطلق عليه أنه تمتع ; لأن أمره بالشيء كفعله إياه . أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران ، فادعاء إمكان الجمع بينها غلط ، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء .

    واختلفوا في وجه الجمع على قولين كما أوضحناه ، فمنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها أنه أحرم أولا مفردا ، وأحاديث القران يراد بها أنه بعد إحرامه مفردا أدخل العمرة على الحج ، فصار قارنا فصدق هؤلاء باعتبار أول الأمر ، وصدق هؤلاء باعتبار آخره ، مع أن أكثرهم يقولون : إن إدخال العمرة على الحج خاص به صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز لغيره ، وهذا الجمع قال به أكثر المالكية والشافعية . وقال النووي : لا يجوز العدول عنه . ومنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها : إفراد أعمال الحج ، والقارن يعمل في سعيه وطوافه كعمل المفرد على أصح الأقوال وأقواها دليلا . وكلا الجمعين غلط مع كثرة وجلالة من قال به من العلماء . وإنما قلنا : إنهما كليهما غلط ؛ لأن المعروف في أصول الفقه وعلم الحديث أن الجمع لا يمكن بين نصين متناقضين تناقضا صريحا ، بل الواجب بينهما الترجيح ، وإنما يكون الجمع بين نصين ، لم يتناقضا تناقضا صريحا ، فيحمل كل منهما على محمل ، ليس في الآخر التصريح بنقيضه ، فيكونان صادقين ، ولأجل هذا [ ص: 372 ] فجميع العلماء يقولون : يجب الجمع إن أمكن ، ومفهوم قولهم : إن أمكن ، أنهما إن كانا متناقضين تناقضا صريحا ، لا يمكن الجمع بينهما ، بل يجب المصير إلى الترجيح . فإذا علمت هذا فاعلم أن أحاديث الإفراد صريحة في نفي القران والتمتع ، لا يمكن الجمع بينهما أبدا وبين أحاديثهما ، فابن عمر رضي الله عنهما في حديثه الصحيح المتقدم يكذب أنسا في دعواه القران تكذيبا صريحا المرة بعد المرة ، كما رأيته سابقا ، فكيف يمكن الجمع بين خبرين والمخبران بهما كل منهما يكذب الآخر تكذيبا صريحا ، فالجمع في مثل هذا محال ، ومن ادعى إمكانه فقد غلط كائنا من كان ، بالغا ما بلغ من العلم والجلالة . وعائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح المتقدم تقول : فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، فذكرها الأقسام الثلاثة وتصريحها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بواحد معين منها ، لا يمكن الجمع بينه وبين خبر من قال : إنه أحرم بقسم من القسمين الآخرين ، كما ترى ، وفي بعض الروايات : أحرم بالحج خالصا ، وفي بعضها : أحرم بالحج وحده ، وفي بعضها : لا نعرف العمرة إلخ . وأحاديث القران فيها التصريح بأنه يقول : لبيك حجا وعمرة ، فالجمع بينها لا يمكن بحال إلا على قول من قال : إنه كان قارنا يلبي بهما معا ، وسمع بعضهم الحج والعمرة معا وسمع بعضهم الحج دون العمرة ، وبعضهم العمرة دون الحج ، فروى كل ما سمع ، وعلى أن الجمع غير ممكن ، فالمصير إلى الترجيح واجب ، ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة ، منها كثرة من رواها من الصحابة ، وقد قدمنا عن ابن القيم أنها رواها سبعة عشر صحابيا ، وأحاديث الإفراد لم يروها إلا عدد قليل ، وهم : عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، وأسماء ، وكثرة الرواة من المرجحات ، قال في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :


    وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية


    كما قدمناه في " البقرة " .

    ومنها : أن من روي عنهم الإفراد ، روي عنهم القران أيضا ، ويكفي في أرجحية أحاديث القران أن الذين قالوا بأفضلية الإفراد معترفون بأن من رووا القران صادقون في ذلك ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا باتفاق الطائفتين ، إلا أن بعضهم يقولون : إنه لم يكن قارنا في أول الأمر ، وإنما صار قارنا في آخره ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أن أحاديث القران أرجح من خمسة عشر وجها ، فلينظره من أراد الوقوف عليها .

    وقد علمت مما تقدم أن القائلين بأفضلية الإفراد يقدحون في دلالة أحاديث القران [ ص: 373 ] على أفضليته على الإفراد بالقادح المعروف في الأصول بالقول بالموجب ، فيقولون : سلمنا أنه كان قارنا مع بقاء نزاعنا في أفضلية القران على الإفراد ; لأن قرانه وأمره أصحابه بالتمتع ، لم يكن لأفضلية القران والتمتع في حد ذاتيهما على الإفراد ، بل هما في ذلك الوقت أفضل لسبب منفصل ، وإن كان الإفراد أفضل منهما في حد ذاته لما قدمنا من أن الفعل المفضول أو المكروه إذا كان لبيان الجواز كان أفضل بهذا الاعتبار من الفعل الذي هو أفضل منه في حد ذاته ، كما قدمنا إيضاحه .

    وقد قدمنا أدلة من قال بهذا كحديث بلال بن الحارث المزني في السنن ، وحديث أبي ذر في مسلم أن ذلك كان خاصا بذلك الركب في حجة الوداع ، وعمل الخلفاء الراشدين نحو أربع وعشرين سنة ، وغيرهم من المهاجرين والأنصار من أفاضل الصحابة ، كما ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما ، وثبت عن الخلفاء الراشدين : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان في الصحيحين وغيرهما ذلك ، وقد قدمنا أن الآثار والأحاديث التي ذكرها ابن حزم عنهم مخالفة لذلك ، لا يلتفت إليها مع الروايات الثابتة في الصحيحين ، القاضية بخلافها ، فإن قيل سلمنا تسليما جدليا أن القران من النبي صلى الله عليه وسلم والتمتع الواقع من الصحابة بأمره في حجة الوداع كانا لأجل بيان الجواز ، فاللازم أن تكون مشروعية أفضليتهما باقية كالرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى ، فإنه صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به لسبب خاص ، وهو أن يري المشركين قوة الصحابة ، وأنهم لم يضعفهم مرض ، ومع كون ذلك لهذا السبب فمشروعية سنيته باقية ، فليكن قرانه وتمتع أصحابه بأمره لذلك السبب كذلك .

    فالجواب : أن الرمل المذكور لم يرد فيه دليل يدل على خصوصه بذلك الوقت ، بل ثبت ما يدل على بقاء مشروعيته ، وهو رمله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد زوال السبب ، والتمتع والقران المذكوران وردت فيهما أدلة تدل على خصوصهما بذلك الركب كحديث بلال بن الحارث المزني ، وحديث أبي ذر ، إلى آخر ما تقدم . وقد قدمنا مناقشة من ضعف الأول بأن الحارث بن بلال راوي الحديث عن أبيه مجهول ، وأن حديث أبي ذر موقوف .

    وبالجملة : فإنه يبعد كل البعد أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يتواطئون واحدا بعد واحد في نحو أربع وعشرين سنة على إفراد الحج متعمدين لمخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وجميع الصحابة حاضرون ولم ينكر منهم أحد ، فهذه دعوى باطلة ومقتضاها : [ ص: 374 ] أن الأمة جميعها وخلفاءها الراشدين مكثت هذا الزمن الطويل وهي على باطل ، فهذا باطل بلا شك .

    واعلم أن قول عمران بن حصين رضي الله عنه في حديثه المتقدم معرضا بعمر رضي الله عنه : قال رجل برأيه ما شاء ، يعني به نهي عمر عن التمتع ، أما إفراده الحج في زمن خلافته فلم ينكره هو ولا غيره . ومذهب ابن عباس رضي الله عنهما في أن من طاف حل بعمرة شاء أو أبى ، مذهب مهجور خالفه فيه الصحابة والتابعون فمن بعدهم ، فهو كقوله بنفي العول وبأن الأم لا يحجبها من الثلث إلى السدس ، أقل من ثلاثة .

    فإن قيل : مذهبه هذا ليس كذلك ; لأنه دلت عليه نصوص .

    فالجواب هو ما ذكرنا من حجج من خالفوه وهم عامة علماء الأمة ، والعلم عند الله تعالى .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي في هذه المسألة هو ما اختاره العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في منسكه ، وهو إفراد الحج بسفر ينشأ له مستقلا ، وإنشاء سفر آخر مستقل للعمرة .

    فقد قال رحمه الله في منسكه :

    إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة البتة ، وإنما قال : إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما ، فاختار عمر لهم أفضل الأمور ، وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى . وقد نص على ذلك أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك والشافعي وغيرهم ، وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكان عمر يختاره للناس ، وكذلك علي ، وقال عمر وعلي في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها : " أجرك على قدر نصبك " فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله ، فأنشأ العمرة منها ، واعتمر قبل أشهر الحج ، وأقام حتى يحج ، أو اعتمر في أشهره ورجع إلى أهله ثم حج ، فهاهنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله . وهذا إتيان بهما على الكمال ، فهو أفضل من غيره . انتهى منه بواسطة نقل تلميذه ابن القيم في الزاد . فترى هذا المحقق صرح بأن إفراد كل منهما بسفر أفضل من التمتع والقران ، وأن الأئمة الأربعة متفقون على ذلك ، وأن عمر وعليا يريان ذلك عملا بنص القرآن العظيم ، وبذلك تعلم أن قول بعض المتأخرين بمنع الإفراد مطلقا مخالف للصواب كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (327)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 375 إلى صـ 381



    المسألة السادسة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب :

    الأول : أن على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا ، وأن ذلك يكفيه لحجه وعمرته ، وأن على المتمتع طوافين وسعيين ، وهذا مذهب جمهور العلماء ; منهم مالك والشافعي ، وأحمد في أصح الروايات .

    الثاني : أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .

    الثالث : أنهما معا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد ، وهو مروي عن الإمام أحمد . أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد ، وهو طواف الإفاضة ، وسعي واحد ، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها .

    منها : ما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله : حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا بهز ، حدثنا وهب ، حدثنا عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها أهلت بعمرة ، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت ، فنسكت المناسك كلها ، وقد أهلت بالحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولا ، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح بأنها قارنة حيث قال : " لحجك وعمرتك " ، ومع ذلك صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد .

    وقال مسلم رحمه الله أيضا في صحيحه : وحدثني حسن بن علي الحلواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني إبراهيم بن نافع ، حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها حاضت بسرف ، فتطهرت بعرفة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " . اهـ منه .

    فهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد .

    ومنها : حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه ، قال البخاري رحمه الله في [ ص: 376 ] صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال : إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال . فقال : فيصدوك عن البيت ، فلو أقمت ؟ فقال : قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ثم قال : أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجا ، قال : ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا .

    حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، وإنا نخاف أن يصدوك ؟ فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ولم يزد على ذلك ، فلم ينحر ، ولم يحل من شيء حرم منه ، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وفي هذا الحديث الصحيح التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل . وبعض العلماء حمل الطواف المذكور ، على طواف الإفاضة ، وبعضهم حمله على الطواف بين الصفا والمروة . أما حمله على طواف القدوم فباطل بلا شك ; لأن النبي لم يكتف بطواف القدوم ، بل طاف طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين .

    وقال الكرماني في شرح الحديث المذكور ، فإن قلت : ما المقصود من الطواف الأول إذ لا يجوز أن يراد به طواف القدوم ؟

    قلت : يعني أنه لم يكرر الطواف للقران ، بل اكتفى بطواف واحد ، وقد أخرج حديث ابن عمر هذا مسلم في صحيحه من طرق متعددة ، وفي لفظ منها : أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة ، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا ، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر . اهـ .

    وقال النووي : معناه : حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة . وفي بعض روايات مسلم لحديث ابن عمر هذا : أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم [ ص: 377 ] يزد على ذلك ، ولم ينحر ، ولم يحلق ، ولم يقصر ، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وهو صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن مراد ابن عمر في قوله : ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، في مسلم والبخاري ، هو الطواف بين الصفا والمروة ، ويدل على ذلك أمران :

    الأول منهما : هو ما قدمنا في بعض روايات مسلم في صحيحه مما لفظه : ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة ، ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة . أما السعي في الحجة ، فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم ، فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة ، بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر ، وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة ، فبدونه لا تسمى حجة ; لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] .

    الأمر الثاني الدال على ذلك هو : أن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته ، وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق ، فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه ، على أن القارن يعمل كعمل المفرد ، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة الآتي ، فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة ؛ لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة .

    وقال ابن حجر في الفتح في كلامه على الروايتين اللتين أخرج بهما البخاري حديث ابن عمر المذكور - أعني اللتين سقناهما آنفا - ما نصه : والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد ، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع ، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد " وأعله الطحاوي بأن [ ص: 378 ] الدراوردي أخطأ فيه ، وأن الصواب أنه موقوف ، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب ، والليث ، وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب ، من أن ذلك وقع لابن عمر ، وأنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو إعلال مردود ، فالدراوردي صدوق ، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره ، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين . انتهى كلام ابن حجر في الفتح .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس بموقوف على كلا التقديرين ; لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافا واحدا ، أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وهذا عين الرفع ، فلا وقف البتة كما ترى ، وحديث ابن عمر هذا الذي ذكر ابن حجر في الفتح ، أن سعيد بن منصور أخرجه - أصرح من حديثي الباب عند البخاري ، قال فيه المجد في المنتقى : رواه أحمد وابن ماجه ، وفي لفظ : من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه .

    ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى . وهو نص صريح متفق عليه دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته .

    وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة ، وله وجه من النظر ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

    ومنها : حديث جابر الذي قدمناه عند مسلم ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج . مرتين " وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران ، وإن أوله جماعات من أهل العلم بتأويلات أخر متعددة .

    والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد كثيرة ، وفيما ذكرنا هنا من الأحاديث الصحيحة كفاية لمن يريد الحق ، وهذا الذي ذكرناه بعض أدلة القائلين بالفرق بين القران والتمتع ، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجه . وقد رأيت ما ذكر من أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد .

    [ ص: 379 ] أما أدلة هذه الطائفة على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين ، طواف وسعي لعمرته ، وطواف وسعي لحجه . فمنها : ما رواه البخاري في صحيحه قال : وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري : حدثنا أبو معشر ، حدثنا عثمان بن غياث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، وقال : " من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله " ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك ، جئنا فطفنا بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وقد تم حجنا وعلينا الهدي . الحديث .

    فهذا الحديث الثابت في صحيح البخاري فيه الدلالة الواضحة على أن الذين تمتعوا وأحلوا من عمرتهم طافوا وسعوا لعمرتهم ، وطافوا وسعوا مرة أخرى لحجهم ، وهو نص في محل النزاع .

    واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد ، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ : " وقال أبو كامل " لها حكم التعليق - غير مسلمة ، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أن الراوي إذا قال : قال فلان ، فحكم ذلك كحكم ( عن فلان ) ونحو ذلك ، فالرواية بذلك متصلة ، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس ، وكان معاصرا لمن روى عنه بـ " قال " ونحوها ؛ ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال : إن قول البخاري في أول الإسناد : وقال هشام بن عمار ، تعليق وليس الحديث بمتصل ، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال ; لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري ، والبخاري غير مدلس ، فقوله عن شيخه : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، وكل ذلك موصول لا معلق .

    واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب : إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقا ، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين ; لأن قوله : وقال أبو كامل في حكم ما لو قال : عن أبي كامل ، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين ، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب . وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور : ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه ، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه ، ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع . انتهى منه .

    [ ص: 380 ] ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين . وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين ، وله اثنان وستون سنة ، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا ، وقد قال العراقي في ألفيته :


    وإن يكن أول الإسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقا ألف ولو إلى آخره أما الذي
    لشيخه عزا بـ " قال " فكذي عنعنة كخبر المعازف
    لا تصغ لابن حزم المخالف

    وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل ، لا من قبيل المعلق ، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا :


    وصححوا وصل معنعن سلم من دلسه راويه واللقا علم
    وبعضهم حكى بذا إجماعا ومسلم لم يشرط اجتماعا
    لكن تعاصرا وقيل يشترط طول صحابة وبعضهم شرط
    معرفة الراوي بالأخذ عنه وقيل كل ما أتانا منه
    منقطع حتى يبين الوصل وحكم أن حكم عن فالجل
    سووا وللقطع نحا البرديجي حتى يبين الوصل في التخريج
    قال ومثله رأى ابن شيبة كذا له ولم يصوب صوبه
    قلت الصواب أن من أدرك ما رواه بالشرط الذي تقدما
    يحكم له بالوصل كيفما روى بقال أو عن أو بأن فوا
    وما حكى عن أحمد بن حنبل وقول يعقوب على ذا نزل
    وكثر استعمال عن في ذا الزمن إجازة وهو بوصل ما قمن


    انتهى منه .

    فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة باستواء : قال فلان ، و : عن فلان ، وأن فلانا قال كذا ، وأن الجميع من قبيل الوصل ، لا من قبيل المعلق بالشروط المذكورة . وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله :

    وقيل كل ما أتانا عنه منقطع . . . إلخ

    وبه تعلم أن قول البخاري : وقال أبو كامل فضيل بن حسين . . . إلخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق .

    [ ص: 381 ] وقال صاحب تدريب الراوي : أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، و : زاد فلان ، ونحو ذلك ، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه ومن فوقهم ، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس ، كذا جزم به ابن الصلاح ، قال : وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا ، وأضاف إليه قول البخاري : وقال فلان ، وزاد فلان ، فوسم كل ذلك بالتعليق ، قال العراقي : وما جزم به ابن الصلاح هاهنا هو الصواب ، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق : قال عفان كذا ، وقال القعنبي كذا ، وهما من شيوخ البخاري . والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد ، والمزي ، أن لذلك حكم العنعنة ، قال ابن الصلاح هنا : وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري ، وهو أعرف بالبخاري : كل ما قال البخاري : قال لي فلان أو قال لنا فلان ، فهو عرض ومناولة . انتهى محل الغرض منه . والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيري في قول العراقي في ألفيته .

    ناولة

    واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول : قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق .

    قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلا عن ابن الصلاح ، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر ، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " من جهة أن البخاري أورده قائلا : قال هشام بن عمار ، وساقه بإسناده ، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام ، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف ، وأخطأ في ذلك في وجوه . والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا ، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع . انتهى منه .

    وكون البخاري رحمه الله يعبر بـ " قال فلان " لأسباب كثيرة غير التعليق يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند ، دعوى لم يعضدها دليل .

    وقال ابن حجر في الفتح أيضا في شرح الحديث المذكور : وحكى ابن الصلاح في [ ص: 382 ] موضع آخر : أن الذي يقول البخاري فيه : قال فلان ، ويسمي شيخا من شيوخه ، يكون من قبيل الإسناد المعنعن . وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة . وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة . اهـ . وهو صريح في أن قوله : قال فلان لا يستلزم التعليق .

    فإن قيل : توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ .

    فالجواب من وجهين :

    الأول : أنه لا مانع عقلا ولا عادة ، ولا شرعا من أن يكون روى ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضا بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة : قال ، المشار إليها آنفا ، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك .

    الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق ولا تقتضي الاتصال ، فتعليق البخاري بصيغة الجزم حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح ، كما هو معروف .

    وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه : وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم ، يكون صحيحا إلى من علق عنه ، ولو لم يكن من شيوخه . انتهى محل الغرض منه .

    فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة ، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق وسعيها - نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (328)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 382 إلى صـ 388





    ومنها : ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مما يدل على أن المتمتع يطوف لحجه بعد رجوعه من منى ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه قالت : فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا [ ص: 383 ] آخر بعد أن رجعوا من منى ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . اهـ منه .

    وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، قال : قرأت على مالك عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع . الحديث ، وفيه : فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم : وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى منه .

    فهذا نص صريح متفق عليه ، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع ، وأن القارن يفعل كفعل المفرد ، والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه ، فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث ، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري ، وقول من قال : إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا : السعي له وجه من النظر ، واختاره ابن القيم ، وهو وجيه عندي .

    فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

    أما من قال : إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، ( ح ) ، وحدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . زاد في حديث محمد بن بكر : طوافه الأول . انتهى منه .

    قال من تمسك بهذا الحديث : هذا نص صحيح ، صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا ، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن ، وهو من كان معه الهدي ، وفيهم المتمتع ، وهو من لم يكن معه هدي ، وإذا ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد .

    وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة :

    الأول : هو أن الجمع واجب إن أمكن ، قالوا : وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر [ ص: 384 ] هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافا واحدا للعمرة والحج ، خصوص القارنين منهم ، كالنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه كان قارنا بلا شك ، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة وحديث ابن عباس المتقدمين ، وهذا واضح كما ترى . قال في مراقي السعود :


    والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا


    وإنما كان قول العلماء كافة : أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، كما هو معروف في الأصول .

    الجواب الثاني : أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات عن جابر عند مسلم بلفظ لا يمكن فيه الجمع المذكور ، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يكن معه هدي فليحلل ، قال : قلنا : أي الحل ؟ قال : الحل كله . قال : فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج ، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر ; كل سبعة منا في بدنة " . انتهى .

    ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية لا يمكن حمله على القارنين بحال ; لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله ، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب ، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج ، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة ، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى ، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه .

    وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي ، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة - لأنهما مثبتان - على حديث جابر النافي .

    الجواب الثالث : أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده ، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس وعائشة ، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد . [ ص: 385 ] قال في مراقي السعود ، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :


    وكثرة الدليل والروايه مرجح لدى ذوي الدرايه


    وأما من قالوا : إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان ، طواف وسعي للعمرة ، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ، ومن وافقه ، فقد استدلوا لذلك بأحاديث ، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا ، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين .

    فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته ، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى ، ومسند علي ، عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال : طفت مع أبي ، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وحدثني أن عليا فعل ذلك ، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية ، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا : قال صاحب التنقيح : وحماد هذا ضعفه الأزدي ، وذكره ابن حبان في الثقات . قال بعض الحفاظ : هو مجهول ، والحديث من أجله لا يصح . انتهى .

    ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معا : ما أخرجه الدارقطني ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حجته وعمرته معا ، وقال سبيلهما واحد ، قال : فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . انتهى ، وأخرجه عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن علي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين ، وسعى سعيين . انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية . ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا .

    قال الدارقطني : لم يروهما غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ، ثم أخرجه ، عن الحسن بن عمارة ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافا واحدا ، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين . انتهى .

    وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال : حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي ، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال : قلت لأبي داود الطيالسي : إن محمد بن الحسن صاحب الرأي ، حدثنا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم عن ابن أبي [ ص: 386 ] ليلى ، عن علي قال : فذكره . فقال أبو داود : من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة ، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، عن حفص بن أبي داود ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي بنحوه ، قال : وحفص هذا ضعيف ، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم . وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين . انتهى . قال : وعيسى بن عبد الله ، يقال له : مبارك ، وهو متروك الحديث . انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله .

    ومن أدلتهم على ذلك : ما أخرجه الدارقطني ، عن أبي بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته . وحجه طوافين وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . قال الدارقطني : وأبو بردة متروك ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء .

    ومن أدلتهم أيضا : ما أخرجه الدارقطني أيضا ، عن محمد بن يحيى الأزدي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف ، عن عمران بن الحصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين . انتهى . قال الدارقطني : يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه ، فوهم في متنه ، والصواب بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج ، والعمرة ، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي ، وحدث به على الصواب . كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز ، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن . انتهى قال : وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف ، ولا السعي ، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل ، ومحمد بن مخلد قالا : ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ا هـ . انتهى كله من نصب الراية .

    وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن ، ليس فيها حديث قائم كما رأيت .

    وقال ابن حجر في فتح الباري واحتج الحنفية بما روي عن علي : أنه جمع بين الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق ، والدارقطني ، وغيرهما ضعيفة ، [ ص: 387 ] وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه ، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك ، وفيه الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، والمخرج في الصحيحين ، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد . وقال البيهقي : إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين ، فيحمل على طواف القدوم ، وطواف الإفاضة . وأما السعي مرتين فلم يثبت ، وقال ابن حزم : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا . انتهى محل الغرض منه .

    وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : وأما من قال : إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى سعيين ، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حج ، وعمرة معا ، وقال : سبيلهما واحد . قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع ، كما صنعت . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنه جمع بينهما ، وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . وعن علي رضي الله عنه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين ، وعن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين ، وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين ، وسعى سعيين ، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة ، بل لا يصح منها حرف واحد . أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة ، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علي الأول ففيه حفص بن أبي داود ، وقال أحمد ، ومسلم : حفص متروك الحديث . وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف . وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له مبارك ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علقمة ، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة . قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء . انتهى . وفيه عبد العزيز بن أبان . قال يحيى : هو كذاب خبيث ، وقال الرازي ، والنسائي : متروك الحديث . وأما حديث عمران بن حصين : فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه ، وقد حدث به على الصواب مرارا ، ويقال : إنه رجع عن ذكر [ ص: 388 ] الطواف والسعي . انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم .

    فإذا عرفت أن أحاديث السعيين ، والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت ، فاعلم أن الذين قالوا : بأن القارن يطوف طوافا ، ويسعى سعيا كفعل المفرد ، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين .

    الأول : هو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي ، وابن حجر ، وابن القيم ، عن الدارقطني ، وغيره من أوجه ضعفها .

    والثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضا ، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فهي معارضة بما هو أقوى منها ، وأصح ، وأرجح ، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح ، الدالة على أن النبي لم يفعل في قرانه . إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه ، وحديث ابن عباس عند البخاري ، وكالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " يكفيك طوافك بالبيت ، وبالصفا ، والمروة لحجك وعمرتك " كما قدمناه واضحا ، وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة : أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج ، وأن المتمتع يطوف ، ويسعى لعمرته ، ثم يطوف ويسعى لحجته ، ومما يوضح من جهة المعنى : أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى أنه يهل بالحج بالإجماع .

    والحج يدخل في معناه دخولا مجزوما به الطواف والسعي ، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها وسعيها ، لكان إهلاله بالحج إهلالا بحج ، لا طواف فيه ولا سعي ، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع ، والعلم عند الله تعالى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (329)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 389 إلى صـ 395





    فروع تتعلق بهذه المسألة

    الفرع الأول : اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود ، فيستقبله ، ويستلمه ، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة ، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر ، وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ، ثم يبتدئ طوافه مارا بجميع بدنه على جميع الحجر ، جاعلا يساره إلى جهة البيت ، ثم يمشي طائفا بالبيت ، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ، ويدور بالبيت . فيمر على الركن اليماني ، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود ، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه ، فتتم له بهذا طوافة واحدة ، ثم [ ص: 389 ] يفعل كذلك ، حتى يتمم سبعا .

    وأصح أقوال أهل العلم فيما يظهر لنا والله أعلم : أنه لا بد من أن يكون خارجا جميع بدنه ، حال طوافه عن شاذروان الكعبة ; لأنه منها ، وكذلك لا بد أن يكون خارجا جميع بدنه حال طوافه عن جدار الحجر ; لأن أصله من البيت ، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم ، ولأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين ; لأن أصلهما من وسط البيت ; لأن قريشا لم تبن ما كان عن شمالهما من البيت ، وهو الحجر الذي عليه الجدار ، وأصله من البيت كما بينا ، ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، عن عائشة رضي الله عنها .

    قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر ، لفعلت " . قال عبد الله رضي الله عنه : لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم . وفي رواية عنها في صحيح البخاري قالت : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر ، أمن البيت هو ؟ قال : نعم ، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : ألم تري قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت ، وأن ألصق بابه بالأرض " اهـ . والمراد بالجدر بفتح الجيم ، وسكون الدال المهملة هنا : الحجر . وفي رواية عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أيضا قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حداثة قومك بالكفر ، لنقضت البيت ، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام ، فإن قريشا استقصرت بناءه ، وجعلت له خلفا " قال أبو معاوية : حدثنا هشام خلفا يعني : بابا . وفي رواية عنها فيه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : " يا عائشة ، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم " فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه ، وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير : فقلت له : أين [ ص: 390 ] موضعه ؟ قال : أريكه الآن . فدخلت معه الحجر ، فأشار إلى مكان ، فقال : ههنا ، قال جرير : فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها . انتهى من صحيح البخاري ، وزيد المذكور هو ابن رومان ، وجرير هو ابن حازم ، وهما مذكوران في سند الحديث المذكور . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة . عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا حداثة عهد قومك بالكفر ، لنقضت الكعبة ، ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا " . ا هـ وقال النووي خلفا ؛ أي : بابا من خلفها ، وفي رواية عنها فيه أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " قالت : فقلت : يا رسول الله ، أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم . وفي رواية عنها فيه أيضا قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، أو قال : بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر " . وفي رواية عنها فيه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا وستة فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة " انتهى من صحيح مسلم . وحديثها هذا المتفق عليه الذي ذكرنا بعض رواياته في الصحيحين ، نص صريح فيما ذكرنا وبه تعلم أن قول من زعم من أهل العلم أن من سلك نفس الحجر في طوافه ، ثم رجع إلى بلده ، لزمه دم مع صحة طوافه غير صحيح لما رأيت من أن الحجر من البيت ، وأن الطواف فيه ليس طوافا بالبيت . والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الثاني : يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم ، إلى مكة ، سواء كان طواف عمرة ، أو طواف قدوم في حج ، وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها ، ولا يرمل ، وذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما .

    قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد هو ابن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب ، [ ص: 391 ] فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . ثم قال البخاري رحمه الله : حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرني ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود ، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع . ثم قال البخاري رحمه الله : حدثني محمد ، حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا فليح ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة في الحج والعمرة ، تابعه الليث . قال : حدثني كثير بن فرقد ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن : أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك ، فاستلمه ، ثم قال : فما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين ، وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا نحب أن نتركه . انتهى منه ، وفي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، عند مسلم : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، الحديث . وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول ، يخب ثلاثة أطواف ، ويمشي أربعة ، وأنه كان يسعى بطن المسيل ، إذا طاف بين الصفا والمروة " وفي لفظ عند البخاري ، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول ، خب ثلاثا ومشى أربعا ، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة " زاد مسلم : وكان ابن عمر يفعل ذلك .

    وبهذه النصوص الصحيحة يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف العمرة وطواف القدوم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك عامة أهل العلم إلا من شذ ، وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب . ولا يلزم بتركه دم على الأظهر لعدم الدليل ، خلافا لمن أوجب فيه الدم .

    تنبيهان

    الأول : إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها ، والغالب اطراد العلة وانعكاسها ، بحيث يدور معها المعلل بها ، وجودا وعدما ؟

    [ ص: 392 ] فالجواب : أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته ، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى ، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف ، كما قال تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية [ 8 \ 26 ] وقال تعالى عن نبيه شعيب : واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم الآية [ 7 \ 86 ] .

    وصيغة الأمر في قوله : اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك ، وإذا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل ، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف . والكثرة بعد القلة ، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح ، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة ، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها ، والعلم عند الله تعالى .

    التنبيه الثاني : اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف ; لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه ، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه : فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . ولفظه عند مسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب . قال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلي الحجر ، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا .

    قال ابن عباس : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان : فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين ، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله : فجلسوا مما يلي الحجر ، يعني : أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء ، وإذا فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه ، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا ، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها ، من الحجر إلى الحجر .

    ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه : قال : " رمل [ ص: 393 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ، ومشى أربعا " وفي لفظ في صحيح مسلم أيضا ، عن نافع : أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله . وفي لفظ عند مسلم أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود ، حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ، وفيه عن جابر أيضا بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر .

    والجواب عن هذا الذي ذكرنا من اختلاف الروايات : أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع ، وما في الروايات الأخرى من الرمل في كل شوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع ، كما أجاب بهذا غير واحد .

    وقال النووي في شرح مسلم : إن رمله صلى الله عليه وسلم في كل الشوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع ناسخ للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس لأنه متأخر عنه ، والمتأخر ينسخ المتقدم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يتعين النسخ الذي ذكره النووي ، لما تقرر في الأصول عن جماعة من العلماء ، أن الأفعال لا تعارض بينها ، فلا يلزم نسخ الآخر منها للأول ، بناء على أن الفعل لا عموم له ، فلا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا ، حتى ينافي فعلا آخر ، فجائز أن يقع الفعل واجبا في وقت ، وفي وقت آخر بخلافه .

    قال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : مسألة : الفعلان لا يتعارضان كصوم وأكل لجواز تحريم الأكل في وقت ، وإباحته في آخر . إلخ ، ومحل عدم تعارض الفعلين المذكور ما لم يقترن بالفعلين قول يدل على ثبوت الحكم ، وإلا كان آخر الفعلين ناسخا للأول عند قوم ، وعند آخرين لا يكون ناسخا ، كما لو لم يقترن بهما قول ، وعن مالك ، والشافعي يصار إلى الترجيح بين الفعلين ، إن اقترن بهما القول وإن لم يترجح أحدهما ، فالتخيير بينهما . مثال الفعلين اللذين لم يقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم مشيه صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين ورمله في غير ذلك من الأشواط الثلاثة الأول في عمرة القضاء ، مع رمله في الجميع في حجة الوداع ، ومثال الفعلين اللذين اقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على صفات متعددة ، مختلفة كما أوضحناه في سورة النساء ، مع أن تلك الأفعال المختلفة اقترنت بقول يدل على ثبوت الحكم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " فالجاري على الأصول حسبما ذكرنا عن جماعة منهم : ابن [ ص: 394 ] الحاجب ، والعضد ، والرهوني ، وغيرهم أن طواف الأشواط كلها ليس ناسخا للمشي بين الركنين ، وأن صيغة صلاة الخوف فيها الأقوال المارة قيل : كل صورة بعد أخرى ، فهي ناسخة لها ، وقيل : كلها صحيحة لم ينسخ منها شيء ، وقيل : بالترجيح بين صورها ، وإن لم يترجح واحد ، فالتخيير .

    وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله :


    ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال

    وإن يك القول بحكم لامعا
    فآخر الفعلين كان رافعا

    والكل عند بعضهم صحيح
    ومالك عنه روي الترجيح

    وحيثما قد عدم المصير
    إليه فالأولى هو التخيير

    وقال صاحب الضياء اللامع شرح جمع الجوامع :

    تنبيه : لم يتعرض المصنف للتعارض بين الفعلين ، وصرح الرهوني وغيره بأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة سواء تماثل الفعلان ، أو اختلفا ، وسواء أمكن الجمع بينهما ، أو لم يمكن لأن الفعل لا عموم له من حيث هو إذ لا يقع في الأعيان ، إلا مشخصا فلا يكون كليا حتى ينافي فعلا آخر ، فجاز أن يكون واجبا في وقت مباحا في آخر ، وهذا ما لم يقترن بالفعل قول : يدل على ثبوت الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، ورأوه صلى صلاة الخوف على صفات متعددة فقال الأبياري : هذا كاختلاف القولين على الصحيح ، والمتأخر ناسخ ، وقيل : يصح إيقاعها على كل وجه من تلك الوجوه ، وبه قال القاضي : وللشافعي ميل إليه ، وقيل : يطلب الترجيح ، كما قال مالك ، والشافعي . انتهى محل الغرض منه .

    والرمل : مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملا بفتح الميم ورملانا : إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو ؛ أي : لا يثب ، وأنشد المبرد :


    ناقته ترمل في النقال متلف مال ومفيد مال
    الفرع الثالث : التحقيق أن الاضطباع يسن في الطواف ، لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم .

    قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن كثير : أخبرنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن [ ص: 395 ] يعلى ، عن يعلى ، قال : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعا ببرد أخضر " ، حدثنا أبو سلمة موسى ، ثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ، فرملوا بالبيت ، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى " انتهى منه .

    وقال الترمذي في جامعه : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد ، عن ابن يعلى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " طاف بالبيت مضطبعا ، وعليه برد " ، قال أبو عيسى : هذا حديث الثوري ، عن ابن جريج لا نعرفه ، إلا من حديثه ، وهو حديث حسن صحيح ، وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة ، عن ابن يعلى ، عن أبيه ، وهو يعلى بن أمية . ا هـ .

    وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا محمد بن يوسف وقبيصة ، قالا : ثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد ، عن ابن يعلى بن أمية ، عن أبيه يعلى : " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا " ، قال قبيصة : وعليه برد . انتهى منه . وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفا في الاضطباع عند أبي داود ، وحديث ابن عباس هذا صحيح ، رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ولفظه : عن ابن عباس ثم ساقه كما سقناه آنفا ، ثم قال : ورواه البيهقي بإسناد صحيح ، قال عن ابن عباس .

    قال : " اضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، ورملوا ثلاثة أشواط ، ومشوا أربعا " ، وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعا ببرد " ، رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه بأسانيد صحيحة . وقال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . وفي رواية البيهقي : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعا " إسناده صحيح ، وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : فيم الرملان الآن ، والكشف عن المناكب ، وقد وطد الله الإسلام ، ونفى الكفر ، وأهله ، ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نصنعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه البيهقي بإسناد صحيح . انتهى كلام النووي .

    وبذلك تعلم سنية الاضطباع في الطواف ، خلافا لمالك ، ومن قال بقوله : إن الاضطباع ليس بسنة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (330)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 396 إلى صـ 403



    وصفة الاضطباع : أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ، ويرد طرفيه على كتفه اليسرى ، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة ، وهو افتعال من الضبع بفتح الضاد ، وسكون الباء بمعنى : العضد سمي بذلك لإبداء أحد الضبعين ، والعرب تسمي العضد : ضبعا . ومنه قول [ ص: 396 ] طرفة في معلقته .


    وإن شئت سامى واسط الكور رأسها وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد


    تقول العرب : ضبعه إذا مد إليه ضبعه ، ليضربه . ومنه قول عمرو بن شاس :


    نذود الملوك عنكم وتذودنا ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا


    ؛ أي تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف ، ونمد أضباعنا إليكم ، وقيل : تضبعون ؛ أي : تمدون أضباعكم للصلح والمصافحة . والطاء في الإضباع مبدلة من تاء الافتعال ; لأن الضاد من حروف الإطباق على القاعدة المشار لها بقوله في الخلاصة :


    طاتا افتعال رد إثر مطبق في ادان وازدد وادكر دالا بقي
    الفرع الرابع : في كلام العلماء في الطواف هل يشترط له ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث ، والخبث وستر العورة أو لا يشترط ذلك ؟

    اعلم أن اشتراط الطهارة من الحدث ، والخبث ، وستر العورة في الطواف هو قول أكثر أهل العلم ، منهم مالك ، وأصحابه ، والشافعي ، وأصحابه ، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد .

    قال النووي في شرح المهذب : وحكاه الماوردي عن جمهور العلماء ، وحكاه ابن المنذر في طهارة الحدث ، عن عامة العلماء .

    وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الجمهور في هذه المسألة ، فقال : لا تشترط للطواف طهارة ، ولا ستر عورة ، فلو طاف جنبا ، أو محدثا ، أو عليه نجاسة ، أو عريانا صح طوافه عنده .

    واختلف أصحابه في وجوب الطهارة للطواف ، مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط فيه . ومن أشهر الأقوال عندهم أنه إذا طاف طواف الإفاضة جنبا ، فعليه بدنة ، وإن طافه محدثا : فعليه شاة ، وأنه يعيد الطواف بطهارة ما دام بمكة ، فإن رجع إلى بلده ، فالدم على التفصيل المذكور ، واحتج الجمهور لاشتراط الطهارة للطواف ، بأدلة .

    منها : حديث عائشة المتفق عليه الذي ذكرناه سابقا بسنده ، ومتنه عند البخاري ومسلم : أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم : " أنه توضأ ، ثم طاف بالبيت " الحديث ، قالوا : فهذا الحديث الصحيح صرحت فيه عائشة رضي الله عنها ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالوضوء قبل الطواف لطوافه ، فدل على أنه لا بد للطواف من الطهارة .

    [ ص: 397 ] فإن قيل : وضوءه صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث فعل مطلق ، وهو لا يدل على الوجوب : فضلا عن كونه شرطا في الطواف .

    فالجواب : أن وضوءه لطوافه المذكور في هذا الحديث ، قد دل دليلان على أنه لازم لا بد منه .

    أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " خذوا عني مناسككم " ، وهذا الأمر للوجوب ، والتحتم ، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالا لأمره في قوله : " خذوا عني مناسككم " .

    والدليل الثاني : أن فعله في الطواف من الوضوء له ، ومن هيئته التي أتى به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله ، فهو على اللزوم والتحتم . ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع ; لأن قطع النبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق ، وإلى المنكب .

    قال صاحب الضياء اللامع في شرح قول صاحب جمع الجوامع : ووقوعه بيانا ما نصه : الثاني : أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل ، إما بقرينة حال ، مثل القطع من الكوع ، فإنه بيان لقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] وإما بقول كقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، فإن الصلاة فرضت على الجملة ، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله وأخبر بقوله : أن ذلك الفعل بيان ، وكذا قوله : " خذوا عني مناسككم " ، وحكم هذا القسم وجوب الاتباع انتهى . محل الغرض منه .

    وأشار في مراقي السعود : إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم الواقع لبيان مجمل من كتاب الله إن كان المبين بصيغة اسم المفعول واجبا فالفعل المبين له بصيغة اسم الفاعل واجب بقوله :


    من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا


    ومحل الشاهد منه قوله : وبالبيان يعني : أنه يعرف حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب أو غيره بالبيان ، فإذا بين أمرا واجبا : كالصلاة والحج ، وقطع السارق بالفعل ، فهذا الفعل واجب إجماعا لوقوعه بيانا لواجب ، إلا ما أخرجه دليل خاص ، وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن بقوله : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد بينه صلى الله عليه وسلم بفعله [ ص: 398 ] وقال : " خذوا عني مناسككم " ومن فعله الذي بينه به : الوضوء له كما ثبت في الصحيحين ، فعلينا أن نأخذه عنه إلا بدليل ، ولم يرد دليل يخالف ما ذكرنا .

    ومن أدلتهم على اشتراط الطهارة من الحدث للطواف : ما أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ، قال البخاري رحمه الله في كتاب الحيض : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف طمثت " الحديث . وفيه : " فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " ، انتهى منه .

    وأخرج مسلم في صحيحه حديث عائشة هذا بإسنادين عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها بلفظ : " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " وفي لفظ مسلم عنها : " فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي " قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنهي عائشة رضي الله عنها عن الطواف إلى غاية هي الطهارة لقوله : " حتى تطهري " ، عند الشيخين ، و " حتى تغتسلي " ، عند مسلم ومنع الطواف في حالة الحدث ، الذي هو الحيض إلى غاية الطهارة من جنابته : يدل مسلك الإيماء ، والتنبيه على أن علة منعها من الطواف ، هو الحدث الذي هو الحيض ، فيفهم منه اشتراط الطهارة من الجنابة للطواف كما ترى .

    فإن قيل : يجوز أن تكون علة النهي عن طوافها ، وهي حائض ، أن الحائض لا تدخل المسجد .

    فالجواب : أن نص الحديث يأبى هذا التعليل ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " حتى تطهري حتى تغتسلي " ، ولو كان المراد ما ذكر لقال : حتى ينقطع عنك الدم .

    قال النووي في شرح المهذب : فإن قيل : إنما نهاها لأن الحائض لا تدخل المسجد .

    قلنا : هذا فاسد ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " حتى تغتسلي " ، ولم يقل حتى ينقطع دمك ، وهو ظاهر .

    ومن أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة في الطواف : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الطواف بالبيت صلاة " الحديث . قال الزيلعي في نصب الراية : رواه ابن حبان في [ ص: 399 ] صحيحه في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض ، والحاكم في المستدرك من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب ، عن طاوس ، عن ابن عباس . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطواف بالبيت صلاة ; إلا أن الله قد أحل فيه الكلام فمن يتكلم فلا يتكلم إلا بخير " ، انتهى . وسكت الحاكم عنه ، وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير ، عن عطاء بن السائب به بلفظ : " الطواف حول البيت مثل الصلاة " ، قال : وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره ، عن طاوس موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب . وعن الحاكم رواه البيهقي في المعرفة بسنده ثم قال : وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا ، وهو أصح انتهى . وقال الشيخ تقي الدين في الإمام : هذا الحديث روي مرفوعا ، أما المرفوع فله ثلاثة أوجه :

    أحدهما : رواية عطاء بن السائب رواها عنه جرير ، وفضيل بن عياض ، وموسى بن أعين ، وسفيان أخرجها كلها البيهقي .

    الوجه الثاني : رواية ليث بن أبي سليم رواها عنه موسى بن أعين ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس مرفوعا باللفظ المذكور ، أخرجها البيهقي في سننه ، والطبراني في معجمه .

    الوجه الثالث : رواية الباغندي ، عن أبيه ، عن ابن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس مرفوعا نحوه رواه البيهقي أيضا . فأما طريق عطاء فإن عطاء من الثقات ، لكنه اختلط بأخرة قال ابن معين : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا ، فليس بشيء ، وجميع من روى عنه روى عنه في الاختلاط إلاشعبة ، وسفيان ، وما سمع منه جرير وغيره فليس من صحيح حديثه . وأما طريق ليث ، فليث رجل صالح صدوق يستضعف . قال ابن معين : ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء بن السائب ، وقد أخرج له مسلم في المتابعات ، وقد يقال : لعل اجتماعه مع عطاء يقوي رفع الحديث ، وأما طريق الباغندي ، فإن البيهقي لما ذكرها قال ولم يضع الباغندي شيئا في رفعه لهذه الرواية . فقد رواه ابن جريج ، وأبو عوانة ، عن إبراهيم بن ميسرة موقوفا انتهى من نصب الراية للزيلعي . ثم قال أيضا : حديث آخر رواه الطبراني في معجمه الأوسط : حدثنا محمد بن أبان ، ثنا أحمد بن ثابت الجحدري ، ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، ثنا سفيان ، عن حنظلة ، عن طاوس : عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام " انتهى منه .

    [ ص: 400 ] واعلم : أن علماء الحديث قالوا : إن وقف هذا الحديث على ابن عباس أصح من رفعه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وقد علمت مما مر قريبا أن حديث ابن عباس المذكور رفعه عطاء بن السائب ، وليث بن أبي سليم ، والظاهر أن اجتماعهما معا لا يقل عن درجة الحسن ، ومما يؤيد ذلك أن ممن روى رفعه عن عطاء سفيان الثوري ، وقد ذكروا أن رواية سفيان عنه صحيحة ; لأنه روى عنه قبل اختلاطه ، وعلى ذلك فهو دليل على اشتراط الطهارة ، وستر العورة ; لأن قوله : " الطواف صلاة " يدل على أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة ، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه ، والانحراف عن القبلة ، والكلام ، ونحو ذلك .

    فإن قيل : المحققون من علماء الحديث ، يرون أن الصحيح أن حديث ( الطواف صلاة ) موقوف لا مرفوع ، لأن من وقفوه أضبط ، وأوثق ممن رفعه ؟

    فالجواب : أنا لو سلمنا أنه موقوف ، فهو قول صحابي اشتهر ولم يعلم له مخالف من الصحابة ، فيكون حجة ، لا سيما وقد اعتضد بما ذكرنا قبله من الأحاديث الصحيحة ، وبينا وجه دلالتها على اشتراط الطهارة للطواف .

    وقال النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث : " الطواف صلاة " ما نصه : وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس ، وتحصل منه الدلالة أيضا ، لأنه قول صحابي اشتهر ، ولم يخالفه أحد من الصحابة ، فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح ، وقول الصحابي حجة أيضا ، عند أبي حنيفة انتهى منه .

    فهذا الذي ذكرنا هو حاصل أدلة من قال : باشتراط الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر للطواف ، وأما اشتراط ستر العورة للطواف فقد استدلوا له بحديث متفق عليه دال على ذلك .

    قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث قال يونس : قال ابن شهاب : حدثني حميد بن عبد الرحمن : أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . وقال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا هارون بن سعيد الأبلي ، حدثنا ابن وهب ، [ ص: 401 ] أخبرني عمرو ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ح ، حدثني حرملة بن يحيى التجيبي ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن ابن شهاب أخبره عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط ، يؤذنون في الناس يوم النحر : " لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " قال ابن شهاب : فكان حميد بن عبد الرحمن يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر ، من أجل حديث أبي هريرة ، فهذا الحديث المتفق عليه بلفظ : " ولا يطوف بالبيت عريان " يدل فيه مسلك الإيماء والتنبيه على أن علة المنع من الطواف كونه عريانا ، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف كما ترى .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب ستر العورة للطواف يدل عليه كتاب الله في قوله تعالى في سورة الأعراف : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] . وإيضاح دلالة هذه الآية الكريمة على ستر العورة للطواف يتوقف أولا على مقدمتين .

    الأولى منهما : أن تعلم أن المقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول ، أن له حكم الرفع كما أوضحناه في سورة البقرة .

    قال العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار :


    تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق


    وقال العراقي في ألفيته :


    وعد ما فسره الصحابي رفعا فمحمول على الأسباب


    المقدمة الثانية : هي أن تعلم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول عند جماهير الأصوليين ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

    فإذا علمت ذلك : فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة ، فتقول : من يعيرني ثوبا تجعله على فرجها ، وتقول :


    اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله


    فنزلت هذه الآية في هذا السبب : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] . [ ص: 402 ] ومن زينتهم التي أمروا بأخذها عند كل مسجد : لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف ; لأنه هو صورة سبب النزول . فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور ، كما ذكرناه الآن وأوضحناه سابقا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . فالأمر في : خذوا شامل لستر العورة للطواف ، وهو أمر حتم أوجبه الله مخاطبا به بني آدم ، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر .

    واعلم أيضا : أنه ثبت عن ابن عباس ما يدل على أنه فسر : خذوا زينتكم بلبس الثياب للطواف استنادا لسبب النزول .

    قال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ح ، وحدثني أبو بكر بن نافع واللفظ له ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن مسلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول : من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :


    اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله


    فنزلت هذه الآية : خذوا زينتكم عند كل مسجد انتهى منه . ولأجل هذا كان ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية : باللباس ، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول ، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده :


    جهم من الجهم عظيم ظله كم من لبيب عقله يضله



    وناظر ينظر ما يمله


    قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : خذوا زينتكم عند كل مسجد قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ا هـ منه . وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بسبب النزول ، فتبين بما ذكرنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا معا على ستر العورة للطواف ، وقد قدمنا مرارا كلام العلماء في اقتضاء النهي الفساد فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقد رأيت فيما كتبنا أدلة الجمهور على طهارة الحدث وستر العورة للطواف .

    أما طهارة الخبث : فقد استدلوا لها بما تقدم من أن الطواف صلاة ، وقد بينا وجه الدلالة منه على ذلك ، سواء قلنا : إنه موقوف ، أو مرفوع ، وقد يقال : إنه لا مجال للرأي [ ص: 403 ] فيه ، فله حكم الرفع ، واستأنس بعضهم لطهارة الخبث للطواف بقوله تعالى : وطهر بيتي للطائفين الآية [ 22 \ 26 ] ; لأنه يدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين ، والعلم عند الله تعالى . وإذا علمت مما ذكرنا أن جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة قالوا : باشتراط الطهارة وستر العورة للطواف ، وأن أبا حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة ، فلم يشترط الطهارة ، ولا ستر العورة للطواف .

    فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة ، متركبة من مقدمتين :

    إحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .

    والثانية : أن الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد ، فقال في المسألة التي نحن بصددها : قال الله تعالى في كتابه وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وهو نص متواتر ، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة ، والستر ، فإن هذه الزيادة نسخ ، وأخبارها أخبار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية ، ولأجل هذا لم يقل بتغريب الزاني البكر ، لأن الأحاديث الصحيحة الدالة عليه عنده أخبار آحاد ، وزيادة التغريب على قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 ] نسخ له ، وهو متواتر ، فلا ينسخ بأخبار الآحاد . ولأجل ذلك أيضا لم يقل بثبوت المال بالشاهد واليمين ، لأنه يرى ذلك زيادة على قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء الآية [ 2 \ 282 ] والزيادة نسخ ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد ا هـ . والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل . فإن كانت الزيادة أثبتت شيئا نفاه المتواتر ، أو نفت شيئا أثبته ، فهي نسخ له ، وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء ، لم يتعرض له النص المتواتر ، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكما شرعيا ، وإنما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية ، ورفعها ليس بنسخ .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (331)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 404 إلى صـ 411






    مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق : زيادة تحريم الخمر بالقرآن ، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة الصحيحة ، على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت [ ص: 404 ] نزولها ، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في لا أجد في ما أوحي إلي والإثبات في قوله : إلا أن يكون ميتة فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة ; لأنها أثبتت تحريما دلت الآية على نفيه .

    ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات ، زيادة تغريب الزاني البكر عاما بالسنة الصحيحة على آية الجلد ، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين على آية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية . وزيادة الطهارة ، والستر التي بينا أدلتها على آية : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله :


    وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا


    وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي [ 6 \ 145 ] ، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه ، وبيناها أيضا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية الآية [ 16 \ 101 ] . ولذلك اختصرناها هنا ، والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الخامس : اعلم أن الطواف في الحج المفرد والقران ثلاثة أنواع : طواف القدوم ، وطواف الإفاضة : وهو طواف الزيارة ، وطواف الوداع .

    أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء ، وأما طواف الوداع ، وطواف القدوم : فقد اختلف فيهما العلماء ، فذهب مالك وأصحابه ، إلى أن طواف القدوم : واجب يجبر بدم ، وأن طواف الوداع : سنة ، ولا يلزم بتركه شيء ، واستدل لوجوب القدوم بحديث عائشة ، وعروة المتفق عليه الذي قدمنا بسنده ومتنه عند الشيخين ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به الطواف ، وكذلك الخلفاء الراشدون ، والمهاجرون ، والأنصار مع قوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " واستدل لعدم وجوب طواف الوداع ، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء ، قالوا : فلو كان واجبا لأمر بجبره ، وأكثر أهل العلم : على أن طواف القدوم لا يلزم بتركه شيء . وقال ابن حجر في الفتح : وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه ، وعن مالك وأبي ثور : عليه دم ، ومن حججهم على أن طواف القدوم لا شيء في تركه أنه تحية ، فلم يجب كتحية المسجد . وأكثر أهل العلم على أن طواف الوداع واجب ، يجب بتركه الدم [ ص: 405 ] إلا أنه يرخص في تركه للحائض خاصة ، إذا نفرت رفقتها قبل أن تطهر . قال النووي في شرح مسلم : الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع ، وأنه إذا تركه لزمه دم ، ثم قال : وبه قال أكثر العلماء ، منهم الحسن البصري ، والحكم ، وحماد ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . وقال مالك ، وداود ، وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه . وعن مجاهد روايتان كالمذهبين انتهى منه . وقد نقل ابن حجر كلامه هذا ، ثم تعقب عزوه سنيته لابن المنذر فقال : والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر : أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين في طواف الوداع دليلا : أنه واجب .

    قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " قال زهير : ينصرفون كل وجه ، ولم يقل ( في ) . انتهى منه . فقوله صلى الله عليه وسلم فيه هذا الحديث الصحيح بصيغة النهي الصريح : " لا ينفرن أحد " إلخ . دليل على منع النفر بدون وداع ، وهو واضح في وجوب طواف الوداع ، ثم قال مسلم رحمه الله : حدثنا سعيد بن منصور ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لسعيد قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض . ا هـ منه . وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض انتهى . منه وقوله أمر بصيغة المبني للمفعول ، ومعلوم في علوم الحديث ، وأصول الفقه أن مثل ذلك له حكم الرفع . فهو حديث صحيح متفق عليه ، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع ، مع الترخيص لخصوص الحائض والله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] . وهو صلى الله عليه وسلم يقول " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقد نهى في حديث مسلم السابق ، عن النفر بدون طواف وداع ، وأمر في الحديث المتفق عليه بالوداع . فدل ذلك الأمر وذلك النهي على وجوبه . أما لزوم الدم في تركه ، فيتوقف على دليل صالح لإثبات ذلك ، وسنذكر إن شاء الله ما تيسر من أدلة الدماء التي يوجبها الفقهاء ، [ ص: 406 ] وحديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لصفية أن تنفر وهي حائض من غير وداع معروف .
    الفرع السادس : في أول وقت طواف الإفاضة وآخره .

    الظاهر أن أول وقته أول يوم النحر بعد الإفاضة من عرفة ومزدلفة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف طواف الإفاضة يوم النحر ، بعد رمي جمرة العقبة ، والنحر ، والحلق ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، والشافعية ، ومن وافقهم يقولون : إن أول وقته يدخل بنصف ليلة النحر ، ولا أعلم لذلك دليلا مقنعا . وأما آخر وقت طواف الإفاضة ، فلم يرد فيه نص ، وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته ، بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حيا ، ولكن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخر . قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته ، بل يبقى ما دام حيا ، ولا يلزمه بتأخيره دم ، قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافا بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه ، فإن أخره عن أيام التشريق . فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا : لا دم . وممن قال به : عطاء ، وعمرو بن دينار ، وابن عيينة : وأبو ثور ، وأبو يوسف ومحمد ، وابن المنذر ، وهو رواية عن مالك . وقال أبو حنيفة : إن رجع إلى وطنه قبل الطواف : لزمه العود للطواف ، فيطوف ، وعليه دم للتأخير ، وهو الرواية المشهورة عن مالك . دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به . والله أعلم انتهى الغرض من كلام النووي .

    ولزوم الدم بالتأخير فيه خلاف معروف عند المالكية ، مع اتفاقهم على أن من أخره إلى انسلاخ شهر ذي الحجة عليه الدم .
    الفرع السابع : لا خلاف بين العلماء في استحباب استلام الحجر الأسود للطائف ، وجماهيرهم على تقبيله ، وإن عجز وضع يده عليه ، وقبلها خلافا لمالك قائلا : إنه يضعها على فيه من غير تقبيل . وقال النووي في شرح المهذب : أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود ، ويستحب عندنا مع ذلك تقبيله والسجود عليه ، بوضع الجبهة كما سبق بيانه ، فإن عجز عن تقبيله قبل اليد بعده ، وممن قال بتقبيل اليد : ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وعروة ، وأيوب السختياني ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق . حكاه عنهم ابن المنذر قال : وقال القاسم بن محمد ومالك : يضع يده على فيه من غير تقبيل .

    قال ابن المنذر : وبالأول أقول ; لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوه ، وتبعهم جملة الناس عليه ، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما السجود على الحجر الأسود ، فحكاه ابن المنذر عن [ ص: 407 ] عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وطاوس ، والشافعي ، وأحمد .

    قال ابن المنذر : وبه أقول : قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مالك : هو بدعة ، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور في المسألتين ، فقال جمهور العلماء : على أنه يستحب تقبيل اليد ، إلا مالكا في أحد قوليه ، والقاسم بن محمد قالا : لا يقبلها . قال : وقال جميعهم : يسجد عليه ، إلا مالكا وحده فقال : بدعة .

    وأما الركن اليماني ففيه للعلماء ثلاثة أقوال :

    الأول : أنه يستحب استلامه باليد ، ولا يقبل ، بل تقبل اليد بعد استلامه ، وهذا هو مذهب الشافعي ، قال النووي : وروي عن جابر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة .

    القول الثاني : أنه يستلمه ، ولا يقبل يده بعده بل يضعها على فيه من غير تقبيل ، وهو مشهور مذهب مالك ، وأحمد ، وعن مالك رواية : أنه يقبل يده بعد استلامه كمذهب الشافعي .

    القول الثالث : أنه يقبله ، وهو مروي عن أحمد .

    تنبيهان

    الأول : قد جاءت روايات متعارضة في الوقت الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة ، وفي الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر ، فقد جاء في بعض الروايات : أنه طاف يوم النحر ، وصلى ظهر ذلك اليوم بمنى ، وجاء في بعض الروايات : أنه صلى ظهر ذلك اليوم في مكة ، وفي بعض الروايات : أنه طاف ليلا لا نهارا . ففي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم ما لفظه : " ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر " ، ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه أفاض نهارا ، وهو نهار يوم النحر ، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة ، وكذلك قالت عائشة : أنه طاف يوم النحر ، وصلى الظهر بمكة . وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثني محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى " قال نافع : فكان ابن عمر يفيض يوم النحر ، ثم يرجع ، فيصلي الظهر بمنى ، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى منه . فترى حديث جابر وحديث ابن عمر الثابتين في صحيح مسلم اتفقا على أنه طاف طواف الإفاضة نهارا ، واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم ، ففي حديث جابر : أنه صلاها بمكة وكذلك قالت عائشة . وفي حديث ابن [ ص: 408 ] عمر : أنه صلاها بمنى بعد ما رجع من مكة . ووجه الجمع بين الحديثين : أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ، كما قال جابر وعائشة ، ثم رجع إلى منى ، فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى ، كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين : مرة بطائفة ، ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل ، كما أوضحناه سابقا في سورة النساء ، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبرا بما رأيا وقد صدقا . ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى ، وقد صدق وهذا واضح ، وبهذا الجمع جزم النووي ، وغير واحد . وقال البخاري في صحيحه : وقال أبو الزبير ، عن عائشة ، وابن عباس رضي الله عنهم : أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل انتهى محل الغرض منه . وقد قدمنا أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه ، مع أنه وصله أبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، وغيرهم من طريق سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي الزبير به وزيارته ليلا في هذا الحديث المروي عن عائشة ، وابن عباس مخالفة لما قدمنا في حديث جابر ، وابن عمر ، وللجمع بينهما أوجه من أظهرها عندي اثنان .

    الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر ، كما أخبر به جابر ، وعائشة ، وابن عمر ، ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلا ، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ، وإتيانه البيت في ليالي منى ، هو مراد عائشة ، وابن عباس .

    وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه : ويذكر عن أبي حسان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي كان يزور البيت أيام منى . ا هـ .

    وقال ابن حجر في الفتح : فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ، ليجمع بين الأحاديث بذلك ، فيحمل حديث جابر ، وابن عمر : على اليوم الأول ، وحديث ابن عباس هذا : على بقية الأيام ، وهذا الجمع مال إليه النووي . وهذا ظاهر .

    الوجه الثاني : في الجمع بين الأحاديث المذكورة أن الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم ليلا : طواف الوداع ، فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة ، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلا .

    قال البخاري في صحيحه : حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن قتادة : أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد رقدة بالمحصب ، ثم ركب إلى البيت ، فطاف به " . تابعه الليث .

    [ ص: 409 ] حدثني خالد ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن أنس بن مالك رضي الله عنه : حدثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من البخاري ، وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلا ا هـ . وحديث عائشة المتفق عليه يدل لذلك ، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم في زاد المعاد ، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فحديث جابر ، وعائشة ، وابن عمر : أنه طاف طواف الزيارة نهارا أصح مما عارضها ، فيجب تقديمها عليه ، والعلم عند الله تعالى .

    التنبيه الثاني : اعلم أنه جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشيا ، ومما يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي سقناها سابقا ، في أنه رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعا ، فإن ذلك يدل على أنه ماش على رجليه لا راكب ، مع أنه جاءت روايات أخر صحيحة تدل على أنه طاف راكبا .

    قال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن صالح ، ويحيى بن سليمان قالا : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن " تابعه الدراوردي ، عن ابن أخ الزهري ، عن عمه .

    وقال مسلم في صحيحه : حدثني أبو الطاهر ، وحرملة بن يحيى ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن " .

    حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ; لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه ، فإن الناس قد غشوه " .

    وفي لفظ عن جابر عند مسلم : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه ، فإن الناس قد غشوه " .

    وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثني الحكم بن موسى القنطري ، حدثنا شعيب بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن ، كراهية أن يضرب عنه الناس " ، انتهى منه .

    فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن ابن عباس ، وجابر ، وعائشة - رضي الله عنهم - صريحة في أنه طاف راكبا .

    [ ص: 410 ] ووجه الجمع بين هذه الأحاديث الدالة على طوافه راكبا مع الأحاديث الدالة على أنه طاف ماشيا : كأحاديث الرمل في الأشواط الثلاثة الأول ، والمشي في الأربعة الأخيرة : هو " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف القدوم ماشيا ، ورمل في أشواطه الثلاثة الأول ، وطاف طواف الإفاضة في حجة الوداع راكبا " ، هو نص صريح صحيح ، يبين أن من طاف ، وسعى راكبا ، فطوافه وسعيه كلاهما صحيح ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوله : " خذوا عني مناسككم " وقد قدمنا البحث مستوفى في المشي ، والركوب في الحج مع مناقشة أدلة الفريقين . والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الثامن : أجمع العلماء على مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف ، هل حكمهما الوجوب أو السنية ؟ فقال بعض أهل العلم : إن ركعتي الطواف واجبتان ، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ 2 \ 125 ] على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف : قرأ هذه الآية الكريمة ، وصلى ركعتين خلف المقام ، ممتثلا بذلك الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " ، والأمر في قوله : واتخذوا على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مرارا في هذا الكتاب المبارك . وقال جمهور العلماء : إن ركعتي الطواف من السنن ، لا من الواجبات ، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح . قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع " الحديث . قالوا : وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة ، وقد يجاب عن هذا الاستدلال : بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ، إلا أن تطوع " ، والعلم عند الله تعالى .

    والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف : قل ياأيها الكافرون [ 109 ] وفي الثانية : قل هو الله أحد [ 112 ] كما هو ثابت في حديث جابر . وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام ، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك . ولو طاف في وقت نهي ، فأحد قولي أهل العلم : إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه ، ومما يدل على هذين [ ص: 411 ] الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر ، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، قال : باب الطواف بعد الصبح والعصر ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما : يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس ، وطاف عمر بعد الصبح ، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى . وفعل عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام ، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه ، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب ، وممن قال به : أبو سعيد الخدري ، ومعاذ بن عفراء ، ومالك ، وأصحابه : وعزاه بعضهم إلى الجمهور ، وقد قدمنا مرارا قول من يقول من أهل العلم : إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي ، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول : أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .

    وقال الشافعي ، وأصحابه : إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة ، واستدلوا لذلك بدليلين :



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (332)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 412 إلى صـ 419







    أحدهما : عام وهو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي ; لأن سببها الخاص ، يخرجها من عموم النهي ، كركعتي الطواف فإنهما لسبب خاص هو الطواف . وكتحية المسجد في وقت النهي ، ونحو ذلك ، وأحدهما خاص : وهو ما ورد في خصوص البيت الحرام ، كحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " ، رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ورواه أيضا ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث : رواه الشافعي ، وأحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، والحاكم من حديث أبي الزبير ، عن عبد الله بن باباه ، عن جبير بن مطعم ، وصححه الترمذي ، ورواه الدارقطني من وجهين آخرين ، عن نافع بن جبير ، عن أبيه ، ومن طريقين آخرين عن جابر ، وهو معلول ، فإن المحفوظ عن أبي الزبير ، عن عبد الله بن باباه ، عن جبير ، لا عن جابر . وأخرجه الدارقطني أيضا ، عن ابن عباس من رواية مجاهد عنه ، ورواه الطبراني من رواية عطاء ، عن ابن عباس ، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان ، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة ، عن أبي الزبير ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، وهو معلول . وروى ابن عدي من طريق سعيد بن أبي راشد ، عن عطاء ، عن أبي هريرة [ ص: 412 ] حديث : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " ، الحديث ، وزاد في آخره : " من طاف فليصل " ؛ أي : حين طاف ، وقال : لا يتابع عليه ، وكذا قال البخاري . وروى البيهقي من طريق عبد الله بن باباه ، عن أبي الدرداء : أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس ، فصلى الركعتين ، وقال : إن هذه البلدة ليست كغيرها .

    تنبيه

    عزا المجد ابن تيمية حديث جبير لمسلم ، فإنه قال : رواه الجماعة إلا البخاري . وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري ، فقال : رواه السبعة إلا البخاري ، وابن الرفعة ، فقال : رواه مسلم ، ولفظه : " لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ، " وكأنه والله أعلم : لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة ، دون البخاري اقتطع مسلما من بينهم ، واكتفى به عنهم ، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية ، فأخطأ مكررا .

    فائدة

    قال البيهقي : يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة صلاة الطواف خاصة : وهو الأشبه بالآثار ، ويحتمل جميع الصلوات . انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير .

    وهذا الذي ذكرنا عن الشافعي ، وأصحابه من جواز صلاة ركعتي الطواف في أوقات النهي بلا كراهة ، حكاه ابن المنذر ، عن ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والحسين بن علي ، وابن الزبير ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، ومجاهد ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور . انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب .

    ومما استدلوا به على ذلك ما رواه مجاهد عن أبي ذر مرفوعا : " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة " ، قال ابن حجر في التلخيص : في هذا الحديث رواه الشافعي أخبرنا عبد الله بن المؤمل ، عن حميد مولى غفرة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، وفيه قصة وكرر الاستثناء ثلاثا . ورواه أحمد ، عن يزيد ، عن عبد الله بن المؤمل إلا أنه لم يذكر حميدا في سنده . ورواه ابن عدي من حديث سعيد بن سالم ، عن عبد الله بن المؤمل ، فلم يذكر قيسا ، ورواه ابن عدي من طريق اليسع بن طلحة ، وسمعت مجاهدا يقول : بلغنا أن أبا ذر فذكره ، وعبد الله ضعيف ، وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه . وقال البيهقي : فقال تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان ، [ ص: 413 ] ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى قال : ثنا إبراهيم بن طهمان ، ثنا حميد مولى غفرة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال : جاءنا أبو ذر فأخذ بحلقة الباب ، الحديث . وقال أبو حاتم الرازي : لم يسمع مجاهد من أبي ذر ، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر ، والبيهقي ، والمنذري ، وغير واحد . قال البيهقي : قوله في رواية إبراهيم بن طهمان : جاءنا أبو ذر ؛ أي : جاء بلدنا .

    قلت : ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، من حديث سعيد بن سالم كما رواه ابن عدي ، وقال : أنا أشك في سماع مجاهد ، من أبي ذر ، انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير .

    هذا هو حاصل ما احتج به الشافعي ، وأصحابه ، ومن وافقهم على جواز صلاة ركعتي الطواف ، في أوقات النهي وحجة مخالفيهم هي عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في تلك الأوقات وظاهرها العموم .

    وقد قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار : وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة ; لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه ، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر ، لما عرفت غير مرة انتهى منه ، وهو كما قال رحمه الله .

    والقاعدة المقررة في الأصول : أن النصين إذا كان بينهما عموم ، وخصوص من وجه ، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما . كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :


    وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر


    وإيضاح كون حديث جبير المذكور بينه ، وبين أحاديث النهي المذكورة عموم وخصوص من وجه ، كما ذكره الشوكاني رحمه الله : هو أن أحاديث النهي عامة في مكة وغيرها ، خاصة في أوقات النهي . وحديث جبير بن مطعم عام في أوقات النهي وغيرها ، خاص بمكة حرسها الله ، فتختص أحاديث النهي بأوقات النهي في غير مكة ، ويختص حديث جبير بالأوقات التي لا ينهى عن الصلاة فيها بمكة ، ويجتمعان في أوقات النهي في مكة ، فعموم أحاديث النهي يشمل مكة وغيرها ، وعموم إباحة الصلاة في جميع الزمن في حديث جبير ، يشمل أوقات النهي وغيرها في مكة فيظهر التعارض في أوقات النهي في مكة ، فيجب الترجيح . وأحاديث النهي أرجح من حديث جبير من وجهين :

    أحدهما : أنها أصح منه لثبوتها في الصحيح .

    [ ص: 414 ] والثاني : هو ما تقرر في الأصول ، أن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الإباحة ; لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، كما قدمناه مرارا . والعلم عند الله تعالى .
    الفرع التاسع : اعلم أن أظهر أقوال العلماء ، وأصحها إن شاء الله : أن الطواف لا يفتقر إلى نية تخصه ; لأن نية الحج تكفي فيه ، وكذلك سائر أعمال الحج كالوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ، والسعي ، والرمي كلها لا تفتقر إلى نية ، لأن نية النسك بالحج تشمل جميعها ، وعلى هذا أكثر أهل العلم . ودليله واضح ; لأن نية العبادة تشمل جميع أجزائها فكما لا يحتاج كل ركوع وسجود من الصلاة إلى نية خاصة لشمول نية الصلاة لجميع ذلك ، فكذلك لا تحتاج أفعال الحج لنية تخص كل واحد منها ، لشمول نية الحج لجميعها .

    ومما استدلوا به لذلك ، أنه لو وقف بعرفة ناسيا أجزأه ذلك بالإجماع ، قاله النووي . ومقابل القول الذي هو الصواب إن شاء الله قولان آخران لأهل العلم :

    أحدهما : وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من الشافعية ، أن ما كان منها مختصا بفعل كالطواف ، والسعي ، والرمي ، فهو مفتقر إلى نية ، وما كان منها غير مختص بفعل بل هو لبث مجرد كالوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة فهو لا يفتقر إلى نية .

    والثاني منهما : وبه قال أبو إسحاق المروزي : أنه لا يفتقر شيء من أعمال الحج إلى نية إلا الطواف ، لأنه صلاة ، والصلاة تفتقر إلى النية ، وأظهرها وأصحها إن شاء الله الأول ، وهو قول الجمهور .
    الفرع العاشر : أظهر قولي العلماء عندي أنه إن أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف أنه يصلي مع الناس ولا يستمر في طوافه مقدما إتمام الطواف على الصلاة ، وممن قال بذلك : ابن عمر ، وسالم ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، وأبو ثور . وروي ذلك عنهم في السعي أيضا ولكن عند المالكية لا يجوز قطع الطواف إلا للصلاة المكتوبة خاصة ، إذا أقيمت ، وهو في أثناء الطواف ، ويبني عندهم إن قطعه للصلاة خاصة ، ويندب عندهم إكمال الشوط إن قطعه في أثناء شوط ، وإن قطعه لغيرها كصلاة الجنازة ، أو تحصيل نفقة لا بد منها لم يبن على ما مضى منه ، بل يستأنف الطواف عندهم ; لأنه لا يجوز عندهم قطعه لذلك ابتداء ، كما ذكرناه قريبا . وقيل : يمضي في طوافه ، ولا [ ص: 415 ] يقطعه للصلاة واحتج من قال بهذا ، بأن الطواف صلاة ، فلا تقطع لصلاة . ورد عليه بحديث : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " ، ومن قال من أهل العلم : إن الطواف يجوز قطعه للصلاة على الجنازة والحاجة الضرورية : كالشافعية والحنابلة ، قالوا : يبني على ما أتى به من أشواط الطواف ، فإن كان قطعه للطواف عند انتهاء شوط من أشواطه ، بنى على الأشواط المتقدمة ، وجاء ببقية الأشواط ، وإن كان قطعه له في أثناء الشوط ، فأظهر قولي أهل العلم عندي : أنه يبتدئ من الموضع الذي وصل إليه ، ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل قطع الطواف ، خلافا لمن قال : إنه يبتدئ الشوط الذي قطع الطواف في أثنائه ، ولا يعتد ببعضه الذي فعله : وهو قول الحسن ، وأحد وجهين عند بعض الشافعية ، وهو مندوب عند المالكية إن قطعه للفريضة كما تقدم وكذلك لو أحدث في أثناء الطواف عند من يقول : إنه يتوضأ ، ويبني على ما مضى من طوافه ، وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد .
    الفرع الحادي عشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن من طاف قبل التحلل ، وهو لابس مخيطا أن الطواف صحيح كمن صلى في ثوب حرير ، ولكنه يلزمه الدم والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الثاني عشر : لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم : أن الطواف جائز في أوقات النهي عن الصلاة ، وفي صلاة الركعتين ، إذا طاف وقت نهي الخلاف الذي تكلمنا عليه قريبا .
    الفرع الثالث عشر : اختلف العلماء في صلاة النافلة في المسجد الحرام . والطواف بالبيت أيهما أفضل ؟ فقال بعض أهل العلم : الطواف أفضل . وبه قال بعض علماء الشافعية ، واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود [ 2 \ 125 ] وقوله : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [ 11 \ 26 ] وقال بعض أهل العلم : الصلاة أفضل لأهل مكة والطواف أفضل للغرباء . وممن قال به : ابن عباس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب .
    المسألة السابعة

    اختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ، هل هو ركن من [ ص: 416 ] أركان الحج والعمرة ؟ لا يصح واحد منهما بدونه ، ولا يجبر بدم ، أو هو واجب يجبر بدم ، أو سنة لا يلزم بتركه دم ؟ وممن قال : إنه ركن من أركان الحج ، والعمرة مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وأم المؤمنين عائشة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، وهو رواية عن الإمام أحمد كما نقله النووي في شرح المهذب ، وقال في شرح مسلم : مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم : أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج ، لا يصح إلا به ، ولا يجبر بدم ، وممن قال بهذا : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . انتهى محل الغرض منه ، وعزوه إياه لأحمد ، قد قدمنا فيه أنه إحدى الروايات عن أحمد .

    وقال ابن قدامة في المغني : وروي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به ، وهو قول عائشة ، وعروة ، ومالك ، والشافعي .

    وممن قال إنه واجب يجبر بدم : أبو حنيفة وأصحابه ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، وبه قال القاضي من الحنابلة ، وذكره النووي رواية عن أحمد ، وقد رواه ابن القصار من المالكية ، عن القاضي إسماعيل ، عن مالك ، وقال ابن قدامة في المغني : إنه أولى . وذكر النووي عن طاوس أنه قال : من ترك من السعي أربعة أشواط لزمه دم ، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع . وليس هو بركن ، ثم قال : وهو مذهب أبي حنيفة . انتهى .

    وما قال النووي : إنه مذهب أبي حنيفة من أن ترك أقل السعي فيه الصدقة بنصف صاع عن كل شوط ، عزاه شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للحاكم الشهيد في مختصره المسمى بالكافي ا هـ .

    ومعلوم أن مذهب أبي حنيفة في طواف الإفاضة ، أن من ترك منه ثلاثة أشواط فأقل ، فعليه دم ، وحجه صحيح ، وتفريقه بين الأقل والأكثر في الطواف الذي هو ركن يدل على التفريق بينهما في السعي ، وممن روي عنه أن السعي بين الصفا والمروة سنة لا يلزم بتركه دم : ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأنس ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين .

    وإذا علمت أقوال أهل العلم في السعي : فاعلم أنا نريد هنا أن نبين أدلة كل منهم على ما ذهب إليه مع مناقشتها .

    فأما الذين قالوا : إنه ركن من أركان الحج والعمرة ، فقد استدلوا لذلك بأدلة :

    منها قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 2 \ 158 ] . قالوا : [ ص: 417 ] فتصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه ، لأن شعائر الله عظيمة ، لا يجوز التهاون بها . وقد أشار البخاري رحمه الله في صحيحه إلى أن كونهما من شعائر الله .

    يدل على ذلك . قال : باب وجوب الصفا والمروة ، وجعل من شعائر الله .

    وقال ابن حجر في الفتح في شرح قول البخاري : وجعل من شعائر الله ؛ أي : وجوب السعي بينهما ، مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله ، قاله ابن المنير في الحاشية . انتهى الغرض من كلامه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومما يدل على أن شعائر الله لا يجوز التهاون بها ، وعدم إقامتها قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله الآية [ 2 \ 5 ] . وقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب الآية [ 22 ] ، ومن أدلتهم على ذلك : " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعا " ، وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان :

    الأول : هو ما قدمنا من أنه تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله ، أن ذلك الفعل يكون لازما ، وسعيه بين الصفا والمروة فعل بين المراد من قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله والدليل على أنه فعله بيانا للآية هو قوله صلى الله عليه وسلم : " نبدأ بما بدأ الله به " ، يعني الصفا ; لأن الله بدأ بها في قوله : إن الصفا والمروة . وفي رواية " أبدأ " بهمزة المتكلم ، والفعل مضارع . وفي رواية عند النسائي : " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر .

    الدليل الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وقد طاف بين الصفا والمروة سبعا ، فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا ، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه ، والله تعالى يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] فاجتماع هذه الأمور الثلاثة التي ذكرنا يدل على اللزوم : وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعا ، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله وأنه قال : " لتأخذوا عني مناسككم " .

    أما طوافه بينهما سبعا فهو ثابت بالروايات الصحيحة .

    منها : حديث ابن عمر الثابت في الصحيح ولفظه في صحيح البخاري . قال : " قدم [ ص: 418 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وطاف بين الصفا والمروة سبعا . لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة " ، وفي لفظ في صحيح مسلم ، من حديث ابن عمر : " فأتى الصفا ، فطاف بالصفا ، والمروة سبعة أطواف " ، والروايات بسعيه صلى الله عليه وسلم سبعا بين الصفا والمروة كثيرة معروفة . وقد مثلنا لها بحديث ابن عمر المتفق عليه . وأما كون ذلك السعي بيانا لآية : إن الصفا والمروة من شعائر الله . فهو أمر لا شك فيه ، ويدل عليه أمران :

    أحدهما : سبب نزول الآية ; لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة ، وإذا كانت نازلة جوابا عن سؤالهم عن حكم السعي ، بين الصفا والمروة ، فسعي النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها بيان لها .

    والأمر الثاني : هو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا كما تقدم قريبا ، وأما حديث " لتأخذوا عني مناسككم " ، فقد قال مسلم في صحيحه في باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " .

    حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، وعلي بن خشرم جميعا ، عن عيسى بن يونس ، قال ابن خشرم : أخبرنا عيسى ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ، ويقول : " لتأخذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " ، وقال البيهقي في السنن الكبرى : في باب الإيضاع في وادي محسر : وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنبأنا سليمان بن أحمد بن أيوب ، ثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا أبو نعيم قال : وحدثنا حفص ، ثنا قبيصة قال : وحدثنا يوسف القاضي ، ومعاذ بن المثنى قالا : ثنا ابن كثير ، قالوا : ثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه السكينة ، وأمرهم بالسكينة ، وأوضع في وادي محسر ، وأمرهم أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف ، وقال : " خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا " ، انتهى منه . وقال النووي في شرح المهذب : إن هذا الإسناد الذي رواه به البيهقي صحيح على شرط البخاري ، ومسلم .

    واعلم أن رواية مسلم ورواية البيهقي المذكورتين معناهما واحد ; لأن : " خذوا عني مناسككم " بصيغة فعل الأمر يؤدي معنى قوله : " لتأخذوا عني " ، بالفعل المضارع [ ص: 419 ] المجزوم بلام الأمر ، فكلتا الصيغتين صيغة أمر ، ومن المعلوم أن الصيغ الدالة على الأمر أربع الأولى فعل الأمر نحو : أقم الصلاة لدلوك الشمس [ 17 \ 78 ] وقوله : " خذوا عني مناسككم " .

    الثانية : الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقوله : " لتأخذوا عني مناسككم " في رواية مسلم .

    الثالثة : اسم فعل الأمر نحو قوله تعالى : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] .

    الرابعة : المصدر النائب عن فعله كقوله تعالى : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب [ 47 \ 4 ] ؛ أي : فاضربوا رقابهم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (333)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 420 إلى صـ 427






    ومن أدلتهم على أن السعي فرض لا بد منه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن عائشة رضي الله عنها قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال عروة : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة . قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه ، ألا يطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها ، عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا ، والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا العلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ، ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة ، قالوا : يا رسول الله ، كنا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت ، فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا ، والمروة ؟ فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] . قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما ، [ ص: 420 ] في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت . انتهى من صحيح البخاري .

    وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بين الصفا والمروة ؛ أي : فرضه بالسنة ، وقد أجابت عائشة عما يقال : إن رفع الجناح في قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ينافي كونه فرضا بأن ذلك نزل في قوم تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة ، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم ، فنزلت الآية مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي .

    وقد تقرر في الأصول أن النص الوارد في جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذه المسألة . وقال ابن حجر في : فتح الباري في الكلام على هذا الحديث : .
    تنبيه

    قول عائشة رضي الله عنها : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة ؛ أي : فرضه بالسنة ، وليس مرادها نفي فرضيته ، ويؤيده قولها : لم يتم الله حج أحدكم ، ولا عمرته ما لم يطف بينهما .

    وقال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قال : قلت لها : إني لا أظن رجلا لو لم يطف بين الصفا والمروة ما ضره . قالت لم ؟ قلت : لأن الله تعالى يقول : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 2 \ 158 ] إلى آخر الآية فقالت : ما أتم الله حج امرئ ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ، ولو كان كما تقول ، لكان : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ; الحديث ، وفي رواية في صحيح مسلم ، عن عروة قال : قلت لعائشة : " ما أرى علي جناحا أن لا أتطوف بين الصفا والمروة ، قالت لم ؟ قلت : لأن الله عز وجل يقول إن الصفا والمروة من شعائر الله فقالت : لو كان كما تقول ، لكان فلا جناح عليه ألا يطوف بهما إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار ، كانوا إذا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، " فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة " ، وفي رواية ، عن عروة أيضا في [ ص: 421 ] صحيح مسلم قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى على أحد ، لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ، وما أبالي ، أن لا أطوف بينهما . قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون ، فكان سنة ، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية ، التي بالمشلل ، لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فلما كان الإسلام سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ولو كانت كما تقول ، لكانت فلا جناح عليه ، ألا يطوف بينهما . قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك ، وقال : إن هذا العلم ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب ، يقولون : إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية ، وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ، ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 2 \ 158 ] قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء ، وفي رواية في صحيح مسلم ، عن عروة بن الزبير أيضا قال : سألت عائشة . وساق الحديث بنحوه ، وقال في الحديث : فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما قالت عائشة : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .

    فهذه الروايات الثابتة في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها فيها الدلالة الواضحة ، على أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا بد منه ، لأنك رأيت في بعض هذه الروايات الثابتة عنها في الصحيح ، أنها قالت : ما أتم الله حج امرئ ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ، وفي بعضها قالت : فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة . وفي رواية متفق عليها عنها رضي الله عنها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما إلى آخر ما تقدم من الروايات وفيها النص الصريح الصحيح ، على أن السعي لا بد منه وأن من لم يسع ، لم يتم له حج ولا عمرة .
    تنبيه

    اعلم أن ما يظنه كثير من أهل العلم ، من أن حديث عائشة هذا الدال على أن [ ص: 422 ] السعي لا بد منه ، وأنه لا يتم بدونه حج ، ولا عمرة أنه موقوف عليها غير صواب ، بل هو مرفوع ، ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء في الرواية المتفق عليها قولها : فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، على قولها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، وهو صريح في أن قولها : ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ، ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنه أنه فرضه بسنته كما جزم به ابن حجر في الفتح ، مقتصرا عليه ، مستدلا له بأنها قالت : ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ، لم يطف بين الصفا والمروة ، فقولها : إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ، وترتيبها على ذلك بالفاء ، قولها : فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا برأي منها ، كما ترى .

    وقد تقرر في الأصول في مبحث النص الظاهر من مسالك العلة أن الفاء في الكتاب ، والسنة تفيد التعليل ، وكذلك هي في كلام الراوي الفقيه ، فهو المرتبة الثانية بعد الوحي من كتاب ، أو سنة ، ثم يلي ذلك الفاء من الراوي غير الفقيه .

    ومثاله في الوحي قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ؛ أي : لعلة سرقتهما . وقوله تعالى : قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] ؛ أي : لعلة كون الحيض أذى .

    ومثاله في كلام الراوي . حديث أنس المتفق عليه : أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها : من فعل بك هذا فلان أو فلان ؟ حتى سمي اليهودي ، فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة . فقول أنس في هذا الحديث الصحيح .

    فأمر به فرض رأسه بحجرين ؛ أي : لعلة رضه رأس الجارية المذكورة بين حجرين .

    ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود في سننه ، عن عمران بن حصين : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ، ثم تشهد ثم سلم " ا هـ ؛ أي : سجد لعلة سهوه ، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما ؛ أي : لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك ؛ أي : فرضه بسنته كما تقدم إيضاحه ، وإلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ، ثم الراوي الفقيه ، ثم الراوي غير الفقيه أشار في مراقي السعود بقوله في مراتب النص الظاهر :

    فالفاء للشارع فالفقيه فغيره يتبع بالشبيه

    [ ص: 324 ] ومن أدلتهم على أن السعي ركن لا بد منه : حديث : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس ، ومن حديث حبيبة بنت أبي تجراة ، ومن حديث تملك العبدرية ، ومن حديث صفية بنت شيبة .

    قال الزيلعي في نصب الراية : أما حديث ابن عباس ، فرواه الطبراني في معجمه ، ثنا محمد بن النضر الأزدي ، عن معاوية بن عمرو ، عن المفضل بن صدقة ، عن ابن جريج ، وإسماعيل بن مسلم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج عن الرمل ؟ فقال : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " انتهى .

    وأما حديث حبيبة بنت أبي تجراة فرواه الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه ، والحاكم في المستدرك ، وسكت عليه ، وأعله ابن عدي في الكامل بابن المؤمل ، وأسند تضعيفه عن أحمد ، والنسائي ، ووافقهم . ومن طريق أحمد الطبراني في معجمه ، ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني ، ثم البيهقي في سننهما ، قال الشافعي : أخبرنا عبد الله بن المؤمل العائذي ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، وهو يقول : " اسعوا فإن الله تعالى كتب عليكم السعي " انتهى . وأخرجه الحاكم في المستدرك أيضا في الفضائل ، عن عبد الله بن نبيه ، عن جدته صفية ، عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه . وسكت عنه أيضا ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا محمد عن عبد الله بن المؤمل ، حدثنا عبد الله بن أبي حسين ، عن عطاء ، عن حبيبة بنت أبي تجراة ، فذكره ، قال أبو عمر بن عبد البر : أخطأ ابن أبي شيبة ، أو شيخه في موضعين منه .

    أحدهما : أنه جعل موضع ابن محيصن عبد الله بن أبي حسين ، والآخر أنه أسقط صفية بنت شيبة . قال ابن القطان في كتابه : وعندي أن الوهم من عبد الله بن المؤمل فإن ابن أبي شيبة إمام كبير ، وشيخه محمد بن بشر ثقة ، وابن المؤمل سيئ الحفظ ، وقد اضطرب في هذا الحديث اضطرابا كثيرا فأسقط عطاء مرة ، وابن محيصن أخرى ، وصفية بنت شيبة أخرى ، وأبدل ابن محيصن بابن أبي حسين أخرى ، وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى . وفي الطواف تارة ، وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى ، وكل ذلك دليل على سوء حفظه ، وقلة ضبطه . والله أعلم انتهى .

    [ ص: 424 ] طريق آخر أخرجه الدارقطني في سننه ، عن ابن المبارك ، أخبرني معروف بن مشكان ، قال : أخبرني منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية قالت : أخبرتني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن : دخلنا دار ابن أبي حسين فاطلعنا من باب مقطع فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى إلى آخره .

    قال صاحب التنقيح : إسناده صحيح ، ومعروف بن مشكان باني كعبة الرحمن صدوق ، لا نعلم من تكلم فيه ، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين . انتهى .

    وأما حديث تملك العبدرية ; فأخرجه البيهقي في سننه ، والطبراني في معجمه عن مهران بن أبي عمر ، ثنا سفيان ، ثنا المثنى بن الصباح ، عن المغيرة بن حكيم ، عن صفية بنت شيبة ، عن تملك العبدرية . قالت : نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة ، وهو يقول : " أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " انتهى . تفرد به مهران بن أبي عمر ، قال البخاري : في حديثه اضطراب . وأما حديث صفية بنت شيبة فرواه الطبراني في معجمه ، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا علي بن الحكم الأودي ، ثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن المثنى بن الصباح ، عن المغيرة بن حكيم ، عن صفية بنت شيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ، انتهى .

    وذكر الدارقطني في علله في هذا الحديث اضطرابا كثيرا . ثم قال : والصحيح قول من قال عن عمر بن محيصن ، عن عطاء ، عن صفية ، عن حبيبة بنت أبي تجراة وهو الصواب انتهى .

    وقال الحازمي في كتابه : ( الناسخ والمنسوخ ) : الوجه السادس والعشرون من وجوه الترجيحات : هو أن يكون أحد الحديثين من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مقارن فعله ، والآخر مجرد قوله لا غير ، فيكون الأول أولى بالترجيح نحو ما روته حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في بطن المسيل يسعى وهو يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ، فهو أولى من حديث : " الحج عرفة " لأنه مجرد قول . والأول قول وفعل ، وفيه أيضا إخباره عن الله أنه أوجبه علينا ، فكان أولى . انتهى كلامه .

    ورواه الواقدي في كتاب المغازي : حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه ، عن برة بنت أبي تجراة قالت : لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي قال : " أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي [ ص: 425 ] فاسعوا " قالت : فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه . انتهى كله من نصب الراية للزيلعي .

    وقد رأيته عزا لصاحب التنقيح : أن حديث صفية بنت شيبة ، عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم أنهن رأينه يطوف بين الصفا والمروة وهو يقول : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " ، أن إسناده صحيح ، وهو نص في محل النزاع . والظاهر أن الإسناد المذكور صحيح كما قال . لأن معروف بن مشكان المذكور صدوق ، ومنصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجبي ثقة ، وهو ابن صفية بنت شيبة المذكورة .

    وقال النووي في شرح المهذب : واحتج أصحابنا بحديث صفية بنت شيبة ، عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استقبل الناس في المسعى ، وقال : " يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم " رواه الدارقطني ، والبيهقي بإسناد حسن . انتهى منه .

    وهو نص صالح للاحتجاج في أن السعي مما كتب على الناس ، ولفظة : كتب : تدل على اللزوم .

    فإن قيل : حديث حبيبة المذكور في إسناده عبد الله بن المؤمل ، وهو وإن كان وثقه ابن حبان وقال : يخطئ ، فقد ضعفه غيره ، وحديث صفية في إسناده موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف ، وحديث : تملك المذكور فيه المثنى بن الصباح ، وهو وإن وثقه ابن معين في رواية ، فقد ضعفه جماعة . وحديث ابن عباس المذكور فيه المفضل بن صدقة ، وهو متروك .

    فالجواب : أن رواية صفية بنت شيبة ، عن نسوة من بني عبد الدار عند الدارقطني ، والبيهقي ، ليس في إسنادها شيء مما ذكر ، وقد صحح إسنادها ابن الهمام في التنقيح ، كما ذكره الزيلعي وحسنها النووي في شرح المهذب ، والبيهقي روى حديثها المذكور من طريق الدارقطني ، قال في سننه الكبرى : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا : ثنا علي بن عمر الحافظ ، ثنا يحيى بن صاعد ، ثنا الحسن بن عيسى النيسابوري ، ثنا ابن المبارك ، أخبرني معروف ابن مشكان ، أخبرني منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية ، أخبرتني عن نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن : دخلنا دار ابن أبي حسين ، فاطلعنا من باب مقطع ، ورأينا [ ص: 426 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى ، حتى إذا بلغ زقاق بني فلان ، موضعا قد سماه من المسعى ، استقبل الناس فقال : " يا أيها الناس ، اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم " انتهى منه .

    فهذا الإسناد هو الذي صححه صاحب التنقيح ، وحسنه النووي .

    واعلم أن اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث لا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي هذه بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي صلى الله عليه وسلم . وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية ، وتسمى غيرها منهن في رواية أخرى كما لا يخفى وقال ابن حجر في فتح الباري : واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة بكسر المثناة ، وسكون الجيم بعدها راء ، ثم ألف ساكنة ، ثم هاء ، وهي إحدى نساء بني عبد الدار ، قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي ، وسمعته يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " أخرجه الشافعي ، وأحمد ، وغيرهما . وفي إسناد هذا الحديث : عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف ، ومن ثم قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجة في الوجوب .

    قلت : له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة ، وعند الطبراني ، عن ابن عباس كالأولى ، وإذا انضمت إلى الأولى قويت .

    واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها ، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة ، فقد وقع عند الدارقطني عنها : أخبرتني نسوة من بني عبد الدار ، فلا يضره الاختلاف . انتهى الغرض من كلام ابن حجر .

    وقد علمت مما ذكرنا أن بعض طرق حديث : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " ، لا تقل عن درجة القبول . وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من حديث عائشة ، عند الشيخين . وبظاهر الآية كما بينا ، وبما سيأتي أيضا إن شاء الله تعالى .

    ومن أدلتهم على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى المتفق عليه ، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، قال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، وابن بشار ، قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو منيخ [ ص: 427 ] بالبطحاء ، فقال لي " أحججت ؟ فقلت : نعم . فقال : بم أهللت ؟ قال : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فقد أحسنت . طف بالبيت وبالصفا والمروة " . الحديث قالوا : فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري " طف بالبيت وبالصفا والمروة " أمر صريح منه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك ، وقد دل على اقتضائها الوجوب : الشرع واللغة .

    وقال بعضهم : إن العقل يفيد ذلك ، وليس بسديد عندي ، أما دلالة الشرع على ذلك ففي نصوص كثيرة كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وهذا الوعيد العظيم على مخالفة أمره ، يدل على وجوب امتثال أمره ، وكقوله تعالى : لإبليس لما لم يمتثل الأمر المدلول عليه بصيغة افعل التي هي قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 20 \ 116 ] ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك الآية [ 7 \ 12 ] فتوبيخه وتقريعه له في هذه الآية لمخالفته الأمر ، وقد سمى نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية وذلك يدل على وجوب الامتثال في قوله تعالى عنه : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فجعل أمر الله ورسوله مانعا من الاختيار موجبا للامتثال ، منبها على عدم الامتثال معصية في قوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] وكقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " إلى غير ذلك من الأدلة .

    وأما دلالة اللغة على اقتضاء صيغة افعل الوجوب . فإيضاحها أن أهل اللسان العربي مجمعون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ثم لم يمتثل العبد وعاقبه سيده على عدم الامتثال كان ذلك العقاب واقعا موقعه ، لأن صيغة افعل ألزمته الامتثال ، وليس للعبد أن يقول : صيغة افعل لم توجب علي الامتثال ، ولم تلزمني إياه ؟ فعقابك لي غلط لأني لم أترك شيئا لازما ، حتى تعاقبني عليه . وإجماعهم على أنه ليس له ذلك وأن عقابه له صواب لعصيانه دليل على أن صيغة افعل تقتضي الوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ، وهو قول جمهور الأصوليين . ومقابله أقوال أخر ، أشار لها في مراقي السعود بقوله في مبحث الأمر :



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (334)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 428 إلى صـ 435







    وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب

    [ ص: 428 ] وقيل للوجوب أمر الرب وأمر من أرسله للندب

    ومفهم الوجوب يدري الشرع أو الحجا أو المفيد الوضع

    وقال بعض أهل العلم : إن دلالة اللغة على اقتضاء الأمر الوجوب راجعة إلى دلالة الشرع ; لأن الشرع هو الذي دل على وجوب طاعة العبد لسيده .

    ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه : ما قدمنا من حديث ابن عمر عند الترمذي ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا " قال المجد في المنتقى : رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه . انتهى منه .

    والذي رأيته في الترمذي لما ساق الحديث بلفظه المذكور : هو أنه قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح ، تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ، ولم يرفعوه . وهو أصح . انتهى منه .

    ومن أدلتهم على ذلك : ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح ، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها : " يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " وهذا اللفظ في صحيح مسلم ، قالوا : ويفهم من قوله : " يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها ، هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بأنه ركن من أركان الحج والعمرة .

    وأما حجة الذين قالوا : إنه سنة لا يجب بتركه شيء ، فهي قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] قالوا : فرفع الجناح في قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] دليل قرآني على عدم الوجوب ، كما قاله عروة بن الزبير ، لخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .

    والجواب عن الاستدلال بهذه الآية على عدم وجوب السعي : هو ما أجابت به عائشة عروة ، فإنها أولا ذمت هذا التفسير لهذه الآية بقولها : بئس ما قلت يا ابن أختي ، ومعلوم أن لفظة بئس فعل جامد لإنشاء الذم ، وما ذمت تفسير الآية بما ذكر ، إلا لأنه تفسير غير صحيح ، وقد بينت له أن الآية نزلت جوابا لسؤال من ظن أن في السعي بين الصفا والمروة جناحا ، وإذا فذكر رفع الجناح لمطابقة الجواب للسؤال ، لا لإخراج المفهوم عن حكم [ ص: 429 ] المنطوق ، فلو سألك سائل مثلا قائلا : هل علي جناح في أن أصلي الخمس المكتوبة ؟ وقلت له : لا جناح عليك في ذلك ، لم يلزم من ذلك أنك تقول : بأنها غير واجبة ، وإنما قلت : لا جناح في ذلك ، ليطابق جوابك السؤال ، وقد دلت قرينتان على أنه ليس المراد رفع الجناح عمن لم يسع بين الصفا والمروة .

    الأولى منهما : أن الله قال في أول الآية : إن الصفا والمروة من شعائر الله وكونهما من شعائر الله ، لا يناسبه تخفيف أمرهما برفع الجناح عمن لم يطف بينهما ، بل المناسب لذلك تعظيم أمرهما ، وعدم التهاون بهما ، كما أوضحناه في أول هذا المبحث .

    والقرينة الثانية : هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ، كما قالت عائشة لعروة ، وقد تقرر في الأصول : أن اللفظ الوارد جوابا لسؤال لا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب ، أعني مفهوم المخالفة :

    أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

    ومحل الشاهد منه قوله : أو النطق انجلب ، للسؤل .

    ومعنى ذلك : أن المنطوق إذا كان جوابا لسؤال فلا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود بلفظ المنطوق مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق .

    فإن قيل : جاء في بعض قراءات الصحابة : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كما ذكره الطبري ، وابن المنذر وغيرهما ، عن أبي بن كعب ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم .

    فالجواب من وجهين :

    الأول : أن هذه القراءة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية ، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا . ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآنا ، فبطل كونه قرآنا بطل من أصله ، فلا يحتج به على شيء ، وقال بعض أهل العلم : إذا بطل كونه قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد ، التي ليست بقرآن ، فعلى القول الأول : فلا إشكال ، وعلى الثاني : فيجاب عنه بأن القراءة [ ص: 430 ] المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة ، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل ، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان .

    الوجه الثاني : هو ما ذكره ابن حجر في الفتح عن الطبري ، والطحاوي ، من أن قراءة : أن لا يطوف بهما محمولة على القراءة المشهورة ، ولا زائدة . انتهى . ولا يخلو من تكلف كما ترى .

    واعلم أن قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] لا دليل فيه ، على أن السعي تطوع ، وليس بفرض ; لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة ، لا إلى السعي ; لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع ، والعلم عند الله تعالى .

    وأما حجة من قال : السعي واجب يجبر بدم ، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك ، وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم . وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
    فروع تتعلق بهذه المسألة

    الفرع الأول : اعلم أن جمهور العلماء على أن السعي لا تشترط له طهارة الحدث ، ولا الخبث ، ولا ستر العورة ، فلو سعى ، وهو محدث أو جنب ، أو سعت امرأة وهي حائض ، فالسعي صحيح ، ولا يبطله ذلك ، وممن قال به الأئمة الأربعة ، وجماهير أهل العلم ، وقال الحسن : إن كان قبل التحلل تطهر وأعاد السعي ، وإن كان بعده ، فلا شيء عليه ، وذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد : أن الطهارة في السعي ، كالطهارة في الطواف . قال ابن قدامة في المغني : ولا يعول عليه ، والطهارة في السعي مستحبة عند كثير من أهل العلم ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم . وحجة الجمهور على أن السعي لا تشترط له الطهارة : هي ما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه ، وقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور : أن تفعل كل ما يفعله الحاج ، وهي حائض إلا الطواف بالبيت خاصة . وهو دليل على أن السعي لا تشترط له الطهارة خلافا لمن قال : لا دليل في الحديث ، لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف ، والحيض مانع من الطواف ، وهو مردود بأن النفي والإثبات نص في أن غير الطواف يصح من الحائض ويدخل فيه السعي .

    وقال ابن قدامة في المغني : قال أبو داود : سمعت أحمد ، يقول : إذا طافت المرأة [ ص: 431 ] بالبيت ، ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت . وروي عن عائشة ، وأم سلمة أنهما قالتا : إذا طافت المرأة بالبيت ، وصلت ركعتين ، ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة ، رواه الأثرم . وقال ابن قدامة أيضا : ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت ، فأشبهت الوقوف . انتهى منه .

    وقال أيضا في المغني : ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة ولا الستارة للسعي ; لأنه إذا لم تشترط له الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى .

    الفرع الثاني : اعلم أن جمهور أهل العلم يشترطون في السعي الترتيب ، وهو أن يبدأ بالصفا ، ويختم بالمروة ، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط ، وممن قال باشتراط الترتيب : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، وداود ، وجمهور العلماء ، وعن أبي حنيفة خلاف في ذلك .

    قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله : ولو بدأ من المروة لا يعتد بالأولى لمخالفته الأمر . انتهى منه .

    وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق المذكور : قوله : ولو بدأ بالمروة لا يعتد بالأولى . وفي مناسك الكرماني : إن الترتيب فيه ليس بشرط عندنا ، حتى لو بدأ بالمروة ، وأتى الصفا جاز ويعتد به ، ولكنه مكروه لترك السنة . فتستحب إعادة ذلك الشوط .

    قال السروجي رحمه الله في الغاية : ولا أصل لما ذكره الكرماني .

    وقال الرازي في أحكام القرآن : فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة عن أصحابنا ، وروي عن أبي حنيفة أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة ا هـ . فقول السروجي : لا أصل لما قاله الكرماني ; فيه نظر . انتهى منه .

    وحجة الجمهور في اشتراط الترتيب : أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال : " أبدأ بما بدأ الله به " ، وفي رواية عند النسائي : " فابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، ومع ذلك فقد قال : " خذوا عني مناسككم " ، فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الابتداء بما بدأ الله به ، وفعله صلى الله عليه وسلم عملا بالقرآن العظيم .

    الفرع الثالث : اعلم أن جمهور أهل العلم على أن السعي لا يصح ، إلا بعد طواف ، [ ص: 432 ] فلو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه ، عند الجمهور ، منهم الأئمة الأربعة ، ونقل الماوردي وغيره الإجماع عليه . قال النووي في شرح المهذب : وحكى ابن المنذر ، عن عطاء ، وبعض أهل الحديث : أنه يصح ، وحكاه أصحابنا عن عطاء ، وداود وحجة الجمهور : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع في حج ، ولا عمرة إلا بعد الطواف ، وقد قال " لتأخذوا عني مناسككم " فعلينا أن نأخذ ذلك عنه ، واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن الشيباني ، عن زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه ، فمن قال : يا رسول الله سعيت ، قبل أن أطوف ، أو قدمت شيئا ، أو أخرت شيئا ، فكان يقول : لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم ، وهو ظالم له ، فذلك الذي حرج وهلك . انتهى منه . وهذا الإسناد صحيح ، ورجاله كلهم ثقات معروفون . وجرير المذكور فيه هو ابن عبد الحميد بن قرط الضبي ، أبو عبد الله الرازي القاضي ، والشيباني المذكور فيه : هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان الكوفي ، ورجال هذا الإسناد كلهم مخرج لهم في الصحيحين إلا الصحابي ، الذي هو أسامة بن شريك . وقد أخرج عنه أصحاب السنن ، وروى عنه زياد بن علاقة المذكور ، وعلي بن الأقمر ، خلافا لمن قال : لم يرو عنه إلا زياد المذكور ، كما ذكره في تهذيب التهذيب عن الأزدي ، وسعيد بن السكن ، والحاكم ، وغيرهم ، وهذا الحديث الصحيح يقتضي صحة السعي قبل الطواف ، وجماهير أهل العلم على خلافه ، وأنه لا يصح السعي ، إلا مسبوقا بالطواف .

    قال النووي في شرح المهذب : في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور ، وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره ، وهو أن قوله : سعيت قبل أن أطوف ؛ أي : سعيت بعد طواف القدوم ، وقبل طواف الإفاضة والله تعالى أعلم انتهى منه .

    فقوله : قبل أن أطوف يعني : طواف الإفاضة الذي هو ركن ، ولا ينافي ذلك أنه سعى بعد طواف القدوم الذي هو ليس بركن .

    الفرع الرابع : اعلم أن جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة : مالك ، وأحمد ، والشافعي ، وأصحابهم ، على أنه يشترط في صحة السعي ، أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة في كل شوط ، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه ، وقد قدمنا مذهب أبي حنيفة في السعي ، وأنه لو تركه كله أو ترك أربعة أشواط منه فأكثر لصح حجه ، وعليه [ ص: 433 ] دم وأنه إن ترك منه ثلاثة أشواط فأقل لزمه عن كل شوط نصف صاع ، وحجة الجمهور أن المسافة للسعي محددة من الشارع ، فالنقص عن الحد مبطل كما هو ظاهر ، وحجة أبي حنيفة ، ومن وافقه كطاوس هي تغليب الأكثر على الأقل ، مع جبر الأقل بالصدقة ، ولا أعلم مستندا من النقل للتفريق بين الأربعة والثلاثة ، ولا لجعل نصف الصاع مقابل الشوط . والعلم عند الله تعالى .

    الفرع الخامس : اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي ، فلو كان يمر من وراء المسعى ، حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه . وعن الشافعي في القديم : أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه . والظاهر أن التحقيق خلافه وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه .

    الفرع السادس : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم دليلا : أنه لو سعى راكبا أو طاف راكبا أجزأه ذلك ، لما قدمنا في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وهو على راحلته ، ومعلوم أن من أهل العلم من يقول : لا يجزئه السعي ، ولا الطواف راكبا إلا لضرورة ومنهم : من منع الركوب في الطواف ، وكرهه في السعي إلا لضرورة ، ومنهم من يقول : إن ركب ولم يعد سعيه ماشيا ، حتى رجع إلى وطنه فعليه الدم . والأظهر هو ما قدمنا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ، وسعى راكبا ، وهو صلوات الله وسلامه عليه لا يفعل إلا ما يسوغ فعله ، وقد قال لنا : " خذوا عني مناسككم " والذين قالوا : إن الطواف والسعي يلزم فيهما المشي . قالوا : إن ركوبه لعلة وبعضهم يقول : هي كونه مريضا كما جاء في بعض الروايات ، وبعضهم يقول : هي أن يرتفع ، ويشرف حتى يراه الناس ويسألوه ، وبعضهم يقول : هي كراهيته أن يضرب عنه الناس ، وقد قدمنا الروايات بذلك في صحيح مسلم ، ففي حديث جابر عند مسلم : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، لأن يراه الناس وليشرف ، وليسألوه فإن الناس قد غشوه . وفي رواية في صحيح مسلم عن جابر رضي الله ، طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه فإن الناس قد غشوه . وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن ، كراهية أن يضرب عنه الناس .
    [ ص: 434 ] المسألة الثامنة

    اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه ، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر ، فمن طلع فجر يوم النحر وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعا ، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام ، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه ، ولزمه دم عند المالكية ، خلافا لجماهير أهل العلم القائلين : بأنه لا دم عليه ، وما ذكره النووي عن بعض الخراسانيين : من أن الوقوف بالليل لا يجزئ ولا يصح به الحج ، حتى يقف معه بعض النهار ظاهر السقوط لمخالفته للنص ، وعامة أهل العلم ، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك ، وهو رواية عن أحمد ، وعند الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية الأخرى : حجه صحيح ، وعليه دم ، ولا خلاف بين العلماء : أن عرفة كلها موقف .

    والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن ، وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر : ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحج عرفة ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج " ، قال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر ، قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فقال : " الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه " لفظ أحمد وفي رواية لأبي داود " من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وألفاظ الباقين نحوه .

    وفي رواية للدارقطني والبيهقي : " الحج عرفة الحج عرفة " . انتهى من التلخيص .

    وفي سنن أبي داود : الحج الحج يوم عرفة ، بتكرير لفظة الحج . وفي سنن النسائي : فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وقال ابن ماجه في سننه ، بعد أن ساق الحديث باللفظ الذي ذكره صاحب التلخيص : قال محمد بن يحيى : ما أرى للثوري حديثا أشرف منه . وقال النووي في شرح المهذب : حديث عبد الرحمن الديلي صحيح رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وآخرون بأسانيد صحيحة .

    [ ص: 435 ] وهذا لفظ الترمذي ، عن عبد الرحمن بن يعمر : أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الحج ؟ فأمر مناديا ينادي : الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج . وفي رواية أبي داود : " فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى : الحج الحج يوم عرفة ، من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتم حجه " وفي رواية البيهقي ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الحج عرفات الحج عرفات ، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وإسناد هذه الرواية صحيح ، وهو من رواية سفيان بن عيينة .

    قلت : عن سفيان الثوري ، قال ابن عيينة : ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا . انتهى كلام النووي .

    ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل ، وجزء من النهار ، من بعد الزوال : أن وقوفه تام ، هو ما ثبت في الروايات الصحيحة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل وقال : لتأخذوا عني مناسككم " .

    فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ، ما رواه مسلم في صحيحه في حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه : " فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس إلى أن قال : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء ، إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح : أنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال ، وبين جزء قليل من الليل مع قوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل ، دون النهار فقد تم حجه : حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور ، فإن فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وجمع : هي المزدلفة ، وليلتها : هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (335)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 436 إلى صـ 443





    ودليل من ألزموه دما مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل : وهم المالكية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالليل ، بل وقف معه جزءا من النهار ، فتارك الوقوف بالنهار تارك نسكا . وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الديلي : " فقد تم حجه " لا يساعد على لزوم الدم ، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة [ ص: 436 ] إلى الجبر بدم ، فهو يؤيد مذهب الجمهور ، والعلم عند الله تعالى .

    ودليل من قال : بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل : أن وقوفه صحيح ، وحجه تام حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبلي طيئ . أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي . والله ما تركت من جبل ، إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه " ا هـ .

    قال المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارقطني ، ثم قال : وصحح هذا الحديث الدارقطني ، والحاكم ، والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما .

    وقال النووي في شرح المهذب في حديث عروة بن مضرس : هذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد صحيحة . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح .

    ودليل أن عرفة كلها موقف ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، عن جعفر ، حدثني أبي ، عن جابر في حديثه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت ههنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف " ، انتهى من صحيح مسلم .

    وقال المجد في المنتقى : بعد أن ساق هذا الحديث بلفظ مسلم الذي سقناه به : رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، ولابن ماجه وأحمد أيضا نحوه وفيه : " وكل فجاج مكة طريق ، ومنحر " ، وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع . وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف . وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة ، فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتا للوقوف ، وخالف الإمام أحمد رحمه الله الجمهور في ذلك قائلا : إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف ، واحتج لذلك بحديث عروة بن المضرس المذكور آنفا فإن فيه : " وقد وقف بعرفة ليلا أو [ ص: 437 ] نهارا ، فقد تم حجه ، " فقوله صلى الله عليه وسلم : " ليلا أو نهارا " يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار .

    وقد قدمنا قول المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وحجة الجمهور هي : أن المراد بالنهار في حديث عروة المذكور خصوص ما بعد الزوال ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله . قالوا : ففعله صلى الله عليه وسلم ، وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله : أو نهارا .

    والحاصل : أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا ، وأن من اقتصر على الليل دون النهار ، فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور ، خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم ، وأن من اقتصر على النهار دون الليل ، لم يصح وقوفه عند المالكية . وعند جمهور العلماء : حجه صحيح . منهم الشافعي ، وأبو حنيفة ، وعطاء ، والثوري ، وأبو ثور ، وهو الصحيح من مذهب أحمد .

    ولكن اختلفوا في وجوب الدم ، فقال أحمد وأبو حنيفة : يلزمه دم ، وعن الشافعية قولان : أحدهما : لا دم عليه . وصححه النووي وغيره . والثاني : عليه دم . قيل وجوبا ، وقيل : استنانا ، وقيل : ندبا . والأصح أنه سنة على القول به ، كما جزم به النووي . وأنما قيل : الزوال من يوم عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء ، خلافا للإمام أحمد رحمه الله ، وقد رأيت أدلة الجميع .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار ، أو النهار من بعد الزوال دون الليل ، فأظهر الأقوال فيه دليلا : عدم لزوم الدم . أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه الذي قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح . وفيه عند أحمد ، والنسائي : فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه . هذا لفظ النسائي ، ولفظ أحمد : من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه ، ا هـ . ولفظ أحمد المذكور بواسطة نقل ابن حجر في التلخيص فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت : " فقد تم حجه " مرتبا ذلك على إتيانه عرفة ، قبل طلوع فجر يوم النحر نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلا : أن حجه تام ، وظاهر التعبير بلفظ التمام ، عدم لزوم الدم ، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو [ ص: 438 ] السنة ، وعلى هذا جمهور أهل العلم ، خلافا للمالكية . وأما المقتصر على النهار دون الليل ، فلحديث عروة بن مضرس الطائي ، وقد قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح ، وبينا أن فيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، فقوله صلى الله عليه وسلم : فقد تم حجه مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا ، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك ، والتعبير بلفظ التمام ظاهر ، في عدم لزوم الجبر بالدم ، كما بيناه فيما قبله ، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث ، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار ، هو الصحيح من مذهب الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .

    وأما الاكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال ، فقد قدمنا : أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور يدل عليه ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم : أو نهارا صادق بأول النهار وآخره . كما ذهب إليه الإمام أحمد . ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه من بعده ، كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور ، وأنه بعد الزوال ، وكلاهما له وجه من النظر ، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط ، والعلم عند الله تعالى .

    وحجة مالك : في أن الوقوف نهارا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءا من الليل : هي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار ، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه ، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه كما ترى .

    واعلم : أنه إن وقف بعد الزوال بعرفة ثم أفاض منها قبل الغروب ثم رجع إلى عرفة في ليلة جمع : أن وقوفه تام ولا دم عليه في أظهر القولين ، لأنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار ، خلافا لأبي حنيفة ، وأبي ثور القائلين : بأن الدم لزمه بإفاضته ، قبل الليل وأن رجوعه بعد ذلك ليلا لا يسقط عنه ذلك الدم بعد لزومه . والله تعالى أعلم .
    فروع تتعلق بهذه المسألة

    الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في صحة الوقوف دون الطهارة ، فيصح وقوف الجنب والحائض ، وقد قدمنا دليل ذلك في حديث عائشة المتفق عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فيه بأن تفعل كل ما يفعله الحاج ، غير أن لا تطوف بالبيت .

    [ ص: 439 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا في صحة وقوف المغمى عليه بعرفة . قال النووي في شرح المهذب : ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه ، وحكاه ابن المنذر ، عن الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، قال : وبه أقول ، وقال مالك ، وأبو حنيفة : يصح .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ليس في وقوف المغمى عليه نص من كتاب ولا سنة يدل على صحته أو عدمها .

    وأظهر القولين عندي قول من قال بصحته لما قدمنا من أنه لا يشترط له نية تخصه ، وإذا سلمنا صحته بدون النية ، كما قدمنا أنه هو الصواب فلا مانع من صحته من المغمى عليه ، كما يصح من النائم ، واحتج من خالف في ذلك بأن المغمى عليه ليس من أهل العبادة حتى يصح وقوفه ، وممن قال بعدم صحته : الحسن ، وممن قال بصحته : عطاء ، والله تعالى أعلم .

    الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وقف بعرفات ، وهو لا يعلم أنها عرفات ، قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا صحة وقوفه ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه . انتهى منه .

    الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في مشروعية جمع الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة ، والمغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة ، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه .

    وأظهر الأقوال دليلا : أنه يؤذن للظهر فقط ، ويقيم لكل واحدة منهما .

    وأظهر قولي أهل العلم عندي : أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر ، ويقصرون ، وكذلك في جمع التأخير في مزدلفة يقصرون العشاء ، وأن أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء ، وأن حديث : " أتموا فإنا قوم سفر " ، إنما قاله لهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لا في عرفة ولا في مزدلفة ، وروى مالك بإسناده الصحيح في الموطإ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ، ثم انصرف فقال : يا أهل مكة ، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر . ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى ، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ، وممن قال بأن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة ومنى : مالك ، وأصحابه ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، والأوزاعي . وممن قال بأن أهل مكة يتمون صلاتهم في عرفة ، ومزدلفة ، ومنى : الأئمة [ ص: 440 ] الثلاثة : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وعطاء ، ومجاهد ، والزهري ، وابن جريج ، والثوري ، ويحيى القطان ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وعزا النووي هذا القول للجمهور .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن ظاهر الروايات : أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا ، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في منى ، ولا مزدلفة ، ولا عرفة ، بل ذلك الإتمام في مكة ، وقد قدمنا أن تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    وأن أقوى الأقوال دليلا : هو أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة كما أوضحنا ذلك بأدلته في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] .

    قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه : فلما أتمها - يعني الخطبة - يوم عرفة ، أمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم الجمعة . فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ، ثم أقام ، فصلى العصر ركعتين أيضا ، ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال إنه قال لهم : " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ، فقد غلط عليه غلطا بينا ، ووهم وهما قبيحا ، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين ، ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ، ويجمعون بعرفة ، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .

    وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ، ولا بأيام معلومة ، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة ألبتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سببا ، وهو السفر . هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه الملحدون . انتهى كلام ابن القيم .

    وقد قدمنا قول من قال : إن القصر والجمع المذكور لأهل مكة من أجل النسك ، والعلم عند الله تعالى .

    ولا يخفى أن حجة من قالوا بإتمام أهل مكة صلاتهم في عرفة ومزدلفة ومنى ، هو ما قدمنا من تحديدهم للمسافة بأربعة برد ، أو ثلاثة أيام .

    وعرفة ، ومزدلفة ، ومنى أقل مسافة من ذلك ، قالوا : ومن سافر دون مسافة القصر أتم صلاته ، هذا هو دليلهم .

    الفرع الخامس : اعلم أن الصعود على جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام [ ص: 441 ] لا أصل له ، ولا فضيلة فيه ; لأنه لم يرد في خصوصه شيء بل هو كسائر أرض عرفة ، وعرفة كلها موقف ، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالوقوف فيه أفضل من غيره ، كما قاله غير واحد ، وبذلك تعلم أن ما قاله أبو جعفر بن جرير الطبري ، والماوردي من استحباب صعود جبل الرحمة لا يعول عليه . والعلم عند الله تعالى .

    والتحقيق : أن عرنة ليست من عرفة ، فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن مالك من أن وقوفه بعرنة يجزئ وعليه دم خلاف التحقيق الذي لا شك فيه ، والظاهر أنه لم يصح عن مالك .
    المسألة التاسعة

    لا خلاف بين العلماء أنه إن غربت الشمس واستحكم غروبها وهو واقف بعرفة أفاض منها إلى المزدلفة ، وذلك هو معنى قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية [ 2 \ 199 ] . كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة .

    وقد بينت الأحاديث الصحيحة كيفية إفاضته من عرفات ، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم : " فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء " ، الحديث ، وقول جابر في هذا الحديث : وقد شنق للقصواء الزمام ، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي ، والمورك بفتح الميم وكسر الراء : هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب . وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال : وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدمة الرحل شبه المخدة الصغيرة ، وقوله : ويقول بيده السكينة السكينة ؛ أي : يأمرهم بالسكينة مشيرا بيده ، والسكينة : الرفق والطمأنينة ، وقول جابر في هذا الحديث : كلما أتى حبلا من الحبال : هو بالحاء المهملة ، والباء الموحدة ، والمراد بالحبل في حديثه : الرمل المستطيل المرتفع ، ومنه قول ذي الرمة :


    ويوما بذي الأرطى إلى جنب مشرف بوعسائه حيث اسبطرت حبالها


    [ ص: 442 ] وقول عمر بن أبي ربيعة :


    يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر


    وحديث جابر هذا الدال على الرفق ، وعدم الإسراع ، وما جاء في معناه من الأحاديث يفسره حديث أسامة الثابت في الصحيحين : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص " ، والعنق بفتحتين : ضرب من السير دون النص ، ومنه قول الراجز :


    يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا


    والنص : أعلى غاية الإسراع ، ومنه قول كثير :


    حلفت برب الراقصات إلى منى يجوب الفيافي نصها وذميلها


    والفجوة تقدم تفسيرها بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وهم في فجوة منه [ 18 \ 17 ] .

    وإذا علمت وقت إفاضته صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة ، وكيفية إفاضته ، فاعلم " أنه صلى الله عليه وسلم نزل في الطريق ، فبال ، وتوضأ وضوءا خفيفا ، وأخبرهم بأن الصلاة أمامهم . ثم أتى المزدلفة ، فأسبغ وضوءه ، وصلى المغرب ، والعشاء بأذان واحد ، وإقامتين ، ولم يصل بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر ، حين تبين له الصبح بأذان ، وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه ، وكبره ، وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " ، ومن فعل كفعله صلى الله عليه وسلم فقد أصاب السنة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وأما من خالف في ذلك ، فلم يبت بالمزدلفة ، فقد اختلف العلماء في حكمه إلى ثلاثة مذاهب .

    الأول : أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم .

    الثاني : أنه ركن لا يتم الحج بدونه .

    الثالث : أنه سنة وليس بواجب ، والقول : بأنه واجب يجبر بدم : هو قول أكثر أهل العلم منهم : مالك ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، والشافعي في المشهور عنه ، وعطاء ، والزهري ، وقتادة ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور .

    قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا : أنه ليس بركن ، [ ص: 443 ] فلو تركه صح حجه . قال القاضي أبو الطيب ، وأصحابنا : وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف . انتهى منه .

    وممن قال : بأنه ركن لا يصح الحج إلا به خمسة من أئمة التابعين ، وبعض الشافعية ، وأما الخمسة المذكورون : فهم علقمة ، والأسود ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن البصري ، وممن قال به من الشافعية : أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ، ونقله القرطبي أيضا عن عكرمة ، والأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، قال : وروي عن ابن الزبير . وقال ابن القيم في زاد المعاد : وهو مذهب اثنين من الصحابة : ابن عباس ، وابن الزبير ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود بن علي الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام . واختاره المحمدان ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، وهؤلاء القائلون بأن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج يقولون : إن فاته المبيت بها تحلل من إحرامه بعمرة ، ثم حج من قابل .

    وممن قال بأن المبيت بمزدلفة سنة لا يجب بتركه دم : بعض الشافعية ، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضا ، لكن الأول أصح منه ، وعن عطاء ، والأوزاعي : أنها منزل من شاء نزل به ، ومن شاء لم ينزل به ، وروى نحوه الطبري بسند فيه ضعف ، عن ابن عمر مرفوعا ، قاله الحافظ في الفتح .

    فإذا علمت أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : بأنه واجب ، وليس بركن : فقد استدلوا على أنه ليس بركن بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، وقد قدمنا ألفاظ رواياته ، وأنه صحيح ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " أن من أدرك عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه " ، ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر ، قد فاته المبيت بمزدلفة قطعا بلا شك ، ومع ذلك فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن حجه تام .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (336)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 444 إلى صـ 451







    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم صحيح ، ودلالته عليه هي المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإشارة ، ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة ، ودلالة الاقتضاء ، ودلالة الإيماء ، والتنبيه كلها من دلالة الالتزام ، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام اختلف فيها هل هي من قبيل المنطوق غير [ ص: 444 ] الصريح ، أو من قبيل المفهوم ؟ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله :


    وفي كلام الوحي والمنطوق هل ما ليس بالصريح فيه قد دخل


    وهو دلالة اقتضاء أن يدل لفظ ما دونه لا يستقل

    دلالة اللزوم مثل ذات إشارة كذاك الايماءات

    إلخ .

    وقصدنا هنا إيضاح دلالة الإشارة دون غيرها ، وضابط دلالة الإشارة هي : أن يساق النص لمعنى مقصود : فيلزم ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوما لا ينفك ، كما أشار له في المراقي بقوله :


    فأول إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما


    فإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم ، لم يذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور لقصد بيان حكم المبيت بمزدلفة ، ولكنه ذكره قاصدا بيان أن من أدرك الوقوف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر أن حجه تام ، وهذا المعنى المقصود يلزمه حكم آخر غير مقصود باللفظ وهو عدم ركنية المبيت بمزدلفة ، لأنه إذا لم يدرك عرفة إلا في الجزء الأخير من الليل ، فقد فاته المبيت بمزدلفة قطعا ، ومع ذلك فقد صرح صلى الله عليه وسلم بأن حجه تام .

    ومن أمثلة دلالة الإشارة في القرآن قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] فإنه يدل بدلالة الإشارة المذكورة على صحة صوم من أصبح جنبا ، لأن الآية الكريمة سيقت لبيان جواز الجماع في ليلة الصيام ، وذلك صادق بآخر جزء منها ، بحيث لا يبقى بعده من الليل قدر ما يسع الاغتسال ، فيلزم من جواز الجماع في آخر جزء من الليل الذي دلت عليه الآية أنه لا بد أن يصبح جنبا ، ولفظ الآية : لم يقصد به صحة صوم من أصبح جنبا ، ولكن المعنى الذي قصد به يلزمه ذلك كما بينا .

    ومن أمثلتها أيضا في القرآن قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فإن الآيتين لم يقصد بلفظهما بيان قدر أقل أمد الحمل ، ولكن المعنى الذي قصد بهما يلزمه أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ; لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا ، ثم بين أن الفصال في عامين ، فيطرح من الثلاثين شهرا أربعة وعشرون التي هي عاما الفصال ، فيبقى ستة أشهر ، فدلت الآيتان دلالة الإشارة على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم كما أوضحناه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] .

    [ ص: 445 ] ومراد الأصوليين أن المدلول عليه بالإشارة لم يقصد باللفظ ، أن اللفظ لا يتناوله بحسب الوضع اللغوي ، مع علمهم بأن علم الله محيط بكل شيء ، سواء دل عليه اللفظ المذكور بمنطوقه أو لم يدل عليه ، وحجتهم في أنه واجب يجبر بدم أنه نسك ، وفي أثر ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

    وأما حجة من قال : إنه ركن فهي من كتاب وسنة :

    أما الكتاب ، فقوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ 2 \ 198 ] قالوا : فهذا الأمر القرآني الصريح يدل على أنه لا بد من ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفة .

    وأما السنة ، فمنها حديث عروة بن مضرس ، الذي سقناه سابقا ، فإن فيه : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، وكان قد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " ، قالوا : فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مضرس هذا : " من أدرك معنا هذه الصلاة " الحديث . يفهم منه أن من لم يدركها معهم لم يتم حجه ، ولم يقض تفثه ، والمراد بها صلاة الصبح بمزدلفة كما هو واضح ، قالوا : وفي رواية عند النسائي ، عن عروة بن مضرس : من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك مع الناس الإمام فلم يدرك، قالوا : ولأبي يعلى ومن لم يدرك جمعا فلا حج له . وأجاب الجمهور القائلون : بأن المبيت بمزدلفة ليس بركن عن أدلة هؤلاء القائلين : إنه ركن لا يتم الحج إلا به .

    قالوا : أما الآية التي استدلوا بها على وجوب الوقوف بمزدلفة التي هي قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام الآية [ 2 \ 198 ] ، فإنها لم تتعرض للوقوف بمزدلفة أصلا ، وإنما أمر فيها بذكر الله عند المشعر الحرام .

    قالوا : وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة ، ولم يذكر الله أن حجه تام ، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج بإجماعهم فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضا ، وأجابوا عن استدلالهم بمفهوم الشرط في حديث عروة بن مضرس المذكور " من أدرك معنا هذه الصلاة " الحديث . بأنهم أجمعوا كلهم ، على أنه لو بات بمزدلفة ووقف قبل ذلك بعرفة ، ونام عن صلاة الصبح ، فلم يصلها مع الإمام ، حتى [ ص: 446 ] فاتته أنه حجه تام ، وقد قدمنا دلالة حديث عبد الرحمن بن يعمر على ذلك .

    وأجابوا عن رواية النسائي التي أشرنا إليها التي قال فيها : أخبرنا محمد بن قدامة ، قال : حدثني جرير ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك ، ومن لم يدرك مع الناس والإمام فلم يدرك " ا هـ بأن هذه الزيادة في هذه الرواية ، لم تثبت .

    قال ابن حجر في فتح الباري في بيان تضعيف الزيادة المذكورة : وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءا في إنكار هذه الزيادة ، وبين أنها من رواية مطرف ، عن الشعبي ، عن عروة ، وأن مطرفا كان يهم في المتون ، قال : وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أن من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام : أن الحج يفوته ، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه ، فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي . انتهى كلام ابن حجر مع حذف يسير .

    وأجابوا عن الرواية المذكورة عند أبي يعلى ، وغيره : بأنها ضعيفة .

    قال النووي في شرح المهذب في كلامه على قول القائلين : بأنه ركن ، واحتج لهم بالحديث المروي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من فاته المبيت بمزدلفة فقد فاته الحج " ، ثم قال : وأما الحديث فالجواب عنه من وجهين :

    أحدهما : أنه ليس بثابت ولا معروف .

    والثاني : أنه لو صح لحمل على فوات كمال الحج لا فوات أصله . انتهى منه .

    وما ذكرنا عن ابن حجر من تضعيف الزيادة المذكورة يعني به ما عند النسائي ، وأبي يعلى منها في حديث عروة المذكور .

    ومن أدلتهم على أن المبيت بمزدلفة ركن : أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وأجاب الجمهور عن هذا : بأنهم لم يخالفوا في أنه نسك ، ينبغي أن يؤخذ عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكن صحة الحج بدونه علمت بدليل آخر : وهو حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي المذكور سابقا ، الدال على عدم اشتراط المبيت بمزدلفة ، كما أوضحنا وجه دلالته على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

    وأما حجة من قال : إن المبيت بمزدلفة : سنة ، وليس بركن ، ولا واجب هي : أنه مبيت ، فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة . أعني : الليلة التاسعة التي صبيحتها يوم عرفة ، هذا هو حاصل أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في المبيت بمزدلفة .

    [ ص: 447 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد قدمنا أن الاستدلال بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، على عدم ركنية المبيت بمزدلفة صحيح ، وأن دلالته على ذلك دلالة إشارة كما هو معروف في الأصول ، ولا شك أنه ينبغي للحاج أن يحرص على أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيبيت بمزدلفة كما قدمنا إيضاحه ، والعلم عند الله تعالى .
    فروع تتعلق بهذه المسألة

    الفرع الأول : قد قدمنا أن المزدلفة كلها موقف ، فحيث وقف منها أجزأه ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وقد قدمناه من حديث جابر عند مسلم .

    الفرع الثاني : اعلم أنه ينبغي التعجيل بصلاة الصبح يوم النحر بمزدلفة في أول وقتها ، كما فعل صلى الله عليه وسلم .

    واعلم أن ما رواه البخاري ، ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى صلاة إلا بميقاتها إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بجمع ، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها . ليس المراد به أنه صلى الصبح قبل طلوع الفجر ، لأن ذلك ممنوع إجماعا ، ولكن مراده به أنه صلاها قبل ميقاتها المعتاد الذي كان يصليها فيه ، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر .

    ومما يدل على هذا ما رواه البخاري في صحيحه ، عن عبد الله بن مسعود نفسه رضي الله عنه ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : حج عبد الله رضي الله عنه ، فأتينا المزدلفة . الحديث ، وفيه : فلما طلع الفجر قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم . قال عبد الله : هما صلاتان يحولان عن وقتهما ، صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة ، والفجر حين يبزغ الفجر ، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله انتهى من صحيح البخاري .

    فقول ابن مسعود في هذا الحديث الصحيح : فلما طلع الفجر ، وقوله : والفجر حين يبزغ الفجر ، وإتباعه ذلك بقوله : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، صريح فيما ذكرنا من أن مراده بقوله : قبل ميقاتها يعني به : وقتها الذي يصليها فيه عادة ، وليس مراده أنه صلاها قبل طلوع الفجر كما ترى .

    [ ص: 448 ] الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يكفي في النزول بالمزدلفة ، فذهب مالك ، وأصحابه ، إلى أن النزول بمزدلفة بقدر ما يصلي المغرب والعشاء ، ويتعشى يكفيه في نزول مزدلفة ولو أفاض منها قبل نصف الليل ، وبعضهم يقول : لا بد في ذلك من حط الرحال ، وذهب الشافعي ، وأحمد إلى أنه إن دفع منها بعد نصف الليل أجزأه ، وإن دفع منها قبل نصف الليل لزمه دم . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن دفع منها قبل الفجر لزمه دم ; لأن وقت الوقوف عنده بعد صلاة الصبح ، ومن حضر المزدلفة في ذلك الوقت فقد أتى بالوقوف ، ومن تركه ودفع ليلا فعليه دم إلا إن كان لعذر .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي في هذه المسألة : هو أنه ينبغي أن يبيت إلى الصبح ; لأنه لا دليل مقنعا يجب الرجوع إليه مع من حدد بالنصف الأخير ، ولا مع من اكتفى بالنزول ، وقياسهم الأقوياء على الضعفاء قائلين : إنه لو كان الدفع بعد النصف ممنوعا لما رخص فيه صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله ; لأنه لا يرخص لأحد في حرام ، قياس مع وجود الفارق ، ولا يخفى ما في قياس القوي على الضعيف الذي رخص له لأجل ضعفه كما ترى ، ولا خلاف بين العلماء أن السنة أنه يبقى بجمع حتى يطلع الفجر كما تقدم ومن المعلوم أن جمعا ، والمزدلفة ، والمشعر الحرام أسماء مترادفة يراد بها شيء واحد خلافا لمن خصص المشعر الحرام بقزح دون باقي المزدلفة .

    الفرع الرابع : اعلم أنه لا بأس بتقديم الضعفة إلى منى قبل طلوع الفجر . قال ابن قدامة في المغني : ولا نعلم فيه مخالفا اهـ ومن المعلوم أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    قال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ، ويقدم إذا غاب القمر : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال سالم : وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله ، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم ، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام ، وقبل أن يدفع ، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل .

    [ ص: 449 ] حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال : أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله . حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله مولى أسماء ، عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني ، هل غاب القمر ؟ قلت : لا فصلت ساعة ، ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا حتى رمت الجمرة ، فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه : ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن .

    حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن القاسم ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع ، وكانت ثقيلة ثبطة ، فأذن لها .

    حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : نزلنا المزدلفة ، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس ، وكانت امرأة بطيئة ، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس ، وأقمنا حتى أصبحنا نحن . ثم دفعنا بدفعه فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به . انتهى من صحيح البخاري .

    وهذه الأحاديث التي رواها البخاري عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأسماء ، وعائشة رضي الله عنهم رواها كلها مسلم في صحيحه أيضا ، مع بعض اختلاف في الألفاظ والمعنى .

    وروى مسلم في صحيحه : عن أم حبيبة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل ، وفي لفظ لها عند مسلم : كنا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نغلس من جمع إلى منى ، وفي رواية الناقد : نغلس من مزدلفة اهـ وهذه النصوص الصحيحة تدل على جواز تقديم الضعفة ، والنساء من المزدلفة ليلا كما ترى .

    الفرع الخامس : اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من الضعفة وغيرهم ، مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك ، فذهبت جماعة من أهل العلم ، إلى أن أول الوقت الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر ، وممن قال بهذا : الشافعي ، وأحمد ، وعطاء ، وابن أبي [ ص: 450 ] ليلى ، وعكرمة بن خالد كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وقال النووي في شرح المهذب : وبه قال عطاء ، وأحمد ، وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر ، وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد ، وذهبت جماعة من أهل العلم : إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس ، وهو اختيار ابن القيم ، وإذا علمت أقوال أهل العلم في المسألة ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

    أما الذين قالوا : إن رمي جمرة العقبة يجوز في النصف الأخير من ليلة النحر فقد استدلوا بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هارون بن عبد الله ، ثنا ابن أبي فديك ، عن الضحاك - يعني ابن عثمان - ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت ، فأفاضت وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها انتهى منه .

    قال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : وأما حديث عائشة في إرسال أم سلمة فصحيح . رواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وقال الزيلعي في نصب الراية ، بعد أن ساق حديث أبي داود : هذا عن عائشة ، ورواه البيهقي في سننه ، وقال : إسناده صحيح لا غبار عليه ، وما ذكره الزيلعي من أنه قال : إسناده صحيح لا غبار عليه لم أره في سننه الكبرى ، وقد ذكر الحديث فيها بدون التصحيح المذكور .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره النووي من كون إسناد أبي داود المذكور صحيحا ، على شرط مسلم صحيح ; لأن طبقته الأولى هارون الحمال وهو ثقة من رجال مسلم ، وطبقته الثانية محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك ، وهو صدوق . أخرج له الشيخان وغيرهما ، وطبقته الثالثة الضحاك بن عثمان الحزامي الكبير ، وهو صدوق يهم ، وهو من رجال مسلم ، وباقي الإسناد هشام ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة وصحته ظاهرة ، فالاحتجاج بهذا الإسناد ظاهر ، لأن جميع رجاله من رجال مسلم ، وبعض رجاله أخرج له الجميع فظاهره الصحة مع أن بعض أهل العلم ضعفه قائلا : إنه مضطرب متنا وسندا ، وممن ذكر أنه ضعفه الإمام أحمد ، وغيره ، ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة .

    وتعتضد بما رواه الخلال : أنبأنا علي بن حرب ، حدثنا هارون بن عمران ، عن سليمان بن أبي داود ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أخبرتني أم سلمة قالت : قدمني [ ص: 451 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ، ثم مضيت إلى مكة ، فصليت بها الصبح ، ثم رجعت إلى منى ، انتهى منه بواسطة نقل ابن القيم في زاد المعاد ، ولا شك أن هذه الرواية عن أم سلمة تقوي الرواية الأولى عن عائشة . ولما ساق ابن القيم هذه الرواية التي ذكرها الخلال قال : قلت : سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني ، ويقال : ابن داود قال أبو زرعة : عن أحمد : رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء ، وقال عثمان بن سعيد : ضعيف .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : رواية سليمان بن داود المذكورة لا تقل عن أن تعضد الرواية المذكورة قبلها ، وسليمان المذكور وثقه وأثنى عليه غير واحد ، قال فيه ابن حبان : سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون ، وقال البيهقي : وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وعثمان بن سعيد ، وجماعة من الحفاظ انتهى بواسطة نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب .

    وقال ابن حجر فيه أيضا : قلت : أما سليمان بن داود الخولاني ، فلا ريب في أنه صدوق ، وقال فيه في التقريب : سليمان بن داود الخولاني أبو داود الدمشقي : سكن داريا صدوق من السابعة . وبذلك كله يعلم أن روايته لا تقل عن أن تكون عاضدا لغيرها .

    هذا هو حاصل حجة من أجاز رمي الجمرة قبل الصبح .

    وأما حجة من قال : لا يجوز رميها ، إلا بعد طلوع الشمس ، فمنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها وقت الضحى . وقال : " خذوا عني مناسككم " .

    ومنها ما رواه أصحاب السنن ، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله ، فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس " . وفي لفظ عن ابن عباس ، قال : " قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة - أغيلمة بني عبد المطلب - على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : أي بني ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " ، قال أبو داود : اللطح الضرب اللين ، وهذا الحديث صحيح ، وقال الترمذي رحمه الله في هذا الحديث : قال أبو عيسى : حديث ابن عباس حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ، وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس المذكور ، أما حديث ابن عباس ، فصحيح رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح انتهى كلام النووي .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (337)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 452 إلى صـ 459








    [ ص: 452 ] وقال ابن القيم في زاد المعاد في حديث ابن عباس المذكور : حديث صحيح ; صححه الترمذي وغيره .

    وأما حجة من قال : بجواز رمي جمرة العقبة للضعفة بعد الصبح قبل طلوع الشمس دون غيرهم ، وأن غيرهم لا يجوز له رميها إلا بعد طلوع الشمس ، فمنها حديث أسماء المتفق عليه الذي قدمناه .

    قال فيه : قالت : يا بني : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا ، حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت ، فصلت الصبح في منزلها فقلت لها : يا هنتاه : ما أرانا إلا قد غلسنا قالت : يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن " اهـ . فهذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس ، بل بغلس ، وهو بقية الظلام ، ومنه قول الأخطل :


    كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا


    وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم : أذن في ذلك للظعن ، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور كما ترى .

    ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه أيضا ، فإن فيه : أنه كان يقدم ضعفة أهله ، وأن منهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحديث ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى ، ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة : أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس ، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء ، وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك ، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء ، قبل طلوع الفجر ، فهو محل نظر ، فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه ، وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن : يقتضي منعه .

    والقاعدة المقررة في الأصول : هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما ، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم ، فجعلوا لرمي جمرة العقبة [ ص: 453 ] وقتين : وقت فضيلة ، ووقت جواز ، وحملوا حديث ابن عباس : على وقت الفضيلة ، وحديث عائشة : على وقت الجواز ، وله وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .

    أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ، ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة ، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور ، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق ، وهو مردود كما هو مقرر في الأصول وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :


    والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح
    أو مانع في الفرع . . . إلخ


    ومحل الشاهد منه قوله : إبداء مختص بالأصل قد صلح ; لأن معترض قياس القوي على الضعيف في هذه المسألة يبدي وصفا مختصا بالأصل دون الفرع صالحا للتعليل ، وهو الضعف ; لأن الضعف الموجود في الأصل المقيس عليه الذي هو علة الترخيص المذكور ، ليس موجودا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى والعلم عند الله تعالى .

    الفرع السادس : اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر ، فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها .

    قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن مستحبا لها انتهى منه بواسطة نقل ابن قدامة في المغني فإن فات يوم النحر ولم يرمها فقال بعض أهل العلم : يرميها ليلا والذين قالوا : يرميها ليلا : منهم من قال : رميها ليلا أداء لا قضاء ، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية حكاهما صاحب التقريب ، والشيخ أبو محمد الجويني ، وولده إمام الحرمين ، وآخرون .

    قال النووي : وروى مالك في الموطإ عن أبي بكر بن نافع مولى ابن عمر ، عن أبيه نافع : أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة ، فتخلفت هي وصفية ، حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر ، فأمرهما عبد الله بن عمر : أن ترميا ، ولم ير عليهما شيئا . انتهى منه . وهو دليل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء لمن كان له عذر [ ص: 454 ] كصفية ، وابنة أخيها . وممن قال يرميها ليلا : مالك ، وأصحابه ; لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره .

    وفي الموطإ قال يحيى : سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي ؟ قال : ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار ، كما يصلي الصلاة ، إذا نسيها ، ثم ذكرها ليلا أو نهارا ، فإن كان ذلك بعد ما صدر ، وهو بمكة ، أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي انتهى من الموطإ .

    وقال الشيخ المواق في شرحه : لمختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله : والليل قضاء ، قال ابن شاس . للرمي وقت أداء ، ووقت قضاء ، ووقت فوات ، فوقت الأداء : في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال : وتردد الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء ، أو وقت قضاء ؟ ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس ، وتردد في الليل كما تقدم انتهى منه .

    وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي : ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه ; لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا ، كما في الوقوف بعرفة ، فإن أخره إلى الغد رماه وعليه دم ، انتهى كرماني ، انتهى منه .

    وقال بعض أهل العلم : إن غربت الشمس من يوم النحر ، وهو لم يرم جمرة العقبة ، لم يرمها في الليل ، ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد ، قال ابن قدامة في المغني : فإن أخرها إلى الليل ، لم يرمها ، حتى تزول الشمس من الغد وبهذا قال أبو حنيفة ، وإسحاق ، وقال الشافعي ، ومحمد بن المنذر ، ويعقوب : يرميها ليلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارم ولا حرج " ، انتهى من المغني .

    فإذا عرفت أقوال أهل العلم في الرمي ليلا هل يجوز أو لا ؟ وعلى جوازه هل هو أداء أو قضاء ؟

    فاعلم أن من قال بجواز الرمي ليلا ، استدل بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : من أنه لا حرج على من رمى بعد ما أمسى ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول : " لا حرج ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : [ ص: 455 ] اذبح ولا حرج ، وقال : رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال : لا حرج " ، قالوا : قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه ، واسم المساء يصدق بجزء من الليل .

    واعلم أن من قالوا : لا يجوز الرمي ليلا ردوا الاستدلال بهذا الحديث قائلين : إن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل قالوا : والدليل الواضح على ذلك : أن حديث ابن عباس المذكور فيه : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يسأل يوم النحر بمنى ، الحديث ، فتصريحه بقوله يوم النحر يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار ; لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل .

    قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور : قال : رميت بعد ما أمسيت ؛ أي : بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام ، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل انتهى منه .

    وقال ابن منظور في لسان العرب : المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب ، وقال بعضهم : إلى نصف الليل ا هـ .

    قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل ، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا ، وأجاب القائلون : بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة .

    الأول منها : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حرج " بعد قول السائل : رميت بعد ما أمسيت يشمل لفظه نفي الحرج ، عمن رمى بعد ما أمسى وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل ، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار ، وقد قدمنا الأدلة الصحيحة على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

    الجواب الثاني : أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس المذكور ما هو أعم من يوم النحر ، وهو صادق قطعا ، بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق ، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق : رميت بعد ما أمسيت لا ينصرف إلا إلى الليل ; لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي .

    قال أبو عبد الرحمن النسائي في سننه أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : [ ص: 456 ] حدثنا يزيد ، هو ابن زريع قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول : " لا حرج " ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : " لا حرج " ، فقال رجل : رميت بعد ما أمسيت ؟ قال : " لا حرج " انتهى منه ، وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى ; لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع ، وهو ثقة معروف ، وهو من رجال مسلم في صحيحه ، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا ، وقوله في هذا الحديث الصحيح : " أيام منى " بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد ، فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق ، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل كما بينا .

    فإن قيل : صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري ، فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به ، ويؤيد ذلك : أن في رواية أبي داود ، وابن ماجه لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد .

    فالجواب : أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور . سواء كان العام ، وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين .

    فمثال كونهما في نص واحد قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] فلا يخصص عموم الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات بالصلاة الوسطى بل المحافظة على جميعها واجبة .

    ومثال كونهما في نصين : حديث ابن عباس العام في جلود الميتة : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " مع حديثه الآخر أنه تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " الحديث ، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة : " أيما إهاب دبغ " الحديث ، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة ، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص ; لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم :


    وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد


    وللمخالفين القائلين : لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا رواية [ ص: 457 ] النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول : " لا حرج " وأنه سأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت فقال " لا حرج " ، ولم يعين اليوم الذي قال فيه : رميت بعد ما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية البخاري أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر من أيام منى ، ولا ينافي ذلك أنه قال : لا حرج في أشياء أخر في بقية أيام منى ، وغاية ذلك أن أيام منى عام ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه رميت بعد ما أمسيت .

    الجواب الثالث : هو ما قدمنا في الموطأ عن ابن عمر من : أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد ، وابنة أخيها ، برمي الجمرة بعد الغروب ، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك ، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز ، وقد يقال : إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر ، لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها ، والعلم عند الله تعالى .

    الفرع السابع : اعلم أنه لا بأس بلقط الحصيات من المزدلفة : أعني السبع التي ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر ، وبعض أهل العلم يقول : إن لقطها من المزدلفة مستحب ، واستدلوا لذلك بأمرين :

    الأول : حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر : " القط لي حصى " فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف ، قال النووي في شرح المهذب : وأما حديث الفضل بن عباس في لقط الحصيات فصحيح رواه البيهقي بإسناد حسن ، أو صحيح ، وهو على شرط مسلم من رواية عبد الله بن عباس ، عن أخيه الفضل بن عباس ، ورواه النسائي ، وابن ماجه بإسنادين صحيحين ، إسناد النسائي على شرط مسلم ، لكنهما روياه من رواية ابن عباس مطلقا ، وظاهر روايتيهما أنه عبد الله بن عباس ، لا الفضل ، وكذا ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الأطراف في مسند عبد الله بن عباس ، لا الفضل بن عباس ، ولم يذكره في مسند الفضل ، والجميع صحيح كما ذكرناه ، فيكون ابن عباس وصله في رواية البيهقي وأرسله في روايتي النسائي ، وابن ماجه ، وهو مرسل صحابي وهو حجة لو لم يعرف المرسل عنه فأولى بالاحتجاج ، وقد عرف هنا أنه الفضل بن عباس .

    فالحاصل : أن الحديث صحيح من رواية الفضل بن عباس والله أعلم ، انتهى كلام النووي .

    الأمر الثاني : أن السنة أنه إذا أتى منى لا يشتغل بشيء قبل الرمي ، فاستحب أن يأخذ [ ص: 458 ] الحصى من منزله بمزدلفة ليلا يشتغل عن الرمي بلقطه إذا أتى منى ، ولا شك أنه إن أخذ الحصى من غير المزدلفة أنه يجزئه ; لأن اسم الحصى يقع عليه ، والله تعالى أعلم .

    الفرع الثامن : اعلم أن السنة أن يكون الحصى الذي يرمي به مثل حصى الخذف ; لأحاديث واردة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث جابر الطويل في صحيح مسلم : فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف الحديث .

    قال في اللسان : والخذف رميك بحصاة ، أو نواة تأخذها بين سبابتيك ، وقال الجوهري في صحاحه : الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع ، ومنه قول الشاعر : " خذف أعسرا " ا هـ منه ، والشاعر امرؤ القيس وتمام البيت :


    كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا نجلته رجلها خذف أعسرا


    الفرع التاسع : اعلم أن جمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة واجب يجبر بدم ، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال : هو ركن واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق واحتج ابن الماجشون : بأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها ، وقال " لتأخذوا عني مناسككم " ، كما في صحيح مسلم ، وفي رواية البيهقي " خذوا عني مناسككم " ، وفي رواية أبي داود : " لتأخذوا مناسككم " .

    الفرع العاشر : أجمع العلماء على أنه لا يرمى من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة .

    الفرع الحادي عشر : اعلم أن الأفضل في موقف من أراد رمي جمرة العقبة أن يقف في بطن الوادي ، وتكون منى عن يمينه ، ومكة عن يساره كما دلت الأحاديث الصحيحة ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك .

    قال النووي في شرح المهذب : وبهذا قال جمهور العلماء ، منهم ابن مسعود ، وجابر ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، وعطاء ، ونافع ، والثوري ، ومالك وأحمد ، قال ابن المنذر : وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزحام فرماها من فوقها .
    المسألة العاشرة

    ند مالك : إلا النساء ، والصيد ، والطيب ، فإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى بعد طواف القدوم ، أو سعى بعد إفاضته فقد تحلل التحلل الثاني ، وبه يحل كل شيء كان محظورا بالإحرام ، حتى النساء ، والصيد ، والطيب .
    [ ص: 459 ] فروع تتعلق بهذه المسألة

    الفرع الأول : اعلم أنهم اختلفوا في الحلق ، هل هو نسك كما قدمنا في سورة البقرة ؟

    فمن قال : هو نسك قال : إن التحلل الأول لا يكون إلا بعد الرمي ، والحلق معا ، ومن قال : إن الحلق غير نسك قال : يتحلل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر .

    وأظهر القولين عندي : أن الحلق نسك ، كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي الآية [ 2 \ 196 ] .

    الفرع الثاني : في مذاهب العلماء في مسألة التحلل : فمذهب مالك : أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر : يحل له كل شيء إلا النساء ، والصيد ، والطيب ، والطيب مكروه عنده بعد رميها لا حرام ، وإن طاف طواف الإفاضة . وكان قد سعى حل له كل شيء ، ومذهب أبي حنيفة : أنه إذا حلق ، أو قصر حل التحلل الأول ، ويحل به كل شيء عنده إلا النساء ، وإن طاف طواف الإفاضة حل له النساء ، وهم يقولون : إن حل النساء بعد الطواف إنما هو بالحلق السابق ، لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف ، غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد ، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت .

    والدليل على ذلك : أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق ، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق ، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة العقبة ، وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر ، ومذهب الشافعي في هذه المسألة هو : أنه على القول بأن الحلق نسك يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة هي : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة ، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول ، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني ، وبالأول يحل عنده كل شيء إلا النساء ، وبالثاني تحل النساء ، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك ، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين : هما رمي جمرة العقبة ، وطواف الإفاضة . ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني ، ومذهب الإمام أحمد هو أنه إن رمى جمرة العقبة ، ثم حلق تحلل التحلل الأول ، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء ، فإن طاف طواف الإفاضة ، حلت له النساء .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (338)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 460 إلى صـ 467







    [ ص: 460 ] وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب أحمد . وهذا قول ابن الزبير ، وعائشة ، وعلقمة ، وسالم ، وطاوس ، والنخعي ، وعبد الله بن الحسين ، وخارجة بن زيد ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وروي أيضا عن ابن عباس ، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج ; لأنه أغلظ المحرمات ، ويفسد النسك ، بخلاف غيره . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يحل له كل شيء إلا النساء ، والطيب . وروي ذلك عن ابن عمر ، وعروة بن الزبير ، وعباد بن عبد الله بن الزبير ، لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة ، وعن عروة : أنه لا يلبس القميص ، ولا العمامة ، ولا يتطيب ، وروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا انتهى كلام صاحب المغني .

    وإذا عرفت أقوال أهل العلم في المسألة ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

    أما حجة مالك في أن التحلل الأول يحل به ما سوى النساء والصيد والطيب : أما بالنسبة إلى الصيد ، فلم أر له مستندا من النقل ، إلا أمرين :

    أحدهما : أثر مروي عن مكحول ، عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد : ذكر هذا الأثر صاحب المهذب ، وقال النووي في شرحه : وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل . لأن مكحولا لم يدرك عمر فحديثه عنه منقطع ومرسل . والله أعلم .

    والثاني : التمسك بظاهر قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ 5 \ 95 ] لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة العقبة دليل على بقاء إحرامه في الجملة ، فيشمله عموم لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية ، لما حرم عليه الوطء .

    وأما حجته أعني مالكا بالنسبة إلى النساء والطيب ، فهي ما روى في موطئه عن نافع ، وعبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة ، وعلمهم أمر الحج ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى ، فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء ، والطيب لا يمس أحد نساء ، ولا طيبا حتى يطوف بالبيت ا هـ .

    ومما يستدل به لمالك على ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو [ ص: 461 ] عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ، ثنا إبراهيم بن عبد الله ، أنبأ زيد بن هارون ، أنبأ يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن الزبير قال : من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء الآخرة ، والصبح بمنى ، ثم يغدو إلى عرفة ، الحديث ، وفيه : فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء ، والطيب حتى يزور البيت ا هـ . ثم قال : هذا حديث على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ولم يتعقبه عليه الذهبي .

    هذا هو حاصل حجة مالك وأصحابه في أن التحلل الأول يحل به ، ما عدا النساء والصيد ، والطيب ، وقد قدمنا أن الطيب بعد رمي الجمرة مكروه عنده لا حرام .

    وأما حجة من قال : إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق : حل له كل شيء إلا النساء : كأحمد ، والشافعي ومن وافقهما ، فمنها حديث عائشة المتفق عليه ، قالت : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت . هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ولفظ مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت ، وفي لفظ : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم ، ولحله حين أحل . قبل أن يطوف بالبيت . وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظا متعددة متقاربة معناها واحد .

    منها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت .

    ومن أدلتهم على ذلك : ما رواه الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء . قال رجل : والطيب ؟ فقال ابن عباس : أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك ، أفطيب ذلك أم لا ؟ قال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس هذا : وقد روى النسائي بإسناده ، عن الحسن بن عبد الله العرني ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء " هكذا رواه النسائي ، وابن ماجه مرفوعا ، وإسناده جيد ، إلا أن يحيى بن معين وغيره ، قالوا : يقال : إن الحسن العرني لم يسمع ابن عباس ، ورواه البيهقي موقوفا على ابن عباس . انتهى كلام النووي رحمه الله .

    والذي رأيته في سنن النسائي ، وابن ماجه : أن حديث الحسن العرني المذكور موقوف عندهما على ابن عباس ، إلا ما ذكره من أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتضمخ بالمسك . وقال [ ص: 462 ] ابن حجر في تهذيب التهذيب في الحسن العرني المذكور ، قال أحمد : لم يسمع من ابن عباس شيئا ، وقال أبو حاتم : لم يدركه ا هـ . والعرني بضم العين ، وفتح الراء ثم نون : نسبة إلى عرينة بطن من بجيلة .

    ومن أدلتهم على ذلك : ما رواه أبو داود في سننه من طريق الحجاج بن أرطاة ، عن الزهري ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء " ا هـ .

    ومعلوم أن هذا الحديث ضعيف من وجهين :

    أحدهما : هو ما قدمنا من تضعيف الحجاج بن أرطاة .

    والثاني : أن الحجاج المذكور لم يسمع من الزهري . وقد قال أبو داود في سننه بعد أن ساق هذا الحديث : هذا حديث ضعيف : الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه ، وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : أما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه أبو داود بإسناد ضعيف جدا من رواية الحجاج بن أرطاة ، وقال : هو حديث ضعيف اهـ .

    هذا هو حاصل حجة من قال : إنه يحل له بعد رمي جمرة العقبة كل شيء إلا النساء ، وأما ما ذكرنا عن الشافعي : من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة : هي الرمي ، والحلق ، والطواف ، وتحل النساء بالثالث منها ، بناء على أن الحلق نسك ، وعلى أنه ليس بنسك يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين ، هما : الرمي ، والطواف وتحل له النساء بالثاني منهما لم نعلم له نصا يدل عليه ، هكذا والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل ، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق ، فجعل هو الطواف كواحد منهما . والله تعالى أعلم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول ، لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك . وكذلك لبس الثياب ، وقضاء التفث ، وأن الجماع لا يحل إلا بالتحلل الأخير ، وأما حلية الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر ; لأن الأحاديث التي فيها التصريح ، بأنه يحل له كل شيء إلا النساء ، قد علمت ما فيها من الكلام ، وحديث عائشة المتفق عليه لم يتعرض لحل الصيد .

    وظاهر قوله : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول ; لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة ، وإن كان قد حل له بعض [ ص: 463 ] ما كان حراما عليه ، والله تعالى أعلم .
    المسألة الحادية عشرة

    في أحكام الرمي

    اعلم أنا قدمنا في الكلام على الإفاضة من مزدلفة إلى منى بعض أحكام رمي جمرة العقبة ، فبينا كلام العلماء في حكمه ، وفي أول وقته وآخره ، وذكرنا بعض الأحكام المتعلقة برميها قريبا ، والآن سنذكر إن شاء الله المهم من أحكام الرمي .

    اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب يجبر بدم عند جماهير العلماء على اختلاف بينهم في تعدد الدماء فيه ، وعدم تعددها ، ولا خلاف بينهم في أنه ليس بركن لأن الحج يتم قبله ، ويتحلل صاحبه التحلل الأصغر والأكبر ، فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام ، فحجه تام إجماعا قبل رمي أيام التشريق ، ولكن رميها واجب يجبر بدم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيها ، وقال " لتأخذوا عني مناسككم " .
    فروع تتعلق بهذه المسألة

    الفرع الأول : اعلم أن التحقيق أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال : " رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعد فإذا زالت الشمس " هذا لفظ مسلم عنه في صحيحه ، وحديث جابر هذا الذي رواه مسلم في صحيحه موصولا باللفظ الذي ذكرنا ، رواه البخاري تعليقا مجزوما به بلفظ : وقال جابر : " رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ، ورمى بعد ذلك بعد الزوال " ، ثم ساق البخاري رحمه الله بسنده عن ابن عمر قال : كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا .

    وقال ابن حجر في ( ( فتح الباري ) ) في قول ابن عمر : كنا نتحين . الحديث ، فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل على أن الحافظ ابن حجر يرى قول ابن عمر : كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا ، له حكم الرفع ، وحديث جابر الصحيح المذكور قبله صريح في الرفع ، وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس " الحديث ، وفي إسناده محمد بن إسحاق ، صاحب المغازي ، وهو مدلس ، وقد قال ابن إسحاق المذكور في الإسناد المذكور ، عن [ ص: 464 ] عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، والمدلس إذا عنعن لم تقبل روايته عند أهل الحديث ، وقد قدمنا مرارا أن من يحتج بالمرسل ، يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، وأن المشهور عن أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد : الاحتجاج بالمرسل . وروى الإمام أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : " رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس " .

    وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء ، وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال ، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال ، وقول إسحاق : إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه ، كل ذلك خلاف التحقيق لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه المعتضد بقوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد ، وأبو يوسف ، ولم يرد في كتاب الله ، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك ، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق لا مستند له ألبتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الثاني : اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق ، فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فيرميها بسبع حصيات مثل حصى الخذف ، يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف ، فيدعو طويلا ، ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى ، فيرميها كالتي قبلها ، ثم يقف ، فيدعو طويلا ، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة ، فيرميها كذلك ، ولا يقف عندها بل ينصرف إذا رمى وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر بأخذ المناسك عنه . فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور . ففي صحيح البخاري رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على إثر كل حصاة ، ثم يتقدم ، حتى يسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ويقوم طويلا ، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ا هـ .

    روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية ، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " فإن لم يرتب الجمرات ، بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسا لأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا ، فيكون مردودا ، وبهذا قال [ ص: 465 ] مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجمهور أهل العلم ، وقال أبو حنيفة : الترتيب المذكور سنة ، فإن نكس الرمي أعاده وإن لم يعد أجزأه ، وهو قول الحسن ، وعطاء ، واحتجوا بأدلة لا تنهض . وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور : إن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة ، ثم الوسطى ، ثم الأولى ، أو بدأ بالوسطى ، ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى لعدم الترتيب في الوسطى ، والأخيرة ، فعليه أن يرمي الوسطى ، ثم الأخيرة ، ولو رمى جمرة العقبة . ثم الأولى ، ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها هذا هو الظاهر .

    واعلم أن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الرمي ، ليس فيها نص ، وسنذكر هنا بعض ذلك مما يظهر لنا أنه أقرب للصواب ، مع الاختصار ، لعدم النصوص في ذلك .

    فمن ذلك : أن الأقرب فيما يظهر لنا أنه لا بد من رمي الحصاة بقوة ، فلا يكفي طرحها ، ولا وضعها باليد في المرمى ; لأن ذلك ليس برمي في العرف خلافا لمن قال : إنه رمي ، وأنه لا بد من وقوع الحصاة في نفس المرمى ، وهو الجمرة التي يحيط بها البناء واستقرارها فيه خلافا لمن قال : إنها إن وقعت في المرمى ، ثم تدحرجت حتى خرجت منه : أنه يجزئه ، وأنها لو ضربت شيئا دون المرمى ، ثم طارت ، وسقطت في المرمى : أن ذلك يجزئه بخلاف ما لو جاءت في محمل ، أو في ثوب رجل ، فتحرك المحمل ، أو الرجل ، فسقطت في المرمى ، فإنها لا تجزئ ، وكذلك لو جاءت دون المرمى ، فأطارت حصاة أخرى ، فجاءت هذه الحصاة الأخرى في المرمى ، فإنها لا تجزئه . لأن الحصاة التي رماها لم تسقط في المرمى ، وإنما وقعت فيه الحصاة التي أطارتها ، وأنها إن أخطأت المرمى ، ولكن سقطت قريبا منه أن ذلك لا يجزئه ، خلافا لمن قال : يجزئه ، وأنه لا ينبغي أن يرمي إلا بالحجارة ، فلا ينبغي الرمي بالمدر ، والطين ، والمغرة ، والنورة ، والزرنيخ ، والملح ، والكحل ، وقبضة التراب ، والأحجار النفيسة : كالياقوت ، والزبرجد ، والزمرد ، ونحو ذلك ، خلافا لمن أجاز الرمي بذلك .

    ولا يجوز الرمي بالخشب ، والعنبر ، واللؤلؤ ، والجواهر ، والذهب ، والفضة ، والأقرب أيضا أن الحصاة إن وقعت في شقوق البناء المنتصب في وسط الجمرة ، وسكنت فيها أنها لا تجزئ ، لأنها وقعت في هواء المرمى ، لا في نفس المرمى خلافا لمن قال : إنها تجزئه ، والأقرب أنه لا يلزم غسل الحصى لعدم الدليل على ذلك ، وأنه لو رمى بحصاة نجسة أجزأه ذلك لصدق اسم الرمي عليه ، وعدم نص على اشتراط طهارة [ ص: 466 ] الحصى مع كراهة ذلك عند بعض أهل العلم ، وقول بعضهم : بعدم الإجزاء ، والأقرب أنه لو رمى بحصاة قد رمى بها أنها تجزئه لصدق اسم الرمي عليها ، وعدم النص على منع ذلك ، ولا على عدم إجزائه ولكن الأحوط في الجميع الخروج من الخلاف ، كما قال بعضهم :


    وأن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن

    وفي كتب الفروع هنا أشياء تركناها لكثرتها .

    تنبيه

    اعلم أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي منه الجمرة ، فقال بعض أهل العلم : الجمرة في اللغة : الحصاة ، وسميت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك ، لأنها المحل الذي يرمى فيه بالحصى ، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، والتجمير رمي الحصى في الجمار ، ومنه قول ابن أبي ربيعة :


    بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
    فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان


    والمجمر بصيغة اسم المفعول مضعفا : هو الموضع الذي ترمى فيه الجمار ، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي :


    لأدركهم شعث النواصي كأنهم سوابق حجاج توافي المجمرا


    وقال بعض أهل العلم : أصل الجمرة من التجمر بمعنى التجمع ، تقول العرب : تجمر القوم ، إذا اجتمعوا ، وانضم بعضهم إلى بعض ، وجمرهم الأمر : أحوجهم إلى التجمر ، وهو التجمع ، وجمر الشيء : جمعه ، وجمر الأمير الجيش ، إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثغر ، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق ، وروى الربيع : أن الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر :


    وجمرتنا تجمير كسرى جنوده ومنيتنا حتى نسينا الأمانيا


    والجمار : القوم المجتمعون ، ومنه قول الأعشى :


    فمن مبلغ وائلا قومنا وأعني بذلك بكرا جمارا


    [ ص: 467 ] ؛ أي : مجتمعين ، وعلى هذا فاشتقاق الجمرة من التجمر بمعنى التجمع ; لاجتماع الحجيج عندها يرمونها ، وقيل : لأن الحصى يتجمع فيها ، وقيل : اشتقاق الجمرة من أجمر إذا أسرع ; لأن الناس يأتون مسرعين لرميها . وقيل : أصلها من جمرته إذا نحيته ، وأظهرها القول الأول والثاني ، والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الثالث : في آخر وقت الرمي أيام التشريق .

    قد علمت أن أول وقت رميها بعد الزوال ، ولا خلاف بين العلماء ، أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب .

    واختلفوا فيما بعد الغروب ، فمنهم من يقول : إن غربت الشمس ، ولم يرم رمى بالليل ، وبعضهم يقول : الليل قضاء ، وبعضهم يقول : أداء ، وقد قدمنا أقوالهم ، وحججهم في الكلام على رمي جمرة العقبة ، ومنهم من يقول : لا يرمي بالليل ، بل يؤخر الرمي حتى تزول الشمس من الغد كما قدمناه مع إجماعهم على فوات وقت الرمي بغروب اليوم الثالث عشر من ذي الحجة الذي هو رابع يوم النحر .

    واعلم أن هذا الحكم له حالتان :

    الأولى : حكم الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته الرمي فيه من أيام التشريق .

    والثانية : الرمي في يوم آخر من أيام التشريق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (339)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 468 إلى صـ 475







    أما الليل فقد قدمنا أن الشافعية ، والمالكية ، والحنفية كلهم يقولون : يرمي ليلا . والمالكية بعضهم يقولون : الرمي ليلا قضاء ، وهو المشهور عندهم ، وبعضهم يتوقف في كونه قضاء أو أداء ، كما قدمناه عن الباجي ، والحنفية يقولون : إن الليلة التي بعد اليوم تبع له ، فيجوز الرمي فيها تبعا لليوم ، والشافعية لهم وجهان مشهوران في الرمي في الليلة التي بعد اليوم ، هل هو أداء ، أو قضاء ؟ كما قدمناه مستوفى ، والحنابلة قدمنا أنهم يقولون : لا يرمي ليلا ، بل يرمي من الغد بعد زوال الشمس ، كما ذكرنا فيه كلام صاحب المغني ، وأما رمي يوم من أيام التشريق في يوم آخر منها ، فلا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم ، إلا أنهم اختلفوا في أيام التشريق الثلاثة هل هي كيوم واحد ؟ فالرمي في جميعها أداء ; لأنها وقت للرمي كيوم واحد ، أو كل يوم منها مستقل ، فإن فات هو وليلته التي بعده فات وقت رميه ، فيكون قضاء في اليوم الذي بعده ، فعلى القول الأول لو رمى عن اليوم الأول في الثاني ، أو عن الثاني في الثالث ، أو عن الأول ، والثاني في الثالث ، فلا شيء [ ص: 468 ] عليه ; لأنه رمى في وقت الرمي ، وعلى الثاني يلزمه دم عن كل يوم فاته رمي فيه إلى الغد عند من يقول : بتعدد الدماء كالشافعية ، أو دم واحد عن اليومين ، عند من يقول : بعدم التعدد .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي ، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه ، ولا شيء عليه ، كما هو مذهب أحمد ، ومشهور مذهب الشافعي ، ومن وافقهما .

    والدليل على ذلك : هو ما رواه مالك في الموطإ ، والإمام أحمد ، والشافعي ، وابن حبان ، والحاكم ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن عاصم بن عدي العجلاني رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل ، أن يرموا يوما ، ويدعوا يوما هذا لفظ أبي داود ، والنسائي وابن ماجه ، وفي لفظ : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى ، يرمون يوم النحر ، ثم يرمون الغداة ، ومن بعد الغداة ليومين ، ثم يرمون يوم النفر . ولهذا الحديث ألفاظ متقاربة غير ما ذكرنا ، ومعناها واحد ، وقال الإمام مالك رحمه الله في الموطإ ما نصه : تفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في تأخير رمي الجمار فيما نرى والله أعلم : أنهم يرمون يوم النحر ، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد ، وذلك يوم النفر الأول ، فيرمون لليوم الذي مضى ، ثم يرمون ليومهم ذلك ، لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه ، فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك ، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا ، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ، ونفروا . انتهى منه ، وهذا المعنى الذي فسر به الحديث هو صريح معناه في رواية من روى : أن يرموا يوما ويدعوا يوما ، وحديث عاصم العجلاني هذا قال فيه الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

    فإن قيل : أنتم سقتم هذا الحديث مستدلين به على أن أيام التشريق كاليوم الواحد ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم في تأخير رمي يوم إلى اليوم الذي بعده دل ذلك على أن اليوم الثاني وقت لرمي اليوم الأول ، لأنه لو فات وقته لفات بفوات وقته لإجماع العلماء على أنه لا يقضي في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الذي هو خامس يوم النحر فما بعده ، ولكن ظاهر كلام مالك في تفسيره الحديث المذكور يدل على أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لقوله في كلامه المذكور : فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء .

    فالجواب عن ذلك من وجهين :

    [ ص: 469 ] أحدهما : أن إطلاق القضاء على ما فات وقته بالكلية اصطلاح حادث للفقهاء ; لأن القضاء في الكتاب والسنة يطلق على فعل العبادة في وقتها ، كقوله تعالى : فإذا قضيتم الصلاة الآية [ 4 ] ، وقوله : فإذا قضيت الصلاة [ 62 \ 10 ] ، وقوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم الآية [ 2 \ 200 ] . فالقضاء في هذه الآيات بمعنى الأداء .

    الوجه الثاني : أنا لو فرضنا أن مالكا رحمه الله ، يريد بالقضاء في كلامه المذكور المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء ، وهو أن القضاء فعل العبادة بعد خروج وقتها المعين لها تداركا لشيء علم تقدم ما أوجب فعله في خصوص وقته ، كما هو المعروف في مذهبه ، إنه إن أخر الرمي إلى الليل فما بعده ، أنه قضاء . يلزم به الدم ، فإنا لا نسلم أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لعبادة خرج وقتها بالكلية استنادا لأمرين :

    الأول : أن رمي الجمار عبادة موقتة بالإجماع ، فإذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في وقت دليل واضح على أن ذلك الوقت من أجزاء وقت تلك العبادة الموقتة ; لأنه ليس من المعقول أن تكون هذه العبادة موقتة بوقت معين ينتهي بالإجماع في وقت معروف ، ويأذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في زمن ليس من أجزاء وقتها المعين لها . فهذا لا يصح بحال ، وإذا تقرر أن الوقت الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل العبادة الموقتة فيه أنه من وقتها علم أنها أداء لا قضاء ، والأداء في اصطلاح أهل الأصول هو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعا لمصلحة اشتمل عليها ذلك الوقت .

    الأمر الثاني : أنه لا يمكن أن يقال هنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي في وقت غير وقته ، بل بعد فوات وقته ، وأن أمره به في ذلك الوقت أمر بقضائه بعد فوات وقته المعين له ، لما قدمنا من إجماع المسلمين على أنه لا يجوز الرمي في رابع يوم النحر ، ولو كان يجوز قضاء الرمي بعد فوات وقته ، لجاز الرمي في رابع النحر وخامسه ، وما بعد ذلك . والقضاء في اصطلاح الفقهاء والأصوليين : لا يطلق إلا على ما فات وقته بالكلية ، والصلاة في آخر الوقت الضروري أداء عندهم ، حتى إنه لو صلى بعضها في آخر الضروري ، وبعضها بعد خروج الوقت الضروري ، فهي أداء عندهم على الصحيح . ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " وعرف في مراقي السعود الأداء والوقت والقضاء عند الأصوليين بقوله :


    فعل العبادة بوقت عينا شرعا لها باسم الأداء قرنا

    [ ص: 470 ] وكونه بفعل بعض يحصل
    لعاضد النص هو المعول وقيل ما في وقته أداء
    وما يكون خارجا قضاء والوقت ما قدره من شرعا
    من زمن مضيقا موسعا وعكسه القضا تداركا لما
    سبق الذي أوجبه قد علما


    وقوله : وعكسه القضا ; يعني : أن القضاء ضد الأداء .

    وبما ذكرنا : تعلم أن التحقيق أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد ، وأن من رمى عن يوم في الذي بعده ، لا شيء عليه لإذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء في ذلك ، ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر ، فهو وقت له ، ولكنه كالوقت الضروري . والله تعالى أعلم .

    أما رمي جمرة العقبة ، فقال بعض أهل العلم : إن حكمه مع رمي أيام التشريق كواحد منها ، فمن أخر رميه إلى يوم من أيام التشريق ، فهو كمن أخر يوما منها إلى يوم ، وعليه ففيه الخلاف المذكور ، وقال بعض أهل العلم : هو مستقل بوقته دونها لأنه يخالفها في الوقت والعدد ; لأنها جمرة واحدة أول النهار ، وأيام التشريق بعكس ذلك وله وجه من النظر . والله أعلم .
    الفرع الرابع : أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن قضى رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق في اليوم الثالث منها ، ينوي تقديم الرمي عن اليوم الأول قبل الثاني ، ولا يجوز تقديم رمي الثاني بالنية ; لأنه لا وجه لتقديم المتأخر ، وتأخير المتقدم من غير استناد إلى دليل كما ترى . والظاهر أنه إن نوى تقديم الثاني لا يجزئه لأنه كالمتلاعب خلافا لمن قال : يجزئه ، والله تعالى أعلم .
    الفرع الخامس : اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يوجب تركه الدم من رمي الجمار ، فذهب مالك ، وأصحابه إلى أن من أخر رمي حصاة واحدة من واحدة من الجمار إلى ليل ذلك اليوم لزمه الدم ، وما فوق الحصاة أحرى بذلك ، وسواء عندهم في ذلك من جمرة العقبة يوم النحر ، ورمي الثلاث أيام التشريق . ومعلوم أن من توقف من المالكية في كون الرمي ليلا قضاء يتوقف في وجوب الدم ، إن رمى ليلا ، ولكن مشهور مذهبه : هو أن الليل قضاء كما قال خليل في مختصره : والليل قضاء . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه : إلى أن الدم يلزمه بترك رمي الجمرات كلها ، أو رمي يوم واحد من أيام التشريق ، وكذلك عندهم رمي جمرة العقبة ، فرمي جمرة العقبة ورمي يوم من أيام التشريق ، ورمي الجميع سواء عندهم يلزم في ترك كل واحد منها دم واحد ، وما هو أكثر [ ص: 471 ] من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه الدم ، فلو رمى جمرة وثلاث حصيات من جمرة ، وترك الباقي ، فعليه دم ; لأنه رمى عشر حصيات وترك إحدى عشرة حصاة ، فإن ترك أقل من نصف رمي يوم كأن ترك جمرة واحدة ، فلا دم عليه ، ولكن عليه الصدقة عندهم ، فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر ، أو صاع من تمر ، أو شعير إلا أن يبلغ ذلك دما فينقص ما شاء هكذا يقول . ولا أعلم له مستندا من النقل ، وقد قدمنا أن الدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته التي بعده ، ولو رماه من الغد في أيام التشريق ، وخالفه في ذلك صاحباه . ومذهب الشافعي في هذه المسألة فيه اختلاف يرجع إلى قولين :

    القول الأول : وعليه اقتصر صاحب المهذب : أنه إن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم من أيام التشريق لزمه دم ، وإن ترك ثلاث حصيات من جمرة ، فما فوقها : لزمه دم لأن ثلاث حصيات فما فوقها يقع عليها اسم الجمع المطلق ، فصار تركها كترك الجميع ، وإن ترك حصاة واحدة فثلاثة أقوال :

    الأول : يجب عليه ثلث دم .

    والثاني : مد .

    والثالث : درهم . وحكم الحصاتين كذلك ، قيل : يلزم فيها ثلثا دم ، وقيل : مدان وقيل درهمان ، فإن ترك الرمي في أيام التشريق كلها ، فعلى القول المشهور عندهم أنها كيوم واحد ، فاللازم دم واحد . وإن قلنا : بأن كل يوم منفرد بوقته ، فثلاثة دماء ، وإن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر ، ورمى أيام التشريق ، فعلى القول بأن رمي يوم النحر كرمي يوم من أيام التشريق ، لزمه على القول الأول أنها كيوم واحد دم واحد ، وإن قلنا : بانفراد رمي يوم النحر عن أيام التشريق ، لمخالفته لها وقتا وعددا ، فإن قلنا : بالمشهور أن أيام التشريق كيوم واحد ، لزمه دمان ، وإن قلنا : بانفراد كل يوم منها عن الآخر بوقته ، لزمه أربعة دماء .

    القول الثاني : أن الجمرات الثلاث كلها كالشعرات الثلاث ، فلا يكمل الدم في بعضها بل لا يلزم إلا بترك جميعها ، بأن يترك رمي يوم ، وعليه فإن ترك رمي جمرة من الجمار ، ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة عندهم ، فيمن حلق شعرة أظهرها : مد ، والثاني : درهم ، والثالث : ثلث دم ، فإن ترك جمرتين ، فعلى هذا القياس ، وهو لزوم مدين ، أو درهمين ، أو ثلثي دم ، وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة ، فعلى أن في الجمرة ثلث دم يلزمه في الحصاة جزء من واحد وعشرين جزءا من دم ، وعلى أن فيها مدا أو درهما ، ففي الحصاة [ ص: 472 ] سبع مد ، أو سبع درهم ، وللشافعية في هذا المبحث تفاصيل كثيرة ، تركناها لطولها ، ومذهب الإمام أحمد : أن من أخر الرمي كله عن أيام التشريق . لزمه دم ، وعنه في ترك رمي الجمرة الواحدة دم ، ولا شيء عنده في الحصاة ، والحصاتين وعنه يتصدق بشيء . وروي عنه أن في الحصاة الواحدة : دما كقول مالك . وروي عنه أن في ثلاث حصيات : دما كأحد قولي الشافعي ، وفيما دون ذلك كل حصاة مد كأحد الأقوال عند الشافعية والعلم عند الله تعالى .

    وإذا عرفت أقوال أهل العلم في حكم من أخل بشيء من الرمي ، حتى فات وقته .

    فاعلم أن دليلهم في إجماعهم على أن من ترك الرمي كله وجب عليه دم ، هو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه ، فليهرق دما ، وهذا صح عن ابن عباس موقوفا عليه ، وجاء عنه مرفوعا ولم يثبت . وقد روى مالك في موطئه عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : من نسي من نسكه شيئا إلى آخره باللفظ الذي ذكرنا وهذا إسناد في غاية الصحة إلى ابن عباس كما ترى . وقال البيهقي في سننه : أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأ ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عمر ، ومالك بن أنس ، وغيرهما : أن أيوب بن أبي تميمة ، أخبرهم عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس أنه قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما اهـ .

    وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث : " من ترك نسكا فعليه دم " فرواه مالك ، والبيهقي ، وغيرهما بأسانيد صحيحة ، عن ابن عباس موقوفا عليه لا مرفوعا ، ولفظه : عن مالك ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما قال مالك : لا أدري قال : ترك أم نسي قال البيهقي : وكذا رواه الثوري ، عن أيوب : من ترك شيئا من نسكه فليهرق له دما وما قال البيهقي ، فكأنه قالهما يعني البيهقي أن أو ليست للشك كما أشار إليه مالك بل للتقسيم ، والمراد به يريق دما سواء ترك عمدا أو سهوا والله أعلم . انتهى كلام النووي .

    وقال ابن حجر في تلخيص الحبير : حديث ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا : " من ترك نسكا فعليه دم " ، أما الموقوف ، فرواه مالك في الموطإ ، والشافعي عنه ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عنه بلفظ : " من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما " وأما [ ص: 473 ] المرفوع فرواه ابن حزم ، من طريق علي بن الجعد ، عن ابن عيينة ، عن أيوب به ، وأعله بالراوي ، عن علي بن الجعد أحمد بن علي بن سهل المروزي فقال : إنه مجهول ، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسي قال : هما مجهولان . انتهى من التلخيص .

    فإذا علمت أن الأثر المذكور ثابت بإسناد صحيح ، عن ابن عباس .

    فاعلم أن وجه استدلال الفقهاء به على سائر الدماء التي قالوا بوجوبها غير الدماء الثابتة بالنص ، أنه لا يخلو من أحد أمرين .

    الأول : أن يكون له حكم الرفع ، بناء على أنه تعبد ، لا مجال للرأي فيه ، وعلى هذا فلا إشكال .

    والثاني : أنه لو فرض أنه مما للرأي فيه مجال ، وأنه موقوف ليس له حكم الرفع ، فهو فتوى من صحابي جليل لم يعلم لها مخالف من الصحابة ، وهم رضي الله عنهم خير أسوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    أما اختلاف العلماء في لزوم الدم بترك جمرة ، أو رمي يوم ، أو حصاة ، أو حصاتين إلى آخر ما تقدم : فهو من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فمالك مثلا القائل : بأن في الحصاة الواحدة دما يقول الحصا الواحدة داخلة في أثر ابن عباس المذكور ، فمناط لزوم الدم محقق فيها ، لأنها شيء من نسكه فيتناولها قوله : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه إلخ ، لأن لفظة شيئا نكرة في سياق الشرط ، فهي صيغة عموم ، والذين قالوا : لا يلزم في الحصاة ، والحصاتين دم ، قالوا : الحصاة ، والحصاتان لا يصدق عليهما نسك ، بل هما جزء من نسك ، وكذلك الذين قالوا : لا يلزم في الجمرة الواحدة دم ، قالوا : رمي اليوم الواحد نسك واحد فمن ترك جمرة في يوم لم يترك نسكا ، وإنما ترك بعض نسك ، وكذلك الذين قالوا : لا يلزم إلا بترك الجميع قالوا : إن الجميع نسك واحد ، والعلم عند الله تعالى .
    الفرع السادس : اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا : يستحب رمي جمرة العقبة راكبا إن أمكن ، ورمي أيام التشريق ماشيا في الذهاب والإياب إلا اليوم الأخير ، فيرمي فيه راكبا ، وينفر عقب الرمي وقال بعضهم : يرميه كله راكبا .

    وأظهر الأقوال في المسألة : هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو قد رمى جمرة العقبة راكبا ، ورمى أيام التشريق ماشيا ذهابا وإيابا ، والله تعالى أعلم .
    الفرع السابع : إذا عجز الحاج عن الرمي ، فله أن يستنيب من يرمي عنه ، وبه قال كثير [ ص: 474 ] من أهل العلم ، وهو الظاهر . وفي الموطإ قال يحيى : سئل مالك ، هل يرمى عن الصبي ، والمريض ؟ فقال : نعم ، ويتحرى المريض حين يرمى عنه ، فيكبر وهو في منزله ، ويهريق دما ، فإن صح المريض في أيام التشريق : رمى الذي رمي عنه ، وأهدى وجوبا انتهى من الموطإ .

    أما الرمي عن الصبيان فهو كالتلبية عنهم ، والأصل فيه ما رواه ابن ماجه في سننه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا عبد الله بن نمير ، عن أشعث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنا النساء ، والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ، ورمينا عنهم ، ورجال إسناد ابن ماجه هذا ثقات معروفون إلا أشعث ، وهو ابن سوار الكندي النجار الكوفي مولى ثقيف فقد ضعفه غير واحد ومسلم إنما أخرج له في المتابعات ، وهو ممن يعتبر بحديثه ، كما يدل على ذلك إخراج مسلم له في المتابعات . وروى الدورقي ، عن يحيى : أشعث بن سوار الكوفي ثقة ، وقال ابن عدي : لم أجد لأشعث متنا منكرا ، وإنما يغلط في الأحايين في الأسانيد ويخالف . وأما الرمي عن المريض ونحوه ممن كان له عذر غير الصغر فلا أعلم له مستندا من النقل إلا أن الاستنابة في الرمي ، هي غاية ما يقدر عليه والله تعالى يقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] وبعض أهل العلم يستدل لذلك بالقياس على الصبيان ، بجامع العجز في الجميع وبعضهم يقيس الرمي على أصل الحج قال النووي في شرح المهذب : استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج ، قالوا : والرمي أولى بالجواز ا هـ .

    تنبيه

    إذا رمى النائب ، عن العاجز ، ثم زال عذر المستنيب ، وأيام الرمي باقية ، فقد قدمنا قول مالك في الموطإ : أنه يقضي كل ما رماه عنه النائب ، مع لزوم الدم وقال بعض أهل العلم : لا يلزمه قضاء ما رمى عنه النائب ; لأن فعل النائب كفعل المنوب عنه ، فيسقط به الفرض ، ولكن تندب إعادته ، وهذا هو مشهور مذهب الشافعي . وفي المسألة لأهل العلم غير ما ذكرنا .

    قال مقيده عفا الله وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه المسألة : أنه إذا زال عذر المستنيب وأيام الرمي باق بعضها : أنه يرمي جميع ما رمي عنه ، ولا شيء عليه ; لأن الاستنابة إنما وقعت لضرورة العذر ، فإذا زال العذر والوقت باق بعضه ، فعليه [ ص: 475 ] أن يباشر فعل العبادة بنفسه .

    وقد قدمنا أن أقوى الأقوال دليلا هو قول من قال : إن أيام الرمي كيوم واحد بدليل ما قدمنا من ترخيصه صلى الله عليه وسلم للرعاء أن يرموا يوما ، ويدعوا يوما كما تقدم إيضاحه والعلم عند الله تعالى .
    الفرع الثامن : اعلم أن التحقيق في عدد الحصيات التي ترمى بها كل جمرة أنها سبع حصيات ، فمجموع الحصى سبعون حصاة سبع منها ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر ، والثلاث والستون الباقية تفرق على الأيام الثلاثة في كل يوم إحدى وعشرون حصاة ، لكل جمرة سبع .

    وأحوط الأقوال في ذلك قول مالك وأصحابه ومن وافقهم : أن من ترك حصاة واحدة كمن ترك رمي الجميع ، وقال بعض أهل العلم : يجزئه الرمي بخمس أو ست ، وقال ابن قدامة في المغني : والأولى ألا ينقص في الرمي عن سبع حصيات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات ، فإن نقص حصاة ، أو حصاتين فلا بأس ، ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه يعني أحمد ، وهو قول مجاهد ، وإسحاق ، وعنه : إن رمى بست ناسيا ، فلا شيء عليه ، ولا ينبغي أن يتعمده ، فإن تعمد ذلك تصدق بشيء ، وكان ابن عمر يقول : ما أبالي رميت بست ، أو بسبع . وعن أحمد : أن عدد السبع شرط ، ونسبه إلى مذهب الشافعي ، وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع . وقال أبو حبة : لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى ، فقال عبد الله بن عمرو : صدق أبو حبة ، وكان أبو حبة بدريا .

    ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال : سئل طاوس عن رجل ترك حصاة ؟ قال : يتصدق بتمرة أو لقمة ، فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد قال سعد : رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول : رميت بست وبعضنا يقول : بسبع ، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض . رواه الأثرم وغيره . انتهى كلام ابن قدامة في المغني . وما رواه عن أبي نجيح قال : سئل طاوس إلخ رواه البيهقي بإسناده في السنن الكبرى ، من طريق الفريابي ، عن ابن عيينة ، عن أبي نجيح .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •