تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 14 من 28 الأولىالأولى ... 456789101112131415161718192021222324 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 261 إلى 280 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #261
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (260)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 425 إلى صـ 430


    ومن صدقه في معاملته ربه : رضاه بأن يذبح ولده ، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه ، مع أن الولد فلذة من الكبد .

    [ ص: 425 ]
    لكنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
    قال تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا الآية [ 37 \ 103 - 105 ] .

    ومن صدقه في معاملته مع ربه : صبره على الإلقاء في النار ، كما قال تعالى : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] ، وقال : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الآية [ 29 \ 24 ] .

    وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله : هل لك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم ، فقال له : لم لا تسأله ؟ فقال : علمه بحالي كاف عن سؤالي .

    ومن صدقه في معاملته ربه : صبره على مفارقة الأهل والوطن فرارا بدينه ، كما قال تعالى : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي [ 29 \ 26 ] ، وقد هاجر من سواد العراق إلى دمشق : وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر ، بل زاد على ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذا وترك الكبير من الأصنام ، ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم : إن الذي فعل ذلك كبير الأصنام ، وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق ، كما قال تعالى عنه : وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [ 21 \ 57 - 67 ] ، وقال تعالى : فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 92 ] ، فقوله : فراغ عليهم ضربا باليمين ، أي : مال إلى الأصنام يضربها ضربا بيمينه حتى جعلها جذاذا ، أي : قطعا متكسرة من قولهم : جذه : إذا قطعه وكسره .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه كان صديقا ، أي : كثير الصدق ، يعرف [ ص: 426 ] منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى ، وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي ، وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة " الأنبياء " .

    وقوله تعالى عن إبراهيم : يا أبت ، التاء فيه عوض عن ياء المتكلم ، فالأصل : يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله :
    وفي الندا " أبت أمت " عرض واكسر أو افتح ومن الياء التا عوض


    وقوله تعالى في هذه الآية : لم تعبد أصله " ما " الاستفهامية ، فدخل عليها حرف الجر الذي هو " اللام " فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة :


    وما في الاستفهام إن جرت حذف ألفها وأولها الها إن تقف
    ومعلوم أن القراءة سنة متبعة لا تجوز بالقياس ، ولذا يوقف على " لم " بسكون الميم لا بهاء السكت كما في البيت ، ومعنى عبادته للشيطان في قوله : لا تعبد الشيطان طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي ، فذلك الشرك شرك طاعة ، كما قال تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ 36 \ 60 - 61 ] ، كما تقدم هذا المبحث مستوفى في سورة " الإسراء " وغيرها .

    والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان ، لقوله هنا : إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا [ 19 \ 45 ] ، والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا من ذلك في سورة الكهف وغيرها ، كقوله تعالى : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] ، وقوله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه الآية [ 3 \ 175 ] ، أي : يخوفكم أولياءه ، وقوله : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله الآية [ 7 \ 30 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم ، وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان ، كما قال تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [ 16 \ 63 ] ، ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان ، تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك [ 19 \ 43 ] ، [ ص: 427 ] يعني ما علمه الله من الوحي وما ألهمه وهو صغير ، كما قال تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [ 21 \ 51 ] ، ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم ، وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم ، كما قال تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء الآية [ 6 \ 83 ] ، وقال تعالى : وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني الآية [ 6 \ 80 ] ، وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة " الأنعام " لا ينافي ما ذكرنا ; لأن أصل المحاجة في شيء واحد ، وهو توحيد الله جل وعلا وإقامة الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلا هو وحده جل وعلا في سورة " الأنعام " وفي غيرها ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قال أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا

    بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين ، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان - خاطبه هذا الخطاب العنيف ، وسماه باسمه ولم يقل له " يا بني " في مقابلة قوله له " يا أبت " وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان ، أي : معرض عنها لا يريدها ; لأنه لا يعبد إلا ال له وحده جل وعلا ، وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه ) قيل بالحجارة وقيل باللسان شتما ( والأول أظهر ، ثم أمره بهجره مليا أي : زمانا طويلا ، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله : سلام عليك قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم ، كما قال تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقال تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة ، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم ، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم : [ ص: 428 ] لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ 21 \ 65 ] ، قال : أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [ 21 \ 67 ] ، فلما أفحمهم بهذه الحجة لجئوا إلى القوة ، كما قال تعالى عنهم : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] ، ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الآية [ 29 \ 24 ] ، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله : سلام عليك ، يعني : لا ينالك مني أذى ولا مكروه ، بل ستسلم مني فلا أوذيك ، وقوله : سأستغفر لك ربي ، وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له ، وقد وفى بذلك الوعد ، كما قال تعالى عنه : واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ 19 \ 47 ] ، وكما قال تعالى عنه : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب [ 14 \ 41 ] .

    ولكن الله لما بين له أنه عدو لله تبرأ منه ، ولم يستغفر له بعد ذلك ، كما قال تعالى : فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، وقد قال تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه [ 9 \ 114 ] ، والموعدة المذكورة هي قوله هنا : سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين ، واستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أنزل الله فيهم : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، ثم قال : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية [ 9 \ 114 ] ، وبين في سورة " الممتحنة " أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الأسوة بإبراهيم ، والأسوة الاقتداء ، وذلك في قوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - إلى قوله - إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك [ 60 \ 4 ] ، أي : فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك ، ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ 9 \ 113 ] ، بين الله تعالى أنهم معذورون في ذلك ; لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله ، وذلك في قوله : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] .

    وقوله في هذه الآية : أراغب أنت عن آلهتي ، يجوز فيه أن يكون " راغب " خبرا [ ص: 429 ] مقدما ، و " أنت " مبتدأ مؤخرا ، وأن يكون " أراغب " مبتدأ ، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين : الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير ، والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم ، الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو " أراغب " ، وبين معموله الذي هو " عن آلهتي " بما ليس بمعمول للعامل ; لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ ، بخلاف كون " أنت " فاعلا ، فإنه معمول " أراغب " فلم يفصل بين " أراغب " وبين " عن آلهتي " بأجنبي ، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره ، والرغبة عن الشيء : تركه عمدا للزهد فيه وعدم الحاجة إليه ، وقد قدمنا في سورة " النساء " الفرق بين قولهم : رغب عنه ، وقولهم : رغب فيه . في الكلام على قوله تعالى : وترغبون أن تنكحوهن الآية [ 4 \ 127 ] ، والتحقيق في قوله " مليا " أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل :


    فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
    وأصله واوي اللام ; لأنه من الملاوة وهي مدة العيش ، ومن ذلك قيل الليل والنهار الملوان ، ومنه قول ابن مقبل :


    ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلى الملوان
    وقول الآخر :


    نهار وليل دائم ملواهما على كل حال المرء يختلفان
    وقيل : الملوان في بيت ابن مقبل : طرفا النهار .

    وقوله : إنه كان بي حفيا ، أي : لطيفا بي ، كثير الإحسان إلي ، وجملة : واهجرني عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك ، وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :


    وإن شفائي عبرة إن سفحتها فهل عند رسم دارس من معول
    فجملة " وإن شفائي " خبرية ، وجملة " وهل عند رسم " . . . إلخ إنشائية معطوفة عليها .

    وقول الآخر أيضا :


    تناغي غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
    وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه ، وقال الزمخشري في الكشاف : فإن [ ص: 430 ] قلت : علام عطف واهجرني ؟ قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه " لأرجمنك " أي : فاحذرني واهجرني ; لأن لأرجمنك تهديد وتقريع . اهـ .
    قوله تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ، اعلم أن في قوله " مخلصا " قراءتين سبعيتين : قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام بصيغة اسم المفعول ، والمعنى على هذه القراءة أن الله استخلصه واصطفاه : ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي الآية [ 7 \ 144 ] ، ومما يماثل هذه القراءة في القرآن قوله تعالى : إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار [ 38 \ 46 ] ، فالذين أخلصهم الله هم المخلصون بفتح اللام ، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " مخلصا " بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل ، كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقوله تعالى :

    قل الله أعبد مخلصا له ديني الآية [ 39 \ 14 ] .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #262
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (261)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 431 إلى صـ 437



    قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى ذكره : ونادينا موسى من ناحية الجبل ، ويعني بالأيمن يمين موسى ; لأن الجبل لا يمين له ولا شمال ، وإنما ذلك كما يقال : قام عن يمين القبلة وعن شمالها ، وهذه القصة جاءت مبينة في مواضع متعددة من كتاب الله تعالى ، وذلك أن موسى لما قضى الأجل الذي بينه وبين صهره ، وسار بأهله راجعا من مدين إلى مصر آنس من جانب الطور نارا ، فذهب إلى تلك النار ليجد عندها من يدله على الطريق ، وليأتي بجذوة منها ليوقد بها النار لأهله ليصطلوا بها ، فناداه الله وأرسله إلى فرعون ، وشفعه في أخيه هارون فأرسله معه ، وأراه في ذلك الوقت معجزة العصا واليد ليستأنس بذلك قبل حضوره عند فرعون ; لأنه لما رأى العصا في المرة الأولى صارت ثعبانا ولى مدبرا ولم يعقب ، فلو فعل ذلك عندما انقلبت ثعبانا لما طالبه فرعون وقومه بآية ، لكان ذلك غير لائق ، ولأجل هذا مرن عليها في أول مرة ليكون مستأنسا غير خائف منها حين تصير ثعبانا مبينا قال تعالى في سورة " طه " : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 8 - 13 ] ، [ ص: 431 ] وقوله : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، هو معنى قوله في " طه " : فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك .

    وقوله : بقبس ، أي : شهاب ، بدليل قوله في " النمل " : أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ 20 \ 7 ] ، وذلك هو المراد بالجذوة في قوله : أو جذوة من النار [ 28 \ 29 ] ، وقوله : أو أجد على النار هدى [ 20 \ 10 ] ، أي : من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها ، لأنهم كانوا ضلوا الطريق ، والزمن زمن برد ، وقوله : آنست نارا [ 20 \ 10 ] ، أي : أبصرتها ، وقوله : فاخلع نعليك [ 20 \ 12 ] ، قال بعض العلماء : لأنهما كانتا من جلد حمار غير ذكي ، ويروى هذا عن كعب وعكرمة وقتادة ، نقله عنهم القرطبي وغيره ، وروي أيضا عن علي والحسن والزهري كما رواه عنهم صاحب الدر المنثور ، ونقله ابن كثير عن علي وأبي أيوب وغير واحد من السلف ، ويروى هذا القول عن غير من ذكر ، وجاء فيه حديث مرفوع من حديث عبد الله بن مسعود رواه الترمذي وغيره ولا يصح ، وفيه أقوال أخر للعلماء غير ذلك ، وأظهرها عندي والله تعالى أعلم : أن الله أمره بخلع نعليه - أي نزعهما من قدميه - ليعلمه التواضع لربه حين ناداه ، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم ، يستوجب من العبد كمال التواضع والخضوع ، والله تعالى أعلم .

    وقول من قال : إنه أمر بخلعهما احتراما للبقعة ، يدل له أنه أتبع أمره بخلعهما بقوله : إنك بالوادي المقدس طوى [ 20 \ 12 ] ، وقد تقرر في ) مسك الإيماء والتنبيه ( : أن " إن " من حروف التعليل ، وأظهر الأقوال في قوله " طوى " : أنه اسم للوادي ، فهو بدل من الوادي أو عطف بيان ، وفيه أقوال أخر غير ذلك .

    وقوله : وأنا اخترتك ، أي : اصطفيتك برسالتي ، كقوله : إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ 7 \ 144 ] ، ومعنى الاستعلاء في قوله : على النار ، أن المصطلين بالنار يستعلون المكان القريب منها ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الأعشى :

    تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق

    قال تعالى في سورة " النمل " : وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 27 \ 6 - 9 ] ، فقوله في " النمل " : فلما جاءها نودي [ 27 \ 8 ] ، [ ص: 432 ] هو معنى قوله في " مريم " : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، وقوله في " طه " : فلما أتاها نودي ياموسى [ 20 \ 11 ] ، وقوله : سآتيكم منها بخبر [ 27 \ 7 ] ، هو معنى قوله في " طه " : أو أجد على النار هدى [ 20 \ 10 ] ، أي : من يدلني على الطريق فيخبرني عنها فآتيكم بخبره عنها ، وقال تعالى في سورة " القصص " : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الآية [ 28 \ 29 - 30 ] .

    فالنداء في هذه الآية هو المذكور في " مريم " ، وطه ، والنمل " وقد بين هنا أنه نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ، فدلت الآيات على أن الشجرة التي رأى فيها النار عن يمين الجبل الذي هو الطور ، وفي يمين الوادي المقدس الذي هو طوى على القول بأن طوى اسم له ، وقد قدمنا قول ابن جرير : أن المراد يمين موسى ; لأن الجبل ومثله الوادي لا يمين له ولا شمال ، وقال ابن كثير في قوله : نودي من شاطئ الوادي الأيمن [ 28 \ 30 ] ، أي : من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ، كما قال تعالى : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر [ 28 \ 44 ] ، فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي عن يمينه . انتهى منه وهو معنى قوله : وناديناه من جانب الطور الأيمن الآية [ 19 \ 52 ] ، وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا الآية [ 28 \ 46 ] .

    والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له ، فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى ، ولا يعقل أنه كلام مخلوق ، ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة ، إذ لا يمكن أن يقول غير الله : إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 27 \ 9 ] ، ولا أن يقول : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ 20 \ 14 ] ، ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله ، كقول فرعون : أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] ، على سبيل فرض المحال فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب .

    فقوله : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ 20 \ 14 ] ، وقوله : إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 27 \ 9 ] ، صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك ، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام .

    [ ص: 433 ] وقوله تعالى : من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة [ 28 \ 30 ] ، قال الزمخشري في الكشاف : " من " الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي : أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة ، و من الشجرة بدل من قوله : من شاطئ الوادي بدل اشتمال ; لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، كقوله : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم [ 43 \ 33 ] .

    وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : نودي من شاطئ الوادي الأيمن الآية ، : قال المهدوي : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه ، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء . انتهى منه ، وشاطئ الوادي جانبه ، وقال بعض أهل العلم : معنى " الأيمن " في قوله : من شاطئ الوادي الأيمن ، وقوله : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، من اليمن وهو البركة ; لأن تلك البلاد بارك الله فيها ، وأكثر أهل العلم على أن النار التي رآها موسى " نور " وهو يظنها نارا ، وفي قصته أنه رأى النار تشتعل فيها وهي لا تزداد إلا خضرة وحسنا ، قيل هي شجرة عوسج ، وقيل شجرة عليق ، وقيل شجرة عناب ، وقيل سمرة ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى في سورة " النمل " : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها [ 27 \ 8 ] ، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ من في النار في هذه الآية في سورة " النمل " فقال بعضهم : هو الله جل وعلا ، وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب قالوا : بورك من في النار أي : تقدس الله وتعالى ، وقالوا : كان نور رب العالمين في الشجرة ، واستدل من قال بهذا القول بحديث أبي موسى الثابت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .

    قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن ، ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في النار التي في الشجرة ، سواء قلنا : إنها نار أو نور ، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله وتأويل ذلك بـ من في النار سلطانه وقدرته ، لا يصح ; لأن صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه لا يجوز إلا بدليل يجب الرجوع [ ص: 434 ] إليه من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم . وبه تعلم أن قول أبي حيان في " البحر المحيط " : قال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن وغيرهم : أراد بمن في النار : ذاته ، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى .

    وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف ، أي : بورك من قدرته وسلطانه في النار . انتهى ، أنه أصاب في تنزيهه لله عن تلك العبارات ، ولم يصب فيما ذكر من التأويل ، والله أعلم .

    وقال بعضهم : إن معنى بورك من في النار ، أي : بوركت النار لأنها نور ، وبعده عن ظاهر القرآن واضح كما ترى ، وقال بعضهم : أن بورك من في النار أي : بوركت الشجرة التي تتقد فيها النار ، وبعده عن ظاهر القرآن أيضا واضح كما ترى ، وإطلاق لفظة " من " على الشجرة وعلى ما في النار من أمر الله غير مستقيم في لغة العرب التي نزل بها القرآن العظيم كما ترى .

    1 تتمة القرطبي 13 \ 282 : ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال والزوال ، وما يشبه ذلك من صفة المخلوقين

    وأقرب الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم قول من قال : إن في النار التي هي نور ملائكة وحولها ملائكة وموسى ، وأن معنى : أن بورك من في النار ، أي : الملائكة الذين هم في ذلك النور ، ومن حولها ، أي : وبورك الملائكة الذين هم حولها ، وبورك موسى لأنه حولها معهم ، وممن يروى عنه هذا : السدي .

    وقال الزمخشري ) في الكشاف ( : ومعنى أن بورك من في النار ومن حولها ، بورك من في مكان النار ومن حول مكانها ، ومكانها البقعة التي حصلت فيها ، وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة [ 28 \ 30 ] ، وتدل عليه قراءة أبي " أن تباركت النار ومن حولها " ، وعنه " بوركت النار " .

    وقال القرطبي رحمه الله في قوله : أن بورك من في النار ، وهذا تحية من الله لموسى ، وتكرمة له كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا إليه قال : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، وقوله : من في النار نائب فاعل " بورك " والعرب تقول : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، فهي أربع لغات ، قال الشاعر :


    فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
    وقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية : [ ص: 435 ]
    ليت شعري مسافر بن أبي عم رو وليت يقولها المحزون
    بورك الميت الغريب كما بو رك نضر الريحان والزيتون
    وقال آخر :


    فبورك في بنيك وفي بنيهم إذا ذكروا ونحن لك الفداء
    والآيات في هذه القصة الدالة على أنه أراه آية اليد والعصا ليتمرن على ذلك قبل حضوره عند فرعون وقومه ، وأنه ولى مدبرا خوفا منها في المرة الأولى لما صارت ثعبانا جاءت في مواضع متعددة ، كقوله تعالى في سورة " طه " : قال ألقها ياموسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى [ 20 \ 19 - 22 ] ، فقوله : ولا تخف ، يدل على أنه فزع منها لما صارت ثعبانا مبينا ، كما جاء مبينا في " النمل والقصص " .

    وقوله في آية " طه " هذه من غير سوء [ 20 \ 22 ] ، أي : من غير برص ، وفيه ما يسميه البلاغيون احتراسا ، وكقوله تعالى في سورة " النمل " : ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء [ 27 \ 9 - 12 ] ، وقوله في " القصص " : وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 28 \ 31 - 32 ] ، والبرهانان المشار إليهما بقوله : فذانك برهانان ، هما اليد والعصا ، فلما تمرن موسى على البرهانين المذكورين ، وبلغ الرسالة هو وأخوه إلى فرعون وملئه طالبوه بآية تدل على صدقه فجاءهم بالبرهانين المذكورين ، ولم يخف من الثعبان الذي صارت العصا إياه كما قال تعالى : قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 26 \ 30 - 33 ] ، ونحوها من الآيات .

    وقوله في " النمل ، والقصص " : ولم يعقب ، أي : لم يرجع من فراره منها ، يقال : عقب الفارس إذا كر بعد الفرار ، ومنه قوله :

    [ ص: 436 ]
    فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] ، أي : قرب الله موسى في حال كونه نجيا ، أي : مناجيا لربه ، وإتيان الفعيل بمعنى الفاعل كثير كالقعيد والجليس ، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : روى ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان ، حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وقربناه نجيا ، قال : أدني حتى سمع صريف القلم .

    وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم ، يعنون صريف القلم بكتابة التوراة ، وقال السدي وقربناه نجيا ، قال : أدخل في السماء فكلم ، وعن مجاهد نحوه ، وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : وقربناه نجيا ، قال نجيا بصدقه . انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

    وقوله تعالى في طه : اشدد به أزري [ 20 \ 31 ] ، أي : قوني به ، والأزر : القوة ، وآزره ، أي : قواه ، وقوله في القصص : سنشد عضدك بأخيك [ 28 \ 35 ] ، أي : سنقويك به ، وذلك لأن العضد هو قوام اليد ، وبشدتها تشتد اليد ، قال طرفة :

    أبني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد وقوله : ردءا ، أي : معينا ; لأن الردء اسم لكل ما يعان به ، ويقال ردأته ، أي : أعنته .

    قوله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ، معنى الآية الكريمة : أن الله وهب لموسى نبوة هارون ، والمعنى أنه سأله ذلك فآتاه سؤله ، وهذا المعنى أوضحه تعالى في آيات أخر ، كقوله في سورة " طه " عنه : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري إلى قوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 29 - 36 ] ، وقوله في " القصص " : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 33 - 35 ] ، وقوله في سورة " الشعراء " : [ ص: 437 ] وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 10 - 16 ] ، فهذه الآيات تبين أنه سأل ربه أن يرسل معه أخاه ، فأجاب ربه جل وعلا سؤاله في ذلك ، وذلك يبين أن الهبة في قوله : ووهبنا ، هي في الحقيقة واقعة على رسالته لا على نفس هارون ; لأن هارون أكبر من موسى ، كما قاله أهل التاريخ .
    قوله تعالى : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ، أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يذكر في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم ) جده إسماعيل ( ، وأثنى عليه - أعني إسماعيل - بأنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ، ومما يبين من القرآن شدة صدقه في وعده : أنه وعد أباه بصبره له على ذبحه ثم وفى بهذا الوعد ، ومن وفى بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده ، قال تعالى : فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فهذا وعده .

    وقد بين تعالى وفاءه به في قوله : فلما أسلما وتله للجبين الآية [ 37 \ 103 ] ، والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل ، وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها ، وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة " الصافات " ، وثناؤه جل وعلا في هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه أعني مفهوم مخالفته أن إخلاف الوعد مذموم ، وهذا المفهوم قد جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى ، كقوله تعالى : فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون [ 9 \ 77 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وفي الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #263
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (262)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 438 إلى صـ 444




    وقوله تعالى في هذه الآية : وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة [ 19 \ 55 ] ، قد بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل ، كقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية [ 20 \ 132 ] ، ومعلوم أنه امتثل [ ص: 438 ] هذا الأمر ، وكقوله : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا الآية [ 66 \ 6 ] ، ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة ، إلى غير ذلك من الآيات .

    مسألة

    اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد ، فقال بعضهم : يلزم الوفاء به مطلقا ، وقال بعضهم : لا يلزم مطلقا ، وقال بعضهم : إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به ، وإلا فلا ، ومثاله ما لو قال له : تزوج ، فقال له : ليس عندي ما أصدق به الزوجة ، فقال : تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك ، فتزوج على هذا الأساس ، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق ، واحتج من قال يلزمه ، بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث ، فالآيات كقوله تعالى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود الآية [ 5 \ 1 ] ، وقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية [ 16 \ 91 ] ، وقوله هنا : إنه كان صادق الوعد الآية [ 19 \ 54 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    والأحاديث كحديث " العدة دين " فجعلها دينا دليل على لزومها ، قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس : " العدة دين ، رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ : قال : لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العدة دين " ورواه أبو نعيم عنه بلفظ : إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره بلفظ " عطية " ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا ، ورواه الطبراني والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ : العدة دين ، ويل لمن وعد ثم أخلف ، ويل له . " ثلاثا ، ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط ، والديلمي أيضا بلفظ : " الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد " أي : وعد الواعد ، وفي لفظ له " عدة المؤمن دين ، وعدة المؤمن كالأخذ باليد " ، وللطبراني في الأوسط عن قباث بن أشيم الليثي مرفوعا : " العدة عطية " .

    وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا : أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجد عنده ، فقالت : عدني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العدة عطية " ، وهو في مراسيل أبي داود ، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العدة عطية " ، وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، فقال : " ما عندي ما أعطيك " قال : في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه : وقد أفردته مع [ ص: 439 ] ما يلائمه بجزء . انتهى منه ، وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف .

    وقال شارحه المناوي : وفيه دارم بن قبيصة ، قال الذهبي : لا يعرف . اهـ . ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة ، وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود ، وقباث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما ، وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة ، دالة على الوفاء بالوعد .

    واحتج من قال بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع على أن من وعد رجلا بمال إذا أفلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء ، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد ، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر ، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ، وفيه مناقشة ، وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم ، وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم ، أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها ، فقد أضر به ، وليس للمسلم أن يضر بأخيه ، للحديث " لا ضرر ولا ضرار " .

    وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال مالك : إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة ، فيقول له نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل ، فما أرى يلزمه ، قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم ، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان .

    وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي وسائر الفقهاء : إن العدة لا يلزم منها شيء ; لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة ، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها ، وفي البخاري : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد [ 19 \ 54 ] ، وقضى ابن أشوع بالوعد ، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب ، قال البخاري : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع . انتهى كلام القرطبي ، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه ، هو قوله في آخر كتاب " الشهادات " : باب من أمر بإنجاز الوعد ، وفعله الحسن واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ، وقضى ابن أشوع بالوعد ، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر صهرا له ، قال وعدني فوفى لي ، قال أبو عبد الله : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا [ ص: 440 ] إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله : أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له : سألتك ماذا يأمركم ، فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، قال : وهذه صفة نبي .

    حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف " ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر : من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين ، أو كانت له قبله عدة فليأتنا ، قال جابر : فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا ، فبسط يديه ثلاث مرات ، قال جابر : فعد في يدي خمسمائة ، ثم خمسمائة ، ثم خمسمائة .

    حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير : قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس ، قال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . انتهى من صحيح البخاري ، وقوله في ترجمة الباب المذكور " وفعله الحسن " يعني الأمر بإنجاز الوعد ، ووجه احتجاجه بآية : إنه كان صادق الوعد ، أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله ، فلا يجوز ، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي ، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق ، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه ، وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع ، كما قاله ابن حجر في " الفتح " ، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد ، وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا ، وقد وعده برد ابنته زينب إليه ، وردها إليه ، خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه ، وقد ذكر البخاري في الباب المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد .

    الأول : حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح [ ص: 441 ] مشهور ، ووجه الدلالة منه في قوله : " فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة " فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة ، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة ، وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب .

    الثاني : حديث أبي هريرة في آية المنافق ، ومحل الدليل منه قوله " وإذا وعد أخلف " فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين .

    الثالث : حديث جابر في قصته مع أبي بكر ، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال : من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة . . . الحديث ، فجعل العدة كالدين ، وأنجز لجابر ما وعده النبي صلى الله عليه وسلم من المال ، فدل ذلك على الوجوب .

    الرابع : حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى ، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل ، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل ، وأن يفعلوا إذا قالوا ، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين .

    ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ; لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به ، وقال ابن حجر في " الفتح " في الكلام على ترجمة الباب المذكورة : قال المهلب : إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض ؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء . اهـ .

    ونقل الإجماع في ذلك مردود ، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل . وقال ابن عبد البر وابن العربي : أجل من قال به عمر بن العزيز . انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح ، وقال أيضا : وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة ، هل تملك بالقبض أو قبله .

    فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، وما استدل به كل فريق منهم فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم : أن إخلاف الوعد لا يجوز ، لكونه من علامات المنافقين ، ولأن الله يقول : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ، ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا ، بل يؤمر به ولا يجبر عليه ; لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به ; لأنه وعد بمعروف محض ، والعلم عند الله تعالى .

    [ ص: 442 ] ] قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، الإشارة في قوله : أولئك ، راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة ، وقد بين الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم ، وزاد على هذا في سورة " النساء " بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [ 4 \ 69 ] ، وبين في سورة الفاتحة : أن صراط الذين أنعم عليهم غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين في قوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 6 - 7 ] ، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : قال السدي وابن جرير رحمهما الله : فالذي عنى به من ذرية آدم : " إدريس " ، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح : " إبراهيم " ، والذي عنى به من ذرية إبراهيم : " إسحاق ويعقوب وإسماعيل " ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل : " موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم " ، قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم ; لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح .

    قلت : هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد قيل : إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذا من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح ، ولم يقل : والولد الصالح ، كما قال آدم وإبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام . انتهى الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

    وقال ابن كثير أيضا في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى : هؤلاء النبيون ، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط ، بل جنس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ، إلى أن قال في آخر كلامه : ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة " الأنعام " : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 83 - 90 ] ، اهـ ، [ ص: 443 ] وقد قال تعالى في صفة هؤلاء المذكورين في " الأنعام " : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ 6 \ 87 ] ، كما قال في صفة هؤلاء المذكورين في سورة " مريم " : وممن هدينا واجتبينا [ 19 \ 58 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا ، وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوص الأنبياء ، كقوله تعالى : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [ 17 \ 107 - 109 ] ، وقوله : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [ 5 \ 83 ] ، وقوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، وقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تأثرا عظيما ، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود ، ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود ، ونحو ذلك .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وبكيا ، جمع باك ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية من سورة " مريم " فسجد وقال : هذا السجود ، فأين البكي ؟ يريد البكاء ، وهذا الموضع من عزائم السجود بلا خلاف بين العلماء في ذلك .
    قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا .

    الضمير في قوله " من بعدهم " راجع إلى النبيين المذكورين في قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح الآية [ 19 \ 58 ] ، أي : فخلف من بعد أولئك النبيين خلف ، أي : أولاد سوء ، قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة " الأعراف " قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، والخلف بفتح اللام : البدل ، ولدا كان أو غريبا ، وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالسكون : الطالح ، قال لبيد :

    [ ص: 444 ]
    ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
    ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف ، ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلفا " ، فخلف في الذم بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، قال صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :


    لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
    وقال آخر :


    إنا وجدنا خلفا بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
    لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
    ويروى : خضف ، أي : ردم . انتهى منه ، و الردام : الضراط .

    ومعنى الآية الكريمة أن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة : أنهم أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، واختلف أهل العلم في المراد بإضاعتهم الصلاة ، فقال بعضهم : المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن مسعود ، والنخعي ، والقاسم بن مخيمرة ، ومجاهد ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن هذا القول هو الصحيح ، وقال بعضهم : إضاعتها الإخلال بشروطها ، وممن اختار هذا القول الزجاج ، وقال بعضهم : المراد بإضاعتها جحد وجوبها ، ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي ، وقيل : إضاعتها : إقامتها في غير الجماعات ، وقيل : إضاعتها : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع والأسباب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #264
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (263)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 445 إلى صـ 451





    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وكل هذه الأقوال تدخل في الآية ; لأن تأخيرها عن وقتها ، وعدم إقامتها في الجماعة ، والإخلال بشروطها ، وجحد وجوبها ، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها ، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت ، واختلف العلماء أيضا في الخلف المذكورين من هم ؟ فقيل : هم اليهود ، ويروى عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل : هم اليهود والنصارى ، ويروى عن السدي ، وقيل : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها ، يركب بعضهم بعضا في الأزقة زنى ، ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ، وقيل : إنهم أهل الغرب ، وفيهم [ ص: 445 ] أقوال أخر .

    قال مقيده عفا الله عنه : وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي ; لأن قوله تعالى : فخلف من بعدهم [ 19 \ 59 ] ، صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي ، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى ، والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية ، فأضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية ، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، وعن علي رضي الله عنه : من بنى المشيد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات .

    وقوله تعالى : فسوف يلقون غيا ، اعلم أولا أن العرب تطلق الغي على كل شر ، والرشاد على كل خير ، قال المرقش الأصغر :


    فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
    فقوله : " ومن يغو " يعني ومن يقع في شر ، والإطلاق المشهور هو أن الغي الضلال ، وفي المراد بقوله " غيا " في الآية أقوال متقاربة ، منها أن الكلام على حذف مضاف ، أي : فسوف يلقون جزاء غي ، ولا شك أنهم سيلقون جزاء ضلالهم ، وممن قال بهذا القول : الزجاج ، ونظير هذا التفسير قوله تعالى : يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، عند من يقول : إن معناه يلق مجازاة آثامه في الدنيا ، ويشبه هذا المعنى قوله تعالى : إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ، وقوله : أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار [ 2 \ 174 ] ، فأطلق النار على ما أكلوا في بطونهم في الدنيا من المال الحرام لأنها جزاؤه ، كما أطلق الغي والأثام على العذاب لأنه جزاؤهما ، ومنها أن الغي في الآية الخسران والحصول في الورطات ، وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس ، وابن زيد ، وروي عن ابن زيد أيضا " غيا " أي : شرا أو ضلالا أو خيبة ، وقال بعضهم : إن المراد بقوله " غيا " في الآية : واد في جهنم من قيح ; لأنه يسيل فيه قيح أهل النار وصديدهم ، وهو بعيد القعر خبيث الطعم ، وممن قال بهذا ابن مسعود ، والبراء بن عازب ، وروي عن عائشة ، وشفي بن ماتع .

    [ ص: 446 ] وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة وابن عباس ، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن غيا واد في جنهم " كما في حديث ابن عباس ، وفي حديث أبي أمامة : أن غيا ، وأثاما : نهران في أسفل جهنم ، يسيل فيهما صديد أهل النار ، والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي الذي أشرنا له آنفا ، ثم قال : هذا حديث غريب ورفعه منكر ، وقيل : إن المعنى : فسوف يلقون غيا ، أي : ضلالا في الآخرة عن طريق الجنة ، ذكره الزمخشري ، وفيه أقوال أخر ، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد ، وهو : أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذابا عظيما .

    فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة ، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم ، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون [ 107 \ 4 - 7 ] ، وقوله في ذم المنافقين : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ 4 \ 142 ] ، وقوله فيهم أيضا : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ 9 \ 54 ] ، وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات وتهديدهم ، كقوله تعالى : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ 47 \ 12 ] ، وقوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 46 - 47 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة ، ولا يتبعون الشهوات ، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، إلى قوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 23 \ 1 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله : [ ص: 447 ] وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 - 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

    المسألة الأولى : أجمع العلماء على أن تارك الصلاة الجاحد لوجوبها ، كافر ، وأنه يقتل كفرا ما لم يتب ، والظاهر أن ترك ما لا تصح الصلاة بدونه كالوضوء وغسل الجنابة كتركها ، وجحد وجوبه كجحد وجوبها .
    المسألة الثانية : اختلف العلماء في تارك صلاة عمدا تهاونا وتكاسلا مع اعترافه بوجوبها ، هل هو كافر أو مسلم ، وهل يقتل كفرا أو حدا أو لا يقتل ؟ فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كافر مرتد يستتاب ، فإن تاب فذلك ، وإن لم يتب قتل كفرا ، وممن قال بهذا : الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وبه قال ابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ، ومنصور الفقيه من الشافعية ، ويروى أيضا عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية ، وهو رواية ضعيفة عن مالك ، واحتج أهل هذا القول بأدلة ، منها قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم الآية [ 9 \ 11 ] ، ويفهم من مفهوم الآية : أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين ، ومن انتفت عنهم أخوة المؤمنين فهم من الكافرين ; لأن الله يقول : إنما المؤمنون إخوة الآية [ 49 \ 10 ] ، ومنها حديث جابر الثابت في صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين ، لفظ المتن في الأولى منهما : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " ، ولفظ المتن في الأخرى : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " انتهى منه ، وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر ; لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافرا ، ومنها حديث أم سلمة ، وحديث عوف بن مالك الآتيين الدالين على قتال الأمراء إذا لم يصلوا ، وهما في صحيح مسلم مع حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه ، قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله ، قال : " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " ، فدل مجموع الأحاديث المذكورة أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان ، وقد قدمنا هذه الأحاديث المذكورة في سورة " البقرة " ، وهذا من أقوى أدلة أهل هذا القول ، ومنها حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " العهد الذي [ ص: 448 ] بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " أخرجه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان والحاكم ، وقال الشوكاني في ) نيل الأوطار ( في هذا الحديث : صححه النسائي ، والعراقي ، وقال النووي في شرح ) المهذب ( : رواه الترمذي والنسائي ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال الحاكم في المستدرك بعد أن ساق هذا الحديث بإسناده : هذا حديث صحيح الإسناد ، لا تعرف له علة بوجه من الوجوه ، فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه ، واحتج مسلم بالحسين بن واقد ، ولم يخرجاه بهذا اللفظ ، ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا ، أخبرنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى ، حدثنا قيس بن أنيف ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن الجريري عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ، وأقره الذهبي على تصحيحه لحديث بريدة المذكور ، وقال في أثر ابن شقيق عن أبي هريرة المذكور : لم يتكلم عليه وإسناده صالح .

    قال مقيده عفا الله عنه : والظاهر أن قول الحافظ الذهبي رحمه الله " لم يتكلم عليه " سهو منه ; لأنه تكلم عليه في كلامه على حديث بريدة المذكور آنفا ، حيث قال : ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا ، يعني أثر ابن شقيق المذكور كما ترى ، وقال النووي في شرح المهذب : وعن عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي المتفق على جلالته : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ، رواه الترمذي في كتاب الإيمان بإسناد صحيح . انتهى منه ، وقد ذكر النووي رحمه الله في كلامه هذا الاتفاق على جلالة ابن شقيق المذكور مع أن فيه نصبا ، وقال المجد في المنتقى : وعن عبد الله بن شقيق العقيلي : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . إلى آخره ، ثم قال : رواه الترمذي . اهـ ، ولا يخفى عليك أن رواية الحاكم فيها أبو هريرة ورواية الترمذي ليس فيها أبو هريرة ، وحديث بريدة بن الحصيب ، وأثر ابن شقيق المذكوران فيهما الدلالة الواضحة على أن ترك الصلاة عمدا تهاونا كفر ، ولو أقر تاركها بوجوبها ، وبذلك يعتضد حديث جابر المذكور عند مسلم .

    ومن الأدلة الدالة على أن ترك الصلاة كفر ما رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ذكر الصلاة يوما فقال : " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن [ ص: 449 ] خلف " اهـ ، وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة ; لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة ، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى ، وقال الهيثمي في ) مجمع الزوائد ( في هذا الحديث : رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ، ورجال أحمد ثقات . اهـ . وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ، منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صالح للاحتجاج ، وذكر طرفا منها الهيثمي في مجمع الزوائد ، وفيما ذكرناه كفاية .

    وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن تارك الصلاة عمدا تهاونا وتكاسلا إذا كان معترفا بوجوبها غير كافر ، وأنه يقتل حدا - كالزاني المحصن - لا كفرا ، وهذا هو مذهب مالك وأصحابه ، وهو مذهب الشافعي وجمهور أصحابه ، وعزاه النووي في شرح المهذب للأكثرين من السلف والخلف ، وقال في شرح مسلم : ذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب ، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ، ولكنه يقتل بالسيف . اهـ .

    واعلم : أن هذا القول يحتاج إلى الدليل من جهتين ، وهما عدم كفره ، وأنه يقتل ، وهذه أدلتهم على الأمرين معا ، أما أدلتهم على أنه يقتل :

    فمنها قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ 9 \ 5 ] ، فإن الله تعالى في هذه الآية اشترط في تخلية سبيلهم إقامتهم الصلاة ، ويفهم من مفهوم الشرط أنهم إن لم يقيموها لم يخل سبيلهم وهو كذلك .

    ) ومنها ( ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " اهـ .

    فهذا الحديث الصحيح يدل على أنهم لا تعصم دماؤهم ولا أموالهم إلا بإقامة الصلاة كما ترى .

    ومنها : ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية فقسمها بين أربعة فقال رجل : يا رسول الله ، اتق الله ، فقال : " ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله " ؟ ثم ولى الرجل ، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ؟ فقال : " لا ، لعله أن [ ص: 450 ] يكون يصلي " فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم " مختصر من حديث متفق عليه ، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح " لا " يعني لا تقتله ، وتعليله ذلك بقوله " لعله أن يكون يصلي " فيه الدلالة الواضحة على النهي عن قتل المصلين ، ويفهم منه أنه إن لم يصل يقتل ، وهو كذلك .

    ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع " قالوا : يا رسول الله ، ألا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا " هذا لفظ مسلم في صحيحه ، و " ما " في قوله " ما صلوا " مصدرية ظرفية ، أي : لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون ، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا ، وهو كذلك ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه : " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " ، فحديث أم سلمة هذا ونحو حديث عوف بن مالك الآتي يدل على قتل من لم يصل ، وبضميمة حديث عبادة بن الصامت إلى ذلك يظهر الدليل على الكفر بترك الصلاة ; لأنه قال في حديث عبادة بن الصامت : " إلا أن تروا كفرا بواحا . " الحديث ، وأشار في حديث أم سلمة وعوف بن مالك : إلى أنهم إن تركوا الصلاة قوتلوا ، فدل ذلك على أن تركها من الكفر البواح ، وهذا من أقوى أدلة أهل القول الأول ، وحديث عوف بن مالك المذكور هو ما رواه مسلم في صحيحه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ : قال : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم " قيل : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : " لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة . " الحديث ، وفيه الدلالة الواضحة على قتالهم إذا لم يقيموا الصلاة كما ترى .

    ومن أدلة أهل هذا القول على قتل تارك الصلاة ، ما رواه الأئمة الثلاثة : مالك في موطئه ، والشافعي ، وأحمد في مسنديهما ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار : أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أليس يشهد ألا إله إلا الله " ؟ قال الأنصاري : بلى يا رسول الله ، ولا شهادة له ، قال : " أليس يشهد أن محمدا رسول الله " ؟ قال : بلى ولا شهادة له ، قال : " أليس يصلي " ؟ قال : بلى ولا صلاة له ، قال : " أولئك الذين نهاني [ ص: 451 ] الله عن قتلهم " اهـ . وفي رواية : عنهم .

    هذا هو خلاصة أدلة أهل هذا القول على قتل تارك الصلاة ، واعلم أن جمهور من قال بقتله يقولون إنه يقتل بالسيف ، وقال بعضهم : يضرب بالخشب حتى يموت ، وقال ابن سريج : ينخس بحديدة أو يضرب بخشبة ، ويقال له : صل وإلا قتلناك ، ولا يزال يكرر عليه حتى يصلي أو يموت .

    واختلفوا في استتابته ، فقال بعضهم : يستتاب ثلاثة أيام ، فإن تاب وإلا قتل ، وقال بعضهم : لا يستتاب ; لأنه يقتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة ، وقال بعضهم : إن لم يبق من الضروري إلا قدر ركعة ولم يصل قتل ، وبعضهم يقول : لا يقتل حتى يخرج وقتها ، والجمهور على أنه يقتل بترك صلاة واحدة ، وهو ظاهر الأدلة ، وقيل : لا يقتل حتى يترك أكثر من واحدة ، وعن الإمام أحمد روايتان : إحداهما أنه لا يقتل حتى يضيق وقت الصلاة الثانية المتروكة مع الأولى ، والأخرى : لا يقتل حتى يضيق وقت الرابعة .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر الأقوال عندي أنه يقتل بالسيف ، وأنه يستتاب ، للإجماع على قبول توبته إذا تاب ، والأظهر أنه يستتاب في الحال ، ولا يمهل ثلاثة أيام وهو يمتنع من الصلاة لظواهر النصوص المذكورة ، وأنه لا يقتل حتى لا يبقى من الوقت الضروري ما يسع ركعة بسجدتيها ، والعلم عند الله تعالى .

    وأما أدلة أهل هذا القول على عدم كفره ، فمنها قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] ، ومنها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز : أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ، فقال المخدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد ، فقال عبادة : كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #265
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (264)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 452 إلى صـ 458







    انتهى منه بلفظه ، وفي سنن أبي داود : حدثنا القعنبي عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن حبان ، إلى آخر الإسناد ، والمتن كلفظ الموطأ الذي ذكرنا ، وفي سنن النسائي : أخبرنا قتيبة عن مالك عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، إلى آخر الإسناد والمتن كاللفظ المذكور ، وفي سنن ابن ماجه : حدثنا محمد بن بشار ، ثنا ابن أبي عدي عن [ ص: 452 ] شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز عن المخدجي ، عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات افترضهن الله على عباده . . . " إلى آخر الحديث المذكور بمعناه قريبا من لفظه ، ومعلوم أن رجال هذه الأسانيد ثقات معروفون إلا المخدجي المذكور وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وبتوثيقه تعلم صحة الحديث المذكور ، وله شواهد يعتضد بها أيضا ، قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن حرب الواسطي ، ثنا يزيد يعني ابن هارون ، ثنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله الصنابحي قال : زعم أبو محمد : أن الوتر واجب ، فقال عبادة بن الصامت كذب أبو محمد ، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات افترضهن الله . " إلى آخر الحديث بمعناه ، وعبد الله الصنابحي المذكور قيل إنه صحابي مدني ، وقيل : هو عبد الرحمن بن عسيلة المرادي أبو عبد الله الصنابحي ، وهو ثقة من كبار التابعين ، قدم المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام ، مات في خلافة عبد الملك ، وعلى كلا التقديرين فرواية الصنابحي المذكور إما رواية صحابي أو تابعي ثقة ، وبها تعتضد رواية المخدجي المذكور ، ورجال سند أبي داود هذا غير عبد الله الصنابحي ثقات ، معروفون لا مطعن فيهم ، وبذلك تعلم صحة حديث عبادة بن الصامت المذكور .

    وقال الزرقاني ) في شرح الموطأ ( : وفيه يعني حديث عبادة المذكور أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتحتم عذابه ، بل هو تحت المشيئة بنص الحديث ، وقد أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من طريق مالك ، وصححه ابن حبان ، والحاكم ، وابن عبد البر ، وجاء من وجه آخر عن عبادة بنحوه في أبي داود ، والنسائي ، والبيهقي ، وله شاهد عند محمد بن نصر من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص . انتهى منه .

    وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه ، ومن حديث كعب بن عجرة عند أحمد ، ورواه أبو داود عن الصنابحي . انتهى محل الغرض منه .

    وقال النووي ) في شرح المهذب ( بعد أن ساق حديث عبادة بن الصامت المذكور : هذا حديث صحيح ، رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة ، وقال ابن عبد البر : هو حديث صحيح ثابت ، لم يختلف عن مالك فيه ، فإن قيل : كيف صححه ابن عبد البر مع أنه قال : إن المخدجي المذكور في سنده مجهول ؟ فالجواب عن هذا من جهتين : الأولى : أن [ ص: 453 ] صحته من قبيل الشواهد التي ذكرنا ، فإنها تصيره صحيحا ، والثانية هي ما قدمنا من توثيق ابن حبان المخدجي المذكور ، وحديث عبادة المذكور فيه الدلالة الواضحة على أن ترك الصلاة ليس بكفر ; لأن كونه تحت المشيئة المذكورة فيه ، دليل على عدم الكفر لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] .

    ومن أدلة أهل هذا القول على أن تارك الصلاة المقر بوجوبها غير كافر ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة ، فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع ، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك " اهـ .

    وقال الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : الحديث أخرجه أبو داود من ثلاث طرق : طريقين متصلين بأبي هريرة ، والطريقة الثالثة متصلة بتميم الداري ، وكلها لا مطعن فيها ، ولم يتكلم عليه هو ولا المنذري بما يوجب ضعفه ، وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان ، وأخرج الحديث الحاكم ) في المستدرك ( وقال : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وفي الباب عن تميم الداري عند أبي داود وابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة ، قال العراقي : وإسناده صحيح ، وأخرجه الحاكم ) في المستدرك ( وقال : إسناده صحيح على شرط مسلم . انتهى محل الغرض منه .

    ووجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمدا ، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى .

    وقال المجد ) في المنتقى ( بعد أن ساق الأدلة التي ذكرنا على عدم كفر تارك الصلاة المقر بوجوبها ، ما نصه : ويعضد هذا المذهب عمومات ، ومنها ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " متفق عليه ، وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفه على الرحل : " يا معاذ " ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ، ثلاثا ، ثم قال : " ما من عبد يشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله [ ص: 454 ] إلا حرمه الله على النار " ، قال : يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا ؟ قال : " إذا يتكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ، أي : خوفا من الإثم بترك الخبر به ، متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا " رواه مسلم ، وعنه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " رواه البخاري . انتهى محل الغرض منه .

    وقالت جماعة من أهل العلم ، منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه ، وجماعة من أهل الكوفة ، وسفيان الثوري ، والمزني صاحب الشافعي : إن تارك الصلاة عمدا تكاسلا وتهاونا مع إقراره بوجوبها لا يقتل ولا يكفر ، بل يعزر ويحبس حتى يصلي واحتجوا على عدم كفره بالأدلة التي ذكرنا آنفا لأهل القول الثاني ، واحتجوا لعدم قتله بأدلة ، منها حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في سورة " المائدة " وغيرها : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " ، قالوا : هذا حديث متفق عليه ، صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث ، ولم يذكر منها ترك الصلاة ، فدل ذلك على أنه غير موجب للقتل ، قالوا : والأدلة التي ذكرتم على قتله إنما دلت عليه بمفاهيمها أعني مفاهيم المخالفة كما تقدم إيضاحه ، وحديث ابن مسعود دل على ما ذكرنا بمنطوقه والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن المقرر في أصول الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أنه لا يعتبر المفهوم المعروف بدليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وعليه فإنه لا يعترف بدلالة الأحاديث المذكورة على قتله ; لأنها إنما دلت عليه بمفهوم مخالفتها ، وحديث ابن مسعود دل على ذلك بمنطوقه ، ومنها قياسهم ترك الصلاة على ترك الصوم والحج مثلا ، فإن كل واحد منهما من دعائم الإسلام ولم يقتل تاركها ، فكذلك الصلاة .

    أما الذين قالوا بأنه كافر وأنه يقتل ، فقد أجابوا عن حديث ابن مسعود بأنه عام يخصص بالأحاديث الدالة على قتل تارك الصلاة ، وعن قياسه على تارك الحج والصوم بأنه فاسد الاعتبار لمخالفته للأحاديث المذكورة الدالة على قتله ، وعن الأحاديث الدالة على عدم الكفر بأن منها ما هو عام يخصص بالأحاديث الدالة على كفره ، ومنها ما هو ليس كذلك كحديث عبادة بن الصامت الدال على أنه تحت المشيئة ، فالأحاديث الدالة [ ص: 455 ] على كفره مقدمة عليه ; لأنها أصح منه ; لأن بعضها في صحيح مسلم وفيه التصريح بكفره وشركه ، ومنها حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه ، مع حديث أم سلمة وعوف بن مالك في صحيح مسلم كما تقدم إيضاحه .

    ورد القائلون بأنه غير كافر أدلة مخالفيهم بأن المراد بالكفر في الأحاديث المذكورة كفر دون كفر ، وليس المراد الكفر المخرج عن ملة الإسلام ، واحتجوا لهذا بأحاديث كثيرة يصرح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر ، وليس مراده الخروج عن ملة الإسلام ، قال المجد ) في المنتقى ( : وقد حملوا أحاديث التكفير على كفر النعمة ، أو على معنى قد قارب الكفر وقد جاءت أحاديث في غير الصلاة أريد بها ذلك ، فروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " متفق عليه ، وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار " متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " رواه أحمد ومسلم ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان عمر يحلف : " وأبي " فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " من حلف بشيء دون الله فقد أشرك " رواه أحمد ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن " انتهى منه بلفظه ، وأمثاله في السنة كثيرة جدا ، ومن ذلك القبيل تسمية الرياء شركا ، ومنه الحديث الصحيح في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء " قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : " بكفرهن " قيل : يكفرن بالله ؟ قال : " يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط " هذا لفظ البخاري في بعض المواضع التي أخرج فيها الحديث المذكور ، وقد أطلق فيه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكفر عليهن ، فلما استفسروه عن ذلك تبين أن مراده غير الكفر المخرج عن ملة الإسلام .

    هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمدا مع الاعتراف بوجوبها ، وأظهر الأقوال أدلة عندي : قول من قال إنه كافر ، وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث قول الجمهور : إنه كفر غير مخرج عن الملة لوجوب الجمع بين الأدلة إذا أمكن ، وإذا حمل الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج عن الملة حصل بذلك الجمع بين الأدلة والجمع واجب إذا أمكن ; لأن [ ص: 456 ] إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث ، وقال النووي ) في شرح المهذب ( بعد أن ساق أدلة من قالوا إنه غير كافر ، ما نصه : ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويورثون عنه ولو كان كافرا لم يغفر له ولم يرث ولم يورث .

    وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة ، ورواية ابن شقيق فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو القتل ، وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها . انتهى محل الغرض منه .

    المسألة الثالثة

    أجمع العلماء على أن من نسي الصلاة أو نام عنها حتى خرج وقتها يجب عليه قضاؤها ، وقد دلت على ذلك أدلة صحيحة :

    ) منها ( ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " .

    ) ومنها ( ما رواه مسلم عن أنس أيضا مرفوعا : " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله عز وجل يقول : وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] .

    ومنها : ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله يقول : وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] .

    ومنها : ما رواه النسائي ، والترمذي وصححه ، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة ، فقال : " إنه ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط في اليقظة ، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " .

    ومنها : ما رواه مسلم ، والإمام أحمد ، عن أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر ، قال : ثم أذن بلال بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم .

    ومنها ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، وابن أبي شيبة ، والطبراني وغيرهم ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : سرينا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كان في آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس ، فجعل [ ص: 457 ] الرجل منا يقوم دهشا إلى طهوره ، ثم أمر بلالا فأذن ، ثم صلى الركعتين قبل الفجر ، ثم أقام فصلينا ، فقالوا : يا رسول الله ، ألا نعيدها في وقتها من الغد ؟ فقال : " أينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم " ؟ اهـ ، وأصل حديث عمران هذا في الصحيحين ، وليس فيهما ذكر الأذان والإقامة ، ولا قوله : فقالوا يا رسول الله ألا نعيدها إلى آخره .

    والحاصل أن قضاء النائم والناسي لا خلاف فيه بين العلماء ، وقد دلت عليه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكره .

    المسألة الرابعة

    اعلم أن التحقيق أنه يجب تقديم الصلوات الفوائت على الصلاة الحاضرة ، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ، قال يا رسول الله ، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها " فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب . اهـ .

    فهذا الحديث المتفق عليه فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر قضاء بعد غروب الشمس ، وقدمها على المغرب ، وهو نص صحيح صريح في تقديم الفائتة على الحاضرة ، والمقرر في الأصول : أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة من قرينة الوجوب وغيره تحمل على الوجوب ، لعموم النصوص الواردة بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، وللاحتياط في الخروج من عهدة التكليف .

    ومن أظهر الأدلة في ذلك أنه لما خلع نعله في الصلاة فخلع أصحابه نعالهم تأسيا به صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلموا أن جبريل أخبره أن بباطنها أذى ، وسألهم صلى الله عليه وسلم لم خلعوا نعالهم ؟ وأجابوا بأنهم رأوه خلع نعله - وهو فعل مجرد من قرائن الوجوب وغيره - أقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم ، فدل ذلك على لزوم التأسي به في أفعاله المجردة من القرائن ، والحديث وإن ضعفه بعضهم بالإرسال فقد رجح بعضهم وصله .

    والأدلة الكثيرة الدالة على وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة شاهدة له ، وإلى كون أفعاله صلى الله عليه وسلم المجردة من القرائن تحمل على الوجوب أشار في " مراقي السعود " في كتاب السنة بقوله :


    وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل
    [ ص: 458 ] وفي حمله على الوجوب مناقشات معروفة في الأصول ، انظرها في ) نشر البنود ( وغيره .

    ويعتضد ما ذكرنا من أن فعله المجرد الذي هو تقديم العصر الفائتة على المغرب الحاضرة يقتضي الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقال الحافظ في ) فتح الباري ( في استدلال البخاري على تقديم الأولى من الفوائت فالأولى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم المذكور ما نصه : ولا ينهض الاستدلال به لمن يقول بترتيب الفوائت ، إلا إذا قلنا : إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة للوجوب ، اللهم إلا أن يستدل له بعموم قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذا . انتهى منه .

    ونحن نقول : الأظهر أن الأفعال المجردة تقتضي الوجوب كما جزم به صاحب المراقي في البيت المذكور ، وكذلك عموم حديث : " صلوا كما رأيتموني أصلي " يقتضي ذلك أيضا ، والعلم عند الله تعالى .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #266
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (265)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 459 إلى صـ 465





    واعلم أنه إن تذكر فائتة في وقت حاضرة ضيق ، فقد اختلف العلماء : هل يقدم الفائتة وإن خرج وقت الحاضرة أو لا ؟ إلى ثلاثة مذاهب :

    الأول : أنه يقدم الفائتة وإن خرج وقت الحاضرة ، هو مذهب مالك وجل أصحابه .

    الثاني : أن يبدأ بالحاضرة محافظة على الوقت ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأكثر أصحاب الحديث .

    الثالث : أنه يخير في تقديم ما شاء منهما ، وهو قول أشهب من أصحاب مالك ، قال عياض : ومحل الخلاف إذا لم تكثر الصلوات الفوائت ، فأما إذا كثرت فلا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة ، واختلفوا في حد القليل في ذلك ، فقيل صلاة يوم ، وقيل أربع صلوات .
    المسألة الخامسة

    أما ترتيب الفوائت في أنفسها فأكثر أهل العلم على وجوبه مع الذكر لا مع النسيان ، وهو الأظهر . وقال الشافعي رحمه الله : لا يجب الترتيب فيها بل يندب ، وهو مروي عن طاوس والحسن البصري ومحمد بن الحسن وأبي ثور وداود .


    وقال بعض أهل العلم : الترتيب واجب مطلقا ، قلت الفوائت أم كثرت ، وبه قال أحمد وزفر ، وعن أحمد رحمه الله : لو نسي الفوائت صحت الصلوات التي صلى بعدها ، وقال أحمد وإسحاق : لو [ ص: 459 ] ذكر فائتة وهو في حاضرة تمم التي هو فيها ثم قضى الفائتة ، ثم يجب إعادة الحاضرة ، واحتج لهم بحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ، ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام " ، قال النووي في ) شرح المهذب ( وهذا حديث ضعيف ، ضعفه موسى بن هارون الحمال ) بالحاء ( الحافظ ، وقال أبو زرعة الرازي ، ثم البيهقي : الصحيح أنه موقوف .

    قال مقيده عفا الله عنه : والأظهر عندي وجوب ترتيب الفوائت في أنفسها الأولى فالأولى ، والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري ، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، قال النسائي في سننه : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا ابن أبي ذئب قال : حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عز وجل : وكفى الله المؤمنين القتال [ 33 \ 25 ] ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام العصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها . اهـ .

    فهذا الإسناد صحيح كما ترى ، ورجاله ثقات معروفون ، فعمرو بن علي هو أبو حفص الفلاس وهو ثقة حافظ ، ويحيى هو القطان وجلالته معروفة ، وكذلك ابن أبي ذئب جلالته معروفة ، وسعيد بن سعيد هو المقبري وهو ثقة ، وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ثقة ، فهذا إسناد صحيح كما ترى ، وفيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الفوائت في القضاء : الأولى فالأولى .

    وقد قدمنا أن أفعاله المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب على الأصح ، وأن ذلك يعتضد بحديث مالك بن الحويرث الثابت في الصحيح : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحديث أبي سعيد هذا أخرجه أيضا الإمام أحمد ، قال الشوكاني في ) نيل الأوطار ( : ورجال إسناده رجال الصحيح ، وقال الشوكاني أيضا عن ابن سيد الناس اليعمري : إن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي : حدثنا ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه ، قال . وهذا إسناد صحيح جليل . اهـ .

    وقال النسائي في سننه : أخبرنا هناد عن هشيم ، عن أبي الزبير ، عن نافع بن جبير ، عن أبي عبيدة ، قال : قال عبد الله : إن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم [ ص: 460 ] الخندق ، فأمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء . اهـ .

    أخبرنا القاسم بن زكريا بن دينار قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال : حدثنا هشام : أن أبا الزبير المكي حدثهم عن نافع بن جبير : أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود حدثهم أن عبد الله بن مسعود قال : كنا في غزوة فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فأقام لصلاة الظهر فصلينا ، وأقام لصلاة العصر فصلينا ، وأقام لصلاة المغرب فصلينا ، وأقام لصلاة العشاء فصلينا ، ثم طاف علينا فقال : " ما على الأرض عصابة يذكرون الله عز وجل غيركم " اهـ ، وحديث ابن مسعود هذا أخرجه الترمذي أيضا ، قال الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : إن إسناده لا بأس به .

    قال مقيده عفا الله عنه : والظاهر أن إسناد حديث ابن مسعود هذا لا يخلو من ضعف ; لأن راويه عنه ابنه أبو عبيدة ، وروايته عنه مرسلة لأنه لم يسمع منه ، ولكن هذا المرسل يعتضد بحديث أبي سعيد الذي قدمنا آنفا أنه صحيح ، ومن يحتج من العلماء بالمرسل يحتج به ولو لم يعتضد بغيره .

    واعلم أن حديث أبي سعيد وابن مسعود المذكورين لا يعارضهما ما في الصحيحين من كونهم شغلوهم عن العصر وحدها ; لأن ما فيهما زيادة ، وزيادة العدول مقبولة ) ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ( وبه تعلم أن ما ذكره ابن العربي من تقديم ما في الصحيحين على الزيادة التي في حديث أبي سعيد وابن مسعود خلاف التحقيق .

    تنبيه

    اعلم أن الأئمة الأربعة وأصحابهم وجماهير فقهاء الأمصار على أن من نسي صلاة أو نام عنها قضاها وحدها ولا تلزمه زيادة صلاة أخرى ، قال البخاري في صحيحه : ) باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة ( وقال إبراهيم : من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة ، حدثنا أبو نعيم ، وموسى بن إسماعيل قالا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " ، وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] ، قال موسى : قال همام : سمعته يقول بعد وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] ، وقال همام ، حدثنا قتادة ، [ ص: 461 ] حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه اهـ .

    وقال في ) فتح الباري ( في الكلام على هذا الحديث وترجمته : قال علي بن المنير : صرح البخاري بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه لقوة دليله ، ولكنه على وفق القياس ، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر ، فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به ، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب ، لقول الشارع " فليصلها " ولم يذكر زيادة ، وقال أيضا : " لا كفارة لها إلا ذلك " فاستفيد من هذا الحصر أن لا يجب غير إعادتها ، وذهب مالك إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها فإنه يصلي التي ذكر ، ثم يصلي التي كان صلاها مراعاة للترتيب . انتهى منه ، فإن قيل : جاء في صحيح مسلم في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح حتى ضربتهم الشمس ما نصه : ثم قال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها ، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " اهـ .

    فقوله في هذا الحديث : فإذا كان الغد . . . إلخ يدل على أنه يقضي الفائتة مرتين : الأولى عند ذكرها ، والثانية : عند دخول وقتها من الغد ؟ فالجواب ما ذكره النووي في شرحه للحديث المذكور قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " فمعناه أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل ، بل يبقى كما كان ، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ولا يتحول ، وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين : مرة في الحال ، ومرة في الغد ، وإنما معناه ما قدمناه ، فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث ، وقد اضطربت أقوال العلماء فيه ، واختار المحققون ما ذكرته ، والله أعلم . انتهى منه ، وهذا الذي فسر به هذه الرواية هو الذي يظهر لنا صوابه والعلم عند الله تعالى .

    ولكن جاء في سنن أبي داود في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة النوم عن الصلاة المذكورة ما نصه : " فمن أدرك منكم صلاة الغد من غد صالحا فليقض معها مثلها " اهـ ، وهذا اللفظ صريح في أنه يقضي الفائتة مرتين ، ولا يحتمل المعنى الذي فسر به النووي وغيره لفظ رواية مسلم .

    وللعلماء عن هذه الرواية أجوبة ، قال ابن حجر في ( فتح الباري ) بعد أن أشار إلى رواية أبي داود المذكورة ما نصه : قال الخطابي : لا أعلم أحدا قال بظاهره وجوبا ، قال : ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب ليحوز فضيلة الوقت في القضاء . انتهى ، ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضا ، بل عدوا الحديث غلطا من راويه ، حكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري ، ويؤيده ما رواه [ ص: 462 ] النسائي من حديث عمران بن حصين أنهم قالوا : يا رسول الله ، ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم " . انتهى كلام صاحب الفتح ، وحديث عمران المذكور قد قدمناه وذكرنا من أخرجه ، والعلم عند الله تعالى .

    المسألة السادسة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في من ترك الصلاة عمدا تكاسلا حتى خرج وقتها وهو معترف بوجوبها ، هل يجب عليه قضاؤها أو لا يجب عليه ، فقد قدمنا خلاف العلماء في كفره ، فعلى القول بأنه كافر مرتد يجري على الخلاف في المرتد ، هل يجب عليه قضاء ما فاته في زمن ردته أو لا يجب عليه .

    واعلم أولا : أن الكافر تارة يكون كافرا أصليا لم يسبق عليه إسلام ، وتارة يكون كافرا بالردة عن دين الإسلام بعد أن كان مسلما .

    أما الكافر الأصلي فلا يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين ; لأن الله تعالى يقول : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقد أسلم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير فلم يأمر أحدا منهم بقضاء شيء فائت في كفره .

    وأما المرتد ففيه خلاف بين العلماء معروف ، قال بعض أهل العلم : لا يلزمه قضاء ما تركه في زمن ردته ، ولا في زمن إسلامه قبل ردته ; لأن الردة تحبط جميع عمله وتجعله كالكافر الأصلي عياذا بالله تعالى ، وإن كان قد حج حجة الإسلام أبطلتها ردته على هذا القول ، فعليه إعادتها إذا رجع إلى الإسلام ، وتمسك من قال بهذا بظاهر قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين [ 5 \ 5 ] ، وقال بعض أهل العلم : يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في زمن ردته وزمن إسلامه قبل ردته ، ولا تجب عليه إعادة حجة الإسلام ; لأن الردة لم تبطلها ، واحتج من قال بهذا بقوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية [ 2 \ 217 ] ، فجعل الموت على الكفر شرطا في حبوط العمل ، وبالأول قال مالك ومن وافقه ، وبالثاني قال الشافعي ومن وافقه ، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن قول الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة أجرى على الأصول ، لوجوب [ ص: 463 ] حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا .

    وأما على قول الجمهور بأنه غير كافر فقد اختلفوا أيضا في وجوب القضاء عليه .

    اعلم أولا أن علماء الأصول اختلفوا في الأمر بالعبادة المؤقتة بوقت معين ، هل هو يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج وقتها من غير احتياج إلى أمر جديد بالقضاء أو لا يستلزم القضاء بعد خروج الوقت ، ولا بد للقضاء من أمر جديد ، فذهب أبو بكر الرازي من الحنفية وفاقا لجمهور الحنفية إلى أن الأمر بالعبادة الموقتة يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت من غير احتياج إلى أمر جديد ، واستدلوا لذلك بقاعدة هي قولهم : الأمر بالمركب أمر بكل جزء من أجزائه ، فإذا تعذر بعض الأجزاء لزم فعل بعضها الذي لم يتعذر ، فالأمر بالعبادة الموقتة كالصلوات الخمس أمر بمركب من شيئين : الأول منهما : فعل العبادة ، والثاني : كونها مقترنة بالوقت المعين لها ، فإذا خرج الوقت تعذر أحدهما وهو الاقتران بالوقت المعين ، وبقي الآخر غير متعذر وهو فعل العبادة ، فيلزم من الأمر الأول فعل الجزء المقدور عليه ; لأن الأمر بالمركب أمر بأجزائه .

    وهذا القول صدر به ابن قدامة في ) روضة الناظر ( وعزاه هو والغزالي في ) المستصفى ( إلى بعض الفقهاء .

    وذهب جمهور أهل الأصول إلى أن الأمر بالعبادة المؤقتة لا يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت واستدلوا لذلك بقاعدة ، وهي ) أن تخصيص العبادة بوقت معين دون غيره من الأوقات لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت دون غيره ، إذ لو كانت المصلحة في غيره من الأوقات لما كان لتخصيصه دونها فائدة ( ، قالوا : فتخصيصه الصلوات بأوقاتها المعينة ، والصوم برمضان مثله كتخصيص الحج بعرفات ، والزكاة بالمساكين والصلاة بالقبلة ، والقتل بالكافر ، ونحو ذلك .

    واعلم أن الذين قالوا : إن الأمر لا يستلزم القضاء - وهم الجمهور - اختلفوا في إعادة الصلاة المتروكة عمدا على قولهم : إن تاركها غير كافر ، فذهب جمهورهم إلى وجوب إعادتها ، قالوا : نحن نقول : إن القضاء لا بد له من أمر جديد ، ولكن الصلاة المتروكة عمدا جاءت على قضائها أدلة ، منها : قياس العامد على الناسي والنائم المنصوص على وجوب القضاء عليهما ، قالوا : فإذا وجب القضاء على النائم والناسي فهو واجب على العامد من باب أولى ، وقال النووي في شرح المهذب : ومما يدل على وجوب القضاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في نهار [ ص: 464 ] رمضان أن يصوم يوما مع الكفارة ، أي : بدل اليوم الذي أفسده بالجماع عمدا ، رواه البيهقي بإسناد جيد ، وروى أبو داود نحوه . انتهى كلام النووي .

    ومن أقوى الأدلة على وجوب القضاء على التارك عمدا عموم الحديث الصحيح الذي قدمناه في سورة " الإسراء " الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " فدين الله أحق أن يقضى " ، فقوله : " دين الله " اسم جنس مضاف إلى معرفة فهو عام في كل دين ، كقوله : وإن تعدوا نعمة الله الآية [ 14 \ 34 ] ، فهو عام في كل نعمة ، ولا شك أن الصلاة المتروكة عمدا دين الله في ذمة تاركها ، فدل عموم الحديث على أنها حقيقة جديرة بأن تقضى ، ولا معارض لهذا العموم .

    وقال بعض أهل العلم : ليس على التارك للصلاة عمدا قضاء ; لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولم يأت أمر جديد بقضاء التارك عمدا ، وممن قال بهذا ابن حزم واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :

    والأمر لا يستلزم القضاء بل هو بالأمر الجديد جاء لأنه في زمن معين يجي لما عليه من نفع بني وخالف الرازي إذ المركب لكل جزء حكمه ينسحب

    تنبيه

    سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة أنها تجاذبها أصلان مختلفان ، فنظرت كل طائفة إلى أحد الأصلين المختلفين :

    أحدهما : الأمر بالمركب أمر بأجزائه ، وإليه نظر الحنفية ومن وافقهم .

    والثاني : الأمر بالعبادة في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بالوقت المذكور ، وإليه نظر الجمهور ، ومثل هذا من الأشياء التي تكون سببا للاختلاف في المسألة كما أشار له الشيخ ميارة في التكميل ، بقوله :

    وإن يكن في الفرع تقريران بالمنع والجواز فالقولان

    قوله تعالى : جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه وعد عباده المؤمنين المطيعين جنات عدن ، ثم بين أن وعده مأتي ، بمعنى أنهم يأتونه وينالون ما وعدوا به ; لأنه جل وعلا لا يخلف [ ص: 465 ] الميعاد ، وأشار لهذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وعد الله لا يخلف الله وعده الآية [ 30 \ 6 ] ، وقوله : إن الله لا يخلف الميعاد [ 13 \ 31 ] ، وقوله : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم الآية [ 3 \ 193 - 194 ] ، وقوله تعالى : إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا [ 17 \ 107 - 108 ] ، وقوله تعالى : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقوله تعالى : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا [ 25 \ 15 - 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله : مأتيا ، اسم مفعول " أتاه " : إذا جاءه ، والمعنى : أنهم لا بد أن يأتون ما وعدوا به ، خلافا لمن زعم أن مأتيا ، صيغة مفعول أريد بها الفاعل ، أي : كان وعده آتيا ، إذ لا داعي لهذا مع وضوح ظاهر الآية .
    تنبيه

    مثل بعض علماء البلاغة بهذه الآية لنوع من أنواع البدل ، وهو بدل الكل من البعض ، قالوا : جنات عدن [ 19 \ 61 ] ، بدل من الجنة في قوله : فأولئك يدخلون الجنة [ 19 \ 60 ] ، بدل كل من بعض .

    قالوا : ومن أمثلة بدل الكل من البعض قوله :


    رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات
    فـ " طلحة " بدل من قوله " أعظما " بدل كل من بعض ، وعليه فأقسام البدل ستة : بدل الشيء من الشيء ، وبدل البعض من الكل ، وبدل الكل من البعض ، وبدل الاشتمال ، وبدل البداء ، وبدل الغلط .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #267
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (266)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 466 إلى صـ 472





    قال مقيده عفا الله عنه : ولا يتعين عندي في الآية والبيت كون البدل بدل كل من بعض ، بل يجوز أن يكون بدل الشيء من الشيء ; لأن الألف واللام في قوله : فأولئك يدخلون الجنة للجنس ، وإذا كان للجنس جاز أن يراد بها جميع الجنات ، فيكون قوله : جنات عدن ، بدلا من الجنة بدل الشيء من الشيء ; لأن المراد [ ص: 466 ] بالأول الجمع كما تقدم كثير من أمثلة ذلك ، والأعظم في البيت كناية عن الشخص ، " فطلحة " بدل منه ، بدل الشيء من الشيء ، لأنهم لم يدفنوا الأعظم وحدها ، بل دفنوا الشخص المذكور جميعه ، أعظمه وغيرها من بدنه ، وعبر هو عنه بالأعظم .

    قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم لا يسمعون فيها [ 19 \ 62 ] ، أي : في الجنات المذكورة لغوا ، أي : كلاما تافها ساقطا كما يسمع في الدنيا ، واللغو : هو فضول الكلام ، وما لا طائل تحته ، ويدخل فيه فحش الكلام وباطله ، ومنه قول رؤبة ، وقيل العجاج :


    ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
    كما تقدم في سورة " المائدة " .

    والظاهر أن قوله : إلا سلاما ، استثناء منقطع ، أي : لكن يسمعون فيها سلاما ، لأنهم يسلم بعضهم على بعض ، وتسلم عليهم الملائكة ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : تحيتهم فيها سلام الآية [ 14 \ 23 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم الآية [ 13 \ 23 - 24 ] ، كما تقدم مستوفى .

    وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضا كقوله في " الواقعة " : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما [ 56 \ 25 - 26 ] ، وقد جاء الاستثناء المنقطع في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن الآية [ 4 \ 157 ] : وقوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ 92 \ 19 - 20 ] ، وقوله : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [ 44 \ 56 ] ، وكقوله : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم الآية [ 4 \ 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة ، ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان :


    وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد
    إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
    فالأواري التي هي مرابط الخيل ليست من جنس " الأحد " .

    وقول الفرزدق :

    [ ص: 467 ]
    وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله
    وقول جران العود :


    وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
    " فالسنان " ليس من جنس " الخاطب " و " اليعافير والعيس " ليس واحد منهما من جنس " الأنيس " .

    وقول ضرار بن الأزور :


    أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ولله بالعبد المجاهد أعلم
    عشية لا تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرقي المصمم
    وبهذا الذي ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصوليين خلافا للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين : بأن الاستثناء المنقطع لا يصح ; لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ ، وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلا حتى يخرج بالاستثناء .

    تنبيهات

    الأول : اعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل ، وإن اختل واحد منهما فهو منقطع : الأول أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، نحو : جاء القوم إلا زيدا ، فإن كان من غير جنسه فهو منقطع ، نحو : جاء القوم إلا حمارا ، والثاني : أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه ، ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس ، ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه ، فقوله تعالى : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [ 44 \ 56 ] ، استثناء منقطع على التحقيق ، مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه ، وكذلك قوله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] ، وإنما كان منقطعا في الآيتين ; لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه ، فنقيض : لا يذوقون فيها الموت إلا ، هو : يذوقون فيها الموت ، وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا ، ونقيض [ ص: 468 ] لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى .

    فتحصل أن انقطاع الاستثناء قسمان : أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه ، كقولك : رأيت أخويك إلا ثوبا ، الثاني : بالحكم بغير النقيض ، نحو : رأيت أخويك إلا زيدا لم يسافر .

    التنبيه الثاني

    اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية ، فلو أقر رجل لآخر فقال له : علي ألف دينار إلا ثوبا ، فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله " إلا ثوبا " لغوا وتلزمه الألف كاملة ، وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله " إلا ثوبا " وتسقط قيمة الثوب من الألف ، والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على قولين : أحدهما : أنه مجاز ، وأنه أطلق الثوب وأراد قيمته ، والثاني : أن فيه إضمارا ، أي : حذف مضاف ، يعني : إلا قيمة ثوب ، فمن قال يقدم المجاز على الإضمار قال " إلا ثوبا " مجاز ، أطلق الثوب وأراد القيمة ، كإطلاق الدم على الدية ، ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال " إلا ثوبا " ، أي : إلا قيمة ثوب ، واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله :


    وبعد تخصيص مجاز يلي الإضمار فالنقل على المعول
    ومعنى البيت : أن المقدم عندهم التخصيص ، ثم المجاز ، ثم الإضمار ، ثم النقل ، مثال تقديم التخصيص على المجاز إذا احتمل اللفظ كل واحد منهما قوله تعالى : فاقتلوا المشركين [ 9 \ 5 ] ، يحتمل التخصيص ; لأن بعض المشركين كالذميين والمعاهدين أخرجهم دليل مخصص لعموم المشركين ، ويحتمل عند القائلين بالمجاز أنه مجاز مرسل ، أطلق فيه الكل وأراد البعض ، فيقدم التخصيص لأمرين : أحدهما أن اللفظ يبقى حقيقة في ما لم يخرجه المخصص ، والحقيقة مقدمة على المجاز .

    الثاني أن اللفظ يبقى مستصحبا في الأفراد الباقية بعد التخصيص من غير احتياج إلى قرينة ، ومثال تقديم المجاز على الإضمار عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما ، قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنا : أنت أبي ، يحتمل أنه مجاز مرسل ، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ، أي : أنت عتيق ; لأن الأبوة يلزمها العتق ، ويحتمل الإضمار ، أي : أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم ، فعلى الأول يعتق ، وعلى الثاني : لا يعتق ، ومن أمثلته المسألة التي [ ص: 469 ] نحن بصددها ، ومثال تقديم الإضمار على النقل عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما : قوله تعالى : وحرم الربا [ 2 \ 275 ] ، يحتمل الإضمار ، أي : أخذ الربا وهو الزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلا ، وعلى هذا لو حذف الدرهم الزائد لصح البيع في الدرهم بالدرهم ، ويحتمل نقل الربا إلى معنى العقد ، فيمتنع عقد بيع الدرهم بالدرهمين ، ولو حذف الزائد فلا بد من عقد جديد مطلقا .

    قال مقيده عفا الله عنه : وعلى هذين الوجهين اللذين ذكروهما في : " له علي ألف دينار إلا ثوبا " ، وهما الإضمار والنقل يرجع الاستثناء إلى كونه متصلا ; لأن قيمة الثوب من جنس الألف التي أقر بها ، سواء قلنا إن القيمة مضمرة ، أو قلنا إنها معبر عنها بلفظ الثوب .

    التنبيه الثالث

    اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي ; لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية ، وإنما قالوا : إنه ليس من الاستثناء الحقيقي ; لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى " لكن " فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاستثناء ، وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول : إن الثوب في المثال المتقدم لغو ، ويعد ندما من المقر بالألف ، والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به ، قيل إنها نسبة تواطؤ ، وقيل : إنها من قبيل الاشتراك ، وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود ، بقوله :


    والحكم بالنقيض للحكم حصل لما عليه الحكم قبل متصل وغيره منقطع ورجحا
    جوازه وهو مجاز أوضحا فلتنم ثوابا بعد ألف درهم
    للحذف والمجاز أو للندم وقيل بالحذف لدى الإقرار
    والعقد معنى الواو فيه جار بشركة وبالتواطي قال
    بعض وأوجب فيه الاتصالا

    وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] ، منقطع ، هو الظاهر ، وقيل : هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كقول نابغة ذبيان :


    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
    [ ص: 470 ] وقول الآخر :


    فما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل
    وعلى هذا القول فالآية كقوله : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا الآية [ 7 \ 126 ] ، وقوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، كما تقدم مستوفى في سورة " براءة " .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فيه سؤال معروف ، وهو أن يقال : ما وجه ذكر البكرة والعشي ، مع أن الجنة ضياء دائم ولا ليل فيها ، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة :

    الأول : أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن ، كقوله : غدوها شهر ورواحها شهر [ 34 \ 12 ] ، أي : قدر شهر ، وروي معنى هذا عن ابن عباس ، وابن جريج وغيرهما .

    الجواب الثاني : أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداء وعشاء فذلك الناعم ، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك ، ويروى هذا عن قتادة ، والحسن ، ويحيى بن أبي كثير .

    الجواب الثالث : أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي ، والمساء والصباح ، كما يقول الرجل : أنا عند فلان صباحا ومساء ، وبكرة وعشيا ، يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين .

    الجواب الرابع : أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم ، والعشي : هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم ; لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال ، وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول .

    الجواب الخامس : هو ما رواه الترمذي الحكيم في ) نوادر الأصول ( من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة ، قالا : قال رجل : يا رسول الله ، هل في الجنة من ليل ؟ قال : " وما يهيجك على هذا " ؟ قال : سمعت الله تعالى يذكر : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فقلت : الليل بين البكرة والعشي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هناك ليل ، إنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو ، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة " . انتهى [ ص: 471 ] بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره ، وقال القرطبي بعد أن نقل هذا : وهذا في غاية البيان لمعنى الآية ، وقد ذكرناه في كتاب ) التذكرة ( ، ثم قال : وقال العلماءليس في الجنة ليل ولا نهار ، وإنما هم في نور أبدا ، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب ، وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ، وفتح الأبواب ، ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما . انتهى منه ، وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الجواب الأول ، والعلم عند الله تعالى . \ 50

    قوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ، الإشارة في قوله : تلك [ 19 \ 63 ] ، إلى ما تقدم من قوله : فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب الآية ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين من عباده جنته ، وقد بين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 23 \ 1 - 11 ] ، وقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الآيات [ 3 \ 133 ] ، وقوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا الآية [ 39 \ 71 ] ، وقوله : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    ومعنى إيراثهم الجنة : الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكمل نعيم وسرور ، قال الزمخشري في ) الكشاف ( : نورث أي : نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث ، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم ، وثمرتها باقية وهي الجنة ، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى ، وقال بعض أهل العلم : معنى إيراثهم الجنة أن الله تعالى خلق لكل نفس منزلا في الجنة ، ومنزلا في النار ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ; أراهم منازلهم في النار لو كفروا وعصوا الله ليزداد سرورهم وغبطتهم ; وعند ذلك يقولون : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الآية [ 7 \ 43 ] ، وكذلك يرى أهل النار منازلهم في الجنة لو آمنوا واتقوا الله لتزداد ندامتهم وحسرتهم ، وعند ذلك يقول الواحد منهم : [ ص: 472 ] لو أن الله هداني لكنت من المتقين ، ثم إنه تعالى يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار ، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة فيرثون منازل أهل النار في الجنة ، وهذا هو معنى الإيراث المذكور على هذا القول .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد جاء حديث يدل لما ذكر من أن لكل أحد منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب ; لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم المعدة لهم بأعمالهم وتقواهم ، كما قد قال تعالى : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] ، ونحوها من الآيات ، ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار والواقع بخلاف ذلك كما ترى ، والحديث المذكور هو ما رواه الإمام أحمد في المسند ، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة " كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله ، هداني فيكون له أشكر ، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني ، فيكون عليه حسرة " اهـ ، وعلم في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة ، وقال شارحه المناوي : قال الحاكم : صحيح على شرطهما وأقره الذهبي ، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح . اهـ .
    قوله تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .

    قال بعض أهل العلم : نزلت هذه الآية في أبي بن خلف ، وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال : زعم محمد أنا نبعث بعد الموت ؟ قاله الكلبي ، وذكره الواحدي والثعلبي ، وقال المهدوي : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأصحابه ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقيل : في أبي جهل ، وعلى كل واحد من هذه الأقوال فقد أسند تعالى هذا القول لجنس الإنسان وهو صادر من بعض أفراد الجنس ; لأن من أساليب العربية إسناد الفعل إلى المجموع ، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم ، ومن أظهر الأدلة القرآنية في ذلك قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] ، من القتل في الفعلين ، أي : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، كما تقدم مرارا ، ومن أظهر الشواهد العربية في ذلك قول الفرزدق :


    فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #268
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (267)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 473 إلى صـ 479





    فقد أسند الضرب إلى بني عبس ، مع أنه صرح بأن الضارب الذي بيده السيف هو ورقاء وهو ابن زهير بن جذيمة العبسي ، وخالد هو ابن جعفر الكلابي ، وقصة قتله لزهير المذكور مشهورة .


    وقد بين في هذه الآية : أن هذا الإنسان الكافر يقول منكرا البعث : أئذا ما مت لسوف أخرج حيا زعما منه أنه إذا مات لا يمكن أن يحيا بعد الموت ، وقد رد الله عليه مقالته هذه بقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ، يعني : أيقول الإنسان مقالته هذه في إنكار البعث ، ولا يذكر أنا أوجدناه الإيجاد الأول ولم يك شيئا ، بل كان عدما فأوجدناه ، وإيجادنا له المرة الأولى دليل قاطع على قدرتنا على إيجاده بالبعث مرة أخرى .

    وهذا البرهان الذي أشار له هنا قد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة البقرة والنحل وغيرهما ، كقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] ، وقوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، وقوله : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .

    وفي الحديث الصحيح الذي يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه : " يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ; وليس أول الخلق أهون علي من آخره ، وأما أذاه إياي ، فقوله إن لي ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " ، فإن قيل : أين العامل في الظرف الذي هو إذا ، فالجواب : أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط ; وتقديره : أأخرج حيا إذا ما مت ؟ أي : حين يتمكن في الموت والهلاك أخرج حيا ، يعني لا يمكن ذلك ، فإن قيل : لم لا تقول بأنه منصوب بـ أخرج ، المذكور في [ ص: 474 ] قوله : لسوف أخرج حيا ، على العادة المعروفة ، من أن العامل في " إذا " هو جزاؤها ؟ فالجواب : أن لام الابتداء في قوله : لسوف أخرج حيا ، مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية ، فلا يجوز أن تقول : اليوم لزيد قائم ; تعني لزيد قائم اليوم ، وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضا ، حتى إنه على قراءة طلحة بن مصرف : " أئذا ما مت سأخرج حيا " بدون اللام يمتنع نصب " إذا " بـ " أخرج " المذكورة ; فهو خلاف التحقيق .

    والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله ، ودليله وجوده في كلام العرب ; كقول الشاعر :


    فلما رأته أمنا هان وجدها وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
    فقوله " هكذا " منصوب بقوله " يفعل " كما أوضحه أبو حيان في البحر ، وعليه فعلى قراءة طلحة بن مصرف فقوله : " إذا " منصوب بقوله : " أخرج " لعدم وجود اللام فيها وعدم منع حرف التنفيس من عمل ما بعده فيما قبله .

    تنبيه

    فإن قلت : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف التنفيس الدال على الاستقبال ؟ فالجواب : أن اللام هنا جردت من معنى الحال ، وأخلصت لمعنى التوكيد فقط ، ولذلك جامعت حرف الاستقبال كما بينه الزمخشري في الكشاف ، وتعقبه أبو حيان في البحر المحيط بأن من علماء العربية من يمنع أن اللام المذكورة تعطي معنى الحال ، وعلى قوله يسقط الإشكال من أصله ، والعلم عند الله تعالى .

    قوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ، لما أقام الله جل وعلا البرهان على البعث بقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] ، أقسم جل وعلا بنفسه الكريمة ، أنه يحشرهم - أي : الكافرين المنكرين للبعث - وغيرهم من الناس ، ويحشر معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا ، وأنه يحضرهم حول جهنم جثيا ، وهذان الأمران اللذان ذكرهما في هذه الآية الكريمة أشار إليهما في غير هذا الموضع ، أما حشره لهم ولشياطينهم فقد أشار إليه في قوله : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 22 - 23 ] ، [ ص: 475 ] على أحد التفسيرات ، وقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 43 \ 38 ] .

    وأما إحضارهم حول جهنم جثيا ، فقد أشار له في قوله : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : جثيا ، جمع جاث ، والجاثي : اسم فاعل : جثا يجثو جثوا ، وجثى يجثي جثيا : إذا جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه ، والعادة عند العرب : أنهم إذا كانوا في موقف ضنك وأمر شديد ، جثوا على ركبهم ، ومنه قول بعضهم :

    فمن للحماة ومن للكماة إذا ما الكماة جثوا للركب إذا قيل مات أبو مالك فتى المكرمات قريع العرب وكون معنى قوله : جثيا في هذه الآية ، وقوله : وترى كل أمة جاثية الآية [ 45 \ 28 ] ، أنه جثيهم على ركبهم هو الظاهر ، وهو قول الأكثر ، وهو الإطلاق المشهور في اللغة ; ومنه قول الكميت :


    هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا
    وعن ابن عباس في قوله في هذه الآية الكريمة : جثيا ، أن معناه : جماعات ، وعن مقاتل جثيا ، أي : جمعا جمعا ، وهو على هذا القول جمع " جثوة " مثلثة الجيم ، وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع ، فأهل الخمر يحضرون حول جهنم على حدة ، وأهل الزنى على حدة ; وأهل السرقة على حدة . ; وهكذا ، ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد في معلقته :


    ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد
    هكذا قال بعض أهل العلم ، ولكنه يرد عليه أن " فعلة " كجثوة ، لم يعهد جمعها على فعول كجثي ، وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص جثيا بكسر الجيم إتباعا للكسرة بعده وقرأ الباقون : " جثيا " بضم الجيم على الأصل .

    قوله تعالى : ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .

    قوله في هذه الآية الكريمة : لننزعن [ 19 \ 69 ] ، أي : لنستخرجن [ ص: 476 ] من كل شيعة ، أي : من كل أمة أهل دين واحد ، وأصل الشيعة فعلة كفرقة ، وهي الطائفة التي شاعت غيرها ، أي : تبعته في هدى أو ضلال ; تقول العرب : شاعه شياعا : إذا تبعه .

    وقوله تعالى : أيهم أشد على الرحمن عتيا ، أي : لنستخرجن ولنميزن من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم ، وأعتاهم فأعتاهم ، فيبدأ بتعذيبه وإدخاله النار على حسب مراتبهم في الكفر ، والإضلال والضلال ، وهذا هو الظاهر في معنى الآية الكريمة : أن الرؤساء القادة في الكفر يعذبون قبل غيرهم ويشدد عليهم العذاب لضلالهم وإضلالهم .

    وقد جاءت آيات من كتاب الله تعالى تدل على هذا ، كقوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، وقوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] ، وقوله : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، ولأجل هذا كان في أمم النار أولى وأخرى ، فالأولى : التي يبدأ بعذابها وبدخولها النار ، والأخرى التي تدخل بعدها على حسب تفاوتهم في أنواع الكفر والضلال ، كما قال تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ 7 \ 38 - 39 ] .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا [ 19 \ 70 ] ، يعني : أنه جل وعلا أعلم بمن يستحق منهم أن يصلى النار ، ومن هو أولى بذلك ، وقد بين أن الرؤساء والمرءوسين كلهم ممن يستحق ذلك في قوله : قال لكل ضعف الآية ، والصلي : مصدر صلي النار - كرضي - يصلاها صليا ) بالضم والكسر ( إذا قاسى ألمها ، وباشر حرها .

    واختلف العلماء في وجه رفع " أي " مع أنه منصوب ; لأنه مفعول لننزعن ، فذهب سيبويه ومن تبعه إلى أن لفظة " أي " موصولة ، وأنها مبنية على الضم إذا كانت مضافة وصدر صلتها ضمير محذوف كما هنا ، وعقده ابن مالك في الخلاصة بقوله :

    [ ص: 477 ]
    أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف وبعضهم أعرب مطلقا . . .
    . . . . . . .
    إلخ .

    ويدل على صحة قول سيبويه رحمه الله قول غسان بن وعلة :


    إذا ما لقيت بني مالك فسلم على أيهم أفضل
    والرواية بضم " أيهم " ، وخالف الخليل ويونس وغيرهما سيبويه في " أي " المذكورة ، فقال الخليل : إنها في الآية استفهامية محكية بقول مقدر والتقدير : ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال فيه أيهم أشد ; وأنشد الخليل لهذا المعنى الذي ذهب إليه قول الشاعر :


    ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
    أي : فأبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حرج ولا محروم .

    وأما يونس فذهب إلى أنها استفهامية أيضا ; لكنه حكم بتعليق الفعل قبلها بالاستفهام لأن التعليق عنده لا يختص بأفعال القلوب ، واحتج لسيبويه على الخليل ويونس ومن تبعهما ببيت غسان بن وعلة المذكور آنفا ; لأن الرواية فيه بضم " أيهم " ، مع أن حروف الجر ، لا يضمر بينها وبين معمولها قول ولا تعلق على الأصوب ، وإن خالف فيه بعضهم ببعض التأويلات ، ومما ذكرنا تعلم أن ما ذكره بعضهم من أن جميع النحويين غلطوا سيبويه في قوله هذا في " أي " في هذه الآية الكريمة خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .

    وقرأه حمزة والكسائي وحفص عتيا بكسر العين ، و صليا بكسر الصاد للإتباع ، وقرأ الباقون بالضم فيهما على الأصل .
    قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

    اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال :

    الأول : أن المراد بالورود الدخول ، ولكن الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول .

    الثاني : أن المراد بورود النار المذكور : الجواز على الصراط ; لأنه جسر منصوب على متن جهنم .

    [ ص: 478 ] الثالث : أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها .

    الرابع : أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن ، فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية ، وقد قدمنا أمثلة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك .

    وإيضاحه أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة ، والمراد في كل واحدة منها الدخول ، فاستدل بذلك ابن عباس على أن " الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول " ؛ لدلالة الآيات الأخرى على ذلك ، كقوله تعالى : يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود [ 11 \ 98 ] ، قال : فهذا ورود دخول ، وكقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 21 \ 99 ] ، فهو ورود دخول أيضا ، وكقوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] ، وقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 68 ] ، وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في " أن الورود الدخول " .

    واحتج من قال بأن الورود : الإشراف والمقاربة بقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين الآية [ 28 \ 23 ] ، قال : فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه ، وكذا قوله تعالى : فأرسلوا واردهم الآية [ 12 \ 11 ] ، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :


    فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم

    قالوا : والعرب تقول : وردت القافلة البلد ، وإن لم تدخله ولكن قربت منه ، واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها ليس نفس الدخول بقوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [ 21 \ 101 - 102 ] ، قالوا : إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها ; فالورود غير الدخول .

    واحتج من قال : بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين : حر الحمى في دار [ ص: 479 ] الدنيا بحديث " الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " ، وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ، وابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهم ، ورواه البخاري أيضا مرفوعا عن ابن عباس .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة ، الأول : هو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع ، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

    الدليل الثاني : هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك ، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 70 - 71 ] ، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها [ 19 \ 72 ] ، أي : نترك الظالمين فيها ، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها ، إذ لو لم يدخلوها لم يقل : ونذر الظالمين فيها بل يقول : وندخل الظالمين ، وهذا واضح كما ترى ، وكذلك قوله : ثم ننجي الذين اتقوا ، دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة ، ولذا عطف على قوله : وإن منكم إلا واردها قوله : ثم ننجي الذين اتقوا .

    الدليل الثالث : ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج أحمد وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا " اهـ .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #269
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (268)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 480 إلى صـ 486






    وقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في هذا الحديث : رواه أحمد وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد قالوا : حدثنا سليمان بن حرب ، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى ، والبيهقي في الشعب في باب النار ، والحكيم في النوادر ، كلهم من طريق سليمان ، قال : حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان ، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم من اللفظ [ ص: 480 ] الذي ذكره الزمخشري ، وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال : عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة . بدل أبي سمية عن جابر . اهـ . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا غالب بن سليمان ، عن كثير بن زياد البرساني ، عن أبي سمية ، قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت : إنا اختلفنا في الورود فقال : يدخلونها جميعا ، ثم ذكر الحديث المتقدم ، ثم قال ابن كثير رحمه الله : غريب ولم يخرجوه .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن لأن طبقته الأولى : سليمان بن حرب ، وهو ثقة إمام حافظ مشهور ، وطبقته الثانية : أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة ، وهو ثقة ، وطبقته الثالثة : كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ ، وهو ثقة ، وطبقته الرابعة : أبو سمية وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب . وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث ; لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون ، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس وآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان ، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، وذكره هو وابن جرير عن أبي ميسرة ، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري ، كلهم يقولون : إنه ورود دخول ، وأجاب من قال بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى : أولئك عنها مبعدون [ 21 \ 101 ] ، بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها ، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها ، كما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية الكريمة .

    وأجابوا عن الاستدلال بحديث " الحمى من فيح جهنم " ، بالقول بموجبه ، قالوا : الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع ; لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا ; لأن أول الكلام قوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا إلى أن قال وإن منكم إلا واردها [ 19 \ 68 - 70 ] ، فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى .

    والقراءة في قوله : جثيا ، كما قدمنا في قوله : [ ص: 481 ] ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .

    وقوله : ثم ننجي ، قراءة الكسائي بإسكان النون الثانية وتخفيف الجيم ، وقرأه الباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( أن جماعة رووا عن ابن مسعود : أن ورود النار المذكور في الآية هو المرور عليها ; لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم ، وأن الحسن وقتادة روي عنهما نحو ذلك أيضا ، وروي عن ابن مسعود أيضا مرفوعا : " أنهم يردونها جميعا ويصدرون عنها بحسب أعمالهم " ، وعنه أيضا تفسير الورود بالوقوف عليها ، والعلم عند الله تعالى .

    وقوله تعالى في الآية الكريمة : كان على ربك حتما مقضيا ، يعني أن ورودهم النار المذكور كان حتما على ربك مقضيا ، أي : أمرا واجبا مفعولا لا محالة ، والحتم : الواجب الذي لا محيد عنه ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :


    عبادك يخطئون وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم
    فقوله : " والحتوم " : جمع حتم ، يعني الأمور الواجبة التي لا بد من وقوعها ، وما ذكره جماعة من أهل العلم من أن المراد بقوله : حتما مقضيا قسما واجبا ، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم - لا يظهر كل الظهور .

    واستدل من قال : إن في الآية قسما ، بحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم " قال أبو عبد الله : وإن منكم إلا واردها اهـ . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم " ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب قالوا ، حدثنا سفيان بن عيينة ) ح ( وحدثنا عبد بن حميد ، وابن رافع ، عن عبد الرزاق ، أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بإسناد مالك ، وبمعنى حديثه إلا أن في حديث سفيان " فيلج النار إلا تحلة القسم " اهـ .

    قالوا : المراد بالقسم المذكور في هذا الحديث الصحيح هو قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، وهو معنى ما ذكرنا عن البخاري في قوله : قال أبو عبد الله وإن منكم إلا واردها ، [ ص: 482 ] والذين استدلوا بالحديث المذكور على أن الآية الكريمة قسم اختلفوا في موضع القسم من الآية ، فقال بعضهم : هو مقدر دل عليه الحديث المذكور ، أي : والله إن منكم إلا واردها ، وقال بعضهم : هو معطوف على القسم قبله ، والمعطوف على القسم قسم ، والمعنى : فوربك لنحشرنهم والشياطين وربك إن منكم إلا واردها ، وقال بعضهم : القسم المذكور مستفاد من قوله : كان على ربك حتما مقضيا أي : قسما واجبا كما قدمناه عن ابن مسعود ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق ، فإن قوله تعالى : كان على ربك حتما مقضيا ، تذييل وتقرير لقوله : وإن منكم إلا واردها ، وهذا بمنزلة القسم في تأكيد الإخبار ، بل هذا أبلغ للحصر في الآية بالنفي والإثبات .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم ; لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم ، ولا قرينة واضحة دالة على القسم ، ولم يتعين عطفها على القسم ، والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه ، زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وحديث أبي هريرة المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسما ; لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلا ، يقولون : ما فعلت كذا إلا تحلة القسم ، يعنون إلا فعلا قليلا جدا قدر ما يحلل به الحالف قسمه ، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب ، ومنه قول كعب بن زهير في وصف ناقته :


    تخدي على يسرات وهي لاصقة ذوابل مسهن الأرض تحليل
    يعني : أن قوائم ناقته لا تمس الأرض لشدة خفتها إلا قدر تحليل القسم ، ومعلوم أنه لا يمين من ناقته أنها تمس الأرض حتى يكون ذلك المس تحليلا لها كما ترى ، وعلى هذا المعنى المعروف ، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم " إلا تحلة " ، أي : لا يلج النار إلا ولوجا قليلا جدا لا ألم فيه ولا حر ، كما قدمنا في حديث جابر المرفوع ، وأقرب أقوال من قالوا : إن في الآية قسما ، قول من قال : إنه معطوف على قوله : فوربك لنحشرنهم ; لأن الجمل المذكورة بعده معطوفة عليه ، كقوله : ثم لنحضرنهم ، وقوله : ثم لننزعن وقوله : ثم لنحن أعلم لدلالة قرينة لام القسم في الجمل المذكورة على ذلك ، أما قوله : وإن منكم إلا واردها ، فهو محتمل للعطف أيضا ، ومحتمل للاستئناف ، والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 483 ] قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا .

    قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : خير مقاما [ 19 \ 73 ] ، قرأه ابن كثير بضم الميم ، والباقون بفتحها ، وقوله : ورئيا ، قرأه قالون وابن ذكوان " وريا " بتشديد الياء من غير همز ، وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة .

    ومعنى الآية الكريمة : أن كفار قريش كانوا إذا يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن في حال كونها بينات ، أي مرتلات الألفاظ ، واضحات المعاني بينات المقاصد ، إما محكمات جاءت واضحة ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا ، أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها ، أو حججا وبراهين .

    والظاهر أن قوله : بينات حال مؤكدة ; لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك ، ونظير ذلك قوله تعالى : وهو الحق مصدقا [ 35 \ 31 ] ، أي : إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها ، وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له ، ومضمون شبهتهم المذكورة : أنهم يقولون لهم : نحن أوفر منكم حظا في الدنيا ، فنحن أحسن منكم منازل ، وأحسن منكم متاعا ، وأحسن منكم منظرا ، فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا ، وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم .

    فقوله : أي الفريقين خير مقاما [ 19 \ 73 ] ، أي : نحن وأنتم أينا خير مقاما ، والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة ، وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها ، وعلى قراءة الجمهور فالمقام - بفتح الميم - مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم ، وقيل : هو موضع القيام بالأمور الجليلة ، والأول هو الصواب .

    وقوله : وأحسن نديا ، أي : مجلسا ومجتمعا ، والاستفهام في قوله : أي الفريقين الظاهر أنه استفهام تقرير ، ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاما وأحسن نديا منا ، وعلى كل حال فلا خلاف أن [ ص: 484 ] مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهم - أي كفار قريش - خير مقاما وأحسن نديا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق ، وأنهم أكرم على الله من المسلمين ، وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال بـ " أي " في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمهما كالعادة في أي غلط منهم ; لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح ، والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى ، واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة ، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده ، واستحقاقهم لذلك - لسخافة عقولهم ، ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى عنهم : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [ 46 \ 11 ] ، وقوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ 6 \ 53 ] ، وقوله تعالى : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 35 - 36 ] ، وقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيبا من الدنيا إلا لرضاه عنهم ، ومكانتهم عنده ، وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك .

    وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا [ 19 \ 74 ] ، والمعنى : أهلكنا قرونا كثيرة ، أي أمما كانت قبلهم وهم أكثر نصيبا في الدنيا منهم ، فما منعهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله ، فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم ، الذين هم أحسن أثاثا ورئيا منكم .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : وكم هي الخبرية ، ومعناها الإخبار بعدد كثير ، وهي في محل نصب على المفعول به لـ " أهلكنا " أي : أهلكنا كثيرا ، و من مبينة [ ص: 485 ] لـ وكم وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم ، قيل : سموا قرنا لاقترانهم في الوجود ، والأثاث : متاع البيت ، وقيل هو الجديد من الفرش ، وغير الجديد منها يسمى " الخرثي " بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة ، وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطوسي قول الشاعر :


    تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
    والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقا ، قال الفراء : لا واحد له ، ويطلق الأثاث على المال أجمع : الإبل ، والغنم ، والعبيد ، والمتاع ، والواحد أثاثة ، وتأثث فلان : إذا أصاب رياشا ، قاله الجوهري عن أبي زيد ، وقوله : ورئيا على قراءة الجمهور مهموزا ، أي : أحسن منظرا وهيئة ، وهو فعل بمعنى مفعول من : رأى ، البصرية ، والمراد به الذي تراه العين من هيئتهم الحسنة ومتاعهم الحسن ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله :


    أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
    وعلى قراءة قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همز ، فقال بعض العلماء : معناه معنى القراءة الأولى ، إلا أن الهمزة أبدلت ياء فأدغمت في الياء ، وقال بعضهم : لا همز على قراءتهما أصلا ، بل عليها فهو من الري الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم : هو ريان من النعيم ، وهي ريا منه ، وعلى هذا فالمعنى : أحسن نعمة وترفها ، والأول أظهر عندي ، والله تعالى أعلم .

    والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة ، كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد قدمنا شيئا من ذلك .

    وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ، [ ص: 486 ] الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي : أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم ، والندي محل اجتماع بعضهم ببعض ، فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


    يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
    والمقامات : جمع مقامة بمعنى المقام ، والأندية : جمع ناد بمعنى الندي ، وهو مجلس القوم ، ومنه قوله تعالى : وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 29 ] ، فالنادي والندي يطلقان على المجلس ، وعلى القوم الجالسين فيه ، وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين ، ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق :


    وما قام منا قائم في ندينا فينطق إلا بالتي هي أعرف
    وقوله تعالى هنا : وأحسن نديا .

    ومن إطلاقه على القوم قوله : فليدع ناديه سندع الزبانية [ 96 \ 17 - 18 ] ، ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة :


    لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها
    والجملة في قوله : هم أحسن أثاثا ورئيا ، قال الزمخشري : هي في محل نصب صفة لقوله : " كم " ألا ترى أنك لو تركت لفظة " هم " لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية . اهـ . وتابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك ، وتعقبه أبو حيان في البحر بأن بعض علماء النحو نصوا على أن " كم " سواء كانت استفهامية أو خبرية لا توصف ولا يوصف بها ، قال : وعلى هذا يكون هم أحسن في موضع الصفة لـ قرن وجمع نعت القرن اعتبارا لمعنى القرن ، وهذا هو الصواب عندي لا ما ذكره الزمخشري وأبو البقاء ، وصيغة التفضيل في قوله : هم أحسن أثاثا ورئيا ، تلزمها " من " لتجردها من الإضافة والتعريف ، إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها ، والتقدير : هم أحسن أثاثا ورئيا منهم ، على حد قوله في الخلاصة :




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #270
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (269)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 487 إلى صـ 494






    وأفعل التفضيل صله أبدا تقديرا أو لفظا بمن إن جردا فإن قيل : أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا ؟ الآية [ 19 \ 73 ] ، فالجواب : أنه راجع إلى الكفار [ ص: 487 ] المذكورين في قوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت الآية [ 19 \ 66 ] ، وقوله : ونذر الظالمين فيها جثيا ، قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .

    قوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا .

    في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن :

    الأول : أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين ، وإيضاح معناه : قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم ، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاما وأحسن منكم نديا : من كان منا ومنكم في الضلالة - أي الكفر والضلال عن طريق الحق - فليمدد له الرحمن مدا ، أي : فأمهله الرحمن إمهالا فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه ، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله ، وهو : إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين ، كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] ، أو بغير ذلك ، وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر ، وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله : فليمدد على بابها ، وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين ، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال ، واقتصر على هذا التفسير ابن كثير وابن جرير ، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ 3 \ 61 ] ; لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين ، وكذلك قوله تعالى في اليهود : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 2 \ 94 ] ، في " البقرة والجمعة " عند من يقول : إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين ، وهو اختيار ابن كثير ، وظاهر الآية لا يساعد عليه .

    الوجه الثاني أن صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين ، وعليه فالمعنى : أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه [ ص: 488 ] بذلك حتى يرى ما يوعده ، وهو في غفلة وكفر وضلال .

    وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما الآية [ 3 \ 178 ] ، وقوله : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية [ 6 \ 44 ] ، كما قدمنا قريبا بعض الآيات الدالة عليه .

    ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال : في حرف أبي : " قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة " اهـ . قاله صاحب الدر المنثور ، ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة ، فإن قيل على هذا الوجه : ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر ؟ فالجواب : أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك ، قال في تفسير قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا ، أي : مد له الرحمن ، يعني أمهله وأملى له في العمر ، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر [ 35 \ 37 ] . انتهى محل الغرض منه ، وأظهر الأقوال عندي في قوله : حتى إذا رأوا ما يوعدون ، أنه متعلق بما قبله وما يليه ، والمعنى : فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن .

    وقال الزمخشري : إن حتى في هذه الآية هي التي تحكى بعدها الجمل ، واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها .

    وقوله : ما يوعدون لفظة ما ، مفعول به لـ ما ، وقوله : إما العذاب وإما الساعة ، بدل من المفعول به الذي هو " ما " ولفظة من من قوله : فسيعلمون من هو ، قال بعض العلماء : هي موصولة في محل نصب على المفعول به لـ " يعلمون " وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد ، وقال بعض أهل العلم : من استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام ، وهذا أظهر عندي .

    وقوله : شر مكانا وأضعف جندا ، في مقابلة قولهم : خير مقاما وأحسن نديا ; لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم ، والندي : المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم ، والجند هم الأنصار والأعوان ، فالمقابلة المذكورة ظاهرة ، وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق شر مكانا ، والمراد اتصاف الشخص بالشر [ ص: 489 ] لا المكان ، وهو قوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا [ 12 \ 72 ] ، فتفضيل المكان في الشر هاهنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان ، اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي ، أي : أنتم شر منزلة عند الله تعالى .

    وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاما ، و نديا ، و أثاثا ، و مكانا ، و جندا ، كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

    والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كـ " أنت أعلى منزلا "

    قوله تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .

    قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى [ 19 \ 76 ] ، دليل على رجحان القول الثاني في الآية المتقدمة ، وأن المعنى : أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة ، ومن اهتدى زاده الله هدى ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله في الضلال : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، وقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، كما قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على هذا المعنى .

    وقال في الهدى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقال : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] ، وقال : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا الآية [ 29 \ 69 ] ، وقد جمع بينهما في آيات أخر ، كقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ 17 \ 82 ] ، وقوله تعالى : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى الآية [ 41 \ 44 ] ، وقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 - 125 ] ، كما تقدم إيضاحه .

    وقوله : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا [ 19 \ 76 ] ، تقدم [ ص: 490 ] إيضاحه في سورة " الكهف " .

    فإن قيل : ظاهر الآية أن لفظة خير في قوله : خير عند ربك ثوابا وخير مردا ، صيغة تفضيل ، والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين ، ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور ، قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : خير عند ربك ثوابا ، يعني : خير جزاء من جزاء المشركين ، وخير مردا ، يعني مرجعا من مرجعهم إلى النار ، والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه ، والخيرية منفية بتاتا عن جزاء المشركين وعن مردهم ، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم .

    فالجواب : أن الزمخشري في كشافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله : أنه كأنه قيل ثوابهم النار ، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم :


    غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار ، فأعتبوا بالصيلم
    فقوله : " أعتبوا بالصيلم " يعني أرضوا بالسيف ، أي : لا رضا لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به .

    ونظيره قول عمرو بن معدي كرب :


    وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
    أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع

    وقول الآخر :


    شجعاء جرتها الذميل تلوكه أصلا إذا راح المطي غراثا
    يعني : أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير ، وعلى هذا المعنى فالمراد : لا ثواب لهم إلا النار ، وباعتبار جعلها ثوابا بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين ، هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع إيضاحنا له .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا ، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر مجازى بعمله الصالح في الدنيا ، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب ، وقرى الضيف ، ووصل الرحم مثلا يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا ، كما قدمنا دلالة الآيات عليه ، وحديث أنس عند مسلم ، فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا ، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، والعلم عند الله تعالى .

    [ ص: 491 ] قوله تعالى : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ، أخرج الشيخان وغيرهما من غير وجه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، قال : " جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت : لا ، حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ قلت : نعم ، قال : إن لي هناك مالا فأقضيك ، فنزلت هذه الآية : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " ، وقال بعض أهل العلم : إن مراده بقوله : لأوتين مالا وولدا الاستهزاء بالدين وبخباب بن الأرت رضي الله عنه ، والظاهر أنه زعم أنه يؤتى مالا وولدا قياسا منه للآخرة على الدنيا ، كما بينا الآيات الدالة على ذلك ، كقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات الآية [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي : " وولدا " بضم الواو الثانية وسكون اللام ، وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معا ، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب ، والعدم والعدم ، ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة :


    ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
    وقول رؤبة :


    الحمد لله العزيز فردا لم يتخذ من ولد شيء ولدا
    وزعم بعض علماء العربية : أن الولد بفتح الواو واللام مفرد ، وأن الولد بضم الواو وسكون اللام جمع له ، كأسد بالفتح يجمع على أسد بضم فسكون ، والظاهر عدم صحة هذا ، ومما يدل على أن " الولد " بالضم ليس بجمع قول الشاعر :


    فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
    لأن " الولد " في هذا البيت بضم الواو وسكون اللام ، وهو مفرد قطعا كما ترى .

    قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا .

    اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي [ ص: 492 ] قوله : إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا ، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد ، وعند الأصوليين بالسبر والتقسيم ، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل .

    وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين : أحدهما حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر ، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين ، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين .

    والثاني : هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة ، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى ، وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين " بالسبر " ، وعند الجدليين " بالترديد " ، وعند المنطقيين ، بالاستثناء في الشرطي المنفصل ، والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة ، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث ، وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا .

    أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول : قولك أنك تؤتى مالا وولدا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء :

    الأول : أن تكون اطلعت على الغيب ، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ .

    والثاني : أن يكون الله أعطاك عهدا بذلك ، فإنه إن أعطاك عهدا لن يخلفه .

    الثالث : أن تكون قلت ذلك افتراء على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب .

    وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، مبطلا لهما بأداة الإنكار ، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل ; لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراء على الله ، وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله : كلا ، أي : لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك ، لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، بل قال ذلك افتراء على الله ; لأنه لو كان أحدهما حاصلا لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى ، وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة في سورة " البقرة " ، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق ، وهو أنهم قالوا ذلك كذبا من غير علم .

    [ ص: 493 ] وحذف في " البقرة " قسم اطلاع الغيب المذكور في " مريم " لدلالة ذكره في " مريم " على قصده في " البقرة " كما أن كذبهم الذي صرح به في " البقرة " لم يصرح به في " مريم " لأن ما في " البقرة " يبين ما في " مريم " لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضا ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في " مريم " كما أوضحنا ، وما حذف منها يدل عليه ذكره في " مريم " فاتخاذ العهد ذكره في " البقرة ومريم " معا والكذب في ذلك على الله صرح به في " البقرة " بقوله : أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، وأشار له في " مريم " بحرف الزجر الذي هو كلا ، واطلاع الغيب صرح به في " مريم " وحذفه في " البقرة " لدلالة ما في " مريم " على المقصود في " البقرة " كما أوضحنا .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

    المسألة الأولى

    اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم ، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في " البقرة " والثاني في " مريم " كما أوضحناه آنفا ، وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالا واحدا للسبر والتقسيم ، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار ، هو ما تضمنه قوله تعالى : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين الآيتين [ 6 \ 143 ] ، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها ، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها : لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللا بعلة معقولة أو تعبديا ، وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة ، ومن الذكور الذكورة ، أو تكون العلة فيهما معا التخلق في الرحم ، واشتمالها عليهما ، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها ، ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة ، أي : اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح ; لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور ، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد ، وكون العلة الأنوثة يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله ، وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم [ ص: 494 ] الجميع ، وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله : قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين [ 6 \ 144 ] ، أي : فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر ، ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى ، ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع ، وكون ذلك تعبديا يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة ، إذ لم يأتكم منه رسول بذلك ، فدل ذلك على أنه باطل أيضا ، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 144 ] ، ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم ، وأنه كذب مفترى وإضلال ، بقوله : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 6 \ 144 ] ، ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] .

    والحاصل أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا ، ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، فكأنه تعالى يقول : لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح ، الأولى : أن يكونوا خلقوا من غير شيء أي : بدون خالق أصلا ، الثانية : أن يكونوا خلقوا أنفسهم ، الثالثة : أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا شك أن القسمين الأولين باطلان ، وبطلانهما ضروري كما ترى ، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه ، والثالث هو الحق الذي لا شك فيه ، أنه هو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا .

    واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله ، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #271
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (270)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 495 إلى صـ 500







    المسألة الثانية

    اعلم أن مقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع ، وهو عندكم يتركب من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال الباطل منها وتصحيح الصحيح مطلقا ، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها ، كآية قل آلذكرين [ 6 \ 144 ] المتقدمة ، وقد يكون بعضها باطلا وبعضها [ ص: 495 ] صحيحا ، كآية " مريم والبقرة والطور " التي قدمنا إيضاح هذا الدليل في كل واحدة منها ، وهذا الدليل أعم نفعا ، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين .

    المسألة الثالثة

    اعلم : أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص ، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم ، وضابط هذا المسلك عند الأصوليين أمران ، الأول : هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضا بعضها إن شاء الله تعالى ، وزاد بعضهم أمرا ثالثا وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي ، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير ، والحاصل : أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة ، فإن كان الحصر والإبطال معا قطعيين فهو دليل قطعي ، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنيا فهو دليل ظني ، ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطعيين قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ; لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه ، لأنهم إما أن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا رابع ألبتة ، وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه : فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه ، وقد حذف في الآية لظهوره ، فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها ، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين ; لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم ، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه ، وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل ، وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه ، والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم : هذا وصف يصح إبطاله ، ويقول الآخر : هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلا المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلا : إما أن يكون علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هما وغلبة العيش به أو المالية والملكية . فيقول المالكي : غير الاقتيات والادخار باطل ، ويدعي أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض ، ويقول [ ص: 496 ] الحنفي والحنبلي : غير الكيل من تلك الأوصاف باطل ، والكيل : هو العلة التي هي مناط الحكم ، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم ، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا : وكذلك كل ما يكال أو يوزن ، وبالحديث الصحيح الذي فيه ، وكذلك الميزان . كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا .

    ويقول الشافعي : غير الطعم باطل ، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم ، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث . كما تقدم إيضاحه أيضا في البقرة ، وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل ، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله :


    وإن يكن لعلتين اختلفا تركب الأصل لدى من سلفا
    وأشار إلى مركب الوصف بقوله :

    مركب الوصف إذا الخصم منع وجود ذا الوصف في الأصل المتبع والقياس المركب بنوعيه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافا لبعض الجدليين ، وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار ، أشار في مراقي السعود بقوله :


    ورده انتفى وقيل يقبل وفي التقدم خلاف ينقل والضمير
    في قوله : " ورده " راجع إلى المركب بنوعيه ، وهذا هو الحق ، فلا تنهض الحجة بقول الشافعي : إن العلة في تحريم الربا في البر الطعم ، على الحنفي والحنبلي القائلين إنها الكيل كالعكس ، وهكذا ، أما في حق المجتهد ومقلديه فظنه المذكور حجة ناهضة له ولمقلديه ، واعلم أن لحصر أوصاف المحل طرقا ، منها أن يكون الحصر عقليا كما قدمنا في آية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وكقولك : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به : كما يأتي إيضاحه ، فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين - إذ لا ثالث ألبتة - أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف ، ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع ، ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به ، فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح ، وإما البكارة . فإن قال المعترض : أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين ؟ أجيب بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما ، فلو ادعى [ ص: 497 ] المستدل حصر أوصاف المحل ، فقال المعترض : أين دليل الحصر ؟ فقال المستدل : بحثت بحثا تاما عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت ، أو قال : الأصل عدم غير ما ذكرت ، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر ، فإن قال المعترض : أنا أعلم وصفا زائدا لم تذكره ، قيل له : بينه ، فإن لم يبينه سقط اعتراضه ، وإن بين وصفا زائدا على الأوصاف التي ذكرها المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصف الزائد ، إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح للعلية فيكون إذا وجوده وعدمه سواء ، وقول من قال : إنه لا يكفيه قوله : بحثت فلم أجد غير هذا - خلاف التحقيق ، وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله :


    والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
    ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينه متضح
    معترض الحصر في دفعه يرد بحثت ثم بعد بحثي لم أجد
    أو انفقاد ما سواها الأصل وليس في الحصر لظن حظل
    وهو قطعي إذا ما نميا للقطع والظني سواه وعيا
    حجية الظني عند الأكثر في حق ناظر وفي المناظر
    إن يبد وصفا زائدا معترض وفى به دون البيان الغرض
    وقطع ذي السبر إذا منحتم والأمر في إبطاله منبهم
    وقوله في هذه الأبيات " في حق ناظر وفي المناظر " محله ما لم يدع المناظر علة غير علته ، وإن ادعاها فلا تكون علة أحدهما حجة على الآخر ، كما أوضحناه آنفا ، وكما أشار له بقوله المذكور آنفا " ورده انتفى . . . " إلخ .

    وإذا حصل حصر أوصاف المحل فإبطال غير الصالح منها له طرق معروفة :

    منها : بيان أن الوصف طردي محض ، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر ، والبياض والسواد ، أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته أو نفيه ، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق ، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى ; لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان ، وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث والشهادة والقضاء وولاية النكاح ، فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى ، ويعرف كون الوصف طرديا - أي : لا مدخل له في التعليل أصلا - باستقراء موارد الشرع ومصادره ، إما مطلقا ، وإما في بعض الأبواب دون بعضها كما قدمناه آنفا .

    [ ص: 498 ] ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان ، فإن في بعض الروايات أنه أعرابي ، وفي بعضها أنه جاء ينتف شعره ويضرب صدره ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن المثال لا يعترض ; لأن المراد منه بيان القاعدة ، ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


    والشأن لا يعترض المثال إذ قد كفى الغرض والاحتمال


    فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن كونه أعرابيا ، وكونه جاء يضرب صدره وينتف شعره من أوصاف المحل في هذا الحكم ، وهي أوصاف يجب إبطالها وعدم تعليل وجوب الكفارة بها ; لأنها أوصاف طردية لا تحصل من إناطة الحكم بها فائدة أصلا ، فالأعرابي وغيره في ذلك سواء ، ومن جاء في سكينة ووقار ومن جاء يضرب صدره وينتف شعره في ذلك سواء أيضا ، ومثال الإبطال بكون الوصف طرديا في الباب الذي فيه النزاع دون غيره ، حديث " من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد . . . " الحديث ، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر ، وقد قدمناه في سورة " الإسراء والكهف " فلفظ العبد الذكر في هذا الحديث وصف طردي ، فمن أعتق شركا له في أمة فكذلك ; لأنه عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تناط بهما أحكام العتق ، وإن كانت الذكورة والأنوثة غير طرديين في غير العتق كالميراث والشهادة كما تقدم ، والوصف الطردي في اصطلاح أهل الأصول : هو ما علم من الشرع إلغاؤه وعدم اعتباره ; لأنه ليس في إناطة الحكم به مصلحة أصلا فهو خال من المناسبة ، ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر ألا تظهر للوصف مناسبة ، والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول : هي كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر ، وإن كان عدم ظهور المناسبة في الوصف لا يبطله في بعض المسالك - غير السبر - كالإيماء على الأصح والدوران ، فالأحوال ثلاثة :

    الأول : أن تظهر المناسبة ، وظهورها لا بد منه في مسلك السبر ومسلك المناسبة والإخالة .

    الثاني : ألا تظهر المناسبة ولا عدمها ، وهذا يكفي في الدوران والإيماء على الصحيح .

    [ ص: 499 ] الثالث : أن يظهر عدم المناسبة ، فيكون الوصف طرديا كما تقدم قريبا .

    ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف ملغى وإن كان مناسبا للحكم المتنازع فيه ، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المستبقى بالحكم دونه في صورة مجمع عليها ، حكاه الفهري ، ومثاله قول الشافعي : إن الكيل والاقتيات ونحو ذلك أوصاف ملغاة بالنسبة إلى تحريم الربا في ملء كف من البر ; لأنه لا يكال ولا يقات لقلته ، فعلة تحريم الربا فيه الطعم لاستقلال علة الطعم بالحكم دون غيرها من الأوصاف في هذه الصورة ، والقصد مطلق التمثيل ، لا مناقشة الأمثلة .

    ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف الذي أبقاه المستدل متعديا من محل الحكم إلى غيره ، والوصف الذي يريد المعترض إبقاءه قاصر على محل الحكم ، قال صاحب ) الضياء اللامع ( : وذلك يشبه تعارض العلة المتعدية والقاصرة ، وهو كما قال ، ومثاله : اختلاف الأئمة رحمهم الله في علة الكفارة في الإفطار عمدا في نهار رمضان ، فبعضهم يقول : العلة في ذلك خصوص الجماع ، وبعضهم يقول : العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان ، فكون الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره ، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة ، وكونه في هذا الحكم انتهاك حرمة رمضان يقضي التعدي في محل الحكم إلى غيره ، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمدا في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جماع وأكل وشرب ، فيترجح هذا الوصف بكونه متعديا على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة ، ولا ينافي ما ذكرنا أن يأتي من يقول : العلة الجماع ، بمرجحات أخر لعلته ، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله :


    أبطل لما طردا يرى ويبطل غير مناسب له المنخزل
    كذلك بالإلغا وإن قد ناسبا ويتعدى وصفه الذي اجتبى
    هذا هو حاصل كلام أهل الأصول في المقصود عندهم بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم .
    المسألة الرابعة

    اعلم : أن المقصود من هذا الدليل المذكور عند المنطقيين يخالف المقصود منه عند الأصوليين والجدليين ، فالتقسيم عند المنطقيين لا يكون إلا في الأوصاف التي بينها تناف [ ص: 500 ] وتنافر ، وهذا التقسيم هو المعبر عنه عندهم بالشرطي المنفصل ، ومقصودهم من ذكر تلك الأوصاف المتنافية هو أن يستدلوا بوجود بعضها على عدم بعضها ، وبعدمه على وجوده ، وهذا هو المعبر عنه عندهم ) بالاستثناء في الشرطي المنفصل ( وحرف الاستثناء عندهم هو " لكن " والتنافي المذكور بين الأوصاف المذكورة يحصره العقل في ثلاثة أقسام :

    لأنه إما أن يكون في الوجود والعدم معا ، أو الوجود فقط ، أو العدم فقط ، ولا رابع ألبتة .

    فإن كان في الوجود والعدم معا ، فهي عندهم الشرطية المنفصلة المعروفة بالحقيقية ، وهي مانعة الجميع والخلو معا ، ولا تتركب إلا من النقيضين ، أو من الشيء ومساوي نقيضيه ، وضابطها أن طرفيها لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا ، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر ، وعدم اجتماعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود ، وعدم ارتفاعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم ، وضروبها الأربعة منتجة ، كما لو قلت : العدد إما زوج وإما فرد ، فلو قلت : لكنه زوج أنتج فهو غير فرد ، ولو قلت : لكنه فرد أنتج فهو غير زوج ، ولو قلت : ولكنه غير زوج أنتج فهو فرد ، ولو قلت : لكنه غير فرد أنتج فهو زوج ، وضابط قياسها أنه يرجع إلى الاستدلال بعدم النقيض أو مساويه على وجود النقيض ، أو مساويه كعكسه .

    وإن كان التنافر والعناد بين طرفيها في الوجود فقط فهي مانعة الجمع المجوزة للخلو ، ولا يلزم فيها حصر الأوصاف ، ولا تتركب إلا من قضية وأخص من نقيضها ، وضابطها : أن طرفيها لا يجتمعان لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود ، ولا مانع من ارتفاعهما لعدم العناد والمنافرة بينهما في العدم ، ومانعة الجمع المذكورة ينتج من قياسها ضربان ، ويعقم منه ضربان ، ومثالها قولك : الجسم إما أبيض ، وإما أسود ، فإن استثناء عين كل واحد من الطرفين ينتج نقيض الآخر ، بخلاف استثناء نقيض أحدهما فلا ينتج شيئا ، فلو قلت : الجسم إما أبيض وإما أسود لكنه أبيض ، أنتج : فهو غير أسود ، وإن قلت : لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض ، بخلاف ما لو قلت : لكنه غير أبيض فلا ينتج كونه أسود ; لأن غير الأبيض صادق بالأسود وغيره ، وكذلك لو قلت : لكنه غير أسود ، فلا ينتج كونه أبيض لصدق غير الأسود بالأبيض وغيره ، فلا مانع من انتفاء الطرفين وكون جسم غير أبيض وغير أسود ; لأن مانعة الجميع تجوز الخلو من الطرفين بأن يكونا معدومين معا ، وإنما جاز فيها الخلو من الطرفين معا لواحد من سببين .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #272
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (271)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 501 إلى صـ 507





    الأول : وجود واسطة أخرى غير طرفي القضية المذكورة ، فقولنا في المثال السابق : الجسم إما أبيض ، وإما أسود يجوز فيه الخلو عن البياض والسواد لوجود واسطة أخرى من الألوان غير السواد والبياض ، كالحمرة والصفرة مثلا ، فالجسم الأحمر مثلا غير أبيض ولا أسود .

    السبب الثاني : ارتفاع المحل ، كقولك : الجسم إما متحرك ، وإما ساكن ، فإنه إن انعدم بعض الأجسام التي كانت موجودة ورجع إلى العدم بعد الوجود فإنه يرتفع عنه كل من طرفي القضية المذكورة ، فلا يقال للمعدوم : هو ساكن ولا متحرك ; لأن المعدوم ليس بشيء ، بدليل قوله تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ 19 \ 9 ] ، وقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] .

    وإن كان العناد والمنافرة بين طرفيها في العدم فقط فهي مانعة الخلو المجوزة للجمع ، وهي عكس التي ذكرنا قبلها تصورا وإنتاجا ، ولا تتركب إلا من قضية وأعم من نقيضها ، وضابطها أن طرفيها لا يرتفعان لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم ، ولا مانع من اجتماعهما لعدم المنافرة والعناد بينهما في الوجود ، ومثالها : الجسم إما غير أبيض ، وإما غير أسود ، فإن هذا المثال قد يجتمع فيه الطرفان فلا مانع من وجود جسم موصوف بأنه غير أبيض وغير أسود ، كالأحمر ، فإنه غير أبيض وغير أسود ، ولكنه لا يمكن بحال وجود جسم خال من طرفي هذه القضية التي مثلنا بها ، فيكون خاليا من كونه غير أبيض وغير أسود ; لأنك إذا نفيت غير أبيض أثبت أنه أبيض ; لأن نفي النفي إثبات ، وإذا أثبت أنه أبيض استحال ارتفاع الطرف الثاني الذي هو غير أسود ; لأن الأبيض موصوف ضرورة بأنه غير أسود ، وهكذا في الطرف الآخر ، لأنك إذا نفيت غير أسود أثبت أنه أسود ، وإذا أثبت أنه أسود لزم ضرورة أنه غير أبيض ، وهو عين الآخر من طرفي القضية المذكورة ، وقياس هذه ينتج منه الضربان العقيمان في قياس التي قبلها ، ويعقم منه الضربان المنتجان في قياس التي قبلها ، فتبين أن استثناء نقيض كل واحد من الطرفين في قياس هذه الأخيرة ينتج عين الآخر ، وأن استثناء عين الواحد منهما لا ينتج شيئا .

    فقولنا في المثال السابق : الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود ، لو قلت فيه : لكنه أبيض ، أنتج ، فهو غير أسود ، ولو قلت : لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض ، بخلاف ما لو قلت : لكنه غير أبيض ، فلا ينتج نفي الطرف الآخر ولا وجوده ; لأن غير الأبيض يجوز أن يكون أسود ، ويجوز أن يكون غير أسود بل أحمر أو أصفر ، وكذلك لو قلت : لكنه غير [ ص: 502 ] أسود ، لم يلزم منه نفي الطرف الآخر ولا إثباته ; لأن غير الأسود يجوز أن يكون أبيض وغير أبيض لكونه أحمر مثلا .

    هذه خلاصة موجزة عن هذا الدليل المذكور في نظر المنطقيين .
    المسألة الخامسة

    اعلم أن لهذا الدليل آثارا تاريخية ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها .

    فمن ذلك أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول بخلق القرآن العظيم ، وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون ، واستفحلت جدا في أيام المعتصم ، واستمرت على ذلك في أيام الواثق ، وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم .

    ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم ، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفا .

    ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه " الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل " - تغمده الله برحمته الواسعة ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا - من الضرب المبرح أيام المعتصم ، وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم .

    قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة " أحمد بن أبي دؤاد " : أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار ، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي ، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي ، حدثني محمد بن يوسف الشاشي ، حدثني إبراهيم بن منبه قال : سمعت طاهر بن خلف يقول : سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس ، فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي : ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه ) يعني ابن أبي دؤاد ( قال : فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال له : لا سلم الله عليك فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك مؤدبك ، قال الله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ 4 \ 86 ] ، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها ، فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم ، فقال له : كلمه ، فقال : يا شيخ ، ما تقول في القرآن ؟ قال الشيخ : لم تنصفني - يعني ولي السؤال - فقال له : سل : فقال [ ص: 503 ] له الشيخ : ما تقول في القرآن ؟ فقال : مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ، أم شيء لم يعلموه ؟ فقال : شيء لم يعلموه ، فقال : سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ ! قال : فخجل ، فقال : أقلني والمسألة بحالها ، قال : نعم ، قال : ما تقول في القرآن ؟ فقال مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه ؟ فقال : علموه ولم يدعوا الناس إليه ، قال : أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ! قال : ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول : هذا شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ سبحان الله ، شيء علمه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ثم دعا عمارا الحاجب ، فأمره أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار ، ويأذن له في الرجوع ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا . انتهى منه .

    وذكر ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن الخطيب البغدادي ، ولما انتهى من سياقها قال : ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف . اهـ .

    ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره : من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن .

    قال ابن كثير في البداية والنهاية : قال الخطيب : وكان ابن أبي دؤاد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن : قال : ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته ، فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح ، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، حدثني حامد بن العباس ، عن رجل عن المهتدي : أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن ، وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء صحيحة الاحتجاج ، فيها إلقام الخصم الحجر .

    وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ - الذي كان مكبلا بالقيود يراد قتله - أحمد بن أبي دؤاد حجرا ، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم . فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير [ ص: 504 ] عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره ، فلا قسم ثالث ألبتة ، ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين .

    أما على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بها هو وأصحابه ، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها ، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه من عدم الدعوة لها ، وكان يسعه ما وسعهم .

    وأما على كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها ، فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها ، فظهر ضلاله على كل تقدير ، ولذلك سقط من عين الواثق ، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم ، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى ، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله ، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور .

    ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين ، من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد ، فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه ، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له : ما حملك على أن تقول في كذا وكذا ؟ ! فقال السلولي : أصلح الله الأمير والله ما قلت شيئا من ذلك ، فأخرج ابن زياد الواشي ، وقال : هذا أخبرني أنك قلت ذلك ، فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا للواشي :


    وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا
    بمنزلة بين الخيانة والإثم
    فقال ابن زياد : صدقت . وطرد الواشي .

    وحاصل هذين البيتين الذين طرد بهما ابن زياد الواشي ولم يتعرض للسلولي بسوء بسببهما ، هو هذا الدليل العظيم المذكور ، فكأنه يقول له : لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين : إما أن أكون ائتمنتك على سر فأفشيته ، وإما أن تكون قلته علي كذبا ، ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين ; لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له ، وإن كان قال عليه ذلك كذبا وافتراء فالأمر واضح .
    المسألة السادسة

    اعلم : أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين [ ص: 505 ] الطبيعي من الحضارة الغربية ، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار ، والحسن من القبيح ، والحق من الباطل ، وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار : أما النافع منها فهو من الناحية المادية ، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه ، وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور ، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني ، وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير ، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها ، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه ، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة ، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة ، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته .

    فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى ، مفلسة إفلاسا كليا من الناحية الثانية .

    ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم ، وهلاك مستأصل ، كما هو مشاهد الآن ، وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض ; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا .

    والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها ، حصرا عقليا لا شك فيه :

    الأول : ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها .

    الثاني : أخذها كلها ضارها ونافعها .

    الثالث : أخذ ضارها وترك نافعها .

    الرابع : أخذ نافعها وترك ضارها .

    فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة ، فنجد ثلاثة منها باطلة بلا شك ، وواحدا صحيحا بلا شك .

    أما الثلاثة الباطلة : فالأول منها تركها كلها ، ووجه بطلانه واضح ; لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم ، والتواكل والتكاسل ، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية [ 18 \ 60 ] .


    لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
    [ ص: 506 ] القسم الثاني من الأقسام الباطلة أخذها ; لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع الروحية والمثل العليا للإنسانية أوضح من أن أبينه ، ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء ، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا : آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، والقسم الثالث من الأقسام الباطلة هو أخذ الضار وترك النافع ، ولا شك أن هذا لا يفعله من له أقل تمييز ، فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح ، وهو أخذ النافع وترك الضار .

    وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل ، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب ، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس ، أخبره بها سلمان فأخذ بها ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار ، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن ; لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة - وهي وطء المرضع - تضعف ولدها وتضره ، ومن ذلك قول الشاعر :


    فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف
    فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم ، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار .

    وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق ، مع أنه كافر .

    فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية ، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة ، والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية ، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي ، والانسلاخ من الدين ، والتباعد من طاعة خالق الكون ، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .

    وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقد قدمنا طرفا نافعا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، فأغنى ذلك [ ص: 507 ] عن إعادته هنا ، وقد عرف في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا .

    وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، أن المعنى : أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك ، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة " البقرة " : قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده [ 2 \ 80 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وقيل : العهد المذكور : العمل الصالح ، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله .
    قوله تعالى : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سيكتب ما قاله ذلك الكافر افتراء عليه ، من أنه يوم القيامة يؤتى مالا وولدا مع كفره بالله ، وأنه يمد له من العذاب مدا ، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] أي : نزيده عذابا فوق عذاب ، وقال الزمخشري في الكشاف : ونمد له من العذاب مدا أي : نطول له من العذاب ما يستأهله ، ونعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزئون ، أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ، يقال : مده وأمده ، بمعنى ، وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه " ونمد له " ، بالضم .

    وأكد ذلك بالمصدر ، وذلك من فرط غضب الله ، نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه . اهـ .

    وأصل المدد لغة : الزيادة ، ويدل لذلك المعنى قوله تعالى في أكابر الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله : زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، وقوله في الأتباع والمتبوعين : قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [ 7 \ 38 ] .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #273
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (272)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 508 إلى صـ 514




    وقوله في هذه الآية : ونرثه ما يقول [ 19 \ 80 ] ، أي : ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد ، أي : نسلبه منه في الدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه ، وقيل : نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة ، ونجعله للمسلمين ، ويدل للمعنى الأول قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون [ 19 \ 40 ] ، وقوله : وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون [ 15 \ 23 ] ، كما تقدم إيضاحه في [ ص: 508 ] هذه السورة الكريمة .

    وقوله : ويأتينا فردا ، أي : منفردا لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك ، كما قال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الآية [ 6 \ 94 ] ، وقال تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 95 ] كما تقدم إيضاحه .

    فإن قيل : كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله : سنكتب ما يقول مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير ، بدليل قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] .

    فالجواب : أن الزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما نصه : .

    قلت : فيه وجهان ، أحدهما : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله ، على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي :


    إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا
    أي : تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة .

    والثاني : أن المتوعد يقول للجاني : سوف أنتقم منك ، يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر ، فجردها هنا لمعنى الوعيد . انتهى منه بلفظه ، إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكملته .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يكتب ما يقول هذا الكافر ، ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله تعالى : قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] وقوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] وقوله تعالى : سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ 3 \ 181 ] ، وقوله تعالى : كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 9 - 11 ] وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    [ ص: 509 ] قوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله : ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 72 ] ، اتخذوا من دون الله آلهة أي معبودات من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله ، وأنهم عبدوهم لأجل أن يكونوا لهم عزا ، أي : أنصارا وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله ، كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم ، وكقوله تعالى عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية [ 10 \ 18 ] ، فالشفاعة عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذبا وافتراء على الله ، كما بينه بقوله تعالى : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : كلا ، زجر وردع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل ، أي : ليس الأمر كذلك ، لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزا لكم ، بل تكون بعكس ذلك ، فتكون عليكم ضدا ، أي : أعوانا عليكم في خصومتكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم ، وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذا الذي ذكرنا ، كقول ابن عباس : ضدا أي : أعوانا ، وقول الضحاك : ضدا ، أي : أعداء ، وقول قتادة : ضدا ، أي : قرناء في النار يلعن بعضهم بعضا ، وكقول ابن عطية : ضدا يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيئول بهم ذلك إلى الذل والهوان ، ضد ما أملوه من العز .

    وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، بينه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] ، وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وضمير الفاعل في قوله : سيكفرون فيه وجهان للعلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن ، إلا أن لأحدهما قرينة ترجحه على الآخر .

    [ ص: 510 ] الأول : أن واو الفاعل في قوله : سيكفرون ، راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله ، أما العاقل منها فلا إشكال فيه ، وأما غير العاقل فالله قادر على أن يخلق له إدراكا يخاطب به من عبده ويكفر به بعبادته إياه ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 28 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون [ 16 \ 86 ] ، وقوله تعالى : وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    الوجه الثاني : أن العابدين هم الذين يكفرون بعبادتهم شركاءهم وينكرونها ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله عنهم : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا الآية [ 40 \ 74 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    والقرينة المرجحة للوجه الأول ، أن الضمير في قوله : ويكونون ، راجع للمعبودات ، وعليه فرجوع الضمير في يكفرون للمعبودات أظهر ; لانسجام الضمائر بعضها مع بعض .

    أما على القول الثاني : فإنه يكون ضمير يكفرون للعابدين ، وضمير يكونون للمعبودين ، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

    وقول من قال من العلماء : إن كلا في هذه الآية متعلقة بما بعدها لا بما قبلها ، وأن المعنى : كلا سيكفرون ، أي : حقا سيكفرون بعبادتهم - محتمل ، ولكن الأول أظهر منه وأرجح ، وقائله أكثر ، والعلم عند الله تعالى ، وفي قوله : كلا قراءات شاذة تركنا الكلام عليها لشذوذها .

    وقوله في هذه الآية : ليكونوا لهم عزا ، أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع ; لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة :

    ونعتوا بمصدر كثير فالتزموا الإفراد والتذكير والإخبار بالمصدر يجري على حكم النعت به ، وقوله : ضدا مفردا أيضا أريد به الجمع ، قال ابن عطية : لأنه مصدر في الأصل ، حكاه عنه أبو حيان في البحر ، وقال [ ص: 511 ] الزمخشري : الضد : العون ، وحد توحيد قوله عليه السلام ، " هم يد على من سواهم " لاتفاق كلمتهم ، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم .
    قوله تعالى : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

    قوله : أرسلنا الشياطين الآية [ 19 \ 83 ] ، أي : سلطناهم عليهم وقيضناهم لهم ، وهذا هو الصواب ، خلافا لمن زعم أن معنى أرسلنا الشياطين الآية ، أي : خلينا بينهم وبينهم ، ولم نعصمهم من شرهم ، يقال : أرسلت البعير ، أي : خليته .

    وقوله : تؤزهم أزا : الأز والهز والاستفزاز بمعنى ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، فقوله : تؤزهم أزا ، أي : تهيجهم وتزعجهم إلى الكفر والمعاصي .

    وأقوال أهل العلم في الآية راجعة إلى ما ذكرنا : كقول ابن عباس تؤزهم أزا ، أي : تغريهم إغراء " ، وكقول مجاهد تؤزهم أزا ، أي : تشليهم إشلاء ، وكقول قتادة تؤزهم أزا أي : تزعجهم إزعاجا .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه سلط الشياطين على الكافرين ، وقيضهم لهم يضلونهم عن الحق بينه في مواضع أخر من كتابه ، كقوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] ، وقوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل الآية [ 43 \ 36 ] وقوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

    قوله : فلا تعجل عليهم [ 19 \ 84 ] ، أي : لا تستعجل وقوع العذاب بهم فإن الله حدد له أجلا معينا معدودا ، فإذا انتهى ذلك الأجل جاءهم العذاب ، فقوله : إنما نعد لهم عدا ، أي : نعد الأعوام والشهور والأيام التي دون وقت هلاكهم ، فإذا جاء الوقت المحدد لذلك أهلكناهم ، والعرب تقول : عجلت عليه بكذا : إذا استعجلته منه .

    ومما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن هلاك الكفار حدد له أجل معدود ذكره في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى : [ ص: 512 ] ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ 46 \ 35 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] وقوله : وما نؤخره إلا لأجل معدود [ 11 \ 104 ] وقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه [ 11 \ 8 ] وقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] ، وقوله : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وروي أن المأمون قرأ هذه السورة الكريمة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء ، فأشار إلى ابن السماك أن يعظه ، فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ، ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفد .

    والأظهر في الآية هو ما ذكرنا من أن العد المذكور عد الأعوام والأيام والشهور من الأجل المحدد .

    وقال بعض أهل العلم : هو عد أنفاسهم ، كما أشار إليه ابن السماك في موعظته للمأمون التي ذكرنا إن صح ذلك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه كان إذا قرأها بكى ، وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد : فراق أهلك ، آخر العدد : دخول قبرك " .

    وقال بعض أهل العلم : إنما نعد لهم عدا أي : نعد أعمالهم لنجازيهم عليها ، والظاهر هو ما قدمنا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفدا ، والوفد على التحقيق : جمع وافد كصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وقدمنا في سورة " النحل " أن التحقيق أن الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع الكثرة للفاعل وصفا ، وبينا شواهد ذلك من العربية ، وإن أغفله الصرفيون ، والوافد : من يأتي إلى الملك مثلا إلى أمر له شأن ، وجمهور المفسرين على أن معنى قوله : وفدا [ 19 \ 85 ] ، أي : ركبانا ، وبعض العلماء يقول : هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة ، وبعضهم يقول : [ ص: 513 ] يحشرون ركبانا على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة .

    قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك ، وحسن وجهك ، فيقول : أنا عملك الصالح ، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني ، فذلك قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : ركبانا " ، وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثني ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : على الإبل ، وقال ابن جريج : على النجائب ، وقال الثوري : على الإبل النوق ، وقال قتادة يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال : إلى الجنة ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سويد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ! ! وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به ، وزاد " عليها رحائل من ذهب ، وأزمتها الزبرجد . " والباقي مثله ، وروى ابن أبي حاتم هنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا سلمة بن جعفر البجلي ، سمعت أبا معاذ البصري يقول : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو : يؤتون - بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحائل الذهب ، شراك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون - أو : فيأتون - باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت [ ص: 514 ] حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها ليفتح له فإذا رآه خر له ) قال سلمة : أراه قال ساجدا ( فيقول : ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك ، فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه . " إلى آخر الحديث بطوله ، وفي آخر السياق : هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم . اهـ .

    وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة ، أما من القبر فالظاهر أنهم يحشرون مشاة ، بدليل حديث ابن عباس الدال على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا ، هذا هو الظاهر وجزم به القرطبي ، والله تعالى أعلم .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] ، السوق معروف ، والمجرمون : جمع تصحيح للمجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام ، والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب ، ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من " أجرم " الرباعي على وزن أفعل ، ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول : جرم يجرم كضرب يضرب ، والفاعل منه جارم ، والمفعول مجروم ، كما هو ظاهر ، ومنه قول عمرو بن البراقة النهمي :

    وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وردا ، أي : عطاشا ، وأصل الورد : الإتيان إلى الماء ، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش ، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا ، ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته :


    ردي ردي ورد قطاة صما كدرية أعجبها برد الما
    واختلف العلماء في العامل الناصب لقوله : يوم نحشر المتقين ، فقيل منصوب بـ يملكون بعده ، أي : لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين ، واختاره أبو حيان في البحر ، وقيل : منصوب بـ " اذكر " أو احذر ، مقدرا ، وفيه أقوال غير ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #274
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (273)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 515 إلى صـ 519




    وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى في سورة " الزمر " : [ ص: 515 ] وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 71 - 73 ] .
    قوله تعالى : لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] .

    قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق ، وكل واحد منها يشهد له قرآن ، فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى ; لأنه كله حق ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع ، قال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون راجعة إلى المجرمين المذكورين في قوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم أي : لا يملك المجرمون الشفاعة ، أي : لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب .

    وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، وقوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [ 26 \ 100 - 101 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع الآية [ 40 \ 18 ] وقوله : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم ; لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى ، وعلى كون الواو في لا يملكون راجعة إلى المجرمين فالاستثناء منقطع و " من " في محل نصب ، والمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكون الشفاعة ، أي : بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيملكون الشفاعة بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم ، قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] وقال : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] وقال : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] .

    [ ص: 516 ] وقال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون الشفاعة راجعة إلى " المتقين " ، " والمجرمين " جميعا المذكورين في قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، وعليه فالاستثناء في قوله : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] متصل ، و من بدل من الواو في " لا يملكون " ، أي : لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون ، والعهد : العمل الصالح والقول بأنه لا إله إلا الله ، وغيره من الأقوال يدخل في ذلك ، أي : إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض ، كما قال تعالى : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا [ 20 \ 109 ] ، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة ، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك ، وهو قوله تعالى : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق الآية [ 43 \ 86 ] ، أي : لكن من شهد بالحق يشفع بإذن الله له في ذلك ، وقال تعالى : ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء الآية [ 30 \ 12 - 13 ] وقال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم الآية [ 10 \ 18 ] ، والأحاديث في الشفاعة وأنواعها كثيرة معروفة ، والعلم عند الله تعالى .

    وفي إعراب جملة لا يملكون وجهان ، الأول : أنها حالية ، أي : نسوق المجرمين إلى جهنم في حال كونهم لا يملكون الشفاعة ، أو : نحشر المتقين ونسوق المجرمين في حال كونهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ منهم عند الرحمن عهدا ، والثاني أنها مستأنفة للإخبار ، حكاه أبو حيان في البحر ، ومن أقوال العلماء في العهد المذكور في الآية : أنه المحافظة على الصلوات الخمس ، واستدل من قال ذلك بحديث عبادة بن الصامت الذي قدمناه عند الكلام على قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف الآية [ 19 \ 59 ] .

    وقال بعضهم : العهد المذكور : هو أن يقول العبد كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، [ ص: 517 ] فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد ؟ فيقوم فيدخل الجنة . انتهى ، ذكره القرطبي بهذا اللفظ مرفوعا عن ابن مسعود ، وذكر صاحب الدر المنثور أنه أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود موقوفا عليه ، وليس فيه قوله : فإذا قال ذلك . . . إلخ ، وذكر صاحب الدر المنثور أيضا : أن الحكيم الترمذي أخرج نحوه مرفوعا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، والظاهر أن المرفوع لا يصح ، والذي يظهر لي أن العهد في الآية يشمل الإيمان بالله وامتثال أمره واجتناب نهيه ، خلافا لمن زعم أن العهد في الآية كقول العرب : عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي : أمره به ، أي : لا يشفع إلا من أمره الله بالشفاعة ، فهذا القول ليس صحيحا في المراد بالآية وإن كان صحيحا في نفسه ، وقد دلت على صحته آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] ، وقوله : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [ 34 \ 23 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن الآية [ 20 \ 109 ] ، وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا الآيات [ 2 \ 116 ] ، وقد تكلمنا عليها وعلى الآيات التي بمعناها في القرآن في مواضع متعددة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا الآية .

    قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيجعل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ودا ، أي محبة في قلوب عباده ، وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذا العموم ، وذلك في قوله : وألقيت عليك محبة مني الآية [ 20 \ 39 ] ، وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه ، قال : فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل ، فقال يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، [ ص: 518 ] ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال : فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض " اهـ .
    قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إنما يسر هذا القرآن بلسان هذا النبي العربي الكريم ، ليبشر به المتقين ، وينذر به الخصوم الألداء ، وهم الكفرة ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر ، أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر ، كقوله في سورة " القمر " مكررا لذلك : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 32 ] ، وقوله في آخر " الدخان " : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] ، وقوله تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 12 \ 1 - 2 ] ، وقوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 1 ] ، وقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : لتبشر به المتقين الآية ، قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة " الكهف " وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وأظهر الأقوال في قوله : لدا أنه جمع الألد ، وهو شديد الخصومة ، ومنه قوله تعالى : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] ، وقول الشاعر :

    أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
    قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا [ الآية 98 ] .

    " وكم " في هذه الآية الكريمة هي الخبرية ، وهي في محل نصب ; لأنها مفعول أهلكنا ، و من هي المبينة لـ " كم " كما تقدم إيضاحه .

    وقوله : هل تحس منهم من أحد ، أي : هل ترى أحدا منهم ، أو تشعر به ، أو تجده أو تسمع لهم ركزا ، أي : صوتا ، وأصل الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز [ ص: 519 ] الرمح : إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض ، ومنه الركاز : وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض ، ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته :


    فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
    وقول طرفة في معلقته :


    وصادقتا سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مندد
    وقول ذي الرمة :


    إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
    والاستفهام في قوله : هل يراد به النفي ، والمعنى : أهلكنا كثيرا من الأمم الماضية فما ترى منهم أحدا ولا تسمع لهم صوتا ، وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهم ، وعدم سماع أصواتهم ذكر بعضه في غير هذا الموضع ، كقوله في عاد : فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 8 ] ، وقوله فيهم : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ 46 \ 25 ] ، وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ طه


    [ ص: 3 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : طه .

    أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَي ْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ " الشُّعَرَاءِ " طسم [ 26 1 ] وَفَاتِحَةِ " النَّمْلِ " طس [ 27 1 ] . وَفَاتِحَةِ " الْقَصَصِ " وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ " مَرْيَمَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [ 19 1 ] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ .

    وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : قَوْلُهُ طه : مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ . قَالُوا : وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ ، وَبَنِي طَيِّئٍ ، وَبَنِي عُكْلٍ ، قَالُوا : لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ : يَا رَجُلُ ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ :
    دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا

    وَيُرْوَى مُزَايِلًا ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَعْنَى ( طه ) بِلُغَةِ عَكٍّ يَا حَبِيبِي ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ . وَقَالَ قُطْرُبٌ : هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ ، وَأَنْشَدَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلْهِلِ :


    إِنَّ السَّفَاهَةَ طه فِي شَمَائِلِكُمْ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ


    وَيُرْوَى :
    إِنَّ السَّفَاهَةَ طه مِنْ خَلَائِقِكُمْ لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ


    وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى " طه " : يَا رَجُلُ ، ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَابْنُ أَبْزَى ، وَغَيْرُهُمْ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " طه " يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْهَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ ، وَالْهَمْزَةُ خُفِّفَتْ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا كَقَوْلٍ فِي الْفَرَزْدَقِ :

    [ ص: 4 ]
    رَاحَتْ بِمُسْلِمَةِ الْبِغَالِ عَشِيَّةً فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ


    ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ . وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّعَسُّفِ ، وَالْبُعْدِ عَنِ الظَّاهِرِ .

    وَفِي قَوْلِهِ طه أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ ، كَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّاءَ مِنَ الطَّهَارَةِ ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهِدَايَةِ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ : يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ ، يَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ . وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَّرْنَا بِهِ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
    قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى

    . في قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وجهان من التفسير ، وكلاهما يشهد له قرآن :

    الأول أن المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا . وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة ، كقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 8 ] ، وقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 6 ] وقوله لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع من هذا الكتاب المبارك .

    الوجه الثاني أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالليل حتى تورمت قدماه ، فأنزل الله ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي تنهك نفسك بالعبادة ، وتذيقها المشقة الفادحة . وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة . وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله ، كقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 78 ] ، وقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 185 ] . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #275
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (274)

    سُورَةُ طه

    صـ 5 إلى صـ 11




    ويفهم من قوله : لتشقى أنه أنزل عليه ليسعد . كما يدل له الحديث الصحيح : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وقد روى الطبراني عن ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يقول للعلماء يوم القيامة : " إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " وقال ابن كثير : إن إسناده جيد ، ويشبه معنى الآية على هذا القول الأخير قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الآية [ ص: 5 ] [ 73 20 ] . وأصل الشقاء في لغة العرب : العناء ، والتعب ، ومنه قول أبي الطيب :


    ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم


    ومنه قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 117 ] .
    وقوله تعالى : إلا تذكرة لمن يخشى .

    أظهر الأقوال فيه : أنه مفعول لأجله ، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة ، أي إلا لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه . والتذكرة : الموعظة التي تلين لها القلوب . فتمتثل أمر الله ، وتجتنب نهيه . وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، كقوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ، وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 11 ] وقوله : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 45 ] . فالتخصيص المذكور في الآيات بمن تنفع فيهم الذكرى لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم . وما ذكره هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة بينه في غير هذا الموضع كقوله : إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم [ 81 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 90 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وإعراب إلا تذكرة بأنه بدل من لتشقى لا يصح ، لأن التذكرة ليست بشقاء . وإعرابه مفعولا مطلقا أيضا غير ظاهر . وقال الزمخشري في الكشاف : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى :

    ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا ليكون تذكرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له .
    قوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا

    .

    في قوله تنزيلا أوجه كثيرة من الإعراب ذكرها المفسرون . وأظهرها عندي أنه مفعول مطلق ، منصوب بنزل مضمرة دل عليها قوله : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي نزله الله تنزيلا ممن خلق الأرض أي فليس بشعر ، ولا كهانة ، ولا سحر ، ولا أساطير الأولين ، كما دل لهذا المعنى قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 41 ] ، والآيات المصرحة بأن القرآن منزل من رب العالمين كثيرة جدا معروفة ، [ ص: 6 ] كقوله وإنه لتنزيل رب العالمين [ 26 192 ] ، وقوله : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [ 39 1 ] وقوله : تنزيل من الرحمن الرحيم [ 41 2 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
    قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى

    .

    تقدم إيضاح الآيات الموضحة لهذه الآية وأمثالها في القرآن في سورة الأعراف مستوفى فأغنى عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى

    . خاطب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة بأنه : إن يجهر بالقول أي يقوله جهرة في غير خفاء ، فإنه جل وعلا يعلم السر وما هو أخفى من السر . وهذا المعنى الذي أشار إليه هنا ذكره في مواضع أخر ، كقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 13 ] ، وقوله : والله يعلم ما تسرون وما تعلنون [ 16 19 ] ، وقوله تعالى : والله يعلم إسرارهم [ 47 26 ] ، وقوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وفي المراد بقوله في هذه الآية وأخفى أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها قرآن . قال بعض أهل العلم يعلم السر : أي ما قاله العبد سرا وأخفى أي ويعلم ما هو أخفى من السر ، وهو ما توسوس به نفسه . كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] . وقال بعض أهل العلم : فإنه يعلم السر : أي ما توسوس به نفسه وأخفى من ذلك ، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله ، كما قال تعالى : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 23 63 ] ، وكما قال تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 32 ] فالله يعلم ما يسره الإنسان اليوم . وما سيسره غدا . والعبد لا يعلم ما في غد كما قال زهير في معلقته :


    وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم


    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأخفى صيغة تفضيل كما بينا ، أي [ ص: 7 ] ويعلم ما هو أخفى من السر . وقول من قال : إن " أخفى " فعل ماض بمعنى أنه يعلم سر الخلق ، وأخفى عنهم ما يعلمه هو . كقوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 110 ] ظاهر السقوط كما لا يخفى .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر أي فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه ، كما قال تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ 7 55 ] ، وقال تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [ 7 205 ] . ويوضح هذا المعنى الحديث الصحيح . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال - صلى الله عليه وسلم - : " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ، ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا بصيرا . إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " .
    قوله تعالى : الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه المعبود وحده ، وأن له الأسماء الحسنى . وبين أنه المعبود وحده في آيات لا يمكن حصرها لكثرتها ، كقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 255 ] ، وقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية [ 47 19 ] .

    وبين في مواضع أخر أن له الأسماء الحسنى ، وزاد في بعض المواضع الأمر بدعائه بها ، كقوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 180 ] ، وقوله : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 110 ] وزاد في موضع آخر تهديد من ألحد في أسمائه . وهو قوله : وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [ 7 180 ] .

    قال بعض العلماء : ومن إلحادهم في أسمائه أنهم اشتقوا العزى من اسم العزيز ، واللات من اسم الله وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة " وقد دل بعض الأحاديث على أن من أسمائه جل وعلا ما استأثر به ولم يعلمه خلقه ، كحديث : " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث .

    وقوله : الحسنى تأنيث الأحسن ، وإنما وصف أسماءه جل وعلا بلفظ المؤنث المفرد ، لأن جمع التكسير مطلقا وجمع المؤنث السالم يجريان مجرى المؤنثة الواحدة [ ص: 8 ] المجازية التأنيث ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    والتاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء من إحدى اللبن


    ونظير قوله هنا الأسماء الحسنى من وصف الجمع بلفظ المفرد المؤنث قوله : من آياتنا الكبرى [ 20 23 ] ، وقوله : مآرب أخرى [ 20 18 ] .
    قوله تعالى : وهل أتاك حديث موسى الآيات [ 20 9 ] .

    قد بينا الآيات الموضحة لها في سورة " مريم " في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ الآية 52 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي

    .

    قال بعض العلماء : دل قوله عقدة من لساني بالتنكير ، والإفراد ، وإتباعه لذلك بقوله يفقهوا قولي على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد ، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها . وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى عنه : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا الآية [ 28 34 ] ، وقوله تعالى عن فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، والاستدلال بقول فرعون عن موسى ، فيه أن فرعون معروف بالكذب ، والبهتان . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه من على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه ، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير ، إذ أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها ، وقال بعضهم : هي رؤيا منام . وقال بعضهم : أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك . ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبيا ، و " أن " في قوله أن اقذفيه هي المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه . والتعبير بالموصول في قوله ما يوحى للدلالة على تعظيم شأن الأمر المذكور .

    كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 78 ] ، وقوله فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 10 ] ، والتابوت : الصندوق . واليم : البحر . والساحل : شاطئ البحر . والبحر المذكور : نيل مصر . والقذف : الإلقاء ، والوضع ، ومنه قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [ 33 26 ] ومعنى اقذفيه في التابوت أي ضعيه في الصندوق . [ ص: 9 ] والضمير في قوله أن اقذفيه راجع إلى موسى بلا خلاف . وأما الضمير في قوله فاقذفيه في اليم وقوله فليلقه فقيل : راجع إلى التابوت . والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت ، لأن تفريق الضمائر غير حسن ، وقوله يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 39 ] هو فرعون ، وصيغة الأمر في قوله فليلقه اليم بالساحل فيها وجهان معروفان عند العلماء :

    أحدهما أن صيغة الأمر معناها الخبر ، قال أبو حيان في البحر المحيط : فليلقه أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها .

    الوجه الثاني أن صيغة الأمر في قوله فليلقه أريد بها الأمر الكوني القدري ، كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 82 ] فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله أمره بذلك كونا وقدرا . وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا [ 19 75 ] .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " القصص " : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 7 - 8 ] وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر ، وألقاه اليم بالساحل ، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 10 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة يأخذه مجزوم في جواب الطلب الذي هو فليلقه اليم بالساحل وعلى أنه بمعنى الأمر الكوني فالأمر واضح . وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ . والعلم عند الله تعالى . وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت ، وحشته قطنا محلوجا . وقيل : إن التابوت المذكور من شجر الجميز ، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون ، قيل : واسمه حزقيل . وكانت عقدت في التابوت حبلا فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل . فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم ، والهم ما ذكره الله تعالى في قوله وأصبح فؤاد أم موسى فارغا الآية [ 28 10 ] .

    [ ص: 10 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 37 ] أشار إلى ما يشبهه في قوله : ولقد مننا على موسى وهارون الآية [ 37 114 ] .
    قوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني

    .

    من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما ذكره جل وعلا في " القصص " في قوله : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه [ 28 9 ] ، قال ابن عباس وألقيت عليك محبة مني : أي أحبه الله وحببه إلى خلقه . وقال ابن عطية : جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه . وقال قتادة : كانت في عيني موسى ملاحة ، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه . قال القرطبي
    قوله تعالى إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن

    .

    اختلف في العامل الناصب للظرف الذي هو " إذ " من قوله إذ تمشي أختك فقيل : هو " ألقيت " أي ألقيت عليك محبة مني حين تمشي أختك . وقيل : هو " تصنع " أي " تصنع على عيني " حين تمشي أختك . وقيل : هو بدل من " إذ " في قوله إذ أوحينا إلى أمك [ 20 38 ] .

    قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح البدل ، والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا . فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها .

    وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون أخته مشت إليهم ، وقالت لهم هل أدلكم على من يكفله أوضحه جل وعلا في سورة " القصص " فبين أن أخته المذكورة مرسلة من قبل أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر ، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك . وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريما كونيا قدريا . فقالت لهم أخته هل أدلكم على من يكفله أي على مرضع يقبل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى : وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 28 11 - 13 ] [ ص: 11 ] فقوله تعالى في آية " القصص " هذه وقالت لأخته أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها قصيه أي اتبعي أثره ، وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره .

    وقوله : فبصرت به عن جنب أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه ، تنظر إليه وكأنها لا تريده وهم لا يشعرون بأنها أخته جاءت لتعرف خبره فوجدته ممتنعا من أن يقبل ثدي مرضعة ، لأن الله يقول : وحرمنا عليه المراضع أي تحريما كونيا قدريا ، أي منعناه منها ليتيسر بذلك رجوعه إلى أمه ، لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه . وعن ابن عباس : أنه لما قالت لهم هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟

    فقالت لهم : نصحهم له ، وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ، ورجاء منفعته ، فأرسلوها . فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى ، وأحسنت إليها ، وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه قبل ثديها . ثم سألتها " آسية " أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولا أقدر على المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك ، وأجرت عليها النفقة ، والصلات ، والكساوى ، والإحسان الجزيل . فرجعت أم موسى بولدها قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا في عز وجاه ، ورزق دار . ا ه من ابن كثير .

    وقوله تعالى في آية " القصص " : ولتعلم أن وعد الله حق [ 28 13 ] وعد الله المذكور هو قوله : ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ 28 7 ] ، والمؤرخون يقولون : إن أخت موسى المذكورة اسمها " مريم " وقوله كي تقر عينها إن قلنا فيه : إن " كي " حرف مصدري فاللام محذوفة ، أي لكي تقر . وإن قلنا : إنها تعليلية ، فالفعل منصوب بأن مضمرة . وقوله تقر عينها قيل : أصله من القرار . لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه ، ولا تنظر إلى غيره : كما قال أبو الطيب :


    وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #276
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (275)

    سُورَةُ طه
    صـ 12 إلى صـ 18


    وقيل : أصله من القر بضم القاف وهو البرد ، تقول العرب : يوم قر بالفتح أي بارد ، ومنه قول امرئ القيس :
    تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعا صبر
    إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرقت الأرض واليوم قر


    ومنه أيضا قول حاتم الطائي الجواد :


    أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر
    عل يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حر


    وعلى هذا القول : فقرة العين من بردها . لأن عين المسرور باردة ، ودمع البكاء من السرور بارد جدا ، بخلاف عين المحزون فإنها حارة ، ودمع البكاء من الحزن حار جدا . ومن أمثال العرب : أحر من دمع المقلات . وهي التي لا يعيش لها ولد ، فيشتد حزنها لموت أولادها فتشتد حرارة دمعها لذلك .
    قوله تعالى : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا

    .

    لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله لهذه النفس ، ولا ممن هي ، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم ، ولا الفتون الذي فتنه ، ولكنه بين في سورة " القصص " خبر القتيل المذكور في قوله تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ 28 15 - 16 ] وأشار إلى القتيل المذكور في قوله : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 33 ] وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى : فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون [ 26 13 - 14 ] وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه : وفعلت فعلتك التي فعلت الآية [ 26 19 ] . وقد أشار تعالى في " القصص " أيضا إلى غم موسى ، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه في قوله : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل [ ص: 13 ] إلى قوله قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ 28 20 - 25 ] . وقوله وفتناك فتونا ، قال بعض أهل العلم : الفتون مصدر ، وربما جاء مصدر الثلاثي المتعدي على فعول . وقال بعضهم : هو جمع فتنة . وقال الزمخشري في الكشاف فتونا يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدي كالثبور ، والشكور ، والكفور . وجمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن . وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث " الفتون " ، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده . وهو حديث طويل يقتضي أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره ، كالخوف عليه من الذبح وهو صغير ، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت وقذف في اليم فألقاه اليم بالساحل . وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله . وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور . وقال ابن كثير بعد أن ساق حديث الفتون بطوله : هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى . وأخرجه أبو جعفر بن جرير ، وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره . والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا ا ه .
    قوله تعالى : فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر

    . السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى : قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك [ 28 27 ] وقد قدمنا في سورة " مريم " أنه أتم العشر ، وبينا دليل ذلك من السنة . وبه تعلم أن الأجل في قوله : فلما قضى موسى الأجل [ 28 29 ] أنه عشر سنين لا ثمان . وقال بعض أهل العلم : لبث موسى في مدين ثماني وعشرين سنة ، عشر منها مهر ابنة صهره ، وثمان عشرة أقامها هو اختيارا ، والله تعالى أعلم .

    وأظهر الأقوال في قوله تعالى : ثم جئت على قدر ياموسى [ 20 40 ] أي جئت على القدر الذي قدرته وسبق في علمي أنك تجيء فيه فلم تتأخر عنه ولم تتقدم ، كما قال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 49 ] وقال : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 8 ] ، [ ص: 14 ] وقال وكان أمر الله قدرا مقدورا [ 33 38 ] . وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :


    نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر


    قوله تعالى : اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى .

    قال بعض أهل العلم : المراد بالآيات في قوله هنا : اذهب أنت وأخوك بآياتي الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية [ 17 101 ] ، وقوله : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات الآية [ 27 12 ] . والآيات التسع المذكورة هي : العصا ، واليد البيضاء . . . إلى آخرها . وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " بني إسرائيل " .

    وقوله تعالى : إنه طغى .

    أصل الطغيان : مجاوزة الحد ، ومنه : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 11 ] وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله عنه : فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 24 ] ، وقوله عنه ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقوله عنه أيضا : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا تنيا مضارع ونى يني ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :


    فا أمر ومضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد


    والونى في اللغة : الضعف ، والفتور ، والكلال ، والإعياء ، ومنه قول امرئ القيس في معلقته :


    مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل


    وقول العجاج :


    فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر


    فقوله : ولا تنيا في ذكري أي لا تضعفا ، ولا تفترا في ذكري . وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته في قوله : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ 3 191 ] ، وأمر بذكر الله عند لقاء العدو في قوله : إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ 8 45 ] [ ص: 15 ] كما تقدم إيضاحه .

    وقال ابن كثير في تفسيره هذه الآية الكريمة : والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله في حال مواجهة فرعون . ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له ، كما جاء في الحديث : " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه " اه منه .

    وقال بعض أهل العلم : ولا تنيا في ذكري لا تزالا في ذكري . واستشهد لذلك بقول طرفة :


    كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي


    أي لا تزال تغلي . ومعناه راجع إلى ما ذكرنا . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى

    .

    أمر الله جل وعلا نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه " قولا لينا " أي كلاما لطيفا سهلا رقيقا ، ليس فيه ما يغضب وينفر . وقد بين جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله : اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 17 - 18 ] وهذا ، والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى . وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 125 ] .

    مسألة

    يؤخذ من هذه الآية الكريمة : أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرفق ، واللين . لا بالقسوة ، والشدة ، والعنف . كما بيناه في سورة " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : عليكم أنفسكم [ الآية 105 ] . وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : قال يزيد الرقاشي عند قوله فقولا له قولا لينا [ 20 44 ] : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكشف بمن يتولاه ويناديه ؟ اه ولقد صدق من قال :


    ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكا وزورا أناب إلى الله مستغفرا
    لما وجد الله إلا غفورا


    [ ص: 16 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لعله يتذكر أو يخشى قد قدمنا قول بعض العلماء : إن " لعل " في القرآن بمعنى التعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 129 ] فهي بمعنى كأنكم . وقد قدمنا أيضا أن " لعل " تأتي في العربية للتعليل . ومنه قوله :


    فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
    فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق


    فقوله : " لعلنا نكف " أي لأجل أن نكف .

    وقال بعض أهل العلم : لعله يتذكر أو يخشى معناه على رجائكما وطمعكما ، فالترجي ، والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر . وعزا القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كسيبويه ، وغيره .
    قوله تعالى : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى

    .

    ألف الاثنين في قوله " فأتياه " راجعة إلى موسى وهارون . والهاء راجعة إلى فرعون . أي فأتيا فرعون " فقولا " له : " إنا رسولان إليك من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل " أي خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاءوا ، ولا تعذبهم .

    العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل : هو المذكور في سورة " البقرة " في قوله : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] ، وفي سورة " إبراهيم " في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 14 6 ] ، وفي سورة " الأعراف " في قوله تعالى : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 7 141 ] . وفي سورة " الدخان " في قوله : ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 20 ] وفي سورة " الشعراء " في قوله : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 22 ] .

    [ ص: 17 ] وما أمر به الله موسى وهارون في آية " طه " هذه من أنهما يقولان لفرعون إنهما رسولا ربه إليه ، وأنه يأمره بإرسال بني إسرائيل ، ولا يعذبهم أشار إليه تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل [ 26 16 - 17 ] .

    تنبيه

    فإن قيل ، ما وجه الإفراد في قوله إنا رسول رب العالمين في " الشعراء " ؟ مع أنهما رسولان ؟ كما جاء الرسول مثنى في " طه " فما وجه التثنية في " طه " ، والإفراد في " الشعراء " ، وكل واحد من اللفظين : المثنى ، والمفرد يراد به موسى وهارون ؟

    فالذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم أن لفظ الرسول أصله مصدر وصف به ، والمصدر إذا وصف به ذكر وأفرد كما قدمنا مرارا . فالإفراد في " الشعراء " نظرا إلى أن أصل الرسول مصدر . والتثنية في " طه " اعتدادا بالوصفية العارضة وإعراضا عن الأصل ، ولهذا يجمع الرسول اعتدادا بوصفيته العارضة ، ويفرد مرادا به الجمع نظرا إلى أن أصله مصدر . ومثال جمعه قوله تعالى : تلك الرسل الآية [ 2 253 ] ، وأمثالها في القرآن . ومثال إفراده مرادا به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي :


    ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر


    ومن إطلاق الرسول مرادا به المصدر على الأصل قوله :


    لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول


    أي برسالة .

    وقول الآخر :


    ألا بلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني


    يعني أبلغهم رسالة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قد جئناك بآية يراد به جنس الآية الصادق بالعصا ، واليد ، وغيرهما . لدلالة آيات أخر على ذلك .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والسلام على من اتبع الهدى يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى . ويفهم من الآية : أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه ، وهو كذلك . ولذا كان في أول الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم :

    [ ص: 18 ] " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام . . . " إلى آخر كتابه - صلى الله عليه وسلم - . قوله تعالى : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى

    .

    ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن موسى وهارون . أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب وتولى أشير إلى نحوه في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى . كقوله : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 37 - 39 ] ، وقوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ 92 14 - 16 ] . وقوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى [ 75 31 - 35 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما : من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي ؟ زاعما أنه لا يعرفه . وأنه لا يعلم لهما إلها غير نفسه ، كما قال : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] . وبين جل وعلا في غير هذا الموضع أن قوله فمن ربكما تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين ، وذلك في قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 102 ] ، وقوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 13 - 14 ] كما تقدم إيضاحه . وسؤال فرعون عن رب موسى ، وجواب موسى له جاء موضحا في سورة " الشعراء " بأبسط مما هنا ، وذلك في قوله : قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 26 23 - 33 ] إلى آخر القصة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #277
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (276)

    سُورَةُ طه
    صـ 19 إلى صـ 25




    [ ص: 19 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 50 ] فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضا ، وكلها حق ، ولا مانع من شمول الآية لجميعها . منها أن معنى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة ، والهيئة ، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا . وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا . فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم ، ولا البهائم بالإناث من الإنس ، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل ، والنماء ، كيف يأتيه ، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم ، والمشارب ، وغير ذلك .

    وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة ، وعن السدي وسعيد بن جبير ، وعن ابن عباس أيضا : ثم هدى أي هداه إلى الألفة ، والاجتماع ، والمناكحة .

    وقال بعض أهل العلم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي : أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه ، وهذا مروي عن الحسن وقتادة .

    وقال بعض أهل العلم : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى : أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له . فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة ، ولا البهيمة في صورة الإنسان ، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديرا ، كما قال الشاعر :


    وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل


    يعني بالخلقة : الصورة ، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل ، وعطية وسعيد بن جبير ثم هدى كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه .

    وقال بعض أهل العلم : أعطى كل شيء خلقه : أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع . وكذلك الأنف ، والرجل ، واللسان ، وغيرها ، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . وهذا القول روي عن الضحاك . وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى كل شيء هو المفعول الأول لـ " أعطى " ، و " خلقه " هو المفعول الثاني .

    وقال بعض أهل العلم : إن " خلقه " هو المفعول الأول ، و " كل شيء " هو [ ص: 20 ] المفعول الثاني . وعلى هذا القول فالمعنى : أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه ، ثم هداهم إلى طريق استعماله . ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه " أعطى " في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس ، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو . وأشار له في الخلاصة بقوله :


    ويلزم الأصل لموجب عرا وترك ذاك الأصل حتما قد يرى


    قال مقيده - عفا الله عنه - : ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة . لأنه لا شك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا ، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به . ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له ، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة ، والألفة ، والاجتماع . وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا ! ما أعظم شأنه وأكمل قدرته ! !

    وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء ، وهو المعبود وحده جل وعلا :

    لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 88 ] .

    وقد حرر تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن : أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافا حقيقيا متضادا يكذب بعضه بعضا ، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضا ، والآيات تشمل جميعه ، فينبغي حملها على شمول ذلك كله ، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

    قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة ، والكسائي " مهدا " بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف . وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف . والمهاد : الفراش . والمهد بمعناه . وكون أصله مصدرا لا ينافي أن يستعمل اسما للفراش .

    وقوله في هذه الآية : الذي جعل لكم الأرض في محل رفع نعت لـ " ربي " [ ص: 21 ] من قوله قبله قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 52 ] أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدا . ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف . أي هو الذي جعل لكم الأرض . ويجوز أن ينصب على المدح ، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني ، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله :


    وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا


    هكذا قال غير واحد من العلماء . والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف . لأنه كلام مستأنف من كلام الله . ولا يصح تعلقه بقول موسى لا يضل ربي لأن قوله فأخرجنا يعين أنه من كلام الله ، كما نبه عليه أبو حيان في البحر ، والعلم عند الله تعالى .

    وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده . ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره فهي من النعم العظمى على بني آدم .

    الأولى : فرشه الأرض على هذا النمط العجيب .

    الثانية : جعله فيها سبلا يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر .

    الثالثة : إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب .

    الرابعة : إخراجه أنواع النبات من الأرض .

    أما الأولى التي هي جعله الأرض مهدا فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا الآية [ 43 9 - 10 ] ، وقوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 6 - 7 ] ، وقوله تعالى : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 48 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا [ 13 3 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

    وأما الثانية التي هي جعله فيها سبلا فقد جاء الامتنان ، والاستدلال بها في آيات كثيرة . كقوله في " الزخرف " : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 9 ] ، [ ص: 22 ] وقوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 31 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله : وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 15 ] .

    وأما الثالثة ، والرابعة وهما إنزال الماء من السماء وإخراج النبات به من الأرض فقد تكرر ذكرهما في القرآن على سبيل الامتنان ، والاستدلال معا . كقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب الآية [ 16 10 ] . وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم . ونظيره في القرآن قوله تعالى في " الأنعام " : وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا [ 6 99 ] ، وقوله في " فاطر " : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها [ 35 27 ] ، وقوله في " النمل " : أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة [ 27 60 ] .

    وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيء لهلك الناس جوعا وعطشا . فهو يدل على عظمته جل وعلا ، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا .

    وقوله في هذه الآية : أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة من أنواع النبات . فالأزواج : جمع زوج ، وهو هنا الصنف من النبات ، كما قال تعالى في سورة " الحج " : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 5 ] أي من كل صنف حسن من أصناف النبات ، وقال تعالى في سورة " لقمان " : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 10 ] أي من كل نوع حسن من أنواع النبات ، وقال تعالى في سورة " يس " : [ ص: 23 ] سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله شتى نعت لقوله : أزواجا [ 20 53 ] . ومعنى قوله : أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة الأشكال ، والمقادير ، والمنافع ، والألوان ، والروائح ، والطعوم . وقيل شتى جمع لـ " نبات " أي نبات مختلف كما بينا . والأظهر الأول ، وقوله شتى جمع شتيت . كمريض ومرضى . والشتيت : المتفرق . ومنه قول رؤبة يصف إبلا جاءت مجتمعة ثم تفرقت ، وهي تثير غبارا مرتفعا :


    جاءت معا وأطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا


    وثغر شتيت : أي متفلج لأنه متفرق الأسنان . أي ليس بعضها لاصقا ببعض .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وسلك لكم فيها سبلا قد قدمنا أن معنى السلك : الإدخال . وقوله سلك هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلا فجاجا يمر الخلق معها . وعبر عن ذلك هنا بقوله : وسلك لكم فيها سبلا [ 20 53 ] وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل ، كقوله في " الأنبياء " : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 31 ] وقوله في " الزخرف " : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 10 ] وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في " النحل " : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 31 15 ] لأن عطف السبل على الرواسي ظاهر في ذلك .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كلوا وارعوا أنعامكم أي كلوا أيها الناس من الثمار ، والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب ، والفواكه ونحو ذلك ، وارعوا أنعامكم . أي أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها . تقول : رعت الماشية الكلأ ، ورعاها صاحبها : أي أسامها وسرحها . يلزم ويتعدى . والأمر في قوله كلوا وارعوا للإباحة . ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان ، والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك للعبادة وحده .

    وما ذكره في هذه الآية الكريمة : من الامتنان على بني آدم بأرزاقهم وأرزاق أنعامهم جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله في سورة " السجدة " : فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 27 ] ، وقوله في " النازعات " : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 31 - 33 ] ] ، [ ص: 24 ] وقوله في " عبس " : ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 25 - 32 ] وقوله في " النحل " : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 31 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لأولي النهى أي لأصحاب العقول . فالنهى : جمع نهية بضم النون ، وهي العقل . لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق . تقول العرب : نهو الرجل بصيغة فعل بالضم : إذا كملت نهيته أي عقله . وأصله نهي بالياء فأبدلت الياء واوا لأنها لام فعل بعد ضم . كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    وواوا إثر الضم رد اليا متى ألفي لام فعل أو من قبل تا

    قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

    .

    الضمير في قوله " منها " معا ، وقوله فيها راجع إلى " الأرض " المذكورة في قوله الذي جعل لكم الأرض مهدا .

    وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

    الأولى : أنه خلق بني آدم من الأرض .

    الثانية : أنه يعيدهم فيها .

    الثالثة : أنه يخرجهم منها مرة أخرى . وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

    أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه . كقوله ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب الآية [ 30 20 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها . كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 59 ] . ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعا له في الخلق صدق عليهم أنهم خلقوا من تراب . وما يزعمه [ ص: 25 ] بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ، والتراب معا فهو خلاف التحقيق . لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة . فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما بـ " ثم " في قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 67 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 6 - 8 ] وكذلك ما يزعمه بعض المفسرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى .

    وأما المسألة الثانية فقد ذكرها تعالى أيضا في غير هذا الموضع . وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا [ 77 25 - 26 ] فقوله كفاتا [ 77 26 ] أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه : أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها . وهو معنى قوله وفيها نعيدكم .

    وأما المسألة الثالثة : وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة . كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 19 ] أي من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي من القبور بالبعث يوم القيامة ، وقوله تعالى : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 25 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 57 ] ، وقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 43 ] ، وقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #278
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (277)

    سُورَةُ طه
    صـ 26 إلى صـ 32



    وقوله في هذه الآية الكريمة : منها خلقناكم الآية ، كقوله تعالى : قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ 7 25 ] . والتارة في قوله تارة أخرى بمعنى [ ص: 26 ] المرة . وفي حديث السنن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة ، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال " منها خلقناكم " ثم أخذ أخرى وقال " وفيها نعيدكم " ثم أخرى وقال " ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
    قوله تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى

    .

    أظهر القولين أن الإضافة في قوله آياتنا مضمنة معنى العهد كالألف ، واللام . والمراد بآياتنا المعهودة لموسى كلها وهي التسع المذكورة في قوله : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية [ 17 101 ] ، وقوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه الآية [ 27 12 ] . وقال بعضهم : الآيات التسع المذكورة هي : العصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة . وقد قدمنا كلام أهل العلم في الآيات التسع في سورة " الإسراء " . وقال بعض أهل العلم : العموم على ظاهره ، وإن الله أرى فرعون جميع الآيات التي جاء بها موسى ، والتي جاء بها غيره من الأنبياء ، وذلك بأن عرفه موسى جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء . والأول هو الظاهر .

    وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أن الآيات التي أراها فرعون وقومه بعضها أعظم من بعض ، كما قال تعالى في سورة " الزخرف " : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها [ 48 ] ، وقوله : لنريك من آياتنا الكبرى [ 20 23 ] ، وقوله : فأراه الآية الكبرى [ 79 20 ] لأن الكبرى في الموضعين تأنيث الأكبر ، وهي صيغة تفضيل تدل على أنها أكبر من غيرها .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكذب وأبى يعني أنه مع ما أراه الله من الآيات المعجزات الدالة على صدق نبيه موسى ، كذب رسول ربه موسى ، وأبى عن قبول الحق . وقد أوضح جل وعلا في غير هذا الموضع شدة إبائه وعناده وتكبره على موسى في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 132 ] ، وقوله تعالى : فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون [ 43 47 ] وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] ، وقوله تعالى : ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 51 - 53 ] ، [ ص: 27 ] ومقصوده بذلك كله تعظيم أمر نفسه وتحقير أمر موسى ، وأنه لا يمكن أن يتبع الفاضل المفضول .

    وقد بين جل وعلا : أن فرعون كذب وأبى ، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق . وأن الآيات التي كذب بها وأبى عن قبولها ما أنزلها إلا الله ، وذلك في قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 14 ] . وقوله قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 102 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله أريناه أصله من رأى البصرية على الصحيح .
    قوله تعالى : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال : إن الآيات التي جاء بها موسى سحر ، وإنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم .

    أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر فقد ذكره الله جل وعلا في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين [ 27 13 ] ، وقوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين [ 10 76 ] ، وقوله : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 71 ] ، وقوله : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك الآية [ 43 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر فقد ذكره الله جل وعلا أيضا في مواضع من كتابه . كقوله تعالى في هذه السورة : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى [ 20 57 ] ، وقوله في " الأعراف " : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون [ 7 109 - 110 ] ، وقوله في " الشعراء " : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون [ 26 34 ] ، وقوله في " يونس " : قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض [ 10 78 ] ، وقال سحرة فرعون : إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى [ 20 63 ] .
    [ ص: 28 ] قوله تعالى : فلنأتينك بسحر مثله

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لعنه الله ، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة ، وادعى أنها سحر أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر . وقد بين في غير هذا الموضع : أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك . كقوله في " الأعراف " : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم [ 7 109 - 110 ] . وقوله في " الشعراء " : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم [ الآيات 34 - 37 ] ، لأن قوله فماذا تأمرون في الموضعين يدل على أن قول فرعون فلنأتينك بسحر مثله وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك .
    قوله تعالى : فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت والإخلاف : عدم إنجاز الوعد . وقرر أن يكون مكان الاجتماع المناظرة والمغالبة في السحر في زعمه مكانا سوى . وأصح الأقوال في قوله سوى على قراءة الكسر والضم : أنه مكان وسط تستوي أطراف البلد فيه . لتوسطها بينها ، فلم يكن أقرب للشرق من الغرب ، ولا للجنوب من الشمال . وهذا هو معنى قول المفسرين مكانا سوى أي نصفا وعدلا ليتمكن جميع الناس أن يحضروا . وقوله : سوى أصله من الاستواء . لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية . وقوله سوى فيه ثلاث لغات : الضم ، والكسر مع القصر ، وفتح السين مع المد . والقراءة بالأوليين دون الثالثة هنا ومن القراءة بالثالثة إلى كلمة سواء بيننا وبينكم [ 3 64 ] ومن إطلاق العرب مكانا سوى على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي ، وقد أنشده أبو عبيدة شاهدا لذلك :


    وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس عيلان والفزر


    [ ص: 29 ] والفزر : سعد بن زيد مناة بن تميم . يعني : حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان ، والفزر . وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد ، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة . وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم ، يجتمعون فيه ويتزينون . سواء قلنا : إنه يوم عيد لهم ، أو يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون فيه بأنواع الزينة .

    قال الزمخشري : وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه ، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد في المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر . ليعلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر ، والحضر . اه منه .

    والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله وأن يحشر الناس ضحى في محل جر عطفا على الزينة أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ، أو في محل رفع عطفا على قوله يوم الزينة على قراءة الجمهور بالرفع . والحشر : الجمع ، والضحى : من أول النهار حين تشرق الشمس . والضحى يذكر ويؤنث . فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة . ومن ذكره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر . وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف . وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر . وقيل لا .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون المناظرة بين موسى ، والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه . ليعرفوا الغالب من المغلوب أشير له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " : فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين [ 26 38 - 40 ] .

    فقوله تعالى : لميقات يوم معلوم .

    اليوم المعلوم : هو يوم الزينة المذكور هنا . وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله وأن يحشر الناس ضحى .
    تنبيه

    اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعا من الإشكال معروفة عند العلماء ، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها ، ونبين إزالة الإشكال عنها .

    اعلم أولا أن الفعل الثلاثي إن كان مثالا أعني واوي الفاء كوعد ووصل ، [ ص: 30 ] فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل ( بفتح الميم وكسر العين ) ما لم يكن معتل اللام . فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل ( بفتح الميم والعين ) كما هو معروف في فن الصرف .

    فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاجعل بيننا وبينك موعدا صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدرا ميميا بمعنى الوعد ، وأن يكون اسم زمان يراد به وقت الوعد ، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد . ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى : إن موعدهم الصبح [ 11 81 ] أي وقت وعدهم بالإهلاك الصبح . ومن إطلاقه في القرآن اسم مكان قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين [ 15 43 ] أي مكان وعدهم بالعذاب .

    وأوجه الإشكال في هذا أن قوله : لا نخلفه نحن ولا أنت يدل على أن الموعد مصدر . لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ، ولا مكانه .

    وقوله تعالى : مكانا سوى .

    يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان .

    وقوله : قال موعدكم يوم الزينة يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان . فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله : مكانا سوى والزمان في قوله : يوم الزينة وإن قلنا : إن الموعد اسم مكان أشكل عليه قوله لا نخلفه لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد ، وأشكل عليه أيضا قوله : قال موعدكم يوم الزينة .

    وإن قلنا : إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضا قوله : لا نخلفه وقوله مكانا سوى هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة . وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال : لا يخلو الموعد في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا . فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله موعدكم يوم الزينة مطابق له لزمك شيئان : أن تجعل الزمان مخلفا وأن يعضل عليك ناصب مكانا وإن جعلته مكانا لقوله تعالىمكانا سوى لزمك أيضا أن توقع الإخلاف على المكان ، ولا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة إلى أن قال : فبقي أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف ، أي مكان الوعد ، ويجعل الضمير في نخلفه للموعد و مكانا بدل من المكان المحذوف .

    [ ص: 31 ] فإن قلت : كيف طابقه قوله موعدكم يوم الزينة ولا بد من أن تجعله زمانا ، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟

    قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا . لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم . فبذكر الزمان علم المكان . انتهى محل الغرض منه . ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف ، والحذف ، والإبدال من المحذوف .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر ما أجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد ، وأنه يكون مكانا سوى . أي وسطا بين أطراف البلد كما بينا . وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزينة ضحى . لأن الوعد لا بد له من مكان وزمان . فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا إنه اسم مكان أي مكان الوعد ، وقوله مكانا بدل من قوله موعدا . لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون مكانا بدلا . ولا إشكال في ضمير نخلفه على هذا . ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف : أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه ، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان . فالمنزل مثلا مكان النزول ، والمجلس مكان الجلوس ، والموعد مكان الوعد . فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله لا نخلفه راجع إلى المصدر الكامن في مفهوم اسم المكان ، كرجوعه للمصدر الكامن في مفهوم الفعل في قوله اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 8 ] : فقوله هو أي العدل المفهوم من اعدلوا وكذلك قوله تعالى : لا نخلفه أي : الوعد الكامن في مفهوم اسم المكان الذي هو الموعد . لأنه مكان الوعد ، فمعناه مركب إضافي وآخر جزأيه لفظ الوعد وهو مرجع الضمير في لا نخلفه .

    فإذا عرفت معنى هذا الكلام الذي أخبر الله أن فرعون قاله لموسى فاعلم أن قوله عن موسى قال موعدكم يوم الزينة يدل على أنه وافق على طلب فرعون ضمنا ، وزاد تعيين زمان الوعد بقوله قال موعدكم يوم الزينة ولا إشكال في ذلك . هذا هو الذي ظهر لنا صوابه . وأقرب الأوجه التي ذكرها العلماء بعد هذا عندي قول من قال : إن [ ص: 32 ] الموعد في الآية مصدر وعليه فـ لا نخلفه راجع للمصدر ، و مكانا منصوب بفعل دل عليه الموعد . أي : عدنا مكانا سوى . ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو موعدا أو أحد مفعولي فاجعل غير صواب فيما يظهر لي ، والله تعالى أعلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة مكانا سوى قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين ، والباقون بكسرها . ومعنى القراءتين واحد كما تقدم .
    قوله تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى

    .

    قوله تعالى في هذه الآية الكريمة فتولى فرعون قال بعض العلماء : معناه فتولى فرعون ، انصرف مدبرا من ذلك المقام ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعد عليه هو وموسى . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في سورة " النازعات " في القصة بعينها ثم أدبر يسعى فحشر فنادى [ 79 22 - 23 ] وقوله فحشر أي : جمع السحرة .

    وقال بعض العلماء : معنى قوله فتولى فرعون أي : أعرض عن الحق الذي جاء به موسى . ومن معنى هذا الوجه قوله تعالى : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 20 48 ] .

    وقوله تعالى : فجمع كيده الظاهر أن المراد بـ كيده ما جمعه من السحر ليغلب به موسى في زعمه . وعليه فالمراد بقوله فجمع كيده هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته ، ويدل على هذا أمران : أحدهما تسمية السحر في القرآن كيدا . كقوله إنما صنعوا كيد ساحر الآية [ 20 69 ] ، وقوله تعالى عن السحرة : فأجمعوا كيدكم [ 20 64 ] وكيدهم سحرهم . الثاني أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله . كقوله تعالى في " الأعراف " : وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم [ 7 111 - 112 ] . وقوله حاشرين أي : جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته ، وقوله في " الشعراء " : وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم [ 26 36 ] ، وقوله في " يونس " : وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم [ 10 79 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم أتى أي : جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #279
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (278)

    سُورَةُ طه
    صـ 33 إلى صـ 39



    [ ص: 33 ] قوله تعالى : قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن السحرة لما جمعهم فرعون واجتمعوا مع موسى للمغالبة قالوا له متأدبين معه : إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى وقد بين تعالى مقالتهم هذه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " : قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين [ 7 115 ] . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يحذف مفعول فعل في موضع ، ثم يبين في موضع آخر ، فإنا نبين ذلك ، وقد حذف هنا في هذه الآية مفعول تلقي ومفعول أول من ألقى وقد بين تعالى في مواضع أخر أن مفعول إلقاء موسى هو عصاه وذلك في قوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 117 ] ، وقوله في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 26 45 ] ، وقوله هنا : وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا الآية [ 20 69 ] . وما في يمينه هو عصاه . كما قال تعالى : وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي الآية [ 20 17 ] .

    وقد بين تعالى أيضا في موضع آخر : أن مفعول إلقائهم هو حبالهم وعصيهم ، وذلك في قوله في " الشعراء " : فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ 26 44 ] . وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله هنا قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 20 66 ] ، لأن في الكلام حذفا دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله أن تلقي وفي قوله أن نكون فيه وجهان من الإعراب : الأول أنه في محل نصب بفعل محذوف دل المقام عليه ، والتقدير : إما أن تختار أن تلقي أي : تختار إلقاءك أولا ، أو تختار إلقاءنا أولا . وتقدير المصدر الثاني : وإما أن تختار أن نكون أي : كوننا أول من ألقى ، والثاني أنه في محل رفع ، وعليه فقيل هو مبتدأ ، والتقدير إما إلقاؤك أولا ، أو إلقاؤنا أولا . وقيل خبر مبتدأ محذوف ، أي : إما الأمر إلقاؤنا أو إلقاؤك .
    قوله تعالى : قال بل ألقوا

    .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما خيره سحرة فرعون أن يلقي قبلهم أو يلقوا قبله قال لهم : ألقوا يعني ألقوا [ ص: 34 ] ما أنتم ملقون كما صرح به في " الشعراء " في قوله تعالى : قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون [ 26 43 ] وذلك هو المراد أيضا بقوله في " الأعراف " قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] .

    تنبيه

    قول موسى للسحرة : ألقوا المذكور في " الأعراف ، وطه ، والشعراء " فيه سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف قال هذا النبي الكريم للسحرة ألقوا . أي : ألقوا حبالكم وعصيكم ، يعني اعملوا السحر وعارضوا به معجزة الله التي أيد بها رسوله ، وهذا أمر بمنكر ؟ ، والجواب : هو أن قصد موسى بذلك قصد حسن يستوجبه المقام ، لأن إلقاءهم قبله يستلزم إبراز ما معهم من مكائد السحر ، واستنفاد أقصى طرقهم ومجهودهم . فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائه عصاه بعد ذلك وابتلاعها لجميع ما ألقوا من إظهار الحق وإبطال الباطل ما لا جدال بعده في الحق لأدنى عاقل . ولأجل هذا قال لهم : ألقوا ، فلو ألقى قبلهم وألقوا بعده لم يحصل ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى

    .

    قرأ هذا الحرف ابن ذكوان عن ابن عامر " تخيل " بالتاء ، أي : تخيل هي أي : الحبال ، والعصي أنها تسعى . والمصدر في " أنها تسعى " بدل من ضمير الحبال ، والعصي الذي هو نائب فاعل لـ " تخيل " بدل اشتمال . وقرأ الباقون بالياء التحتية . والمصدر في سحرهم أنها تسعى نائب فاعل لـ " تخيل " .

    وفي هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم ، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . وبه تعلم أن الفاء في قوله فإذا حبالهم عاطفة على محذوف كما أشار لنحو ذلك ابن مالك في الخلاصة بقوله :


    وحذف متبوع بدا هنا استبح


    و " إذا " هي الفجائية ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا . والحبال : جمع حبل ، وهو معروف . و " العصي " جمع عصا ، وألف العصا منقلبة عن واو ، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية : ومنه قول غيلان ذي الرمة :

    [ ص: 35 ]
    فجاءت بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق


    وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا . فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصويا ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء ، فالياءان أصلهما واوان . وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله :


    كذاك ذا وجهين جا الفعول من ذي الواو لام جمع أو فرد يعن


    وضمة الصاد في وعصيهم أبدلت كسرة لمجانسة الياء ، وضمة عين " عصيهم " أبدلت كسرة لاتباع كسرة الصاد . والتخيل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى هو إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال . وهو الطيف الطارق في النوم . قال الشاعر :


    ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي


    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى يدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر . وهذا الذي دلت عليه آية " طه " هذه دلت عليه آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] ، لأن قوله : سحروا أعين الناس يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمرا لا حقيقة له . وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له .

    والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين : أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل لا حقيقة له ، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سببا للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي . ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد [ 113 4 ] يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن . فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه . وسيأتي إن شاء الله أن السحر أنواع : منها ما هو أمر له حقيقة ، ومنها ما هو تخييل لا حقيقة له . وبذلك يتضح عدم التعارض بين الآيات الدالة على أن له حقيقة ، والآيات الدالة على أنه خيال .

    [ ص: 36 ] فإن قيل : قوله في " طه " : يخيل إليه من سحرهم [ 20 66 ] ، وقوله في " الأعراف " : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له ، يعارضهما قوله في " الأعراف " : وجاءوا بسحر عظيم [ 7 116 ] لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال . فالذي يظهر في الجواب ، والله أعلم أنهم أخذوا كثيرا من الحبال ، والعصي ، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال ، والعصي تسعى وهي كثيرة . فظن الناظرون أن الأرض ملئت حيات تسعى ، لكثرة ما ألقوا من الحبال ، والعصي فخافوا من كثرتها ، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظم . وهذا ظاهر لا إشكال فيه . وقد قال غير واحد : إنهم جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي ، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال ، والعصي ، فخيل للناظرين أنها تسعى . وعن ابن عباس : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي . وقيل : كانوا أربعمائة . وقيل كانوا اثني عشر ألفا . وقيل أربعة عشر ألفا . وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفا . وقيل : كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون . وقيل : كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا ، مع كل نقيب عشرون عريفا ، مع كل عريف ألف ساحر . وقيل : كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم ، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الريف فصاروا تسعمائة ألف ، وكان رئيسهم أعمى ا ه . وهذه الأقوال من الإسرائيليات ، ونحن نتجنبها دائما ، ونقلل من ذكرها ، وربما ذكرنا قليلا منها منبهين عليه .
    قوله تعالى : وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر .

    قرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وحمزة ، والكسائي وقنبل عن ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر ، وشعبة عن عاصم بتاء مفتوحة مخففة بعدها لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة مشددة بعدها فاء ساكنة ، وهو مضارع تلقف وأصله تتلقف بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

    وما بتاءين ابتدي قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر

    والمضارع مجزوم ، لأنه جزاء الطلب في قوله وألق وجمهور علماء العربية على أن الجزم في نحو ذلك بشرط مقدر دلت عليه صيغة الطلب ، وتقديره هنا : إن تلق ما في يمينك تلقف ما صنعوا . وقرأه البزي عن ابن كثير كالقراءة التي ذكرنا ، إلا أنه يشدد [ ص: 37 ] تاء تلقف وصلا . ووجه تشديد التاء هو إدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وهو جائز في كل فعل بدئ بتاءين كما هنا ، وأشار إليه في الخلاصة بقوله :


    وحيي افكك وادغم دون حذر كذاك نحو تتجلى واستتر


    ومحل الشاهد منه أوله نحو " تتجلى " ومثاله في الماضي قوله :


    تولي الضجيج إذا ما التذها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل


    أصله تتابع ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر كالقراءة المذكورة للجمهور إلا أنه يضم الفاء ، فالمضارع على قراءته مرفوع ، ووجه رفعه أن جملة الفعل حال ، أي : ألق بما في يمينك في حال كونها متلقفة ما صنعوا . أو مستأنفة ، وعليه فهي خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهي تلقف ما صنعوا . وقرأ حفص عن عاصم تلقف بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مخففة مع الجزم ، مضارع لقفه بالكسر يلقفه بالفتح ومعنى القراءتين واحد ، لأن معنى تلقفه ولقفه إذا تناوله بسرعة ، والمراد بقوله تلقف ما صنعوا على جميع القراءات أنها تبتلع كل ما زوروه وافتعلوه من الحبال ، والعصي التي خيلوا للناس أنها تسعى وصنعهم في قوله تعالى : ما صنعوا واقع في الحقيقة على تخييلهم إلى الناس بسحرهم أن الحبال والعصي تسعى ، لا على نفس الحبال ، والعصي لأنها من صنع الله تعالى . ومن المعلوم أن كل شيء كائنا ما كان بمشيئته تعالى الكونية القدرية .

    وهذا المعنى الذي ذكره جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة : من كونه أمر نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يلقي ما في يمينه أي : يده اليمنى ، وهو عصاه فإذا هي تبتلع ما يأفكون من الحبال ، والعصي التي خيلوا إليه أنها تسعى أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين [ 7 117 - 119 ] ، وقوله تعالى في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 26 45 ] فذكر العصا في " الأعراف ، والشعراء " يوضح أن المراد بما في يمينه في " طه " أنه عصاه كما لا يخفى .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يأفكون أي : يختلقونه ويفترونه من الكذب ، وهو زعمهم أن الحبال ، والعصي تسعى حقيقة ، وأصله من قولهم : أفكه عن شيء يأفكه عنه ( من باب ضرب ) : إذا صرفه عنه وقلبه . فأصل الأفك بالفتح [ ص: 38 ] القلب والصرف عن الشيء . ومنه قيل لقرى قوم لوط والمؤتفكات .

    لأن الله أفكها أي : قلبها . كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا [ 15 74 ] . ومنه قوله تعالى : يؤفك عنه من أفك [ 51 9 ] أي : يصرف عنه من صرف ، وقوله : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا [ 46 22 ] أي : لتصرفنا عن عبادتها ، وقول عمرو بن أذينة :


    إن تك عن أحسن المروءة مأفوكا ففي آخرين قد أفكوا


    وأكثر استعمال هذه المادة في الكذب لأنه صرف وقلب للأمر عن حقيقته بالكذب ، والافتراء . كما قال تعالى : ويل لكل أفاك أثيم [ 45 7 ] ، وقال تعالى : وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [ 46 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنما صنعوا كيد ساحر " ما " موصولة وهي اسم " إن " ، و " كيد " خبرها ، والعائد إلى الموصول محذوف . على حد قوله في الخلاصة : .

    . . . . . . . . . . . .
    والحذف عندهم كثير منجلي


    في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصف كمن نرجو يهب

    والتقدير : إن الذي صنعوه كيد ساحر . وأما على قراءة من قرأ كيد ساحر بالنصب فـ " ما " كافة و " كيد " مفعول " صنعوا " وليست سبعية ، وعلى قراءة حمزة ، والكسائي " كيد سحر " بكسر السين وسكون الحاء ، فالظاهر أن الإضافة بيانية . لأن الكيد المضاف إلى السحر هو المراد بالسحر . وقد بسطنا الكلام في نحو ذلك في غير هذا الموضع . والكيد : هو المكر .
    قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى

    .

    وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم . لأنه ينحل عند بعض أهل العلم عن مصدر وزمان ، وعند بعضهم عن مصدر وزمان ونسبة . فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ، وهذا المصدر الكامن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيرجع ذلك إلى النكرة في سياق النفي وهي صيغة عموم عند الجمهور . فظهر أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ، وكذلك الفعل في سياق الشرط . لأن النكرة في سياق الشرط أيضا صيغة عموم . وأكثر أهل العلم على ما ذكرنا من أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، خلافا لبعضهم فيما إذا لم يؤكد الفعل المذكور بمصدر . فإن أكد به فهو [ ص: 39 ] صيغة عموم بلا خلاف ، كما أشار إلى ذلك في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم :


    ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدرا قد جلبا

    والتحقيق في هذه المسألة : أنها لا تختص بالفعل المتعدي دون اللازم ، خلافا لمن زعم ذلك ، وأنه لا فرق بين التأكيد بالمصدر وعدمه . لإجماع النحاة على أن ذكر المصدر بعد الفعل تأكيد للفعل ، والتأكيد لا ينشأ به حكم ، بل هو مطلق تقوية لشيء ثابت قبل ذلك كما هو معروف . وخلاف العلماء في عموم الفعل المذكور هل هو بدلالة المطابقة أو الالتزام معروف . وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر الآية . يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر ، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله : حيث أتى وذلك دليل على كفره . لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا عاما إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر . ويدل على ما ذكرنا أمران :

    الأول هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر . كقوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية [ 2 102 ] . فقوله وما كفر سليمان يدل على أنه لو كان ساحرا وحاشاه من ذلك لكان كافرا . وقوله ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر صريح في كفر معلم السحر ، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقررا له : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] أي : من نصيب ، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذا بالله تعالى . وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح ، وذلك مما لا شك فيه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #280
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الرابع
    الحلقة (279)

    سُورَةُ طه
    صـ 40 إلى صـ 46



    الأمر الثاني أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة لا يفلح يراد بها الكافر ، كقوله تعالى في سورة " يونس " : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 68 - 70 ] ، وقوله في " يونس " أيضا : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ 10 17 ] ، وقوله [ ص: 40 ] في " الأنعام " : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون [ 6 21 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

    ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة : أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة ، والكفرة غيرهم أنه ينال الفلاح ، وهو كذلك ، كما بينه جل وعلا في آيات كثيرة . كقوله : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 5 ] ، وقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون [ 23 1 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح . والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب . ومنه قول لبيد :


    فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل


    فقوله " ولقد أفلح من كان عقل " يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب . ويطلق الفلاح أيضا على البقاء ، والدوام في النعيم . ومنه قول لبيد :


    لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح


    فقوله " مدرك الفلاح " يعني البقاء . وقول الأضبط بن قريع السعدي ، وقيل كعب بن زهير :


    لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه


    عنى أنه ليس مع تعاقب الليل ، والنهار بقاء . وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم " حي على الفلاح " في الأذان ، والإقامة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حيث أتى حيث كلمة تدل على المكان ، كما تدل حينا على الزمان ، ربما ضمنت معنى الشرط . فقوله : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : حيث توجه وسلك . وهذا أسلوب عربي معروف يقصد به التعميم . كقولهم : فلان متصف بكذا حيث سار ، وأية سلك ، وأينما كان . ومن هذا القبيل قول زهير :


    بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقا أية سلكوا


    وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : لا يفوز ، ولا ينجو حيث أتى من الأرض . وقيل : حيث احتال . والمعنى في الآية هو [ ص: 41 ] ما بينا ، والله تعالى أعلم .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

    المسألة الأولى : اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه ولطف ودق . ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء : أخفى من السحر . ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري :


    جعلت علامات المودة بيننا مصائد لحظ هن أخفى من السحر فأعرف منها الوصل في لين طرفها
    وأعرف منها الهجر في النظر الشزر


    ولهذا قيل لملاحة العينين : سحر . لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء . ومنه قول المرأة التي شببت بنصر بن حجاج السلمي :


    وانظر إلى السحر يجري في لواحظه وانظر إلى دعج في طرفه الساجي


    المسألة الثانية : اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع . لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعا لها مانعا لغيرها . ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا .
    المسألة الثالثة : اعلم أن الفخر الرازي في تفسيره قسم السحر إلى ثمانية أقسام :

    القسم الأول : سحر الكلدانيين ، والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات ، والشرور ، والسعادة ، والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم . وقد أطال الكلام في هذا النوع من السحر .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومعلوم أن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف . لأنهم كانوا يتقربون فيه للكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله ، ويرجون الخير من قبل الكواكب ويخافون الشر من قبلها كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه . فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح .

    [ ص: 42 ] النوع الثاني من السحر : سحر أصحاب الأوهام ، والنفوس القوية . ثم استدل على تأثير الوهم بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال : وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه . وقال : واجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان ، والدوران . وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام .

    قال : وحكى صاحب الشفاء عن أرسطو في طبائع الحيوان : أن الدجاجة إذا تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ، قال : ثم قال صاحب الشفاء : وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية . قال : واجتمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر . فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارا . . . إلى آخر كلامه في هذا النوع من أنواع السحر ، وقد أطال فيه الكلام .

    ومعلوم أن النفوس الخبيثة لها آثار بإذن الله تعالى ، ومن أصرح الأدلة الشرعية في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " . وهذا الحديث الصحيح يدل على أن همة العائن وقوة نفسه في الشر جعلها الله سببا للتأثير في المصاب بالعين .

    وقال الرازي في هذا النوع من أنواع السحر : إذا عرفت هذا فنقول : النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات ، والأدوات ، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات . وتحقيقه : أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماء كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم ، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن . إلى آخر كلامه . ولا يخفى ما فيه على من نظره .

    وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره في سورة " البقرة " بعد أن ساق كلام الرازي الذي ذكرناه آنفا ما نصه : ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ، والانقطاع عن الناس . قلت : وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال وهو على قسمين : تارة يكون حالا صحيحة شرعية ، يتصرف بها فيما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى ، وكرامات للصالحين من هذه [ ص: 43 ] الأمة ، ولا يسمى هذا سحرا في الشرع . وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصرف بها في ذلك . فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم . كما أن الدجال له من خوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة ، مع أنه مذموم شرعا لعنه الله . وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

    النوع الثالث من أنواع السحر المذكورة : الاستعانة بالأرواح الأرضية ، يعني تسخير الجن واستخدامهم . قال :

    واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة ، والمعتزلة . أما أكابر الفلاسفة فلم ينكروا القول بها . إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية . والجن المذكورون قسمان : مؤمنون ، وكافرون وهم الشياطين .

    قال الرازي في كلامه على هذا النوع من السحر : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة ، والقرب . ثم إن أصحاب الصنعة وأصحاب التجربة شاهدوا بأن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة من الرقى ، والدخن ، والتجريد . وهذا النوع هو المسمى بالعزائم ، وعمل تسخير الجن . وقد أطال الرازي أيضا الكلام في هذا النوع من أنواع السحر .

    النوع الرابع من أنواع السحر : هو التخيلات ، والأخذ بالعيون . ومبنى هذا النوع منه على أن القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة . ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة . ألا ترى أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة ، والشط متحركا ، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا . والمتحرك ساكنا . والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما . إلى آخر كلام الرازي . وقد أطال الكلام أيضا في هذا النوع .

    وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " البقرة " مختصرا كلام الرازي المذكور : ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره . ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة ، وحينئذ ، يظهر لهم شيء غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما [ ص: 44 ] يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله . قال : وكلما كانت الأحوال تفيد حس البصر نوعا من أنواع الخلل أشد ، كان العمل أحسن . مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم ، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها ، والحالة هذه . ا ه منه .

    ولا يخفى أن يكون سحر سحرة فرعون من هذا النوع . فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 20 66 ] فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذلك . وقد دل على ذلك أيضا قوله في " الأعراف " : فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] . لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة ، والعلم عند الله تعالى .

    النوع الخامس من أنواع السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية ، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد . ومنها الصور التي يصورها الروم ، والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، حتى إنهم يصورونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وبين ضحك الخجل ، وضحك الشامت .

    فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل . قال الرازي : وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب . ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات . ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال ، وهو أن يجر ثقيلا عظيما بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة نفيسة ، من اطلع عليها قدر عليها ، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيرا عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر لخفاء مأخذه ا ه .

    وقد علمت أن الرازي يرى أن سحر سحرة فرعون من هذا النوع الأخير ، لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي فحركته حرارة الشمس فتحركت الحبال والعصي فظنوا أنها حركة طبيعية حقيقية . والذي يظهر لنا أنه من النوع الذي قبله كما قدمنا ، ولا مانع من أن يتوارد نوعان على شيء واحد فيكون داخلا في هذا وفي هذا . والله تعالى أعلم .

    وقال ابن كثير بعد أن ذكر كلام الرازي الذي ذكرنا في هذا النوع من السحر . قلت : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار ، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى [ ص: 45 ] الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم ، وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ، فيرون ذلك سائغا لهم ، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب ، والترهيب ، فيدخلون في عداد من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ، وقوله : " حدثوا عني ، ولا تكذبوا علي ، فإنه من يكذب علي يلج النار " . ثم ذكرها هنا - يعني الرازي - حكاية عن بعض الرهبان ، وهي أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ، ضعيف الحركة ، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به ، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوفا ، فإذا دخلته الريح سمع منه صوت كصوت ذلك الطائر . وانقطع في صومعة ابتناها ، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم ، وعلق ذلك الطائر في مكان منها ، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ، ولا يدرون ما سببه . ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة انتهى كلام ابن كثير .

    وذكر الرازي في هذه المسألة التي نقلها عنه ابن كثير : أن ذلك الطائر المذكور يسمى البراصل ، وأن الذي عمل صورته يسمى أرجعيانوس الموسيقار ، وأنه جعل ذلك على هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه ، وأن الذي قام بعمارة ذلك الهيكل أولا أسطرخس الناسك .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا النوع الخامس الذي عده الرازي من أنواع السحر ، الذي هو الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية . . . إلخ لا ينبغي عده اليوم من أنواع السحر . لأن أسبابه صارت واضحة متعارفة عند الناس ، بسبب تقدم العلم المادي . والواضح الذي صار عاديا لا يدخل في حد السحر ، وقد كانت أمور كثيرة خفية الأسباب فصارت اليوم ظاهرتها جدا . والله تعالى أعلم .

    النوع السادس من أنواع السحر : الاستعانة بخواص الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل ، والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله [ ص: 46 ] الإنسان تبلد عقله ، وقلت فطنته ، قاله الرازي . ثم قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص : فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب ، والباطل بالحق . ا ه كلام الرازي .

    وقال ابن كثير بعد أن ذكر هذا النوع من السحر نقلا عن الرازي : قلت : يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ، ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحاولات . انتهى كلام ابن كثير .

    النوع السابع من أنواع السحر المذكور : تعليق القلب ، وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعون وينقادون له في أكثر الأحوال : فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق : وتعلق قلبه بذلك : حصل في نفسه نوع من الرعب ، والمخافة : وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة : فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل ما يشاء . قال الرازي : وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار .

    وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع من السحر عن الرازي : هذا النمط يقال له التنبلة ، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم . وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه . فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .

    النوع الثامن من أنواع السحر : السعي بالنميمة ، والتضريب من وجوه لطيفة خفية وذلك شائع في الناس ا ه . والتضريب بين القوم : إغراء بعضهم على بعض .

    وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع الأخير عن الرازي قلت : النميمة على قسمين : تارة تكون على وجه التحريش بين الناس ، وتفريق قلوب المؤمنين . فهذا حرام متفق عليه . فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس ، وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث " ليس الكذاب من ينم خيرا " أو يكون على وجه التخذيل ، والتفريق بين جموع الكفرة ، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث " الحرب خدعة " ، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة ، جاء إلى هؤلاء ونمى إليهم عن هؤلاء ، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت . وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة . والله المستعان .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •