تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 13 من 28 الأولىالأولى ... 34567891011121314151617181920212223 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 241 إلى 260 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #241
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (240)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 305 إلى صـ 310


    وبين في آيات كثيرة : أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم ، كقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] ، وقولـه : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، وأصل القط : كتاب الملك الذي فيه الجائزة ، وصار يطلق على النصيب : فمعنى عجل لنا قطنا أي : نصيبنا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك ، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة ، ومنه قول الأعشى :


    ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
    وقوله " يأفق " أي : يفضل بعضا على بعض في العطاء ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والقول الأول أظهر عندي ; لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة [ ص: 305 ] الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر ، والله تعالى أعلم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله تعالى هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] ، وبين قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، بما حاصله باختصار : أن المانع المذكور في سورة " الإسراء " مانع عادي يجوز تخلفه ; لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب ، فالحصر في قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، حصر في المانع العادي ، وأما الحصر في قوله هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهو حصر في المانع الحقيقي ; لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم ، وحكمه عليهم بذلك ، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : أو يأتيهم العذاب قبلا ، قرأه الكوفيون : وهم عاصم وحمزة والكسائي " قبلا " بضم القاف والباء ، وقرأه الأربعة الباقون من السبعة : وهم نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر " قبلا " بكسر القاف وفتح الباء ، أما على قراءة الكوفيين فقوله " قبلا " بضمتين جمع قبيل ، والفعيل إذا كان اسما يجمع على فعل كسرير وسرر ، وطريق وطرق ، وحصير وحصر ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


    وفعل لاسم رباعي بمد قد زيد قبل لام إعلالا فقد
    ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف . ، إلخ .

    وعلى هذا ، فمعنى الآية أو يأتيهم العذاب قبلا أي : أنواعا مختلفة ، يتلو بعضها بعضا ، وعلى قراءة من قرءوا " قبلا " كعنب ، فمعناه عيانا ، أي : أو يأتيهم العذاب عيانا ، وقال مجاهد رحمه الله " قبلا " أي : فجأة ، والتحقيق : أن معناها عيانا ، وأصله من المقابلة ; لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر ، وذكر أبو عبيد : أن معنى القراءتين واحد ، وأن معناهما عيانا ، وأصله من المقابلة ، وانتصاب " قبلا " على الحال على كلتا القراءتين ، وهو على القولين المذكورين في معنى " قبلا " إن قدرنا أنه بمعنى عيانا ، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مرارا ، وعلى أنه جمع قبيل : فهو اسم جامد [ ص: 306 ] مؤول بمشتق ; لأنه في تأويل : أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعا وضروبا مختلفة ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : أن يؤمنوا في محل نصب ; لأنه مفعول " منع " الثاني ، والمنسبك في " أن " وصلتها في قوله : إلا أن تأتيهم سنة الأولين في محل رفع ; لأنه فاعل " منع " لأن الاستثناء مفرغ ، وما قبل " إلا " عامل فيما بعدها ، فصار التقدير : منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين ، على حد قوله في الخلاصة :


    وإن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما
    والاستغفار في قوله : ويستغفروا ربهم هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه ، والندم على ما فات ، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب .
    قوله تعالى : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم بالنار ، وكرر هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 6 \ 48 ] ، وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وانتصاب قوله " مبشرين " على الحال ، أي : ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين .

    قوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يجادلون بالباطل ، أي : يخاصمون الرسل بالباطل ، كقولهم في الرسول : ساحر ، شاعر ، كاهن ، وكقولهم في القرآن : أساطير الأولين ، سحر ، شعر ، كهانة ، وكسؤالهم عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، وسؤالهم عن الروح عنادا وتعنتا ، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل ، فالجدال : المخاصمة ، ومفعول " يجادل " محذوف دل ما قبله عليه ; لأن قوله : وما نرسل المرسلين يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفا ، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز ، وواقع كثيرا في القرآن وفي كلام العرب : كما عقده في الخلاصة بقوله :


    وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
    [ ص: 307 ] والباطل : ضد الحق وكل شيء زائل مضمحل تسميه العرب : باطلا ، ومنه قول لبيد :


    ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
    ويجمع الباطل كثيرا على أباطيل على غير القياس ، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة :


    وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما
    ومنه قول كعب بن زهير :


    كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيده إلا الأباطيل
    ويجمع أيضا على البواطل قياسا ، والحق : ضد الباطل ، وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل تسميه العرب حقا ، وقوله تعالى : ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] ، أي : ليبطلوه ويزيلوه به وأصله من إدحاض القدم ، وهو إزلاقها وإزالتها عن موضعها ، تقول العرب ، دحضت رجله : إذا زلقت ، وأدحضها الله أزلقها ، ودحضت حجته إذا بطلت ، وأدحضها الله أبطلها ، والمكان الدحض : هو الذي تزل فيه الأقدام ؟ ومنه قول طرفة :


    أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
    وهذا الذي ذكره هنا من مجادلة الكفار للمرسل بالباطل أوضحه في مواضع أخر : كقوله : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم [ 42 \ 16 ] ، وقولـه جل وعلا : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، وقولـه تعالى : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 61 \ 8 ] ، وإرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم ، إنما هي بخصامهم وجدالهم بالباطل .

    وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون ، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا ، بل الذي سيكون هو عكس ما أرادوه فيحق [ الحق ] ويبطل الباطل ، كما قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 61 \ 9 ] ، وكقوله : ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 33 ] ، وقولـه : والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، [ ص: 308 ] وقولـه تعالى : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [ 21 \ 18 ] ، وقولـه تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، وقولـه تعالى : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو ، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء ، وذلك هو نقيض ما كان يريده الكفار من إبطال الحق وإدحاضه بالباطل عن طريق الخصام والجدال .

    قوله تعالى : واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله ، وإنذاره لهم هزؤا ، أي : سخرية واستخفافا ، والمصدر بمعنى اسم المفعول ، أي : اتخذوها مهزوءا بها مستخفا بها : كقوله : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 \ 30 ] .

    وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [ 45 \ 9 ] ، وكقوله تعالى : ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [ 36 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم الآية [ 9 \ 65 - 66 ] إلى غير ذلك من الآيات ، و " ما " في قوله " ما أنذروا " مصدرية ، كما قررنا ، وعليه فلا ضمير محذوف ، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ، تقديره : " وما أنذروا به هزوا " ، وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرها في الخلاصة بقوله :


    كذلك الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر
    وفي قوله " هزوا " ثلاث قراءات سبعية قرأه حمزة بإسكان الزاي في الوصل ، وبقية السبعة بضم الزاي وتحقيق الهمزة ، إلا حفصا عن عاصم فإنه يبدل الهمزة واوا ، وذلك مروي عن حمزة في الوقف .
    قوله تعالى ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ، ذكر جل [ ص: 309 ] وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد أظلم ، أي : أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر ، أي : وعظ بآيات ربه ، وهي هذا القرآن العظيم فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، أي : تولى وصد عنها .

    وإنما قلنا : إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله : أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات ، ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره ، ويكون الضمير في قوله : أن يفقهوه أي : ما ذكر من الآيات ، كقول رؤبة :

    فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] ، أي : ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر ، ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعرى :


    إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل أي
    : كلا ذلك المذكور من خير وشر ، وقد قدمنا إيضاح هذا ، وقوله : ونسي ما قدمت يداه [ 18 \ 57 ] ، أي : من المعاصي والكفر ، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه ، كما قال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد [ 58 \ 6 ] ، وقال تعالى : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقال بعض العلماء في قوله : ونسي ما قدمت يداه أي : تركه عمدا ولم يتب منه ، وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم ، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة ، فمن نتائجه السيئة : ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلما ، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق ، وعدم الاهتداء أبدا كما قال هنا مبينا بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] ، ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة ، كما قال تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون [ 32 \ 22 ] ، ومنها [ ص: 310 ] كون المعرض كالحمار ، كما قال تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة الآية [ 74 \ 49 - 50 ] ، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، كما قال تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود الآية [ 41 \ 13 ] ، ومنها المعيشة الضنك والعمى ، كما قال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 124 ] ، ومنها سلكه العذاب الصعد ، كما قال تعالى : ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ 72 \ 17 ] ، ومنها تقييض القرناء من الشياطين ، كما قال تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا ، وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره ، القاصر نظره على الحياة الدنيا ، وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم ، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده ، وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم [ 53 \ 29 - 30 ] ، وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافل عنه في قوله : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما تقدم إيضاحه .

    وقولـه في هذه الآية : ما قدمت يداه أي : ما قدم من أعمال الكفر ، ونسبة التقديم إلى خصوص اليد ; لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء ، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم ، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب ، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزاول باليد كالزنا ، وقد بينا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه الآية [ 18 \ 57 ] ، وقولـه : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان : أحدهما أن كل من قال الله فيه : ومن أظلم ممن فعل كذا ، لا أحد أظلم من واحد منهم ، وإذا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضا ، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه ، والثاني أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله ، وعليه فالمعنى في قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه [ ص: 311 ] فأعرض عنها ، وفي قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهكذا الأول أولى ; لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه ، وممن اختاره أبو حيان في البحر .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #242
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (241)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 311 إلى صـ 316





    قوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة ، أي : أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به ، وواحد الأكنة كنان ، وهو الغطاء ، وأنه جعل في آذانهم وقرا ، أي : ثقلا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها ، وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر ، كقوله : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقولـه : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة الآية [ 45 \ 23 ] ، وقولـه تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [ 17 \ 45 ] ، وقولـه : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقولـه : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

    فإن قيل : إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون ; لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم ، والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون ، فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره ؟ !

    فالجواب : أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم : أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة ، ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك ، جزاء على كفرهم ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، أي : بسبب كفرهم ، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم ، وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .

    [ ص: 312 ] وهو دليل أيضا واضح على أن سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق ، وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، وقولـه تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقولـه : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] ، وقولـه تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك .

    وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم ، وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضا عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا : وهو أن يقول : قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها ، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب ; لأن " إن " من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، كقولك : اقطعه إنه سارق ، وعاقبه إنه ظالم ، فالمعنى : اقطعه لعلة سرقته ، وعاقبه لعلة ظلمه ، وكذلك قوله تعالى : فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة [ 18 \ 57 ] ، أي : أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم ; لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع ، وتارة بالختم ، وتارة بالأكنة ، ونحو ذلك سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه .

    وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان ، الأول : أن يقال : ما مفسر الضمير في قوله : أن يفقهوه ، وقد قدمنا أنه الآيات في قوله : ذكر بآيات ربه [ 18 \ 57 ] ، بتضمين الآيات معنى القرآن ، فقوله : أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريبا .

    السؤال الثاني أن يقال : ما وجه إفراد الضمير في قوله : ذكر ، وقولـه : أعرض عنها ، وقولـه : ونسي ما قدمت يداه ، مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد ، وهو الاسم الموصول في قوله : ممن ذكر بآيات ربه الآية .

    [ ص: 213 ] والجواب : هو أن الإفراد باعتبار لفظ " من " ، والجمع باعتبار معناها ، وهو كثير في القرآن العظيم ، والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقا ، خلافا لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح ، والدليل على صحة قوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا [ 65 \ 11 ] ، فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ " من " أولا فأفرد الضمير في قوله : يؤمن ، وقولـه " ويعمل " ، وقولـه " يدخله " وراعى المعنى في قوله : خالدين فأتى فيه بصيغة الجمع ، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله : قد أحسن الله له رزقا . وقوله : أن يفقهوه ، فيه وفي كل ما يشابهه من الألفاظ وجهان معروفان لعلماء التفسير : أحدهما أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه ، وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها ، وعلى هذا القول هنا اقتصر ابن جرير الطبري ، والثاني : أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه ، وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف ، وأمثال هذه الآية في القرآن كثيرة ، وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا [ 4 \ 176 ] ، أي : لئلا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا ، وقولـه : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة [ 49 \ 6 ] ، أي : لئلا تصيبوا ، أو كراهة أن تصيبوا ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم .

    وقولـه تعالى : أن يفقهوه ، أي : يفهموه ، فالفقه : الفهم ، ومنه قوله تعالى : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ 4 \ 78 ] ، أي : يفهمونه ، وقولـه تعالى : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول [ 11 \ 91 ] ، أي : ما نفهمه ، والوقر : الثقل ، وقال الجوهري في صحاحه : الوقر بالفتح ، الثقل في الأذن ، والوقر بالكسر : الحمل ، يقال جاء يحمل وقره ، وأوقر بعيره وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ا هـ ، وهذا الذي ذكره الجوهري وغيره جاء به القرآن ، قال في ثقل الأذن : وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] ، وقال في الحمل : فالحاملات وقرا [ 51 \ 2 ] .
    قوله تعالى : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .

    بين في هذه الآية الكريمة : أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدا ، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى ، وهذا المعنى الذي أشار [ ص: 314 ] له هنا من أن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 ] ، وقولـه تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ 26 \ 200 ] ، وقولـه تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 100 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء .

    أحدهما : أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء ، عياذا بالله تعالى .

    والثاني : أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر ، فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع ، والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى .

    والفاء في قوله : فلن يهتدوا [ 18 \ 57 ] ; لأن الفعل الذي بعد " لن " لا يصلح أن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها ، والجزاء إذا لم يكن صالحا لأن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها لزم اقترانه بالفاء ، كما عقده في الخلاصة بقوله :


    واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل
    وقولـه في هذه الآية الكريمة " إذا " جزاء وجواب ، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سببا للاهتداء سببا لانتفائه ; لأن المعنى : فلن يهتدوا إذا دعوتهم ، ذكر هذا المعنى الزمخشري ، وتبعه أبو حيان في البحر ، وهذا المعنى قد غلطا فيه ، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم .

    وإيضاح ذلك أن الزمخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا شرط وجزاء ، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه ; ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله : فلن يهتدوا مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله : وإن تدعهم إلى الهدى ، المشار إليه أيضا بقوله " إذا " فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط ; لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليست شرطية لزومية ، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط ، بل هي شرطية اتفاقية ، والشرطية الاتفاقية [ ص: 315 ] لا ارتباط أصلا بين طرفيها ، فليس أحدهما سببا في الآخر ، ولا ملزوما له ، كما لو قلت : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل فلا ربط بين الطرفين ; لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور ، كقولك : لو لم يخف الله لم يعصه ; لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط ، بل هو شيء آخر غير مذكور ، وهو تعظيم الله جل وعلا ، ومحبته المانعة من معصيته ، وكذلك قوله هنا : فلن يهتدوا إذا أبدا ، سببه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله " وإن تدعهم " كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما ، بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلا .

    ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم [ 3 \ 154 ] ; لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكور في الآية ، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع ، وليس سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية ، وكذلك قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر [ 18 \ 109 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي :


    مقدم الشرطية المتصله مهما تكن صحبة ذاك التال له لموجب قد اقتضاها
    كسبب فهي اللزومية ثم إن ذهب موجب الاصطحاب
    ذا بينهما فالاتفاقية عند العلما ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك
    : كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا
    ، لظهور التلازم بين الطرفين ، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين ، كقولك : كلما كان الشيء إنسانا كان حيوانا ، إذ لا يصدق عكسه .

    فلو قلت : كلما كان الشيء حيوانا كان إنسانا لم يصدق ; لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما ، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية ، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية ، ومثالها : كلمة كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ، وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية ، والشرطية الاتفاقية ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى " لو " لأنهم أرادوا أن يجمعوا في [ ص: 316 ] المعنى بين قولك : لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، وبين قولك : لو لم يخف الله لم يعصه ، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول ; لأنها شرطية لزومية ، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية ، ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترقين ارتبك ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وربك الغفور ذو الرحمة

    ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه غفور ، أي : كثير المغفرة ، وأنه ذو الرحمة يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة ، ويرحم الخلائق في الدنيا .

    وبين في مواضع أخر : أن هذه المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته جل وعلا إلا الشرك ، كقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] ، وقولـه : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [ 5 \ 72 ] .

    وبين في موضع آخر : أن رحمته واسعة ، وأنه سيكتبها للمتقين ، وهو قوله : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة [ 7 \ 156 ] .

    وبين في مواضع أخر سعة مغفرته ورحمته : كقوله : إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 32 ] ، وقولـه : إن الله يغفر الذنوب جميعا [ 39 \ 53 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وبين في مواضع أخر أنه مع سعة رحمته ومغفرته شديد العقاب ، كقوله : وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب [ 13 \ 6 ] ، وقولـه : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب [ 40 \ 3 ] ، وقولـه تعالى : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 - 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    قوله تعالى : لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب

    ، بين في هذه الآية الكريمة : أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب كالكفر والمعاصي لعجل لهم العذاب لشناعة ما يرتكبونه ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ، فهو يمهل ولا يهمل .

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، وقولـه : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة " النحل " مستوفى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #243
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (242)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 317 إلى صـ 322




    قوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .

    بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلا عنهم ولا تاركا [ ص: 317 ] عذابهم ، بل هو تعالى جاعل لهم موعدا يعذبهم فيه ، لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم .

    وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله في " النحل " : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 16 \ 61 ] ، وقولـه في آخر سورة " فاطر " : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا [ 35 \ 45 ] ، وكقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، وكقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب [ 29 \ 53 ] .

    وقد دلت آيات كثيرة على أن الله لا يؤخر شيئا عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه ، كقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقولـه : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقولـه تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 71 \ 4 ] ، وقولـه : لكل أجل كتاب [ 13 \ 38 ] ، وقولـه : لكل نبإ مستقر [ 6 \ 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 57 ] ، أي : ملجأ يلجئون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور ، وهو اسم مكان ، من وأل يئل وألا ووءولا بمعنى لجأ ، ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا ، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى ، والعرب تقول : لا وألت نفسه ، أي : لا وجدت منجى تنجو به ، ومنه قول الشاعر :


    لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم
    وقال الأعشى :


    وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
    أي ما ينجو .

    وأقوال المفسرين في " الموئل " راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : موئلا محيصا ، وقول بعضهم منجى ، وقول بعضهم محرزا ، إلى غير ذلك ، فكله بمعنى ما ذكرنا .

    [ ص: 318 ] وقولـه تعالى : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ، بين في هذه الآية الكريمة : أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل والعناد واللجاج في الكفر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم .

    وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها ، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلا في آيات أخر كثيرة ، كما جاء في القرآن من قصة قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وقوم موسى ، كما تقدم بعض تفاصيله ، والقرى : جمع قرية على غير قياس ; لأن جمع التكسير على " فعل " بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع " فعلة " بالضم اسما كغرفة وقربة ، أو " فعلى " إذا كانت أنثى الأفعل خاصة ، كالكبرى والكبر ، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله :

    وفعل جمعا لفعلة عرف ونحو كبرى . . . إلخ أي : وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه ، وزاد في التسهيل نوعا ثالثا ينقاس فيه " فعل " بضم ففتح ، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسما كجمعة وجمع ، واسم الإشارة في قوله : وتلك القرى [ 18 \ 59 ] ، إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليها في أسفارهم ، كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] ، وقولـه : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وقولـه : وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وقولـه " وتلك " مبتدأ و " القرى " صفة له ، أو عطف بيان ، وقولـه : " أهلكناهم " هو الخبر ، ويجوز أن يكون الخبر هو " القرى " وجملة " أهلكناهم " في محل حال ، كقوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ 27 \ 52 ] ، ويجوز أن يكون قوله : " وتلك " في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير ، على حد قوله في الخلاصة :


    إن مضمر اسم سابق فعلا شغل عنه بنصب لفظه أو المحل
    فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
    وقولـه في هذه الآية الكريمة : لمهلكهم موعدا [ 18 \ 59 ] ، قرأه عامة السبعة ما عدا عاصما بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول ، وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدرا ميميا ، أي : جعلنا لإهلاكهم موعدا ، وأن يكون اسم زمان ، أي : [ ص: 319 ] وجعلنا لوقت إهلاكهم موعدا ، وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول ، والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي ، وقرأه حفص عن عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم وكسر اللام ، وقرأه شعبة عن عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم واللام معا ، والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان ، أي : وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا ; لأنه من هلك يهلك بالكسر ، وما كان ماضيه على " فعل " بالفتح ومضارعه " يفعل " بالكسر كهلك يهلك ، وضرب يضرب ، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه " المفعل " بالكسر ، وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح ، تقول هذا منزله بالكسر أي : مكان نزوله أو وقت نزوله ، وهذا " منزله " بفتح الزاي ، أي : نزوله ، وهكذا ، منه قول الشاعر :


    أإن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجل
    فقوله : " منزلها جمل " بالفتح ، أي : نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة " لمهلكهم " بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي ، أي : وجعلنا لهلاكهم موعدا ، والموعد : الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه .
    تنبيه

    لفظة " لما " ترد في القرآن وفي كلام العرب على ثلاثة أنواع :

    الأول : لما النافية الجازمة للمضارع ، نحو قوله : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم [ 2 \ 214 ] ، وقولـه : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الآية [ 3 \ 142 ] ، وهذه حرف بلا خلاف ، وهي مختصة بالمضارع ، والفوارق المعنوية بينها وبين لم النافية مذكورة في علم العربية ، وممن أوضحها ابن هشام وغيره .

    الثاني : أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا ، فتدخل على الجملة الاسمية ، كقوله تعالى : إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 4 ] ، في قراءة من شدد " لما " أي : ما كل نفس إلا عليها حافظ ، ومن هذا النوع قول العرب : أنشدك الله لما فعلت ; أي : ما أسألك إلا فعلك ، ومنه قول الراجز :


    قالت له بالله يا ذا البردين لما غنثت نفسا أو نفسين
    [ ص: 320 ] فقولها " غنثت " بغين معجمة ونون مكسورة وثاء مثلثة مسندا لتاء المخاطب ، والمراد بقولها " غنثت " تنفست في الشرب ، كنت بذلك عن الجماع ، تريد عدم متابعته لذلك ، وأن يتنفس بين ذلك ، وهذا النوع حرف أيضا بلا خلاف ، وبعض أهل العلم يقول : إنه لغة هذيل .

    الثالث من أنواع " لما " هو النوع المختص بالماضي المقتضي جملتين ، توجد ثانيتهما عند وجود أولاهما ، كقوله : لما ظلموا ، أي : لما ظلموا أهلكناهم ، فما قبلها دليل على الجملة المحذوفة ، وهذا النوع هو الغالب في القرآن وفي كلام العرب ، " ولما " هذه التي تقتضي ربط جملة بجملة اختلف فيها النحويون : هل هي حرف ، أو اسم ، وخلافهم فيها مشهور ، وممن انتصر لأنها حرف ابن خروف وغيره ، وممن انتصر لأنها اسم ابن السراج والفارسي وابن جني وغيرهم ، وجواب " لما " هذه يكون فعلا ماضيا بلا خلاف ، كقوله تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم الآية [ 17 \ 67 ] ، ويكون جملة اسمية مقرونة بـ " إذا " الفجائية ، كقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، أو مقرونة بالفاء كقوله : فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد الآية [ 31 \ 32 ] ، ويكون جوابها فعلا مضارعا كما قاله ابن عصفور ، كقوله : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط الآية [ 11 \ 74 ] ، وبعض ما ذكرنا لا يخلو من مناقشة عند علماء العربية ، ولكنه هو الظاهر .

    هذه الأنواع الثلاثة ، هي التي تأتي لها " لما " في القرآن وفي كلام العرب .

    أما " لما " المتركبة من كلمات أو كلمتين فليست من " لما " التي كلامنا فيها ; لأنها غيرها ، فالمركبة من كلمات كقول بعض المفسرين في معنى قوله تعالى : وإن كلا لما ليوفينهم ربك [ 11 \ 111 ] ، في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد نون " إن " وميم " لما " على قول من زعم أن الأصل على هذه القراءة : لمن ما بمن التبعيضية ، وما بمعنى من ، أي : وإن كلا لمن جملة ما يوفيهم ربك أعمالهم ، فأبدلت نون " من " ميما وأدغمت في ما ، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى فصار لما ، وعلى هذا القول : فـ " لما " مركبة من ثلاث كلمات : الأولى الحرف الذي هو اللام ، والثانية من ، والثالثة ما ، وهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم لا يخفى ضعفه وبعده ، وأنه لا يجوز حمل القرآن عليه ، وقصدنا مطلق التمثيل لـ " لما " المركبة من كلمات على [ ص: 321 ] قول من قال بذلك ، وأما المركبة من كلمتين فكقول الشاعر :


    لما رأيت أبا يزيد مقاتلا أدع القتال وأشهد الهيجاء
    لأن قوله : " لما " في هذا البيت ، مركبة من " لن " النافية الناصبة للمضارع و " ما " المصدرية الظرفية ، أي : لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلا ، أي : مدة رؤيتي له مقاتلا .
    قوله تعالى : فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى وفتاه نصبا حوتهما لما بلغ مجمع البحرين ، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى ; لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت ، وهو الذي نسيه ، وإنما أسند النسيان إليهما ; لأن إطلاق المجموع مرادا بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي : فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] ، من القتل في الفعلين لا من القتال ، أي : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما : فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الآية [ 18 \ 62 ] ; لأن قول موسى : " آتنا غداءنا " يعني به الحوت فهو يظن أن فتاه لم ينسه ، كما قاله غير واحد ، وقد صرح فتاه : بأنه نسيه بقوله : فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان الآية .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وما أنسانيه إلا الشيطان ، دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، وقولـه تعالى : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله الآية [ 58 \ 19 ] .

    وفتى موسى هو يوشع بن نون ، والضمير في قوله تعالى : مجمع بينهما [ 18 \ 61 ] ، عائد إلى " البحرين " المذكورين في قوله تعالى : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين . الآية [ 18 \ 60 ] ، والمجمع : اسم مكان على القياس ، أي : مكان اجتماعهما .

    والعلماء مختلفون في تعيين " البحرين " المذكورين ، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر [ ص: 322 ] فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب ، وقال محمد بن كعب القرظي : " مجمع البحرين " عند طنجة في أقصى بلاد المغرب وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال : هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر ، وقال ابن عطية : " مجمع البحرين " ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان ، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه ، وطرفيه مما يلي بر الشام ، وقيل : هما بحر الأردن والقلزم ، وعن ابن المبارك قال : قال بعضهم بحر أرمينية ، وعن أبي بن كعب قال : بإفريقية ، إلى غير ذلك من الأقوال ، ومعلوم أن تعيين " البحرين " من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ، وليس في معرفته فائدة ، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته ، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه ، وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين : أن موسى لم يسافر إلى مجمع بحرين ، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تاريخه ، زعم في غاية الكذب والبطلان ، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى : فلما بلغا مجمع بينهما الآية [ 18 \ 61 ] ، مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب ، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر ، ولذا قال تعالى عن موسى : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا [ 18 \ 62 ] ، ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل ; لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء لاستحالة صدق النقيضين معا .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وما أنسانيه إلا الشيطان ، قرأه عامة القراء ما عدا حفصا " أنسانيه " بكسر الهاء ، وقرأه حفص عن عاصم " أنسانيه " بضم الهاء .
    قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء ، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها ، أو رحمة الولاية وعلمها ، والعلماء مختلفون في الخضر : هل هو نبي ، أو رسول ، أو ولي ، كما قال الراجز :
    واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول


    وقيل ملك ، ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة ، وأن هذا العلم اللدني علم وحي ، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #244
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (243)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 323 إلى صـ 328





    اعلم أولا أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن ، وكذلك العلم المؤتى [ ص: 323 ] من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي ، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في " الزخرف " : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 31 ] ، أي : نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين ، وقولـه تعالى في سورة " الدخان " : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 4 - 5 ] ، وقولـه تعالى في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] ، وقوله : وإنه لذو علم لما علمناه الآية [ 12 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها ، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف ، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه : وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] ، أي : وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا ، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي ، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا ، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر ، وتعييب سفن الناس بخرقها ; لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى ، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى : قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] ، و " إنما " صيغة حصر ، فإن قيل : قد يكون ذلك عن طريق الإلهام ؟ فالجواب أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء ، لعدم العصمة ، وعدم الدليل على الاستدلال به ، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به ، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره ، وما يزعمه بعض الجبرية أيضا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] ، وبخبر " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " كله باطل لا يعول عليه ، لعدم اعتضاده بدليل ، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره ; لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان ، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات ، والإلهام في الاصطلاح : إيقاع شيء [ ص: 324 ] في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية ، يختص الله به من يشاء من خلقه ، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم ، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم ، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال :

    وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وبالجملة ، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه ، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي ، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل ، وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى ، قال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما ، وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقال : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] ، والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد بينا طرفا من ذلك في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع ، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى ، زندقة ، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام ، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره .

    قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه : قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم ، وقالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوها عن الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم ، وقد جاء فيما [ ص: 325 ] ينقلون " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " ، قال شيخنا رضي الله عنه : وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ; لأنه إنكار ما علم من الشرائع ، فإن الله تعالى قد أجرى سنته ، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه ، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه ، المبينون شرائعه وأحكامه ، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك ، كما قال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] ، وقال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] ، وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وعلى الجملة ، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري ، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل ، فمن قال إن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب ، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول .

    وبيان ذلك أن من قال : يأخذ عن قلبه ، وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى ، وأنه يعمل بمقتضاه ، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم : " إن روح القدس نفث في روعي . " الحديث ، انتهى من تفسير القرطبي .

    وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه ، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم ، وما يرجحه الدليل في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " ، وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث " استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام : لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب ، بل من الحديث : التحذير من الشبه ; لأن الحرام بين والحلال بين ، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس .

    فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراما ، وذلك باستناد إلى الشرع ، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة ، والحديث ، كقوله " دع ما [ ص: 326 ] يريبك إلى ما لا يريبك " وقولـه صلى الله عليه وسلم : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ، وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " جئت تسأل عن البر " ؟ قلت نعم : قال : " استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " قال النووي في ) رياض الصالحين ( : حديث حسن ، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما ، ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات ، فلو التبست مثلا ميتة بمذكاة ، أو امرأة محرم بأجنبية ، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول ، والأجنبية في الثاني ، فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت ، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض لا يتحقق إلا بتجنب الجميع ; لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب ، فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له ، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى ، وكل ذلك مستند لنصوص الشرع لا للإلهام .

    ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله : ( مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ) ، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله ، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما ، ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق ، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام ، وخرقه للسفينة ، وقوله : وما فعلته عن أمري ، دليل ظاهر على نبوته . وعزا الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين ، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [ 18 \ 66 ] ، وقولـه : قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا [ 18 \ 69 ] ، مع قول الخضر له وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، [ 18 \ 68 ] .
    مسألة

    اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر : هل هو حي إلى الآن ، أو هو غير حي ، بل ممن مات فيما مضى من الزمان ؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي ، وأنه شرب من [ ص: 327 ] عين تسمى عين الحياة ، وممن نصر القول بحياته القرطبي في تفسيره ، والنووي في شرح مسلم وغيره ، وابن الصلاح ، والنقاش وغيرهم ، قال ابن عطية : وأطنب النقاش له هذا المعنى ، يعني حياة الخضر وبقاءه إلى يوم القيامة ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب ، وكلها لا تقوم على ساق انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره .

    وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر ، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة ، ويروون عنهما بعض الأدعية ، كل ذلك معروف ، ومستند القائلين بذلك ضعيف جدا ; لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح ، ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره ، وكلها ضعيف لا تقوم به حجة .

    ومن أقواه عند القائلين به آثار التعزية حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر ابن عبد البر في تمهيده عن علي رضي الله عنه قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم أهل البيت كل نفس ذائقة الموت الآية [ 3 \ 185 ] ، إن في الله خلفا من كل هالك ، وعوضا من كل تالف ، وعزاء من كل مصيبة فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام ، يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره .

    قال مقيده عفا الله عنه : والاستدلال على حياة الخضر بآثار التعزية كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفا مردود من وجهين :

    الأول : أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح ، قال ابن كثير في تفسيره : وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن ، ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم ، وجاء ذكره في بعض الأحاديث ، ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف ا هـ ، منه .

    الثاني : أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح لا يلزم من ذلك عقلا ولا شرعا ولا عرفانا أن يكون ذلك المعزي هو الخضر ، بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن ; لأن الجن هم الذين قال الله فيهم : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ 7 \ 27 ] ، ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بلا دليل ، وقولـهم : كانوا يرون أنه الخضر ليس حجة يجب الرجوع إليها ; لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم ، ولا يدل ذلك على [ ص: 328 ] إجماع شرعي معصوم ، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى .

    قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الخضر ليس بحي بل توفي ، وذلك لعدة أدلة :

    الأول : ظاهر عموم قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون [ 21 \ 34 ] ، فقوله " لبشر " نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر ، فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله ، والخضر بشر من قبله ، فلو كان شرب من عين الحياة وصار حيا خالدا إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد .

    الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا ابن المبارك عن عكرمة بن عمار ، حدثني سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ) ح ( وحدثنا زهير بن حرب واللفظ له ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثني أبو زميل هو زميل الحنفي ، حدثني عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [ 8 \ 9 ] ، فأمده الله بالملائكة . . ، الحديث ، ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تعبد في الأرض " فعل في سياق النفي فهو بمعنى : لا تقع عبادة لك في الأرض ; لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر ونسبة وزمن عند كثير من البلاغيين ، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ، فيتسلط عليه النفي فيؤول إلى النكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم كما تقدم إيضاحه في سورة " بني إسرائيل " وإلى كون الفعل في سياق النفي والشرط من صيغ العموم أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يفيد العموم :

    ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
    فإذا علمت أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " أي : لا تقع عبادة لك في الأرض .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #245
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (244)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 329 إلى صـ 334





    فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حيا في الأرض ; لأنه على تقدير وجوده حيا في الأرض فإن الله يعبد في الأرض ، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام ; لأن الخضر ما دام حيا فهو يعبد الله في الأرض ، وقال البخاري في صحيحه : حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض " فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك ! فخرج وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض " أي : إن شئت إهلاك هذه الطائفة من أهل الإسلام لم تعبد في الأرض ، فيرجع معناه إلى الرواية التي ذكرنا عن مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد بينا وجه الاستدلال بالحديث عن وفاة الخضر .

    الثالث : إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة ، فلو كان الخضر حيا في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، قال محمد بن رافع : حدثنا ، وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان : أن عبد الله بن عمر قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام فقال : " أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهرها أحد " . قال ابن عمر : فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة ، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " ، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن ، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ، ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، كلاهما عن الزهري بإسناد معمر كمثل حديثه ، حدثني هارون بن عبد الله ، وحجاج بن الشاعر قالا : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر : " تسألوني [ ص: 330 ] عن الساعة وإنما علمها عند الله ، وأقسم الله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة " حدثنيه محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج بهذا الإسناد ولم يذكر " قبل موته بشهر " .

    حدثني يحيى بن حبيب ، ومحمد بن عبد الأعلى ، كلاهما عن المعتمر قال ابن حبيب ، حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي ، حدثنا أبو نضرة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك قبل موته بشهر أو نحو ذلك : " ما من نفس منفوسة اليوم تأتي مائة سنة وهي حية يومئذ " ، وعن عبد الرحمن صاحب السقاية ، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك ، وفسرها عبد الرحمن قال : نقص العمر ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا سليمان التيمي بالإسنادين جميعا مثله .

    حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبو خالد عن داود واللفظ له ) ح ( وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سليمان بن حيان عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تأتي مائة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم " حدثني إسحاق بن منصور ، أخبرنا أبو الوليد ، أخبرنا أبو عوانة عن حصين عن سالم عن جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة " فقال سالم : تذاكرنا ذلك عنده : إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ ا هـ منه بلفظه .

    فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر ، وجابر ، وأبو سعيد فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة ، فقوله " نفس منفوسة " ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نكرة في سياق النفي فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض ، ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر ; لأنه نفس منفوسة على الأرض ، وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : حدثني سالم بن عبد الله بن عمر ، وأبو بكر بن أبي حثمة أن عبد الله بن عمر قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة : وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض " يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن انتهى منه بلفظه ، وقد بينا وجه دلالته على المراد قريبا .

    [ ص: 331 ] الرابع : أن الخضر لو كان حيا إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه ، ولنصره وقاتل معه ; لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جدا ، كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقولـه : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقولـه تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] ، ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة " آل عمران " : أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به وينصرونه ، وذلك في قوله : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ 3 \ 81 - 82 ] .

    وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما قاله ابن العباس وغيره فالأمر واضح ، وعلى أنها عامة فهو صلى الله عليه وسلم يدخل في عمومها دخولا أوليا ، فلو كان الخضر حيا في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته ، ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه : أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو باطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ا هـ قال ابن حجر في الفتح : ورجاله موثقون ، إلا أن في مجالد ضعفا ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه بعد أن ساق آية " آل عمران " المذكورة آنفا مستدلا بها على أن الخضر لو كان حيا لجاء النبي صلى الله عليه وسلم ونصره ما نصه : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبينا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به وينصرونه ، ذكره البخاري عنه .

    فالخضر إن كان نبيا أو وليا فقد دخل في هذا الميثاق ، فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه ، يؤمن بما أنزل الله عليه ، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه ; لأنه إن كان وليا فالصديق أفضل منه ، وإن كان نبيا فموسى أفضل منه .

    [ ص: 332 ] وقد روى الإمام أحمد في مسنده : حدثنا شريح بن النعمان ، حدثنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ، وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة .

    وقد دلت هذه الآية الكريمة : أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعا له وتحت أوامره ، وفي عموم شرعه ، كما أن صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم الإسراء رفع فوقهم كلهم ، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم ، فصلى بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم ، فدل على أنه الإمام الأعظم ، والرسول الخاتم المبجل المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

    فإذا علم هذا ، وهو معلوم عند كل مؤمن ، علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وممن يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك ، هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة ، لا يخرج منها ولا يحيد عنها ، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين ، وخاتم أنبياء بني إسرائيل ، والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد ، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد ، وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به ربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفره : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض " وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام ، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال بأنه أفخر بيت قالته العرب :


    وببئر بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا
    ومحمد

    فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته ، وأعظم غزواته ، قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي : سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات ؟ فقال : نعم ، قال : وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن العبادي قال : وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقله ابن الجوزي في العجالة ، فإن قيل : فهل يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه ؟

    فالجواب : أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرد التوهمات ، ثم [ ص: 333 ] ما الحامل له على هذا الاختفاء ؟ وظهوره أعظم لأجره ، وأعلى في مرتبته ، وأظهر لمعجزته ، ثم لو كان باقيا بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوية ، والآيات القرآنية ، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة ، والروايات المقلوبة ، والآراء البدعية ، والأهواء العصبية ، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم ، وشهوده جمعهم وجماعاتهم ، ونفعه إياهم ، ودفعه الضرر عنهم مما سواهم ، وتسديده العلماء والحكام ، وتقريره الأدلة والأحكام أفضل مما يقال من كونه في الأمصار ، وجوبه الفيافي والأقطار ، واجتماعه بعباد لا تعرف أحوال كثير منهم ، وجعله كالنقيب المترجم عنهم

    وهذا الذي ذكرته لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، انتهى من البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله تعالى .

    فتحصل أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الخضر حيا باقيا لم يثبت منها شيء ، وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته ، كما قدمنا إيضاحه .

    وممن بين ضعف الأحاديث الدالة على حياة الخضر وبقائه ابن كثير في تاريخه وتفسيره ، وبين كثيرا من أوجه ضعفها ابن حجر في الإصابة ، وقال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ساق الأحاديث والحكايات الواردة في حياة الخضر : وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم ، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا ، لا تقوم بمثلها حجة في الدين .

    والحكايات لا يخلو أكثرها من ضعف في الإسناد ، وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره ; لأنه يجوز عليه الخطأ ) والله أعلم ( ، إلى أن قال رحمه الله : وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه ) عجلة المنتظر في شرح حالة الخضر ( للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعات ، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها ، وجهالة رجالها ، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد ا هـ منه .

    واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته ، فزعموا أنه لا يشمله عموم وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ 21 \ 34 ] ، ولا عموم حديث : " أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم " كما تقدم ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى : ولا حجة لمن استدل به يعني الحديث المذكور على بطلان قول من يقول : إن الخضر [ ص: 334 ] حي لعموم قوله " ما من نفس منفوسة . " ; لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصا فيه ، بل هو قابل للتخصيص ، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل ، بل هو حي بنص القرآن ومعناه ، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة : فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام ، وليس مشاهدا للناس ، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا ، فمثل هذا العموم لا يتناوله ، وقيل : إن أصحاب الكهف أحياء ، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم ، وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا ا هـ منه .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع ، فإنه اعترف بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عموما مؤكدا ; لأن زيادة " من " قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصا صريحا في العموم لا ظاهرا فيه كما هو مقرر في الأصول ، وقد أوضحناه في سورة " المائدة " .

    ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم لا نص فيه ، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام ، فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سندا ومتنا ، فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعا .

    وقولـه : " إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث " فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناوله عيسى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : " لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد " ، فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء ، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى : بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وهذا واضح جدا كما ترى .

    ودعوى حياة أصحاب الكهف ، وفتى موسى ظاهرة السقوط ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم ، ولم يثبت شيء يعارضه .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #246
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (245)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 335 إلى صـ 340





    وقولـه " إن الخضر ليس مشاهدا للناس ، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا " يقال فيه : إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين :

    الأولى : أن دعوى كون الخضر محجوبا عن أعين الناس كالجن والملائكة [ ص: 335 ] دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها ; لأن الأصل أن بني آدم يرى بعضهم بعضا لاتفاقهم في الصفات النفسية ، ومشابهتهم فيما بينهم .

    الثانية : أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم ، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو " هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة " عالم بالخضر ، وبأنه نفس منفوسة ، ولو سلمنا جدليا أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون ، وأن مثله لم يقصد بالشمولي في العموم فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود ، خلافا لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق .

    قال صاحب جمع الجوامع في " مبحث العام " ما نصه : والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته ، فقوله : " النادرة وغير المقصودة " ، يعني الصورة النادرة وغير المقصودة ، وقولـه : " تحته " يعني العام ، والحق أن الصورة النادرة ، وغير المقصودة صورتان واحدة ، وبينهما عموم وخصوص من وجه على التحقيق ; لأن الصورة النادرة قد تكون مقصودة وغير مقصودة ، والصورة غير المقصودة قد تكون نادرة وغير نادرة ، ومن الفروع التي تبنى على دخول الصورة النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما اختلاف العلماء في جواز دفع السبق - بفتحتين - في المسابقة على الفيل ، وإيضاحه أنه جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر " ولم يذكر فيه ابن ماجه " أو نصل " والفيل ذو خف ، وهو صورة نادرة ، فعلى القول بدخول الصورة النادرة في العام يجوز دفع السبق - بفتحتين - في المسابقة على الفيلة ، والسبق المذكور هو المال المجعول للسابق ، وهذا الحديث جعله بعض علماء الأصول مثالا لدخول الصورة النادرة في المطلق لا العام ، قال : لأن قوله : " إلا في خف " نكرة في سياق الإثبات ; لأن ما بعد " إلا " مثبت ، والنكرة في سياق الإثبات إطلاق لا عموم ، وجعله بعض أهل الأصول مثالا لدخول الصورة النادرة في العام .

    قال الشيخ زكريا : وجه عمومه مع أنه نكرة في الإثبات أنه في حيز الشرط معنى ، إذ التقدير : إلا إذا كان في خف ، والنكرة في سياق الشرط تعم ، وضابط الصورة النادرة عند أهل الأصول هي : أن يكون ذلك الفرد لا يخطر غالبا ببال المتكلم لندرة وقوعه ، ومن أمثلة الاختلاف في الصورة النادرة : هل تدخل في العام والمطلق أو لا ؟ ! اختلاف العلماء في وجوب الغسل من خروج المني الخارج بغير لذة ، كمن تلدغه عقرب في ذكره فينزل منه [ ص: 336 ] المني ، وكذلك الخارج بلذة غير معتادة كالذي ينزل في ماء حار أو تهزه دابة فينزل منه المني ، فنزول المني بغير لذة ، أو بلذة غير معتادة صورة نادرة ، ووجوب الغسل منه يجري على الخلاف المدخول في دخول الصور النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما ، فعلى دخول تلك الصورة النادرة في عموم " إنما الماء من الماء " فالغسل واجب ، وعلى العكس فلا ، ومن أمثلة ذلك في المطلق ما لو أوصى رجل برأس من رقيقه ، فهل يجوز دفع الخنثى أو لا ؟ فعلى دخول الصورة النادرة في المطلق يجوز دفع الخنثى ، وعلى العكس فلا ، ومن أمثلة الاختلاف في دخول الصورة غير المقصودة في الإطلاق ، ما لو وكل رجل آخر على أن يشتري له عبدا ليخدمه ، فاشترى الوكيل عبدا يعتق على الموكل ، فالموكل لم يقصد من يعتق عليه ، وإنما أراد خادما يخدمه ، فعلى دخول الصورة غير المقصودة في المطلق يمضي البيع ويعتق العبد ، وعلى العكس فلا ، وإلى هاتين المسألتين أشار في المراقي بقوله :


    هل نادر في ذي العموم يدخل ومطلق أو لا خلاف ينقل
    فما لغير لذة والفيل ومشبه فيه تنافي القيل
    وما من القصد خلا فيه اختلف وقد يجيء بالمجاز متصف
    وممن مال إلى عدم دخول الصور النادرة وغير المقصودة في العام والمطلق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى .

    قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر رجحانه بحسب المقرر في الأصول شمول العام والمطلق للصور النادرة ; لأن العام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أو سنة ، وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه ، بل يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك ، وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية [ 21 \ 34 ] ، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد " هو الصحيح ، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص .

    ومما يوضح ذلك : أن الخنثى صورة نادرة جدا ، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق ، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع ، وما ذكره القرطبي من [ ص: 337 ] خروج الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه ; لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص ، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي ، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنه حدثه به تميم الداري ، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور ; لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان ، حدثنا ابن بريدة حدثني عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان ، أنه سأل فاطمة بنت قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال : حدثيني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره ، فقالت لئن شئت لأفعلن ؟ فقال لها : أجل ؟ حدثيني ، فقالت : . . . ثم ساق الحديث وفيه طول ، ومحل الشاهد منه قول تميم الداري : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا ، وأشده وثاقا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ! ما لك ؟ ! الحديث بطوله إلى قوله وإني مخبركم عني ، إني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض ، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة ، فهما محرمتان على كلتاهما ، الحديث .

    فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور ، وإنه باق وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان ، وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه ، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل ، كما قدمناه مرارا وهو الحق ومذهب الجمهور ، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص ، ويبقى العام حجة في الباقي ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله :


    وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينا يبن
    وبهذا كله يتبين أن النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة ، ونفي الخلد عن كل بشر قبله تتناول بظواهرها الخضر ، ولم يخرج منها نص [ ص: 338 ] صالح للتخصيص كما رأيت ، والعلم عند الله تعالى .

    واعلم أن العلماء اختلفوا اختلافا كثيرا في نسب الخضر ، فقيل : هو ابن آدم لصلبه ، وقال ابن حجر في الإصابة : وهذا قول رواه الدارقطني في الأفراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس ، ورواد ضعيف ، ومقاتل متروك ، والضحاك لم يسمع من ابن عباس ، وقيل : إنه ابن قابيل بن آدم قال ابن حجر : ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين ، ثم ساق سنده وقال : هو معضل وحكى صاحب هذا القول : أنه اسمه خضرون وهو الخضر ، وقيل : اسمه عامر ، ذكره أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي ، وقيل : إن اسمه بليام بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، ذكر هذا القول ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه ، قاله ابن كثير ، وغيره ، وقيل : إن اسمه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد ، وهذا قول إسماعيل بن أبي أويس ، نقله عنه ابن كثير وغيرهما .

    وقيل : خضرون بن عمائيل من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل : وهذا القول حكاه ابن قتيبة أيضا ذكره عنه ابن حجر ، وقيل : إنه من سبط هارون أخي موسى ، وروي ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن ابن عباس ، ذكره ابن حجر أيضا ثم قال : وهو بعيد ، وأعجب منه قول ابن إسحاق : إنه أرميا بن حلقيا ، وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير ، وقيل : إنه ابن بنت فرعون ، حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة .

    وقيل : ابن فرعون لصلبه ، حكاه النقاش ، وقيل : إنه اليسع ، حكي عن مقاتل ، وقال ابن حجر : إنه بعيد ، وقيل : إنه من ولد فارس ، قال ابن حجر : جاء ذلك عن ابن شوذب ، أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب ، وقيل : إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل ، حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه ، وقيل : كان أبوه فارسيا ، وأمه رومية ، وقيل عكس ذلك ا هـ ، والله أعلم بحقيقة الواقع ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال : إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء ، والفروة البيضاء : ما على وجه الأرض من الحشيش الأبيض وشبهه من الهشيم ، وقيل ، الفروة : الأرض البيضاء التي لا نبات فيها ، وقيل : هي الهشيم اليابس .

    ومن ذلك القبيل تسمية جلدة الرأس فروة ، كما قدمنا في سورة " البقرة " في قول الشاعر :

    [ ص: 339 ]
    دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا

    قوله تعالى : فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه

    ، هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة ، وإنما هي مجاز ، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة ; لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا ونحن لا نعلمها ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة .

    فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله الآية [ 2 \ 74 ] ، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك ; لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، وقولـه تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان الآية [ 33 \ 72 ] ، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت ، أي : خافت ، دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه .

    ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة " وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعا لفراقه ، فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، كما صرح بمثله في قوله : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها ، وإنما هي ضرب أمثال ، زعم باطل ; لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض ، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة ، وهذا واضح جدا كما ترى ، مع أنه من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء ، كما في قول الشاعر :

    [ ص: 340 ]
    في مهمه قلقت به هامتها قلق الفئوس إذا أردن نضولا
    فقوله : إذا أردن نضولا ، أي قاربنه . وقول الآخر :
    يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل
    أي : يميل إلى صدر أبي براء ، وكقول راعي نمير :


    إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
    فقوله " لزمان يهم بالإحسان فيه ، وقد بينا في رسالتنا المسماة ) منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ( أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز أن ذلك لا يتعين في شيء منها ، وبينا أدلة ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا

    ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة ، صحيحة كانت أو معيبة ، ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة ، وهي قوله : فأردت أن أعيبها [ 18 \ 79 ] ، أي : لئلا يأخذها ، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله : حتى إذا ركبا في السفينة خرقها [ 18 \ 71 ] ، ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب ; لأن عيبها يزهده فيها ; ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالا عند علماء العربية لحذف النعت ، أي : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة بدليل ما ذكرنا .

    وقد قدمنا الشواهد العربية على ذلك في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا الآية [ 17 \ 58 ] ، واسم ذلك الملك : هدد بن بدر : وقوله " وراءهم " أي : أمامهم كما تقدم في سورة " إبراهيم " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #247
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (246)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 341 إلى صـ 346





    قوله تعالى : حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة

    ، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم " حمئة " بلا ألف بعد الحاء ، وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة ، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم " حامية " بألف بعد الحاء ، وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل ، فعلى القراءة الأولى فمعنى " حمئة " : ذات حمأة وهي الطين الأسود ، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 26 ] ، [ ص: 341 ] والحمأ : الطين كما تقدم ، ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين :


    بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها
    في عين ذي خلب وثأط حرمد
    والخلب - في لغة حمير - : الطين ، والثأط : الحمأة ، والحرمد : الأسود ، وعلى قراءة " حامية " بصيغة اسم الفاعل ، فالمعنى : أنها حارة ، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل ، ولا منافاة بين القراءتين وكلتاهما حق ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وجدها تغرب في عين حمئة [ 18 \ 86 ] ، أي : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه إلى آخر كلامه ، ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط ، وهو ذو طين أسود ، والعين تطلق في اللغة على ينبوع الماء ، والينبوع : الماء الكثير ، فاسم العين يصدق على البحر لغة ، وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف ، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا

    اعلم أولا أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له ، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين لهما بيان من كتاب أوضحته السنة ، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بيانا وافيا بالمقصود ، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة ، وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه ، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة ; لأنه قال هنا : فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور الآية [ 18 \ 98 - 99 ] ، وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة [ ص: 342 ] التي عوض عنها تنوين " يومئذ " من قوله : وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ، أنه يوم إذ جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض ، ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم ، وإذا تقرر أن معنى " يومئذ " يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم فاعلم أن الضمير في قوله : وتركنا بعضهم على القول بأنه لجميع بني آدم فالمراد يوم القيامة ، وإذا فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد ، وقربه منه ، وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج ، فقوله بعده ونفخ في الصور يدل في الجملة على أنه قريب منه ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية قال هذا رحمة من ربي ، هو إشارة إلى السد ، أي : هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده ، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته فإذا جاء وعد ربي يعني فإذا دنا مجيء يوم القيامة ، وشارف أن يأتي جعل السد دكا ، أي : مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض ، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك ، ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام ا هـ .

    وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا الآية [ 21 \ 96 - 97 ] ; لأن قوله : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وإتباعه لذلك بقوله : واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ، يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها ، وذلك يدل على بطلان قول من قال : إنهم روسية ، وأن السد فتح منذ زمان طويل ، فإذا قيل : إنما تدل الآيات المذكورة في " الكهف " و " الأنبياء " على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد واقترابه من يوم القيامة لا ينافي كونه قد وقع بالفعل ، كما قال تعالى : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] ، وقال : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ويل للعرب ، من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها . " الحديث ، وقد قدمنا في سورة " المائدة " ، فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به ، بل يصح اقترابه مع مهلة ، وإذا فلا ينافي دك السد الماضي المزعوم الاقتراب من يوم القيامة ، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن .

    [ ص: 343 ] فالجواب : هو ما قدمنا أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافيا بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له ، ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة ; لأنها مبينة للقرآن ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي : أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ) ح ( وحدثني محمد بن مهران الرازي ) واللفظ له ( ، حدثني الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : " ما شأنكم " ؟ قلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتى ظنناه في طائفة النخل ؟ فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم ! إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط ، عينه طافئة ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة " الكهف " إنه خارج خلة بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وعاث شمالا ، " يا عباد الله فاثبتوا " قلنا : يا رسول الله ، وما لبثه في الأرض ؟ قال : " أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : " لا ، اقدروا له قدره " قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال : " كالغيث استدبرته الريح " ، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له : فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله : فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك ، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعون فيقبل ويتهلل وجهه يضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لده فيقتله ، ثم يأتي عيسى ابن [ ص: 344 ] مريم قوم قد عصمهم الله منه ، فيمسح عن وجوههم ، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، يبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة " انتهى بلفظه من صحيح مسلم رحمه الله تعالى .

    وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله يوحي إلى عيسى ابن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال ، فمن يدعي أنهم روسية ، وأن السد قد اندك منذ زمان فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها ، ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل ; لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم ، ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده ، ووضوح دلالته على المقصود .

    والعمدة في الحقيقة لمن ادعى أن يأجوج ومأجوج هم روسية ، ومن ادعى من الملحدين أنهم لا وجود لهم أصلا هي حجة عقلية في زعم صاحبها ، وهي بحسب المقرر في الجدل قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية في زعم المستدل به يستثنى فيه نقيض التالي ، فينتج نقيض المقدم ، وصورة نظمه أن يقول : لو كان يأجوج ومأجوج وراء السد إلى الآن ، لاطلع عليهم الناس لتطور طرق المواصلات ، لكنهم لم [ ص: 345 ] يطلع عليهم أحد ينتج فهم ليسوا وراء السد إلى الآن ; لأن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم كما هو معلوم ، وبعبارة أوضح لغير المنطقي ; لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم هذا هو عمدة حجة المنكرين وجودهم إلى الآن وراء السد ، ومن المعلوم أن القياس الاستثنائي المعروف بالشرطي ، إذا كان مركبا من شرطية متصلة واستثنائية ، فإنه يتوجه عليه القدح من ثلاث وجهات :

    الأولى : أن يقدح فيه من جهة شرطيته ، لكون الربط بين المقدم والتالي ليس صحيحا .

    الثانية : أن يقدح فيه من جهة استثنائيته .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #248
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (247)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 347 إلى صـ 352




    الثالثة : أن يقدح فيه من جهتهما معا ، وهذا القياس المزعوم يقدح فيه من جهة شرطيته فيقول للمعترض : الربط فيه بين المقدم والتالي غير صحيح ، فقولكم : لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح ، لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس ، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة " المائدة " من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة ، وذلك في قوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض الآية [ 5 \ 26 ] ، وهم في فراسخ قليلة من الأرض ، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه ، لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق ، وعلى كل حال ، فربك فعال لما يريد ، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة ، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة ، زاعمين أنه منزل في التوراة أو غيره من الكتب السماوية باطل يقينا لا يعول علينا ; لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم ، كقوله : يحرفون الكلم عن مواضعه [ 5 \ 13 ] ، وقولـه : تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا [ 6 \ 91 ] ، وقولـه : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون [ 2 \ 79 ] ، وقولـه تعالى : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون [ 3 \ 78 ] ، [ ص: 346 ] إلى غير ذلك من الآيات بخلاف هذا القرآن العظيم ، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه ، ولم يكلمه أحد حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، وقال : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، وقال : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [ 41 \ 42 ] ، وقال في النبي صلى الله عليه وسلم : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل ، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم ، خوف أن يصدقوا بباطل ، أو يكذبوا بحق .

    ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات : في واحدة منها يجب تصديقه ، وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه ، وفي واحدة يجب تكذيبه ، وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه ، وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق ، كما في الحديث المشار إليه آنفا : وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه ، وبهذا التحقيق تعلم أن القصص المخالفة للقرآن والسنة الصحيحة التي توجه بأيدي بعضهم ، زاعمين أنها في الكتب المنزلة يجب تكذيبهم فيها لمخالفتها نصوص الوحي الصحيح ، التي لم تحرف ولم تبدل ، والعلم عند الله تعالى .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : جعله دكاء ، قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " دكا " بالتنوين مصدر دكه ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي جعله دكاء ، بألف التأنيث الممدودة تأنيث الأدك ، ومعنى القراءتين راجع إلى شيء واحد ، وقد قدمنا إيضاحه .
    قوله تعالى : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا .

    قوله : وعرضنا أي : أبرزنا وأظهرنا جهنم يومئذ ، أي : يوم إذ جمعناهم جمعا ، كما دل على ذلك قوله قبله : ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا [ 18 \ 99 ] ، وقال بعض العلماء : اللام في قوله " للكافرين " بمعنى على ، أي : عرضنا جهنم على الكافرين ، وهذا يشهد له القرآن في آيات متعددة ; لأن العرض في القرآن يتعدى بعلى لا باللام ، كقوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار [ 46 \ 20 ] ، وقولـه : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 46 ] ، وقولـه تعالى : وعرضوا على ربك صفا [ 18 \ 48 ] ، [ ص: 347 ] ونظيره في كلام العرب من إتيان اللام بمعنى " على " البيت الذي قدمناه في أول سورة " هود " ، وقدمنا الاختلاف في قائله ، وهو قوله :


    هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
    أي خر صريعا على اليدين .

    وقد علم من هذه الآيات : أن النار تعرض عليهم ويعرضون عليها ; لأنها تقرب إليهم ويقربون إليها ، كما قال تعالى في عرضها عليهم هنا : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا [ 18 \ 100 ] ، وقال في عرضهم عليها : ويوم يعرض الذين كفروا على النار الآية [ 46 \ 34 ] ، ونحوها من الآيات ، وقد بينا شيئا من صفات عرضهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله في الكلام على قوله تعالى وعرضوا على ربك صفا [ 18 \ 48 ] ، وقول من قال : إن قوله هنا : وعرضنا جهنم الآية [ 18 \ 100 ] فيه قلب ، وأن المعنى : وعرضنا الكافرين لجهنم أي : عليها بعيد كما أوضحه أبو حيان في البحر ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا .

    التحقيق في قوله : الذين كانت أعينهم ، أنه في محل خفص نعتا للكافرين ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من صفات الكافرين الذين تعرض لهم جهنم يوم القيامة أنهم كانت أعينهم في دار الدنيا في غطاء عن ذكره تعالى ، وكانوا لا يستطيعون سمعا ، وقد بين هذا من صفاتهم في آيات كثيرة ، كقوله في تغطية أعينهم : وعلى أبصارهم غشاوة الآية [ 2 \ 7 ] ، وقولـه : وجعل على بصره غشاوة الآية [ 45 \ 23 ] ، وقولـه : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى [ 13 \ 19 ] ، وقولـه : وما يستوي الأعمى والبصير الآية [ 35 \ 19 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقال في عدم استطاعتهم السمع : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقال : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، وقد بينا معنى كونهم لا يستطيعون السمع في أول سورة " هود " في الكلام على قوله تعالى : يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، فأغنى عن إعادته هنا ، وقد بينا أيضا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى في هذه السورة الكريمة : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، [ ص: 348 ] وقد بين تعالى في موضع آخر : أن الغطاء المذكور الذي يعشو بسببه البصر عن ذكره تعالى يقيض الله لصاحبه شيطانا فيجعله له قرينا ، وذلك في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الآية [ 43 \ 36 ] .
    قوله تعالى : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا .

    الهمزة في قوله تعالى : أفحسب للإنكار والتوبيخ ، وفي الآية حذف دل المقام عليه ، قال بعض العلماء : تقدير المحذوف هو : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ، ولا أعاقبهم العقاب الشديد ! كلا ! بل سأعاقبهم على ذلك العقاب الشديد ، بدليل قوله تعالى بعده : إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا [ 18 \ 102 ] ، وقال بعض العلماء : تقديره : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء وأن ذلك ينفعهم ، كلا لا ينفعهم بل يضرهم ، ويدل لهذا قوله تعالى عنهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، وقولـه عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ 10 \ 18 ] ، ثم إنه تعالى بين بطلان ذلك بقوله : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] ، وما أنكره عليهم هنا من ظنهم أنهم يتخذون من دونه أولياء من عباده ولا يعاقبهم ، أو أن ذلك ينفعهم جاء مبينا في مواضع ، كقوله في أول سورة " الأعراف " : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [ 7 \ 3 ] ، فقد نهاهم عن اتباع الأولياء من دونه في هذه الآية ; لأنه يضرهم ولا ينفعهم ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن من الأدلة على أنه لا ولي من دون الله لأحد ، وإنما الموالاة في الله ، كقوله : أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي الآية [ 18 \ 26 ] ، وقولـه : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون [ 11 \ 113 ] ، وقولـه : ومن يضلل الله فما له من ولي الآية [ 42 \ 44 ] ، وقولـه : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي الآية [ 6 \ 51 ] ، وقولـه : وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ، ونحو ذلك من الآيات ، وسيأتي له قريبا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح وأمثلة .

    والأظهر المتبادر من الإضافة في قوله : " عبادي " أن المراد بهم نحو الملائكة [ ص: 349 ] وعيسى وعزير ، لا الشياطين ونحوهم ; لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالبا ، وقد بين تعالى : أنهم لا يكونون أولياء لهم في قوله : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية [ 34 \ 40 - 41 ] ، وقولـه : إنا أعتدنا [ 18 \ 102 ] ، قد أوضحنا معناه في قوله تعالى : إنا أعتدنا للظالمين نارا الآية [ 18 \ 29 ] ، فأغنى عن إعادته هنا ، وفي قوله : نزلا أوجه من التفسير للعلماء ، أظهرها : أن " النزل " هو ما يقدم للضيف عند نزوله ، والقادم عند قدومه ، والمعنى : أن الذي يهيأ لهم من الإكرام عند قدومهم إلى ربهم هو جهنم المعدة لهم ، كقوله : فبشرهم بعذاب أليم [ 84 \ 24 ] ، وقولـه : يغاثوا بماء كالمهل [ 18 \ 29 ] ، وقد قدمنا شواهده العربية في الكلام على قوله تعالى ، يغاثوا بماء كالمهل ; لأن ذلك الماء الذي يشوي الوجوه ليس فيه إغاثة ، كما أن جهنم ليست نزل إكرام الضيف أو قادم .

    الوجه الثاني : أن " نزلا " بمعنى المنزل ، أي : أعتدنا جهنم للكافرين منزلا ، أي : مكان نزول ، لا منزل لهم غيرها ، وأضعف الأوجه ما زعمه بعضهم من أن " النزل " جمع نازل ، كجمع الشارف على شرف بضمتين ، والذي يظهر في إعراب " نزلا " أنه حال مؤولة بمعنى المشتق ، أو مفعول لـ " أعتدنا " بتضمينه معنى صيرنا أو جعلنا ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

    المعنى : قل لهم يا نبي الله : هل ننبئكم ، أي : نخبركم بالأخسرين أعمالا ، أي : بالذين هم أخسر الناس أعمالا وأضيعها ، فالأخسر صيغة تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر ، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه ، وقولـه : أعمالا منصوب على التمييز :

    فإن قيل : نبئنا بالأخسرين أعمالا من هم ؟

    كان الجواب : هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وبه تعلم أن " الذين " من قوله : الذين ضل سعيهم [ 18 \ 104 ] ، خبر مبتدأ محذوف جوابا للسؤال المفهوم من المقام ، ويجوز نصبه على الذم ، وجره على أنه بدل من الأخسرين ، أو نعت له ، وقوله : ضل سعيهم ، أي : بطل عملهم وحبط ، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد ! كما في قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، [ ص: 350 ] وقولـه : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] ، وقولـه : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله .

    والتحقيق : أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق ، وأن فيه رضا ربهم ، كما قال عن عبدة الأوثان : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، وقال عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ 10 \ 18 ] ، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآية [ 88 \ 2 - 4 ] ، على القول فيها بذلك ، وقولـه تعالى في الكفار : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 \ 30 ] ، وقولـه : وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] ، والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم الآية [ 18 \ 105 ] ، فقول من قال : إنهم الكفار ، وقول من قال : إنهم الرهبان ، وقول من قال : إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية ، وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن " الأخسرين أعمالا " في هذه الآية هل هم الحرورية ؟ فقال لا ، هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة ، وقالوا لا طعام فيها ، ولا شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان سعيد يسميهم الفاسقين ، ا هـ من البخاري ، وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعروفون بالحروريين معناه أنهم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا ; لأنهم يرتكبون أمورا شنيعة من الضلال ، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة ، فقد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قد قدمنا إيضاحه وأدلته .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : الذين ضل سعيهم [ 18 \ 104 ] ، أي : بطل واضمحل ، وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات :

    الأول : الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل ، كالذهاب عن [ ص: 351 ] الإسلام إلى الكفر ، وهذا أكثر استعمالاته في القرآن ، ومنه قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] ، وقولـه : ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل 5 [ 5 \ 77 ] .

    الثاني : الضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال ، ومنه قول العرب : ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 6 \ 24 ] ، أي : غاب واضمحل ، وقولـه هنا : الذين ضل سعيهم [ 18 \ 104 ] ، أي : بطل واضمحل ، وقول الشاعر :


    ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
    أي : عن الحي الذي غاب واضمحل ، ومن هنا سمي الدفن إضلالا ; لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض ، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام ، ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :


    فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
    فقوله " مضلوه " يعني دافنيه في قبره ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد الآية [ 32 \ 10 ] ، فمعنى ضللنا في الأرض أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها فغابت واستهلكت فيها .

    الثالث : الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] ، أي : ذاهبا عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي ، وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، أي : ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف ، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك ; وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات ، وقولـه تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما [ 2 \ 282 ] ، أي : تذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه ، بدليل قوله : فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] ، وقولـه تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

    [ ص: 352 ]
    وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
    فقوله " أراها في الضلال " : أي : الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغي بها بدلا ، والواقع بخلاف ذلك .

    وقولـه في هذه الآية : وهم يحسبون ، أي : يظنون ، وقرأه بعض السبعة بكسر السين ، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مرارا في جميع القرآن ، ومفعولا " حسب " هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما " أن " والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم ، وقولـه " صنعا " أي : عملا وبين قوله " يحسبون ، ويحسنون " الجناس المسمى عند أهل البديع " تجنيس التصحيف " وهو أن يكون النقط فرقا بين الكلمتين ، كقول البحتري :


    ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه
    فبين " المغتر والمعتز " الجناس المذكور .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم الآية [ 18 \ 105 ] ، نص في أن الكفر بآيات الله ولقائه يحبط العمل ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، كقوله تعالى في " العنكبوت " والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم [ 29 \ 23 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وسيأتي بعض أمثلة لذلك قريبا إن شاء الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #249
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (248)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 353 إلى صـ 358





    وقولـه في هذه الآية الكريمة : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [ 18 \ 105 ] ، فيه للعلماء أوجه :

    أحدها : أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم ، بل لم يكن إلا السيئات ، ومن كان كذلك فهو في النار ، كما قال تعالى : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، [ 23 \ 103 - 104 ] ، وقال : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الآية [ 7 \ 8 - 9 ] ، وقال : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما نار حامية [ 101 \ 8 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقال بعض أهل العلم : معنى [ ص: 353 ] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا : أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم ، وهو أنهم بسبب كفرهم ، وذلك كقوله عنهم : سيدخلون جهنم داخرين [ 40 \ 60 ] ، أي : صاغرين أذلاء حقيرين ، وقولـه : قل نعم وأنتم داخرون [ 37 \ 18 ] ، وقولـه : قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم .

    وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن ، لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة ، قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن ، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وعن يحيى بن بكير ، عن المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد مثله ا هـ ، من البخاري .

    وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وفيه دلالة على وزن الأشخاص ، وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه : وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه ، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية ، المبتغى به الترفه والسمن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين " ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم قرني ثم الذين يلونهم قال عمران ، فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن " وهذا ذم ، وسبب ذلك : أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن ، والاسترسال مع النفس على شهواتها ، فهو عبد نفسه لا عبد ربه ، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام ، وكل لحم تولد من سحت فالنار أولى به ، وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ 47 \ 12 ] ، فإذا كان المؤمن يتشبه بهم ، ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه ، فأين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام ، ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه ، وزاد [ ص: 354 ] بالليل كسله ونومه ، فكان نهاره هائما ، وليله نائما ا هـ ، محل الغرض من كلام القرطبي ، وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يبغض الحبر السمين " فيه نظر ; لأنه لم يصح مرفوعا ، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب ، وما ذكر من ذم كثرة الأكل والشرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة " وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه " .
    قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا

    ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس ، والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سببا في دخول الجنة كثيرة جدا ، كقوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، وقولـه : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] ، أي : بسببه ، وقولـه تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ 43 \ 72 ] ، وقولـه تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب الآية [ 19 \ 60 - 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    تنبيه

    فإن قيل هذه الآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحدكم عمله الجنة " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " ، يرد بسببه إشكال على ذلك .

    فالجواب : أن العمل لا يكون سببا لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى ، وتقبله له فضل منه ، فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله ، وغيره من الأعمال لا يكون سببا لدخول الجنة ، وللجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر ، هذا أظهرها عندي ، والعلم عند الله تعالى .

    وقد قدمنا أن " النزل " ، هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم .
    قوله تعالى : خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .

    أي : خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولا ، أي : تحولا إلى منزل آخر ; لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها ، بل هم خالدون فيها [ ص: 355 ] دائما من غير تحول ولا انتقال ، وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله : الذي أحلنا دار المقامة [ 35 \ 35 ] ، أي : الإقامة أبدا ، وقولـه : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا ، [ 18 \ 2 - 3 ] ، وقولـه : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقولـه : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها ، ودوام نعيمها لهم ، والحول : اسم مصدر بمعنى التحول .
    قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .

    أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يقول لو كان البحر مدادا لكلمات ربي [ 18 \ 109 ] ، أي : لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التي تكتب بها كلمات الله " لنفد البحر " أي : فرغ وانتهى قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ، أي : ببحر آخر مثله مددا ، أي : زيادة عليه ، وقوله " مددا " منصوب على التمييز ، ويصح إعرابه حالا ، وقد زاد هذا المعنى إيضاحا في سورة " لقمان " في قوله تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله [ 31 \ 27 ] ، وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
    قوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد

    ، أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم [ 18 \ 110 ] ، أي : لا أقول لكم إني ملك ولا غير بشر ، بل أنا بشر مثلكم ، أي : بشر من جنس البشر ، إلا أن الله تعالى فضلني وخصني بما أوحى إلي من توحيده وشرعه ، وقوله هنا يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد [ 18 \ 110 ] ، أي : فوحدوه ولا تشركوا به غيره ، وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية ، أوضحه في مواضع أخر ، كقوله في أول " فصلت " : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [ 41 \ 7 - 8 ] ، وقولـه تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] ، وقولـه : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي الآية [ 6 \ 50 ] ، [ ص: 356 ] وهذا الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية من أنه يقول للناس أنه بشر ، ولكن الله فضله على غيره بما أوحى إليه من وحيه جاء مثله عن الرسل غيره صلوات الله وسلامه عليهم في قوله تعالى : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الآية [ 14 \ 11 ] ، فكون الرسل مثل البشر من حيث إن أصل الجميع وعنصرهم واحد ، وأنهم تجري على جميعهم الأعراض البشرية لا ينافي تفضيلهم على سائر البشر بما خصهم الله به من وحيه واصطفائه وتفضيله كما هو ضروري .

    وقال بعض أهل العلم : معنى هذه الآية قل يا محمد للمشركين : إنما أنا بشر مثلكم ، فمن زعم منكم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به ، فإنني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به عما سألتم عنه من أخبار الماضين كقصة أصحاب الكهف ، وخبر ذي القرنين ، وهذا له اتجاه والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .

    قوله في هذه الآية : فمن كان يرجوا لقاء ربه [ 18 \ 110 ] ، يشمل كونه يأمل ثوابه ، ورؤية وجهه الكريم يوم القيامة ، وكونه يخشى عقابه ، أي : فمن كان راجيا من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر فليعمل عملا صالحا .

    وقد قدمنا إيضاح العمل الصالح وغير الصالح في أول هذه السورة الكريمة وغيرها ، فأغنى عن إعادته هنا .

    وقولـه : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، قال جماعة من أهل العلم ، أي : لا يرائي الناس في عمله ; لأن العمل بعبادة الله لأجل رياء الناس من نوع الشرك ، كما هو معروف عند العلماء أن الرياء من أنواع الشرك ، وقد جاءت في ذلك أحاديث مرفوعة ، وقد ساق طرفها ابن كثير في تفسير هذه الآية ، والتحقيق أن قوله : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، أعم من الرياء وغيره ، أي : لا يعبد ربه رياء وسمعة ، ولا يصرف شيئا من حقوق خالقه لأحد من خلقه ; لأن الله يقول : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ 4 \ 48 ] ، في الموضعين ، ويقول : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 22 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الذي يشرك أحدا بعبادة ربه ، ولا يعمل صالحا أنه لا يرجو لقاء ربه ، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله يوم القيامة .

    وهذا المفهوم جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله تعالى فيما مضى قريبا : [ ص: 357 ] أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم الآية [ 18 \ 105 - 106 ] ; لأن من كفر بلقاء الله لا يرجو لقاءه ، وقوله في " العنكبوت " والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي [ 29 \ 23 ] ، وقولـه في " الأعراف " : والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون [ 7 \ 147 ] ، وقولـه في " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها [ 6 \ 31 ] ، وقولـه تعالى في " يونس " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] ، وقولـه في " الفرقان " : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا [ 25 \ 21 ] ، وقولـه في " الروم " : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    تنبيه

    اعلم أن الرجاء كقوله هنا يرجوا لقاء ربه [ 18 \ 110 ] ، يستعمل في رجاء الخير ، ويستعمل في الخوف أيضا ، واستعماله في رجاء الخير مشهور ، ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي :


    إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل
    فقوله " لم يرج لسعها " أي : لم يخف لسعها ، ويروى حالفها بالحاء والخاء ، ويروى عواسل بالسين ، وعوامل بالميم .

    فإذا علمت أن الرجاء يطلق على كلا الأمرين المذكورين فاعلم أنهما متلازمان ، فمن كان يرجو ما عند الله من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس ، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية الكريمة .

    أعني قوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية [ 18 \ 110 ] ، فعن ابن عباس أنها نزلت في جندب بن زهير الأزدي الغامدي ، قال : يا رسول الله ، إنني أعمل العمل لله تعالى وأريد وجه الله تعالى ، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ، ولا يقبل ما شورك فيه " فنزلت الآية ، وذكره القرطبي في تفسيره ، وذكر ابن حجر في الإصابة : أنه من رواية ابن الكلبي في التفسير عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وضعف هذا السند مشهور ، [ ص: 358 ] وعن طاوس أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى ، وأحب أن يرى مكاني ، فنزلت هذه الآية ، وعن مجاهد قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أتصدق وأصل الرحم ، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى ، فيذكر ذلك مني ، وأحمد عليه فيسرني ذلك ، وأعجب به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا ، فأنزل الله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، انتهى من تفسير القرطبي .

    ومعلوم أن من قصد بعمله وجه الله فعله لله ولو سره اطلاع الناس على ذلك ، ولا سيما إن كان سروره بذلك لأجل أن يقتدوا به فيه ، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، والعلم عند الله تعالى .

    وقال صاحب الدر المنثور : أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : فمن كان يرجوا لقاء ربه قال : نزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره ، وليست هذه في المؤمنين ، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في الإخلاص ، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن طاوس قال : قال رجل : يا نبي الله إني أقف مواقف أبتغي وجه الله ، وأحب أن يرى موطني ، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، وأخرجه الحاكم وصححه ، والبيهقي موصولا عن طاوس عن ابن عباس ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان من المسلمين من يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه ، فأنزل الله فمن كان يرجوا لقاء ربه ، وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة ، وابن عساكر من طريق السدي الصغير ، عن الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له ، فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله ، فنزل في ذلك : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، وأخرج هناد في الزهد عن مجاهد قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله ، وأحب أن يقال لي خير ، فنزلت : فمن كان يرجوا لقاء ربه ا هـ ، من " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " والعلم عند الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #250
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (249)

    سُورَةُ مَرْيَمَ

    صـ 359 إلى صـ 364





    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ مَرْيَمَ


    قَوْلُهُ تَعَالَى : كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .

    قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كَقَوْلِهِ هُنَا : كهيعص [ 19 \ 1 ] ، فِي سُورَةِ " هُودٍ " فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا . وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [ 19 \ 2 ] ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ : هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَقِيلَ : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، وَتَقْدِيرُهُ : فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ " كهيعص " ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا ، وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ " ذِكْرُ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ ، وَلَفْظَةُ " رَحْمَةٍ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ " رَبِّكَ " ، وَقَوْلُـهُ : عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " رَحْمَةِ " الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :

    وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ : " زَكَرِيَّا " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " عَبْدَهُ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ : دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً الْآيَةَ [ 6 \ 63 ] ، وَقَوْلِـهِ تَعَالَى : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ 7 \ 55 ] ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ [ ص: 360 ] سِنِّهِ وَسِنِّ امْرَأَتِهِ ، وَكَوْنِهَا عَاقِرًا ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ أَخْفَاهُ ; لِأَنَّهُ طَلَبُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ ، فَإِنْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ نَالَ مَا كَانَ يُرِيدُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّرَّ فِي إِخْفَائِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِعْلَانِ فِي الدُّعَاءِ ، وَدُعَاءُ زَكَرِيَّا هَذَا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكَانَهُ وَلَا وَقْتَهُ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [ 3 \ 37 - 38 ] ، فَقَوْلُهُ " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ مَرْيَمَ .

    وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا :رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : ضَعُفَ ، وَالْوَهْنُ : الضَّعْفُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ ; لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ .

    الْحَرْفُ الْمُنِيرُ \ سِحْرٌ \ أَضْوَاءُ الْبَيَانِ ج 4 \ مِنْ ص 204 - إِلَى ص 212 وَقَوْلُـهُ : وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " الرَّأْسِ " قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، إِذِ الْمُرَادُ : وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا ، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا : انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي كَشَّافِهِ : شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا ، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا ، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


    ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا
    وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ .


    وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا
    [ ص: 361 ] وَقَوْلُهُ " شَيْبًا " تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ " وَاشْتَعَلَ " لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ ، فَيَكُونُ " شَيْبًا " مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ .

    وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ هُنَا : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [ 19 \ 8 ] ، وَقَوْلِـهِ فِي " آلِ عِمْرَانَ " : وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [ 3 \ 40 ] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ .

    وَقَوْلُـهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا ، أَيْ : لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ .
    قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .

    معنى قوله : خفت الموالي [ 19 \ 5 ] ، أي : خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي : أن يضيعوا الدين بعدي ، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام ، فارزقني ولدا يقوم بعدي بالدين حق القيام ، وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله " يرثني " أنه إرث علم ونبوة ، ودعوة إلى الله والقيام بدينه ، لا إرث مال ، ويدل لذلك أمران :

    أحدهما : قوله : ويرث من آل يعقوب [ 19 \ 5 ] ، ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان ، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين .

    والأمر الثاني : ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال ، وإنما يورث عنهم العلم والدين ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخان أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير وسعد ، وعلي ، والعباس رضي الله عنهم : أنشدكم الله [ ص: 362 ] الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " ، قالوا : نعم ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن ، فقالت عائشة : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تركنا صدقة " ، ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة " وفي لفظ عند أحمد : " لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما " ، ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن أبي هريرة : أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن النبي لا يورث " ، ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق .

    فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين ، فإن قيل : هذا مختص به صلى الله عليه وسلم ; لأن قوله " لا نورث " يعني به نفسه ، كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفا : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، فقال الرهط : قد قال ذلك الحديث ، ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا نورث " نفسه ، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك ، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال ؟ فالجواب من أوجه :

    الأول : أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء ، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة ، وقول عمر لا يصح تخصيص نص من السنة به ; لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول .

    الوجه الثاني : أن قول عمر " يريد صلى الله عليه وسلم نفسه " لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء ، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث ، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره ، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضا .

    الوجه الثالث : ما جاء من الأحاديث صريحا في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء ، وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله تعالى .

    قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول [ ص: 363 ] وغيرهم بلفظ " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " فقد أنكره جماعة من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ " إنا معاشر الأنبياء لا نورث . " الحديث ، وأخرجه عن محمد بن منصور ، عن ابن عيينة عنه ، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة ، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه ، وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور ، وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور ، وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانئ عن فاطمة رضي الله عنها ، عن أبي بكر الصديق بلفظ " إن الأنبياء لا يورثون " انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر ، وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء ، وقد قال ابن حجر : إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " وهذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها ، وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، وعليه فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه " لا نورث " أنه يعني نفسه ، كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة ، والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك ، قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان : .

    تصيير مشكل من الجلي وهو واجب على النبي إذا أريد فهمه وهو بما من الدليل مطلقا يجلو العما وبهذا الذي قررنا تعلم : أن قوله هنا يرثني ويرث من آل يعقوب ، يعني وراثة العلم والدين لا المال ، وكذلك قوله : وورث سليمان داود الآية [ 27 \ 16 ] ، فتلك الوراثة أيضا وراثة علم ودين ، والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين ، كقوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] ، وقولـه : وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب [ 42 \ 14 ] ، وقولـه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب الآية [ 7 \ 169 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العلماء ورثة الأنبياء " ، وهو في المسند والسنن ، قال صاحب ) تمييز الطيب من [ ص: 364 ] الخبيث ، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ( : رواه أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم " وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما انتهى منه بلفظه ، وقال صاحب ) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ( : " العلماء ورثة الأنبياء " رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم . " الحديث ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد ، ولذا قال الحافظ : له طرق يعرف بها أن للحديث أصلا ، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا هـ محل الغرض منه ، والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض ، فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال : الأول : هو ما ذكرنا ، والثاني : أنها وراثة مال ، والثالث : أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله " ويرث من آل يعقوب " وراثة علم ودين .

    وهذا اختيار ابن جرير الطبري ، وقد ذكر من قال : إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال : " رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته " أي : ما يضره إرث ورثته لماله ، ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين ; للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك ، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه ، قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي [ 19 \ 5 ] ، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ; ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك ; لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ; فإن النبي أعظم منزلة ، وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده ، وأن يأنف من وراثة عصباته له ، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم وهذا وجه .

    الثاني : أنه لم يذكر أنه كان ذا مال ; بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالا ، ولا سيما الأنبياء ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #251
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (250)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 365 إلى صـ 370



    الثالث : أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح " نحن معشر الأنبياء لا نورث " وعلى هذا فتعين حمل قوله : فهب لي من لدنك وليا يرثني [ 19 \ 6 ] ، [ ص: 365 ] على ميراث النبوة ، ولهذا قال ويرث من آل يعقوب ; كقوله : وورث سليمان داود [ 27 \ 16 ] ، أي : في النبوة ، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل : أن الولد يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة " ا هـ محل الغرض من كلام ابن كثير ، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له " يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله " الحديث ، ثم قال في أسانيده : وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح .

    واعلم أن لفظ " نحن معاشر الأنبياء " ولفظ " إنا معاشر الأنبياء " مؤداهما واحد ، إلا أن " إن " دخلت على " نحن " فأبدلت لفظة " نحن " التي هي المبتدأ بلفظة " نا " الصالحة للنصب ، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت بـ " إن " كما لا يخفى ، وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : فهب لي من لدنك وليا ، يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء ، بدليل قوله تعالى في القصة نفسها هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية [ 3 \ 38 ] ، وأشار إلى أنه الولد أيضا بقوله : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين [ 21 \ 89 ] ، فقوله " لا تذرني فردا " ، أي : واحدا بلا ولد .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن زكريا : وإني خفت الموالي من ورائي ، أي : من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين ، وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات ، ومن ذلك قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون الآية [ 4 \ 33 ] ، والمولى في لغة العرب : يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به ، وكثيرا ما يطلق في اللغة على ابن العم ; لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية ، ومنه قول طرفة بن العبد :


    واعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
    يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل ، وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :


    مهلا ابن عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكانت امرأتي عاقرا ، ظاهر في أنها كانت عاقرا في زمن شبابها ، والعاقر : هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى ; [ ص: 366 ] فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية ، وقوله تعالى عن زكريا أيضا : وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر [ 3 \ 40 ] ، ومن إطلاقه على الذكر قول عامر بن الطفيل :


    لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
    وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم ، وأصلحها ، فجعلها ولودا بعد أن كانت عاقرا في قوله عز وجل : فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه [ 21 \ 90 ] ، فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيما ، وقول من قال : إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها ، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولودا بعد العقم هو ظاهر السياق ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير ، ومجاهد وغيرهم ، والقول الثاني يروى عن عطاء .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا واجعله رب رضيا [ 19 \ 6 ] ، أي : مرضيا عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه ، وهو فعيل بمعنى مفعول .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : فهب لي من لدنك ، أي : من عندك ، وقولـه جل وعلا في هذه الآية الكريمة يرثني ويرث من آل يعقوب [ 19 \ 6 ] ، قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين ، أعني يرثني ويرث من آل يعقوب وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو " هب لي " والمقرر عند علماء العربية ، أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب ، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها ، إن تهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ، وقرأ الباقون يرثني ويرث من آل يعقوب ، يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله " وليا " أي : وليا وارثا لي ، ووارثا من آل يعقوب ، كما قال في الخلاصة :

    ونعتوا بجملة منكرا فأعطيت ما أعطيته خبرا وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى ، وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله : من ورائي وكانت امرأتي ، والباقون بإسكانها ، وقرأ " زكريا " بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، والباقون قرءوا " زكرياء " بهمزة بعد الألف ، وبه تعلم أن المد في قوله : " وزكرياء إذ نادى " ، منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص ، ومتصل [ ص: 367 ] على قراءة الباقين ، والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة " إذا " مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ، ومحققة في قراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم ، وقراءة خفت الموالي بفتح الخاء والفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي : قلوا شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي : هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل ، وهي أخت حنة بنت فاقوذا ، قاله الطبري ، وحنة : هي أم مريم ، وقال القتبي : امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران ، فعلى هذا القول يكون يحيى بن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة ، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه ، وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام : " فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى " شاهدا للقول الأول ا هـ ، منه ، والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول ، خلافا لما ذكره رحمه الله تعالى ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا

    ، في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، وتقديره : فأجاب الله دعاءه فنودي : يازكريا الآية [ 19 \ 7 ] ، وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا ، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة ، وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب ، وذلك قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، وقولـه تعالى : فنادته الملائكة ، قال بعض العلماء : أطلق الملائكة وأراد جبريل ، ومثل به بعض علماء الأصول العام المراد به الخصوص قائلا : إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل ، وإسناد الفعل للمجموع مرادا بعضه قد بينا فيما مضى مرارا .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : اسمه يحيى ، يدل على أن الله هو الذي سماه ، ولم يكل تسميته إلى أبيه ، وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : لم نجعل له من قبل سميا ، اعلم أولا أن السمي يطلق في اللغة العربية إطلاقين : الأول قولهم : فلان سمي فلان أي : مسمى باسمه ، فمن كان اسمهما واحدا فكلاهما سمي الآخر ، أي : مسمى باسمه .

    والثاني : إطلاق السمي يعني المسامي ، أي : المماثل في السمو والرفعة [ ص: 368 ] والشرف ، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة ، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل ، كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس ، والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب ، وكذلك السمي بمعنى المسامي ، أي : المماثل في السمو ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله هنا : لم نجعل له من قبل سميا [ 19 \ 7 ] ، أي : لم نجعل من قبله أحدا يتسمى باسمه ، فهو أول من كان اسمه يحيى ، وقول من قال : إن معناه لم نجعل له سميا ، أي : نظيرا في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح ، فالقول الأول هو الصواب ، وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم ، ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضا ، وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله : لم نجعل له من قبل سميا ، أي : لم نسم أحدا باسمه قبله فاعلم أن قوله : رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، معناه : أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق ، وقال بعض العلماء : وهو مروي عن ابن عباس هل تعلم له سميا ، هل تعلم أحدا يسمى باسمه الرحمن جل وعلا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا لما بشر بيحيى قال : رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضا في " آل عمران " في قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر [ 3 \ 40 ] ، وقولـه في هذه الآية الكريمة وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " عتيا " بكسر العين اتباعا للكسرة التي بعدها ، ومجانسة للياء وقرأه الباقون " عتيا " بضمها على الأصل . ومعنى قوله : وقد بلغت من الكبر عتيا ، أنه بلغ غاية الكبر في السن ، حتى نحل عظمه ويبس ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية : يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عود عات وعاس ، وقد عتا يعتو عتوا وعتيا ، وعسا يعسو عسيا وعسوا ، وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس .
    [ ص: 369 ] تنبيه

    فإن قيل : ما وجه استفهام زكريا في قوله : أنى يكون لي غلام ، مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء .

    فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " وواحد منها فيه بعد وإن روي عن عكرمة والسدي وغيرهما .

    الأول : أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام ; لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة ، أو يأمره بأن يتزوج شابة ، أو يردهما شابين ؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها ، ولا إشكال في هذا ، وهو أظهرها .

    الثاني : أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى .

    الثالث : وهو الذي ذكرنا أن فيه بعدا هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي : من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان : ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان ، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : أنى يكون لي غلام [ 19 \ 8 ] ، ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : رب اجعل لي آية الآية [ 19 \ 10 ] ، وإنما قلنا : إن هذا القول فيه بعد ; لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : " عتيا " أصله عتوا ، فأبدلت الواو ياء ، ومن إطلاق العتي الكبر المتناهي قول الشاعر :


    إنما يعذر الوليد ولا يع ذر من كان في الزمان عتيا
    وقراءة " عسيا " بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها ، وقال القرطبي : وبها قرأ ابن عباس ، وهي كذلك في مصحف أبي .
    قوله تعالى : قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .

    هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في " آل عمران " في قوله : قال كذلك الله يفعل ما يشاء [ 3 \ 40 ] ، وقولـه في هذه الآية الكريمة " كذلك " للعلماء في إعرابه أوجه :

    [ ص: 370 ] الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره ، الأمر كذلك ، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور ، وقيل ، الأمر كذلك أنت كبير في السن ، وامرأتك عاقر ، وعلى هذا فقوله : قال ربك [ 19 \ 9 ] ، ابتداء كلام :

    الوجه الثاني : أن " كذلك " في محل نصب بـ " قال " وعليه فالإشارة بقوله " ذلك " إلى مبهم يفسره قوله : هو علي هين ، ونظيره على هذا القول قوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا ، وقوله : هو علي هين ، أي : يسير سهل .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي : ومن خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى ، وهذا الذي قاله هنا لزكريا : من أنه خلقه ولم يك شيئا أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر ، كقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا [ 76 \ 1 ] .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم تك شيئا ، دليل على أن المعدوم ليس بشيء ، ونظيره قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وهذا هو الصواب ، خلافا للمعتزلة القائلين : إن المعدوم الممكن وجوده شيء ، مستدلين لذلك بقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، قالوا : قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون ، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده ، ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : لأن المعدوم ليس بشيء ، أو ليس شيئا يعتد به ، كقولهم : عجبت من لا شيء ، وقول الشاعر :


    وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
    لأن مراده بقوله : غير شيء ، أي : إذا رأى شيئا تافها لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلا ; لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه ، والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن : من أن المعدوم ليس بشيء ؟ والجواب عن استدلالهم بالآية : أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده ، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل ، كقوله : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] ، وقولـه : ونفخ في الصور [ 18 \ 99 ] ، وقولـه : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين الآية [ 39 \ 69 ] ، [ ص: 371 ] وقولـه : وسيق الذين كفروا الآية [ 39 \ 73 ] ، وقولـه : وسيق الذين اتقوا ربهم ، وأمثال ذلك ، كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى أطلقت مرادا بها المستقبل ; لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل ، وكذلك تسميته شيئا قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ، قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي " خلقتك " بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم ، وقرأه حمزة والكسائي " وقد خلقناك " بنون بعدها ألف ، وصيغة الجمع فيها للتعظيم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #252
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (251)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 371 إلى صـ 376



    قوله تعالى : قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

    المراد بالآية هنا العلامة ، أي : اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد ، قال بعض أهل العلم : طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به ، ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم : قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ 2 \ 260 ] ، وقيل : أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته ; لأن الحمل في أول زمنه يخفى .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي : علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس ، أي : أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سويا ، أي : سوي الخلق ، سليم الجوارح ، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة ، كما قدمنا في " آل عمران " ، أما ذكر الله فليس ممنوعا منه بدليل قوله في " آل عمران " : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] ، وقول من قال : إن معنى قوله تعالى ، ثلاث ليال سويا ، أي : ثلاث ليال متتابعات غير صواب ، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به ، ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا " ثلاث ليال " ولم يذكر معها أيامها ، ولكنه ذكر الأيام في " آل عمران " ، في قوله : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام [ 3 \ 41 ] ، فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن .

    وقولـه تعالى في هذه الآية : ألا تكلم الناس ، يعني إلا بالإشارة أو الكتابة ، كما دل عليه قوله هنا : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ 19 \ 11 ] ، وقولـه في " آل [ ص: 372 ] عمران " : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام [ 3 \ 41 ] ; لأن الرمز : الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب ، والإيحاء في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية ، قال بعض العلماء : هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله " إلا رمزا " كما تقدم آنفا ، وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة : قتادة ، والكلبي ، وابن منبه ، والعتبي ، كما نقله عنهم القرطبي وغيره ، وعن مجاهد ، والسدي " فأوحى إليهم " ، أي : كتب لهم في الأرض ، وعن عكرمة : كتب لهم في كتاب ، والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء ، ولذلك أطلق على الإلهام ، كما في قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل الآية [ 16 \ 68 ] ، وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية [ 19 \ 11 ] ، ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة ، وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :


    فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
    فقوله " الوحي " بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء ، جمع وحي بمعنى الكتابة .

    وقول عنترة :


    كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
    وقول ذي الرمة :


    سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في ون الصحائف
    وقول جرير :


    كأن أخا الكتاب يخط وحيا بكاف في منازلها ولام
    قوله تعالى : فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم ، أو كتب لهم : أن سبحوا الله أول النهار وآخره ، فالبكرة أول النهار ، والعشي آخره ، وقد بين تعالى في " آل عمران " أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشيا أن الله أمر زكرياء به أيضا ، وذلك في قوله : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] ، والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى : [ ص: 373 ] فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : والمحراب : أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا هـ ، وقال الجوهري في صحاحه : قال الفراء : المحاريب : صدور المجالس ، ومنه سمي محراب المسجد ، والمحراب : الغرفة ، قال وضاح اليمن :


    ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
    ومن هذا المعنى قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب الآية [ 3 \ 37 ] . ؤتنبيه

    أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة ; لأن المحراب موضع صلاة زكريا ، كما دل عليه قوله : وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، والمحراب أرفع من غيره ، فدل ذلك على ما ذكر ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم ، وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره ، متمسكا بقصة المنبر ، ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام .

    قلت : وهذا فيه نظر ، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا ، أو ينهى عن ذلك ؟ قال بلى ، ذكرت ذلك حين مددتني ، وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم " أو نحو ذلك ؟ فقال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .

    قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر ، فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه : أن فيه عملا زائدا في الصلاة وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام ، وهذا أولى مما [ ص: 374 ] اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر ; لأن كثيرا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ، والله أعلم ، انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى .

    قال مقيده عفا الله عنه : سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة ، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة ، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل .

    أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال : ثنا يعلى ، ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه إلى آخر الحديث ، ثم قال أبو داود رحمه الله : حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري ، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، إلى آخر الحديث ، ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف ; لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يدرى من هو كما ترى ، وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد ، وروي مرفوعا صريحا ، قال ابن حجر في ) التلخيص ( في الكلام على الأثر والحديث المذكورين : ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال بلى ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ، ورواه أبو داود من وجه آخر ، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر ، والذي جبذه حذيفة ، وهو مرفوع لكن فيه مجهول ، والأول أقوى ، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه ، ا هـ من التلخيص ، وقال النووي في شرح المهذب ، في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور : رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي ، ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم ، وإسناده صحيح ، ويقال جذب وجبذ ، لغتان مشهورتان ا هـ منه ، وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي ، وقال : إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم ، فهي حديث سهل بن سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع ، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه ، ثم عاد حتى فرغ ، فلما انصرف قال : " أيها الناس ، إنما فعلت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي " متفق عليه ، أما أقوال الأئمة في هذه [ ص: 375 ] المسألة : فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم ، وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه ، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر ، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم ، وكارتفاع المأموم ليبلغ غيره من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور .

    قال النووي في شرح المهذب : هذا مذهبنا ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، وعنه رواية ، أنه يكره الارتفاع مطلقا ، وبه قال مالك والأوزاعي ، وحكى الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي : أنه قال تبطل به الصلاة .

    وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه ، فعلو المأموم جائز عنده ، وقد رجع إلى كراهته ، وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه ، وعلو الإمام لا يعجبه ، وفي المدونة قال مالك : لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد ، ثم كرهه ، وأخذ ابن القاسم بقوله الأول ، انتهى بواسطة نقل المواق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفا على ما يجوز ، وعلو مأموم ولو بسطح ، وفي المدونة أيضا قال مالك : إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني ، انتهى بواسطة نقل المواق أيضا ، وقوله " يعجبني " ظاهر في الكراهة ، وحمله بعضهم على المنع ، وفي وجوب إعادة الصلاة قولان .

    ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التكبر على الناس ، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماما كان أو مأموما ، وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله : وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه ، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكشبر ا هـ ، وقولـه " إلا بكشبر " يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر ، ونحو الشبر عظم الذراع عندهم ، ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر ، فقوله " إلا بكشبر " مستثنى من قوله " لا عكسه " لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقا : قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة : كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه ، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه ، قال ابن القاسم : فإن فعل أعادوا أبدا ، لأنهم يعبثون إلا أن يكون ذلك دكانا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة ، قال أبو محمد : مثل الشبر وعظم الذراع إلى أن قال : وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدا [ ص: 376 ] إلى التكبر عن مساواة الإمام ، قال ابن بشير : صلاته أيضا باطلة ، ا هـ محل الغرض منه ، وقول ابن القاسم " لأنهم يعبثون " يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام ، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطبا لقومه عاد : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 128 - 129 ] ، وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس ، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم ، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله : وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة .

    وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه ، وقال الطحاوي : لا يكره علو المأموم على الإمام ، ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير ، ولا كراهة عندهم في اليسير : وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة ، ولا بأس بما دونها ، ذكره الطحاوي ، وهو مروي عن أبي يوسف : وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز ، وقيل : مقدر بقدر ذراع اعتبارا بالسترة ، قال صاحب تبيين الحقائق ، وعليه الاعتماد ، وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع ، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم انتهى بمعناه ) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ( .

    وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم ، فيكره على المشهور من مذهب أحمد ، وبين علو المأموم الإمام فيجوز ، قال ابن قدامة في المغني : المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين ، سواء أراد تعليمهم الصلاة ، أو لم يرد ، وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره ا هـ محل الغرض منه ، وقال في المغني أيضا : فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد : لا تصح صلاتهم ، وهو قول الأوزاعي ; لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وقال القاضي : لا تبطل ، وهو قول أصحاب الرأي ا هـ محل الغرض منه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #253
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (252)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 377 إلى صـ 382


    فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس ، وقام يصلي على دكان ، الحديث المتقدم ، وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور . وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 377 ] على المنبر ، وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر ، بأنه ارتفاع يسير ، وذلك لا بأس به ، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي ، وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن أبي هريرة : أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد .

    قال ابن حجر " في التلخيص " : رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوءمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد ، ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح ، ورواه سعد بن منصور ، وذكره البخاري تعليقا . انتهى محل الغرض من كلامه ، فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم .

    قال مقيده عفا الله عنه : والذي يظهر والله تعالى أعلم وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة ، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم ، ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره ، ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه ، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر ، أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة ; لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياسا على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي ، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس ، وهو مذهب مالك وجماعة ، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي ، ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر ، والعلم عند الله تعالى .

    و " أن " في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا [ 19 \ 11 ] ، هي المفسرة ، والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها ، فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشيا ، وهذا هو الصواب ، ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن " أن " المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية ، وعليه فالمعنى : أوحى إليهم أي : أشار إليهم بأن سبحوا ، أي : بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة ، وكونها مفسرة هو الصواب ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

    [ ص: 378 ] اعلم أولا : أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيئا مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر ، فإنا نبينها ، وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام ، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى ، وقد ذكر شيئا من صفاته أيضا في غير هذا الموضع ، وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا ، والمذكور في غير هذا الموضع .

    اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له : يايحيى خذ الكتاب بقوة [ 19 \ 12 ] ، ووصفه بقوله : وآتيناه الحكم إلى قوله : ويوم يبعث حيا ، فقوله : يايحيى خذ الكتاب مقول قول محذوف ، أي : وقلنا له يايحيى خذ الكتاب بقوة ، والكتاب : التوراة ، أي : خذ التوراة بقوة ، أي : بجد واجتهاد ، وذلك بتفهم المعنى أولا حتى يفهمه على الوجه الصحيح ، ثم يعمل به من جميع الجهات ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويتأدب بآدابه ، ويتعظ بمواعظه ، إلى غير ذلك من جهات العمل به ، وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا : التوراة ، وحكى غير واحد عليه الإجماع ، وقيل : هو كتاب أنزل على يحيى ، وقيل : هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة ، وقيل : هو صحف إبراهيم ، والأظهر قول الجمهور : إنه التوراة كما قدمنا .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وآتيناه الحكم ، أي : أعطيناه الحكم ، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة ، مرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب ، أي : إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبيا ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وآتيناه الحكم صبيا ، أي : الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، قال عبد الله بن المبارك قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقنا فلهذا أنزل الله وآتيناه الحكم صبيا ، وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وآتيناه الحكم صبيا ، يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال ، وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية : وآتيناه الحكم صبيا ، قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب ، فقال : [ ص: 379 ] ما للعب خلقنا ، فأنزل الله وآتيناه الحكم صبيا ، وقال الزمخشري في الكشاف : وآتيناه الحكم ، أي : الحكمة ، ومنه قول نابغة ذبيان :


    واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
    وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية : والحكم النبوة ، أو حكم الكتاب ، أو الحكمة ، أو العلم بالأحكام ، أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة ، أو الفراسة الصادقة ، أقوال .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به ، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهما صحيحا ، والعمل به حقا ، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة ، وأصل معنى " الحكم " المنع ، والعلم النافع ، والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان .

    وقولـه تعالى : صبيا ، أي : لم يبلغ ، وهو الظاهر ، وقيل : صبيا ، أي : شابا لم يبلغ سن الكهولة ذكره أبو حيان وغيره ، والظاهر الأول ، قيل ابن ثلاث سنين ، وقيل ابن سبع ، وقيل ابن سنتين ، والله أعلم .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة وحنانا ، معطوف على الحكم ، أي : وآتيناه حنانا من لدنا ، والحنان : هو ما جبل عليه من الرحمة ، والعطف والشفقة ، وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب ، ومنه قولهم : حنانك وحنانيك يا رب ، بمعنى رحمتك ، ومن هذا المعنى قول امرئ القيس :


    أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان
    ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
    يعني : رحمتك يا رحمن ، وقول طرفة بن العبد :


    أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
    وقول منذر بن درهم الكلبي :


    وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
    فقالت حنان ما أتى بك هاهنا أذو نسب أم أنت بالحي
    عارف فقوله " حنان " أي : أمري حنان ، أي رحمة لك ، وعطف وشفقة عليك [ ص: 380 ] وقول الحطيئة أو غيره :

    تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وقولـه تعالى : من لدنا ، أي : من عندنا ، وأصح التفسيرات في قوله " وزكاة " أنه معطوف على ما قبله ، أي : أو أعطيناه زكاة ، أي : طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة ، والتقرب إلى الله بما يرضيه : وقد قدمنا في سورة " الكهف " الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " وزكاة " الزكاة : التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير ، أي : جعلناه مباركا للناس يهديهم ، وقيل المعنى : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنسانا ، وقيل " زكاة " صدقة على أبويه ، قاله ابن قتيبة انتهى كلام القرطبي ، وهو خلاف التحقيق في معنى الآية ، والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا ، من أن المعنى : وأعطيناه زكاة ، أي : طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى ، وقول من قال من العلماء : بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وكان تقيا ، أي : ممتثلا لأوامر ربه مجتنبا كل ما نهى عنه ، ولذا لم يعمل خطيئة قط ، ولم يلم بها ، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره ، وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة ، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعا ، إما بانقطاع ، وإما بعنعنة مدلس : وإما بضعف واو ، كما أشار له ابن كثير وغيره ، وقد قدمنا معنى " التقوى " مرارا وأصل مادتها في اللغة العربية .

    وقولـه تعالى : وبرا بوالديه [ 19 \ 14 ] ، البر بالفتح هو فاعل البر بالكسر كثيرا أي : وجعلناه كثير البر بوالديه ، أي : محسنا إليهما ، لطيفا بهما ، لين الجانب لهما ، وقولـه " وبرا " معطوف على قوله " تقيا " ، وقوله : ولم يكن جبارا عصيا ، أي : لم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه ، ولكنه كان مطيعا لله ، متواضعا لوالديه ، قاله ابن جرير ، والجبار : هو كثير الجبر ، أي : القهر للناس ، والظلم لهم ، وكل متكبر على الناس يظلمهم : فهو جبار ، وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى : وإذا بطشتم بطشتم جبارين [ 26 \ 130 ] ، وعلى من يتكرر منه القتل في [ ص: 381 ] قوله : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض الآية [ 28 \ 19 ] ، والظاهر أن قوله : " عصيا " فعول قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة : التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله :


    إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
    فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
    فأصل " عصيا " على هذا " عصويا " كصبور ، أي : كثير العصيان ، ويحتمل أن يكون أصله فعيلا وهي من صيغ المبالغة أيضا ، قاله أبو حيان في البحر .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، قال ابن جرير : وسلام عليه ، أي : أمان له ، وقال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف من الأمان ; لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة ، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول .

    انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية ، ومرجع القولين إلى شيء واحد ; لأن معنى سلام ، التحية ، الأمان ، والسلامة مما يكره ، وقول من قال : هو الأمان ، يعني أن ذلك الأمان من الله ، والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره ، والظاهر المتبادر أن قوله : وسلام عليه يوم ولد ، تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة ، وقولـه : وسلام عليه مبتدأ ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء ، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته ، ووقت موته ، ووقت بعثه ، في قوله : يوم ولد ويوم يموت الآية ; لأنها أوحش من غيرها ، قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها ، رواه عنه ابن جرير وغيره ، وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال الآخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال عيسى : أنت خير مني ، سلمت على نفسي وسلم الله عليك ، وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى ، ثم قال : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إدلاله [ ص: 382 ] في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ، قال ابن عطية : ولكل وجه ، انتهى كلام القرطبي ، والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله : وسلام عليه يوم ولد الآية [ 19 \ 15 ] ، أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله : والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [ 19 \ 33 ] ، كما هو ظاهر . تنبيه

    الفتحة في قوله : يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصبا على الظرفية ، ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك ، والأجود أن تكون فتحة يوم ولد فتحة بناء ، وفتحة ويوم يموت ويوم يبعث فتحة نصب ; لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع والجملة الاسمية أجود من بنائه ، كما عقده في الخلاصة بقوله :


    وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا وقبل فعل معرب أو مبتدا
    أعرب ومن بنى فلن يفندا
    والأحوال في مثل هذا أربعة : الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليا وهو الماضي ; كقول نابغة ذبيان :


    على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
    فبناء الظرف في مثل ذلك أجود ، وإعرابه جائز .

    الثاني : أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عارضا ، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة ، كقول الآخر :


    لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
    وحكم هذا كما قبله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #254
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (253)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 383 إلى صـ 388


    قوله تعالى : ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس ، أي علامة دالة على كمال قدرته ، وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف [ ص: 389 ] يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى ، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك في قوله : وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] ، أي : خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج ، أشار له أيضا في " الأنبياء " بقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] ، وفي " الفلاح " بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الآية [ 23

    ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولنجعله آية للناس [ 19 \ 21 ] ، فيه حذف دل المقام عليه ، قال الزمخشري في الكشاف : ولنجعله آية للناس تعليل معلله محذوف ، أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ، ونحوه : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [ 45 \ 22 ] ، وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه [ 12 \ 21 ] اهـ .

    وقوله في هذه الآية : ورحمة منا ، أي : لمن آمن به ، ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

    وقوله تعالى : وكان أمرا مقضيا [ 19 \ 21 ] ، أي : وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا ، أي : مقدرا في الأزل ، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ، فهو واقع لا محالة .
    قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :


    وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
    وقول حسان رضي الله عنه :


    إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم إلى سفح الجبل والمخاض
    : الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

    وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

    وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

    وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

    وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :


    لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
    أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي
    وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

    ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

    وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :


    أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
    فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :


    كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت
    فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

    وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .
    [ ص: 392 ] تنبيه

    قراءة " مت " بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها ; لأن لغة " مات يموت " لا يصح منها " مت " بكسر الميم ، ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف ، لا من مات يموت ، كقال يقول . فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
    من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا ابدل بعد فتح متصل
    إن حرك الثاني . . . إلخ ،ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك .

    الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا ، ومضارع هذه " يمات " بالفتح ; لأن " فعل " بكسر العين ينقاس في مضارعها بـ " فعل " بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية :


    وافتح موضع الكسر في المبني من فعلا
    ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها ، والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف - أعني معتل العين - إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها ، فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها ، مثال الأول " مت " من مات يمات ; لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر النون ، " وخفت " بكسر الخاء ; لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة ، ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء ، أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول ، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فتضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت ، وقال يقول ، فتقول مت وقلت ، بالضم . وتكسر الفاء إن [ ص: 393 ] كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما ، وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :


    وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت
    وكان بـ " نا " الإضمار متصلا أو نونه وإذا فتحا يكون منه
    اعتض مجانس تلك العين منتقلا
    واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز :


    بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تمات
    وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة ، وقد أشار إلى اللغات الثلاث - الفصيحتين والردية - بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :


    من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت
    وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ; لعدم دليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ، اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي فناداها من تحتها [ 19 \ 24 ] ، بكسر الميم على أن " من " حرف جر ، وخفض تاء " تحتها " لأن الظرف مجرور بـ " من " وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " فناداها من تحتها " بفتح ميم " من " على أنه اسم موصول هو فاعل " نادى " أي ناداها الذي تحتها ، وفتح " تحتها " فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف ، وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو " من " .

    وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .

    [ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد .

    فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره ، واستظهره أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .

    ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #255
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (254)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 389 إلى صـ 394


    قوله تعالى : ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس ، أي علامة دالة على كمال قدرته ، وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف [ ص: 389 ] يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى ، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك في قوله : وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] ، أي : خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج ، أشار له أيضا في " الأنبياء " بقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] ، وفي " الفلاح " بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الآية [ 23

    ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولنجعله آية للناس [ 19 \ 21 ] ، فيه حذف دل المقام عليه ، قال الزمخشري في الكشاف : ولنجعله آية للناس تعليل معلله محذوف ، أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ، ونحوه : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [ 45 \ 22 ] ، وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه [ 12 \ 21 ] اهـ .

    وقوله في هذه الآية : ورحمة منا ، أي : لمن آمن به ، ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

    وقوله تعالى : وكان أمرا مقضيا [ 19 \ 21 ] ، أي : وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا ، أي : مقدرا في الأزل ، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ، فهو واقع لا محالة .
    قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :


    وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
    وقول حسان رضي الله عنه :


    إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم إلى سفح الجبل والمخاض
    : الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

    وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

    وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

    وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

    وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :


    لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
    أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي
    وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

    ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

    وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :


    أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
    فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :


    كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت
    فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

    وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .
    [ ص: 392 ] تنبيه

    قراءة " مت " بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها ; لأن لغة " مات يموت " لا يصح منها " مت " بكسر الميم ، ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف ، لا من مات يموت ، كقال يقول . فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
    من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا ابدل بعد فتح متصل
    إن حرك الثاني . . . إلخ ،ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك .

    الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا ، ومضارع هذه " يمات " بالفتح ; لأن " فعل " بكسر العين ينقاس في مضارعها بـ " فعل " بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية :


    وافتح موضع الكسر في المبني من فعلا
    ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها ، والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف - أعني معتل العين - إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها ، فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها ، مثال الأول " مت " من مات يمات ; لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر النون ، " وخفت " بكسر الخاء ; لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة ، ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء ، أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول ، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فتضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت ، وقال يقول ، فتقول مت وقلت ، بالضم . وتكسر الفاء إن [ ص: 393 ] كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما ، وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :


    وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت
    وكان بـ " نا " الإضمار متصلا أو نونه وإذا فتحا يكون منه
    اعتض مجانس تلك العين منتقلا
    واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز :


    بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تمات
    وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة ، وقد أشار إلى اللغات الثلاث - الفصيحتين والردية - بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :


    من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت
    وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ; لعدم دليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ، اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي فناداها من تحتها [ 19 \ 24 ] ، بكسر الميم على أن " من " حرف جر ، وخفض تاء " تحتها " لأن الظرف مجرور بـ " من " وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " فناداها من تحتها " بفتح ميم " من " على أنه اسم موصول هو فاعل " نادى " أي ناداها الذي تحتها ، وفتح " تحتها " فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف ، وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو " من " .

    وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .

    [ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد .

    فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره ، واستظهره أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .

    ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #256
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (255)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 395 إلى صـ 400



    والقرينة الثانية أنها لما جاءت به قومها تحمله ، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه ، كما قال تعالى عنها : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته ، وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى ، كما نقله عنه غير واحد ، و " أن " في قوله " ألا تحزني " هي المفسرة ، فهي بمعنى أي ، وضابط " أن " المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا ، فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة : أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما [ ص: 395 ] قبلها ، فالنداء المذكور قبلها هو : لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .

    واختلف العلماء في المراد بالسري هنا ، فقال بعض العلماء : هو الجدول وهو النهر الصغير ; لأن الله أجرى لها تحتها نهرا ، وعليه فقوله تعالى : فكلي أي : من الرطب المذكور في قوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، واشربي [ 19 \ 26 ] ، أي : من النهر المذكور في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا ، وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد في معلقته :


    فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها
    وقول لبيد أيضا يصف نخلا نابتا على ماء النهر :


    سحق يمتعها الصفا وسريه عم نواعم بينهن كروم
    وقول الآخر : .


    سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السري تمده الأنهار
    فقوله " سريا " ، وقولهما " السري " بمعنى الجدول ، وكذلك قول الراجز :


    سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
    وقال بعض أهل العلم : السري هو عيسى ، والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة ، يقال في فعله سرو " بالضم " وسرا " بالفتح " يسرو سروا ، فيهما ، وسري " بالكسر " يسري سرى وسراء وسروا : إذا شرف ، ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس ، وسرواء وسراة بالفتح ، وعن سيبويه أن السراة بالفتح اسم جمع لا جمع ، ومنه قول الأفوه الأودي :


    لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
    ويجمع السراة على سروات ، ومنه قول قيس بن الحطيم :


    وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
    ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر :


    تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرا أسراهما
    وقوله " أسراهما " ، أي : أشرفهما ، قاله في اللسان .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر [ ص: 396 ] الصغير ، والدليل على ذلك أمران :

    أحدهما : القرينة من القرآن ، فقوله تعالى : فكلي واشربي ، قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا [ 19 \ 24 ] ، وقوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، وكذلك قوله تعالى : وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23 \ 25 ] ; لأن المعين الماء الجاري ، والظاهر أنه الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية ، والله تعالى أعلم .

    الأمر الثاني : حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد جاء بذلك حديث مرفوع ، قال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي ، حدثنا أيوب بن نهيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس ، سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن السري الذي قال الله لمريم : قد جعل ربك تحتك سريا ، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه " وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ، وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي ، قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف ، وقال أبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث . انتهى كلام ابن كثير ، وقال ابن حجر رحمه الله في " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " في الحديث المذكور : أخرجه الطبراني في الصغير ، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : قد جعل ربك تحتك سريا ، قال : " السري : النهر " ، قال الطبراني : لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان ، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف ، وأخرجه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفا ، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ورواه ابن مردويه من طريق آدم ، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفا ، وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إن السري الذي قاله لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه " ، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر ، وراويه عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة ، انتهى .

    فهذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر : ابن جرير في تفسيره ، وبه قال البراء بن عازب ، وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، [ ص: 397 ] والضحاك ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والسدي ، ووهب بن منبه وغيرهم ، وممن قال إنه عيسى : الحسن ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن عباد بن جعفر ، وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره .
    قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا ، لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه ، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه ، ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو : " الرطب الجني " المذكور ، والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه " بالسري " كما تقدم ، هذا هو الظاهر .

    وقال بعض العلماء : إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جذعا يابسا ; فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني ، وقال بعض العلماء : كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة ، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطبا جنيا ، وقال بعض العلماء : كانت النخلة مثمرة ، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجودا ، والذي يفهم من سياق القرآن : أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة ، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة ، ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك ، سواء قلنا إن الجذع كان يابسا أو نخلة غير مثمرة ، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطبا جنيا ، ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى : فكلي واشربي وقري عينا ، يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة ; لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به ، فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر ، وإنبات الرطب ، وكلام المولود - تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الريبة ، وبذلك يكون قرة عين لها ; لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسيا منسيا ، لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر ، وخرق الله لها العادة بتفجير الماء ، وإنبات الرطب ، وكلام المولود لا غرابة فيه ، وقد نص الله جل وعلا في " آل عمران " على خرقه لها العادة في قوله : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [ 3 \ 37 ] ، قال العلماء : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة " آل عمران " .
    [ ص: 398 ] مسألة

    أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وهزي إليك بجذع النخلة الآية ، أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا ، وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ; لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ، فهو متوكل على الله ، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر ، ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف .

    ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى : قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الآية [ 21 \ 69 ] ، فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة ، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على إبراهيم ، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا .

    ومن أوضح الأدلة في ذلك : أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له ، كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته ، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته ؛ إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ، وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، ولا يقع تأثير ألبتة إلا بمشيئته جل وعلا .

    ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب : وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [ 12 \ 67 ] ، أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب ، وتسبب في ذلك بالأمر به ; لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد ، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام ، فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين ; كما قال غير واحد من علماء السلف ، ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه : [ ص: 399 ] وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] ، فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله : لا تدخلوا من باب واحد ، وبين التوكل على الله في قوله : عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ، وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته ، والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع ، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع ، وقد قال بعضهم في ذلك :


    ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
    جنته ولكن كل شيء له سبب
    وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب ، قالوا : لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى ، قاله الربيع بن خثيم وغيره ، والباء في قوله : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] ، مزيدة للتوكيد ; لأن فعل الهز يتعدى بنفسه ، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله هنا وهزي إليك بجذع النخلة ; لأن المتبادر من اللغة أن الأصل : وهزي إليك جذع النخلة ، وقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] ، وقوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الآية [ 22 \ 25 ] ، وقوله : فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون الآية [ 68 \ 5 - 6 ] ، وقوله : " تنبت بالدهن " ، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع " أنبت " الرباعي ; لأن الرباعي الذي هو " أنبت ينبت " بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف ، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :


    إذ يسفون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
    لأن الأصل : يسفون الدقيق ، فزيدت الباء للتوكيد .

    وقول الراعي :


    هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
    فالأصل : لا يقرأن السور ، فزيدت الباء لما ذكر .

    وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره :

    [ ص: 400 ]
    بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
    فالأصل : وأسفله المرخ ; أي : وينبت أسفله المرخ ، فزيدت الباء لما ذكر .

    وقول الأعشى :


    ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجردا
    فالأصل : ضمنت رزق عيالنا .

    وقول الراجز :


    نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
    أي : نرجو الفرج .

    وقول امرئ القيس :


    فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
    فالأصل : هصرت غصنا ; لأن هصر تتعدى بنفسها .

    وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب .

    وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " تساقط " تسع قراءات ، ثلاث منها سبعية ، وست شاذة ، أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة " تساقط " بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف ، وأصله : تتساقط ; فحذفت إحدى التاءين ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل ، وقرأه حفص وحده عن عاصم " تساقط " بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ، مضارع ساقطت تساقط ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " مفعول به للفعل الذي هو : تساقط هي ، أي النخلة ، رطبا ، وقرأه بقية السبعة " تساقط " بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أصله : تتساقط ; فأدغمت إحدى التاءين في السين ، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة .

    وغير هذا من القراءات شاذ .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : رطبا جنيا الجني : هو ما طاب وصلح لأن يجنى فيؤكل ، وعن أبي عمرو بن العلاء : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس ، ولم يبعد عن يدي متناوله .
    قوله تعالى : فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، قائل هذا الكلام لمريم : هو الذي ناداها من تحتها ألا تحزني ، وقد قدمنا الخلاف فيه ; هل هو عيسى أو جبريل ، وما يظهر رجحانه عندنا من ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #257
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (256)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 401 إلى صـ 406



    [ ص: 401 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : فقولي إني نذرت للرحمن صوما [ 19 \ 21 ] ، قيل أمرت أن تقول ذلك باللفظ ، وقيل أمرت أن تقوله بالإشارة ، وكونها أمرت أن تقوله باللفظ هو مذهب الجمهور ; كما قاله القرطبي وأبو حيان ، وهو ظاهر الآية الكريمة ; لأن ظاهر القول في قوله تعالى : فقولي إني نذرت الآية ، أنه قول باللسان ، واستدل من قال : إنها أمرت أن تقول ذلك بالإشارة بأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا ، فإذا قالت لإنسي بلسانها : إني نذرت للرحمن صوما ، فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها ، واختار هذا القول الأخير لدلالة الآية عليه ابن كثير رحمه الله ، قال في تفسير هذه الآية : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك لا أن المراد القول اللفظي لئلا ينافي فلن أكلم اليوم إنسيا ، وأجاب المخالفون عن هذا بأن المعنى فلن أكلم اليوم إنسيا بعد قولي : إني نذرت للرحمن صوما فقد رأيت كلام العلماء في الآية ، وأن القول الأول يدل عليه ظاهر السياق ، وأن الثاني يدل عليه قوله : فلن أكلم اليوم إنسيا لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقا ، قال أبو حيان في البحر : وقوله " إنسيا " لأنها كانت تكلم الملائكة ، ومعنى كلامه أن قوله " إنسيا " له مفهوم مخالفة ، أي : بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه ، والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وإنما المراد شمول نفي الكلام لكل إنسان كائنا من كان .
    مسألة .

    اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله : فقولي إني نذرت للرحمن صوما ، أي : قولي ذلك بالإشارة - يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ; لأنها في هذه الآية سميت قولا على هذا الوجه من التفسير ، وسمع في كلام العرب كثيرا إطلاق الكلام على الإشارة ، كقوله :


    إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر
    وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة الكلام ، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام ، وأقوال العلماء في ذلك .

    اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام ، وجاءت أدلة أخرى يفهم [ ص: 402 ] منها خلاف ذلك ، فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله " ؟ فأشارت إلى السماء ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أعتقها فإنها مؤمنة " فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات ، وهو الذي يعصم به الدم والمال ، وتستحق به الجنة ، وينجى به من النار ، والقصة مشهورة مروية عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو هريرة ، وابن عباس ، ومعاوية بن الحكم السلمي ، والشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنهم ، وفي بعض رواياتهم أنها أشارت إلى السماء ، قال أبو داود في سننه : حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، ثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله ، عن عبد الله بن عتبة ، عن أبي هريرة : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة . فقال لها : " أين الله فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها : " فمن أنا " ؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء ، يعني أنت رسول الله ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " ، والظاهر حمل الروايات التي فيها أنه لما قال لها أين الله قالت في السماء من غير ذكر الإشارة ، على أنها قالت ذلك بالإشارة ; لأن القصة واحدة ، والروايات يفسر بعضها بعضا . قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] ، ما نصه : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : " أين الله " ؟ فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الدين الذي يحرز به الدم والمال ، وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء .

    وروى ابن القاسم عن مالك : أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه ، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه : فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق ، وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهذا باطل ، وليس ذلك بقياس ، وإنما هو استحسان ، والقياس في هذا كله أنه باطل ; لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي رحمه الله .

    وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على قيام الإشارة مقام الكلام في أشياء متعددة ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، أن [ ص: 403 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا - ثم عقد إبهامه في الثالثة - فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين " هذا لفظ مسلم في صحيحه وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما ، وقد يكون ثلاثين منزلة نطقه بذلك ، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث : وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا ، وحديث ابن عمر هذا أورده البخاري في باب ) اللعان ( مستدلا به على أن الإشارة كاللفظ ، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق ، قال رحمه الله تعالى : ) باب الإشارة في الطلاق والأمور ( وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم ، " لا يعذب الله بدمع العين ولكن يعذب بهذا " فأشار إلى لسانه ، وقال كعب بن مالك : أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلي ، أي : خذ النصف ، وقالت أسماء : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف ، فقلت لعائشة : ما شأن الناس ؟ وهي تصلي ، فأومأت برأسها إلى الشمس ، فقلت : آية ؟ فأومأت برأسها أن نعم ، وقال أنس : أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وقال ابن عباس : أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج ، وقال أبو قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمحرم : " أحدكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ " قالوا لا ، قال : " فكلوا " حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا إبراهيم ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير ، وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبر ، وقالت زينب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه " وعقد تسعين .

    حدثنا مسدد ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه " وقال بيده ، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، قلنا : يزهدها . وقال الأويسي : حدثنا إبراهيم بن سعد عن شعبة بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال : عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ، ورضخ رأسها ، فأتى به أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتلك ، فلان ؟ " لغير الذي قتلها ، فأشارت برأسها أن لا ، قال : فقال لرجل آخر غير الذي قتلها ، فأشارت أن لا ، فقال : " فلان ؟ " لقاتلها ، فأشارت أن نعم ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن [ ص: 404 ] دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الفتنة من هنا " وأشار إلى المشرق ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن أبي إسحاق الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما غربت الشمس قال لرجل : " انزل فاجدح لي " قال : يا رسول الله ، لو أمسيت . ثم قال : انزل فاجدح " قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو أمسيت إن عليك نهارا ، ثم قال : " انزل فاجدح " فنزل فجدح له في الثالثة فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أومأ بيده إلى المشرق فقال : " إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم " ، حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدا منكم نداء بلال - أو قال : أذانه من سحوره - فإنما ينادي - أو قال : يؤذن - ليرجع قائمكم وليس أن يقول . كأنه يعني الصبح أو الفجر . وأظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى ، وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز ، سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق شيئا إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها ، فهو يوسعها فلا تتسع " ، ويشير بأصبعه إلى حلقه ، انتهى من صحيح البخاري .

    فهذه أحاديث دالة على قيام الإشارة مقام النطق في أمور متعددة ، وقال ابن حجر في الفتح في هذا الباب : ذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة أولها قوله : وقال ابن عمر . هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجنائز ، وفيه قصة لسعد بن عبادة ، وفيها : " ولكن الله يعذب بهذا " وأشار إلى لسانه .

    ثانيها : وقال كعب بن مالك . هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في الملازمة . وفيها وأشار إلي أن خذ النصف . ثالثها : وقالت أسماء هي بنت أبي بكر : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف ، الحديث تقدم موصولا في كتاب الإيمان بلفظ : فأشارت إلى السماء ، وفيه : فأشارت برأسها ، أي : نعم ، وفي صلاة الكسوف بمعناه ، وفي صلاة السهو باختصار . إلى آخر كلامه ، وبالجملة فجميع الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب المذكور كلها ثابتة في الصحيح موصولة ، أما ما جاء منها موصولا في الباب المذكور فأمره واضح ، وأما ما جاء منها معلقا في الباب المذكور فقد جاء موصولا في محل آخر من [ ص: 405 ] البخاري .

    والحديث الأول دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إشارته إلى اللسان أن الله يعذب به كنطقه بذلك .

    والحديث الثاني جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى كعب بن مالك أن يسقط نصف ديته عن ابن أبي حدرد ويأخذ النصف الباقي منه كنطقه بذلك .

    والحديث الثالث جعلت فيه عائشة إشارتها لأختها أن الكسوف آية من آيات الله هي السبب في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، كنطقها بذلك .

    والحديث الرابع : جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يتقدم كنطقه له بذلك ، وإيضاح ذلك هو ما رواه البخاري عن أنس في باب ) أهل العلم والفضل أحق بالإمامة ) .

    قال أنس : لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا ، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات . اهـ . هذا لفظ البخاري .

    وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في مرض موته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل إشارته إلى أبي بكر أن يتقدم ليصلي بالناس كنطقه له بذلك ; لأن أبا بكر رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب نكص على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة كما ثبت في صحيح البخاري في الباب المذكور آنفا من حديث أنس ، فأشار إليه أن يتقدم ، وقامت الإشارة مقام النطق .

    والحديث الخامس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفتيا بإشارة اليد كالفتيا بالنطق ، وإيضاحه هو ما رواه البخاري في كتاب العلم ) في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ( حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال حدثنا وهيب ، قال حدثنا أيوب ، عن عكرمة عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته فقال : " ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال : ولا حرج ، قال : حلقت قبل أن أذبح ، فأومأ بيده ولا حرج " ، ومن أمثلة الفتيا بإشارة اليد ما رواه البخاري في هذا الباب المذكور آنفا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج " قيل : يا رسول الله ، وما الهرج ! فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل . اهـ .

    فجعل صلى الله عليه وسلم إشارته بيده كنطقه ، بأن [ ص: 406 ] المراد بالهرج القتل .

    والحديث السادس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة المحرم إلى الصيد لينبه إليه المحل كأمره له باصطياده بالنطق ، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة " المائدة " .

    والحديث السابع جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى الركن في طوافه كاستلامه وتقبيله بالفعل .

    والحديث الثامن جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته بأصابعه كعقد التسعين لبيان القدر الذي فتح من ردم يأجوج ومأجوج كالنطق بذلك .

    والحديث التاسع فيه أنه جعل وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، مشيرا بذلك لقلة زمن الساعة التي يجاب فيها الدعاء بالخير يوم الجمعة ، أو مشيرا بذلك لوقتها عند من قال : إن وضع الأنملة في وسط الكف يراد به الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة ، ووضعها على الخنصر يراد به أنها في آخر النهار ; لأن الخنصر آخر أصابع الكف كالنطق بذلك ، وذكر ابن حجر عن بعض أهل العلم ، أن هذه الإشارة باليد لساعة الجمعة من فعل بشر بن المفضل راوي الحديث عن سلمة بن علقمة كما تقدم في إسناد الحديث ، وعليه ففي سياق هذا الحديث عند البخاري إدراج .

    والحديث العاشر جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة الجارية التي قتلها اليهودي كنطقها بأن اليهودي قتلها ، وأن من سمي لها غيره لم يكن هو الذي قتلها ، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة " بني إسرائيل " وبينا هنالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان جعل إشارة الجارية كنطقها لم يقتل اليهودي بإشارة الجارية القائمة مقام نطقها بمن قتلها ، ولكنه اعترف بأنه قتلها فثبت عليه القتل باعترافه واقتص لها منه بذلك .

    والحديث الحادي عشر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الفتنة من هنا " وأشار إلى المشرق ، فجعل إشارته إلى المشرق كنطقه بذلك .

    والحديث الثاني عشر فيه أنه صلى الله عليه وسلم أومأ بيده إلى المشرق فقال : " إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم " فجعل إشارته بيده إلى المشرق كنطقه بلفظ المشرق .

    والحديث الثالث عشر جعل فيه الإشارة باليد إلى الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق بذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #258
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (257)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 407 إلى صـ 412



    والحديث الرابع عشر : قال فيه صلى الله عليه وسلم : " فهو يوسعها ولا تتسع " ، ويشير بإصبعه إلى [ ص: 407 ] حلقه ، فجعل إشارته إلى أن درع الحديد المضروب بها المثل للبخيل ثابتة على حلقه لا تنزل عنه ولا تستر عورته ولا بدنه كالنطق بذلك .

    فهذه أربعة عشر حديثا أوردها البخاري رحمه الله في الباب المذكور ، وسقناها هنا ، وبينا وجه الدلالة على أن الإشارة كالنطق في كل واحد منها ، مع ما قدمنا من الأحاديث الدالة على ذلك زيادة على ما ذكره البخاري هنا .

    وقد ذكر البخاري رحمه الله في أول باب ) اللعان ( خمسة أحاديث أيضا كل واحد منها فيه الدلالة على أن الإشارة كالنطق ولم نذكرها هنا لأن فيما ذكرنا كفاية .

    وقال ابن حجر في ) الفتح ( في آخر كلامه على أحاديث الباب المذكورة : قال ابن بطال : ذهب الجمهور إلى أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة النطق ، وخالفه الحنفية في بعض ذلك ، ولعل البخاري رد عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق ، وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز .

    وقال ابن المنير : أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يفهم منها الأصل والعدد نافذة كاللفظ . اهـ .

    ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئة لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه ، مع من فرق بين لعان الأخرس ، وطلاقه ، والله أعلم .

    فهذه الأحاديث وأمثالها هي حجة من قال : إن الإشارة المفهمة تقوم مقام اللفظ ، واحتج من قال بأن الإشارة ليست كاللفظ بأن القرآن العظيم دل على ذلك ، وذلك في قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي ، مع أنه تعالى قال : فأشارت إليه [ 19 \ 29 ] ، أي : أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمر ، فهذه إشارة مفهمة ، وقد فهمها قومها فأجابوها جوابا مطابقا لفهمهم ما أشارت به : قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسيا ، فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها ، وأن الإشارة ليست كذلك ، فقد جاء الفرق صريحا في القرآن بين اللفظ والإشارة ، وكذلك قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] ، فإن الله جعل له آية على ما بشر به وهي منعه من الكلام ، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله : [ ص: 408 ] إلا رمزا ، وقوله : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية [ 19 \ 11 ] ، فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام ، والآية الأولى أصرح في الدلالة على أن الإشارة ليست كاللفظ ; لأن الآية الثانية محتملة لكون الإشارة كالكلام ; لأن استثناءه تعالى قوله : إلا رمزا ، من قوله : ألا تكلم الناس ، يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثني منه ; لأن الأصل في الاستثناء الاتصال ، والله تعالى أعلم .

    فإذا علمت أدلة الفريقين في الإشارة ، هل هي كاللفظ أو لا ؟ فاعلم أن العلماء مختلفون في الإشارة المفهمة ، هل تنزل منزلة اللفظ أو لا ، وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى جملا من أقوال أهل العلم في ذلك ، وما يظهر رجحانه بالدليل .

    قال ابن حجر رحمه الله تعالى في ) فتح الباري ( في آخر باب الإشارة في الطلاق والأمور ، ما نصه : وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة ، فأما في حقوق الله فقالوا : تكفي ولو من القادر على النطق ، وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك ، فاختلف العلماء في من اعتقل لسانه ، ثالثها عن أبي حنيفة إن كان ميئوسا من نطقه ، وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت ، ورجحه الطحاوي ، وعن الأوزاعي إن سبقه كلام ، ونقل عن مكحول ، إن قال : فلان حر ، ثم أصمت فقيل له : وفلان ؟ فأومأ صح ، وأما القادر على النطق فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه مقام النية ، كما لو طلق امرأته فقيل له : كم طلقة ؟ فأشار بأصبعه . انتهى منه .

    وقال البخاري في أول باب اللعان ، ما نصه : فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض ، وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم ، وقال تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ، وقال الضحاك : إلا رمزا إشارة ، وقال بعض الناس : لا حد ولا لعان ، ثم زعم أنه إن طلق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق ، فإن قال : القذف لا يكون إلا بكلام قيل له : كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام وإلا بطل الطلاق والقذف وكذلك العتق ، وكذلك الأصم يلاعن ، وقال الشعبي وقتادة : إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته ، وقال إبراهيم : الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ، وقال حماد : الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز . انتهى محل الغرض من كلام البخاري رحمه الله .

    [ ص: 409 ] ومذاهب الأئمة الأربعة متقاربة في هذه المسألة ، وبينهم اختلاف في بعض فروعها .

    فمذهب مالك رحمه الله : أن الإشارة المفهمة تقوم مقام النطق ، قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ، يعني في مذهب مالك : الكلام على الصيغة التي يحصل بها الطلاق : ولزم بالإشارة المفهمة . يعني أن الطلاق يلزم بالإشارة المفهمة مطلقا من الأخرس والناطق وقال شارحه المواق رحمه الله من المدونة : ما علم من الأخرس بإشارة أو بكتاب من طلاق أو خلع أو عتق أو نكاح ، أو بيع أو شراء أو قذف - لزمه حكم المتكلم ، وروى الباجي : إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه ، لقوله تعالى : ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] انتهى منه ، ورواية الباجي هذه عليها أهل المذهب ، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله : أن إشارة الأخرس تقوم مقام كلام الناطق في تصرفاته ، كإعتاقه وطلاقه ، وبيعه وشرائه ، ونحو ذلك ، أما السليم فلا تقبل عنده إشارته لقدرته على النطق ، وإشارة الأخرس بقذف زوجته لا يلزم عنده فيها حد ولا لعان ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، وعدم التصريح شبهة عنده ; لأن الإشارة قد تفهم ما لا يقصد المشير ، ولأن أيمان اللعان لها صيغ لا بد منها ولا تحصل بالإشارة وكذلك عنده إذا كانت الزوجة المقذوفة خرساء فلا حد ولا لعان عنده ، لاحتمال أنها لو نطقت لصدقته ، ولأنها لا يمكنها الإتيان بألفاظ الأيمان المنصوصة في آية اللعان ، وكذلك عنده القذف لا يصح من الأخرس ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات .

    وقال بعض العلماء من الحنفية : إن القياس منع اعتبار إشارة الأخرس ; لأنها لا تفهم كالنطق في الجميع ، وأنهم أجازوا العمل بإشارة الأخرس في غير اللعان والقذف على سبيل الاستحسان ، والقياس المنع مطلقا ، ومذهب الشافعي في هذه المسألة اعتبار إشارة الأخرس في اللعان وغيره ، وعدم اعتبار إشارة السليم .

    وأما مذهب الإمام أحمد فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا لعان إن كان أحد الزوجين أخرس ، كما قدمنا توجيهه في مذهب أبي حنيفة ، وقال القاضي أبو الخطاب : إن فهمت إشارة الأخرس فهو كالناطق في قذفه ولعانه ، وأما طلاق الأخرس ونكاحه وشبه ذلك فالإشارة كالنطق في مذهب الإمام أحمد ، وأما السليم فلا تقبل عنده إشارته بالطلاق ونحوه .

    هذا حاصل كلام الأئمة وغيرهم من فقهاء الأمصار في هذه المسألة ، وقد رأيت ما جاء فيها من أدلة الكتاب والسنة .

    [ ص: 410 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي رجحانه في المسألة : أن الإشارة إن دلت على المعنى دلالة واضحة لا شك في المقصود معها أنها تقوم مقام النطق مطلقا ، ما لم تكن في خصوص اللفظ أهمية مقصودة من قبل الشارع ، فإن كانت فيه فلا تقوم الإشارة مقامه كأيمان اللعان ، فإن الله نص عليها بصورة معينة ، فالظاهر أن الإشارة لا تقوم مقامها وكجميع الألفاظ المتعبد بها فلا تكفي فيها الإشارة ، والله جل وعلا أعلم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إني نذرت للرحمن صوما ، أي : إمساكا عن الكلام في قول الجمهور ، والصوم في اللغة : الإمساك ، ومنه قول نابغة ذبيان :


    خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
    فقوله : " خيل صيام " أي : ممسكة عن الجري ، وقيل عن العلف " وخيل غير صائمة " أي : غير ممسكة عما ذكر .

    وقول امرئ القيس :


    كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
    فقوله : " في مصامها " أي : مكان صومها ، يعني إمساكها عن الحركة ، وهذا القول هو الصحيح في معنى الآية ، أن المراد بالصوم الإمساك عن الكلام ، بدليل قوله بعده : فلن أكلم اليوم إنسيا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وقال ابن حجر ) في الفتح في باب اللعان ( وقد ثبت من حديث أبي بن كعب وأنس بن مالك : أن معنى قوله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما أي : صمتا ، أخرجه الطبراني وغيره . اهـ . وقال بعض العلماء : المراد بالصوم في الآية : هو الصوم الشرعي المعروف المذكور في قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ 2 \ 183 ] ، وعليه فالمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم حرم عليهم الكلام كما يحرم عليهم الطعام ، والصواب في معنى الآية الأول ، وعليه فهذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا كان جائزا في شريعتهم ، أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، " مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد وليتم صومه " قال عبد الوهاب : حدثنا أيوب عن عكرمة عن [ ص: 411 ] النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ .

    وقال ابن حجر " في الفتح " في الكلام على هذا الحديث وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله ، وقد أخرج أبو داود من حديث علي " ولا صمت يوم إلى الليل " وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق إن هذا - يعني الصمت - من فعل الجاهلية ، وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة ، كالمشي حافيا ، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله ، فلا ينعقد به النذر ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره ، وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه ، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل ، قال القرطبي : في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه ، قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة ، انتهى كلام صاحب ) فتح الباري ( وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها : وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت ، فقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( : لم أره هكذا ، وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ " لا صمت يوم إلى الليل " وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ، ولأبي داود من حديث علي مثله ، وقد تقدم في تفسير سورة " النساء " .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإما ترين ، معناه فإن تري من البشر أحدا ، فلفظة " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " المزيدة لتوكيد الشرط ، والأصل ترأيين على وزن تفعلين ، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قلبها ألفا فصارت ترآين ، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء ; لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر ، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراين ، فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف ، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي ، والجازم الذي هو " إن " الشرطية ; لأن كل واحد منهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع ، فصار ترين ، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة ; لأن كل حرف مشدد فهو حرفان ، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين ، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله :


    واحذفه من رافع هاتين وفي واو ويا شكل مجانس قفي
    نحو اخشين يا هند بالكسر ويا قوم اخشون واضمم وقس مسويا
    [ ص: 412 ] وما ذكرنا من أن همزة " رأى " تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع ، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر :


    أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات
    وقول الأعلم بن جرادة السعدي ، أو شاعر من تيم الرباب :


    ألم ترأ ما لاقيت والدهر أعصر ، ومن يتمل الدهر يرأ ويسمع
    وقول الآخر :
    أحن إذا رأيت جبال نجد ولا أرأى إلى نجد سبيلا
    ونون التوكيد في العمل المضارع بعد " إما " لازمة عند بعض علماء العربية ، وممن قال بلزومها بعد " إما " كقوله هنا : فإما ترين من البشر أحدا ، : المبرد والزجاج ، ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد " إما " غير لازمة ، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب ، كقول الأعشى ميمون بن قيس :


    فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أردى بها
    وقول لبيد بن ربيعة :


    فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر
    وقول الشنفرى :


    فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفي ولا أتنعل
    وقول الأفوه الأودي :


    إما تري رأسي أزرى به مأسر زمان ذي انتكاس مئوس
    وقول الآخر :


    زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد بنيوها الأصاغر خلتي
    وقول الآخر :


    يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
    وأمثال هذا كثيرة في شعر العرب .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #259
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (258)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 413 إلى صـ 418


    والمبرد والزجاج يقولان : إن حذف النون في الأبيات المذكورة ونحوها إنما هو لضرورة الشعر ، ومن خالفهم كسيبويه والفارسي [ ص: 413 ] يمنعون كونه للضرورة ، ويقولون : إنه جائز مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفا أتت به ) أي بعيسى ( قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون ، فقالوا لها : يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد : " فريا " ، أي : عظيما ، وقال سعيد بن مسعدة : " فريا " أي : مختلقا مفتعلا ، وقال أبو عبيدة والأخفش : " فريا " أي : عجيبا نادرا .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم لقد جئت شيئا فريا ، أي : منكرا عظيما ; لأن " الفري " فعيل من الفرية ، يعنون به الزنى ; لأن ولد الزنى كالشيء المفترى المختلق ; لأن الزانية تدعي إلحاقه بمن ليس أباه ، ويدل على أن مرادهم بقولهم " فريا " الزنى قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت ، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى ) حاشاها وحاشاه من ذلك ( هو المراد بقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا ، ويدل لذلك قوله تعالى بعده : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، والبغي الزانية كما تقدم ، يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة ، فما لك أنت ترتكبينها ! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفترى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن [ 60 \ 12 ] ، قال بعض العلماء : معنى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، أي : ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه ، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية ، وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة ، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر :


    وقد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا قد كنت تفرين به الفريا
    يعني : تعملين به العمل العظيم ، والظاهر أنه يقصد أنها تؤكله أكلا لما عظيما .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ياأخت هارون ، ليس المراد به هارون بن [ ص: 414 ] عمران أخا موسى ، كما يظنه بعض الجهلة ، وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون ، والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأبو سعيد الأشج ، ومحمد بن المثنى العنزي - واللفظ لابن نمير - قالوا : حدثنا ابن إدريس عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرءون : ياأخت هارون ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : " إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " اهـ ، هذا لفظ مسلم في الصحيح ، وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى ، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في قول الزمخشري : إنما عنوا هارون النبي ، ما نصه : لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ، ورواه الطبري عن السدي قوله ، وليس بصحيح ، فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي : أرأيتم شيئا تقرءونه " ياأخت هارون " وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين ، فلم أدر ما أجيبهم . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم " وروى الطبري من طريق ابن سيرين : نبئت أن كعبا قال : إن قوله تعالى ياأخت هارون ، ليس بهارون أخي موسى ، فقالت له عائشة : كذبت . فقال لها : يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . انتهى كلام ابن حجر .

    وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى : ياأخت هارون : أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وعبد بن حميد ، ومسلم والترمذي والنسائي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن حبان والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران . . . ، إلى آخر الحديث كما تقدم آنفا ، وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له ، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه تعلم أن قول من قال : إن المراد هارون أخو موسى ، باطل سواء قيل إنها أخته ، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته ، كما يقال للرجل : يا أخا تميم ، والمراد يا أخا بني تميم ; لأنه من ذرية تميم ، ومن هذا القبيل قوله : واذكر أخا عاد [ 46 \ 21 ] ; لأن هودا إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته ، فهو أخو بني عاد ، وهم المراد بعاد في الآية ; لأن [ ص: 415 ] المراد بها القبيلة لا الجد ، وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هارون أخي موسى ، فاعلم أن بعض العلماء ، قال : إن لها أخا اسمه هارون ، وبعضهم يقول : إن هارون المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح ، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبهه في العبادة والتقوى ، وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها الآية [ 43 \ 48 ] ، وقوله تعالى : إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين الآية [ 7 \ 27 ] ، وقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، ومنه في كلام العرب قوله :


    وكل أخ يفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
    فجعل الفرقدين أخوين .

    وكثيرا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب ، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن :


    أخا الحرب لباسا إليها جلالها وليس بولاج الخوالف أعقلا
    فقوله : " أخا الحرب " يعني صاحبها .

    ومنه قول الراعي ، وقيل لأبي ذؤيب :


    عشية سعدى لو تراءت لراهب بدومة تجر دونه وحجيج
    قلى دينه واهتاج للشوق إنها على النأي إخوان العزاء هيوج
    فقوله " إخوان العزاء " يعني أصحاب الصبر .
    قوله تعالى : فأشارت إليه .

    معنى إشارتها إليه : أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر ، والدليل على أن هذا هو مرادها بإشارتها إليه قوله تعالى بعده : قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، فالفعل الماضي الذي هو " كان " بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال كما يدل عليه السياق ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى :

    قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

    [ ص: 416 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أول كلمة نطق لهم بها عيسى وهو صبي في مهده أنه عبد الله ، وفي ذلك أعظم زجر للنصارى عن دعواهم أنه الله أو ابنه أو إله معه وهذه الكلمة التي نطق بها عيسى في أول خطابه لهم ذكرها الله جل وعلا عنه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم [ 5 \ 72 ] ، وقوله في " آل عمران " : إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 3 \ 51 ] ، وقوله في " الزخرف " فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 43 \ 62 - 64 ] ، وقوله هنا في سورة " مريم " : وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 19 \ 39 ] ، وقوله : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : آتاني الكتاب وجعلني نبيا ، التحقيق فيه إن شاء الله : أنه عبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع ، ونظائره في القرآن كثيرة ، كقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] ، وقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت إلى قوله : وسيق الذين كفروا [ 39 \ 68 - 71 ] ، وقوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم [ 39 \ 73 ] .

    فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل ، تنزيلا لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل ، ونظائرها كثيرة في القرآن ، وهذا الذي ذكرنا من أن الأفعال الماضية في قوله تعالى : آتاني الكتاب . . . إلخ ، بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله ، خلافا لمن زعم أنه نبئ وأوتي الكتاب في حال صباه لظاهر اللفظ ، وقوله : وجعلني مباركا ، أي : كثير البركات ; لأنه يعلم الخير ويدعو إلى الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية : مباركا أين ما كنت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفاعا حيث كنت ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشافي ( : أخرجه أبو نعيم ) في الحلية ( في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي هريرة بهذا وأتم ، وقال : تفرد به هشيم عن يونس ، وعنه شعيب بن محمد الكوفي ، ورواه ابن مردويه من هذا الوجه . اهـ .

    وقوله في هذه الآية الكريمة وبرا بوالدتي قال الحوفي وأبو البقاء : هو [ ص: 417 ] معطوف على قوله : وجعلني مباركا ، وقال أبو حيان ) في البحر ( : وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي " أوصاني " ومتعلقها ، والأولى أنه منصوب بفعل مضمر ، أي : وجعلني برا بوالدتي ، ولما قال بوالدتي ولم يقل بوالدي علم أنه أمر من قبل الله ، كما ذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد قدمنا معنى " الجبار والشقي " وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : " شقيا " أي : خائبا من الخير ، وقال ابن عباس : عاقا ، وقيل عاصيا لربه ، وقيل : لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس . انتهى كلام القرطبي .
    تنبيه

    احتج مالك رحمه الله بهذه الآية على القدرية ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت . اهـ .
    قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ، اعلم أن هذا الحرف فيه قراءتان سبعيتان : قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي " قول الحق " [ 19 \ 34 ] بضم اللام ، وقرأه ابن عامر وعاصم قول الحق بالنصب .

    والإشارة في قوله " ذلك " راجعة إلى المولود المذكور في الآيات المذكورة قبل هذا ، وقوله " ذلك " مبتدأ ، " وعيسى " خبره ، و " ابن مريم " نعت لـ " عيسى " وقيل : بدل منه ، وقيل : خبر بعد خبر .

    وقوله : قول الحق على قراءة النصب مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، وإلى نحوه أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :


    والثاني كابني أنت حقا صرفا
    وقيل : منصوب على المدح . وأما على قراءة الجمهور بالرفع فـ " قول الحق " خبر مبتدأ محذوف - أي : هو - أي : نسبته إلى أمه فقط قول الحق ، قاله أبو حيان ، وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : اعلم أن لفظة " الحق " في قوله هنا " قول الحق " فيها للعلماء وجهان :

    [ ص: 418 ] الأول : أن المراد بالحق ضد الباطل بمعنى الصدق والثبوت ، كقوله : وكذب به قومك وهو الحق ، وعلى هذا القول فإعراب قوله " قول الحق " على قراءة النصب أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كما تقدم ، وعلى قراءة الرفع فهو خبر مبتدأ محذوف كما تقدم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في " آل عمران " في القصة بعينها : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] .

    الوجه الثاني : أن المراد بالحق في الآية الله جل وعلا ; لأن من أسمائه " الحق " كقوله : ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] ، وقوله : ذلك بأن الله هو الحق الآية [ 22 \ 62 ] ، وعلى هذا القول فإعراب قوله تعالى قول الحق [ 19 \ 34 ] على قراءة النصب أنه منصوب على المدح ، وعلى قراءة الرفع فهو بدل من " عيسى " أو خبر ، وعلى هذا الوجه فـ " قول الحق " ، هو " عيسى " كما سماه الله كلمة في قوله : وكلمته ألقاها إلى مريم [ 4 \ 171 ] ، وقوله : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح الآية [ 3 \ 45 ] ، وإنما سمي " عيسى " كلمة لأن الله أوجده بكلمته التي هي " كن " فكان ، كما قال : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن [ 3 \ 59 ] ، والقول والكلمة على هذا الوجه من التفسير بمعنى واحد .

    وقوله : الذي فيه يمترون أي : يشكون ، فالامتراء افتعال من المرية وهي الشك ، وهذا الشك الذي وقع للكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 59 - 60 ] ، وهذا القول الحق الذي أوضح الله به حقيقة الأمر في شأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد نزوله على نبينا صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يدعو من حاجه في شأن عيسى إلى المباهلة ، ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيسى هو القصص الحق ، وذلك في قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق الآية [ 3 \ 61 - 62 ] ، ولما نزلت ودعا النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة خافوا الهلاك وأدوا [ الجزية ] كما هو مشهور .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #260
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,766

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (259)

    سُورَةُ مَرْيَمَ
    صـ 419 إلى صـ 424



    قوله تعالى : ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

    [ ص: 419 ] اعلم أولا أن لفظ " ما كان " يدل على النفي ، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع ، كقوله تعالى : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله الآية [ 9 \ 120 ] ، وتارة يدل على التعجيز ، كقوله تعالى : آلله خير أم ما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها الآية [ 27 \ 59 - 60 ] .

    وتارة يدل على التنزيه ، كقوله هنا : ما كان لله أن يتخذ من ولد ، وقد أعقبه بقوله : سبحانه أي : تنزيها له عن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله ، فقوله : ما كان لله بمعنى : ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولدا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، والآية كقوله تعالى : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 92 ] وفي هذه الآية الرد البالغ على النصارى الذين زعموا المحال في قولهم " عيسى ابن الله " وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذبا - كعيسى - نزه عنه نفسه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم إلى قوله : إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد الآية [ 4 \ 171 ] ، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة ، كقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 91 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة " الكهف " .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذا قضى أمرا [ 19 \ 35 ] أي : أراد قضاءه بدليل قوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] ، وقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] أي : إذا أردتم القيام إليها ، وقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ 16 \ 98 ] ، أي : إذا أردت قراءة القرآن ، كما تقدم مستوفى .

    وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها : ما كان لله أن يتخذ من ولد زيدت فيه لفظة " من " قبل المفعول به لتأكيد العموم ، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي [ ص: 420 ] إذا زيدت قبلها لفظة " من " لتوكيد العموم كانت نصا صريحا في العموم ، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع : قبل الفاعل ، كقوله تعالى : ما أتاهم من نذير [ 28 \ 46 ] ، وقبل المفعول ، كهذه الآية ، وكقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه الآية [ 21 \ 25 ] ، وقبل المبتدأ كقوله : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .
    قوله تعالى : فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ، أظهر الأقوال في " الأحزاب " المذكورة في هذه الآية أنهم فرق اليهود والنصارى الذين اختلفوا في شأن عيسى ، فقالت طائفة : هو ابن زنى ، وقالت طائفة : هو ابن الله ، وقالت طائفة : هو الله ، وقالت طائفة : هو إله مع الله .

    ثم إن الله توعد الذين كفروا منهم بالويل لهم من شهود يوم القيامة ، وذلك يشمل من كفر بالتفريط في عيسى كالذي قال إنه ابن زنى ، ومن كفر بالإفراط فيه كالذين قالوا إنه الله أو ابنه ، وقوله " ويل " كلمة عذاب ، فهو مصدر لا فعل له من لفظه ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة كونه في معنى الدعاء ، والظاهر أن المشهد في الآية مصدر ميمي ، أي : فويل لهم من شهود ذلك اليوم - أي حضوره - لما سيلاقونه فيه من العذاب ، خلافا لمن زعم أن المشهد في الآية اسم مكان ، أي : فويل لهم من ذلك المكان الذي يشهدون فيه تلك الأهوال والعذاب ، والأول هو الظاهر وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة " الزخرف " في قوله تعالى : ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم [ 43 \ 63 - 64 ] ، وما أشار إليه في الآيتين من أن الذين كفروا بالإفراط أو التفريط في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، أنه لم يعاجلهم بالعذاب ، وأنه يؤخر عذابهم إلى الوقت المحدد لذلك - أشار له في مواضع أخر ، كقوله تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : وما نؤخره إلا لأجل معدود [ 11 \ 104 ] ، وقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] .

    وبالجملة فالله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه ، ولكنه لا يهمله ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله [ ص: 421 ] عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] ، وقال تعالى : وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير [ 22 \ 48 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاختلف الأحزاب من بينهم [ 19 \ 37 ] ، قال أبو حيان في ) البحر ( : ومعنى قوله " من بينهم " أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين . انتهى محل الغرض منه .
    قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ، قوله : أسمع بهم وأبصر صيغتا تعجب ، ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار يوم القيامة يسمعون ويبصرون الحقائق التي أخبرتهم بها الرسل سمعا وإبصارا عجيبين ، وأنهم في دار الدنيا في ضلال وغفلة لا يسمعون الحق ولا يبصرونه ، وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية الكريمة بينه في مواضع أخر ، كقوله في سمعهم وإبصارهم يوم القيامة : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] ، وقوله تعالى : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وكقوله في غفلتهم في الدنيا وعدم إبصارهم وسمعهم : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 7 ] ، وقوله : صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ 2 \ 18 ] ، وقوله : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] ، والمراد بالأعمى والأصم : الكفار ، والآيات بمثل هذا كثيرة ، واعلم أن صيغة التعجب إذا كانت على وزن " أفعل به " فهي فعل عند الجمهور ، وأكثرهم يقولون إنه فعل ماض جاء على صورة الأمر ، وبعضهم يقول : إنه فعل أمر لإنشاء التعجب ، وهو الظاهر من الصيغة ، ويؤيده دخول نون التوكيد عليه ، كقول الشاعر :


    ومستبدل من بعد غضيا صريمة فأحر به لطول فقر وأحريا
    لأن الألف في قوله : " وأحريا " مبدلة من نون التوكيد الخفيفة على حد قوله في الخلاصة :


    وأبدلنها بعد فتح ألفا وقفا كما تقول في قفن قفا
    [ ص: 422 ] والجمهور أيضا على أن صيغة التعجب الأخرى التي هي : " ما أفعله " فعل ماض ، خلافا لجماعة من الكوفيين في قولهم : إنها اسم بدليل تصغيرها في قول العرجي :


    يا ما أميلح غزلانا شدن لنا من هؤلياء بين الضال والسمر
    قالوا : والتصغير لا يكون إلا في الأسماء ، وأجاب من خالفهم بأن تصغيرها في البيت المذكور شاذ يحفظ ولا يقاس عليه .
    قوله تعالى : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ، الحسرة : أشد الندم والتلف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه ، والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، أي : أنذر الناس يوم القيامة ، وقيل له : يوم الحسرة ؛ لشدة ندم الكفار فيه على التفريط ، وقد يندم فيه المؤمنون على ما كان منهم من التقصير ، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين الآية [ 40 \ 18 ] ، وقوله : إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ 34 \ 46 ] .

    وأشار إلى ما يحصل فيه من الحسرة في مواضع أخر ، كقوله : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله الآية [ 39 \ 56 ] ، وقوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 6 \ 31 ] ، وقوله : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله في هذه الآية الكريمة : وهم في غفلة ، أي : في غفلة الدنيا معرضون عن الآخرة ، وجملة " وهم في غفلة " حالية ، والعامل فيها " أنذرهم " أي : أنذرهم في حال غفلتهم غير مؤمنين ، خلافا لمن قال : إن العامل في الجملة الحالية قوله قبل هذا " في ضلال مبين " ، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن المراد بقوله هنا " إذ قضي الأمر " أي : ذبح الموت .

    قال البخاري رحمه الله في صحيحه : ) باب قوله عز وجل : وأنذرهم يوم الحسرة ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد : يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، ثم ينادى : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل [ ص: 423 ] تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، فيذبح ، ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت " ، ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة [ 19 \ 39 ] ، وهؤلاء في غفلة الدنيا وهم لا يؤمنون " انتهى من صحيح البخاري .

    والحديث مشهور متفق عليه وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآية بعد ذكره ذبح الموت تدل على أن المراد بقوله " إذ قضي الأمر " أي : ذبح الموت ، وفي معناه أقوال أخر غير هذا تركناها لدلالة الحديث الصحيح على المعنى الذي ذكرنا .
    قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ، معنى قوله جل وعلا في هذه الآية أنه يرث الأرض ومن عليها : أنه يميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض ، ويبقى هو جل وعلا لأنه الحي الذي لا يموت ، ثم يرجعون إليه يوم القيامة ، وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 26 - 27 ] ، وقوله تعالى : وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون [ 15 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ، أمر الله جل وعلا نبيه " محمدا " صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يذكر في الكتاب الذي هو القرآن العظيم المنزل إليه من الله " إبراهيم " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، ويتلو على الناس في القرآن نبأه مع قومه ودعوته لهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، وكرر هذا المعنى المذكور في هذه الآيات في آيات أخر من كتابه جل وعلا ، فهذا الذي أمر به نبيه هنا من ذكره في الكتاب إبراهيم : إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر الآية [ 19 \ 42 ] ، أوضحه في سورة " الشعراء " في قوله : واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون [ 26 \ 69 - 70 ] .

    فقوله هنا : واذكر في الكتاب ، هو معنى قوله : واتل عليهم نبأ إبراهيم ، وزاد في " الشعراء " أن هذا الذي قاله لأبيه من النهي عن عبادة الأوثان قاله أيضا لسائر قومه ، وكرر [ ص: 424 ] تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عبادة الأوثان في مواضع أخر ، كقوله : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين [ 6 \ 74 ] ، وقوله تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ 26 \ 70 - 77 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين [ 21 \ 51 - 56 ] ، وقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 - 27 ] ، وقوله تعالى : وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين [ 37 \ 83 - 87 ] ، وقوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك الآية [ 60 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية : إذ قال لأبيه ، الظرف الذي هو " إذ " بدل اشتمال من " إبراهيم " في قوله : واذكر في الكتاب إبراهيم ، كما تقدم نظيره في قوله : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت الآية [ 19 \ 16 ] ، وقد قدمنا هناك إنكار بعضهم لهذا الإعراب ، وجملة : إنه كان صديقا نبيا [ 19 \ 41 ] ، معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور ، والصديق صيغة مبالغة من الصدق ، لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته ، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله : وإبراهيم الذي وفى [ 53 \ 37 ] ، وقوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [ 2 \ 124 ] .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •