تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 16 من 28 الأولىالأولى ... 67891011121314151617181920212223242526 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 301 إلى 320 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #301
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ




    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (300)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 187 إلى صـ 193


    وقال ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا . وقال آخرون : بنصيبهم من الدنيا . وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له ، كما يقال : قسمه الذي قسم له ، ونصيبه الذي نصب له أي : أثبت ، وقطه الذي قط له أي : قطع ، ومنه قوله تعالى : وما له في الآخرة من خلاق [ 2 \ 200 ] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة " . والآية تتناول ما ذكره السلف كله ، فإنه سبحانه قال : كانوا أشد منهم قوة [ 9 ] فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة ، وكذلك الأموال ، والأولاد ، وتلك القوة ، [ ص: 187 ] والأموال والأولاد هي الخلاق ، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم في الدنيا ، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به .

    ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة ، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة ، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها . ثم ذكر سبحانه حال الفروع ، فقال : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فدل هذا على أن حكمهم حكمهم ، وأنهم ينالهم ما ينالهم ؛ لأن حكم النظير حكم نظيره . ثم قال : وخضتم كالذي خاضوا . فقيل " الذي " صفة لمصدر محذوف ، أي : كالمخوض الذي خاضوا ، وقيل : لموصوف محذوف . أي : كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض .

    وقيل : " الذي " مصدرية كـ " ما " أي : كخوضهم . وقيل : هي موضع " الذين " . والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل ؛ لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد بالباطل والتكلم به وهو الخوض ، أو يقع بالعمل بخلاف الحق ، والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق . فالأول البدع . والثاني اتباع الهوى ، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء ، وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ، ودخلت النار وحلت العقوبات .

    فالأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات ؛ ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعجبته دنياه . وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل ؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .

    وفي صفة الإمام أحمد عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها . وهذه حال أئمة المتقين ، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ 32 \ 24 ] فبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تدفع الشبهات ، كما قال تعالى : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 3 ] وقوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار [ 38 \ 45 ] .

    [ ص: 188 ] وفي بعض المراسيل : " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات . فقوله تعالى : فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات ، وهو داء العصاة . وقوله : وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى الشبهات ، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات ، وكثيرا ما يجتمعان ، فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله . والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ، ويخوض كخوضهم ، وأن لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ، ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم ، فقال : ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 9 \ 70 ] فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لما علق عليه من الحكم ، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب ، وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد ، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه . ومنه قوله تعالى : وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] فهذا قياس جلي ، يقول سبحانه : إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم ، كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم ، بذكر أركان القياس الأربعة : علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها ، والحكم وهو إذهابه إياهم وإتيانه بغيرهم ، والأصل وهو ما كان من قبل ، والفرع وهم المخاطبون . ومنه قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [ 10 \ 39 ] فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به ، والفرع نفوسهم ، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة . ومنه قوله تعالى : إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 73 \ 15 - 16 ] فأخبر سبحانه أنه أرسل موسى إلى فرعون ، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا . فهكذا من عصى منكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه .
    فصل

    وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع ، بدليل العلة وملزومها . ومنه [ ص: 189 ] قوله تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه ، على الإحياء الذي استبعدوه ، وذلك قياس إحياء على إحياء ، واعتبار الشيء فنظيره ، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته ، وإحياء الأرض دليل العلة ، ومنه قوله تعالى : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] .

    فدل بالنظير على النظير ، وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج ، أي : يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ومنه قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان : الذكر والأنثى ، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء ، ونبه سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار ، وسوقها في مراتب الكمال ، من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها ، حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلقة وتقويم ، على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا . لا يأمره ، ولا ينهاه ، ولا يقيمه في عبوديته ، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا ، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق ، وحالا بعد حال ، إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم ، وينظر إلى وجهه ، ويسمع كلامه . . . إلى آخر كلام ابن القيم ، فإنه أطال في ذكر الأمثلة على النحو المذكور ، ولم نذكر جميع كلامه خوفا من الإطالة المملة ، وفيما ذكرنا من كلامه تنبيه على ما لم نذكره ، وقد تكلم على قياس الشبه ، فقال فيه :

    وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين . فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل [ 12 \ 77 ] فلم يجمعوا بين الفرع والأصل بعلة ولا دليلها ، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف ، فقالوا هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة ، وذلك قد سرق فكذلك هذا ، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي ، وهو قياس فاسد ، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان حقا ، ولا دليل على [ ص: 190 ] التساوي فيها ، فيكون الجمع لنوع شبه خال من العلة ودليلها .

    ثم ذكر لقياس الشبه الفاسد أمثلة أخرى في الآيات الدالة على أن الكفار كذبوا الرسل بقياس الشبه حيث شبهوهم بالبشر ، وزعموا أن ذلك الشبه مانع من رسالتهم . كقوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا [ 11 \ 27 ] وقوله تعالى عنهم : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية [ 23 \ 33 ] . إلى غير ذلك من الآيات . فالمشابهة بين الرسل وغيرهم في كون الجميع بشرا لا تقتضي المساواة بينهم في انتقاء الرسالة عنهم جميعا ، ولما قالوا للرسل : ما أنتم إلا بشر مثلنا [ 36 \ 15 ] أجابوهم بقولهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] وقياس الكفار الرسل على سائر البشر في عدم الرسالة قياس ظاهر البطلان ؛ لأن الواقع من التخصيص والتفضيل ، وجعل بعض البشر شريفا وبعضه دنيا ، وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا ، وبعضه ملكا وبعضه سوقا - يبطل هذا القياس . كما أشار إليه جواب الرسل المذكور آنفا ، يشير إليه قوله تعالى : أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 ] وهذه الأمثلة من قياس الشبه ليس فيها وصف مناسب بالذات ولا بالتبع . فلذلك كانت باطلة .

    ثم ذكر ابن القيم أن جميع الأمثال في القرآن كلها قياسات شبه صحيحة ؛ لأن حقيقة المثل تشبيه شيء بشيء في حكمه ، وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر . ثم سرد الأمثال القرآنية ذلك فيها واحدا واحدا ، وأطال الكلام في ذلك فأجاد وأفاد .

    وقال في آخر كلامه : قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل ، والقياس ، والجمع ، والفرق ، واعتبار العلل ، والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا . قالوا : وقد ضرب الله سبحانه الأمثال ، وصرفها قدرا وشرعا ، ويقظة ومناما ، ودل عباده على الاعتبار بذلك ، وعبورهم من الشيء إلى نظيره ، واستدلالهم بالنظير على النظير . بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ، ونوع من أنواع الوحي ، فإنها مبنية على القياس ، والتمثيل ، واعتبار المعقول بالمحسوس .

    ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان فيها من طول أو [ ص: 191 ] قصر ، أو نظافة أو دنس فهو في الدين . كما أول النبي - صلى الله عليه وسلم - القميص بالدين والعلم ، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس .

    ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة ؛ لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة ، وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن . فهو مفطور على إيثاره على ما سواه ، وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس .

    ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض ، كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها ، وحاجة الأرض وأهلها إليها ؛ ولهذا لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه .

    ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل ؛ لأن العامل زارع للخير والشر ، ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره ، فالدنيا مزرعة ، والأعمال البذر ، ويوم القيامة يوم طلوع الزرع وحصاده .

    ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين ، والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ، ولا ظل ، ولا ثمر ، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك ؛ ولهذا شبه تعالى المنافقين بالخشب المسندة ؛ لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير ، وفي كونها مسندة نكتة أخرى وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض ، فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها . . . إلى آخر كلامه . وقد ذكر أشياء كثيرة من عبارة الرؤيا فأجاد وأفاد ، وكلها راجعة إلى اعتبار النظير بنظيره ، وذلك كله يدل دلالة واضحة على أن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل .

    ثم قال ابن القيم : فهذا شرع الله وقدره ووحيه ، وثوابه وعقابه ، كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير ، واعتبار المثل بالمثل ؛ ولهذا يذكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية ، والشرعية ، والجزائية ؛ ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف آثارها عنها ، كقوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله [ 59 \ 4 ] ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم [ 40 \ 12 ] ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 35 ] ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما [ ص: 192 ] كنتم تمرحون [ 40 ] ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 28 ] ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر [ 47 \ 26 ] وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم [ 41 ] .

    وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة ، وباللام تارة ، وبـ " أن " تارة ، وبمجموعهما تارة ، وبـ " كي " تارة ، و " من أجل " تارة ، وترتيب الجزاء على الشرط تارة ، وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة ، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة ، وبـ " لما " تارة ، وبـ " أن " المشددة تارة ، وبـ " لعل " تارة ، وبالمفعول له تارة . فالأول كما تقدم ، واللام كقوله : ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض [ 5 \ 97 ] و " أن " كقوله : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا [ 6 \ 156 ] ثم قيل : التقدير لئلا تقولوا ، وقيل : كراهة أن تقولوا . و " أن واللام " كقوله : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وغالب ما يكون هذا النوع في النفي ، فتأمله .

    و " كي " كقوله : كي لا يكون دولة [ 59 \ 7 ] والشرط والجزاء كقوله : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا [ 3 \ 120 ] والفاء كقوله : فكذبوه فأهلكناهم [ 26 \ 139 ] فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية [ 69 \ 10 ] فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 73 \ 16 ] وترتيب الحكم على الوصف كقوله : يهدي به الله من اتبع رضوانه [ 5 \ 15 ] وقوله : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ 58 \ 11 ] وقوله : إنا لا نضيع أجر المصلحين [ 7 \ 170 ] ولا نضيع أجر المحسنين [ 12 \ 56 ] وأن الله لا يهدي كيد الخائنين [ 12 \ 52 ] ولما كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 ] فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 7 \ 166 ] وإن المشددة كقوله : إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 77 ] إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ 21 ] ولعل كقوله : لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] لعلكم تعقلون [ 2 ] لعلكم تذكرون [ 24 ] والمفعول له كقوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [ 92 \ 19 - 21 ] أي : لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس ، وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى . و " من أجل " كقوله : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل [ 5 ] .

    [ ص: 193 ] وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الأحكام ، والأوصاف المؤثرة فيها ؛ ليدل على ارتباطها بها ، وتعديها بتعدي أوصافها وعللها ، كقوله في نبيذ التمر : " تمرة طيبة ، وماء طهور " ، وقوله : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وقوله : " إنما نهيتكم من أجل الدافة " ، وقوله في الهرة : " ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " ، ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب ، وقوله : " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " ، وقوله : " إنكم إذا فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم " ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها . وقوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] وقوله في الخمر والميسر : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر - : " أينقص الرطب إذا جف " ؟ قالوا نعم . فنهى عنه . وقوله : " لا يتناجى اثنان دون الثالث ؛ فإن ذلك يحزنه " . وقوله : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء " وقوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس " وقال - وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء " هل هو إلا بضعة منك " ، وقوله في ابنة حمزة : " إنها لا تحل لي ؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة " ، وقوله في الصدقة : " إنها لا تحل لآل محمد ؛ إنما هي أوساخ الناس " . وقد قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحكام لأمته بذكر نظائرها وأسبابها ، وضرب لها الأمثال . . . إلى آخر كلامه .

    وقد ذكر فيه أقيسة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - منها قياس القبلة على المضمضة في حديث عمر المتقدم ، وقياس دين الله على دين الآدمي في وجوب القضاء . وقد قدمناه مستوفى كما قبله في سورة " بني إسرائيل " .

    ومنها قياس العكس في حديث : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم وضعها في حرام ، أيكون عليه وزر " وقد قدمناه مستوفى في سورة " التوبة " .

    ومنها قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وقد قدمنا ذلك مستوفى في سورة " بني إسرائيل " .

    ومنها حديث المستحاضة الذي قاس فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - دم العرق الذي هو دم الاستحاضة على غيره من دماء العروق التي لا تكون حيضا . وكل ذلك يدل على أن إلحاق [ ص: 194 ] النظير بالنظير من الشرع ، لا مخالف له كما يزعمه الظاهرية ومن تبعهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #302
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (301)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 194 إلى صـ 200


    المسألة الرابعة

    اعلم أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يجتهدون في مسائل الفقه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم ، وبعد وفاته من غير نكير . وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى أمثلة كثيرة لذلك .

    فمن ذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يصلوا العصر في بني قريظة ، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق ، وقال : لم يرد منا تأخير العصر ، وإنما أراد سرعة النهوض . فنظروا إلى المعنى . واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة ، فصلوها ليلا . وقد نظروا إلى اللفظ ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر ، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس .

    ومنها : أن عليا - رضي الله عنه - لما كان باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كل منهم : هو ابني . فأقرع بينهم ، فجعل الولد للقارع ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي - رضي الله عنه . ومنها : اجتهاد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في حكمه في بني قريظة ، وقد صوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " .

    ومنها : اجتهاد الصالحين اللذين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر . فصوبهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال للذي لم يعد : " أصبت السنة وأجزأتك صلاتك " ، وقال للآخر : " لك الأجر مرتين " .

    ومنها : اجتهاد مجزز المدلجي بالقيافة ، وقال : إن أقدام زيد وأسامة بعضها من بعض ، وقد سر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى برقت أسارير وجهه . وذلك دليل على صحة إلحاق ذلك القائف الفرع بالأصل ، مع أن زيدا أبيض وأسامة أسود ، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله ، وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم .

    ومنها : اجتهاد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في الكلالة ، قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ( أراه ما خلا الوالد والولد ) فلما استخلف عمر قال : إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومن أغرب الأشياء عندي ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار له إلى معنى الكلالة إشارة واضحة ظاهرة [ ص: 195 ] جدا . ولم يفهمها عنه مع كمال فهمه وعلمه ، وأن الوحي ينزل مطابقا لقوله مرارا ، وذلك أنه - رضي الله عنه - قال : ما سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : " تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " . وهذا الإرشاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - واضح كل الوضوح في أنه يريد أن الكلالة هي ما عدا الولد والوالد ؛ لأن آية الصيف المذكورة التي أخبره أنها تكفيه دلت على ذلك دلالة كافية واضحة فقوله تعالى فيها : إن امرؤ هلك ليس له ولد [ 4 \ 176 ] صريح في أن الكلالة لا يكون فيها ولد ، وقوله فيها : وله أخ أو أخت [ 4 \ 12 ] يدل بالالتزام على أنها لا أب فيها ؛ لأن الإخوة والأخوات لا يرثون مع الأب ، وذلك مما لا نزاع فيه ، فظهر أن آية الصيف المذكورة تدل بكل وضوح على أن الكلالة ما عدا الولد والوالد ، ولم يفهم عمر - رضي الله عنه - الإشارة النبوية المذكورة ، فالكمال التام له - جل وعلا - وحده ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

    ومنها : اجتهاد ابن مسعود - رضي الله عنه - في المرأة التي توفي زوجها ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، لها كمهر نسائها لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث وعليها العدة . وقد شهد لابن مسعود بعض الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بنحو ذلك في بروع بنت واشق ، ففرح بذلك .

    ومنها : اجتهاد الصحابة في أن أبا بكر - رضي الله عنه - أولى من غيره بالإمامة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه على غيره في إمامة الصلاة .

    ومنها : اجتهاد أبي بكر في العهد بالخلافة إلى عمر ، سواء قلنا : إنه من المصالح المرسلة أو قلنا : إنه قاس العهد بالولاية على العقد لها . ومن ذلك اجتهادهم في جمع المصحف بالكتابة . ومن ذلك اجتهادهم في الجد ، والإخوة ، والمشتركة المعروفة بالحمارية ، واليمية .

    ومنها : اجتهاد أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء ، واجتهاد عمر في تفضيل بعضهم على بعض فيه .

    ومنها : اجتهادهم في جلد السكران ثمانين ، قالوا : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى فحدوه حد الفرية . وأمثال هذا كثيرة جدا ، وهي تدل على أن اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه متواتر معنى ، فإن الوقائع منهم في ذلك وإن لم تتواتر آحادها فمجموعها يفيد العلم [ ص: 196 ] اليقيني لتواترها معنى ، كما لا يخفى على من تعلم ذلك . ورسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى المتضمنة لذلك مشهورة . وقال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) : وقال الشعبي عن شريح ، قال لي عمر : اقض بما استبان لك من كتاب الله ، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك ، واستشر أهل العلم والصلاح . . إلى أن قال : وقايس علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زيد بن ثابت في المكاتب ، وقايسه في الجد والإخوة ، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال : عقلها سواء ، اعتبروها بها . قال المزني : الفقهاء من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا - وهلم جرا - استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم ، وأجمعوا بأن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل ، فلا يجوز لأحد إنكار القياس ؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها .

    قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه : ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسا على الكلاب بقوله : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ 5 \ 4 ] وقال عز وجل : والذين يرمون المحصنات [ 24 \ 4 ] فدخل في ذلك المحصنون قياسا . وكذلك قوله في الإماء : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا .

    وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام : ومن قتله منكم متعمدا [ 5 \ 95 ] فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ ، وقال : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ 33 \ 49 ] فدخل في ذلك الكتابيات قياسا :

    وقال في الشهادة في المداينات : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] فدخل في معنى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قياسا للمواريث ، والودائع ، والغصوب وسائر الأموال . وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين . وقال عمن أعسر بما عليه من الربا : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [ 2 \ 280 ] فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال ، وثبت ذلك قياسه .

    ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا ، وإنما ورد النص في [ ص: 197 ] اجتماعهما بقوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] وقال : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 176 ] .

    ومن هذا الباب قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم فيم لو قال لزوجته : أنت علي كظهر بنتي . وقياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان . وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري . قال : وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب .

    قلت : بعض هذه المسائل فيها نزاع ، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف . وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية ، فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات ، وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء . وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله : وما علمتم من الجوارح [ 5 \ 4 ] وقوله : مكلبين [ 5 \ 4 ] وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد ، قاله مجاهد والحسن ، وهو رواية عن ابن عباس . وقال أبو سليمان الدمشقي : مكلبين معناه معلمين ، وإنما قيل لهم : مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب . وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل ، كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله : فإنه رجس وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع ، وهم يضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم . فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن فأرة وقعت بالسمن : " ألقوها وما حولها وكلوه " - : إن ذلك يختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات . هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون فيه بين السمن والزيت والشيرج والدبس . كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك .

    وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر ، لا يفرق عالم يفهم عن الله رسوله بين ذلك وبين العنب بالزبيب . ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله [ 2 \ 230 ] أي : إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا .

    والمراد به تجديد العقد ، وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط ، بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق .

    [ ص: 198 ] ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تشربوا في صحافها ؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " . وقوله : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب ، بل يعم سائر وجوه الانتفاع ، فلا يحل له أن يغتسل بها ، ولا يتوضأ بها ، ولا يكتحل منها ، وهذا أمر لا يشك فيه عالم .

    ومن ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرم عن لبس القميص ، والسراويل ، والعمامة ، والخفين ، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط ، بل يتعدى النهي إلى الجباب ، والأقبية ، والطيلسان ، والقلنسوة ، وما جرى مجرى ذلك من الملبوسات .

    ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار " فلو ذهب معه بخرقة تنظيف أكثر من الأحجار ، أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز . وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة ، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز أو أولى .

    ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته " . معلوم أن المفسدة التي نهي عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة ، فلا يحل له أن يؤجر على إجارته . وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع ، وأحكامها غير أحكامه .

    ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في آية التيمم : وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 5 \ 6 ] فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط . والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس ، على قول من فسره بما دون الجماع . وألحقت الاحتلام بملامسة النساء ، وألحقت واجد ثمن الماء بواجده ، وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بعادم الماء ، فجوزت له التيمم وهو واجد للماء . وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل . وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به ، وكونه متعلقا بمصلحة العبد - أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم [ ص: 199 ] مما لا ينكر تناول العموميين لها . فمن الناس من يتنبه لهذا ، ومنهم من يتفطن لتناول العموميين لها .

    ومن ذلك قوله تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ 2 \ 283 ] قاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه . فإن استدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر فلا عموم في ذلك ؛ فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي ، فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة .

    ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذ ثمنها في العشور التي عليهم فبلغ ذلك عمر قال : قاتل الله سمرة ؟ أما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعن الله اليهود ؛ حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " وهذا محض القياس من عمر - رضي الله عنه .

    فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين . وكما يحرم ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام .

    ومن ذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح ، والطلاق ، والعدة ؛ قياسا على ما نص الله عليه من قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ثم ذكر آثارا دالة على أن الصحابة جعلوا العبد على النصف من الحر فيما ذكر قياسا على ما نص الله عليه من تنصيف الحد على الأمة .

    ومن ذلك توريث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المبتوتة في مرض الموت برأيه ، ووافقه الصحابة على ذلك .

    ومن ذلك قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه ، قال : أحسب كل شيء بمنزلة الطعام .

    ومن ذلك أن عمر وزيدا - رضي الله عنهما - لما قالا : إن الأم ترث ما بقي بعد أحد الزوجين في مسألة زوج أو زوجة مع الأبوين ، قاسا وجود أحد الزوجين مع الأبوين على ما إذا لم يكن هناك زوج ولا زوجة ، فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم ، فقدرا أن الباقي بعد الزوج أو الزوجة كل المال . وهذا من أحسن القياس ؛ فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة ، فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى [ ص: 200 ] كالأولاد وبني الأب ، وإما أن تساويه كولد الأم ، وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ مع مساواته لها في درجته ، فلا عهد به في الشريعة . فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله .

    ومن ذلك أخذ الصحابة - رضي الله عنهم - في الفرائض بالعول ، وإدخال النقص على جميع ذوي الفرائض قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم . ولا شك أن العول الذي أخذ به الصحابة - رضي الله عنهم - أعدل من توفية بعض المستحقين حقه كاملا ونقص بعضهم بعض حقه ، فهذا ظلم لا شك فيه ، وأمثال هذا كثيرة ، فلو تقصيناها لطال الكلام جدا . وهذه الوقائع التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكر تدل دلالة قطعية على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يستعملون القياس في الأحكام ، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ، ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من أسانيدها ، فإنها في كثرة طرقها واختلاف مخارجها وأنواعها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا شك فيه وإن لم يثبت كل فرد من الإخبار بها كما هو معروف في أصول الفقه وعلم الحديث .
    المسألة الخامسة

    اعلم أن القياس جاءت على منعه في الجملة أدلة كثيرة ، وبها تمسك الظاهرية ومن تبعهم ، وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية من ذلك ثم نبين الصواب فيه إن شاء الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #303
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (302)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 201 إلى صـ 207




    قالوا : فمن ذلك قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه - هو الرد إليه في حضوره وحياته ، وإلى سنته في غيبته وبعد مماته ، والقياس ليس بهذا ولا هذا ، ولا يقال : الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله ؛ لدلالة كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم تقريره ؛ لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله ، ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا فقط ، بل قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ 5 \ 49 ] وقال : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [ 4 \ 105 ] ولم يقل بما رأيت أنت . وقال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [ 5 \ 45 ] [ ص: 201 ] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [ 5 \ 47 ] وقال تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم [ 7 \ 3 ] وقال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] وقال : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] وقال : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي [ 34 \ 50 ] فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي . وقال : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ 4 \ 65 ] فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده ، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنته فقط بعد وفاته ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ 49 ] أي : لا تقولوا حتى يقول . قال نفاة القياس : والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه ، أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه ، فإنه إذا قال : حرمت عليكم الربا في البر ، فقلنا : ونحن نقيس على قولك البلوط ، فهذا محض التقدم ، قالوا : وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم ، فإذا قلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا ، فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم ، وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم ، وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والواجب أن نقف عند حدوده ، ولا نتجاوزها ، ولا نقصر بها . ولا يقال : فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله ، وتحريم لما لم ينص على تحريمه ، وقفو منكم لما ليس لكم به علم ؛ لأنا نقول : الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، وأنزل علينا كتابه ، وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة . فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين ، وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة ، وكل ما ليس من الدين فهو باطل ، فليس بعد الحق إلا الضلال . وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] فالذي أكمله الله سبحانه وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه ، فأين فيما أكمله لنا ، قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته ، سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة ، أو وصفا شبيها ، فاستعملوا ذلك كله ، وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني ، وأحكموا به علي .

    قالوا : وقد أخبر سبحانه أن الظن لا يغني من الحق شيئا ، وأخبر رسوله أن " الظن أكذب الحديث " ونهى عنه ، ومن أعظم الظن ظن القياسيين ؛ فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج ، والحلوى بالعنب ، والنشا بالبر ، وإنما هي [ ص: 202 ] ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا .

    قالوا : وإن لم يكن قياس الضراط على " السلام عليكم " من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه ، وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل . فأين الضراط من " السلام عليكم " . وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات ، والميتات ، والنجاسات ظنا . فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به ، وذمه في كتابه ، وسلخه من الحق ، وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه ، وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكاثر دمائهم وجريان القصاص بينهم ظنا ، فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه .

    قالوا : من العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم ، فقتلتم ألف ولي لله تعالى قتلوا نصرانيا واحدا ، ولم تقيسوا من ضرب رجلا بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله .

    قالوا : وسنبين لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله . قالوا : والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا ، وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه ، فما بينه عنه وجب اتباعه ، وما لم يبينه فليس من الدين ، ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول ، أو على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم ، قال الله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] فأين بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته فاستخرجوا وصفا ما شبيها جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوه عليه .

    قالوا : والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له ، فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه ، وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه .

    قالوا : وما ضربه الله ورسوله من الأمثال فهو حق خارج عما نحن بصدده من إثباتكم الأحكام بالرأي والقياس من غير دليل من كتاب ولا سنة . وذكروا شيئا كثيرا من الأمثال التي ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معترفين بأنها حق . قالوا : ولا تفيدكم في محل النزاع ، قالوا : فالأمثال التي ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي لتقريب المراد ، وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع ، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به ، فإنه قد يكون أقرب إلى [ ص: 203 ] تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره . فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام ، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير . ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره . وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا . فالأمثال شواهد المعنى المراد وتزكية له ، وهي : كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه [ 48 \ 29 ] ، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته ، ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه ؟ فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة ، قياسا وتمثيلا على أقل ما يقطع فيه السارق . هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم . كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح : ( باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع ) .

    قالوا : فنحن لا ننكر هذه الأمثال التي ضربها الله ورسوله ، ولا نجهل ما أريد بها ، وإنما ننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعا من قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] وأن الآية تدل على ذلك ، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الفطر : " صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر أو صاع من زبيب " يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز ، وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار ، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الولد للفراش " يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال الولي بحضرة الحاكم : زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب ، فقال : قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا ، ثم جاءت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه ، وقد صارت فراشا بمجرد قوله : قبلت هذا التزويج ، ومع هذا لو كانت له سرية يطؤها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له ، ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه ، فإن لم يستلحقه فليس بولده ؟ .

    وأين يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل " أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد أو بمرازب الحديد العظام ، حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه - أن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودا .

    وأين يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن لم يكن له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة " [ ص: 204 ] - أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه . وأن هذا المفهوم من قوله : " ادرءوا الحدود بالشبهات " فهذا في معنى الشبهة التي تدرأ بها الحدود ، وهي الشبهة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد . ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه . وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك ، ويفهم هذا من " ادرءوا الحدود بالشبهات " ، وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر .

    قالوا : فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره ، وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما .

    قالوا : ومن أين يفهم من قوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة [ 16 \ 66 ] ومن قوله : فاعتبروا تحريم بيع الكشك باللبن ، وبيع الخل بالعنب ، ونحو ذلك . قالوا : وقد قال تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم . ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا .

    قالوا : وقد قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله ، لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم .

    وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة ، وقال : إن أتبع إلا ما يوحى إلي وقال : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال تعالى : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله قالوا : فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره بالباطل .

    قالوا : وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تبارك وتعالى : أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده ، مباح إباحة العفو ، فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما ، فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه ، إذ المسكوت عنه لا بد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع ، وبينه وبين الواجب . فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفا عنه . ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه ، وهذا لا سبيل إلى دفعه ، وحينئذ فيكون [ ص: 205 ] تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه . وقد ذم الله تعالى من بدل غير القول الذي أمر به ، فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته " فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحا بمسألته عن حكم ما سكت عنه ، فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه ورأيه ! يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوا عفا الله لعباده عنه ، وكان البحث عنه سببا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه ، وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم . فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أنه عفو منه ، فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه ، فحرم من أجل مسألته ، بل كان الواجب عليه ألا يبحث عنه ، ولا يسأل عن حكمه اكتفاء بسكوت الله عن عفوه عنه . فهكذا الواجب عليه ألا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم أصله الذي يلحق به .

    قالوا : وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين [ 5 \ 101 - 102 ] وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم . ولا فرق في هذا بين حياته وبين مماته ، فنحن مأمورون أن نتركه - صلى الله عليه وسلم - وما نص عليه ، فلا نقول له : لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه ، بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح ، ويدل عليه قوله في نفس الحديث : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " فجعل الأمور ثلاثة لا رابع لها : ( مأمور به ) فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ( ومنهي عنه ) فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية ( ومسكوت عنه ) فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عليه .

    وهذا حكم لا يختص بحياته فقط ، ولا يخص الصحابة دون من بعدهم ، بل فرض علينا نحن امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه . وليس ذلك الترك جهلا وتجهيلا لحكمه ، بل إثبات لحكم العفو وهي الإباحة العامة ، ورفع الحرج عن فاعله .

    [ ص: 206 ] فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها ، فإنها : إما واجب ، وإما حرام ، وإما مباح . والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح ، وقد قال تعالى : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 18 - 19 ] فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين .

    وقال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] فقسم الحكم إلى قسمين : قسم أذن فيه وهو الحق ، وقسم افتري عليه وهو ما لم يأذن فيه ، فأين إذا لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه ، وأن نقيس القزدير على الذهب والفضة ، والخردل على البر ، فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله ، وإلا فإنا قائلون لمنازعينا أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 144 ] فما لم تأتونا به وصية من عند الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو عين الباطل ، وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ، ولا قياس ، ولا تقليد إمام ، ولا منام ، ولا كشوف ، ولا إلهام ، ولا حديث قلب ، ولا استحسان ، ولا معقول ، ولا شريعة الديوان ، ولا سياسة الملوك ، ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المرسلين أضر منها . فكل هذه طواغيت ! من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت ! وقال تعالى : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 ] .

    قالوا : ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه ؛ لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين ، وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص . ومن مثل ما لم ينص الله سبحانه على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال ، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك ، ولما أغفله سبحانه ، وما كان ربك نسيا وليبين لنا ما نتقي كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول سبحانه : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ولما وكله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضها بعضا ، فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره ، فيجيء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه ، ويبدي من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعه أو أظهر منه ، ومحال أن يكون القياسان معا من عند الله ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فليسا من عنده ، وهذا وحده كاف في إبطال القياس ، وقد قال [ ص: 207 ] تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 14 \ 4 ] وقال : لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] فكل ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن ربه سبحانه ، بينه بأمره وإذنه . وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها ، وأن اسم البر لا يتناول الخردل ، واسم التمر لا يتناول البلوط ، واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير ، وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر ، وأن تحريم أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيا وميتا إذا مات صار نجسا خبيثا . وأن هذا عن البيان الذي ولاه الله رسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له . فليس هو مما بعث به الرسول قطعا ، فليس إذا من الدين . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم " ولو كان الرأي والقياس خيرا لهم لدلهم عليه ، وأرشدهم إليه " ولقال لهم : إذا أوجبت عليكم شيئا أو حرمته فقيسوا عليه ما كان بينه وصف جامع أو ما أشبهه . أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه ، ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر . وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره . وإنما بعث الله سبحانه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها ، فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء ، وعلق عليه حكما من الأحكام - وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم ، ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه ، ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم ، فالزيادة عليه زيادة في الدين ، والنقص منه نقص في الدين . فالأول القياس ، والثاني التخصيص الباطل ، وكلاهما ليس من الدين ، ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ، ويقول هذا قياس . ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول هذا تخصيص . ومرة يترك النص جملة ويقول : ليس العمل عليه . أو يقول : هذا خلاف القياس ، أو خلاف الأصول .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #304
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (303)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 208 إلى صـ 214




    قالوا : ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث ، وكان كلما توغل فيه الرجل كان أشد اتباعا للأحاديث والآثار . قالوا : ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ، ولا ترى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس . فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به ، وكم من أثر درس حكمه بسببه ، فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها ، معطلة أحكامها ، معزولة عن سلطانها وولايتها ، لها الاسم ولغيرها الحكم ، لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي . وإلا فلماذا ترك حديث العرايا ، وحديث قسم الابتداء ، وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن [ ص: 208 ] كانت بكرا ، أو ثلاثا إن كانت ثيبا ، ثم يقسم بالسوية ، وحديث تغريب الزاني غير المحصن ، وحديث الاشتراط في الحج وجواز التحلل بالشرط ، وحديث المسح على الجوربين ، وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناس والجاهل لا يبطل الصلاة ، وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها ، وحديث المصراة ، وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث . وحديث خيار المجلس ، وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسيا ، وحديث إتمام الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة ، وحديث الصوم عن الميت ، وحديث الحج عن المريض الميئوس من برئه ، وحديث الحكم بالقافة ، وحديث " من وجد متاعه عند رجل قد أفلس " ، وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر ، وحديث بيع المدبر ، وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين ، وحديث " الولد للفراش إذا كان من أمة " وهو سبب الحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا ، وحديث قطع السارق في ربع دينار ، وحديث رجم الكتابيين في الزنى ، وحديث " من تزوج امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله " ، وحديث " لا يقتل مؤمن بكافر " ، وحديث " لعن الله المحلل والمحلل له " ، وحديث " لا نكاح إلا بولي " ، وحديث " المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة " ، وحديث عتق صفية وجعل عتقها صداقها ، وحديث " اصدقوا ولو خاتما من حديد " ، وحديث " إباحة لحوم الخيل " ، وحديث " كل مسكر حرام " ، وحديث " ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة " ، وحديث المزارعة والمساقاة ، وحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه " وحديث " الرهن مركوب ومحلوب " ، وحديث النهي عن تخليل الخمر ، وحديث قسمة الغنيمة " للراجل سهم وللفارس ثلاثة " ، وحديث " لا تحرم المصة والمصتان " ، وأحاديث حرمة المدينة ، وحديث إشعار الهدي ، وحديث " إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل " ، وحديث الوضوء من لحوم الإبل ، وأحاديث المسح على العمامة ، وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده ، وحديث السراويل ، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض ، وأنه جور لا تجوز الشهادة عليه ، وحديث " أنت ومالك لأبيك " وحديث " من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد " ، وحديث الصلاة على الغائب ، وحديث الجهر بـ " آمين " في الصلاة ، وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ، ولا يرجع غيره ، وحديث " الكلب الأسود يقطع الصلاة " وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال ، وحديث نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام ، وحديث الصلاة على [ ص: 209 ] القبر ، وحديث " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته " ، وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره ، وحديث النهي عن جلود السباع ، وحديث " لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره " ، وحديث " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " ، وحديث " من باع عبدا وله مال فماله للبائع " وحديث " إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء " ، وحديث الوتر على الراحلة ، وحديث " كل ذي ناب من السباع حرام " ، وحديث " من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ، وحديث " لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من ركوعه وسجوده " ، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه ، وأحاديث الاستفتاح ، وحديث : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - سكتتان في الصلاة ، وحديث " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " ، وحديث حمل الصبية في الصلاة ، وأحاديث القرعة ، وأحاديث العقيقة ، وحديث " لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك " ، وحديث " أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل " ، وحديث " إن بلالا يؤذن بليل " ، وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة ، وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر ، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء ، وحديث النهي عن عسيب الفحل ، وحديث " المحرم إذا مات لم يخمر رأسه ، ولم يقرب طيبا " إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي .

    فلو كان القياس حقا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث ، ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له ، فحيث رأينا كل من كان أشد توغلا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين ، وأن شيئا تترك له السنن لأبين شيء منافاة للدين ; فلو كان القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة ، ولم يخالف أصحابه حديثا واحدا منها ، ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث ، فليروا أهل الحديث والأثر حديثا واحدا صحيحا قد خالفوه ، كما أريناهم آنفا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس .

    قالوا : وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم ألا نقول على الله إلا بالحق ، فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضها بعضا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقا لكانت متفقة يصدق بعضها بعضا كالسنة التي يصدق بعضها بعضا ، وقال تعالى : ويحق الله الحق بكلماته [ 10 \ 82 ] لا بآرائنا ، ولا مقاييسنا ، وقال : والله يقول الحق وهو يهدي السبيل [ 33 \ 4 ] فما لم يقله سبحانه [ ص: 210 ] ولا هدى إليه فليس من الحق ، وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم [ 28 \ 50 ] فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما : اتباع لما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع الهوى .

    قالوا : والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يدع أمته إلى القياس قط ، بل قد صح عنه بأنه أنكر على عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع وكسوتها لغيره ، وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها ، فأسامة أباح ، وعمر حرم قياسا . فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من القياسين ، وقال لعمر : " إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها " ، وقال لأسامة : " إني لم أبعث إليك بها لتلبسها ، ولكن بعثتها إليك لتشقها خمرا لنسائك " ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط ، فقاسا قياسا أخطآ فيه ، فأحدهما قاس اللبس على الملك ، وعمر قاس التملك على اللبس ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره ، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس .

    قالوا : وهذا عين إبطال القياس ، وقالوا : وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي ثعلبة الخشني ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " ، قالوا : وهذا الخطاب عام لجميع الأمة أولها وآخرها .

    قالوا : وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد من حديث سلمان - رضي الله عنه - قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء فقال : " الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرم الله ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " . قالوا : وكل ذلك يدل على أن المسكوت عنه معفو عنه . فلا يجوز تحريمه ، ولا إيجابه بإلحاقه بالمنطوق به .

    قالوا : وقال عبد الله بن المبارك : ثنا عيسى بن يونس ، عن جرير بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم . فيحلون الحرام ويحرمون الحلال " . قال قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، ثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله . . فذكره ، وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ ، إلا جرير بن عثمان ؛ فإنه كان منحرفا عن علي - رضي الله عنه - ومع ذلك فقد احتج به البخاري في صحيحه ، وقد روي عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف [ ص: 211 ] عن علي ، ونعيم بن حماد إمام جليل ، وكان سيفا على الجهمية ، روى عنه البخاري في صحيحه .

    قالوا : وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحة تقرب من التواتر أنه قال : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " . وقد قدمنا إيضاح مرادهم بالاستدلال بالحديث .

    وقد ذكروا عن الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذم الرأي والقياس والتحذير من ذلك . وذلك كثير معروف عن الصحابة فمن بعدهم . وذكروا كثيرا من أقيسة الفقهاء التي يزعمون أنها باطلة ، وعارضوها بأقيسة تماثلها في زعمهم . وذكروا أشياء كثيرة يزعمون أن الفقهاء فرقوا فيها بين المجتمع وجمعوا فيها بين المفترق ، إلى غير ذلك من أدلتهم الكثيرة على إبطال الرأي والقياس .

    وقد ذكرنا في هذا الكلام جملا وافية من أدلتهم على ذلك بواسطة نقل العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) ولم نتتبع جميع أدلتهم لئلا يؤدي ذلك إلى الإطالة المملة . وقد رأيت فيما ذكرنا حجج القائلين بالقياس والاجتهاد فيما لا نص فيه ، وحجج المانعين لذلك .
    المسألة السادسة

    اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف ما رأيت أن القياس قسمان : قياس صحيح ، وقياس فاسد .

    أما القياس الفاسد فهو الذي ترد عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية وتدل على بطلانه ، ولا شك أنه باطل ، وأنه ليس من الدين كما قالوا وكما هو الحق .

    وأما القياس الصحيح فلا يرد عليه شيء من تلك الأدلة ، ولا يناقض بعضه بعضا ، ولا يناقض ألبتة نصا صحيحا من كتاب أو سنة . فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ، فإنه لا تتناقض دلالة الأقيسة الصحيحة ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة ، يصدق بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض . فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا .

    وضابط القياس الصحيح هو أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه [ ص: 212 ] من أجلها موجودة بتمامها في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه . وكذلك القياس المعروف بـ " القياس في معنى الأصل " الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم .

    فمثل ذلك لا تأتي الشريعة بخلافه ، ولا يعارض نصا ، ولا يتعارض هو في نفسه ، وسنضرب لك أمثلة من ذلك تستدل بها على جهل الظاهرية القادح الفاضح ، وقولهم على الله وعلى رسوله وعلى دينه أبطل الباطل الذي لا يشك عاقل في بطلانه وعظم ضرره على الدين بدعوى أنهم واقفون مع النصوص ، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب أو سنة فهو معفو عنه ، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع ، فأهدروا المصالح المقصودة من التشريع .

    وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه . فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحكم في وقت الغضب ، ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا ؛ لأن الغضب يشوش الفكر فيمنع من استيفاء النظر في الحكم . فيكون ذلك سببا لضياع حقوق المسلمين ، فيلزم على قول الظاهرية كما قدمنا إيضاحه أن النهي يختص بحالة الغضب ، ولا يتعداها إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم . فلو كان القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيرا أشد من تأثير الغضب بأضعاف ، أو كان في جوع أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب ، فعلى قول الظاهرية فحكمه بين الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم عفو جائز ؛ لأن الله سكت عنه في زعمهم ، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع ، مع أن تنصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة تشويش الفكر تشويشا كتشويش الغضب أو أشد منه كما لا يخفى على عاقل ، فانظر عقول الظاهرية وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام ، مع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصريح عن ذلك في صورة من صوره وهي الغضب - بزعمهم أنهم واقفون مع النصوص . ومن ذلك قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ ص: 213 ] [ 24 \ 4 - 5 ] فالله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة ، وترد شهادتهم ويحكم بفسقهم . ثم استثنى من ذلك من تاب من القاذفين من بعد ذلك وأصلح . ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور .

    فيلزم على قول الظاهرية أن من قذف محصنا ذكرا ليس على أئمة المسلمين جلده ولا رد شهادته ولا الحكم بفسقه ؛ لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم ، وما سكت عنه فهو عفو !

    فانظر عقول الظاهرية وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور ، بدعوى الوقوف مع النص ! ودعوى بعض الظاهرية أن آية والذين يرمون المحصنات شاملة للذكور بلفظها ، بدعوى أن المعنى : يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث والذكور - من تلاعبهم وجهلهم بنصوص الشرع ؟ وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات الآية [ 24 \ 23 ] فهل يمكنهم أن يقولوا إن الفروج هي الغافلات المؤمنات .

    وكذلك قوله تعالى : والمحصنات من النساء الآية [ 4 \ 24 ] وقوله تعالى : محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] كما هو واضح ؟

    ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الراكد ، فإنه لا يشك عاقل أن علة نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره ، فيلزم على قول الظاهرية أنه لو ملأ آنية كثيرة من البول ثم صبها في الماء الراكد أو تغوط فيه أن كل ذلك عفو ؛ لأنه مسكوت عنه . فيكون الله على قولهم ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر البول فيه ، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه بصبه فيه من الآنية ، وكذلك يأذن في التغوط فيه ! .

    وهذا لو صدر من أدنى عاقل لكان تناقضا معيبا عند جميع العقلاء ، فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذا بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوص ! وربما ظن الإنسان الأجر والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب . كما قيل :


    أمنفقة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
    ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء مع سكوته عن حكم التضحية بالعمياء ، فإنه يلزم على قول الظاهرية أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العور خاصة ، فتكون [ ص: 214 ] العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به فيكون ذلك عفوا . وإدخال العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح ؛ لأن المفهوم من العور غير المفهوم من العمى ؛ لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر ، بخلاف العمى فلا يطلق في ذلك . وتفسير العور بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة ؛ لأن العمى المقيد بإحدى العينين غير العمى الشامل للعينين معا . وبالجملة فالمعنى المفهوم من لفظ العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى ، فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز التضحية بالعمياء ؛ لأنها مسكوت عنها ، وأمثال هذا منهم كثيرة جدا . وقصدنا التنبيه على بطلان أساس دعواهم ، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى معاني التشريع والحكم والمصالح التي هي مناط الأحكام ، وإلحاق النظير بنظيره الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم .

    واعلم أن التحقيق الذي لا شك فيه أن الله تعالى يشرع الأحكام لمصالح الخلق ، فأفعاله وتشريعاته كلها مشتملة على الحكم والمصالح من جلب المنافع ودفع المضار . فما يزعمه كثير من متأخري المتكلمين - تقليدا لمن تقدمهم - من أن أفعاله - جل وعلا - لا تعلل بالعلل الغائية ، زاعمين أن التعليل بالأغراض يستلزم الكمال بحصول الغرض المعلل به ، وأن الله - جل وعلا - منزه من ذلك لاستلزامه النقص - كله كلام باطل ، ولا حاجة إليه ألبتة ; لأنه من المعلوم بالضرورة من الدين أن الله - جل وعلا - غني لذاته الغنى المطلق ، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ولكنه - جل وعلا - يشرع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين الفقراء إليه ، لا لأجل مصلحة تعود إليه هو سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

    وادعاء كثير من أهل الأصول أن العلل الشرعية مطلق أمارات وعلامات للأحكام ناشئ عن ذلك الظن الباطل . فالله - جل وعلا - يشرع الأحكام لأجل العلل المشتملة على المصالح التي يعود نفعها إلى خلقه الفقراء إليه لا إلى الله - جل وعلا - إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقد صرح تعالى وصرح رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يشرع الأحكام من أجل الحكم المنوطة بذلك التشريع .

    وأصرح لفظ في ذلك لفظة ( من أجل ) وقد قال تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .

    وقد قدمنا أمثلة متعددة لحروف التعليل في الآيات القرآنية الدالة على العلل الغائية المشتملة على مصالح العباد ، وهو أمر معلوم عند من له علم بحكم التشريع الإسلامي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #305
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (304)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 215 إلى صـ 221



    وقال العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) بعد أن ذكر قول من منع القياس مطلقا وقول من غلا فيه ، وذكر أدلة الفريقين ما نصه :

    وقال المتوسطون بين الفريقين : قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان ، فكلاهما في الإنزال أخوان ، وفي معرفة الأحكام شقيقان ، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه ، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ، ولا يتناقض الكتاب والميزان ، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة ، يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ، فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا .

    ونصوص الشارع نوعان : أخبار ، وأوامر ، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح ، بل هي نوعان : نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة ، أو جملة وتفصيلا ، ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة ، فهكذا أوامره سبحانه نوعان : نوع يشهد به القياس والميزان ، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه ، وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح ، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح . وهذه الجملة إنما تنفصل بتمهيد قاعدتين عظيمتين :

    إحداهما : أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا ، وإذنا وعفوا . كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا ، فعلمه وكتابته وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها ، وأمره نهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية . فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين : إما الكوني ، وإما الشرعي الأمري ، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به ، وجميع ما نهى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه . وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي [ 5 \ 3 ] ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص ، وعن وجه الدلالة وموقعها ، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله - جل وعلا - . ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقسام العلماء في العلم ، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث ، وقد أثنى عليه وعلى داود بالحكم والعلم . وقد قال عمر لأبي [ ص: 216 ] موسى في كتابه إليه : الفهم الفهم فيما أدلي إليك . وقال علي - رضي الله عنه - : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . وقال أبو سعيد : كان أبو بكر - رضي الله عنه - أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل " ، والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد ، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته وأصله ، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل ؛ فمعرفة التأويل يختص بها الراسخون في العلم ، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى ، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه ، والله يعلم بطلانه إلى أن قال :

    وكل فرقة من هؤلاء الفرق الثلاث : يعني نفاة القياس بالكلية والغالين فيه ، والقائلين بأن العلل الشرعية أمارات وعلامات فقط لا مصالح أنيطت بها الأحكام وشرعت من أجلها - سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق ، فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله . فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل ، واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله - احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب ، فحملوهما فوق الحاجة ، ووسعوهما أكثر مما يسعانه . فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا مما وراءه ، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوا الاستصحاب ، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها ، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد ، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة ، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له ، وأخذوا بقياس تركهم وما هو أولى منه . ولكن أخطئوا من أربعة أوجه :

    أحدها رد القياس الصحيح ، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لعن عبد الله خمارا على كثرة شربه للخمر : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " بمنزلة قوله : لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله . وفي قوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس " بمنزلة قوله : ينهيانكم عن كل رجس . وفي أن قوله تعالى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس [ 6 \ 145 ] : نهي عن كل رجس . وفي أن قوله في الهرة : " ليست بنجس ؛ لأنها من الطوافين عليكم والطوافات " ، بمنزلة قوله : كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره : لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهي له عن كل طعام كذلك ، وإذا [ ص: 217 ] قال : لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر فهو نهي له عن كل مسكر . ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة ، وأمثال ذلك الخطأ .

    الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه . وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين ، فلم يفهموا من قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ضربا ، ولا سبا ، ولا إهانة غير لفظة : " أف " فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان الخطأ .

    الثالث : تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه ، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، وليس عدم العلم علما بالعدم .
    وقد تنازع الناس في الاستصحاب ، ونحن نذكر أقسامه . ثم شرع يبين أقسام الاستصحاب ، وقد ذكرنا بعضها في سورة " براءة " وجعلها هو ثلاثة أقسام وأطال فيها الكلام .

    والمعروف في الأصول أن الاستصحاب أربعة أقسام :

    الأول : استصحاب العدم الأصلي حتى يرد النافل عنه وهو البراءة الأصلية والإباحة العقلية . كقولنا : الأصل براءة الذمة من الدين فلا تغمز بدين إلا بدليل نافل عن الأصل يثبت ذلك . والأصل براءة الذمة من وجوب صوم شهر آخر غير رمضان ، فيلزم استصحاب هذا العدم حتى يرد نافل عنه ، وهكذا .

    النوع الثاني : استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه ، كاستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وبقاء شغل الذمة حتى يثبت خلافه .

    الثالث : استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع ، والأكثر على أن هذا الأخير ليس بحجة . وهو يرى أنه حجة ، وكلا الأولين حجة بلا خلاف في الجملة .

    الرابع : الاستصحاب المقلوب ، وقد قدمنا إيضاحه وأمثلته في سورة " التوبة " .

    الخطأ الرابع لهم : هو اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على الباطل حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ، وجمهور الفقهاء على خلافه ، وأن [ ص: 218 ] الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه . وهذا القول هو الصحيح ؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه الله ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم . والفرق بينهما : أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ؛ فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه . وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ، ولذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين : وهو تحريم ما لم يحرمه ، والتقرب إليه بما لم يشرعه ، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ؛ فإن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرمه الله ، وما سكت عنه فهو عفو ، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها ؛ فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال . فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ؟ ! وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها ، فقال : وأوفوا بالعهد [ 17 \ 34 ] وقال : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ 5 \ 1 ] وقال : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [ 23 \ 8 ] وقال تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا [ 2 \ 177 ] وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ - 2 - 3 ] وقال : بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين [ 3 \ 76 ] وقال : إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وهذا كثير في القرآن .

    وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع ، من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر " . وفيه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من علامات المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .

    وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة [ ص: 219 ] بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " وفيهما من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " . وفي سنن أبي داود ، عن أبي رافع ، قال : بعثتني قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، والله إني لا أرجع إليهم أبدا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع " قال : فذهبت ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    وفي صحيح مسلم ، عن حذيفة ، قال : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل ، وقال : فأخذنا كفار قريش قالوا : إنكم تريدون محمدا ؟ فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه . فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر ، فقال : " انصرفا ، نفي لهم بعهدهم ، ونستعين الله عليهم " إلى آخر كلامه في هذا المبحث . والمقصود عنده دلالة النصوص على الوفاء بالعهود والشروط ، ومنع الإخلاف في ذلك ، إلا ما دل عليه دليل خاص ، وذلك واضح من النصوص التي ساقها كما ترى .

    ثم بين أن المخالفين في ذلك يجيبون عن الحجج المذكورة تارة بنسخها ، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط ، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه ، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق " . وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .

    وكقوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [ 2 \ 229 ] وأمثال ذلك في الكتاب والسنة . قال : وأجاب الجمهور عن ذلك بأن دعوى النسخ والتخصيص تحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل عليها ، وبأن القدح في بعضها لا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة لاعتضاده بالصحيح ، وبأنها لا تعارض بينها وبين ما عارضوها به من النصوص .

    ثم بين أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وما كان من شرط ليس في كتاب الله " أي : في حكمه وشرعه ، كقوله تعالى : كتاب الله عليكم [ 4 \ 24 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كتاب الله القصاص في كسر السن " . قال : فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له ، فيكون [ ص: 220 ] باطلا . فإذا كان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الولاء للمعتق ، فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله . ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما ، وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله ، أو إباحة ما حرمه ، أو إسقاط ما أوجبه ، لا إباحة ما سكت عنه ، وعفا عنه ، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده . إلى آخر كلامه .

    ثم بين أن دلالة النصوص عامة في جميع الأحكام ، إلا أن الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا . وبين مسائل كثيرة مما فهم فيه بعض الصحابة من النصوص خلاف المراد .

    قال : وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله : " فإنك آتيه ومطوف به " فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه .

    وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين .

    وأنكر على من فهم من قوله : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر " شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل ، وأخبرهم أنه " بطر الحق وغمط الناس " . وأنكر على من فهم من قوله : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " أنه كراهة الموت ، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله ، والله يكره لقاءه . وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه .

    وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ 84 \ 8 ] معارضته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نوقش الحساب عذب " . وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض ، أي : حساب العرض لا حساب المناقشة .

    وأنكر على من فهم من قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به [ 4 \ 123 ] أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة ، وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء . وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم ، والحزن ، والمرض ، والنصب ، وغير ذلك من مصائبها ، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة .

    وأنكر على من فهم من قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] أنه ظلم النفس بالمعاصي ، وبين أنه الشرك ، وذكر [ ص: 221 ] قول لقمان لابنه : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] وأوضح وجه ذلك بسياق القرآن .

    قال : ثم سأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا ، فقال : " يكفيك آية الصيف " واعترف عمر - رضي الله عنه - بأنه خفي عليه فهمها ، وفهمها الصديق .

    وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية ، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس . وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم . وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية . وفهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكبار الصحابة ما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وصرح بعلته لكونها رجسا .

    وفهمت المرأة من قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا [ 4 \ 20 ] جواز المغالاة في الصداق ، فذكرته لعمر فاعترف به .

    وفهم ابن عباس من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، ولم يفهمه عثمان ، فهم برجم امرأة ولدت لها ، حتى ذكره ابن عباس فأقر به .

    ولم يفهم عمر من قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهم " قتال مانعي الزكاة ، حتى بين له الصديق فأقر به .

    وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا [ 5 \ 93 ] رفع الجناح عن الخمر ، حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر ، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها ، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه ، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم . فالآية لا تتناول المحرم بوجه .

    وقد فهم من فهم من قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] انغماس الرجل في العدو ، حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة ، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله ، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #306
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (305)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 222 إلى صـ 228





    وقال الصديق - رضي الله عنه - : أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على [ ص: 222 ] غير مواضعها : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده " فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها .

    وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود ، هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين ، وهذا هو الحق ؛ لأنه سبحانه قال عن الساكتين : وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا [ 7 \ 164 ] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم ، وإن لم يواجهوهم بالنهي ، فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم .

    وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به ، وعتوا عما نهوا عنه ، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا ، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه برده وفرح به .

    وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة : ما تقولون في إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] السورة ؟ قالوا : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفر . فقال لابن عباس : ما تقول أنت ؟ قال : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه إياه . فقال : ما أعلم منها غير ما تعلم .

    إلى أن قال : والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص ، وأن منهم من يفهم في الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره . وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به ، فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده .

    وهذا باب عجيب من فهم القرآن ، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم ، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به ، كما فهم ابن عباس من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] أن المرأة قد تلد لستة أشهر . . إلى آخر كلامه .

    وإنما أكثرنا في هذه المباحث من نقل كلام ابن القيم كما رأيت ؛ لأنه جاء فيها بما [ ص: 223 ] لم يأت به من تقدمه ولا من تأخر . وقد تركنا كثيرا من نفائس كلامه في هذه المواضيع خشية الإطالة الكثيرة .
    المسألة السابعة

    اعلم أن استهزاء الظاهرية وسخريتهم بالأئمة المجتهدين - رحمهم الله - ودعواهم أن قياساتهم متناقضة ينقض بعضها بعضا ، وأن ذلك دليل على أنها كلها باطلة وليست من الدين في شيء - إذا تأمل فيه المنصف العارف وجد الأئمة - رحمهم الله - أقرب في أغلب ذلك إلى الصواب والعمل بما دلت عليه النصوص من الظاهرية الساخرين المستهزئين . وسنضرب لك بعض الأمثلة لذلك لتستدل به على غيره .

    اعلم أن من أعظم المسائل التي قال فيها الظاهرية بتناقض أقيسة الأئمة وتكذيب بعضها لبعض ، وأن ذلك يدل على بطلان كل قياس من أقيستهم - هي مسألة الربا التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " .

    قال الظاهرية : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حرم الربا في الستة المذكورة ، فتحريمه في شيء غيرها قول على الله وعلى رسوله ، وتشريع زائد على ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : والذين زادوا على النص أشياء يحرم فيها الربا اختلفت أقوالهم ، وتناقضت أقيستهم ، فبعضهم يقول : التمر والبلوط ثمر شجر يؤكل ويدبغ بقشره . وبعضهم يقول هي الكيل . وبعضهم يقول هي الاقتيات والادخار . . . إلخ .

    فهذه أقيسة متضاربة متناقضة فليست من عند الله ، وإذا تأملت في هذه المسألة التي سخروا بسببها من الأئمة ، وادعوا عليهم أنهم حرموا الربا في أشياء لا دليل على تحريمه فيها كالتفاح عند من يقول : العلة الطعم كالشافعي ، وكالأشنان عند من يقول : العلة الكيل - علمت أن الأئمة أقرب إلى العمل بالنص في ذلك من الظاهرية المدعين الوقوف مع ظاهر النص . أما الشافعي الذي قال : العلة في تحريم الربا الطعم فقد استدل لذلك بما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو ( ح ) وحدثني أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، أن أبا النضر حدثه ، أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله ، أنه أرسل غلامه بصاع قمح . الحديث ، وفيه : فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " وكان طعامنا [ ص: 224 ] يومئذ الشعير . فهذا حديث صحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الطعام إذا بيع بالطعام بيع مثلا بمثل . والطعام في اللغة العربية : اسم لكل ما يؤكل ، قال تعالى : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الآية [ 3 \ 93 ] وقال : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ 80 \ 24 - 28 ] وقال تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ 5 \ 5 ] ولا خلاف في ذبائحهم في ذلك . وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في زمزم : " إنها طعام طعم " وقال لبيد في معلقته :


    لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها
    يعني بطعامها : فريستها ، كما قدمنا هذا مستوفى في سورة " البقرة " .

    فالشافعي وإن سخر الظاهرية منه في تحريمه الربا في التفاح فهو متمسك في ذلك بظاهر حديث صحيح ، يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " . فما المانع للظاهرية من القول بظاهر هذا الحديث الصحيح على عادتهم التي يزعمون فيحكمون على الطعام بأنه مثل بمثل ؟ وما مستندهم في مخالفة ظاهر هذا الحديث الصحيح ، وحكمهم بالربا في البر والشعير والتمر والملح دون غيرها من سائر المطعومات ؟ مع أن لفظ الطعام في الحديث المذكور عام للأربعة المذكورة وغيرها كما ترى ، فهل الشافعي في تحريم الربا في التفاح أقرب إلى ظاهر النص أو الظاهرية ؟ وكذلك سخريتهم من الإمام أبي حنيفة وأحمد - رحمهما الله - في قولهما بدخول الربا في كل مكيل وموزون ، مستهزئين بمن يقول بالربا في الأشنان قياسا على التمر - إذا تأملت فيه وجدت الإمامين - رحمهما الله - أقرب في ذلك إلى ظاهر النص من الظاهرية .

    قال الحاكم في ( المستدرك ) : حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ، ثنا الحسن بن مكرم ، ثنا روح بن عبادة ، ثنا حيان بن عبيد الله العدوي ، قال : سألت أبا مجلز عن الصرف ، فقال : كان ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا ، يعني يدا بيد ، فكان يقول : إنما الربا في النسيئة . فلقيه أبو سعيد الخدري ، فقال : يا ابن عباس ، ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا ؟ أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم وهو عند زوجته أم سلمة : " إني لأشتهي تمر عجوة " فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار ، فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة ، فقامت فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه أعجبه ، فتناول تمرة ، ثم أمسك فقال : " من أين لكم هذا ؟ " [ ص: 225 ] فقالت أم سلمة : بعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار ، فأتانا بدل صاعين هذا الصاع الواحد ، وها هو ، كل ، فألقى التمرة بين يديه فقال : " ردوه لا حاجة لي فيه ، التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فمن زاد فهو ربا " ثم قال " كذلك ما يكال ويوزن أيضا " إلى آخره .

    ثم قال الحاكم - رحمه الله - : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه بهذه السياقة . وهذا الحديث الذي قال الحاكم : إنه صحيح الإسناد ، فيه التصريح بأن ما يكال ويوزن يباع مثلا بمثل ، يدا بيد ، وقد قدمنا مرارا أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها في كل ما تشمله صلاتها . فأبو حنيفة مثلا القائل بالربا في الأشنان متمسك بظاهر هذا الحديث ، فهو أقرب إلى ظاهر النص من الظاهرية المستهزئين به ، الزاعمين أنه بعيد في ذلك عن النص .

    فإن قيل : هذا الحدث لا يحتج به لضعفه ، وقد قال الذهبي متعقبا على الحاكم تصحيحه للحديث المذكور ما نصه : قلت : حيان فيه ضعف وليس بالحجة ، وقد أشار البيهقي إلى تضعيف هذا الحديث ، وأعله ابن حزم من ثلاثة أوجه : الأول : زعمه أنه منقطع ؛ لأن أبا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ولا من ابن عباس . الثاني : أن في الحديث أن ابن عباس رجع عن القول بإباحة ربا الفضل . واعتقاد ابن حزم أن ذلك باطل لقول سعيد بن جبير : إن ابن عباس لم يرجع عن ذلك . والثالث : أن حيان بن عبيد الله المذكور في سند هذا الحديث مجهول .

    فالجواب عن ذلك كله هو ما ستراه الآن إن شاء الله ، وهو راجع إلى شيئين : الأول : مناقشة من ضعف الحديث ، وبيان أنه ليس بضعيف . والثاني : أنا لو سلمنا ضعفه تسليما جدليا فهو معتضد بما يثبت الاحتجاج به من الشواهد .

    أما المناقشة في تضعيفه ، فقول الذهبي : إن حيان فيه ضعف وليس بالحجة - معارض بقول أبي حاتم فيما ذكره عن ابنه في كتاب " الجرح والتعديل " : إنه صدوق ، ومعلوم أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مبينا مفصلا كما هو مقرر في علوم الحديث . وقد ترجم له البخاري في تاريخه الكبير ولم يذكر فيه جرحا . وإعلال ابن حزم له بأنه منقطع وأن حيان مجهول قد قدمنا مناقشته فيه في سورة " البقرة " ؛ لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس ، وسمع عنه .

    قال ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " في أبي مجلز المذكور : وهو لاحق بن حميد [ ص: 226 ] السدوسي البصري ، توفي أيام عمر بن عبد العزيز ، وروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس وجندب . . . إلخ ، وتصريحه بروايته عن ابن عباس يدل على عدم صحة قول ابن حزم : إنه لم يسمع من ابن عباس . وقال البخاري في تاريخه الكبير في لاحق بن حميد المذكور : أبو مجلز السدوسي البصري ، مات قبل الحسن بقليل ، ومات الحسن سنة عشر ومائة ، سمع ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس بن مالك . . . إلخ . وفيه تصريح البخاري بسماع أبي مجلز من ابن عباس ، ومع هذا فابن حزم يقول : هو منقطع لعدم سماعه منه . وأما أبو سعيد فلا شك أنه أدركه أبو مجلز المذكور ، والمعاصرة تكفي ، ولا يشترط ثبوت اللقي على التحقيق ، كما أوضحه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه .

    وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في أبي مجلز المذكور : روى عن أبي موسى الأشعري ، والحسن بن علي ، ومعاوية ، وعمران بن حصين ، وسمرة بن جندب ، وابن عباس ، والمغيرة بن شعبة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وأنس ، وجندب بن عبد الله ، وسلمة بن كهيل ، وقيس بن عباد ، وغيرهم . وأرسل عن عمر بن الخطاب ، وحذيفة . . . إلخ . ومما يوضح معاصرة أبي مجلز لأبي سعيد أن جماعة من هؤلاء الصحابة الذين ذكر ابن حجر أنه روى عنهم ماتوا قبل أبي سعيد - رضي الله عنهم . فأبو سعيد - رضي الله عنه - توفي سنة ثلاث أو أربع أو خمس بعد الستين ، وقد مات قبله الحسن بن علي ، وأبو موسى الأشعري ، وعمران بن حصين ، ومعاوية ، وسمرة بن جندب كما هو معلوم .

    وأما قول ابن حزم : إنه مجهول فقد قدمنا مناقشة السبكي له في تكملة المجموع ، وأنه قال : فإن أراد ابن حزم أنه مجهول العين فليس بصحيح ، بل هو رجل مشهور ، روى عنه حديث الصرف هذا روح بن عبادة ، ومن جهته أخرجه الحاكم ، وذكره ابن حزم ، وإبراهيم بن الحجاج الشامي ، ومن جهته رواه ابن عدي ويونس بن محمد ، ومن جهته رواه البيهقي ' وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي بصري ، سمع أبا مجلز لاحق بن حميد ، والضحاك وعن أبيه ، وروى عن عطاء ، وابن بريدة ، روى عنه موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم ، وأبو داود ، وعبيد الله بن موسى ، عقد له البخاري ، وابن أبي حاتم ترجمة فذكر كل منهما بعض ما ذكرته . وله ترجمة في كتاب ابن عدي كما أشرت إليه ، فزال عنه جهالة العين . وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه ، فقال في إسناده : أخبرنا روح ، قال : حدثنا حيان بن عبيد الله ، وكان رجل صدق . فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة ، فروح محدث نشأ في الحديث ، عارف به ، مصنف [ ص: 227 ] متفق على الاحتجاج به ، بصري بلدي للمشهود له فتقبل شهادته له . وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ، ومن يثني عليه إسحاق ! وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا ، وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روي عنهم ، قال : إنه سأل أباه عنه ، فقال : صدوق . ا هـ من تكملة المجموع كما قدمناه في سورة " البقرة " . والذي رأيت في سنن البيهقي الكبرى أن الراوي عن حيان المذكور في إسناده له إبراهيم بن الحجاج ، وقال صاحب " الجوهر النقي " : وحيان هذا ذكره ابن حبان في الثقات من أتباع التابعين . وقال الذهبي في الضعفاء : جائز الحديث . وقال عبد الحق في أحكامه : قال أبو بكر البزار : حيان رجل من أهل البصرة مشهور وليس به بأس . وقال فيه أبو حاتم : صدوق . وقال بعض المتأخرين فيه : مجهول . ولعله اختلط عليه بحيان بن عبيد الله المروي ، وبما ذكر تعلم أن دعوى ابن حزم أن الحديث منقطع ، وأن حيان المذكور مجهول ليست بصحيحة .

    وأما دعواه عدم رجوع ابن عباس لقول سعيد بن جبير : إنه لم يرجع عن القول بإباحة ربا الفضل ، فقد قدمنا الروايات الواردة برجوعه مستوفاة في سورة " البقرة " عن جماعة من أصحابه ، ولا شك أنها أولى من قول سعيد بن جبير ؛ لأنهم جماعة وهو واحد ؛ ولأنهم مثبتون رجوعه وهو نافيه ، والمثبت مقدم على النافي . وأما شواهد حديث حيان المذكور الدال على أن الربا في كل ما يكال ويوزن ؛ فمنها ما قدمنا في سورة " البقرة " من حديث أنس ، وعبادة بن الصامت عند الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا ، وما كيل فمثل ذلك . فإذا اختلف النوعان فلا بأس به " وقد قدمنا في سورة " البقرة " قول الشوكاني : إن حديث أنس وعبادة هذا أشار إليه ابن حجر في " التلخيص " ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح ، وثقه أبو زرعة ، وغيره ، وضعفه جماعة ، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا . ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا ، وغيره من الأحاديث . انتهى منه كما تقدم . وفي هذا الحديث المذكور دليل واضح على أن كل ما يكال أو يوزن فيه الربا وإن سخر الظاهرية ممن يقول بذلك ، ومن شواهد حديث حيان المذكور الحديث المتفق عليه . قال البخاري في صحيحه في ( كتاب الوكالة ) : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : " أكل تمر خيبر هكذا " ؟ فقال : إنا [ ص: 228 ] لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة . فقال : " لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا " ، وقال في الميزان مثل ذلك . انتهى منه .

    ومحل الشاهد منه قوله : وقال في الميزان مثل ذلك ، ومعناه ظاهر جدا في أن ما يوزن بالميزان مثل ذلك في منع الربا . وقد قدمنا أقوال من أول هذا الحديث وصرفه عن المعنى المذكور في سورة " البقرة " . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " . قال : لا ، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان " انتهى منه . وقوله في هذا الحديث المتفق عليه " وكذلك الميزان " ظاهر جدا في أن ما يوزن كما يكال ، وأن في ذلك كله الربا . ولا شك أن هذه الأحاديث التي عمل بها بعض الأئمة وإن استهزأ بهم الظاهرية في ذلك أقرب إلى ظاهر النص من قول الظاهرية : إنه لا ربا إلا في الستة المذكورة قبل . والمقصود التمثيل لأحوالهم مع الأئمة المجتهدين رحمهم الله .

    تنبيه

    اعلم أنا نقول بموجب الأحاديث التي استدل بها الظاهرية على أن ما سكت عنه الشارع فهو عفو ، ونقول مثلا : إن صوم شهر آخر غير رمضان لم يوجب علينا فهو عفو . ولكن لا نسلم أن آية : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ساكتة عن تحريم ضرب الوالدين ، بل نقول هي دالة عليه ، وادعاء أنها لم تتعرض لذلك باطل كما ترى . ولا نقول : إن آية فمن يعمل مثقال ذرة الآية [ 99 \ 7 ] ساكتة عن مؤاخذة من عمل مثقال جبل ، بل هي دالة على المؤاخذة بذلك . وهكذا إلى آخر ما ذكرنا من أمثلة ذلك في هذه المباحث وفي سورة " بني إسرائيل " . وما ذكرنا سابقا من أن الصواب في مسألة القياس أنه قسمان ؛ صحيح وفاسد ، كما بينا وكما أوضحه ابن القيم في كلامه الذي نقلنا - اعتمده صاحب " مراقي السعود " في قوله في القياس :


    وما روي من ذمة فقد عني به الذي على الفساد قد بني


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #307
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (306)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 229 إلى صـ 235



    المسألة الثامنة

    اعلم أن جماهير القائلين بالقياس يقولون : إنه إن خالف النص فهو باطل ، ويسمون القدح فيه بمخالفته للنص فساد الاعتبار . كما أشار إليه صاحب " مراقي السعود " بقوله :


    والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى
    كما قدمناه في سورة " البقرة " .

    واعلم أن ما يذكره بعض علماء الأصول من المالكية وغيرهم عن الإمام مالك من أنه يقدم القياس على أخبار الآحاد خلاف التحقيق . والتحقيق : أنه يقدم أخبار الآحاد على القياس ، واستقراء مذهبه يدل على ذلك دلالة واضحة ، ولذلك أخذ بحديث المصراة في دفع صاع التمر عوض اللبن . ومن أصرح الأدلة التي لا نزاع بعدها في ذلك أنه يقول : إن في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثين من الإبل ، وفي أربعة أصابع من أصابعها عشرين من الإبل . كما قدمناه مستوفى في سورة " بني إسرائيل " . ولا شيء أشد مخالفة للقياس من هذا كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لسعيد بن المسيب حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها : نقص عقلها . ومالك خالف القياس في هذا القول ، سعيد بن المسيب : إنه السنة ، كما تقدم . وبعد هذا فلا يمكن لأحد أن يقول : إن مالكا يقدم القياس على النص ، ومسائل الاجتهاد والتقليد مدونة في أصول الفقه ، ولأجل ذلك نكتفي بما ذكرنا من ذلك هنا .
    المسألة التاسعة

    اعلم أن أكثر أهل العلم قالوا : إن الحرث الذي حكم فيه سليمان وداود إذ نفشت فيه غنم القوم بستان عنب ، والنفش : رعي الغنم ليلا خاصة ، ومنه قول الراجز :


    بدلن بعد النفش الوجيفا وبعد طول الجرة الصريفا
    وقيل : كان الحرث المذكور زرعا ، وذكروا أن داود حكم بدفع الغنم لأهل الحرث عوضا من حرثهم الذي نفشت فيه فأكلته . وقال بعض أهل العلم : اعتبر قيمة الحرث فوجد الغنم بقدر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث ، إما لأنه لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها ، ورضوا بدفعها ورضي أولئك بأخذها بدلا من القيمة . وأما سليمان فحكم بالضمان على [ ص: 230 ] أصحاب الغنم ، وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان حين نفشت فيه غنمهم . ولم يضيع عليهم غلته من حين الإتلاف إلى حين العود ، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم . وقد اعتبر النماءين فوجدهما سواء ، قالوا : وهذا هو العلم الذي خصه الله به ، وأثنى عليه بإدراكه . هكذا يقولون ، والله تعالى أعلم .
    المسألة العاشرة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في مثل هذه القصة . فلو نفشت غنم قوم في حرث آخرين فتحاكموا إلى حاكم من حكام المسلمين فماذا يفعل ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن ما أفسدته البهائم ليلا يضمنه أرباب الماشية بقيمته ، وهو المشهور من مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله . وقيل : يضمنونه بمثله كقضية سليمان . قال ابن القيم : وهذا هو الحق ، وهو أحد القولين في مذهب أحمد ، ووجه للشافعية والمالكية ، والمشهور عنهم خلافه . والآية تشير إلى اختصاص الضمان بالليل ؛ لأن النفش لا يطلق لغة إلا على الرعي بالليل كما تقدم . واحتج الجمهور لضمان أصحاب البهائم ما أفسدته ليلا بحديث حرام بن محيصة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها " رواه الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والدارقطني ، وابن حبان ، وصححه الحاكم ، فقال بعد أن ساق الحديث المذكور : هذا حديث صحيح الإسناد على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي ، فإن معمرا قال : عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ، عن أبيه ، وأقره الذهبي على تصحيحه ولم يتعقبه .

    وقال الشوكاني - رحمه الله - في ( نيل الأوطار ) في الحديث المذكور : صححه الحاكم ، والبيهقي . قال الشافعي : أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله . ا هـ منه . والاختلاف على الزهري في رواية هذا الحديث كثير معروف .

    وقال ابن عبد البر : وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور ، أرسله الأئمة ، وحدث به الثقات ، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول ، وجرى في المدينة العمل به ، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث ، وعلى كل حال فالحديث المذكور احتج به جمهور العلماء ، منهم الأئمة الثلاثة المذكورون على أن [ ص: 231 ] ما أفسدته البهائم بالليل على أربابها ، وفي النهار على أهل الحوائط حفظها . ومشهور مذهب مالك وأحمد والشافعي أنه يضمن بقيمته كما تقدم . وأبو حنيفة يقول : لا ضمان مطلقا في جناية البهائم ، ويستدل بالحديث الصحيح : " العجماء جبار " أي : جرحها هدر . والجمهور يقولون : إن الحديث المذكور عام ، وضمان ما أفسدته ليلا مخصص له . وذهب داود ومن وافقه إلى أن ما أتلفته البهائم بغير علم مالكها ولو ليلا ضمان فيه ، وأما إذا رعاها صاحبها باختياره في حرث غيره فهو ضامن بالمثل .

    واعلم أن القائلين بلزوم قيمة ما أفسدته البهائم ليلا يقولون : يضمنه أصحابها ولو زاد على قيمتها ، خلافا لليث القائل : لا يضمنون ما زاد على قيمتها ، وفي المسألة تفاصيل مذكورة في كتب الفروع ، وصيغة الجمع في الضمير في قوله : لحكمهم [ 21 \ 78 ] الظاهر أنها مراد بها سليمان ، وداود ، وأصحاب الحرث ، وأصحاب الغنم ، وأضاف الحكم إليهم لأن منهم حاكما ومحكوما له ومحكوما عليه .

    وقوله : ففهمناها أي : القضية أو الحكومة المفهومة من قوله : إذ يحكمان في الحرث [ 21 \ 78 ] وقوله : وكلا آتينا [ 21 \ 79 ] أي : أعطينا كلا من داود وسليمان حكما وعلما . والتنوين في قوله : وكلا عوض عن كلمة ، أي : كل واحد منهما .
    قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه سخر الجبال ، أي : ذللها ، وسخر الطير تسبح مع داود . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من تسخيره الطير والجبال تسبح مع نبيه داود بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير الآية [ 34 \ 10 ] . وقوله : أوبي معه أي : رجعي معه التسبيح . والطير أي : ونادينا الطير بمثل ذلك من ترجيع التسبيح معه . وقول من قال أوبي معه : أي : سيري معه ، وأن التأويب سير النهار - ساقط كما ترى . وكقوله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب [ 38 \ 17 - 18 ] .

    والتحقيق : أن تسبيح الجبال والطير مع داود المذكور تسبيح حقيقي ؛ لأن الله - جل وعلا - يجعل لها إدراكات تسبح بها ، يعلمها هو - جل وعلا - ونحن لا نعلمها . كما قال : [ ص: 232 ] وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 7 \ 44 ] وقال تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله الآية [ 2 \ 74 ] وقال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها الآية [ 33 \ 72 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتقل عنه بالخطبة إلى المنبر سمع له حنين . وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن " وأمثال هذا كثيرة . والقاعدة المقررة عند العلماء أن نصوص الكتاب ، والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل يجب الرجوع إليه . والتسبيح في اللغة : الإبعاد عن السوء ، وفي اصطلاح الشرع : تنزيه الله - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

    وقال القرطبي في تفسير هذه الآية وسخرنا مع داود الجبال [ 21 \ 79 ] أي : جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح ، والظاهر أن قوله : وكنا فاعلين مؤكد لقوله : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير [ 21 \ 79 ] والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة ، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة .

    وقال الزمخشري وكنا فاعلين أي : قادرين على أن نفعل هذا . وقيل : كنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك . وكلا القولين اللذين قال ظاهر السقوط ؛ لأن تأويل وكنا فاعلين بمعنى كنا قادرين بعيد ، ولا دليل عليه كما لا دليل على الآخر كما ترى .

    وقال أبو حيان وكنا فاعلين أي : فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا . ا هـ . وأظهرها عندي هو ما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون .

    الضمير في قوله : وعلمناه راجع إلى داود ، والمراد بصيغة اللبوس : صنعة الدروع ونسجها . والدليل على أن المراد باللبوس في الآية الدروع أنه أتبعه بقوله : لتحصنكم من بأسكم [ 21 \ 80 ] أي : لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض ؛ لأن الدرع تقيه ضرر الضرب بالسيف ، والرمي بالرمح والسهم كما هو معروف . وقد أوضح [ ص: 233 ] هذا المعنى بقوله : وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد [ 34 \ 10 - 11 ] فقوله : أن اعمل سابغات أي : أن اصنع دروعا سابغات من الحديد الذي ألناه لك .

    والسرد : نسج الدرع . ويقال فيه : الزرد ، ومن الأول قول أبي ذؤيب الهذلي :


    وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
    ومن الثاني قول الآخر :


    نقريهم لهذميات نقد بها ما كان خاط عليهم كل زراد
    ومراده بالزراد : ناسج الدرع . وقوله : وقدر في السرد أي : اجعل الحلق والمسامير في نسجك الدرع بأقدار متناسبة ، فلا تجعل المسمار دقيقا لئلا ينكسر ولا يشد بعض الحلق ببعض ، ولا تجعله غليظا غلظا زائدا فيفصم الحلقة . وإذا عرفت أن اللبوس في الآية الدروع فاعلم أن العرب تطلق اللبوس على الدروع كما في الآية . ومنه قول الشاعر :


    عليها أسود ضاويات لبوسهم سوابغ بيض لا يخرقها النبل
    فقوله : " سوابغ " أي : دروع سوابغ ، وقول كعب بن زهير :


    شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
    ومراده باللبوس التي عبر عنها بالسرابيل : الدروع . والعرب تطلق اللبوس أيضا على جميع السلاح ، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا . ومن إطلاقه على الرمح قول أبي كبير الهذلي يصف رمحا :


    ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل
    وتطلق اللبوس أيضا على كل ما يلبس ، ومنه قول بيهس :


    البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
    وما ذكره هنا من الامتنان على الخلق بتعليمه صنعة الدروع ليقيهم بها من بأس السلاح تقدم إيضاحه في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهل أنتم شاكرون [ 21 \ 80 ] الظاهر فيه أن صيغة الاستفهام هنا يراد بها الأمر ، ومن إطلاق الاستفهام بمعنى الأمر في القرآن قوله [ ص: 234 ] تعالى : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] أي : انتهوا . ولذا قال عمر - رضي الله عنه - : انتهينا يا رب . وقوله تعالى : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم الآية [ 3 \ 20 ] أي : أسلموا . وقد تقرر في فن المعاني أن في المعاني التي تؤدى بصيغة الاستفهام : الأمر ، كما ذكرنا .

    وقوله : شاكرون شكر العبد لربه : هو أن يستعين بنعمه على طاعته ، وشكر الرب لعبده : هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل . ومادة " شكر " لا تتعدى غالبا إلا باللام ، وتعديتها بنفسها دون اللام قليلة ، ومنه قول أبي نخيلة :


    شكرتك إن الشكر حبل من التقى وما كل من أوليته نعمة يقضي
    وفي قوله : لتحصنكم ثلاث قراءات سبعية : قرأه عامة السبعة ما عدا ابن عامر وعاصما ليحصنكم بالياء المثناة التحتية ، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل عائد إلى داود أو إلى اللبوس ؛ لأن تذكيرها باعتبار معنى ما يلبس من الدروع جائز . وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم لتحصنكم بالتاء المثناة الفوقية ، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل راجع إلى اللبوس وهي مؤنثة ، أو إلى الصنعة المذكورة في قوله : صنعة لبوس وقرأه شعبة عن عاصم لنحصنكم بالنون الدالة على العظمة وعلى هذه القراءة فالأمر واضح .
    قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين .

    قوله : ولسليمان الريح [ 21 \ 81 ] معطوف على معمول " وسخرنا " ، في قوله : وسخرنا مع داود الجبال [ 21 \ 79 ] أي : وسخرنا لسليمان الريح في حال كونها عاصفة ، أي : شديدة الهبوب . يقال : عصفت الريح أي : اشتدت ، فهي ريح عاصف وعصوف ، وفي لغة بني أسد ( أعصفت ) فهي معصف ومعصفة ، وقد قدمنا بعض شواهده العربية في سورة ( الإسراء ) .

    وقوله : تجري بأمره أي : تطيعه وتجري إلى المحل الذي يأمرها به ، وما ذكره في هذه الآية من تسخير الريح لسليمان ، وأنها تجري بأمره بينه في غير هذا الموضع ، وزاد بيان قدر سرعتها ، وذلك في قوله : ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر [ ص: 235 ] [ 34 \ 12 ] وقوله : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب [ 38 \ 36 ] .

    تنبيه

    اعلم أن في هذه الآيات التي ذكرنا سؤالين معروفين :

    الأول : أن يقال : إن الله وصف الريح المذكورة هنا في سورة " الأنبياء " بأنها عاصفة ، أي : شديدة الهبوب ، ووصفها في سورة " ص " بأنها تجري بأمره رخاء ، والعاصفة غير التي تجري رخاء .

    والسؤال الثاني : هو أنه هنا في سورة " الأنبياء " خص جريها به بكونه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين ، وفي سورة " ص " قال : تجري بأمره رخاء حيث أصاب [ 38 \ 36 ] وقوله : حيث أصاب يدل على التعميم في الأمكنة التي يريد الذهاب إليها على الريح . فقوله : حيث أصاب أي : حيث أراد ، قاله مجاهد . وقال ابن الأعرابي : العرب تقول : أصاب الصواب ، وأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب وأخطأ الجواب . ومنه قول الشاعر :


    أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المفصل
    قاله القرطبي . وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن معنى " أصاب " ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان ؟ فقالا : هذه طلبتنا ، ورجعا .

    أما الجواب عن السؤال الأول فمن وجهين : الأول : أنها عاصفة في بعض الأوقات ، ولينة رخاء في بعضها بحسب الحاجة ، كأن تعصف ويشتد هبوبها في أول الأمر حتى ترفع البساط الذي عليه سليمان وجنوده ، فإذا ارتفع سارت به رخاء حيث أصاب .

    الجواب الثاني : هو ما ذكره الزمخشري قال : فإن قلت : وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاء أخرى ، فما التوفيق بينهما ؟ قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة ، على ما قال : غدوها شهر ورواحها شهر ، فكان جمعها بين الأمرين : أن تكون رخاء في نفسها ، وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان ، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم . ا هـ محل الغرض منه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #308
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (307)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 236 إلى صـ 242



    وأما الجواب عن السؤال الثاني : فهو أن قوله : حيث أصاب يدل على أنها تجري بأمره حيث أراد من أقطار الأرض . وقوله : تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها [ ص: 236 ] [ 38 \ 36 ] لأن مسكنه فيها وهي الشام ، فترده إلى الشام . وعليه فقوله : حيث أصاب في حالة الذهاب . وقوله : إلى الأرض التي باركنا فيها في حالة الإياب إلى محل السكنى . فانفكت الجهة فزال الإشكال . وقد قال نابغة ذبيان :


    إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند
    وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
    وتدمر : بلد بالشام . وذلك مما يدل على أن الشام هو محل سكناه كما هو معروف .
    قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين أنه في محل نصب عطفا على معمول سخرنا أي : وسخرنا له من يغوصون له من الشياطين . وقيل : " من " مبتدأ ، والجار والمجرور قبله خبره .

    وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سخر لسليمان من يغوصون له من الشياطين ، أي : يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة ، كاللؤلؤ والمرجان . والغوص : النزول تحت الماء ، والغواص : الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللؤلؤ ونحوه . ومنه قول نابغة ذبيان :


    أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
    وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أيضا أن الشياطين المسخرين له يعملون له عملا دون ذلك ، أي : سوى ذلك الغوص المذكور ، أي : كبناء المدائن ، والقصور ، وعمل المحاريب ، والتماثيل ، والجفان ، والقدور الراسيات ، وغير ذلك من اختراع الصنائع العجيبة .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : وكنا لهم حافظين أي : من أن يزيغوا عن أمره ، أو يبدلوا أو يغيروا ، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه . وهذه المسائل الثلاث التي تضمنتها هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في غير هذا الموضع ، كقوله في الغوص والعمل سواء : والشياطين كل بناء وغواص الآية [ 38 \ 37 ] وقوله في العمل غير الغوص : ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه [ 34 \ 12 ] وقوله : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات [ 34 \ 13 ] وكقوله في حفظهم من أن يزيغوا عن أمره : ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير [ 34 \ 12 ] [ ص: 237 ] وقوله : وآخرين مقرنين في الأصفاد [ 38 \ 38 ] .

    وصفة البساط ، وصفة حمل الريح له ، وصفة جنود سليمان من الجن والإنس والطير كل ذلك مذكور بكثرة في كتب التفسير ، ونحن لم نطل به الكلام في هذا الكلام المبارك .
    قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .

    الظاهر أن قوله : وأيوب منصوب بـ " اذكر " مقدرا ، ويدل على ذلك قوله تعالى في " ص " : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب [ 38 \ 41 ] .

    وقد أمر - جل وعلا - في هاتين الآيتين الكريمتين نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر أيوب حين نادى ربه قائلا : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ 21 \ 83 ] وأن ربه استجاب له فكشف عنه جميع ما به من الضر ، وأنه آتاه أهله ، وآتاه مثلهم معهم رحمة منه - جل وعلا - به وتذكيرا للعابدين ، أي الذين يعبدون الله ؛ لأنهم هم المنتفعون بالذكرى .

    وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة " ص " في قوله : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب إلى قوله : لأولي الألباب [ 38 \ 41 - 43 ] والضر الذي مس أيوب ، ونادى ربه ليكشفه عنه كان بلاء أصابه في بدنه وأهله وماله . ولما أراد الله إذهاب الضر عنه أمره أن يركض برجله ففعل ، فنبعت له عين ماء ، فاغتسل منها ، فزال كل ما بظاهر بدنه من الضر ، وشرب منها فزال كل ما بباطنه . كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب [ 38 \ 42 ] .

    وما ذكره في " الأنبياء " من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لمن يعبده بينه في " ص " في قوله : ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب [ 38 \ 43 ] وقوله في " الأنبياء " : وذكرى للعابدين [ 21 \ 84 ] مع قوله في " ص " ، وذكرى لأولي الألباب [ 38 \ 43 ] فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه . وهذا يؤيد قول من قال من أهل العلم : إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناس أن تلك الوصية تصرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى ؛ لأنهم هم أولو الألباب ، أي العقول [ ص: 238 ] الصحيحة السالمة من الاختلال .
    تنبيه

    في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف ، وهو أن يقال : إن قول أيوب المذكور في " الأنبياء " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الضر وفي " ص " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه ، مع أن قوله تعالى عنه : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب [ 38 \ 44 ] يدل على كمال صبره

    والجواب أن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه ، لا شكوى ولا جزع .

    قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ولم يكن قوله : مسني الضر جزعا ؛ لأن الله تعالى قال : إنا وجدناه صابرا بل كان ذلك دعاء منه . والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ، والدعاء لا ينافي الرضا . قال الثعلبي : سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ، فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى : إنا وجدناه صابرا فقلت : ليس هذا شكاية ، وإنما كان دعاء ، بيانه فاستجبنا له والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء . فاستحسنوه وارتضوه . وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال . انتهى منه .

    ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة " الأنبياء " من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وذكره في سورة " ص " وأسند ذلك إلى الشيطان في قوله : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب والنصب على جميع القراءات معناه : التعب والمشقة ، والعذاب : الألم . وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة " ص " هذه إشكال قوي معروف ؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام ، كقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى : وما كان له [ ص: 239 ] عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 21 ] وقوله تعالى مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .

    وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ، منها ما ذكره الزمخشري قال :

    فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟

    قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل .

    وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين . وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه . وقيل . أعجب بكثرة ماله . انتهى منه .

    ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب ، فأهلك الشيطان ماله وولده ، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له ، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها ، فصار في جسده ثآليل ، فحكها بأظافره حتى دميت ، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه ، وعصم الله قلبه ولسانه ( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله ممكن ، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ، كمداهنة الملك المذكور ، وعدم إغاثة الملهوف ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون . وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه ، وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلا .

    وغاية ما دل عليه القرآن أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر ، ووهبه أهله ومثلهم معهم ، وأن أيوب نسب [ ص: 240 ] ذلك في " ص " إلى الشيطان . ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ابتلاء ليظهر صبره الجميل ، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة ، ويرجع له كل ما أصيب فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب ؛ لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض ، وذلك يقع للأنبياء ، فإنهم يصيبهم المرض ، وموت الأهل ، وهلاك المال لأسباب متنوعة . ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء ، وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض ، والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة " طه " وقول الله لنبيه أيوب في سورة " ص " : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث [ 38 \ 44 ] قال المفسرون فيه : إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط ، فأمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به ليخرج من يمينه ، والضغث : الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك . والمعنى : أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود ، فيضربها بها ضربة واحدة ، فيخرج بذلك من يمينه . وقد قدمنا في سورة " الكهف " الاستدلال بآية ولا تحنث [ 38 \ 44 ] على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛ إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب : قل إن شاء الله ليكون ذلك استثناء في يمينك .
    قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين .

    أي : واذكر ذا النون . والنون : الحوت . " وذا " بمعنى صاحب . فقوله : وذا النون معناه : صاحب الحوت . كما صرح الله بذلك في " القلم " في قوله : ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] . وإنما أضافه إلى الحوت لأنه التقمه كما قال تعالى : فالتقمه الحوت وهو مليم [ 37 \ 142 ] .

    وقوله : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر :

    الأول : أن المعنى لن نقدر عليه أي : لن نضيق عليه في بطن الحوت . ومن إطلاق " قدر " بمعنى " ضيق " في القرآن قوله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] أي : ويضيق الرزق على من يشاء ، وقوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته [ ص: 241 ] ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . فقوله : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي : ومن ضيق عليه رزقه .

    الوجه الثاني : أن معنى لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] لن نقضي عليه ذلك . وعليه فهو من القدر والقضاء . " وقدر " بالتخفيف تأتي بمعنى " قدر " المضعفة : ومنه قوله تعالى : فالتقى الماء على أمر قد قدر [ 54 \ 12 ] أي : قدره الله . ومنه قول الشاعر - وأنشده ثعلب شاهدا لذلك - :


    فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
    تباركت ما تقدر يقع لك الشكر
    والعرب تقول : قدر الله لك الخير يقدره قدرا ، كضرب يضرب ، ونصر ينصر ، بمعنى قدره لك تقديرا . ومنه على أصح القولين " ليلة القدر " ؛ لأن الله يقدر فيها الأشياء . كما قال تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم [ 44 \ 4 ] والقدر بالفتح ، والقدر بالسكون : ما يقدره الله من القضاء . ومنه قول هدبة بن الخشرم :


    ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
    أما قول من قال : إن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] من القدرة فهو قول باطل بلا شك ؛ لأن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله على كل شيء ، كما لا يخفى .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : مغاضبا أي : في حال كونه مغاضبا لقومه . ومعنى المفاعلة فيه : أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم ، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه ، فأوعدهم بالعذاب . ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج . قاله أبو حيان في البحر . وقال أيضا : وقيل معنى " مغاضبا " غضبان ، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص ، وسافرت . اهـ .

    واعلم أن قول من قال مغاضبا أي : مغاضبا لربه كما روي عن ابن مسعود ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، واختاره الطبري ، والقتبي ، واستحسنه المهدوي - يجب حمله على معنى القول الأول ، أي : مغاضبا من أجل ربه . قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا : وقال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة ، وهو قول صحيح ، والمعنى : مغاضبا من أجل ربه كما تقول : غضبت لك أي : من [ ص: 242 ] أجلك ، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي . انتهى منه . والمعنى على ما ذكر : مغاضبا قومه من أجل ربه ، أي : من أجل كفرهم به وعصيانهم له . وغير هذا لا يصح في الآية .

    وقوله تعالى : فنادى في الظلمات . أي : ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت . " وأن " في قوله : أن لا إله إلا أنت [ 21 \ 87 ] مفسرة ، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى " أن لا إله " ، ومعنى " سبحانك " ، ومعنى الظلم ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقوله : فاستجبنا له أي : أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت ، وإطلاق " استجاب " بمعنى أجاب معروف في اللغة ، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :


    وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
    وما ذكره الله - جل وعلا - في هذه الآية من نداء نبيه يونس في تلك الظلمات هذا النداء العظيم ، وأن الله استجاب له ونجاه من الغم - أوضحه في غير هذا الموضع .

    وبين في بعض المواضع أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه . وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم .

    وبين في بعضها أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق ، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #309
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (308)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 243 إلى صـ 249




    وبين في بعضها أن الله تداركه برحمته . ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما ، ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم ، قال تعالى في " الصافات " : وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين الآية [ 37 \ 139 - 148 ] . فقوله في آيات " الصافات " المذكورة : إذ أبق [ 37 \ 140 ] أي : حين أبق ، وهو من قول العرب : عبد آبق ؛ لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه ، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق واستحقاق الملامة في قوله : وهو مليم [ 37 \ 142 ] لأن المليم اسم فاعل " ألام " إذا فعل ما يستوجب [ ص: 243 ] الملام . وقوله : فساهم أي : قارع ، بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة ليخرج سهم من يلقى في البحر . وقوله : فكان من المدحضين أي المغلوبين في القرعة ؛ لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر ، ومن ذلك قول الشاعر :


    قتلنا المدحضين بكل فج فقد قرت بقتلهم العيون
    وقوله : فنبذناه أي : طرحناه ، بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل . والعراء : الصحراء . وقول من قال : العراء : الفضاء أو المتسع من الأرض ، أو المكان الخالي ، أو وجه الأرض - راجع إلى ذلك ، ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة :


    ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي
    وشجرة اليقطين : هي الدباء . وقوله : وهو سقيم أي : مريض لما أصابه من التقام الحوت إياه ، وقال تعالى في " القلم " : ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [ 68 \ 48 - 50 ] فقوله في آية " القلم " هذه : إذ نادى [ 68 \ 48 ] أي : نادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وقوله :وهو مكظوم [ 6 \ 48 ] أي : مملوء غما ، كما قال تعالى : ونجيناه من الغم [ 21 \ 88 ] وهو قول ابن عباس ومجاهد . وعن عطاء وأبي مالك مكظوم : مملوء كربا ، قال الماوردي : والفرق بين الغم والكرب أن الغم في القلب ، والكرب في الأنفاس . وقيل مكظوم محبوس . والكظم : الحبس . ومنه قولهم : كظم غيظه ، أي : حبس غضبه ، قاله ابن بحر . وقيل : المكظوم المأخوذ بكظمه ، وهو مجرى النفس ، قاله المبرد . انتهى من القرطبي .

    وآية " القلم " المذكورة تدل على أن نبي الله يونس - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجل بالذهاب ومغاضبة قومه ، ولم يصبر الصبر اللازم بدليل قوله مخاطبا نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] . فإن أمره لنبينا - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ونهيه إياه أن يكون كصاحب الحوت دليل على أن صاحب الحوت لم يصبر كما ينبغي . وقصة يونس وسبب ذهابه ومغاضبته قومه مشهورة مذكورة في كتب التفسير . وقد بين تعالى في سورة " يونس " أن قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم دون غيرهم من سائر القرى التي بعثت إليهم الرسل ، وذلك في قوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا [ ص: 244 ] قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك ننجي المؤمنين يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعيا بإخلاص إلا نجاه الله من ذلك الغم ، ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا . وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء يونس المذكور : " لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " رواه أحمد ، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وغيرهم . والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى ؛ لأنه لما ذكر أنه أنجى يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين . وقوله ننجي المؤمنين صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى . وقرأ عامة القراء السبعة غير ابن عامر وشعبة عن عاصم وكذلك ننجي المؤمنين بنونين أولاهما مضمومة ، والثانية ساكنة بعدها جيم مكسورة مخففة فياء ساكنة ، وهو مضارع " أنجى " الرباعي على صيغة أفعل ، والنون الأولى دالة على العظمة ، وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم " وكذلك نجي المؤمنين " بنون واحدة مضمومة بعدها جيم مكسورة مشددة فياء ساكنة . وهو على هذه القراءة بصيغة فعل ماض مبني للمفعول من نجى المضعفة على وزن " فعل " بالتضعيف . وفي كلتا القراءتين إشكال معروف . أما قراءة الجمهور فهي من جهة القواعد العربية واضحة لا إشكال فيها ، ولكن فيها إشكال من جهة أخرى ، وهي : أن هذا الحرف إنما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية بنون واحدة ، فيقال : كيف تقرأ بنونين وهي في المصاحف بنون واحدة ؟ وأما على قراءة ابن عامر وشعبة بالإشكال من جهة القواعد العربية ؛ لأن نجى على قراءتهما بصيغة ماض مبني للمفعول ، فالقياس رفع المؤمنين بعده على أنه نائب الفاعل ، وكذلك القياس فتح ياء " نجى " لا إسكانها .

    وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة ، منها ما ذكره بعض الأئمة ، وأشار إليه ابن هشام في باب الإدغام من توضيحه أن الأصل في قراءة ابن عامر وشعبة " ننجي " بفتح النون الثانية مضارع نجى مضعفا ، فحذفت النون الثانية تخفيفا . أو ننجي بسكونها مضارع " أنجى " وأدغمت النون في الجيم لاشتراكهما في الجهر ، والانفتاح ، والتوسط بين القوة والضعف ، كما أدغمت في " إجاصة وإجانة " بتشديد الجيم فيهما ، والأصل " إنجاصة وإنجانة " فأدغمت النون فيهما . والإجاصة : واحدة الإجاص ، قال في القاموس : الإجاص بالكسر مشددا : ثمر معروف ، دخيل لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة ، الواحدة بهاء . ولا [ ص: 245 ] تقل إنجاص ، أو لغية . ا هـ . والإجانة واحدة الأجاجين . قال في التصريح : وهي بفتح الهمزة وكسرها . قال صاحب الفصيح : قصرية يعجن فيها ويغسل فيها . ويقال : إنجانة كما يقال إنجاصة ، وهي لغة يمانية فيهما أنكرها الأكثرون . ا هـ . فهذان وجهان في توجيه قراءة ابن عامر وشعبة ، وعليهما فلفظة " المؤمنين " مفعول به لـ " ننجي " .

    ومن أجوبة العلماء عن قراءة ابن عامر وشعبة : أن " نجي " على قراءتهما فعل ماض مبني للمفعول ، والنائب عن الفاعل ضمير المصدر ، أي : نجى هو ، أي الإنجاء ، وعلى هذا الوجه فالآية كقراءة من قرأ ليجزى قوما الآية [ 45 \ 14 ] ببناء " يجزى " للمفعول ، والنائب ضمير المصدر ، أي : ليجزي هو ، أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعديا للمفعول ترد بقلة ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    وقابل من ظروف أو من مصدر أو حرف جر بنيابة حري
    ولا ينوب بعض هذا إن وجد في اللفظ مفعول به وقد يرد
    ومحل الشاهد منه قوله : " وقد يرد " وممن قال بجواز ذلك الأخفش والكوفيون وأبو عبيد . ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول جرير يهجو أم الفرزدق :


    ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
    69 يعني لسب هو ، أي : السب . وقول الراجز :


    لم يعن بالعلياء إلا سيدا ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى
    وأما إسكان ياء " نجي " على هذا القول فهو على لغة من يقول من العرب : رضي ، وبقي بإسكان الياء تخفيفا . ومنه قراءة الحسن وذروا ما بقي من الربا [ 2 \ 278 ] بإسكان ياء " بقي " ومن شواهد تلك اللغة قول الشاعر :


    خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا
    ليت شعري إذ القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا
    وأما الجواب عن قراءة الجمهور فالظاهر فيه أن الصحابة حذفوا النون في المصاحف ؛ لتمكن موافقة قراءة ابن عامر وشعبة للمصاحف لخفائها ، أما قراءة الجمهور فوجهها ظاهر ولا إشكال فيها ، فغاية الأمر أنهم حذفوا حرفا من الكلمة لمصلحة مع تواتر الرواية لفظا بذكر الحرف المحذوف ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون .

    [ ص: 246 ] قد قدمنا معاني " الأمة " في القرآن في سورة " هود " . والمراد بالأمة هنا : الشريعة والملة ، والمعنى : وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك ، على حسب ما شرعه لخلقه وأنا ربكم فاعبدون [ 21 \ 92 ] أي : وحدي ، والمعنى دينكم واحد وربكم واحد ، فلم تختلفون وتقطعوا أمرهم بينهم [ 21 \ 93 ] أي : تفرقوا في الدين وكانوا شيعا ؛ فمنهم يهودي ، ومنهم نصراني ، ومنهم عابد وثن إلى غير ذلك من الفرق المختلفة .

    ثم بين بقوله : كل إلينا راجعون أنهم جميعهم راجعون إليه يوم القيامة ، وسيجازيهم بما فعلوا . وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة وتقطعوا أمرهم بينهم المعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه ، فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب ؛ تمثيلا لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقا شتى . ا هـ .

    وظاهر الآية أن " تقطع " متعدية إلى المفعول ومفعولها " أمرهم " ومعنى تقطعوه أنهم جعلوه قطعا كما ذكرنا . وقال القرطبي : قال الأزهري : وتقطعوا أمرهم أي : تفرقوا في أمرهم ، فنصب " أمرهم " بحذف " في " ومن إطلاق الأمة بمعنى الشريعة والدين كما في هذه الآية : قوله تعالى عن الكفار : إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 23 ] أي : على شريعة وملة ودين . ومن ذلك قول نابغة ذبيان :


    حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
    ومعنى قوله : " وهل يأثمن ذو أمة . . إلخ " أن صاحب الدين لا يرتكب الإثم طائعا .

    وما ذكره - جل وعلا - في هاتين الآيتين الكريمتين : من أن الدين واحد ، والرب واحد فلا داعي للاختلاف . وأنهم مع ذلك اختلفوا أو صاروا فرقا أوضحه في سورة " قد أفلح المؤمنون " وزاد أن كل حزب من الأحزاب المختلفة فرحون بما عندهم . وذلك في قوله تعالى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 51 - 54 ] [ ص: 247 ] وقوله في هذه الآية : زبرا أي : قطعا كزبر الحديد والفضة أي : قطعها . وقوله كل حزب بما لديهم فرحون أي : كل فرقة من هؤلاء الفرق الضالين المختلفين المتقطعين دينهم قطعا فرحون بباطلهم ، مطمئنون إليه ، معتقدون أنه هو الحق .

    وقد بين - جل وعلا - في غير هذا الموضع : أن ما فرحوا به واطمأنوا إليه باطل ، كما قال تعالى في سورة " المؤمن " : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 83 - 84 ] وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن هذه " هذه " اسم " إن " وخبرها أمتكم . وقوله أمة واحدة حال كما هو ظاهر .
    قوله تعالى : لهم فيها زفير .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل النار لهم فيها زفير ، والعياذ بالله تعالى . وأظهر الأقوال في الزفير أنه كأول صوت الحمار ، وأن الشهيق كآخره وقد بين تعالى أن أهل النار لهم فيها زفير في غير هذا الموضع وزاد على ذلك الشهيق ، والخلود ، كقوله في " هود " : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها . [ الآية 106 ] .
    قوله تعالى : وهم فيها لا يسمعون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل النار لا يسمعون فيها ، وبين في غير هذا الموضع أنهم لا يتكلمون ، ولا يبصرون ، كقوله في " الإسراء " : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [ 17 \ 97 ] وقوله : ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 124 ] وقوله : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] مع أنه - جل وعلا - ذكر في آيات أخر ما يدل على أنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون ، كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] وقوله : ربنا أبصرنا وسمعنا الآية [ 32 \ 12 ] وقوله : ورأى المجرمون النار الآية [ 18 \ 53 ] . وقد بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في " طه " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    [ ص: 248 ] قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين سبقت لهم منه في علمه الحسنى وهي تأنيث الأحسن ، وهي الجنة أو السعادة - مبعدون يوم القيامة عن النار . وقد أشار إلى نحو ذلك في غير هذا الموضع كقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] وقوله : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ 55 \ 60 ] ونحو ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن عباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى وتتلقاهم الملائكة [ 21 ] أي : تستقبلهم بالبشارة ، وتقول لهم : هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي : توعدون فيه أنواع الكرامة والنعيم . قيل : تستقبلهم على أبواب الجنة بذلك . وقيل : عند الخروج من القبور كما تقدم .

    وما ذكره - جل وعلا - من استقبال الملائكة لهم بذلك بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في " فصلت " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 - 33 ] وقوله في " النحل " : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب .

    قوله : يوم نطوي السماء [ 21 \ 104 ] منصوب بقوله : لا يحزنهم الفزع [ 21 ] أو بقوله تتلقاهم . وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يطوي السماء كطي السجل الكتب . وصرح في " الزمر " بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ، وأن السماوات مطويات بيمينه ، وذلك في قوله : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] وما ذكره من كون السماوات مطويات بيمينه في هذه الآية جاء في الصحيح أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قدمنا مرارا أن الواجب في ذلك إمراره كما جاء ، والتصديق به مع اعتقاد أن صفة الخالق أعظم من أن تماثل صفة المخلوق .

    وأقوال العلماء في معنى قوله : [ ص: 249 ] كطي السجل للكتب راجعة إلى أمرين :

    الأول : أن السجل : الصحيفة ، والمراد بالكتب : ما كتب فيها ، واللام بمعنى على ، أي : كطي السجل على الكتب ، أي : كطي الصحيفة على ما كتب فيها ، وعلى هذا فطي السجل مصدر مضاف إلى مفعوله ؛ لأن السجل على هذا المعنى مفعول الطي .

    الثاني : أن السجل ملك من الملائكة ، وهو الذي يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه ، ويقال : إنه في السماء الثالثة ، ترفع إليه الحفظة الموكلون بالخلق أعمال بني آدم في كل خميس واثنين ، وكان من أعوانه ( فيما ذكروا ) هاروت وماروت ، وقيل : إنه لا يطوي الصحيفة حتى يموت صاحبها ، فيرفعها ويطويها إلى يوم القيامة ، وقول من قال : إن السجل صحابي كاتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر السقوط كما ترى .

    وقوله في هذه الآية الكريمة " للكتاب " قرأه عامة السبعة غير حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " للكتاب " بكسر الكاف وفتح التاء بعدها ألف بصيغة الإفراد . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " للكتب " بضم الكاف والتاء بصيغة الجمع . ومعنى القراءتين واحد ؛ لأن المراد بالكتاب على قراءة الإفراد جنس الكتاب ، فيشمل كل الكتب .
    قوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب فيشمل الكتب المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، وزبور داود ، وغير ذلك . وأن المراد بالذكر : أم الكتاب ، وعليه فالمعنى : ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب . وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه . وقيل : الزبور في الآية زبور داود ، والذكر : التوراة . وقيل غير ذلك . وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #310
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (309)

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    صـ 250 إلى صـ 256




    واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء ، وكلاهما حق ويشهد له قرآن فنذكر الجميع ؛ لأنه كله حق داخل في الآية ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة ؛ لأن المراد بالأرض في قوله هنا : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ 21 \ 105 ] فيه للعلماء وجهان :

    [ ص: 250 ] الأول : أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين . وهذا القول يدل له قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين [ 39 ] وقد قدمنا معنى إيراثهم الجنة مستوفى في سورة " مريم " .

    الثاني : أن المراد بالأرض أرض العدو ، يورثها الله المؤمنين في الدنيا ، ويدل لهذا قوله تعالى : وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 27 ] وقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها الآية [ 7 \ 137 ] وقوله تعالى : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [ 7 \ 128 ] وقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم الآية [ 24 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة في الزبور بفتح الزاي ومعناه الكتاب . وقرأ حمزة وحده ( في الزبور ) بضم الزاي . قال القرطبي : وعلى قراءة حمزة فهو جمع زبر . والظاهر أنه يريد الزبر - بالكسر - بمعنى الزبور أي : المكتوب . وعليه فمعنى قراءة حمزة : ولقد كتبنا في الكتب ، وهي تؤيد أن المراد بالزبور على قراءة الفتح جنس الكتب لا خصوص زبور داود كما بينا . وقرأ حمزة " يرثها عبادي " بإسكان الياء ، والباقون بفتحها .
    قوله تعالى : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين .

    الإشارة في قوله : هذا [ 21 \ 106 ] للقرآن العظيم الذي منه هذه السورة الكريمة . والبلاغ : الكفاية ، وما تبلغ به البغية . وما ذكره هنا من أن هذا القرآن فيه الكفاية للعابدين ، وما يبلغون به بغيتهم ، أي : من خير الدنيا والآخرة ذكره في غير هذا الموضع ، كقوله : هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] وخص القوم العابدين بذلك لأنهم هم المنتفعون به .
    قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل هذا النبي الكريم - صلوات الله [ ص: 251 ] وسلامه عليه - إلى الخلائق إلا رحمة لهم ؛ لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه . ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى . وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلا ، قال : لو فجر الله عينا للخلق غزيرة الماء ، سهلة التناول ، فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها ، فتتابعت عليهم النعم بذلك ، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل ، فضيعوا نصيبهم من تلك العين - فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله ، ونعمة للفريقين . ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها . ويوضح ذلك قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] وقيل : كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه ، وأمنوا به عذاب الاستئصال . والأول أظهر .

    وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم . وهذا المعنى جاء موضحا في مواضع من كتاب الله ، كقوله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] .

    وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " الكهف " في موضعين منها . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قيل : يا رسول الله ، ادع على المشركين . قال : " إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة " .
    قوله تعالى : فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء .

    قوله فإن تولوا [ 21 \ 109 ] أي : أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه فقل آذنتكم على سواء أي : أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي ، بريء منكم كما أنتم براء مني . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية أشارت إليه آيات أخر ، كقوله : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء [ 8 \ 58 ] أي : ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء . وقوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] وقوله : آذنتكم الأذان : الإعلام . ومنه الأذان للصلاة . وقوله تعالى : وأذان من الله الآية [ 9 \ 3 ] أي : إعلام منه ، قوله : فأذنوا بحرب من الله الآية [ 2 \ 279 ] أي : اعلموا . ومنه قول [ ص: 252 ] الحارث بن حلزة :


    آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
    يعني أعلمتنا ببينها .
    قوله تعالى : إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون .

    ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه علم ما يجهر به خلقه من القول ، ويعلم ما يكتمونه . وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] وقوله : والله يعلم ما تبدون وما تكتمون [ 24 \ 29 ] في الموضعين ، وقوله : قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون [ 2 \ 33 ] وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : قال رب احكم ‎بالحق .

    قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حفص عن عاصم قل رب بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر . وقرأه حفص وحده قال بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الماضي . وقراءة الجمهور تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يقول ذلك . وقراءة حفص تدل على أنه امتثل الأمر بالفعل . وما أمره أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب كما ذكره الله عنه في قوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ 7 \ 89 ] وقوله : افتح أي : احكم كما تقدم .
    قوله : وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون [ 21 \ 112 ] أي : تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد ، وغير ذلك . كما قال تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب الآية [ 16 \ 62 ] وقال : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب الآية [ 16 \ 116 ] . وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية قاله يعقوب لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف شيئا غير ما أخبروه به ، وذلك في قوله : قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] والمستعان : المطلوب منه العون . والعلم عند الله تعالى .

    [ ص: 253 ] وهذا آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب المبارك ، ويليه الجزء الخامس إن شاء الله ، وأوله سورة الحج ، وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْحَجِّ


    قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ النَّاسَ بِتَقْوَاهُ جَلَّ وَعَلَا ; بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، تَذْهَلُ بِسَبَبِهِ الْمَرَاضِعُ عَنْ أَوْلَادِهَا ، وَتَضَعُ بِسَبَبِهِ الْحَوَامِلُ أَحْمَالَهَا ، مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ ، وَأَنَّ النَّاسَ يُرَوْنَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَكِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ .

    وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ، وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [ 4 ] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا .

    وَمَا بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِ السَّاعَةِ ، وَعِظَمِ زَلْزَلَتِهَا ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [ 99 - 4 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [ 69 \ 14 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [ 56 \ 4 - 5 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [ 7 \ 187 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ هَوْلِ السَّاعَةِ .

    وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : اتَّقُوا رَبَّكُمْ [ 22 ] قَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى مَعْنَى التَّقْوَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا . وَالزَّلْزَلَةُ : شِدَّةُ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ ، وَمُضَاعَفَةُ زَلِيلِ الشَّيْءِ عَنْ مَقَرِّهِ وَمَرْكَزِهِ ؛ أَيْ تَكْرِيرُ انْحِرَافِهِ وَتَزَحْزُحِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ [ ص: 255 ] الْأَرْضَ إِذَا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً تَزَلْزَلَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا زَلْزَلَةً قَوِيَّةً .

    وَقَوْلُهُ : يَوْمَ تَرَوْنَهَا مَنْصُوبٌ بِـ ( تَذْهَلُ ) وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الزَّلْزَلَةِ . وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ زَلْزَلَةَ الْأَشْيَاءِ بِأَبْصَارِهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا مِنْ : رَأَى الْعِلْمِيَّةِ .

    وَقَوْلُهُ : تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ [ 22 كُلُّ مُرْضِعَةٍ أَيْ : كُلُّ أُنْثَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ : مُرْضِعَةٍ ، وَلَمْ يَقُلْ : مُرْضِعٍ : هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ ، مِنْ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْإِنَاثِ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْفِعْلُ لَحِقَهَا التَّاءُ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا النَّسَبُ جُرِّدَتْ مِنَ التَّاءِ ، فَإِنْ قُلْتَ : هِيَ مُرْضِعٌ ، تُرِيدُ أَنَّهَا ذَاتُ رَضَاعٍ ، جَرَّدْتَهُ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ :


    فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ فأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ

    وَإِنْ قُلْتَ : هِيَ مُرْضِعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَفْعَلُ الرَّضَاعَ ؛ أَيْ : تُلْقِمُ الْوَلَدَ الثَّدْيَ ، قُلْتَ : هِيَ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ :


    كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ


    كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ :


    وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يَخُصُّ عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ
    وَحَيْثُ مَعْنَى الْفِعْلِ يَعْنِي التَّاءَ زِدْ كَذِي غَدَتْ مُرْضِعَةً طِفْلًا وُلِدْ


    وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ الْكُوفِيِّينَ : مِنْ أَنَّ أُمَّ الصَّبِيِّ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ ، وَالْمُسْتَأْجَ رَةَ لِلْإِرْضَاعِ : مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ - بَاطِلٌ ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ :
    كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى
    - الْبَيْتَ ، فَقَدْ أَثْبَتَ التَّاءَ لِغَيْرِ الْأُمِّ ، وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَيْضًا : إِنَّ الْوَصْفَ الْمُخْتَصَّ بِالْأُنْثَى لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّاءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْوَصْفُ الْمُخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى فَرْقٍ ; لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الذَّكَرِ لَهَا فِيهِ - مَرْدُودٌ أَيْضًا ، قَالَهُ [ ص: 256 ] أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الْعَرَبِ : مُرْضِعَةٌ ، وَحَائِضَةٌ ، وَطَالِقَةٌ . وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا ، مِنْ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ جِيءَ بِالتَّاءِ ، وَإِنْ أُرِيدَ النِّسْبَةُ جُرِّدَ مِنَ التَّاءِ ، وَمِنْ مَجِيءِ التَّاءِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ الْأَعْشَى :


    أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ


    وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَإِنْ قُلْتَ : لِمَ قِيلَ : ( مُرْضِعَةٍ ) دُونَ ( مُرْضِعٍ ) ؟

    قُلْتُ : الْمُرْضِعَةُ الَّتِي هِيَ فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ . وَالْمُرْضِعُ : الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ ، فَقِيلَ : ( مُرْضِعَةٍ ) ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا : نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ ; لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : عَمَّا أَرْضَعَتْ الظَّاهِرُ أَنَّ " مَا " مَوْصُولَةٌ ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ ؛ أَيْ : أَرْضَعَتْهُ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :

    وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

    فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ

    وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ ؛ أَيْ : تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَنْ إِرْضَاعِهَا .

    قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ : وَيُقَوِّي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً تَعَدِّي " وَضَعَ " إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ : حَمْلَهَا لَا إِلَى الْمَصْدَرِ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #311
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (310)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 257 إلى صـ 263




    وَقَوْلُهُ : وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ؛ أَيْ : كُلُّ صَاحِبَةِ حَمْلٍ تَضَعُ جَنِينَهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ ، وَالْـ ( حَمْلُ ) بِالْفَتْحِ : مَا كَانَ فِي بَطْنٍ مِنْ جَنِينٍ ، أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ مِنْ ثَمَرٍ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ ؛ أَيْ : يُشَبِّهُهُمْ مَنْ رَآهُمْ بِالسُّكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَالْخَوْفُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي صَيَّرَ مَنْ رَآهُمْ يُشَبِّهُهُمْ بِالسُّكَارَى ، لِذَهَابِ عُقُولِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، كَمَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّكْرَانِ مِنَ الشَّرَابِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : ( وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى ( بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ سُكَارَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَيْضًا ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ سَكْرَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ . وَقِيلَ : إِنَّ سَكْرَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ جَمَعُ سَكِرٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بِمَعْنَى : [ ص: 257 ] السَّكْرَانِ ، كَمَا يُجْمَعُ الزَّمِنُ عَلَى الزَّمْنَى ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ . وَقِيلَ : إِنَّ سَكْرَى مُفْرَدٌ ، وَهُوَ غَيْرُ صَوَابٍ .

    وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ يُسَمَّى شَيْئًا ; لِأَنَّهُ وَصَفَ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ بِأَنَّهَا شَيْءٌ فِي حَالِ عَدَمِهَا قَبْلَ وُجُودِهَا . قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ رَدِّهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .
    مسألة

    اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا ، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة ، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور ؟

    فقالت جماعة من أهل العلم : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة ، وممن قال بهذا القول : علقمة ، والشعبي ، وإبراهيم ، وعبيد بن عمير ، وابن جريج . وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر ، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل ، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه . وهو القول الآخر .

    وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع جاء بذلك ، إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به .

    قال ابن جرير الطبري في تفسيره مبينا دليل من قال : إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور ، فأعطي إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص ببصره إلى السماء ، ينظر متى يؤمر " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : " قرن " ، قال : وكيف هو ؟ قال : " قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات ، الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين " يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى : انفخ نفخة الفزع ، فتفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ، ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر ، وهي التي يقول الله : وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق [ 38 \ 15 ] فيسير الله الجبال فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة [ 79 \ 6 [ ص: 258 ] - 8 ] فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر ، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها ، أو كالقنديل المعلق بالعرش ، ترججه الأرواح ، فتميد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة ، فتضرب وجوهها ، ويولي الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله : يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد [ 40 - 33 ] فبينما هم على ذلك ، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرا عظيما ، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء ، فإذا هي كالمهل ، ثم خسفت شمسها ، وخسف قمرها ، وانتثرت نجومها ، ثم كشطت عنهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    " والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك " فقال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول : ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ 27 \ 87 ] قال : " أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم ، وأمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول : ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله : ولكن عذاب الله شديد [ 22 ] " . انتهى منه . ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور كما ترى . وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور ، قال ما نصه : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر ، وذلك ما حدثنا أبو كريب . . . إلى آخر الإسناد ، كما سقناه عنه آنفا .

    وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور ، من رواية إسماعيل بن رافع ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ساق الحديث نحو ما ذكرناه بطوله ، ثم قال : هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغير واحد مطولا جدا .

    والغرض منه : أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم القيامة أضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال : أشراط الساعة ، ونحو ذلك ، والله أعلم . انتهى منه . وقد علمت ضعف الإسناد المذكور .

    وأما حجة أهل القول الآخر القائلين بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور ، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك . وبذلك تعلم [ ص: 259 ] أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى .

    قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله : وترى الناس سكارى : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم . فيقول : لبيك ربنا وسعديك . فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد . فشق ذلك على الناس ، حتى تغيرت وجوههم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد ، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة . فكبرنا ، ثم قال : ثلث أهل الجنة . فكبرنا ، ثم قال : شطر أهل الجنة . فكبرنا " .

    وقال أبو أسامة ، عن الأعمش : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى [ 22 سكارى وما هم بسكارى . انتهى من صحيح البخاري .

    وفيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى : هو يوم القيامة لا آخر الدنيا .

    وقال البخاري في صحيحه أيضا في كتاب : الرقاق في باب : إن زلزلة الساعة شيء عظيم : حدثني يوسف بن موسى ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : " يقول الله : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك . قال : يقول : أخرج بعث النار . قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فذلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ; ولكن عذاب الله شديد . فاشتد ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله ، أينا ذلك الرجل ؟ قال : " أبشروا ، فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ، ومنكم رجل ، ثم قال : والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فحمدنا الله وكبرنا . ثم قال : والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة ، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالرقمة في ذراع الحمار " . انتهى منه . ودلالته على المقصود ظاهرة .

    [ ص: 260 ] وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب بدء الخلق ، في أحاديث الأنبياء ، في باب قول الله تعالى : ويسألونك عن ذي القرنين إلى قوله : سببا [ 18 \ 83 - 84 ] حدثنا إسحاق بن نصر ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك . فيقول : أخرج بعث النار . قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين . فعنده يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ; ولكن عذاب الله شديد " إلى آخر الحديث نحو ما تقدم .

    وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : في آخر كتاب الإيمان - بكسر الهمزة - في باب بيان كون هذه الأمة نصف أهل الجنة : حدثنا عثمان بن أبي شيبة العبسي ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، قال : يقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فذلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " إلى آخر الحديث نحو ما تقدم .

    فحديث أبي سعيد هذا الذي اتفق عليه الشيخان كما رأيت فيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، بعد القيام من القبور كما ترى ، وذلك نص صحيح صريح في محل النزاع .

    فإن قيل : هذا النص فيه إشكال ، لأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث حتى تضع حملها من الفزع ، ولا ترضع حتى تذهل عما أرضعت .

    فالجواب عن ذلك من وجهين :

    الأول : هو ما ذكره بعض أهل العلم ، من أن من ماتت حاملا تبعث حاملا ، فتضع حملها من شدة الهول والفزع ، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ، ولكن هذا يحتاج إلى دليل .

    الوجه الثاني : أن ذلك كناية عن شدة الهول ; كقوله تعالى : يوما يجعل الولدان شيبا [ 73 \ 17 ] ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة .

    [ ص: 261 ] تنبيه

    اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال ، وهو أن يقال : إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور ، فما معناها ؟

    والجواب : أن معناها : شدة الخوف والهول والفزع ; لأن ذلك يسمى زلزالا ، بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] ؛ أي : وهو زلزال فزع وخوف ، لا زلزال حركة الأرض ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول بالعمل الصالح في دار الدنيا قبل تعذر الإمكان ; لما قدمنا مرارا من أن إن المشددة المكسورة تدل على التعليل ، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، ومسلك النص الظاهر ؛ أي : اتقوا الله ; لأن أمامكم أهوالا عظيمة ، لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا .
    قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من الناس بعضا يجادل في الله بغير علم ؛ أي : يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله ، كالذي يدعي له الأولاد والشركاء ، ويقول : إن القرآن أساطير الأولين ، ويقول : لا يمكن أن يحيي الله العظام الرميم ، كالنضر بن الحارث ، والعاص بن وائل ، وأبي جهل بن هشام ، وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند ، من علم عقلي ، ولا نقلي ، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد ؛ أي : عات طاغ من شياطين الإنس والجن كتب عليه [ 22 \ 3 ] ؛ أي : كتب الله عليه كتابة قدر وقضاء أنه من تولاه [ 22 \ 3 ] ؛ أي : كل من صار وليا له ؛ أي : للشيطان المريد المذكور ، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار ، وعن طريق الإيمان إلى الكفر ، ويهديه إلى عذاب السعير ؛ أي : النار الشديدة الوقود .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في [ ص: 262 ] الله بغير علم ؛ أي : يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع ; كقوله في هذه السورة الكريمة : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله [ 22 \ 8 - 9 ] الآية ، وقوله تعالى في لقمان : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 20 - 21 ] فقوله في آية لقمان هذه : أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير كقوله في الحج : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] وهذه الآية الكريمة التي هي قوله : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم [ 22 \ 3 ] الآية ، يدخل فيما تضمنته من الوعيد والذم : أهل البدع والضلال ، المعرضين عن الحق ، المتبعين للباطل ، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء ، بقدر ما فعلوا من ذلك ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

    ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم ، قوله تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 77 - 78 ] ، وقوله في أول النحل : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] .

    وقوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 42 \ 16 ] ، وقوله تعالى : أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ 43 \ 58 ] ، وقوله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 6 \ 25 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [ 35 \ 6 ] ، وقوله تعالى : أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] ، وقوله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم : ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا [ 19 \ 45 ] ، وقوله [ ص: 263 ] تعالى : ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر [ 24 \ 21 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم مخالفتها : أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير ، كهذا القرآن العظيم ; ليحق الحق ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة - أن ذلك سائغ محمود ; لأن مفهوم قوله : بغير علم [ 22 \ 3 ] أنه إن كان بعلم فالأمر بخلاف ذلك ، وليس في ذلك اتباع للشيطان ، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ، وقوله تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .

    وقال الفخر الرازي في تفسيره : هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة ; لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة ، فالمجادلة الباطلة : هي المراد من قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا [ 43 \ 58 ] والمجادلة الحقة هي المراد من قوله : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ا هـ منه .

    وقوله تعالى في هذه الآية : عذاب السعير [ 22 \ 4 ] يعني عذاب النار ، فالسعير النار ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها . والظاهر أن أصل السعير فعيل ، بمعنى مفعول ، من قول العرب : سعر النار يسعرها ، كمنع يمنع : إذا أوقدها ، وكذلك سعرها بالتضعيف ، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله : وإذا الجحيم سعرت [ 81 \ 12 ] فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وعاصم في رواية حفص : سعرت بتشديد العين ، وقرأه الباقون بتخفيف العين ، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع وابن ذكوان وحفص ، قول بعض شعراء الحماسة :


    قالت له عرسه يوما لتسمعني مهلا فإن لنا في أمنا أربا ولو رأتني في نار مسعرة
    ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا


    إذ لا يخفى أن قوله : مسعرة : اسم مفعول سعرت بالتضعيف ، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير : فعيل بمعنى اسم المفعول ؛ أي : النار المسعرة ؛ أي : الموقدة إيقادا شديدا ; لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذا بالله منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .

    وفي ذلك لغة ثالثة ، إلا أنها ليست في القرآن ، وهي أسعر النار . بصيغة أفعل ، بمعنى : أوقدها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #312
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (311)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 264 إلى صـ 270





    [ ص: 264 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] يدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير ، يستعمل أيضا في الدلالة على الشر ، لأنه قال : ويهديه إلى عذاب السعير ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده .

    وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك ، بأن فيه استعارة عنادية ، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية معروف ، كما أشرنا إليه سابقا ، وقوله تعالى : كل شيطان مريد [ 22 \ 3 ] قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر ، والمريد والمارد في اللغة العربية : العاتي ، تقول : مرد الرجل - بالضم - يمرد ، فهو مارد ومريد : إذا كان عاتيا . والظاهر أن الشيطان في هذه الآية ، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير ويضل عن الهدى ، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا .

    هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها ، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث ، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، كما قال تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وكقوله تعالى عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وقوله : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ونحو ذلك من الآيات ، كما قدمنا الإشارة إليه قريبا .

    ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيامة للحساب ، والجزاء فقال جل وعلا : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] فمن أوجدكم الإيجاد الأول ، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم ، وخلقكم مرة ثانية ، بعد أن بليت عظامكم ، [ ص: 265 ] واختلطت بالتراب ; لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل ، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث - الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى - المذكور هنا ، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، وقوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، وقوله تعالى : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] ، وقوله : ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 40 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة ، وسورة النحل وغيرهما ، ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه [ 36 \ 78 ] ، إذ لو تذكر الإيجاد الأول على الحقيقة ، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني ، وكقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] إذ لو تذكر ذلك تذكرا حقيقيا لما أنكر الخلق الثاني ، وقوله في هذه الآية الكريمة : إن كنتم في ريب من البعث [ 22 \ 5 ] ؛ أي في شك من أن الله يبعث الأموات ، فالريب في القرآن يراد به الشك ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإنا خلقناكم من تراب قد قدمنا في سورة طه : أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب ، أنه خلق أباهم آدم منها ، ثم خلق منه زوجه ، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] فلما كان أصلهم الأول من تراب ، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب ; لأن الفروع تبع للأصل .

    وقد بينا في طه أيضا أن قول من زعم أن معنى خلقه إياهم من تراب : أنه خلقهم من النطف ، والنطف من الأغذية ، والأغذية راجعة إلى التراب - غير صحيح ، وقد بينا هناك الآيات الدالة على بطلان هذا القول .

    وقد ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان ، فبين أن ابتداء خلقه من [ ص: 266 ] تراب كما أوضحنا آنفا ، فالتراب هو الطور الأول .

    والطور الثاني هو النطفة ، والنطفة في اللغة : الماء القليل ، ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب :


    وما عليك إذا أخبرتني دنفا وغاب بعلك يوما أن تعوديني

    وتجعلي نطفة في القعب باردة
    وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني


    فقوله : وتجعلي نطفة ؛ أي : ماء قليلا في القعب ، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة : نطفة المني ، وقد قدمنا في سورة النحل : أن النطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة ، خلافا لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده .

    الطور الثالث : العلقة ، وهي القطعة من العلق ، وهو الدم الجامد ، فقوله : ثم من علقة [ 22 \ 5 ] ؛ أي قطعة دم جامدة ، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير :


    إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجهض من أرحامها العلق


    الطور الرابع : المضغة : وهي القطعة الصغيرة من اللحم ، على قدر ما يمضغه الآكل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : مخلقة وغير مخلقة في معناه أوجه معروفة عند العلماء ، سنذكرها هنا إن شاء الله ، ونبين ما يقتضي الدليل رجحانه .

    منها أن قوله : مخلقة وغير مخلقة صفة للنطفة ، وأن المخلقة هي ما كان خلقا سويا ، وغير المخلقة هي ما دفعته الأرحام من النطف ، وألقته قبل أن يكون خلقا ، وممن روي عنه هذا القول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، نقله عنه ابن جرير وغيره ، ولا يخفى بعد هذا القول ; لأن المخلقة وغير المخلقة من صفة المضغة ، كما هو ظاهر .

    ومنها : أن معنى ( مخلقة ) تامة ، و ( غير مخلقة ) أي : غير تامة ، والمراد بهذا القول عند قائله : أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة ، منها ما هو كامل الخلقة ، سالم من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم ، وصورهم ، وطولهم ، وقصرهم ، وتمامهم ، ونقصانهم .

    وممن روي عنه هذا القول : قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره ، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك . ومنها : أن معنى مخلقة مصورة إنسانا ، وغير مخلقة ؛ أي : غير مصورة إنسانا كالسقط الذي هو مضغة ، ولم يجعل له تخطيط وتشكيل ، وممن نقل عنه هذا القول : مجاهد ، والشعبي ، وأبو العالية ، كما نقله

    [ ص: 267 ] عنهم ابن جرير الطبري .

    ومنها : أن المخلقة : هي ما ولد حيا ، وغير المخلقة : هي ما كان من سقط .

    وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس رضي الله عنهما . وقال صاحب الدر المنثور : إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي ، وأنشد لذلك قول الشاعر :


    أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء


    وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : المخلقة : المصورة خلقا تاما . وغير المخلقة : السقط قبل تمام خلقه ; لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة ، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير . وذلك هو المراد بقوله : مخلقة وغير مخلقة [ 22 \ 5 ] خلقا سويا ، وغير مخلقة : بأن تلقيه الأم مضغة بلا تصوير ، ولا ينفخ الروح . انتهى منه .

    وهذا القول الذي اختاره ابن جرير ، اختاره أيضا غير واحد من أهل العلم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى ، لا يظهر صوابه ، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك ، وهي قوله جل وعلا في أول الآية : فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى : ثم خلقناكم من مضغة مخلقة ، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة . وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة ، فيه من التناقض كما ترى ; فافهم .

    فإن قيل : في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة : السقط ; لأن قوله : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [ 22 \ 5 ] يفهم منه أن هناك قسما آخر لا يقره الله في الأرحام ، إلى ذلك الأجل المسمى ، وهو السقط .

    فالجواب : أنه لا يتعين فهم السقط من الآية ; لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى ، فقد يقره ستة أشهر ، وقد يقره تسعة ، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء .

    أما السقط : فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله : فإنا خلقناكم ; لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتا ، ولو بعد التشكيل والتخطيط ، لم يخلق الله منه إنسانا واحدا من المخاطبين بقوله : فإنا خلقناكم من تراب الآية . فظاهر القرآن يقتضي أن كلا من [ ص: 268 ] المخلقة وغير المخلقة : يخلق منه بعض المخاطبين في قوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية .

    وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية هو القول الذي لا تناقض فيه ; لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضا ، لا ليتناقض بعضه مع بعض ، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك ، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ، ولم يحك غيره .

    وهو أن المخلقة هي التامة ، وغير المخلقة هي غير التامة .

    قال الزمخشري في الكشاف : والمخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب ، يقال : خلق السواك والعود : إذا سواه وملسه . من قولهم : صخرة خلقاء : إذا كانت ملساء ، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة ; منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم . انتهى منه .

    وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب ، تقول العرب : حجر أخلق ؛ أي : أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء ، وصخرة خلقاء بينة الخلق ؛ أي : ليس فيها وصم ، ولا كسر ، ومنه قول الأعشى :


    قد يترك الدهر في خلقاء راسية وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا


    و " الدهر " في البيت فاعل " يترك " والمفعول به : وهيا . يعني : أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم ، فيكسرها ويوهيها ، ويؤثر في العصم من الأوعال برءوس الجبال ، فينزلها من معاقلها ، ومن ذلك أيضا قول ابن أحمر يصف فرسا ، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور :


    بمقلص درك الطريدة متنه كصفا الخليقة بالفضاء الملبد


    فقوله : كصفا الخليقة ، يعني : أن متن الفرس المذكور كالصخرة الملساء التي لا كسر فيها ولا وصم ، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته . والسهم المخلق : هو الأملس المستوي .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا القول هو أولى الأقوال بالصواب - فيما يظهر لي - لجريانه على اللغة التي نزل بها القرآن ، وسلامته من التناقض ، والله جل وعلا أعلم .

    [ ص: 269 ] وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : لنبين لكم ؛ أي : لنبين لكم بهذا النقل من طور إلى طور ، كمال قدرتنا على البعث بعد الموت ، وعلى كل شيء ، لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا ، ثم من نطفة ثانيا ، مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة ، وقدر على أن يجعل النطفة علقة ، مع ما بينهما من التباين والتغاير ، وقدر على أن يجعل العلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق ، كما هو واضح .

    وقوله : لنبين الظاهر أنه متعلق بـ " خلقناكم " في قوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ؛ أي : خلقناكم خلقا من بعد خلق على التدريج المذكور لنبين لكم قدرتنا على البعث وغيره .

    وقال الزمخشري مبينا نكتة حذف مفعول " لنبين لكم " ما نصه : وورود الفعل غير معدى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ، ولا يحيط به الوصف . انتهى منه .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [ 22 \ 5 ] ؛ أي : نقر في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره فيها من الأحمال والأجنة إلى أجل مسمى ؛ أي : معلوم معين في علمنا ، وهو الوقت الذي قدره الله لوضع الجنين ، والأجنة تختلف في ذلك حسبما يشاؤه الله جل وعلا ، فتارة تضعه أمه لستة أشهر ، وتارة لتسعة ، وتارة لأكثر من ذلك . وما لم يشأ الله إقراره من الحمل مجته الأرحام وأسقطته ، ووجه رفع " ونقر " أن المعنى : ونحن نقر في الأرحام ، ولم يعطف على قوله : لنبين لكم لأنه ليس علة لما قبله ، فليس المراد : خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، لنقر في الأرحام ما نشاء ، وبذلك يظهر لك رفعه ، وعدم نصبه ، وقراءة من قرأ : ونقر بالنصب عطفا على : لنبين ، على المعنى الذي نفيناه على قراءة الرفع ، ويؤيد معنى قراءة النصب قوله بعده ثم لتبلغوا أشدكم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم نخرجكم طفلا ؛ أي : وذلك بعد أن يخلق الله المضغة عظاما ، ثم يكسو العظام لحما ، ثم ينشئ ذلك الجنين خلقا آخر ، فيخرجه من بطن أمه في الوقت المعين لوضعه في حال كونه طفلا ؛ أي : ولدا بشرا سويا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم لتبلغوا أشدكم ؛ أي : لتبلغوا كمال قوتكم وعقلكم وتمييزكم بعد إخراجكم من بطون أمهاتكم في غاية الضعف وعدم علم شيء .

    [ ص: 270 ] وقد قدمنا أقوال العلماء في المراد بالأشد ، وهل هو جمع أو مفرد مع بعض الشواهد العربية في سورة الأنعام ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقوله تعالى في هذه الآية : ومنكم من يتوفى [ 22 \ 5 ] ؛ أي : ومنكم أيها الناس من يتوفى من قبل ؛ أي : من قبل بلوغه أشده ، ومنكم من ينسأ له في أجله ، فيعمر حتى يهرم فيرد من بعد شبابه وبلوغه غاية أشده إلى أرذل العمر ، وهو الهرم ، حتى يعود كهيئته في حال صباه من الضعف ، وعدم العلم .

    وقد أوضحنا كلام العلماء في أرذل العمر ومعنى : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا في سورة النحل ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من الاستدلال على كمال قدرته على بعث الناس بعد الموت وعلى كل شيء ، بنقله الإنسان من طور إلى طور ، من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة إلى آخر الأطوار المذكورة ، ذكره جل وعلا في مواضع من كتابه مبينا أنه من البراهين القطعية على قدرته ، على البعث وغيره .

    فمن الآيات التي ذكر فيها ذلك من غير تفصيل لتلك الأطوار قوله تعالى : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ، وقوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا [ 71 \ 13 - 14 ] ؛ أي : طورا بعد طور كما بينا . وقوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] ، وقوله في آية الزمر هذه في ظلمات ثلاث ؛ أي : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة . فقد ركب تعالى عظام الإنسان بعضها ببعض ، وكساها اللحم ، وجعل فيها العروق والعصب ، وفتح مجاري البول والغائط ، وفتح العيون والآذان والأفواه وفرق الأصابع وشد رءوسها بالأظفار إلى غير ذلك من غرائب صنعه وعجائبه ، وكل هذا في تلك الظلمات الثلاث ، لم يحتج إلى شق بطن أمه وإزالة تلك الظلمات .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #313
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (312)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 271 إلى صـ 277




    سبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم ، ولأجل هذه الغرائب والعجائب من صنعه تعالى قال بعد التنبيه عليها ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] ومن [ ص: 271 ] الآيات التي أوضح فيها تلك الأطوار على التفصيل قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 12 - 16 ] وقد ذكر تعالى تلك الأطوار مع حذف بعضها في قوله في سورة المؤمن : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 67 ] ، وقوله تعالى في الكهف : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا [ 37 \ ] ، وقوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقوله : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] ، وقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، وقوله تعالى : خلق الإنسان من علق [ 96 \ 2 ] ، وقوله تعالى : منها خلقناكم [ 20 \ 55 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد بينت السنة الصحيحة القدر الذي تمكثه النطفة قبل أن تصير علقة ، والقدر الذي تمكثه العلقة قبل أن تصير مضغة ، والقدر الذي تمكثه المضغة مضغة .

    قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ووكيع ( ح ) ، وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني واللفظ له ، حدثنا أبي وأبو معاوية ، ووكيع قالوا : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله ، وشقي أو سعيد " ، الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن الجنين يمكث أربعين يوما نطفة ، ثم يصير علقة ، ويمكث كذلك أربعين يوما ، ثم يصير مضغة ، ويمكث كذلك أربعين يوما ، ثم ينفخ فيه الروح ، فنفخ الروح إذا في أول الشهر الخامس من أشهر الحمل .

    وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا شعبة ، أنبأني سليمان الأعمش ، قال : سمعت زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما [ ص: 272 ] ثم علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع : برزقه وأجله وشقي أو سعيد " الحديث ، وهذه الرواية في البخاري ينقص منها ذكر العمل ، وهو مذكور في روايات أخر صحيحة معروفة . وقد قدمنا وجه الدلالة المقصودة من الحديث المذكور ، والله أعلم .

    وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه الإفراد في قوله : يخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] مع أن المعنى نخرجكم أطفالا . وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة .

    منها ما ذكره ابن جرير الطبري قال : ووحد الطفل وهو صفة للجمع ، لأنه مصدر مثل عدل وزور ، وتبعه غيره في ذلك .

    ومنها قول من قال : نخرجكم طفلا ؛ أي : نخرج كل واحد منكم طفلا ، ولا يخفى عدم اتجاه هذين الجوابين . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، هو أن من أساليبها أن المفرد إذا كان اسم جنس يكثر إطلاقه مرادا به الجمع مع تنكيره - كما في هذه الآية - وتعريفه بالألف واللام وبالإضافة ; فمن أمثلته في القرآن مع التنكير قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ؛ أي : وأنهار ، بدليل قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وقوله : واجعلنا للمتقين إماما الآية [ 25 \ 74 ] ؛ أي : أئمة ، وقوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الآية [ 4 \ 4 ] ؛ أي : أنفسا ، وقوله تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون [ 23 \ 67 ] ؛ أي : سامرين ، وقوله تعالى : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] ؛ أي : بينهم ، وقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا [ 4 \ 69 ] ؛ أي : رفقاء ، وقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ؛ أي : جنبين أو أجنابا ، وقوله تعالى : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] ؛ أي : مظاهرون ، ومن أمثلة ذلك مع التنكير في كلام العرب قول عقيل بن علفة المري :


    وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا


    يعني : شر أعمام .

    وقول قعنب ابن أم صاحب :


    ما بال قوم صديق ثم ليس لهم دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا


    [ ص: 273 ] يعني : ما بال قوم أصدقاء .

    وقول جرير :


    نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء وهن صديق


    يعني : صديقات .

    وقول الآخر :


    لعمري لئن كنتم على النأي والنوى بكم مثل ما بي إنكم لصديق


    وقول الآخر :


    يا عاذلاتي لا تزدن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير


    ؛ أي : لسن بأمراء .

    ومن أمثلته في القرآن واللفظ مضاف ، قوله تعالى : أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم [ 24 \ 61 ] ؛ أي : أصدقائكم . وقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ 24 \ 63 ] ؛ أي : أوامره . وقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ 14 \ 34 ] أي : نعم الله . وقوله : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] ؛ أي : أضيافي . ونظير ذلك من كلام العرب قول علقمة بن عبدة التميمي :


    بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب


    ؛ أي : وأما جلودها فصليبة .

    وقول الآخر :


    كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص


    ؛ أي : بطونكم . وهذا البيت والذي قبله أنشدهما سيبويه في كتابه مستشهدا بهما لما ذكرنا .

    ومن أمثلة ذلك قول العباس بن مرداس السلمي :


    فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور


    ؛ أي : إنا إخوانكم .

    وقول جرير :


    إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب


    ؛ أي : إذا آباؤنا وآباؤك عدوا ، وهذا البيت والذي قبله يحتمل أن يراد بهما جمع التصحيح للأب وللأخ ، فيكون الأصل : أبون وأخون ، فحذفت النون للإضافة ، فصار كلفظ المفرد .

    [ ص: 274 ] ومن أمثلة جمع التصحيح في جمع الأخ : بيت عقيل بن علفة المذكور آنفا ، حيث قال فيه : كشر بني الأخينا . ومن أمثلة تصحيح جمع الأب : قول الآخر :


    فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا


    ومن أمثلة ذلك في القرآن - واللفظ معرف بالألف واللام - قوله تعالى : وتؤمنون بالكتاب كله [ 3 \ 119 ] ؛ أي : بالكتب كلها ، بدليل قوله : كل آمن بالله وملائكته وكتبه الآية [ 2 \ 285 ] ، وقوله : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] ، وقوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا [ 25 \ 75 ] ؛ أي : الغرف ، بدليل قوله : لهم غرف من فوقها غرف مبنية [ 39 \ 20 ] ، وقوله : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا [ 89 \ 22 ] ؛ أي : الملائكة ، بدليل قوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة [ 2 \ 210 ] ، وقوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ؛ أي : الأدبار ، بدليل قوله تعالى : فلا تولوهم الأدبار [ 8 \ 15 ] ، وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء [ 24 \ 31 ] ؛ أي : الأطفال ، وقوله تعالى : هم العدو فاحذرهم [ 63 \ 4 ] ؛ أي : الأعداء ، ونحو هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وهو في النعت بالمصدر مطرد ، كما تقدم مرارا .

    ومن أمثلة ذلك قول زهير :


    متى يشتجر قوم تقل سراواتهم هم بيننا هم رضا وهم عدل


    ؛ أي : عدول مرضيون .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

    المسألة الأولى : إذا مجت الرحم النطفة في طورها الأول قبل أن تكون علقة ، فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء .
    المسألة الثانية : إذا سقطت النطفة في طورها الثاني ، أعني في حال كونها علقة ؛ أي : قطعة جامدة من الدم ، فلا خلاف بين العلماء في أن تلك العلقة لا يصلى عليها ، ولا تغسل ، ولا تكفن ، ولا تورث .

    ولكن اختلف في أحكام أخر متعددة من أحكامها .

    [ ص: 275 ] منها : ما إذا كان سقوطها بسبب ضرب إنسان بطن المرأة التي ألقتها ، هل تجب فيها غرة أو لا ؟

    فذهب مالك رحمه الله إلى أن من ضرب بطن حامل ، فألقت حملها علقة فهو ضامن دية العلقة ضمان الجنين ، فتلزمه غرة ، أو عشر دية الأم .

    وفي المدونة : ما علم أنه حمل ، وإن كان مضغة أو علقة أو مصورا .

    وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الجنين لا ضمان فيه حتى تظهر فيه صورة الآدمي ، وممن قال به الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد رحمهم الله . وظهور بعض الصورة كظهور كلها في الأظهر ، واحتجوا بأنه لا يتحقق أنه حمل حتى يصور ، والمالكية قالوا : الحمل تمكن معرفته في حال العلقة فما بعدها ، فاختلافهم هذا من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط .

    ومنها : ما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق أو وفاة ، وكانت حاملا ، فألقت حملها علقة ، هل تنقضي بذلك عدتها أو لا ؟

    فمذهب مالك رحمه الله : أنها تنقضي عدتها بإسقاط العلقة المذكورة . واحتج المالكية : بأن العلقة المذكورة يصدق عليها أنها حمل ، فتدخل في عموم قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] وقال ابن العربي المالكي : لا يرتبط بالجنين شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا - يعني مصورا - وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة وغيرهم : إلى أن وضع العلقة لا تنقضي به العدة ، قالوا : لأنها دم جامد ، ولا يتحقق كونه جنينا .

    ومنها : ما إذا ألقت العلقة المذكورة أمة هي سرية لسيدها ، هل تكون أم ولد بوضع تلك العلقة أو لا ؟

    فذهب مالك رحمه الله وأصحابه : إلى أنها تصير أم ولد بوضع تلك العلقة ; لأن العلقة مبدأ جنين ، ولأن النطفة لما صارت علقة صدق عليها أنها خلقت علقة ، بعد أن كانت نطفة ، فدخلت في قوله تعالى : خلقا من بعد خلق [ 39 \ 6 ] فيصدق عليها أنها وضعت جنينا من سيدها ، فتكون به أم ولد ، وهذا رواية عن أحمد ، وبه قال إبراهيم النخعي .

    وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة : إلى أنها لا تكون أم ولد بوضعها العلقة المذكورة . وقد قدمنا توجيههم لذلك .
    [ ص: 276 ] المسألة الثالثة : إذا أسقطت المرأة النطفة في طورها الثالث - أعني كونها مضغة ؛ أي قطعة من لحم - فلذلك أربع حالات :

    الأولى : أن يكون ظهر في تلك المضغة شيء من صورة الإنسان ، كاليد والرجل والرأس ونحو ذلك ، فهذا تنقضي به العدة ، وتلزم فيه الغرة ، وتصير به أم ولد ، وهذا لا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم .

    الحالة الثانية : أن تكون المضغة المذكورة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان ، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنهن اطلعن فيها على تخطيط وتصوير خفي ، والأظهر في هذه الحالة : أن حكمها كحكم التي قبلها ; لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أن تلك المضغة جنين لما اطلعوا عليه فيها من الصورة الخفية .

    الحالة الثالثة : هي أن تكون تلك المضغة المذكورة ليس فيها تخطيط ولا تصوير ظاهر ولا خفي ، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنها مبدأ خلق آدمي .

    وهذه الصورة فيها للعلماء خلاف ; فقال بعض أهل العلم : لا تنقضي عدتها بها ، ولا تصير أم ولد ، ولا يجب على الضارب المسقط لها الغرة .

    قال ابن قدامة في المغني : وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي ، وظاهر ما نقله الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله ، وظاهر كلام الحسن والشعبي ، وسائر من اشترط أن يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ; لأنه لم يتبين فيه شيء من خلق الآدمي ، فأشبه النطفة والعلقة .

    وقال بعض أهل العلم : تنقضي عدتها بوضع المضغة المذكورة ، وتصير به أم ولد ، وتجب فيها الغرة ، وهو رواية عن الإمام أحمد .

    وقال بعض أهل العلم : لا تنقضي بها العدة ، وتصير به أم ولد .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات ، بأن تلك المضغة مبدأ جنين ، وأنها لو بقيت لتخلقت إنسانا - أنها تنقضي بها العدة ، وتصير بها الأمة أم ولد ، وتجب بها الغرة على الجاني . والله تعالى أعلم .

    الحالة الرابعة : أن تكون تلك المضغة ليس فيها تصوير ظاهر ولا خفي ، ولم تشهد القوابل بأنها مبدأ إنسان ، فحكم هذه كحكم العلقة : وقد قدمناه قريبا مستوفى .
    المسألة الرابعة : إذا أسقطت المرأة جنينها ميتا بعد أن كملت فيه صورة الآدمي ، فلا [ ص: 277 ] خلاف بين أهل العلم في انقضاء العدة بوضعه ، وكونها أم ولد ، ووجوب الغرة فيه ، ولكن العلماء اختلفوا في الصلاة عليه ، وغسله وتكفينه . فذهب مالك رحمه الله : إلى أنه لا يصلى عليه ، ولا يغسل ، ولا يحنط ، ولا يسمى ، ولا يورث ، ولا يرث حتى يستهل صارخا ، ولا عبرة بعطاسه ، ورضاعه وبوله ، فلو عطس أو رضع أو بال لم يكن ذلك موجبا للصلاة عليه في قول مالك ، وعليه جمهور أصحابه . وقال المازري : رضاعه تتحقق به حياته فتجب به الصلاة عليه ، وغيرها من الأحكام .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن الصواب في هذه المسألة أنه إن علمت حياته ، ولو بسبب آخر غير أن يستهل صارخا ، فإنه يصلى عليه . وقد علمت أن مشهور مذهب الإمام مالك أن المدار على أن يستهل صارخا ، فإن لم يستهل صارخا غسل دمه ، ولف بخرقة ، وووري ، ومذهب الشافعي : أنه إن استهل صارخا أو تحرك حركة تدل على الحياة ثم مات صلي عليه ، وورث وإن لم يستهل ولم يتحرك ، فإن لم يكن له أربعة أشهر ، لم يصل عليه ، ولكنه يلف بخرقة ويدفن ، وإن كان له أربعة أشهر فقولان : قال في القديم : يصلى عليه ، وقال في الأم : لا يصلى عليه ، وهو الأصح ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه ، وجابر بن زيد التابعي ، والحكم وحماد ، والأوزاعي ومالك : أنه إذا لم يستهل صارخا لا يصلى عليه . وعن ابن عمر : أنه يصلى عليه ، وإن لم يستهل . وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وإسحاق . انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب ، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا لم يستهل صارخا ، ولم يتحرك ، فإن كان له أربعة أشهر غسل ، وصلي عليه ، وإلا فلا ، أما إذا استهل صارخا ، فلا خلاف بينهم في الصلاة عليه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #314
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (313)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 278 إلى صـ 284



    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اعلم أن اختلاف الأئمة في هذه المسألة من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط ; لأن مناط الأمر بالصلاة عليه هو أن يعلم أنه تقدمت له حياة . ومناط عدم الصلاة عليه هو أن يعلم أنه لم تتقدم له حياة ، فمالك ومن وافقه رأوا أنه إن استهل صارخا ، أو طالت مدته حيا ، علم بذلك أنه مات بعد حياة ، فيغسل ويصلى عليه ، وقالوا : إن مطلق الحركة لا يدل على الحياة ; لأن المذبوح قد يتحرك حركة قوية ، وقالوا : إنه إن رضع لم يدل ذلك على حياته . قالوا : قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه عدو الله معدودا في الأموات لو مات له مورث في ذلك الوقت ما ورثه ، وهو قول ابن القاسم . ولو قتل رجل عمر في ذلك الوقت لما قتل به ; لأنه في حكم الميت ، وإن كان [ ص: 278 ] عمر في ذلك الوقت يتكلم ويعهد .

    والذين خالفوا هؤلاء قالوا : لا نسلم ذلك فكل حركة قوية تدل على الحياة ، وعمر ما دام قادرا على الحركة القوية الدالة على الحياة ، فهو حي تجري عليه أحكام الحياة .

    والذين قالوا : يغسل إن سقط بعد أربعة أشهر ، استندوا في ذلك إلى حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث نحو ما ساقه البخاري ومسلم ، فإنه يدل على أنه بعد الأربعين الثالثة ينفخ فيه الروح ، وانتهاء الأربعين الثالثة هو انتهاء أربعة أشهر ، فقد دل الحديث على نفخ الروح فيه بعد انتهاء الأشهر الأربعة ، ونفخ الروح فيه في ذلك الحين مشعر بأنه مات بعد حياة ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . هذا برهان قاطع آخر على البعث : وقوله : وترى [ 22 \ 5 ] ؛ أي : يا نبي الله . وقيل : وترى أيها الإنسان المخاطب ، وهي رؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد . فقوله : هامدة حال من الأرض ، لا مفعول ثان لـ " ترى " وقوله : " هامدة " أي : يابسة قاحلة لا نبات فيها .

    وقال بعض أهل العلم : " هامدة " أي : دارسة الآثار من النبات والزرع . قالوا : وأصل الهمود الدروس والدثور . ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :


    قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا


    ؛ أي : وأرى ثيابك باليات دارسات .

    فإذا أنزلنا عليها الماء [ 22 \ 5 ] ؛ أي : سواء كان من المطر ، أو الأنهار أو العيون أو السواني : اهتزت ؛ أي : تحركت بالنبات . ولما كان النبات نابتا فيها متصلا بها ، كان اهتزازه كأنه اهتزازها ، فأطلق عليها بهذا الاعتبار أنها اهتزت بالنبات . وهذا أسلوب عربي معروف .

    وقال أبو حيان في البحر المحيط : واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات ، وقوله : وربت ؛ أي : زادت وارتفعت : وقال بعض أهل العلم : وربت : انتفخت لأجل خروج النبات ، وقال ابن جرير الطبري : وربت ؛ أي : أضعفت النبات بمجيء الغيث .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أصل المادة التي منها ربت : الزيادة ، والظاهر [ ص: 279 ] أن معنى الزيادة الحاصلة في الأرض هي أن النبات لما كان نابتا فيها متصلا بها صار كأنه زيادة حصلت في نفس الأرض .

    وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : والاهتزاز : الحركة على سرور ، فلا يكاد يقال : اهتز فلان لكيت وكيت ، إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع . اهـ منه .

    والاهتزاز أصله : شدة الحركة ، ومنه قوله :

    تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر

    وقوله : وأنبتت ؛ أي : أنبت الله فيها من كل زوج ؛ أي : صنف من أصناف النبات والزرع ، والثمار : بهيج ؛ أي : حسن ، والبهجة : الحسن . ومنه قوله تعالى : فأنبتنا به حدائق ذات بهجة تقول : بهج بالضم بهاجة فهو بهيج : إذا كان حسنا ، وقرأ عامة السبعة : وربت ، وهو من قولهم : ربا يربو : إذا نما وزاد ، وقرأ من الثلاثة أبو جعفر يزيد بن القعقاع : وربأت بهمزة مفتوحة بعد الباء ؛ أي ارتفعت ، كأنه من الربيئة أو الربيئي ، وهو الرقيب الذي يعلو على شيء مشرف يحرس القوم ويحفظهم .

    ومنه قول امرئ القيس :


    بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي


    وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن إحياء الأرض بعد موتها برهان قاطع على قدرة من فعل ذلك على إحياء الناس بعد موتهم ; لأن الجميع إحياء بعد موت ، وإيجاد بعد عدم بينه في آيات كثيرة ، وقد قدمنا في سورة البقرة والنحل كثرة الاستدلال بهذا البرهان في القرآن على البعث ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] ، وقوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] ؛ أي : من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] ؛ أي : خروجكم من القبور أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] ، وقوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله تعالى : فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [ ص: 280 ] [ 35 \ 9 ] ، وقوله تعالى : فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون [ 43 \ 11 ] ومن ذلك قوله هنا : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ 22 \ 5 ] بدليل قوله بعده : ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى إلى قوله : وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] .
    قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق . قال بعض أهل العلم : الآية الأولى التي هي ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد [ 22 \ 3 ] نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم ، اتباعا لرؤسائهم ، من شياطين الإنس والجن ، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك ، ويدل لهذا أنه قال في الأولى : ويتبع كل شيطان [ 22 \ 3 ] وقال في هذه : ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله [ 22 \ 9 ] فتبين بذلك أنه مضل لغيره ، متبوع في الكفر والضلال ، على قراءة الجمهور بضم ياء " يضل " وأما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو بفتح الياء ، فليس في الآية دليل على ذلك ، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم ، فأغنى عن إعادته هنا .

    وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة : بغير علم [ 22 \ 8 ] ؛ أي : بدون علم ضروري ، حاصل لهم بما يجادلون به ولا هدى ؛ أي استدلال ونظر عقلي ، يهتدي به العقل للصواب ولا كتاب منير ؛ أي : وحي نير واضح ، يعلم به ما يجادل به ، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي ، ولا علم من وحي ، فهو جاهل محض من جميع الجهات ، وقوله : ثاني عطفه [ 22 \ 9 ] حال من ضمير الفاعل المستكن في : يجادل ؛ أي : يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه ؛ أي : لاوي عنقه عن قبول الحق استكبارا وإعراضا . فقوله : ( ثاني ) اسم فاعل ثنى الشيء : إذا لواه ، وأصل العطف : الجانب ، وعطفا الرجل : جانباه من لدن رأسه إلى وركيه ، تقول العرب : ثنى فلان عنك عطفه ، تعني أعرض عنك . وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا : ثاني عطفه : لاوي عنقه ، مع أن العطف يشمل العنق وغيرها ; لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان ، يلويها ويصرف وجهه عن الشيء بليها . والمفسرون يقولون : إن اللام في قوله : ليضل عن سبيل الله [ 22 \ 9 ] ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه [ ص: 281 ] العلة الغائية ، كقوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . ونحو ذلك - لام العاقبة ، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية ، في معنى الحرف . وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص .

    ونقول هنا : إن الظاهر في ذلك أن الصواب فيه غير ما ذكروا ، وأن اللام في الجميع لام التعليل ، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره .

    وإيضاح ذلك : أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضا عن الحق ، واستكبارا . وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالا مضلا . وله الحكمة البالغة في ذلك ، كقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ؛ أي : لئلا يفقهوه . وكذلك فالتقطه آل فرعون الآية [ 28 \ 8 ] ؛ أي : قدر الله عليهم أن يلتقطوه ; لأجل أن يجعله لهم عدوا وحزنا . وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها [ 31 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون [ 63 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ 4 \ 61 ] ، وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه ولا تصعر خدك للناس الآية [ 31 \ 18 ] ؛ أي : لا تمل وجهك عنهم استكبارا عليهم . وقوله تعالى عن فرعون وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه [ 51 \ 38 - 39 ] فقوله : فتولى بركنه بمعنى : ثنى عطفه . وقوله تعالى : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه الآية [ 17 \ 83 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : له في الدنيا خزي [ 22 \ 9 ] ؛ أي : ذل وإهانة . وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ; كأبي جهل بن هشام ، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر .

    ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكبارا عن الحق وإعراضا عنه عامله [ ص: 282 ] الله بنقيض قصده فأذله وأهانه . وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة .

    وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [ 40 \ 56 ] ، وقوله في إبليس لما استكبر فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] والصغار : الذل والهوان ، عياذا بالله من ذلك ، كما قدمنا إيضاحه . وقوله : ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق [ 22 \ 9 ] ؛ أي : نحرقه بالنار ، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة . وسمي يوم القيامة ; لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا ، كما قال تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 4 - 6 ] .
    قوله تعالى : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد المعنى : أن الكافر إذا أذيق يوم القيامة عذاب الحريق ، يقال له ذلك ؛ أي : هذا العذاب الذي نذيقكه بسبب ما قدمت يداك ؛ أي : قدمته في الدنيا من الكفر والمعاصي وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 22 \ 10 ] فلا يظلم أحدا مثقال ذرة . وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 30 ] والظاهر أن المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 22 \ 10 ] في محل خفض عطفا على ( ما ) المجرورة بالباء .

    والمعنى : هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين ، وهما : ما قدمته يداك من عمل السوء من الكفر والمعاصي ، وعدالة من جازاك ذلك الجزاء الوفاق ، وعدم ظلمه . وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة ، في قوله : ليس بظلام فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وفي هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة :

    الأول : هو ما ذكرنا آنفا أنا أوضحنا الجواب عنه سابقا ، وهو : أن المعروف في علم العربية أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة ، لم يقتض نفي أصل الفعل .

    فلو قلت : ليس زيد بظلام للناس ، فمعناه المعروف : أنه غير مبالغ في الظلم ، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم منه . وقد قدمنا إيضاح هذا .

    [ ص: 283 ] والسؤال الثاني : أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله : بما قدمت يداك وكفره الذي هو أعظم ذنوبه ليس من فعل اليد ، وإنما هو من فعل القلب واللسان ، وإن كان بعض أنواع البطش باليد يدل على الكفر ، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد . وزناه لم يفعله بيده ، بل بفرجه ، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد .

    والجواب عن هذا ظاهر : وهو أن من أساليب اللغة العربية ، التي نزل بها القرآن إسناد جميع الأعمال إلى اليد ، نظرا إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها ، ولا إشكال في ذلك .

    والسؤال الثالث : هو أن يقال : ما وجه إشارة البعد في قوله : ذلك بما قدمت يداك مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر ؟

    والجواب عن هذا : أن من أساليب اللغة العربية : وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة : الم ذلك الكتاب الآية [ 2 \ 1 - 2 ] ؛ أي : هذا الكتاب .

    ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي :


    فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا

    أقول له والرمح يأطر متنه
    تأمل خفافا إنني أنا ذلكا


    يعني : أنا هذا .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكافر يقال له يوم القيامة : ذلك بما قدمت يداك الآية ، لا يخفى أنه توبيخ وتقريع وإهانة له ، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة : كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون [ 44 \ 47 - 50 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون [ 52 \ 13 - 16 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
    قوله تعالى : يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد .

    [ ص: 284 ] ضمير الفاعل في قوله : يدعو من دون الله ما لا يضره [ 22 \ 12 ] راجع إلى الكافر المشار إليه في قوله : وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] ؛ أي : يدعو ذلك الكافر المذكور من دون الله ، ما لا يضره ، إن ترك عبادته وكفر به ، وما لا ينفعه إن عبده وزعم أنه يشفع له .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الأوثان لا تضر من كفر بها ، ولا تنفع من عبدها بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [ 26 \ 72 - 74 ] .

    إذ المعنى : أنهم اعترفوا بأنهم لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون ، ولكنهم عبدوهم تقليدا لآبائهم . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
    تنبيه

    فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفيه تعالى النفع والضر معا عن ذلك المعبود من دون الله في قوله : ما لا يضره وما لا ينفعه [ 22 \ 12 ] مع إثباتهما في قوله : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ; لأن صيغة التفضيل في قوله : " أقرب " دلت على أن هناك نفعا وضرا ، ولكن الضر أقرب من النفع .

    فالجواب : أن للعلماء أجوبة عن ذلك :

    منها : ما ذكره الزمخشري : قال : فإن قلت : الضر والنفع منفيان عن الأصنام ، مثبتان لها في الآيتين ، وهذا تناقض .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #315
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (314)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 285 إلى صـ 291





    قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم . وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ، ولا نفعا ، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به ، ثم قال يوم القيامة : يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها : لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير [ 22 \ 13 ] [ ص: 285 ] وكرر يدعو كأنه قال : يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه . ثم قال لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا : لبئس المولى ، ولبئس العشير . ا هـ منه .

    ولا يخفى أن جواب الزمخشري هذا غير مقنع ; لأن المعبود من دون الله ليس فيه نفع البتة ، حتى يقال فيه : إن ضره أقرب من نفعه ، وقد بين أبو حيان عدم اتجاه جوابه المذكور .

    ومنها : ما أجاب به أبو حيان في البحر .

    وحاصله : أن الآية الأولى في الذين يعبدون الأصنام ، فالأصنام لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من كفر بها ؛ ولذا قال فيها : ما لا يضره وما لا ينفعه والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام ، هي التعبير بلفظة " ما " في قوله : ما لا يضره وما لا ينفعه [ 22 \ 12 ] لأن لفظة " ما " تأتي لما لا يعقل ، والأصنام لا تعقل .

    أما الآية الأخرى فهي في من عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله ، كفرعون القائل : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] ، لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] ، أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] ، فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم ؛ ولذا قال له القوم الذين كانوا سحرة أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 26 \ 41 - 42 ] فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه من العذاب والخلود في النار كلا شيء ، فضر هذا المعبود بخلود عابده في النار أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا ، والقرينة على أن المعبود في هذه الآية الأخيرة بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء هي التعبير بـ " من " التي تأتي لمن يعقل في قوله : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] هذا هو خلاصة جواب أبي حيان ، وله اتجاه ، والله تعالى أعلم .

    واعلم أن اللام في : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] فيها إشكال معروف . وللعلماء عن ذلك أجوبة .

    ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله منها ثلاثة :

    أحدها : أن اللام متزحلقة عن محلها الأصلي ، وأن ذلك من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، والأصل : يدعو من لضره أقرب من نفعه ، وعلى هذا فـ " من " الموصولة [ ص: 286 ] في محل نصب مفعول به لـ " يدعو " واللام موطئة للقسم ، داخلة على المبتدإ ، الذي هو وخبره صلة الموصول ، وتأكيد المبتدإ في جملة الصلة باللام وغيرها لا إشكال فيه .

    قال ابن جرير وحكي عن العرب سماعا : منها عندي لما غيره خير منه ؛ أي : عندي ما لغيره خير منه ، وأعطيتك لما غيره خير منه ؛ أي : ما لغيره خير منه .

    والثاني منها : أن قوله : يدعو تأكيد لـ " يدعو " في الآية التي قبلها ، وعليه فقوله : لمن ضره في محل رفع بالابتداء ، وجملة ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] صلة الموصول الذي هو " من " والخبر هو جملة : لبئس المولى . وهذا المعنى كقول العرب : لما فعلت لهو خير لك .

    قال ابن جرير لما ذكر هذا الوجه : واللام الثانية في : لبئس المولى جواب اللام الأولى : قال : وهذا القول على مذهب أهل العربية أصح ، والأول إلى مذهب أهل التأويل أقرب . اهـ .

    والثالث منها أن من في موضع نصب بـ " يدعو " وأن اللام دخلت على المفعول به ، وقد عزا هذا لبعض البصريين مع نقله عمن عزاه إليه أنه شاذ . وأقربها عندي الأول .

    وقال القرطبي رحمه الله : ولم ير منه نفعا أصلا ، ولكنه قال ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] ترفيعا للكلام : كقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 \ 24 ] وباقي الأقوال في اللام المذكورة تركناه ، لعدم اتجاهه في نظرنا ، والعلم عند الله تعالى .
    وقوله تعالى : لبئس المولى المولى : هو كل ما انعقد بينك وبينه سبب ، يواليك وتواليه به . والعشير : هو المعاشر ، وهو الصاحب والخليل .

    والتحقيق : أن المراد بالمولى والعشير المذموم في هذه الآية الكريمة ، هو المعبود الذي كانوا يدعونه من دون الله ، كما هو الظاهر المتبادر من السياق .

    وقوله : ذلك هو الضلال البعيد [ 22 \ 12 ] ؛ أي : البعيد عن الحق والصواب .
    قوله تعالى : من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ . في هذه الآية الكريمة أوجه من التفسير معروفة عند العلماء ، وبعضها يشهد لمعناه قرآن .

    [ ص: 287 ] الأول : أن المعنى : من كان من الكفرة الحسدة له صلى الله عليه وسلم يظن أن لن ينصره الله ؛ أي : أن لن ينصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فليمدد بسبب [ 22 \ 15 ] ؛ أي : بحبل إلى السماء ؛ أي سماء بيته ، والمراد به السقف : لأن العرب تسمي كل ما علاك سماء كما قال :


    وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

    كما أوضحناه في سورة الحجر .

    والمعنى : فليعقد رأس الحبل في خشبة السقف ثم ليقطع [ 22 \ 15 ] ؛ أي : ليختنق بالحبل ، فيشده في عنقه ، ويتدلى مع الحبل المعلق في السقف حتى يموت ، وإنما أطلق القطع على الاختناق ; لأن الاختناق يقطع النفس بسبب حبس مجاريه ، ولذا قيل للبهر وهو تتابع النفس : قطع ، فلينظر إذا اختنق هل يذهبن كيده ؛ أي : هل يذهب فعله ذلك ما يغيظه من نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة .

    والمعنى : لا يذهب ذلك الذي فعله ذلك الكافر الحاسد ما يغيظه ويغضبه من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .

    قال الزمخشري : وسمي فعله كيدا ; لأنه وضعه موضع الكيد ؛ حيث لم يقدر على غيره ، أو على سبيل الاستهزاء ; لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد : ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه . اهـ منه .

    وحاصل هذا القول : أن الله يقول لحاسديه صلى الله عليه وسلم الذين يتربصون به الدوائر ، ويظنون أن ربه لن ينصره : موتوا بغيظكم ، فهو ناصره لا محالة على رغم أنوفكم ، وممن قال بهذا القول : مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الجوزاء ، وغيرهم . كما نقله عنهم ابن كثير ، وهو أظهرها عندي .

    ومما يشهد لهذا المعنى من القرآن : قوله تعالى . وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم .

    الوجه الثاني : أن المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، والحال أن النصر يأتيه صلى الله عليه وسلم من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء فيرتقي بذلك السبب ، حتى يصعد إلى السماء فيقطع نزول الوحي من السماء ، فيمنع النصر عنه صلى الله عليه وسلم .

    والمعنى : أنه وإن غاظه نصر الله لنبيه . فليس له حيلة ، ولا قدرة على منع النصر ; [ ص: 288 ] لأنه لا يستطيع الارتقاء إلى السماء ومنع نزول النصر منها عليه صلى الله عليه وسلم : وعلى هذا القول : فصيغة الأمر في قوله : فليمدد [ 22 \ 15 ] ، وقوله : ثم ليقطع للتعجيز فلينظر ذلك الحاسد العاجز عن قطع النصر عنه صلى الله عليه وسلم : هل يذهب كيده إذا بلغ غاية جهده في كيد النبي صلى الله عليه وسلم ، ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم .

    والمعنى : أنه إن أعمل كل ما في وسعه من كيد النبي صلى الله عليه وسلم ، ليمنع عنه نصر الله ، فإنه لا يقدر على ذلك ، ولا يذهب كيده ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم .

    ومما يشهد لهذا القول من القرآن قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 10 - 11 ] وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة الحجر .

    ولبعض أهل العلم قول ثالث في معنى الآية الكريمة : وهو أن الضمير في لن ينصره عائد إلى " من " في قوله تعالى : من كان يظن [ 22 \ 15 ] وأن النصر هنا بمعنى الرزق ، وأن المعنى : من كان يظن أن لن ينصره الله ؛ أي : لن يرزقه ، فليختنق ، وليقتل نفسه ؛ إذ لا خير في حياة ليس فيها رزق الله وعونه ، أو فليختنق وليمت غيظا وغما ، فإن ذلك لا يغير شيئا مما قضاه الله وقدره ، والذين قالوا هذا القول قالوا : إن العرب تسمي الرزق نصرا ، وعن أبي عبيدة قال : وقف علينا سائل من بني بكر ، فقال : من ينصرني نصره الله . يعني : من يعطيني أعطاه الله ، قالوا : ومن ذلك قول العرب : أرض منصورة ؛ أي : ممطورة ، ومنه قول رجل من بني فقعس :


    وإنك لا تعطي امرءا فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره


    ؛ أي : معطيه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا القول الأخير ظاهر السقوط ، كما ترى ، والذين قالوا : إن الضمير في قوله : أن لن ينصره الله راجع إلى الدين أو الكتاب ، لا يخالف قولهم قول من قال : إن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأن نصر الدين والكتاب هو نصره صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى ، ونصر الله له صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإعلائه كلمته ، وقهره أعداءه ، وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته ، والانتقام ممن كذبه ، ونحو ذلك ، كما قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ 40 \ 51 ] فإن قيل : قررتم أن الضمير في " ينصره " عائد إليه صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يجر له ذكر ، فكيف قررتم رجوع [ ص: 289 ] الضمير إلى غير مذكور ؟

    فالجواب هو ما قاله غير واحد ، من أنه صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجر له ذكر ، فالكلام دال عليه ; لأن الإيمان في قوله في الآية التي قبلها : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات الآية [ 22 \ 14 ] . هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، والانقلاب عن الدين المذكور في قوله : انقلب على وجهه [ 22 \ 11 ] انقلاب عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم ليقطع قرأه أبو عمرو ، وابن عامر ، وورش عن نافع بكسر اللام على الأصل في لام الأمر ، وقرأه الباقون بإسكان اللام تخفيفا .
    قوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض إلى قوله : إن الله يفعل ما يشاء . قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد .

    ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنواع عذاب أهل النار - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل - جاء مبينا في آيات أخر من كتاب الله ، فقوله هنا : قطعت لهم ثياب من نار [ 22 \ 19 ] ؛ أي : قطع الله لهم من النار ثيابا ، وألبسهم إياها تنقد عليهم كقوله فيهم : سرابيلهم من قطران [ 14 \ 50 ] والسرابيل : هي الثياب التي هي القمص ، كما قدمنا إيضاحه ، وكقوله : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] والغواشي : جمع غاشية ، وهي غطاء كاللحاف ، وذلك هو معنى قوله هنا : قطعت لهم ثياب من نار [ 22 \ 19 ] ، وقوله تعالى هنا : يصب من فوق رءوسهم الحميم ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 48 - 49 ] والحميم : الماء البالغ شدة الحرارة ، وكقوله تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] . وقوله هنا يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 20 ] ؛ أي : يذاب [ ص: 290 ] بذلك الحميم إذا سقوه فوصل إلى بطونهم كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك ، كقوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] والعرب تقول : صهرت الشيء فانصهر ، فهو صهير ؛ أي : أذبته فذاب ، ومنه قول ابن أحمر يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض :


    تروى لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر


    ؛ أي : تذيبه الشمس ، فيصبر على ذلك ، ولا يذوب .

    وقوله : والجلود الظاهر أنه معطوف على " ما " من قوله : يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 20 ] التي هي نائب فاعل " يصهر " وعلى هذا الظاهر المتبادر من الآية فذلك الحميم يذيب جلودهم ، كما يذيب ما في بطونهم لشدة حرارته .

    إذ المعنى : يصهر به ما في بطونهم ، وتصهر به الجلود ؛ أي : جلودهم ، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة ، وقال بعض أهل العلم : والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر ، وتقديره : وتحرق به الجلود ، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعا بعد الواو ، قول لبيد في معلقته :

    فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها

    يعني : وباض نعامها ; لأن النعامة لا تلد الطفل ، وإنما تبيض ، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل ، ومثاله في المنصوب قول الآخر :


    إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا


    ترى منا الأيور إذا رأوها قياما راكعين وساجدينا


    يعني زججن الحواجب ، وأكحلن العيون .

    وقوله :


    ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


    ؛ أي : وحاملا رمحا ; لأن الرمح لا يتقلد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #316
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (315)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 292 إلى صـ 298



    وقول الآخر :

    [ ص: 291 ]
    تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر


    يعني : ويفقأ عينيه .

    ومن شواهده المشهورة قول الراجز :


    علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها


    يعني : وسقيتها ماء باردا ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية [ 59 \ 9 ] ؛ أي : وأخلصوا الإيمان ، أو ألفوا الإيمان ، ومثال ذلك في المخفوض قولهم : ما كل بيضاء شحمة ، ولا سوداء تمرة ؛ أي : ولا كل سوداء تمرة ، وإلى هذه المسألة أشار في الخلاصة بقوله :

    وهي انفردت

    بعطف عامل مزال قد بقي معموله دفعا لوهم اتقي

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولهم مقامع من حديد [ 22 \ 21 ] المقامع : جمع مقمعة بكسر الميم الأولى ، وفتح الميم الأخيرة ، ويقال : مقمع بلا هاء ، وهو في اللغة : حديدة كالمحجن يضرب بها على رأس الفيل : وهي في الآية مرازب عظيمة من حديد تضرب بها خزنة النار رءوس أهل النار ، وقال بعض أهل العلم : المقامع : سياط من نار ، ولا شك أن المقامع المذكورة في الآية من الحديد لتصريحه تعالى بذلك .

    وقوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الآية [ 22 \ 19 ] نزل في المبارزين يوم بدر ، وهم : حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب ، وفي أقرانهم المبارزين من الكفار ، وهم : عتبة بن ربيعة ، وابنه الوليد بن عتبة ، وأخوه شيبة بن ربيعة ، كما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما .
    قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق .

    ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن أهل النار كلما أرادوا الخروج منها ، لما يصيبهم من الغم فيها عياذا بالله منها ، أعيدوا فيها ، ومنعوا من الخروج منها بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في المائدة : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 36 - 37 ] ، وقوله في السجدة : [ ص: 292 ] كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] ، وقوله في آية الحج هذه : وذوقوا عذاب الحريق [ 22 \ 22 ] حذف فيه القول .

    والمعنى : أعيدوا فيها ، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق ، وهذا القول المحذوف في الحج صرح به في السجدة في قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 32 \ 20 ] والمفسرون يقولون : إن لهب النار يرفعهم ، حتى يكاد يرميهم خارجها ، فتضربهم خزنة النار بمقامع الحديد ، فتردهم في قعرها ، نعوذ بالله منها ، ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل .
    قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم . اعلم أن خبر " إن " في قوله هنا : إن الذين كفروا [ 22 \ 25 ] محذوف كما ترى .

    والذي تدل عليه الآية أن التقدير : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ، نذيقهم من عذاب أليم . كما دل على هذا قوله في آخر الآية : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

    فإن قيل : ما وجه عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي ، في قوله : إن الذين كفروا ويصدون .

    فالجواب من أربعة أوجه ، واحد منها ظاهر السقوط :

    الأول : هو ما ذكره بعض علماء العربية من أن المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال ، فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه : ويصدون عن سبيل الله [ 22 \ 25 ] ، وقوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله [ 13 \ 28 ] قاله أبو حيان وغيره .

    الثاني : أن يصدون خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : إن الذين كفروا ، وهم يصدون ، وعليه فالجملة المعطوفة اسمية لا فعلية ، وهذا القول استحسنه القرطبي .

    الثالث : أن يصدون مضارع أريد به الماضي ؛ أي : كفروا وصدوا . وليس بظاهر .

    الرابع : أن الواو زائدة ، وجملة " يصدون " خبر " إن " أي : إن الذين كفروا يصدون [ ص: 293 ] الآية . وهذا هو الذي قدمنا أنه ظاهر السقوط ، وهو كما ترى ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن من أعمال الكفار الصد عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله الآية [ 2 \ 217 ] ، وقوله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله [ 48 \ 25 ] ، وقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا الآية [ 5 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : سواء العاكف فيه والبادي [ 22 \ 25 ] قرأه عامة السبعة غير حفص عن عاصم : سواء ، بضم الهمزة ، وفي إعرابه على قراءة الجمهور هذه برفع " سواء " وجهان :

    الأول : أن قوله : العاكف : مبتدأ ، والباد : معطوف عليه ، و : " سواء " خبر مقدم ، وهو مصدر أطلق وأريد به الوصف .

    فالمعنى : العاكف والبادي سواء ؛ أي : مستويان فيه ، وهذا الإعراب أظهر الوجهين .

    الثاني : أن " سواء " مبتدأ و " العاكف " فاعل سد مسد الخبر ، والظاهر أن مسوغ الابتداء بالنكرة التي هي " سواء " على هذا الوجه : هو عملها في المجرور الذي هو فيه ؛ إذ المعنى : سواء فيه العاكف والبادي ، وجملة المبتدأ وخبره في محل المفعول الثاني لـ " جعلنا " وقرأ حفص عن عاصم : " سواء " بالنصب ، وهو المفعول الثاني لـ " جعلنا " التي بمعنى صيرنا . والعاكف فاعل " سواء " أي : مستويا فيه العاكف والبادي ، ومن كلام العرب : مررت برجل سواء هو والعدم ، ومن قال : إن " جعل " في الآية تتعدى إلى مفعول واحد قال : إن " سواء " حال من الهاء في : جعلناه ؛ أي : وضعناه للناس في حال كونه سواء العاكف فيه والبادي كقوله : إن أول بيت وضع للناس الآية [ 3 \ 96 ] وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الكريمة يشمل جميع الحرم ; ولذلك أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن رباع مكة لا تملك ، وقد قدمنا الكلام مستوفى في هذه المسألة وأقوال أهل العلم فيها ، ومناقشة أدلتهم في سورة الأنفال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، والعاكف : هو المقيم في الحرم ، والبادي : الطارئ عليه من البادية ، وكذلك غيرها من أقطار الدنيا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " والبادي " قرأه أبو عمرو وورش عن نافع بإثبات الياء بعد الدال في الوصل ، وإسقاطها في الوقف ، وقرأه ابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا ، [ ص: 294 ] وقرأه باقي السبعة بإسقاطها ، وصلا ووقفا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] قد أوضحنا إزالة الإشكال عن دخول الباء على المفعول في قوله : بإلحاد ، ونظائره في القرآن ، وأكثرنا على ذلك من الشواهد العربية في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    والإلحاد في اللغة أصله : الميل ، والمراد بالإلحاد في الآية : أن يميل ويحيد عن دين الله الذي شرعه ، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا الكفر بالله ، والشرك به في الحرم ، وفعل شيء مما حرمه ، وترك شيء مما أوجبه . ومن أعظم ذلك : انتهاك حرمات الحرم . وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة ، وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك قول الرجل : لا والله ، و : بلى والله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان : أحدهما في طرف الحرم ، والآخر في طرف الحل ، فإذا أراد أن يعاتب أهله أو غلامه فعل ذلك في الفسطاط الذي ليس في الحرم ، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر في هذه المسألة أن كل مخالفة بترك واجب ، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور ، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته ، أو عبده ، فليس من الإلحاد ، ولا من الظلم .
    مسألة

    قال بعض أهل العلم : من هم أن يعمل سيئة في مكة ، أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك وإن لم يفعلها ، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع ، فلا يعاقب فيه بالهم . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لو أن رجلا أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم ، وهذا ثابت عن ابن مسعود ، ووقفه عليه أصح من رفعه ، والذين قالوا هذا القول استدلوا له بظاهر قوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] لأنه تعالى رتب إذاقة العذاب الأليم على إرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه ، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم : إن الباء في قوله : " بإلحاد " لأجل أن الإرادة مضمنة معنى الهم ؛ أي : ومن يهمم فيه بإلحاد ، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره .

    [ ص: 295 ] فهذه الآية الكريمة مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة " الحديث ، وعليه فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي ، ووجه هذا ظاهر .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويحتمل أن يكون معنى الإرادة في قوله : ومن يرد فيه بإلحاد [ 22 \ 25 ] العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه ، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله ؛ مكة وغيرها .

    والدليل على أن إرادة الذنب إذا كانت عزما مصمما عليه أنها كارتكابه حديث أبي بكرة الثابت في الصحيح : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " . فقولهم : ما بال المقتول : سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنه لم يفعل القتل ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " أن ذنبه الذي أدخله النار هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم . وقد قدمنا مرارا أن " إن " المكسورة المشددة تدل على التعليل كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه .

    ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه ، ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل ، بسبب طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل [ 105 \ 4 ] لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم ، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه ، والعلم عند الله تعالى . والظاهر أن الضمير في قوله : فيه راجع إلى المسجد الحرام ، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك . والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ؛ أي اذكر حين بوأنا ، تقول العرب : بوأت له منزلا ، وبوأته منزلا ، وبوأته في منزل ، بمعنى واحد ، كلها بمعنى : هيأته له ومكنت له فيه وأنزلته فيه ، فتبوأه ؛ أي : نزله ، وتبوأت له منزلا أيضا : هيأته له وأنزلته فيه . فـ " بوأه " المتعدي بنفسه ، كقوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا الآية [ 29 \ 58 ] ، وقوله : والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة الآية [ 16 \ 42 ] ومنه قول عمرو بن معديكرب الزبيدي :

    [ ص: 296 ]
    كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا


    ؛ أي : هيأته له وأنزلته فيه .

    وبوأت له . كقوله هنا : وإذ بوأنا لإبراهيم الآية [ 22 \ 26 ] .

    وبوأته فيه . كقول الشاعر :


    وبوئت في صميم معشرها وتم في قومها مبوؤها


    ؛ أي : نزلت من الكرم في صميم النسب ، وتبوأت له منزلا كقوله تعالى : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا [ 10 \ 78 ] .

    وتبوأه . كقوله : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء الآية [ 39 \ 74 ] ، وقوله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء [ 12 \ 56 ] ، وقوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية [ 59 \ 9 ] .

    وأصل التبوء من المباءة : وهي منزل القوم في كل موضع ، فقوله : بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] ؛ أي : هيأناه له وعرفناه إياه ; ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة ، حين أمرناه ببنائه ، كما يهيأ المكان لمن يريد النزول فيه .

    والمفسرون يقولون : بوأه له وأراه إياه بسبب ريح تسمى الخجوج كنست ما فوق الأساس ، حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه . وقيل : أرسل له مزنة فاستقرت فوقه ، فكان ظلها على قدر مساحة البيت ، فحفرا عن الأساس فظهر لهما فبنياه عليه . وهم يقولون أيضا : إنه كان مندرسا من زمن طوفان نوح ، وأن محله كان مربض غنم لرجل من جرهم ، والله تعالى أعلم .

    وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له وعرفه إياه ليبنيه في محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله . وظاهر قوله حين ترك إسماعيل وهاجر في مكة ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم [ 14 \ 37 ] يدل على أنه كان مبنيا واندرس ، كما يدل عليه قوله هنا مكان البيت [ 22 \ 26 ] لأنه يدل على أن له مكانا سابقا ، كان معروفا . والله أعلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين الآية ، متعلق بمحذوف ، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة ; وهي قوله تعالى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين [ 2 \ 125 ] فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] وعهدنا إليه ؛ أي : أوصيناه ، أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين ، وزادت آية [ ص: 297 ] البقرة : أن إسماعيل مأمور بذلك أيضا مع أبيه إبراهيم ، وإذا عرفت أن المعنى : وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئا ، وطهر بيتي الآية .

    فاعلم أن في " أن " وجهين :

    أحدهما : أنها هي المفسرة ، وعليه فتطهير البيت من الشرك وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم ؛ أي : والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور .

    والثاني : أنها مصدرية بناء على دخول " أن " المصدرية على الأفعال الطلبية .

    وإن قيل : كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم ، وهو غير مذكور هنا ؟

    فالجواب : أنه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا ; لأن كلام الله يصدق بعضه بعضا ، والتطهير هنا في قوله : وطهر بيتي يشمل التطهير المعنوي والحسي ، فيطهره الطهارة الحسية من الأقذار ، والمعنوية من الشرك والمعاصي ؛ ولذا قال لا تشرك بي شيئا [ 22 \ 26 ] وكانت قبيلة جرهم تضع عنده الأصنام تعبدها من دون الله ، وقد قدمنا في سورة الإسراء الكلام مستوفى فيما كان عند الكعبة من الأصنام عام الفتح ، وطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنجاس الأوثان وأقذارها . كما أمر الله بذلك إبراهيم هنا ، وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم الآية [ 16 \ 123 ] والمراد بالطائفين في هذه الآية : الذين يطوفون حول البيت ، والمراد بالقائمين والركع السجود : المصلون ؛ أي : طهر بيتي للمتعبدين بطواف أو صلاة ، والركع : جمع راكع ، والسجود : جمع ساجد .

    وقوله تعالى في هذه الآية : لا تشرك بي شيئا لفظة " شيئا " مفعول به : لـ " لا تشرك " ؛ أي : لا تشرك بي من الشركاء كائنا ما كان ، ويحتمل أن تكون ما ناب عن المطلق من : لا تشرك ؛ أي : لا تشرك بي شيئا من الشرك ، لا قليلا ، ولا كثيرا .

    فالمعنى على هذا : لا تشرك بي شركا قليلا ، ولا كثيرا ، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص ، وابن عامر في رواية هشام : بيتي بفتح الياء ، وقرأ باقي السبعة بإسكانها .

    واعلم أن المؤرخين لهم كلام كثير في قصة بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت ، ومن جملة ما يزعمون ، أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان ، وأنه كان من ياقوتة حمراء ، ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال :


    ودلت إبراهيم مزنة عليه فهي على قدر المساحة تريه


    [ ص: 298 ] وقيل دلته خجوج كنست ما حوله حتى بدا ما أسست
    قبل الملائك من البناء قبل ارتفاعه إلى السماء


    ومعلوم أن هذا ونحوه شبيه بالإسرائيليات لا يصدق منه إلا ما قام دليل من كتاب أو سنة على صدقه ، ولذلك نقلل من ذكر مثل ذلك في الغالب .
    مسألة

    يؤخذ من هذه الآية الكريمة : أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام قذر من الأقذار ، ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضي الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات .

    ولا شك أن دخول المصورين في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام بآلات التصوير يصورون بها الطائفين والقائمين والركع السجود - أن ذلك مناف لما أمر الله به من تطهير بيته الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود ، فانتهاك حرمة بيت الله بارتكاب حرمة التصوير عنده لا يجوز ; لأن تصوير الإنسان دلت الأحاديث الصحيحة على أنه حرام ، وظاهرها العموم في كل أنواع التصوير ، ولا شك أن ارتكاب أي شيء حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الأقذار والأنجاس المعنوية التي يلزم تطهير بيت الله منها . وكذلك ما يقع في المسجد من الكلام المخل بالدين والتوحيد لا يجوز إقرار شيء منه ولا تركه .

    ونرجو الله لنا ولمن ولاه الله أمرنا ، ولإخواننا المسلمين التوفيق إلى ما يرضيه في حرمه ، وسائر بلاده ، إنه قريب مجيب .
    قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق

    الأذان في اللغة : الإعلام : ومنه قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر وقول الحارث بن حلزة :


    آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #317
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (316)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 299 إلى صـ 305





    والحج في اللغة : القصد وكثرة الاختلاف والتردد ، تقول العرب : حج بنو فلان فلانا : إذا قصدوه وأطالوا الاختلاف إليه والتردد عليه . ومنه قول المخبل السعدي :


    ألم تعلمي يا أم أسعد أنما تخاطأني ريب المنون لأكبرا


    [ ص: 299 ] وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا


    قوله : يحجون ، يعني : يكثرون قصده والاختلاف إليه والتردد عليه . والسب بالكسر : العمامة . وعنى بكونهم يحجون عمامته : أنهم يحجونه ، فكنى عنه بالعمامة .

    والرجال في الآية : جمع راجل ، وهو الماشي على رجليه ، والضامر : البعير ونحوه ، المهزول الذي أتعبه السفر . وقوله " يأتين " يعني : الضوامر المعبر عنها بلفظ : كل ضامر ; لأنه في معنى : وعلى ضوامر يأتين من كل فج عميق ; لأن لفظة " كل " صيغة عموم ، يشمل ضوامر كثيرة ، والفج : الطريق ، وجمعه : فجاج . ومنه قوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] والعميق : البعيد ، ومنه قول الشاعر :


    إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب


    وأكثر ما يستعمل العمق في البعد سفلا ، تقول : بئر عميقة ؛ أي : بعيدة القعر ، والخطاب في قوله : وأذن في الناس بالحج [ 22 \ 27 ] لإبراهيم كما هو ظاهر من السياق . وهو قول الجمهور ، خلافا لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وعلى إبراهيم وسلم ، وممن قال بذلك الحسن ، ومال إليه القرطبي ، فقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج ؛ أي : وأمرنا إبراهيم أن أذن في الناس بالحج ؛ أي : أعلمهم ، وناد فيهم بالحج ؛ أي : بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام .

    وذكر المفسرون أنه لما أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج قال : يا رب ، كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ، فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه . وقيل : على الحجر . وقيل : على الصفا . وقيل : على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت ، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك .

    قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام : هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والله أعلم ، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة . انتهى منه .

    وقوله تعالى : يأتوك رجالا مجزوم في جواب الطلب ، وهو عند علماء العربية [ ص: 300 ] مجزوم بشرط مقدر ، دل عليه الطلب على الأصح ؛ أي : إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك . وإنما قال " يأتوك " لأن المدعو يتوجه نحو الداعي ، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج ; لأن نداء إبراهيم للحج ؛ أي : يأتوك ملبين دعوتك ، حاجين بيت الله الحرام ، كما ناديتهم لذلك .

    وعلى قول الحسن الذي ذكر عنه أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج ، وعلى قول الجمهور ، فوجوب الحج بها على هذه الأمة مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، كما أوضحناه في سورة المائدة ، مع أنه دلت آيات أخر على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضا على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] ، وقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] .

    وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية . وقوله : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية . قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا ; لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم . وقال وكيع ، عن أبي العميس ، عن أبي حلحلة ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس قال : ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا ; لأن الله يقول يأتوك رجالا .

    والذي عليه الأكثرون : أن الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم . انتهى منه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اعلم أنه قد تقرر في الأصول : أن منشأ الخلاف في هذه المسألة التي هي : هل الركوب في الحج أفضل أو المشي ، ونظائرها - كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام :

    القسم الأول : هو الفعل الجبلي المحض : أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها ؛ كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، فإن هذا لم يفعل للتشريع والتأسي ، فلا يقول أحد : أنا أجلس وأقوم تقربا لله واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يقوم ويجلس ؛ لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي . وبعضهم يقول : فعله الجبلي يقتضي الجواز ، وبعضهم [ ص: 301 ] يقول : يقتضي الندب . والظاهر ما ذكرنا من أنه لم يفعل للتشريع ، ولكنه يدل على الجواز .

    القسم الثاني : هو الفعل التشريعي المحض . وهو الذي فعل لأجل التأسي والتشريع ، كأفعال الصلاة وأفعال الحج مع قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقوله : " خذوا عني مناسككم " .

    القسم الثالث : وهو المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي . وضابطه : أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها ، ولكنه وقع متعلقا بعبادة بأن وقع فيها أو في وسيلتها ، كالركوب في الحج ، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلة ; لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب ، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب ، بل لاقتضاء الجبلة إياه ، ومحتمل للشرعي ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج ، وقال : " خذوا عني مناسككم " . ومن فروع هذه المسألة : جلسة الاستراحة في الصلاة ، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير التي ذهب فيها إلى صلاة العيد ، والضجعة على الشق الأيمن ، بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح ، ودخول مكة من كداء - بالفتح والمد - والخروج من كدى - بالضم والقصر - والنزول بالمحصب بعد النفر من منى ، ونحو ذلك .

    ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم ; لاحتمالها للجبلي والتشريعي ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :


    وفعله المركوز في الجبله كالأكل والشرب فليس مله


    من غير لمح الوصف والذي احتمل شرعا ففيه قل تردد حصل
    فالحج راكبا عليه يجري كضجعة بعد صلاة الفجر


    ومشهور مذهب مالك : أن الركوب في الحج أفضل ، إلا في الطواف والسعي ، فالمشي فيهما واجب .

    وقال سند واللخمي من المالكية : إن المشي أفضل للمشقة ، وركوبه صلى الله عليه وسلم جبلي لا تشريعي .

    وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي ، هو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما .

    قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أن الركوب أفضل . [ ص: 302 ] قال العبدري : وبه قال أكثر الفقهاء ، وقال داود : ماشيا أفضل ، واحتج بحديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " ولكنها على قدر نفقتك ، أو : نصبك " رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية صحيحة : " على قدر عنائك ونصبك " وروى البيهقي بإسناده ، عن ابن عباس قال : ما آسي على شيء ما آسي أني لم أحج ماشيا ، وعن عبيد بن عمير قال ابن عباس : ما ندمت على شيء فاتني في شبابي ، إلا أني لم أحج ماشيا ، ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا . وإن النجائب لتقاد معه ، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات ، حتى كان يعطي الخف ، ويمسك النعل . انتهى محل الغرض منه ، والحديث المرفوع عن ابن عباس في فضل الحج ماشيا : ضعيف ، وحديث عائشة المتفق عليه الذي أشار إليه النووي يقوي حجة من قال بأن المشي في الحج أفضل من الركوب ; لأنه أكثر نصبا وعناء . ولفظ البخاري : " ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " ، ولفظ مسلم : " ولكنها على قدر نصبك " ، أو قال : " نفقتك " والنصب : التعب والمشقة .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

    المسألة الأولى : قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على وجوب الحج مرة واحدة في العمر ، وهو إحدى الدعائم الخمس ، التي بني عليها الإسلام إجماعا .

    أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .

    وأما السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة ، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قلت : نعم ، لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " . انتهى منه .

    ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " ، ونحوه أخرجه الإمام أحمد والنسائي ، واستدل بهذا الحديث على أن الأمر المجرد من القرائن لا يقتضي التكرار كما هو مقرر في الأصول .

    [ ص: 303 ] والدليل على أنه إحدى الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام حديث ابن عمر المتفق عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " هذا لفظ البخاري .

    وقد وردت في فضل الحج والترغيب فيه أحاديث كثيرة : فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي الأعمال أفضل ؟ قال " إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " متفق عليه . وعنه رضي الله عنه أيضا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " متفق عليه أيضا ، وعنه أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " متفق عليه أيضا ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قال : " لكن أفضل الجهاد حج مبرور " رواه البخاري ، وعنها أيضا رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء " أخرجه مسلم بهذا اللفظ . والأحاديث في الباب كثيرة . وفضل الحج وكونه من الدعائم الخمس معروف .
    واعلم : أن وجوب الحج المذكور تشترط له شروط ، وهي : العقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والحرية ، والاستطاعة . ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، أما العقل فكونه شرطا في وجوب كل تكليف ، واضح لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال . وأما اشتراط البلوغ فواضح ; لأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم ، فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب ، وأما الإسلام : فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، فهو شرط صحة لا شرط وجوب ، وعلى أنهم غير مخاطبين بها ، فهو شرط وجوب ، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع ، فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم ، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب ، فهو شرط صحة أيضا ؛ لأن بعض شروط الوجوب يكون شرطا في الصحة أيضا ؛ كالوقت للصلاة ، فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضا ، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطا في الصحة ؛ كالبلوغ ، والحرية ، فإن الصبي لا يجب عليه الحج ، مع أنه يصح منه لو فعله ، وكذلك العبد ، إلا أنه لا يجزئ عن [ ص: 304 ] حجة الإسلام ، إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية . وأما الحرية : فهي شرط وجوب ، فلا يجب الحج على العبد ، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين :

    الأول : إجماع أهل العلم على ذلك . ولكنه إذا حج صح حجه ، ولم يجزئه عن حجة الإسلام ، فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام .

    قال النووي في شرح المهذب : أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج ; لأن منافعه مستحقة لسيده ، فليس هو مستطيعا . ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا . قال القاضي أبو الطيب : وبه قال الفقهاء كافة ، وقال داود : لا يصح بغير إذنه . انتهى محل الغرض منه .

    الأمر الثاني : حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك ؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم جاء عنه من حديث ابن عباس أنه قال : " أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام " قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث : رواه ابن خزيمة والإسماعيلي في مسند الأعمش ، والحاكم والبيهقي وابن حزم وصححه ، والخطيب في التاريخ من حديث محمد بن المنهال ، عن يزيد بن زريع ، عن شعبة ، عن الأعمش عن أبي ظبيان عنه . قال ابن خزيمة : الصحيح موقوف ، بل خرجه كذلك من رواية ابن أبي عدي عن شعبة ، وقال البيهقي : تفرد برفعه محمد بن المنهال ، ورواه الثوري عن شعبة موقوفا .

    قلت : لكن هو عند الإسماعيلي والخطيب عن الحارث بن سريج عن يزيد بن زريع متابعة لمحمد بن المنهال . ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه : أنا أبو معاوية ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس فذكره ، وهذا ظاهر أنه أراد أنه مرفوع ; فلذا نهاهم عن نسبته إليه . وفي الباب عن جابر أخرجه ابن عدي بلفظ : " لو حج صغير حجة لكانت عليه حجة إذا بلغ " الحديث ، وسنده ضعيف ، وأخرجه أبو داود في المراسيل عن محمد بن كعب القرظي نحو حديث ابن عباس مرسلا ، وفيه راو مبهم . انتهى من التلخيص .

    وقال البيهقي في سننه : وأخبرنا أبو الحسن المقري : ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق : ثنا يوسف بن يعقوب : ثنا محمد بن المنهال : ثنا يزيد بن زريع ، ثنا شعبة عن سليمان الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى " ، ثم ساق الحديث بسند آخر موقوفا على [ ص: 305 ] ابن عباس ، وسكت ولم يبين هل الموقوف أصح أو المرفوع ؟ وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث :

    رواه البيهقي في الباب الأول من كتاب الحج بإسناد جيد ؟ ورواه أيضا موقوفا ، ولا يقدح ذلك فيه . ورواية المرفوع قوية ، ولا يضر تفرد محمد بن المنهال بها ، فإنه ثقة مقبول ضابط . روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما . اهـ .

    وقد علمت من كلام ابن حجر : أن ابن المنهال تابعه على رفع الحديث المذكور الحارث بن سريج ، فقد زال التفرد . والظاهر أن الحارث المذكور هو ابن سريج النقال ، ولا يحتج به لضعفه . وبما ذكرنا تعلم أن الحديث المذكور لا يقل عن درجة الاحتجاج ، ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ، ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام ، فلو كان واجبا عليه في حال كونه مملوكا أجزأه حجه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

    وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله ما نصه :

    وقد أجمع أهل العلم : أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام ، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلا ، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه ، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق .
    وأما الاستطاعة : فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف ، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء .

    فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى : هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على النفس والمال ، ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة ، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي ، إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق ؛ كالجمال ، والخراز ، والنجار ، ومن أشبههم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #318
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (317)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 306 إلى صـ 312






    وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : ووجب باستطاعة بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت ، وأمن على نفس ومال ما نصه : وقال مالك في كتاب محمد ، وفي سماع أشهب لما سئل عن قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] أذلك الزاد والراحلة ؟ قال : لا والله ، ما ذلك إلا طاقة الناس ، الرجل يجد [ ص: 306 ] الزاد والراحلة ، ولا يقدر على المسير ، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ، ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، وزاد في كتاب محمد : ورب صغير أجلد من كبير ، ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده : فمن قدر على الوصول إلى مكة ، إما راجلا بغير كبير مشقة ، أو راكبا بشراء أو كراء ، فقد وجب عليه الحج ، ونقله في التوضيح . انتهى من الحطاب .

    واعلم أن بعض المالكية يشترطون في الصنعة المذكورة ألا تكون مزرية به .

    واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده ، وعادة الناس إعطاؤه ، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته ، إذا علم أنه إن خرج حاجا وسأل ، أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده ، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعا لقدرته على الزاد بذلك ، فيجب عليه الحج بذلك ، أو لا يجب عليه بذلك ؟

    فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ، ولا يعد استطاعة ، وبهذا القول جزم خليل بن إسحاق رحمه الله في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ، وذلك في قوله فيما لا تحصل به الاستطاعة : لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقا .

    ومعنى كلامه أن من لم يمكنه الوصول إلى مكة إلا بتحمل دين في ذلك ، أو قبول عطية ممن أعطاه مالا أو سؤال الناس مطلقا ، أنه لا يعد بذلك مستطيعا ، ولا يجب عليه الحج ، وقوله : أو سؤال مطلقا يعني بالإطلاق ، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا ، وسواء كانت عادة الناس إعطاءه أو لا ، أما إذا كانت عادة الناس عدم إعطائه ، فالحج حرام عليه ; لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة ، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا ، وأما إن كانت عادة الناس إعطاءه ، ولم يكن السؤال عادته في بلده ، فلا خلاف في أنه لا يعد مستطيعا ولا يجب عليه الحج ، وأما إن كانت عادته السؤال في بلده ، ومنه عيشته ، وعادة الناس إعطاؤه ، فهو محل الخلاف ، وقد ذكرنا آنفا قول خليل في مختصره أنه لا يجب عليه الحج ، ولا يعد مستطيعا بسؤال الناس ، وذلك في قوله : أو بسؤال مطلقا ، وقال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل : وسؤال مطلقا ، وقال خليل في منسكه : وظاهر المذهب أنه لا يجب على من عادته السؤال ، إذا كانت العادة إعطاءه ، ويكره له المسير ، فإن لم تكن عادته السؤال ، أو لم تكن العادة إعطاءه سقط الحج بالاتفاق ، وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل : أو سؤال مطلقا ما نصه : وأما الصورة الرابعة : وهي ما إذا كانت عادته في بلده السؤال ، ومنه عيشه ، والعادة إعطاؤه ، فقال المصنف في توضيحه ومنسكه : إن [ ص: 307 ] ظاهر المذهب أنه لا يجب عليه الحج ، ويكره له الخروج ، وجزم به هنا ، وقال في الشامل : إنه المشهور ، وأقر في شروحه كلام المؤلف على إطلاقه ، وكذلك البساطي والشيخ زروق ، ولم ينبه عليه ابن غازي . انتهى محل الغرض منه . وقال الحطاب أيضا : وذكر ابن الحاجب القولين من غير ترجيح ، وقبلهما ابن عبد السلام ، والمصنف في التوضيح وابن فرجون ، وصاحب الشامل ، ومن بعدهم ، ورجحوا القول بالسقوط ، وصرح بعضهم بتشهيره ، وكذلك شراح المختصر . اهـ محل الغرض منه .

    ومعنى قوله : ورجحوا القول بالسقوط ، يعني : سقوط وجوب الحج عمن عادته السؤال والإعطاء .

    القول الثاني من قولي المالكية : أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه ، إذا كانت عادتهم إعطاءه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده ، أنه يعد بذلك مستطيعا ، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة ، وعلى هذا القول أكثر المالكية .

    وقال الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : أو سؤال مطلقا ، بعد أن ذكر القول بأن ذلك السؤال والإعطاء لا يعد استطاعة ، ولا يجب به الحج ، بل يكره الخروج في تلك الحال ، ما نصه :

    قلت : ونصوص أهل المذهب التي وقفت عليها مصرحة بخلاف ذلك ، وأن الحج واجب على من عادته السؤال ، إذا كانت العادة إعطاءه ، ثم سرد كثيرا من نقول علماء المالكية مصرحة بوجوب الحج عليه ، وأهل هذا القول من علماء المالكية ، وهم الأكثرون ، وجهوه بأنه محمول على الفقير الذي يباح له السؤال لعدم قدرته على كسب ما يعيش به ، وأن ذلك السؤال لما كان جائزا له ، وصار عيشه منه في الحضر ، فهو بذلك السؤال والإعطاء قادر على الوصول إلى مكة . قالوا : ومن قدر على ذلك بوجه جائز لزمه الحج .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل من قولي المالكية في هذه المسألة : هو القول الأول ؛ وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس ، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة .

    ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 91 ] ، وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن العبرة بعموم [ ص: 308 ] الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، وبينا أدلة ذلك من السنة الصحيحة ، فقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون . ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون ، وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم ، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج ، وهو واضح ، وقد استدل الشيخ ابن القاسم رحمه الله بهذه الآية المذكورة على ما ذكرنا .

    ولكن كثيرا من متأخري علماء المالكية حملوا قول ابن القاسم الذي احتج عليه بالآية المذكورة ، على من ليس عادته السؤال في بلده ، قالوا : فلم يتناول قوله محل النزاع .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر الآية الكريمة العموم في جميع الذين لا يجدون ما ينفقون ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة ، لا يصح ولا يعول عليه . وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، سواء كان من المخصصات المتصلة ، أو المنفصلة .

    ومما يؤيد هذا في الجملة ما ثبت في صحيح البخاري : حدثنا يحيى بن بشر ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ، ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ 2 \ 197 ] ورواه ابن عيينة ، عن عكرمة مرسلا . انتهى من صحيح البخاري .

    وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث : قال المهلب : في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى ، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا ، فإن قوله : فإن خير الزاد التقوى [ 2 \ 197 ] ؛ أي : تزودوا ، واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك . انتهى محل الغرض منه .

    وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجا بلا زاد ليسأل الناس ، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس ، فقيرا كان أو غنيا ، كانت عادته السؤال في بلده أو لا ، وحمل النصوص على ظواهرها واجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه ، بتركهم سؤال الناس ، كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم ، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء ، وأشار لشدة فقرهم ، وذلك في قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [ ص: 309 ] الآية [ 2 \ 273 ] فصرح بأنهم فقراء ، وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال .

    ووجه إشارة الآية إلى شدة فقرهم هو ما فسرها به بعض أهل العلم من أن معنى قوله : تعرفهم بسيماهم [ 2 \ 273 ] ؛ أي : بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم .

    وقال ابن جرير في تفسيره ، بعد أن ذكر القول بأن المراد بسيماهم : علامة فقرهم من ظهور آثار الجوع ، والفاقة عليهم ، والقول الآخر : أن المراد بسيماهم : علامتهم التي هي التخشع والتواضع ، ما نصه .

    وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . انتهى محل الغرض منه .

    وقال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن الربيع : تعرفهم بسيماهم [ 2 \ 273 ] يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد : تعرفهم بسيماهم قال : رثاثة ثيابهم . انتهى . ومثل هذا كثير في كلام المفسرين .

    فالآية الكريمة : تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس ، وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس ، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقا كثيرة جدا . وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام ، وأن قول بعض المالكية : إنه لا يعد استطاعة ، هو الصواب وهو قول جمهور أهل العلم . وممن ذهب إليه : الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري ومجاهد ، وسعيد بن جبير وأحمد ، وإسحاق . وبه قال بعض أصحاب مالك . قال البغوي : وهو قول العلماء ا هـ .

    قاله النووي .

    والاستطاعة عند أبي حنيفة : الزاد والراحلة . فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس ، لم يجب عليه الحج عنده كما قدمناه قريبا .

    والاستطاعة في مذهب الشافعي : الزاد والراحلة ، بشرط أن يجدهما بثمن المثل ، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من المثل سقط عنه وجوب الحج . ويشترط عند الشافعية أيضا : وجود الماء في أماكن النزول ، وهذا شرط لا ينبغي أن يختلف فيه ; لأنه إن لم يجد الماء [ ص: 310 ] هلك ، ويشترط عند الشافعية أيضا : أن يكون صحيحا لا مريضا ، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فادحة مسقط لوجوب الحج .

    ويشترط عند الشافعي أيضا : أن يكون الطريق آمنا من غير خفارة . والخفارة مثلثة الخاء : هي المال الذي يؤخذ على الحاج . ويشترط عند الشافعي أيضا : أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء . وهذه الشروط في المستطيع بنفسه لا فيما يسمونه المستطيع بغيره ، فإن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة ، وكان قادرا على المشي على رجليه ، ولم يجد راحلة ، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل ، أو أجرة المثل ، لم يجب عليه الحج عندهم ، ولا تعد قدرته على المشي استطاعة عندهم ، لحديث الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة ، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ، ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ، ففي ذلك عند الشافعي تفصيل حكاه إمام الحرمين عن العراقيين من الشافعية ، وهو : أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد ، لم يجب عليه الحج ; لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج ، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج . قال الإمام : وفيه احتمال ، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة ، هكذا ذكره الإمام وحكاه الرافعي وسكت عليه ، انتهى من النووي ، ومراده بالإمام : إمام الحرمين .

    وقوله : وفيه احتمال ، يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقا .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الذي ذكره مبني على القاعدة المعروفة المختلف فيها ، وهي هل القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل أو لا ، والأظهر أن القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل بالفعل . والعلم عند الله تعالى .

    والاستطاعة عند أحمد وأصحابه : هي الزاد والراحلة . قال ابن قدامة في المغني : والاستطاعة المشترطة : ملك الزاد والراحلة ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، وإسحاق . قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم . وقال عكرمة : هي الصحة . انتهى محل الغرض منه .
    وإذا علمت أقوال أهل العلم في معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] فهذه أدلتهم .

    أما الأكثرون الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة ، فحجتهم الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بتفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة . وقد روي عنه ذلك من حديث ابن عمر ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث أنس ، ومن حديث عائشة ، ومن حديث [ ص: 311 ] جابر ، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن حديث ابن مسعود ا هـ .

    أما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي ، وابن ماجه من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي ، عن ابن عمر . وقال الترمذي بعد أن ساقه : هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم : أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج . وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . انتهى من الترمذي .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : تحسين الترمذي رحمه الله لهذا الحديث لا وجه له ; لأن إبراهيم الخوزي المذكور متروك لا يحتج بحديثه ، كما جزم به غير واحد . وقد نقل الزيلعي في نصب الراية عن الترمذي : أنه لما ساق الحديث المذكور ، قال فيه : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي . وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . ا هـ .

    ومقتضى ما نقل الزيلعي عنه أنه لم يحسنه ، وإنما وصفه بالغرابة ، وهذا الذي ذكره الزيلعي ذكره الترمذي في موضع آخر ، وقد علمت أن إبراهيم الخوزي لا يحتج به . فلا يكون حديث هو في إسناده حسنا .

    قال صاحب نصب الراية : وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه أخرجه محمد بن الحجاج المصفر ، ثنا جرير بن حازم ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن ابن عمر مرفوعا ، ومحمد بن الحجاج المصفر ضعيف . اهـ . وهو كما قال الزيلعي ضعيف . قال في الميزان فيه : روى عباس عن يحيى ليس بثقة . وقال أحمد : قد تركنا حديثه . وقال البخاري عن شعبة : سكتوا عنه ، وقال النسائي : متروك . ثم ذكر بعض عجائبه ، وعلى كل حال فهو لا يحتج به .

    واعلم أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق محمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا آنفا ، أنه لا يحتج به ، فقد تابعه أيضا فيها غيره من الضعفاء .

    قال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور ، عند الترمذي ، وابن ماجه : ورواه الدارقطني ، ثم البيهقي في سننهما .

    قال الدارقطني : وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، [ ص: 312 ] فرواه عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك . انتهى . وهذا الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي ، وأسند تضعيفه عن النسائي وابن معين ثم قال : والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي ، وهو من هذه الطريق غريب . ثم ذكر عن البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور . قال : وروي من أوجه أخر كلها ضعيفة . وروي عن ابن عباس من قوله : ورويناه من أوجه صحيحة ، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وفيه قوة لهذا السند . انتهى . ثم قال الزيلعي بعد هذا الكلام الذي نقلناه عنه : قال الشيخ في الإمام قوله : فيه قوة ، فيه نظر . لأن المعروف عندهم : أن الطريق إذا كان واحدا ، ورواه الثقات مرسلا ، وانفرد ضعيف برفعه ، أن يعللوا المسند بالمرسل ، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف . فإذا كان ذلك موجبا لضعف المسند ، فكيف يكون تقوية له . اهـ . وهو كما قال ، كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث . ثم قال الزيلعي : قال - يعني الشيخ - في الإمام : والذي أشار إليه من قول ابن عباس ، رواه أبو بكر بن المنذر ، حدثنا علان بن المغيرة ، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله . والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا هشام ، ثنا يونس عن الحسن قال : لما نزلت ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] قال رجل : يا رسول الله ، وما السبيل ؟ قال صلى الله عليه وسلم " زاد وراحلة " . انتهى .

    حدثنا الهيثم ، ثنا منصور ، عن الحسن مثله .

    حدثنا خالد بن عبد الله ، عن يونس ، عن الحسن مثله . قال : وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة . وقال ابن المنذر : لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندا ، والصحيح رواية الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد ، وهو متروك ، ضعفه ابن معين وغيره . اهـ . من نصب الراية .

    وبهذا تعلم أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح ، ولم يثبت ; لأن إبراهيم الخوزي متروك ، ومحمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به كما بيناه ، وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي لا تقويه ; لأنه ضعيف ، ضعفه النسائي ، وأعل الحديث به ابن عدي في الكامل . وقال الذهبي في الميزان : ضعفه ابن معين ، وقال البخاري : منكر الحديث . وقال النسائي : متروك . . اهـ منه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #319
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (318)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 313 إلى صـ 318






    [ ص: 313 ] وأما مرسل الحسن البصري المذكور ، وإن كان إسناده صحيحا إلى الحسن ، فلا يحتج به ; لأن مراسيل الحسن رحمه الله لا يحتج بها .

    قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : وقال الدارقطني : مراسيل الحسن فيها ضعف . وقال في تهذيب التهذيب أيضا : وقال محمد بن سعد : كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما ، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه ، فهو حجة ، وما أرسل فليس بحجة .

    وقال صاحب تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي : وقال أحمد بن حنبل : مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات ، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء ; فإنهما كانا يأخذان عن كل واحد . انتهى . ثم قال بعد هذا الكلام : وقال العراقي : مراسيل الحسن عندهم شبه الريح ، وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين . وقال بعض أهل العلم : هي صحاح إذا رواها عنه الثقات . قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : وقال ابن المديني : مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها . وقال أبو زرعة : كل شيء يقول الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث . اهـ .

    فهذا هو جملة الكلام في حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وقد علمت أنه لم يثبت من وجه صحيح ، بحسب صناعة علم الحديث ، وأما حديث ابن عباس ، فرواه ابن ماجه في سننه : حدثنا سويد بن سعيد ، ثنا هشام بن سليمان القرشي ، عن ابن جريج قال ، وأخبرنيه أيضا ، عن ابن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الزاد والراحلة " يعني قوله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] وهذا الإسناد فيه هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي قال فيه أبو حاتم : مضطرب الحديث ، ومحله الصدق ، ما أرى به بأسا . وقال العقيلي : في حديثه عن غير ابن جريج وهم ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : مقبول . اهـ .

    وقد أخرج له مسلم ، وقال البخاري في صحيحه في البيوع : وقال لي إبراهيم بن المنذر : أنبأنا هشام ، أخبرنا ابن جريج ، سمعت ابن أبي مليكة ، عن نافع مولى ابن عمر [ ص: 314 ] قال : " أيما ثمرة بيعت ، ثم أبرت " وذكر الحديث من قوله . وهذا يدل على أنه أيضا من رجال البخاري . وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر هذا الكلام الذي ذكرنا : وأما كون المتقدمين لم يذكروه في رجال البخاري ; فلأن البخاري لم يخرج له سوى هذا الموضع في المتابعات ، وأورده بألفاظ الشواهد . انتهى منه .

    وبما ذكرنا تعلم أن حديث ابن عباس هذا عند ابن ماجه لا يقل عن درجة الحسن ، مع أنه معتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله تعالى .

    وقال الزيلعي في نصب الراية : وأخرج حديث ابن عباس المذكور الدارقطني في سننه ، عن داود بن الزبرقان ، عن عبد الملك ، عن عطاء عن ابن عباس ، وأخرج أيضا عن حصين بن المخارق ، عن محمد بن خالد ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله ، الحج كل عام ؟ قال " لا بل حجة " ، قيل : " فما السبيل إليه ؟ قال : الزاد والراحلة " . انتهى .

    ثم قال : وداود وحصين كلاهما ضعيفان . اهـ . وداود بن الزبرقان المذكور قال فيه ابن حجر في التقريب : متروك ، وكذبه الأزدي ، وحصين بن مخارق المذكور قال فيه الذهبي في الميزان : قال الدارقطني : يضع الحديث ، ونقل ابن الجوزي أن ابن حبان قال : لا يجوز الاحتجاج به . اهـ .

    وهذا حاصل ما في حديث ابن عباس المذكور . وأما حديث أنس فقد أخرجه الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو بكر محمد بن حازم الحافظ بالكوفة ، وأبو سعيد إسماعيل بن أحمد التاجر ، قالا : ثنا علي بن عباس بن الوليد البجلي ، ثنا علي بن سعيد بن مسروق الكندي ، ثنا ابن أبي زائدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] قال : قيل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال " الزاد والراحلة " ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وقد تابع حماد بن سلمة سعيدا على روايته عن قتادة ، حدثناه أبو نصر أحمد بن سهل بن حمدويه الفقيه ببخارى ، ثنا صالح بن محمد بن حبيب الحافظ ، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحراني ، ثنا أبو قتادة ، ثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] فقيل : ما السبيل ؟ قال : " الزاد والراحلة " ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم . ولم يخرجاه . انتهى من المستدرك . وأقره على [ ص: 315 ] تصحيح الطريقين المذكورتين الحافظ الذهبي ، فحديث أنس هذا صحيح كما ترى ، وقال صاحب نصب الراية : ورواه الدارقطني في سننه بالإسنادين . اهـ .

    وأما حديث عائشة فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه الدارقطني في سننه عن عتاب بن أعين ، عن سفيان الثوري ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن أمه عن عائشة قالت : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال " السبيل : الزاد والراحلة " . انتهى . رواه العقيلي في كتاب الضعفاء ، وأعله بعتاب وقال : إن في حديثه وهما . انتهى .

    وقال البيهقي في كتاب المعرفة : وليس بمحفوظ ، ثم أخرجه البيهقي ، عن أبي داود الحفري ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل ؟ فقال " الزاد والراحلة " . اهـ .

    وقد علمت مما ذكرنا : أن حديث عائشة المذكور أعله العقيلي بعتاب بن أعين ، وقال : إن في حديثه وهما ، وأن البيهقي قال : ليس بمحفوظ . وقد قال الذهبي في الميزان في عتاب المذكور ، قال العقيلي : في حديثه وهم . روى عنه هشام بن عبيد الله حديثا خولف في سنده . انتهى منه .

    وأما مرسل الحسن الذي أشار له ، فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى قريبا .

    وأما حديث جابر ، فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه الدارقطني ، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبي الزبير أو عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ حديث عائشة ، ومحمد بن عبد الله بن عبيد الله الليثي تركوه ، وأجمعوا على ضعفه ، وقد تقدم ، وقد قدمنا أن محمدا المذكور لا يحتج به . وبهذا تعلم أن حديث جابر المذكور لا يصلح للاحتجاج .

    وأما حديث ابن مسعود فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه الدارقطني ، عن بهلول بن عبيد ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة عن عبد الله بن مسعود بنحوه . وبهلول بن عبيد ، قال أبو حاتم : ذاهب الحديث . اهـ .

    وقال الذهبي في الميزان في بهلول المذكور : قال أبو حاتم : ضعيف الحديث ذاهب . وقال أبو زرعة : ليس بشيء ، وقال ابن حبان : يسرق الحديث . انتهى منه .

    وبما ذكر تعلم أن حديث ابن مسعود المذكور ليس بصالح للاحتجاج ، وأما حديث [ ص: 316 ] عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد قال صاحب نصب الراية أيضا : أخرجه الدارقطني أيضا عن ابن لهيعة ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن أبيه عن جده بنحوه . وابن لهيعة والعرزمي ضعيفان . قال الشيخ في الإمام : وقد أخرج الدارقطني هذا الحديث عن جابر ، وأنس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعائشة ، وليس فيها إسناد يحتج به . انتهى منه .

    هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية بالزاد والراحلة . وقال غير واحد : إن هذا الحديث لا يثبت مسندا ، وأنه ليس له طريق صحيحة ، إلا الطريق التي أرسلها الحسن .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج ; لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال : كلتاهما صحيحة الإسناد ، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي ، ولم يتعقبه بشيء ، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط ، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلا - دعوى لا مستند لها ، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل .

    والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين : أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة ، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة ، فلا تكون تلك الطرق علة في الصحيحة ، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين .

    فرواية سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الحديث المذكور عن قتادة عن أنس مرفوعا لم يخالفوا فيها غيرهم ، بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط ، وقول النووي في شرح المهذب : وروى الحاكم حديث أنس ، وقال : وهو صحيح ، ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات . والله أعلم .

    يجاب عنه بأنا لو سلمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح ، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقا . ورب تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر ، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه ؛ ولذا لم يبد النووي وجها لتساهله فيه ، ولم يتكلم [ ص: 317 ] في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق .

    فإن قيل : متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة ، راويها عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني ، وهو متروك ، لا يحتج بحديثه ، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال . وقال فيه ابن حجر في التقريب : متروك ، فقد تساهل الحاكم في قوله : إن هذه الطريق على شرط مسلم ، مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور .

    فالجواب : أن أبا قتادة المذكور ، وإن ضعفه الأكثرون ، فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه ، وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه ، وذكر ابن حجر والذهبي : أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه : إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب ، فعظم ذلك عنده جدا ، وأثنى عليه وقال : إنه يتحرى الصدق . قال : ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث . وقال أحمد في موضع آخر : ما به بأس ، رجل صالح ، يشبه أهل النسك ربما أخطأ . وفي إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال : أبو قتادة الحراني ثقة . ذكرها عنه ابن حجر والذهبي ، وقول من قال : لعله كبر فاختلط ، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه ، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث : أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مفصلا ، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة ، عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام .

    ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد ، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن ، ولا سيما على قول من يقول : إن مراسيله صحاح ، إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره ، كما قدمناه .

    ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارا ، ويؤيده أيضا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا ، وإن كانت ضعافا ؛ لأنها تقوي غيرها ، ولا سيما حديث ابن عباس ، فإنا قد ذكرنا سنده ، وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج .

    وقال الشوكاني في نيل الأوطار : ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضا ، فتصلح للاحتجاج .

    ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به ، كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث : الزاد والراحلة ، والعمل عليه عند أهل العلم ، وقد بينا أنه [ ص: 318 ] قول الأكثرين ، منهم الأئمة الثلاثة .

    أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد .

    فالحاصل : أن حديث الزاد والراحلة ، لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج .

    وأظهر قولي أهل العلم عندي أن المعتبر في ذلك ما يبلغه ذهابا وإيابا .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن حديث الزاد والراحلة ، وإن كان صالحا للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج ، إن كان عاجزا عن تحصيل الراحلة ، بل يلزمه الحج ; لأنه يستطيع إليه سبيلا ، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منها قوته في سفر الحج ، يجب عليه الحج ; لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل .
    فإن قيل : كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه ، دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالزاد والراحلة ، وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية .

    فالجواب من وجهين :

    الأول : أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة ; لأن الغالب أن أكثر الحجاج أفاقيون ، قادمون من بلاد بعيدة ، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة ، وعدم إمكان سفره بلا زاد ، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن النص إذا كان جاريا على الأمر الغالب ، لا يكون له مفهوم مخالفة ، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين : إن قوله تعالى : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] جرى على الغالب ، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مرارا ، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة الزاد والراحلة ، وجرى الحديث على ذلك فلا مفهوم مخالفة له ، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه ، إما لعدم طول المسافة ، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي ، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره ، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #320
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (319)
    سُورَةُ الْحَجِّ
    صـ 319 إلى صـ 325



    الوجه الثاني : أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على رجليه . وقدم الماشي على الراكب ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 319 ] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 22 \ 27 ] .

    وقد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة مستوفى ، هذا هو حاصل ما يتعلق بالمستطيع بنفسه .
    وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فهو نوعان :

    الأول منهما : هو من لا يقدر على الحج بنفسه ، لكونه زمنا ، أو هرما ونحو ذلك ، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه ، فهل يلزمه الحج نظرا إلى أنه مستطيع بغيره ، فيدخل في عموم : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ؟ أو لا يجب عليه الحج ; لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه ، فلا يدخل في عموم الآية ؟

    وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه ; فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل . قال النووي : وبه قال جمهور العلماء ، منهم علي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وداود . وقال مالك : لا يجب عليه ذلك ، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه ، واحتج مالك بقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] وبقوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، وهذا لا يستطيع بنفسه ، فيصدق عليه اسم غير المستطيع ، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة ، فكذلك مع العجز كالصلاة ، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة .

    منها : ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريح ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهم : أن امرأة ( ح ) حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة ، فهل يقضي عنه أن أحج عنه ؟ قال : " نعم " . وفي رواية في صحيح البخاري عن ابن عباس فقالت : إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " ، وذلك في حجة الوداع .

    وفي لفظ في صحيح البخاري ، عن ابن عباس : إن فريضة الله على عباده في الحج [ ص: 320 ] أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة ; أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " وذلك في حجة الوداع . اهـ .

    وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عباس : " أنه كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " . وذلك في حجة الوداع .

    وفي لفظ لمسلم قالت : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فحجي عنه " . اهـ .

    وهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان أخرجه باقي الجماعة ، إلا أن بعضهم يرويه عن ابن عباس ; وهو عبد الله ، وبعضهم يرويه عن أخيه الفضل بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    وقال أبو داود في سننه : حدثنا حفص بن عمر ، ومسلم بن إبراهيم بمعناه قالا : حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين - قال حفص في حديثه : رجل من بني عامر - أنه قال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ، ولا الظعن . قال : " احجج عن أبيك واعتمر " وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يوسف بن عيسى ، نا وكيع عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير . إلى آخر الحديث كلفظ أبي داود الذي ذكرنا ، ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : أن يعتمر الرجل عن غيره ، وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر . انتهى منه .

    وحديث أبي رزين هذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن علي بن محمد ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة به نحو ما تقدم . وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

    وقال الترمذي بعد ذكره الحديث المتفق عليه في قصة استفتاء الخثعمية ما نصه : وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث . والعمل على هذا عند أهل العلم من [ ص: 321 ] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، وبه يقول الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، يرون أن يحج عن الميت .

    وقال مالك : إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه ، وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي ، إذا كان كبيرا أو بحال لا يقدر أن يحج ، وهو قول ابن المبارك والشافعي . انتهى من سنن الترمذي .

    وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا وكيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم إلى آخر السند والمتن ، كما ذكرناه آنفا عند الترمذي . اهـ .

    وعن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت : إن أبي كبير ، وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ، ولا يستطيع أداءها فيجزئ عنه أن أؤديها عنه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " رواه أحمد والترمذي ، وصححه . انتهى منهما بواسطة نقل المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب .

    وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وحديث علي أخرجه أيضا البيهقي . اهـ . وقوله في هذا الحديث : وقد أفند ؛ أي : خرف وضعف عقله من الهرم .

    وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن يوسف بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب ، وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزئ أن أحج عنه ؟ قال " أنت أكبر ولده ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه ؟ قال : نعم . قال : فحج عنه " وفي لفظ للنسائي ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم ، قال : فدين الله أحق " وفي لفظ عند النسائي ، عن ابن عباس : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته ، فإن شددته خشيت أن يموت ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان عليه دين فقضيته ، أكان مجزئا ؟ قال : نعم . قال : فحج عن أبيك " . اهـ من سنن النسائي .

    وحديث ابن الزبير الذي ذكرناه آنفا عند النسائي قال المجد في المنتقى : رواه الإمام أحمد والنسائي بمعناه .

    وقال الشوكاني : قال الحافظ : إن إسناده صالح . انتهى . والأحاديث بمثل هذا كثيرة .

    [ ص: 322 ] وأما النوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره ، فهو من لا يقدر على الحج بنفسه ، وليس له مال يدفعه لمن يحج عنه ، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج والولد مستطيع ، فهل يجب الحج على الوالد ، ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره ؟ فيه خلاف بين أهل العلم .

    قال النووي في شرح المهذب : فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد ما لا يحج به غيره ، فوجد من يطيعه ; قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : لا يجب عليه ، وقد علمت أن مالكا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلا ، إلى آخر ما تقدم ، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح : أنه لا يحج أحد عن أحد ، ونحوه عن الليث ومالك ، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي ذكرنا ، وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب ، كتشبيهه بدين الآدمي ، وكقول السائل : يجزئ عنه أن أحج عنه ؟ والإجزاء دليل المطالبة ، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول : إن عليه فريضة الحج ، ويستأذن النبي في الحج عنه ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة ، وبقوله للولد " أنت أكبر ولده " وأمره بالحج عنه .

    وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالا فأوجبوا عليه الحج ، وبين وجوده ولدا يطيعه فلم يوجبوه عليه ; فلأن المال ملكه ، فعليه أن يستأجر به ، والولد مكلف آخر ليس ملزما بفرض على شخص آخر ، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن ، ولا بزاد وراحلة ، ولو وجد إنسانا غير الولد يطيعه في الحج عنه ، فهل يكون حكمه حكم الولد ؟ فيه خلاف معروف . وفي فروع الشافعية توجيه كل قول منها ، فانظره في النووي في شرح المهذب ، وأظهرها أنه كالولد .
    تنبيه

    إذا مات الشخص ، ولم يحج ، وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه أو بغيره عند من يقول بذلك ، وكان قد ترك مالا ، فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله ؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم ، فقال بعضهم : يجب أن يحج عنه ، ويعتمر عنه من تركته ، سواء مات مفرطا أو غير مفرط ; لكون الموت عاجله عن الحج فورا . وبهذا قال الشافعي وأحمد .

    [ ص: 323 ] قال ابن قدامة في المغني : وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي . وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت ، فإن أوصى بذلك ، فهو في الثلث ، وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية ، فتسقط بالموت كالصلاة ، واحتجوا أيضا بأن ظاهر القرآن كقوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] مقدم على ظاهر الأحاديث ، بل على صريحها ؛ لأنه أصح منها . وأجاب المخالفون بأن الأحاديث مخصصة لعموم القرآن ، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه ، بتقديم المال وأجرة من يحج عنه . فهذا من سعيه ، وأجابوا عن قياسه على الصلاة بأنها لا تدخلها النيابة ، بخلاف الحج ، والذين قالوا : يجب أن يحج عنه من رأس ماله استدلوا بأحاديث جاءت في ذلك ، تقتضي أن من مات وقد وجب عليه الحج قبل موته ، أنه يحج عنه .

    منها : ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : " نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " . اهـ .

    والحج في هذا الحديث وإن كان منذورا فإيجاب الله له على عباده في كتابه أقوى من إيجابه بالنذر . واستدل بالحديث المذكور بعض أهل العلم على صحة نذر الحج ممن لم يحج .

    قال ابن حجر في الفتح : فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام ، عند الجمهور ، وعليه الحج عن النذر . وقيل : يجزئ عن النذر ، ثم يحج حجة الإسلام . وقيل : يجزئ عنهما .

    وقال البخاري أيضا في كتاب الأيمان والنذور : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن أختي نذرت أن تحج ، وإنها ماتت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " . اهـ .

    وقال المجد في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري هذا : وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره ، حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا ؟ وشبهه بالدين . انتهى .

    [ ص: 324 ] وقد تقرر في الأصول : أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي : طلب التفصيل في أحوال الواقعة ، ينزل منزلة العموم القولي ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :


    ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال


    وخالف في هذا الأصل أبو حنيفة رحمه الله كما هو مقرر في الأصول ، مع بيان الخلاف في المسائل الفقهية ، تبعا للخلاف في هذا الأصل المذكور .

    ومنها : ما رواه النسائي في سننه ، أخبرنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس : أن امرأة نذرت أن تحج فماتت ، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ؟ فقال " أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : " فاقضوا الله ، فهو أحق بالوفاء " . انتهى .

    وهذه الأحاديث التي ذكرنا في نذر الحج ، وقد بينا أن إيجاب الله فريضة الحج أعظم من إيجابها بالنذر ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي ، وسنذكر أيضا إن شاء الله أحاديث ليس فيها نذر الحج .

    قال النسائي في سننه : أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي ، عن عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم . قال : " فدين الله أحق " . اهـ .

    ورجال هذا الإسناد ثقات معروفون ، لا كلام في أحد منهم ، إلا الحكم بن أبان العدني . وقد قال فيه ابن معين ، والنسائي : ثقة . وقال أبو زرعة : صالح . وقال العجلي : ثقة صاحب سنة . قال ابن عيينة : أتيت عدن ، فلم أر مثل الحكم بن أبان ، وعده ابن حبان في الثقات . وقال : ربما أخطأ . وإنما وقع المناكير في روايته ، من رواية ابنه إبراهيم عنه ، وإبراهيم ضعيف . وحكى ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير وابن المديني وأحمد بن حنبل . اهـ . وقال ابن عدي : فيه ضعف . وقال ابن خزيمة في صحيحه : تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره . وبما ذكر تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور ، وليس فيه نذر الحج .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •