تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 12 من 28 الأولىالأولى ... 2345678910111213141516171819202122 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 221 إلى 240 من 556

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #221
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (220)

    سُورَةُ الإسراء(37)
    صـ 186 إلى صـ 190




    والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي : أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا " في سورة الكهف " وهو قوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهذا المانع المذكور " في الكهف " مانع حقيقي ; لأن من أراد الله به سنة الأولين من الإهلاك ، أو أن يأتيه [ ص: 186 ] العذاب قبلا فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد ; لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا ، بخلاف المانع " في آية بني إسرائيل " هذه ، فهو مانع عادي يصح تخلفه ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
    قوله تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .

    بين جل وعلا في هذه الآية : أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم ، فلو كان مرسلا رسولا إلى الملائكة لنزل عليهم ملكا مثلهم ، أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشرا مثلهم .

    وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 8 - 9 ] ، وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [ 21 \ 7 ] ، وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] كما تقدم إيضاحه .
    قوله تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم .

    بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من خلق السموات والأرض مع عظمهما قادر على بعث الإنسان بلا شك ; لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك .

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى [ 46 \ 33 ] ، وقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .
    قوله تعالى : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

    بين تعالى في هذه الآية : أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته - أي خزائن الأرزاق والنعم - لبخلوا بالرزق على غيرهم ، ولأمسكوا عن الإعطاء ، خوفا من الإنفاق لشدة بخلهم .

    [ ص: 187 ] وبين أن الإنسان قتور ، أي بخيل مضيق ; من قولهم : قتر على عياله ، أي ضيق عليهم .

    وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [ 4 \ 53 ] ، وقوله : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الآية [ 70 \ 19 - 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    والمقرر في علم العربية أن " لو " لا تدخل إلا على الأفعال ، فيقدر لها في الآية فعل محذوف ، والضمير المرفوع بعد " لو " أصله فاعل الفعل المحذوف ، فلما حذف الفعل فصل الضمير . والأصل قل لو تملكون ، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميرا منفصلا ، هو : أنتم . هكذا قاله غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات

    الآية . قال بعض أهل العلم : هذه الآيات التسع ، هي : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات .

    وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر ; كقوله : فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 7 \ 107 - 108 ] ، وقوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] ، وقوله : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 63 ] وقوله : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 133 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا ، وجعل بعضهم الجبل بدل " السنين " وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة [ 7 \ 117 ] ، ونحوها من الآيات .

    قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر

    الآية ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر ، أي حججا واضحة ، وذلك يدل على أن قول فرعون فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] ، وقوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] كل ذلك منه تجاهل عارف .

    [ ص: 188 ] وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبينا سبب جحوده لما علمه " في سورة النمل " بقوله : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا الآية [ 27 \ 12 - 14 ] .
    قوله تعالى : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل .

    بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل هذا القرآن بالحق : أي متلبسا به متضمنا له ; فكل ما فيه حق فأخباره صدق ، وأحكامه عدل ; كما قال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ 6 \ 115 ] وكيف لا وقد أنزله جل وعلا بعلمه ، كما قال تعالى : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] . وقوله : وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله .

    لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه ، أمين لا يغير ولا يبدل ، كما أشار إلى هذا بقوله : نزل به الروح الأمين على قلبك الآية [ 26 \ 193 ، 194 ] ، وقوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين الآية [ 81 \ 19 - 21 ] ، وقوله في هذه الآية : لقول رسول ، أي لتبليغه عن ربه ، بدلالة لفظ الرسول ؛ لأنه يدل على أنه مرسل به .
    قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث .

    قرأ هذا الحرف عامة القراء " فرقناه " بالتخفيف ، أي بيناه وأوضحناه ، وفصلناه وفرقنا به بين الحق والباطل ، وقرأ بعض الصحابة فرقناه بالتشديد ، أي أنزلناه مفرقا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة . ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم . الآية [ 44 \ 4 ]

    وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث ، أي مهل وتؤدة وتثبت ، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك ، وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله : ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، ويدل لذلك أيضا قوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] ، وقوله تعالى : وقرآنا [ 17 \ 106 ] منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حد قوله في الخلاصة :

    [ ص: 189 ] فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
    قوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى .

    أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة : أن يدعوه بما شاءوا من أسمائه ، إن شاءوا قالوا : يا ألله ، وإن شاءوا قالوا : يا رحمن ، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا .

    وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [ 7 \ 180 ] ، وقوله : هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 59 \ 22 ، 23 ] .

    وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الآية [ 25 \ 60 ] ، وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 1 - 4 ] ، ولذا قال بعض العلماء : إن قوله : الرحمن علم القرآن جواب لقولهم : قالوا وما الرحمن الآية [ 25 \ 60 ] ، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح " في سورة الفرقان " .
    قوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

    أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ( لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما قدمنا ) أن يقولوا : " الحمد لله " أي : كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله ، ثابت له ، مبينا أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء ، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا .

    فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة ; كقوله : قل هو الله أحد [ 112 \ 1 ] إلى آخر السورة ، وقوله : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا [ 72 \ 3 ] ، وقوله : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [ 6 \ 101 ] ، وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ ص: 190 ] الآية [ 19 \ 88 - 92 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

    وبين في مواضع أخر : أنه لا شريك له في ملكه ، أي ولا في عبادته ; كقوله : وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] ، وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ، وقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] ، وقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء الآية [ 3 \ 26 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

    ومعنى قوله في هذه الآية : ولم يكن له ولي من الذل [ 17 \ 111 ] ، يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعز به ; لأنه هو العزيز القهار ، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته ، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله : والله غالب على أمره الآية [ 12 \ 21 ] ، وقوله : أن الله عزيز حكيم [ 2 \ 209 ] والعزيز : الغالب ، وقوله : وهو القاهر فوق عباده [ 6 \ 18 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

    وقوله وكبره تكبيرا [ 17 \ 111 ] أي عظمه تعظيما شديدا ، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه ، والمسارعة إلى كل ما يرضيه ، كقوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم [ 2 \ 185 ] ونحوها من الآيات ، والعلم عند الله تعالى .

    وروى ابن جرير في تفسيره هذه الآية الكريمة عن قتادة ، أنه قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] ، وقال ابن كثير : قلت : وقد جاء في حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز ، وفي بعض الآثار : إنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة . والله أعلم . ثم ذكر حديثا عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه : أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر ، ثم قال : إسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة . والله تعالى أعلم .

    وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

    وهذا آخر الجزء الثالث من هذا الكتاب المبارك ، ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى ، وأوله سورة الكهف ، وبالله التوفيق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #222
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (221)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 191 إلى صـ 196

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْكَهْفِ


    قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا .

    علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم ; وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم ، الذي لا اعوجاج فيه ، بل هو في كمال الاستقامة ، أخرجهم به من الظلمات إلى النور . وبين لهم فيه العقائد ، والحلال والحرام ، وأسباب دخول الجنة والنار ، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم ، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم ، فهو النعمة العظمى على الخلق ، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى بقوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] .

    وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم ، منذرا من لم يعمل به ، ومبشرا من عمل به ، ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة ; كقوله : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما [ 4 \ 174 ] ، وقوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] ، وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين [ 27 \ 76 - 77 ] ، وقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [ 17 \ 82 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء الآية [ 41 \ 44 ] ، وقوله تعالى : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 106 - 107 ] ، وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، [ ص: 192 ] وقوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير [ 35 \ 32 ] .

    وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ، أي لم يجعل في القرآن عوجا ; أي لا اعوجاج فيه ألبتة ، لا من جهة الألفاظ ، ولا من جهة المعاني ، أخباره كلها صدق ، وأحكامه عدل ، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه ، وأخباره وأحكامه ; لأن قوله : " عوجا " نكرة في سياق النفي ، فهي تعم نفي جميع أنواع العوج .

    وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه ، بينه في مواضع أخر كثيرة كقوله : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون [ 39 \ 27 - 28 ] ، وقوله : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] . فقوله " صدقا " أي في الأخبار ، وقوله : " عدلا " أي في الأحكام ، وكقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : قيما أي مستقيما لا ميل فيه ولا زيغ ، وما ذكره هنا من كونه قيما لا ميل فيه ولا زيغ ، بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة [ 98 \ 1 ] ، وقوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية [ 17 \ 9 ] ، وقوله : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] ، وقوله الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقوله : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    [ ص: 193 ] وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى : قيما هو قول الجمهور وهو الظاهر . وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ; لأنه قد يكون الشيء مستقيما في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر ، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة . وفي قوله : " قيما " وجهان آخران من التفسير :

    الأول : أن معنى كونه " قيما " أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ، أي مهيمن عليها ، وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الآية [ 5 \ 15 ] .

    ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب ، قال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون الآية [ 27 \ 76 ] ، وقال : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ 3 \ 93 ] ، وقال : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية [ 5 \ 15 ] .

    الوجه الثاني : أن معنى كونه " قيما " : أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية . وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول .

    واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله : " قيما " فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب ، وأن في الآية تقديما وتأخيرا ، وتقريره على هذا : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيما ولم يجعل له عوجا ، ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلا : إن قوله : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ، معطوف على صلة الموصول التي هي جملة : أنزل على عبده الكتاب ، والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة ، فجعل " قيما " حالا من " الكتاب " يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة ، وذلك لا يجوز ، وذهب جماعة آخرون إلى أن " قيما " حال من " الكتاب " ، وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف ، وذلك أنهم قالوا : إن جملة ولم يجعل له عوجا ليست معطوفة على الصلة ، وإنما هي جملة حالية . وقوله " قيما " حال بعد حال ، وتقريره أن المعنى : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجا ، وفي حال كونه قيما . وتعدد الحال لا إشكال فيه ، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

    والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد

    [ ص: 194 ] وسواء كان ذلك بعطف أو بدون عطف ، فمثاله مع العطف قوله تعالى : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، ومثاله بدون عطف قوله تعالى : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا الآية [ 7 \ 150 ] . وقول الشاعر :


    علي إذا ما جئت ليلى بخفية زيارة بيت الله رجلان حافيا


    ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله : هذا بسرا أطيب منه رطبا . ونقل منع ذلك أيضا عن الفارسي وجماعة ، وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون : إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى ، والأولى عندهم هي العامل في الثانية ، فهي عندهم أحوال متداخلة ، أو يجعلون الثانية نعتا للأولى ، وممن اختار أن جملة ولم يجعل حالية ، وأن قيما حال بعد حال - الأصفهاني .

    وذهب بعضهم إلى أن قوله : قيما بدل من قوله : ولم يجعل له عوجا ; لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيما .

    وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد ، وعليه فهو بدل مفرد من جملة .

    كما قالوا في : عرفت زيدا أبو من ، أنه بدل جملة من مفرد ، وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية .

    وزعم قوم أن قيما حال من الضمير المجرور في قوله : ولم يجعل له عوجا ، واختار الزمخشري وغيره أن قيما منصوب بفعل محذوف ، وتقديره : ولم يجعل له عوجا وجعله قيما ، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز ، كما قال في الخلاصة :

    ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما

    وأقرب أوجه الإعراب في قوله : " قيما " أنه منصوب بمحذوف ، أو حال ثانية من " الكتاب " والله تعالى أعلم .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : لينذر بأسا شديدا [ 18 \ 2 ] اللام فيه متعلقة [ ص: 195 ] بـ أنزل ، وقال الحوفي : هي متعلقة بقوله : قيما ، والأول هو الظاهر .

    والإنذار : الإعلام المقترن بتخويف وتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا ، والإنذار يتعدى إلى مفعولين ، كما في قوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 \ 14 ] ، وقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا الآية [ 38 \ 40 ] .

    وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار ، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول ، وحذف في الثاني المفعول الثاني ، فصار المذكور دليلا على المحذوف في الموضعين . وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول : لينذر الذين كفروا بأسا شديدا من لدنه ، وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا بأسا شديدا من لدنه .

    وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين ، وبشارة للمؤمنين المتقين ; إذ قال في تخويف الكفرة به : لينذر بأسا شديدا من لدنه [ 18 \ 2 ] ، وقال : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] ، وقال في بشارته للمؤمنين : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا الآية [ 18 \ 2 ] .

    وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذارا لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر ; كقوله : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] .

    وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة " الأعراف " ، وأوضحنا هنالك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن . والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه : هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . والبشارة : الخير بما يسر .

    وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء ، ومنه قوله تعالى : فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 8 ] ومنه قول الشاعر :


    وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر


    وقول الآخر :


    [ ص: 196 ] يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير


    والتحقيق : أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء ، أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازا ، ويسمونه استعارة عنادية ، ويقسمونها إلى تهكمية وتلميحية كما هو معروف في محله .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : الذين يعملون الصالحات [ 18 \ 2 ] بينت المراد به آيات أخر ، فدلت على أن العمل لا يكون صالحا إلا بثلاثة أمور :

    الأول : أن يكون مطابقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح ، بل هو باطل ، قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 10 ] ، وقال : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، وقال : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله الآية [ 42 \ 21 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    الثاني : أن يكون العامل مخلصا في عمله لله فيما بينه وبين الله ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية [ 98 \ 5 ] ، وقال : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 11 - 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    الثالث : أن يكون العمل مبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة ; لأن العمل كالسقف ، والعقيدة كالأساس ، قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] ، فجعل الإيمان قيدا في ذلك .

    وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة ، كقوله في أعمال غير المؤمنين : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : أعمالهم كسراب الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح الآية [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #223
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (222)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 197 إلى صـ 202


    والتحقيق : أن مفرد الصالحات في قوله : يعملون الصالحات ، وقوله : [ ص: 197 ] وعملوا الصالحات [ 2 \ 25 ] ، ونحو ذلك - أنه : صالحة ، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة ; كإطلاق اسم الجنس لتناسي الوصفية ، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مرادا بها الفعلة الطيبة .

    ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك ، قول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم :


    بنت الأمين جزاك الله صالحة وكل بعل سيثني بالذي علما


    وقول الحطيئة :


    كيف الهجاء ولا تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني


    وسئل أعرابي عن الحب فقال :


    الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن


    وقوله في هذه الآية الكريمة : أن لهم أجرا حسنا ، أي وليبشرهم بأن لهم أجرا حسنا . الأجر : جزاء العمل ، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر : هو الجنة . ولذا قال : ماكثين فيه [ 18 \ 3 ] ، وذكر الضمير في قوله : فيه ; لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر ، وإن كان المراد بالأجر الجنة . ووصف أجرهم هنا بأنه حسن ، وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة ، كقوله : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين - إلى قوله - ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 13 - 16 ] ، وكقوله : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 56 \ 39 - 40 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا معلومة .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ماكثين فيه أبدا ، أي خالدين فيه بلا انقطاع .

    وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة ، كقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي غير مقطوع ، وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، أي ما له من انقطاع وانتهاء ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] ، وقوله : والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] ، [ ص: 198 ] أي ينذرهم بأسا شديدا ، من لدنه أي من عنده كما تقدم . وهذا من عطف الخاص على العام ; لأن قوله : لينذر بأسا شديدا من لدنه شامل للذين قالوا اتخذ الله ولدا ، ولغيرهم من سائر الكفار .

    وقد تقرر في فن المعاني : أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة من الإطناب المقبول ، تنزيلا للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات .

    ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى : وملائكته ورسله وجبريل الآية [ 2 \ 98 ] ، وقوله : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح [ 33 \ 7 ] .

    ومثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها ، فإن الذين قالوا اتخذ الله ولدا امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء ، ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم .

    والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جدا . كقوله هنا : كبرت كلمة تخرج من أفواههم [ 18 \ 5 ] الآية ، وكقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 92 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .

    وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - ثلاثة أصناف من الناس : اليهود ، والنصارى ، قال تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم الآية [ 9 \ 30 ] ، والصنف الثالث مشركو العرب ; كما قال تعالى عنهم : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، والآيات بنحوها كثيرة معلومة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما لهم به من علم ولا لآبائهم [ 18 \ 5 ] ، يعني أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به ; لأنه مستحيل .

    والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه ; ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 \ 57 ] ; لأن ظلمهم [ ص: 199 ] لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلا .

    فنفيه لا يدل على إمكانه ، ومن هذا القبيل قول المنطقيين : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، كما بيناه في غير هذا الموضع .

    وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بينه في مواضع أخر ، كقوله : وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون [ 6 \ 100 ] ، وقوله في آبائهم : أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : كبرت كلمة تخرج من أفواههم [ 18 \ 5 ] يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولدا أمر كبير عظيم ; كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفا ، كقوله : إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا الآية [ 19 \ 90 ] ، وكفى بهذا كبرا وعظما .

    وقال بعض علماء العربية : إن قوله : كبرت كلمة معناه التعجب ، فهو بمعنى ما أكبرها كلمة ، أو أكبر بها كلمة .

    والمقرر في علم النحو : أن " فعل " بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح ، فتكون من باب نعم وبئس ، ومنه قوله تعالى : كبرت كلمة الآية . وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله :


    واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا


    وقوله " كنعم " أي اجعله من باب " نعم " فيشمل بئس ، وإذا تقرر ذلك ففاعل " كبر " ضمير محذوف و كلمة نكرة مميزة للضمير المحذوف ، على حد قوله في الخلاصة . ويرفعان مضمرا يفسره مميز كنعم قوما معشره

    والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير : كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها ، وهي قولهم : اتخذ الله ولدا ، وأعرب بعضهم كلمة بأنها حال ، أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم . وليس بشيء .

    [ ص: 200 ] وقال ابن كثير في تفسيره تخرج من أفواههم ، أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ، ولذا قال : إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 5 ] .

    وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن ; كقوله : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم [ 3 \ 167 ] ونحو ذلك من الآيات .

    والكذب : مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال .

    لفظة " كبر " إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع ، كقوله هنا : كبرت كلمة الآية ، وقوله : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ، وقوله : أو خلقا مما يكبر في صدوركم [ 17 \ 51 ] ونحو ذلك .

    وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي ، مفتوحتها في المضارع على القياس ، ومن ذلك قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ 4 \ 6 ] .

    وقول المجنون :


    تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب ولم يبد للعينين من ثديها حجم
    صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم


    وقوله في هذا البيت : " صغيرين " شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة كبرت كلمة يعني بالكلمة : الكلام الذي هو قولهم : اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] .

    وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام ، أوضحته آيات أخر ; كقوله : كلا إنها كلمة هو قائلها الآية [ 23 \ 100 ] ، والمراد بها قوله : قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [ 23 \ 99 - 100 ] ، وقوله : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مرادا به الكلام المفيد .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عوجا هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة ، وبفتحها فيما كان منتصبا كالحائط .

    [ ص: 201 ] قال الجوهري في صحاحه : قال ابن السكيت : وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه " عوج " بالفتح ، والعوج - بالكسر - ما كان في أرض أو دين أو معاش ، يقال : في دينه عوج . اهـ .

    وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل عوجا بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس ، إشعارا بأن قيما ليس متصلا بـ عوجا في المعنى ، بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر ، أي جعله قيما كما قدمنا .

    وقرأ أبو بكر عن عاصم من لدنه بإسكان الدال مع إشمامها الضم ، وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ ، وقوله : ويبشر المؤمنين الذين [ 18 \ 2 ] ، قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة ، وقرأه حمزة والكسائي " يبشر " بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين .
    قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا .

    اعلم أولا أن لفظة " لعل " تكون للترجي في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور ، واستظهر أبو حيان في البحر المحيط أن " لعل " في قوله هنا : فلعلك باخع نفسك للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به .

    وقال بعضهم : إن " لعل " في الآية للنهي . وممن قال به العسكري ، وهو معنى كلام ابن عطية كما نقله عنهما صاحب البحر المحيط .

    وعلى هذا القول فالمعنى : لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم . وقيل : هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار . وإتيان " لعل " للاستفهام مذهب كوفي معروف .

    وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى " لعل " أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم .

    وإطلاق " لعل " مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام .

    ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك كثرة ورود النهي صريحا عن ذلك ; كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وقوله : ولا تحزن عليهم [ ص: 202 ] [ 16 \ 127 ] ، وقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

    والباخع : المهلك ; أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ، ومنه قول ذي الرمة :


    ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر


    كما تقدم .

    وقوله : على آثارهم ، قال القرطبي : " آثارهم " جمع أثر ، ويقال إثر . والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك .

    وقال أبو حيان في البحر : ومعنى " على آثارهم " : من بعدهم ، أي بعد يأسك من إيمانهم ، أو بعد موتهم على الكفر ، يقال : مات فلان على أثر فلان ; أي بعده .

    وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم - برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم . والأسف هنا : شدة الحزن . وقد يطلق الأسف على الغضب ; كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 \ 55 ] .

    فإذا حققت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن ما ذكره فيها جل وعلا من شدة حزن نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ومن نهيه له عن ذلك مبين في آيات أخر كثيرة ، كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وكقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] ، وكقوله : ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] ، وكقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، وكقوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] ، وكقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] كما قدمناه موضحا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #224
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (223)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 203 إلى صـ 208

    وقوله في هذه الآية الكريمة : أسفا مفعول من أجله ، أي مهلك نفسك من أجل الأسف . ويجوز إعرابه حالا ; أي في حال كونك آسفا عليهم . على حد قوله في الخلاصة :

    ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
    [ ص: 203 ] قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

    قال الزمخشري في معنى هذه الآية الكريمة : " ما عليها " يعني ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها .

    وقال بعض العلماء : كل ما على الأرض زينة لها من غير تخصيص ، وعلى هذا القول فوجه كل الحيات وغيرها مما يؤذي زينة للأرض ; لأنه يدل على وجود خالقه ، واتصافه بصفات الكمال والجلال ، ووجود ما يحصل به هذا العلم في شيء زينة له .

    وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان المذكورة فيه أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، كقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] الآية ، مع تصريحه بأن البدن داخلة في هذا العموم بقوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 18 \ 36 ] .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] قد صرح في مواضع أخر ببعض الأفراد الداخلة فيه ، كقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] ، أي أرضا بيضاء لا نبات بها ، وقد قدمنا معنى " الصعيد " بشواهده العربية في سورة " المائدة " .

    والجرز : الأرض التي لا نبات بها كما قال تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ومنه قول ذي الرمة :


    طوى النحز والأجراز ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع


    لأن مراده " بالأجراز " الفيافي التي لا نبات فيها ، والأجراز : جمع جرزة ، والجرزة : جمع جرز ، فهو جمع الجمع للجرز ، كما قاله الجوهري في صحاحه .

    قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : وإنا لجاعلون ما عليها [ 18 \ 8 ] من هذه الزينة صعيدا جرزا ، أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة ، في إزالة بهجته وإماطة حسنه ، وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان ، وتجفيف [ ص: 204 ] النبات والأشجار . اهـ .

    وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [ 10 \ 24 ] ، وكقوله تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا [ 18 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 45 ] أي لنختبرهم على ألسنة رسلنا .

    وهذه الحكمة التي ذكرها هنا لجعل ما على الأرض زينة لها ( وهي الابتلاء في إحسان العمل ) بين في مواضع أخر أنها هي الحكمة في خلق الموت والحياة والسموات والأرض ، قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ 67 \ 1 - 2 ] ، وقال تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .

    وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " كما تقدم .

    وهذا الذي أوضحنا من أنه جل وعلا جعل ما على الأرض زينة لها ليبتلي خلقه ، ثم يهلك ما عليها ويجعله صعيدا جرزا - فيه أكبر واعظ للناس ، وأعظم زاجر عن اتباع الهوى ، وإيثار الفاني على الباقي ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " .
    قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا .

    أم [ 18 \ 9 ] ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق ، ومعناها عند الجمهور " بل والهمزة " وعند بعض العلماء بمعنى " بل " فقط ، فعلى القول الأول فالمعنى : بل [ ص: 205 ] أحسبت ، وعلى الثاني فالمعنى : بل حسبت ، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار ، وعلى الثاني فهي للإضراب الانتقالي فقط .

    وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة : أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها ، فليست شيئا عجبا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا ، فإن خلقنا للسموات والأرض ، وجعلنا ما على الأرض زينة لها ، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيدا جرزا ، أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف ، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل ، ثم بعثناهم ، ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة :

    منها أنه قال : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، ثم أتبع ذلك بقوله : أم حسبت أن أصحاب الكهف الآية [ 18 \ 9 ] ، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها .

    ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس ، ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك ، كقوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، وكقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] كما قدمناه مستوفى في سورة " البقرة والنحل " .

    ومن خلق هذه المخلوقات العظام : كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة ، ثم بعثه إياهم ، كما هو واضح .

    والكهف : النقب المتسع في الجبل ، فإن لم يك واسعا فهو غار . وقيل : كل غار في جبل : كهف . وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل ، غريب غير معروف في اللغة .

    واختلف العلماء في المراد بـ الرقيم في هذه الآية على أقوال كثيرة ، قيل : الرقيم اسم كلبهم ، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول :


    وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد


    وعن الضحاك أن الرقيم : بلدة بالروم ، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الكهف ، وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف ، والأقوال فيه كثيرة . وعن ابن عباس أنه قال : لا [ ص: 206 ] أدري ما الرقيم أكتاب أم بنيان ؟ .

    وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن ، أن الرقيم معناه : المرقوم ، فهو " فعيل " بمعنى " مفعول " من : رقمت الكتاب : إذا كتبته ، ومنه قوله تعالى : كتاب مرقوم الآية [ 83 \ 9 ، و 83 \ 20 ] . سواء قلنا : إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به ، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم ، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم ، والعلم عند الله تعالى .

    والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين أحدهما معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال : إن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم ، وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه ، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد ، بعيد كما ترى .

    واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم ، وفي أي محل من الأرض كانوا ، كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن ، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عجبا صفة لمحذوف ، أي شيئا عجبا . أو آية عجبا .

    وقوله : من آياتنا في موضع الحال ، وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا ، وأصل المعنى : كانوا عجبا كائنا من آياتنا ، فلما قدم النعت صار حالا .
    قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف أنهم فتية ، وأنهم أووا إلى الكهف ، وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم الشامل لكل خير ، وهو قوله عنهم : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا [ 18 \ 10 ] .

    وبين في غير هذا الموضع أشياء أخرى من صفاتهم وأقوالهم ; كقوله : [ ص: 207 ] إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى - إلى قوله - ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا [ 18 \ 13 - 16 ] و إذ في قوله هنا : إذ أوى الفتية [ 18 \ 10 ] منصوبة بـ اذكر مقدرا ، وقيل : بقوله : عجبا ، ومعنى قوله : إذ أوى الفتية إلى الكهف [ 18 \ 10 ] ، أي جعلوا الكهف مأوى لهم ومكان اعتصام .

    ومعنى قوله : آتنا من لدنك رحمة ، أي أعطنا رحمة من عندك ، والرحمة هنا تشمل الرزق والهدى والحفظ مما هربوا خائفين منه من أذى قومهم ، والمغفرة .

    والفتية : جمع فتى جمع تكسير ، وهو من جموع القلة ، ويدل لفظ الفتية على قلتهم ، وأنهم شباب لا شيب ، خلافا لما زعمه ابن السراج من : أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير ، وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة ، أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :


    أفعلة أفعل ثم فعله كذاك أفعال جموع قلة


    والتهيئة : التقريب والتيسير ، أي يسر لنا وقرب لنا من أمرنا رشدا ، والرشد : الاهتداء والديمومة عليه . و من في قوله : من أمرنا فيها وجهان : أحدهما أنها هنا للتجريد ، وعليه فالمعنى : اجعل لنا أمرنا رشدا كله ، كما تقول : لقيت من زيد أسدا . ومن عمرو بحرا .

    والثاني أنها للتبعيض ، وعليه فالمعنى : واجعل لنا بعض أمرنا ; أي وهو البعض الذي نحن فيه من مفارقة الكفار ، رشدا ، حتى نكون بسببه راشدين مهتدين .
    قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عددا ، ولم يبين قدر هذا العدد هنا ، ولكنه بينه في موضع آخر وهو قوله : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] .

    وضربه جل وعلا على آذانهم في هذه الآية كناية عن كونه أنامهم ، ومفعول " ضربنا " محذوف ، أي ضربنا على آذانهم حجابا مانعا من السماع فلا يسمعون شيئا يوقظهم ، والمعنى : أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات .

    وقوله : سنين عددا على حذف مضاف ; أي ذات عدد ، أو مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي سنين معدودة ، وقد ذكرنا الآية المبينة لقدر عددها بالسنة القمرية [ ص: 208 ] والشمسية ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] .

    وقال أبو حيان في البحر في قوله : فضربنا على آذانهم [ 18 \ 11 ] عبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ، ومنه : وضربت عليهم الذلة [ 2 \ 61 ] ، وضرب الجزية وضرب البعث ، وقال الفرزدق :

    ضرب عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

    وقال الأسود بن يعفر :

    ومن الحوادث لا أبا لك أنني
    ضربت علي الأرض بالأسداد

    وقال آخر :


    إن المروءة والسماحة والندى
    في قبة ضربت على ابن الحشرج


    وذكر الجارحة التي هي الآذان ( إذ هي يكون منها السمع ) لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع ، وفي الحديث : " ذلك رجل بال الشيطان في أذنه " ; أي استثقل نومه جدا حتى لا يقوم بالليل . اهـ كلام أبي حيان .
    قوله تعالى : ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له ، ولم يبين هنا شيئا عن الحزبين المذكورين .

    وأكثر المفسرين على أن أحد الحزبين هم أصحاب الكهف ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وقيل : هما حزبان من أهل المدينة المذكورة ، كان منهم مؤمنون وكافرون ، وقيل : هما حزبان من المؤمنين في زمن أصحاب الكهف . اختلفوا في مدة لبثهم ، قاله الفراء : وعن ابن عباس : الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب ، وأصحاب الكهف حزب ، إلى غير ذلك من الأقوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #225
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (224)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 209 إلى صـ 214


    والذي يدل عليه القرآن : أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك في قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم [ 18 \ 19 ] ، وكأن الذين [ ص: 209 ] قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول ، ولقائل أن يقول : قوله عنهم : ربكم أعلم بما لبثتم يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم ، والله تعالى أعلم .

    وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافي العلم ، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله : ولبثوا في كهفهم الآية [ 8 \ 25 ] ، ثم أمره برد العلم إليه في قوله : قل الله أعلم بما لبثوا الآية [ 18 \ 26 ] .

    وقوله : بعثناهم أي من نومتهم الطويلة ، والبعث : التحريك من سكون ، فيشمل بعث النائم والميت ، وغير ذلك .

    وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع ، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى ، فإنا نبينها ، ومثلنا لذلك ، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس : أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ، وقد بين لذلك حكما أخر في غير هذا الموضع .

    منها أن يتساءلوا عن مدة لبثهم ; كقوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الآية [ 18 \ 19 ] .

    ومنها إعلام الناس أن البعث حق ، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك ، وذلك في قوله : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها الآية [ 18 \ 21 ] .

    واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثم بعثناهم لنعلم الآية ، لا يدل على أنه لم يكن عالما بذلك قبل بعثهم ، وإنما علم بعد بعثهم ، كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة ، بل هو جل وعلا عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثرة .

    وقد قدمنا أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علما جديدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، قوله تعالى في آل عمران : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] ، فقوله : [ ص: 210 ] والله عليم بذات الصدور بعد قوله : وليبتلي دليل واضح في ذلك .

    وإذا حققت ذلك فمعنى لنعلم أي الحزبين أي نعلم ذلك علما يظهر الحقيقة للناس ، فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك دون خلقه .

    واختلف العلماء في قوله : أحصى فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و " أمدا " مفعوله ، و " ما " في قوله : " لما لبثوا " مصدرية ، وتقرير المعنى على هذا : لنعلم أي الحزبين ضبط أمدا للبثهم في الكهف .

    وممن اختار أن أحصى فعل ماض : الفارسي والزمخشري وابن عطية ، وغيرهم .

    وذهب بعضهم إلى أن أحصى صيغة تفضيل ، و " أمدا " تمييز ، وممن اختاره الزجاج والتبريزي ، وغيرهما . وجوز الحوفي وأبو البقاء الوجهين .

    والذين قالوا : إن أحصى فعل ماض ، قالوا : لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل ، لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياسا إلا من الثلاثي ، و " أحصى " رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياسا ، قالوا : وقولهم : ما أعطاه وما أولاه للمعروف ، وأعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق - شاذ لا يقاس عليه ، فلا يجوز حمل القرآن عليه .

    واحتج الزمخشري في الكشاف أيضا لأن أحصى ليست صيغة تفضيل بأن أمدا لا يخلو : إما أن ينتصب بـ " أفعل " فـ " أفعل " لا يعمل ، وإما أن ينتصب بـ لبثوا فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديدا على ذلك القول ، وقال : فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى كما أضمر في قوله :


    وأضرب منا بالسيوف القوانسا


    أي نضرب القوانس - فقد أبعدت المتناول وهو قريب ؛ حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا ، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره . انتهى كلام الزمخشري .

    وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله ، قالوا : لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي ، ولا نسلم أيضا لأنها لا تعمل .

    وحاصل تحرير المقام في ذلك أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من " أفعل " كما [ ص: 211 ] هنا ، أو لا تصاغ منه - ثلاثة مذاهب لعلماء النحو :

    الأول : جواز بنائها من " أفعل " مطلقا ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عنه أبو حيان في البحر .

    والثاني : لا يبنى منه مطلقا ، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه ، وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :


    وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر


    كما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله : فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [ 17 \ 72 ] .

    الثالث : تصاغ من " أفعل " إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة ; كـ " أظلم الليل " و : " أشكل الأمر " لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها ، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور ، وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو ، وأما قول الزمخشري : فأفعل لا يعمل ، فليس بصحيح ; لأن صيغة التفضيل تعمل في التمييز بلا خلاف ، وعليه درج في الخلاصة بقوله :


    والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا


    و أمدا تمييز كما تقدم ; فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه .

    وذهب الطبري إلى أن : أمدا منصوب بـ لبثوا ، وقال ابن عطية : إن ذلك غير متجه .

    وقال أبو حيان : قد يتجه ذلك ; لأن الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية . و ما بمعنى الذي ، و أمدا منتصب على إسقاط الحرف ; أي لما لبثوا من أمد ، أي مدة ، ويصير " من أمد " تفسيرا لما انبهم في لفظ ما لبثوا كقوله : ما ننسخ من آية [ 2 \ 106 ] ، ما يفتح الله للناس من رحمة [ 35 \ 2 ] ، ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل .

    قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :


    إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد


    [ ص: 212 ] وقد قدمنا في سورة " النساء " أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقا ، ولكن نصب قوله : أمدا بقوله : لبثوا غير سديد كما ذكره الزمخشري وابن عطية ، وكما لا يخفى . اهـ .

    وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل ، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي :


    فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
    أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا


    بأن " القوانس " مفعول به لصيغة التفضيل التي هي " أضرب " قالوا : ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ، ومن هنا قال بعض النحويين : إن من في قوله تعالى : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله [ 6 \ 117 ] ، منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول ; لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها ، فلا مانع من عملها عمله ; ألا ترى أن قوله : وأضرب منا بالسيوف القوانسا ، معناه : يزيد ضربنا بالسيوف القوانس على ضرب غيرنا ، كما هو واضح . وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون أمدا منصوب بـ أحصى نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل ، وإن كان القائلون بأن أحصى صيغة تفضيل أعربوا أمدا بأنه تمييز .

    تنبيه

    فإن قيل : ما وجه رفع أي من قوله : لنعلم أي الحزبين أحصى الآية ، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به ؟ فالجواب أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها ، أن أي فيها معنى الاستفهام ، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه :
    وإن ولا لام ابتداء أو قسم كذا والاستفهام ذا له انحتم


    ومنها ما ذكره الفخر الرازي وغيره : من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم ، ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله : لنعلم في لفظة أي بل بقيت على ارتفاعها ، ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى .

    [ ص: 213 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية : أن لفظة أي موصولة استفهامية . و أي مبنية لأنها مضافة ، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة :


    أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف


    ولبنائها لم يظهر نصبها ، وتقدير المعنى على هذا : لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا ونميزه عن غيره ، و أحصى صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه ; نعم ، للمخالف أن يقول : إن صيغة التفضيل تقتضي بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل ، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها ، وهذا مما يقوي قول من قال : إن أحصى فعل ، والعلم عند الله تعالى .

    فإن قيل : أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصي أمد اللبث من غيره ، حتى يكون علة غائية لقوله : ثم بعثناهم لنعلم الآية ، وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضا ، حتى يكون علة غائية لقوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ؟ .

    فالجواب أنا لم نر من تعرض لهذا ، والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمدا لما لبثوا ، ومساءلة بعضهم بعضا عن ذلك ، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية ، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم ، لم يتغير لهم حال ، وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته ، وعلى البعث بعد الموت ، ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائية ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى

    [ 18 \ 13 ] . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق ، ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم ، وأن الله جل وعلا زادهم هدى .

    ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى ; لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان .

    وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقوله : والذين جاهدوا فينا [ ص: 214 ] لنهدينهم سبلنا الآية [ 29 \ 69 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا الآية [ 8 \ 29 ] ، وقوله : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] ، وقوله تعالى : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم الآية [ 48 \ 4 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد ، مفهوم منها أنه ينقص أيضا ، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك ، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها ، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا .

    أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر ، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق ، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم ، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به ، ولا ماء ولا طعام .

    ويفهم من هذه الآية الكريمة : أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه ، ويثبته على تحمل الشدائد ، والصبر الجميل .

    وقد أشار تعالى إلى وقائع من هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله في أهل بدر مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا الآية [ 8 \ 11 - 12 ] ، وكقوله في أم موسى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 \ 10 ] .

    وأكثر المفسرين على أن قوله : إذ قاموا أي بين يدي ملك بلادهم ، وهو ملك جبار يدعو إلى عبادة الأوثان ، يزعمون أن اسمه : دقيانوس .

    وقصتهم مذكورة في جميع كتب التفسير ، أعرضنا عنها لأنها إسرائيليات . وفي قيامهم المذكور هنا أقوال أخر كثيرة ، والعامل في قوله : " إذ " هو " ربطنا " على قلوبهم حين قاموا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #226
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ




    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (225)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 215 إلى صـ 220



    قوله تعالى : فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا

    [ ص: 215 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم ربهم هدى ، قالوا : إن ربهم هو رب السموات والأرض ، وأنهم لن يدعوا من دونه إلها ، وأنهم لو فعلوا ذلك قالوا شططا ، أي قولا ذا شطط ، أو هو من النعت بالمصدر للمبالغة ; كأن قولهم هو نفس الشطط ، والشطط : البعد عن الحق والصواب . وإليه ترجع أقوال المفسرين ; كقول بعضهم " شططا " : جورا ، تعديا ، كذبا ، خطأ ، إلى غير ذلك من الأقوال .

    وأصل مادة الشطط : مجاوزة الحد ، ومنه أشط في السوم : إذا جاوز الحد ، ومنه قوله تعالى : ولا تشطط الآية [ 38 \ 22 ] ، أو البعد ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :


    تشط غدا دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد


    ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي ، ومنه قول الأعشى :


    أتنتهون وإن ينهى ذوي الشطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل


    وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن من أشرك مع خالق السموات والأرض معبودا آخر ، فقد جاء بأمر شطط بعيد عن الحق والصواب في غاية الجور والتعدي ; لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود ; لأن الذي لا يقدر على خلق غيره مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه ويرزقه ويدبر شئونه .

    وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر كثيرة ، كقوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] ، وقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده جل وعلا ، وقوله جل وعلا : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وقوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : لقد قلنا إذا شططا ، أي إذا دعونا من [ ص: 216 ] دونه إلها ، فقد قلنا شططا .
    قوله تعالى : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين .

    " لولا " في هذه الآية الكريمة للتحضيض ، وهو الطلب بحث وشدة ، والمراد بهذا الطلب التعجيز ; لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله ، والمراد بالسلطان البين : الحجة الواضحة .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من تعجيزهم عن الإتيان بحجة على شركهم وكفرهم ، وإبطال حجة المشركين على شركهم ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] ، وقوله تعالى : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] ، وقوله تعالى منكرا عليهم : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] ، وقوله جل وعلا : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] ، وقوله تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا [ 35 \ 40 ] ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ 23 \ 117 ] ، والآيات الدالة على أن المشركين لا مستند لهم في شركهم إلا تقليد آبائهم الضالين ، كثيرة جدا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : " هؤلاء " مبتدأ ، و " قوما " قيل عطف بيان ، والخبر جملة " اتخذوا " ، وقيل " قومنا " خبر المبتدأ ، وجملة " اتخذوا في محل حال ، والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .

    قوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .

    أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب بادعاء أن له شريكا ، كما افتراه عليه قوم أصحاب الكهف ، كما قال عنهم أصحاب الكهف : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة الآية [ 18 \ 15 ] .

    وهذا المعنى الذي ذكره هنا من أن افتراء الكذب على الله بجعل الشركاء له هو أعظم الظلم - جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله : فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه الآية [ 39 \ 32 ] ، وقوله : [ ص: 217 ] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين [ 11 \ 18 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
    قوله تعالى : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا .

    " إذ " في قوله : وإذ اعتزلتموهم للتعليل ، على التحقيق ، كما قاله ابن هشام ، وعليه فالمعنى : ولأجل اعتزالكم قومكم الكفار وما يعبدونه من دون الله ، فاتخذوا الكهف مأوى ومكان اعتصام ، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ، وهذا يدل على أن اعتزال المؤمن قومه الكفار ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته .

    وهذا المعنى يدل عليه أيضا قوله تعالى في نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 48 - 50 ] واعتزالهم إياهم هو مجانبتهم لهم ، وفرارهم منهم بدينهم .

    وقوله : وما يعبدون إلا الله ، اسم موصول في محل نصب ، معطوف على الضمير المنصوب في قوله : اعتزلتموهم ، أي واعتزلتم معبوديهم من دون الله ، وقيل : " ما " مصدرية ، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم غير الله تعالى ، والأول أظهر .

    وقوله : إلا الله ، قيل : هو استثناء متصل ، بناء على أنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، وقيل : هو استثناء منقطع ; بناء على القول بأنهم كانوا لا يعبدون إلا الأصنام ، ولا يعرفون الله ولا يعبدونه .

    وقوله : مرفقا أي ما ترتفقون به ، أي تنتفعون به ، وقرأه نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء مع تفخيم الراء ، وقرأه باقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء وترقيق الراء ، وهما قراءتان ولغتان في ما يرتفق به ، وفي عضو الإنسان المعروف ، وأنكر الكسائي في " المرفق " بمعنى عضو الإنسان فتح الميم وكسر الفاء ، وقال : هو بكسر الميم وفتح الفاء ، ولا يجوز غير ذلك .

    وزعم ابن الأنباري أن " من " في قوله : ويهيئ لكم من أمركم بمعنى البدلية ، أي يهيئ لكم بدلا من " أمركم " الصعب مرفقا : وعلى هذا الذي زعم غاية ; كقوله [ ص: 218 ] تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي بدلا منها وعوضا عنها ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


    فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان


    أي بدلا من ماء زمزم ، والله تعالى أعلم .

    ومعنى : ينشر لكم : يبسط لكم : كقوله : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] .

    وقوله : ويهيئ ; أي ييسر ويقرب ويسهل .
    قوله تعالى : وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله .

    اعلم أولا أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول ، وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر .

    أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه ، فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف ، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف ، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها ، على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى .

    وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته ، فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله ، إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة ، كرامة لهؤلاء القوم الصالحين ، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا .

    والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى : ذلك من آيات الله [ 18 \ 17 ] ، إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا ، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه : ذلك من آيات الله . وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة ; فمعنى تزاور الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها ، وقرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها هو أن الله يقلص ضوءها عنهم ، ويبعده إلى جهة اليمين عند الطلوع ، وإلى جهة الشمال عند الغروب ، والله جل وعلا قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء ، فإذا علمت هذا فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف ، وجزم [ ص: 219 ] ابن كثير في تفسيره بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال ، قال : لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين ، أي يتقلص الفيء يمنة . كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : تزاور ، أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان ، ولهذا قال تعالى : وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [ 18 \ 17 ] ، أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب .

    وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا وشمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد . انتهى كلام ابن كثير .

    وقال الفخر الرازي في تفسيره : أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه ، انتهى كلام الرازي . وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية : وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية ، وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستورا من المطر .

    قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعا متسعا في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم ، انتهى الغرض من كلام أبي حيان . والمقنأة : المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ، إلى غير ذلك من أقوال العلماء .

    والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا .

    وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة الزجاج ، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما ، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة .

    [ ص: 220 ] وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره : ويؤيد القول الأول قوله تعالى : ذلك من آيات الله ، فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة ، أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :


    ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار


    انتهى كلام الشوكاني .

    ومعلوم أن الفجوة : هي المتسع . وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور ، وقول الآخر :


    ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل


    ومنه الحديث : " فإذا وجد فجوة نص " .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وترى الشمس إذا طلعت ، أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم ، والمعنى : أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك ، لا أن المخاطب رآهم بالفعل ، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم ، وأصل مادة التزاور : الميل ، فمعنى " تزاور " : تميل . والزور : الميل ، ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق . ومنه الزيارة ; لأن الزائر يميل إلى المزور ، ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته :


    فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم


    وقول عمر بن أبي ربيعة :


    وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال حباب وشخصي خشية الحي أزور


    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذات اليمين أي جهة اليمين ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين . وقال أبو حيان في البحر : وذات اليمين : جهة يمين الكهف ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين ، يعني يمين الداخل إلى الكهف ، أو يمين الفتية . اهـ ، وهو منصوب على الظرف .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #227
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (226)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 221 إلى صـ 226

    وقوله تعالى : وإذا غربت تقرضهم ، من القرض بمعنى القطيعة والصرم ; أي [ ص: 221 ] تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم ، وهذا المعنى معروف من كلام العرب ، ومنه قول غيلان ذي الرمة :


    نظرت بجرعاء السبية نظرة ضحى وسواد العين في الماء شامس
    إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس


    فقوله : " يقرضن أقواز مشرف " ، أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال ، وعن أيمانهن الفوارس ، وهو موضع أو رمال الدهناء ، والأقواز : جمع قوز - بالفتح - وهو العالي من الرمل كأنه جبل ، ويروى " أجواز مشرف " جمع جوز ، من المجاز بمعنى الطريق . وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى : تقرضهم خلافا لمن زعم أن معنى تقرضهم : تقطعهم من ضوئها شيئا ثم يزول سريعا كالقرض يسترد ، ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة ، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن .

    قال أبو حيان في البحر : ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعيا ، فتكون التاء في قوله : " تقرضهم " مضمومة ، لكن دل فتح التاء من قوله " تقرضهم " على أنه من القرض بمعنى القطع ، أي تقطع لهم من ضوئها شيئا ، وقد علمت أن الصواب القول الأول ، وقد قدمنا أن الفجوة : المتسع .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : تزاور عن كهفهم ، فيه ثلاث قراءات سبعيات :

    قرأه ابن عامر الشامي " تزور " بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء ، على وزن تحمر ، وهو على هذه القراءة من الازورار بمعنى الميل ; كقول عنترة المتقدم :


    فازور من وقع القنا . . . . . . . . . . .
    البيت

    وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف ، وعلى هذه القراءة فأصله " تتزاور " فحذفت منه إحدى التاءين ، على حد قوله في الخلاصة :
    وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر


    وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري : " تزاور " بتشديد الزاي بعدها ألف ، وأصله " تتزاور " أدغمت فيه التاء في الزاي ، وعلى هاتين القراءتين ( أعني قراءة حذف إحدى التاءين ، وقراءة إدغامها في الزاي ) فهو من التزاور بمعنى الميل أيضا [ ص: 222 ] وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا ، وكقولهم : سافر وعاقب وعافى .

    وعلى قول من قال : إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف ، فالإشارة في قوله : ذلك من آيات الله ، راجعة إلى ما ذكر من حديثهم ، أي ذلك المذكور من هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، وإيوائهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم - من آيات الله . وأصل الآية عند المحققين " أيية " بثلاث فتحات ، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا ، والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير ; لأن التغير عادة أكثر في الأواخر ، كما في طوى ونوى ، ونحو ذلك . وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


    وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق


    والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضا ، أما إطلاقاها في اللغة فالأول منهما : أنها تطلق بمعنى العلامة ، وهو الإطلاق المشهور ، ومنه قوله تعالى : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الآية [ 2 \ 248 ] ، وقول عمر بن أبي ربيعة :


    بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر


    يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله :


    ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر


    وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله :


    توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع


    ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده :
    رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع


    وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم ، ومنه قول برج بن مسهر أو غيره :


    خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا


    فقوله : " بآياتنا " أي بجماعتنا .

    [ ص: 223 ] وأما إطلاقها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية ، كقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] ، أي علامات كونية قدرية ، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا ، والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة .

    وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية ، كقوله : رسولا يتلو عليكم آيات الله الآية [ 65 \ 11 ] ونحوها من الآيات .

    والآية الشرعية الدينية قيل : هي من الآية بمعنى العلامة لغة ، لأنها علامات على صدق من جاء بها ، أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها .

    وقيل : من الآية ، بمعنى الجماعة ، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن .
    قوله تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

    بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا ، فمن هداه فلا مضل له ، ومن أضله فلا هادي له .

    وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا الآية [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

    ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن : بطلان مذهب القدرية ، أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر ، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد ، سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئته ! وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! وسيأتي بسط [ ص: 224 ] هذا المبحث إن شاء الله تعالى .

    وقد أوضحنا أيضا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، وقوله : فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] ، أي لن يكون بينه وبينه سبب للموالاة يرشده إلى الصواب والهدى ، أي لن يكون ذلك ; لأن من أضله الله فلا هادي له ، وقوله : فهو المهتد قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو ، وبقية السبعة قرءوه بحذف الياء في الحالين .
    قوله تعالى : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود .

    الحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ : جمع يقظ - بكسر القاف وضمها - ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :


    فلما رأت من قد تنبه منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر


    والرقود : جمع راقد وهو النائم ، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظا والحال أنهم رقود ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، وقال بعض العلماء : سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة ، وقيل : لكثرة تقلبهم ، وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده : ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال [ 18 \ 18 ] ، وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه ، ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه .

    وقوله في هذه الآية : وتحسبهم ، قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة ، وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، وهما قراءتان سبعيتان ، ولغتان مشهورتان ، والفتح أقيس والكسر أفصح .
    قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد

    ، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ " الوصيد " ، فقيل : هو فناء للبيت ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل الوصيد : الباب ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . وقيل : الوصيد العتبة ، وقيل الصعيد ، والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب ، ويقال له " أصيد " أيضا ; لأن الله يقول : إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 8 ] ، أي مغلقة مطبقة ، وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد ، وهو الباب من أبوابها ، ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر :


    تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

    [ ص: 225 ] وقول ابن قيس الرقيات :


    إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقا مؤصدا عليه الحجاب


    فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق ; لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب ، ويقال فيه أصيد ، وعلى اللغتين القراءتان في قوله : " مؤصدة " مهموزا من الأصيد . وغير مهموز من الوصيد .

    ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي ، وقيل زهير :


    بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر


    أي لا يسد بابها علي ، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي ; كقول الآخر :


    ولا ترى الضب بها ينجحر


    فإن قيل : كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية ، والكهف غار في جبل لا باب له ؟

    فالجواب : أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه ; فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابا ، ومن قال : الوصيد : الفناء ، لا يخالف ما ذكرنا ; لأن فناء الكهف هو بابه ، وقد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك : أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه .

    وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة : إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي ، واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة ، كقراءة " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، وقراءة " وكالئهم باسط ذراعيه " .

    وقوله جل وعلا : باسط ذراعيه قرينة على بطلان ذلك القول ; لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي ، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " ، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب ، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي ، وقراءة " وكالئهم " بالهمزة لا تنافي كونه كلبا ; لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم ، والكلاءة : الحفظ .

    فإن قيل : ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو " باسط " في مفعوله الذي هو " ذراعيه " والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة " ال " لا يعمل إلا إذا كان واقعا في الحال أو المستقبل ؟

    [ ص: 226 ] فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية ، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون [ 2 \ 72 ] .

    واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب ، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم ، يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن . اهـ .

    ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال : إني أحب الله ورسوله : " أنت مع من أحببت " متفق عليه من حديث أنس .

    ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم ، كما بينه الله تعالى في سورة " الصافات " في قوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين [ 37 \ 51 ] - إلى قوله - قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين الآية [ 37 \ 56 \ 57 ] .

    وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم ، فيقول بعضهم : اسمه قطمير ، ويقول بعضهم : اسمه حمران ، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته .

    ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .

    وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائما ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه .

    وقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ 6 \ 145 ] حكم أكل لحم الكلب وبيعه ، وأخذ قيمته إن قتل ، وما يجوز اقتناؤه منها وما لا يجوز ، وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه .
    قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #228
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (227)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 227 إلى صـ 232

    ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه بعث [ ص: 227 ] أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم ، أي ليسأل بعضهم بعضا عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة ، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يوما أو بعض يوم ، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا .

    ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر ، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية ، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية ، وذلك في قوله تعالى : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] كما تقدم .

    قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه .

    في قوله في هذه الآية " أزكى " قولان للعلماء .

    أحدهما أن المراد بكونه " أزكى " أطيب لكونه حلالا ليس مما فيه حرام ولا شبهة .

    والثاني أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر ، كقولهم : زكا الزرع : إذا كثر ، وكقول الشاعر :


    قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب

    أي أكثر من ثلاثة .

    والقول الأول هو الذي يدل له القرآن ; لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله به المؤمنين كما أمر المرسلين ، قال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا الآية [ 23 \ 51 ] ، وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 2 \ 172 ] ، ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة ; كقوله : قد أفلح من تزكى الآية [ 17 \ 14 ] ، وقوله : قد أفلح من زكاها الآية [ 91 \ 9 ] ، وقوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وقوله : فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما [ 18 \ 81 ] ، وقوله : أقتلت نفسا زكية بغير نفس الآية [ 18 \ 74 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    فالزكاة في هذه الآيات ونحوها : يراد بها الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي ، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم الحلبة والطهارة ، لا الكثرة . وقد قال بعض العلماء : إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم ، [ ص: 228 ] وكافرون ، وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين ، وأن ذلك هو مرادهم بالزكاة في قوله : أزكى طعاما ، وقيل : كان فيها أهل كتاب ومجوس ، والعلم عند الله تعالى .

    والورق في قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم [ 18 \ 19 ] الفضة ، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفقه :

    المسألة الأولى : جواز الوكالة وصحتها ; لأن قولهم : فابعثوا أحدكم بورقكم الآية ، يدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام . وقال بعض العلماء : لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقا بل مع التقية والخوف ، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجتهم لعلم بهم أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون ، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام .

    قال ابن العربي : وكأن سحنونا تلقاه من أسد بن الفرات ، فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافا منهم وإذلالا لهم ، وهو الحق ، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل . اهـ .

    وقال القرطبي : كلام ابن العربي هذا حسن ، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء ، والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ، ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل ، فجاء يتقاضاه ، فقال : " أعطوه " فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها ، فقال " أعطوه " فقال : أوفيتني أوفى الله لك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خيركم أحسنكم قضاء " لفظ البخاري .

    فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا ، وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه " ، وهذا الحديث خلاف قولهما . اهـ كلام القرطبي .

    ولا يخفى ما فيه ; لأن أبا حنيفة وسحنونا إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن الخصم فقط ، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق .

    [ ص: 229 ] وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها ، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك ، تنبيها بها على غيرها .

    اعلم أولا أن الكتاب والسنة والإجماع كلها دل على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الآية ، وقوله تعالى : والعاملين عليها الآية [ 9 \ 60 ] ، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها .

    واستدل لذلك بعض العلماء أيضا بقوله : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي الآية [ 12 \ 93 ] ، فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيرا .

    واستدل بعضهم لذلك أيضا بقوله تعالى عن يوسف : قال اجعلني على خزائن الأرض الآية [ 12 \ 55 ] ، فإنه توكيل على ما في خزائن الأرض .

    وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها ، من ذلك حديث أبي هريرة المتقدم في كلام القرطبي ، الدال على التوكيل في قضاء الدين ، وهو حديث متفق عليه ، وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .

    ومنها حديث عروة بن أبي الجعد البارقي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به له شاة ، فاشترى له به شاتين : فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، فكان لو اشترى التراب لربح فيه ، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني ، وفيه التوكيل على الشراء .

    ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أردت الخروج إلى خيبر ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني أردت الخروج إلى خيبر . فقال : " إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا ، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته " أخرجه أبو داود والدارقطني ، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له وكيلا .

    ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :

    " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ، وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود .

    ومنها حديث علي رضي الله عنه قال : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وألا أعطي الجازر منها شيئا ، وقال : نحن نعطيه من [ ص: 230 ] عندنا " متفق عليه . وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وعدم إعطاء الجازر شيئا منها .

    ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه فبقي عتود ، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " ضح أنت به " متفق عليه أيضا . وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما طرفا كافيا منها ، ذكرنا بعضه هنا .

    وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه : اشتمل كتاب الوكالة - يعني من صحيح البخاري - على ستة وعشرين حديثا ، المعلق منها ستة ، والبقية موصولة ، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثا ، والبقية خالصة ، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف ، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة ، وحديث وفد هوازن من طريقيه ، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان ، وحديث عقبة بن الحارث في قصة النعيمان ، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار ، والله أعلم . انتهى من فتح الباري . وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها .

    وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ، وقال ابن قدامة في المغني : وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك ، فإنه لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه ، فدعت الحاجة إليها ، انتهى منه . وهذا مما لا نزاع فيه .

    فروع تتعلق بمسألة الوكالة

    الفرع الأول : لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه ، فلا تصح في فعل محرم ; لأن التوكيل من التعاون ، والله يقول : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان الآية [ 5 \ 2 ] .

    ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما ; لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه ، فلا ينوب فيه أحد من أحد ; لأن الله يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الآية [ 51 \ 56 ] .

    أما الحج عن الميت والمعضوب ، والصوم عن الميت فقد دلت أدلة أخر على [ ص: 231 ] النيابة في ذلك ، وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت ; لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي لا بآراء العلماء ، إلا عند عدم النص من الوحي .

    الفرع الثاني : ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها ، سواء كان الموكل حاضرا أو غائبا ، صحيحا أو مريضا . وهذا قول جمهور العلماء ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهم . وقال أبو حنيفة : للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا غير معذور ; لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه ، وقد قدمنا في كلام القرطبي أن هذا قول سحنون أيضا من أصحاب مالك ، واحتج الجمهور بظواهر النصوص ; لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه .

    قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة : أن الصواب فيها التفصيل .

    فإن كان الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما [ 4 \ 105 ] . وإن كان معروفا بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة ، والعلم عند الله تعالى .

    الفرع الثالث : ويجوز التوكيل بجعل وبدون جعل ، والدليل على التوكيل بغير جعل أنه صلى الله عليه وسلم وكل أنيسا في إقامة الحد على المرأة ، وعروة البارقي في شراء الشاة من غير جعل . ومثال ذلك كثير في الأحاديث التي ذكرنا وغيرها .

    والدليل على التوكيل بجعل قوله تعالى : والعاملين عليها [ 9 \ 60 ] فإنه توكيل على جباية الزكاة وتفريقها بجعل منها كما ترى .

    الفرع الرابع : إذا عزل الموكل وكيله في غيبته وتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به ، أو مات موكله وتصرف بعد موته وقبل العلم به ، فهل يمضي تصرفه نظرا لاعتقاده ، أو لا يمضي نظرا للواقع في نفس الأمر ، في ذلك خلاف معروف بين أهل العلم مبني على قاعدة أصولية ، وهي :

    هل يستقل الحكم بمطلق وروده وإن لم يبلغ المكلف ، أو لا يكون ذلك إلا بعد بلوغه للمكلف . ويبنى على الخلاف في هذه القاعدة الاختلاف في خمس وأربعين صلاة التي نسخت من الخمسين بعد فرضها ليلة الإسراء ، هل يسمى ذلك نسخا في حق الأمة [ ص: 232 ] لوروده ، أو لا يسمى نسخا في حقهم ; لأنه وقع قبل بلوغ التكليف بالمنسوخ لهم ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :


    هل يستقل الحكم بالورود أو ببلوغه إلى الموجود
    فالعزل بالموت أو العزل عرض كذا قضاء جاهل للمفترض
    ومسائل الوكالة معروفة مفصلة في كتب فروع المذاهب الأربعة ، ومقصودنا ذكر أدلة ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع ، وذكر أمثلة من فروعها تنبيها بها على غيرها ; لأنها باب كبير من أبواب الفقه .

    المسألة الثانية : أخذ بعض علماء المالكية من هذه الآية الكريمة جواز الشركة ; لأنهم كانوا مشتركين في الورق التي أرسلوها ليشتري لهم طعاما بها .

    وقال ابن العربي المالكي : لا دليل في هذه الآية على الشركة ، لاحتمال أن يكون كل واحد منهم أرسل معه نصيبه منفردا ليشتري له به طعامه منفردا ، وهذا الذي ذكره ابن العربي متجه كما ترى ، وقد دلت أدلة أخرى على جواز الشركة ، وسنذكر إن شاء الله بهذه المناسبة أدلة ذلك ، وبعض مسائله المحتاج إليها ، وأقوال العلماء في ذلك .

    اعلم أولا : أن الشركة جائزة في الجملة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .

    أما الكتاب فقد دلت على ذلك منه آيات في الجملة ، كقوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث [ 4 \ 12 ] ، وقوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض [ 38 \ 24 ] ، عند من يقول : إن الخلطاء : الشركاء ، وقوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية [ 8 \ 41 ] ، وهي تدل على الاشتراك من جهتين .

    وأما السنة فقد دلت على جواز الشركة أحاديث كثيرة سنذكر هنا إن شاء الله طرفا منها ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم ، وإلا فقد عتق عليه ما عتق " . وقد ثبت نحوه في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الرقيق ، وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين بقوله : ( باب الشركة في الرقيق ) ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي المنهال ، قال :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #229
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (228)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 233 إلى صـ 238

    اشتريت أنا [ ص: 233 ] وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة ، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال : فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " ما كان يدا بيد فخذوه ، وما كان نسيئة فذروه "
    . وفيه إقراره صلى الله عليه وسلم البراء وزيدا المذكورين على ذلك الاشتراك ، وترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله : ( باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف ) ، ومن ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أرض خيبر لليهود ليعملوا فيها ويزرعوها ، على أن لهم شطر ما يخرج من ذلك ، وهو اشتراك في الغلة الخارجة منها ، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله ( باب مشاركة الذميين والمشركين في المزارعة ) ومن ذلك ما أخرجه أحمد ، والبخاري عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة . وترجم البخاري لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله : ( باب الشركة في الأرضين وغيرها ) ثم ساق الحديث بسند آخر ، وترجم له أيضا بقوله ( باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها ، فليس لهم رجوع ولا شفعة ) ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا قال : إن الله يقول : " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خانه خرجت من بينهما " قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار في هذا الحديث : صححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان . وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وأعله أيضا ابن القطان بالإرسال ، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب . ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان وسكت أبو داود والترمذي على هذا الحديث ، وأخرج نحوه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام . انتهى منه . ومن المعروف عن أبي داود رحمه الله أنه لا يسكت عن الكلام في حديث إلا وهو يعتقد صلاحيته للاحتجاج . والسند الذي أخرجه به أبو داود الظاهر منه أنه صالح للاحتجاج ، فإنه قال : حدثنا محمد بن سليمان المصيصي ، ثنا محمد بن الزبرقان عن أبي حيان التيمي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رحمه الله - رفعه ، قال : إن الله يقول : " أنا ثالث الشريكين " . إلى آخر الحديث .

    فالطبقة الأولى من هذا الإسناد هي محمد بن سليمان ، وهو أبو جعفر العلاف الكوفي ، ثم المصيصي لقبه " لوين " بالتصغير ، وهو ثقة .

    والطبقة الثانية منه : محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازي ، وهو من رجال [ ص: 234 ] الصحيحين ، وقال في التقريب : صدوق ، ربما وهم .

    والطبقة الثالثة منه هي أبو حيان التيمي ، وهو يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي ، وهو ثقة .

    والطبقة الرابعة منه هي أبوه سعيد بن حيان المذكور الذي قدمنا في كلام الشوكاني : أن ابن القطان أعل هذا الحديث بأنه مجهول ، ورد ذلك بأن ابن حبان قد ذكره في الثقات ، وقال ابن حجر ( في التقريب ) : إنه وثقه العجلي أيضا .

    والطبقة الخامسة منه أبو هريرة ، رفعه .

    فهذا إسناد صالح كما ترى ، وإعلال الحديث بأنه روي موقوفا من جهة أخرى ، يقال فيه : إن الرفع زيادة ، وزيادة العدول مقبولة كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث ، ويؤيده كونه جاء من طريق أخرى عن حكيم بن حزام كما ذكرناه في كلام الشوكاني آنفا .

    ومن ذلك حديث السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك ، لا تداريني ولا تماريني ، أخرجه أبو داود وابن ماجه ، ولفظه : كنت شريكي ونعم الشريك ، كنت لا تداري ولا تماري ، وأخرجه أيضا النسائي والحاكم وصححه ، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على كونه كان شريكا له ، والأحاديث الدالة على الشركة كثيرة جدا .

    وقد قال ابن حجر في فتح الباري في آخر كتاب الشركة ما نصه : اشتمل كتاب الشركة ( يعني من صحيح البخاري ) من الأحاديث المرفوعة على سبعة وعشرين حديثا ، المعلق منها واحد ، والبقية موصولة ، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة عشر حديثا ، والخالص أربعة عشر ، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث النعمان : " مثل القائم على حدود الله " ، وحديثي عبد الله بن هشام ، وحديثي عبد الله بن عمر ، وحديث عبد الله بن الزبير في قصته ، وحديث ابن عباس الأخير ، وفيه من الآثار أثر واحد ، والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر ، وبهذا تعلم كثرة الأحاديث الدالة على الشركة في الجملة .

    وأما الإجماع فقد أجمع جميع علماء المسلمين على جواز أنواع من أنواع الشركات ، وإنما الخلاف بينهم في بعض أنواعها .

    اعلم أولا أن الشركة قسمان : شركة أملاك ، وشركة عقود .

    فشركة الأملاك أن يملك عينا اثنان أو أكثر بإرث أو شراء أو هبة ونحو ذلك ، وهي المعروفة عند المالكية بالشركة الأعمية .

    [ ص: 235 ] وشركة العقود تنقسم إلى شركة مفاوضة ، وشركة عنان ، وشركة وجوه ، وشركة أبدان ، وشركة مضاربة ، وقد تتداخل هذه الأنواع فيجتمع بعضها مع بعض .

    أما شركة الأملاك فقد جاء القرآن الكريم بها في قوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث [ 4 \ 12 ] ، ولا خلاف فيها بين العلماء .

    وأما أنواع شركة العقود فسنذكر إن شاء الله هنا معانيها وكلام العلماء فيها ، وأمثلة للجائز منها تنبيها بها على غيرها ، وما ورد من الأدلة في ذلك .

    اعلم أن شركة المفاوضة مشتقة من التفويض ; لأن كل واحد منهما يفوض أمر التصرف في مال الشركة إلى الآخر ، ومن هذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : وأفوض أمري إلى الله الآية [ 40 \ 44 ] .

    وقيل : أصلها من المساواة ، لاستواء الشريكين فيها في التصرف والضمان ، وعلى هذا فهي من الفوضى بمعنى التساوي ، ومنه قول الأفوه الأودي :


    لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
    إذا تولى سراة الناس أمرهم نما على ذاك أمر القوم وازدادوا


    فقوله : " لا يصلح الناس فوضى " أي لا تصلح أمورهم في حال كونهم فوضى ، أي متساوين لا أشراف لهم يأمرونهم وينهونهم ، والقول الأول هو الصواب ، هذا هو أصلها في اللغة .

    وأما شركة العنان فقد اختلف في أصل اشتقاقها اللغوي ، فقيل : أصلها من عن الأمر يعن - بالكسر والضم - عنا وعنونا : إذا عرض ، ومنه قول امرئ القيس :


    فعن لنا سرب كأن نعاجه عذارى دوار في ملاء مذيل
    قال ابن منظور في اللسان : وشرك العنان وشركة العنان : شركة في شيء خاص دون سائر أموالهما ، كأنه عن لهما شيء فاشترياه واشتركا فيه ، واستشهد لذلك بقول النابغة الجعدي :


    فشاركنا قريشا في تقاها وفي أحسابها شرك العنان
    بما ولدت نساء بني هلال وما ولدت نساء بني أبان
    وبهذا تعلم أن شركة العنان معروفة في كلام العرب ، وأن قول ابن القاسم من [ ص: 436 ] أصحاب مالك : إنه لا يعرف شركة العنان عن مالك ، وأنه لم ير أحدا من أهل الحجاز يعرفها ، وإنما يروى عن مالك والشافعي من أنهما لم يطلقا هذا الاسم على هذه الشركة ، وأنهما قالا :

    هي كلمة تطرق بها أهل الكوفة ليمكنهم التمييز بين الشركة العامة والخاصة من غير أن يكون مستعملا في كلام العرب - كل ذلك فيه نظر لما عرفت أن كان ثابتا عنهم .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له :

    اعلم أن مراد النابغة في بيتيه المذكورين : بما ولدت نساء بني هلال ابن عامر بن صعصعة ، وأن منهم لبابة الكبرى ، ولبابة الصغرى ، وهما أختان ، ابنتا الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال ، وهما أختا ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم .

    أما لبابة الكبرى فهي زوج العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وهي أم أبنائه : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل وبه كانت تكنى ، وفيها يقول الراجز :


    ما ولدت نجيبة من فحل كستة من بطن أم الفضل
    وأما لبابة الصغرى فهي أم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وعمتهما صفية بنت حزن هي أم أبي سفيان بن حرب ، وهذا مراده :


    بما ولدت نساء بني هلال
    وأما نساء بني أبان فإنه يعني أن أبا العاص ، والعاص ، وأبا العيص ، والعيص أبناء أمية بن عبد شمس ، أمهم آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، فهذه الأرحام المختلطة بين العامريين وبين قريش هي مراد النابغة بمشاركتهم لهم في الحسب والتقى شرك العنان .

    وقيل : إن شركة العنان أصلها من عنان الفرس ، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله ، وهو المشهور عند العلماء .

    وقيل هي من المعاناة بمعنى المعارضة ، يقال : عاننته : إذا عارضته بمثل ماله أو فعاله ، فكل واحد من الشريكين يعارض الآخر بماله وفعاله .

    وهي بكسر العين على الصحيح خلافا لمن زعم فتحها ، ويروى عن عياض وغيره ، وادعاء أن أصلها من عنان السماء بعيد جدا كما ترى .

    [ ص: 337 ] وأما شركة الوجوه فأصلها من الوجاهة ، لأن الوجيه تتبع ذمته بالدين ، وإذا باع شيئا باعه بأكثر مما يبيع به الخامل .

    وأما شركة الأبدان فأصلها اللغوي واضح ; لأنهما يشتركان بعمل أبدانهما ، ولذا تسمى شركة العمل ، إذ ليس الاشتراك فيها بالمال ، وإنما هو بعمل البدن .

    وأما شركة المضاربة وهي القراض فأصلها من الضرب في الأرض ; لأن التاجر يسافر في طلب الربح ، والسفر يكنى عنه بالضرب في الأرض ، كما في قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله الآية [ 73 \ 20 ] ، وقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ 4 \ 101 ] .

    فإذا عرفت معاني أنواع الشركة في اللغة ، فسنذكر لك إن شاء الله تعالى هنا معانيها المرادة بها في الاصطلاح عند الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وأحكامها ; لأنهم مختلفون في المراد بها اصطلاحا ، وفي بعض أحكامها .

    أما مذهب مالك في أنواع الشركة وأحكامها فهذا تفصيله :

    اعلم أن شركة المفاوضة جائزة عند مالك وأصحابه ، والمراد بشركة المفاوضة عندهم هو أن يطلق كل واحد منهما التصرف لصاحبه في المال الذي اشتركا فيه غيبة وحضورا ، وبيعا وشراء ، وضمانا وتوكيلا ، وكفالة وقراضا ، فما فعل أحدهما من ذلك لزم صاحبه إذا كان عائدا على شركتهما .

    ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما ، دون ما ينفرد به كل واحد منهما من ماله ، وسواء اشتركا في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما ، وتكون يد كل منهما كيد صاحبه ، وتصرفه كتصرفه ما لم يتبرع بشيء ليس في مصلحة الشركة .

    وسواء كانت المفاوضة بينهما في جميع أنواع المتاجر أو في نوع واحد منها ، كرقيق يتفاوضان في التجارة فيه فقط ، ولكل واحد منهما أن يبيع بالدين ويشتري فيه ويلزم ذلك صاحبه وهذا هو الصواب ، خلافا لخليل في مختصره في الشراء بالدين .

    وقد أشار خليل في مختصره إلى جواز شركة المفاوضة في مذهب مالك مع تعريفها ، وما يستلزمه عقدها من الأحكام بالنسبة إلى الشريكين بقوله : ثم إن أطلقا التصرف وإن بنوع فمفاوضة ، ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء وله أن يتبرع إن استألف به أوخف كإعارة آلة ودفع كسرة ويبضع ويقارد ويودع لعذر وإلا ضمن ، ويشارك في معين ويقبل ويولي ويقبل [ ص: 338 ] المعيب وإن أبى الآخر ، ويقر بدين لمن لا يتهم عليه ، ويبيع بالدين لا الشراء به ، ككتابة وعتق على مال ، وإذن لعبد في تجارة ومفاوضة . وقد قدمنا أن الشراء بالدين كالبيع به ، فللشريك فعله بغير إذن شريكه على الصحيح من مذهب مالك خلافا لخليل . وأما الكتابة والعتق على المال وما عطف عليه فلا يجوز شيء منه إلا بإذن الشريك .

    واعلم أن شركة المفاوضة هذه في مذهب مالك لا تتضمن شيئا من أنواع الغرر التي حرمت من أجلها شركة المفاوضة عند الشافعية ومن وافقهم ; لأن ما استفاده أحد الشريكين المتفاوضين من طريق أخرى كالهبة والإرث ، واكتساب مباح كاصطياد واحتطاب ونحو ذلك لا يكون شيء منه لشريكه ، كما أن ما لزمه غرمه خارجا عن الشركة كأرش جناية ، وثمن مغصوب ونحو ذلك ، لا شيء منه على شريكه ، بل يقتصر كل ما بينهما على ما كان متعلقا بمال الشركة ، فكل منهما وكيل عن صاحبه ، وكفيل عليه في جميع ما يتعلق بمال الشركة ، وهكذا اقتضاه العقد الذي تعاقدا عليه ، فلا موجب للمنع ولا غرر في هذه الشركة عند المالكية ; لأنهم لا يجعلون المتفاوضين شريكين في كل ما اكتسبا جميعا حتى يحصل الغرر بذلك ، ولا متضامنين في كل ما جنيا حتى يحصل الغرر بذلك ، بل هو عقد على أن كل واحد منهما نائب عن الآخر في كل التصرفات في مال الشركة ، وضامن عليه في كل ما يتعلق بالشركة ، وهذا لا مانع منه كما ترى ، وبه تعلم أن اختلاف المالكية والشافعية في شركة المفاوضة خلاف في حال ، لا في حقيقة .

    وأما شركة العنان فهي جائزة عند الأئمة الأربعة ، مع اختلافهم في تفسيرها ، وفي معناها في مذهب مالك قولان ، وهي جائزة على كلا القولين : الأول وهو المشهور أنها هي الشركة التي يشترط كل واحد من الشريكين فيها على صاحبه ألا يتصرف في مال الشركة إلا بحضرته وموافقته ، وعلى هذا درج خليل في مختصره بقوله : وإن اشترطا نفي الاستبداد فعنان ، وهي على هذا القول من عنان الفرس ; لأن عنان كل واحد من الشريكين بيد الآخر فلا يستطيع الاستقلال دونه بعمل ، كالفرس التي يأخذ راكبها بعنانها فإنها لا تستطيع الذهاب إلى جهة بغير رضاه .

    والقول الثاني عند المالكية : أن شركة العنان هي الاشتراك في شيء خاص ، وبهذا جزم ابن رشد ونقله عند المواق في شرح قول خليل : وإن اشترطا نفي الاستبداد إلخ ، وهذا المعنى الأخير أقرب للمعروف في اللغة كما قدمنا عن ابن منظور في اللسان .

    وأما شركة الوجوه فلها عند العلماء معان :





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #230
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (229)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 239 إلى صـ 244

    [ ص: 239 ] الأول منها هو أن يشترك الوجيهان عند الناس بلا مال ولا صنعة ، بل ليشتري كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معا ، فإذا باعا كان الربح الفاضل عن الأثمان بينهما .

    وهذا النوع من شركة الوجوه هو المعروف عند المالكية بشركة الذمم ، وهو فاسد عند المالكية والشافعية ، خلافا للحنفية والحنابلة ، ووجه فساده ظاهر ، لما فيه من الغرر ، لاحتمال أن يخسر هذا ويربح هذا كالعكس ، وإلى فساد هذا النوع من الشركة أشار ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله :


    وفسخها إن وقعت على الذمم ويقسمان الربح حكم ملتزم
    المعنى الثاني من معانيها أن يبيع وجيه مال خامل بزيادة ربح ، على أن يكون له بعض الربح الذي حصل في المبيع بسبب وجاهته ; لأن الخامل لو كان هو البائع لما حصل ذلك الربح ، وهذا النوع أيضا فاسد ; لأنه عوض جاه ، كما قاله غير واحد من أهل العلم .

    والمعنى الثالث أن يتفق وجيه وخامل على أن يشتري الوجيه في الذمة ويبيع الخامل ويكون الربح بينهما ، وهذا النوع أيضا فاسد عند المالكية والشافعية ، لما ذكرنا من الغرر سابقا .

    وأما شركة الأبدان عند المالكية فهي جائزة بشروط ، وهي أن يكون عمل الشريكين متحدا كخياطين ، أو متلازما كأن يغزل أحدهما وينسج الآخر ; لأن النسج لا بد له من الغزل ، وأن يتساويا في العمل جودة ورداءة وبطأ وسرعة ، أو يتقاربا في ذلك ، وأن يحصل التعاون بينهما ، وإلى جواز هذا النوع من الشركة بشروطه أشار خليل في مختصره بقوله :

    وجازت بالعمل إن اتحد أو تلازم وتساويا فيه ، أو تقاربا وحصل التعاون ، وإن بمكانين ، وفي جواز إخراج كل آلة واستئجاره من الآخر ، أو لا بد من ملك أو كراء - تأويلان ، كطبيبين اشتركا في الدواء ، وصائدين في البازين ، [ وهل وإن افترقا رويت عليهما وحافرين بكركاز ومعدن ، ولم يستحق وارثه بقيته وأقطعه الإمام ، وقيد بما لم يبد ، ولزمه ما يقبله صاحبه وإن تفاصلا وألغي مرض كيومين إلخ ] وبهذا تعلم أن شركة الأبدان جائزة عند المالكية في جميع أنواع العمل : من صناعات بأنواعها ، وطب واكتساب مباح ، كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب ، وغير ذلك بالشروط المذكورة ، وقال ابن عاصم في تحفته :


    شركة بمال أو بعمل أو بهما تجوز لا لأجل
    [ ص: 240 ] وبقي نوع معروف عند المالكية من أنواع الشركة يسمى في الاصطلاح بـ " شركة الجبر " وكثير من العلماء يخالفهم في هذا النوع الذي هو " شركة الجبر " .

    وشركة الجبر : هي أن يشتري شخص سلعة بسوقها المعهود لها ، ليتجر بها بحضرة بعض تجار جنس تلك السلعة الذين يتجرون فيها ، ولم يتكلم أولئك التجار الحاضرون ، فإن لهم إن أرادوا الاشتراك في تلك السلعة مع ذلك المشتري أن يجبروه على ذلك ، ويكونون شركاءه في تلك السلعة شاء أو أبى .

    وشركتهم هذه معه جبرا عليه هي " شركة الجبر " المذكورة ، فإن كان اشتراها ليقتنيها لا ليتجر بها ، أو اشتراها ليسافر بها إلى محل آخر ولو للتجارة بها فيه - فلا جبر لهم عليه ، وأشار خليل في مختصره إلى " شركة الجبر " بقوله : وأجبر عليها إن اشترى شيئا بسوقه لا لكفر أو قنية ، وغيره حاضر لم يتكلم من تجاره ، وهل في الزقاق لا كبيته قولان ، وأما شركة المضاربة فهي القراض ، وهو أن يدفع شخص إلى آخر مالا ليتجر به على جزء من ربحه يتفقان عليه ، وهذا النوع جائز بالإجماع إذا استوفى الشروط كما سيأتي إن شاء الله دليله .

    وأما أنواع الشركة في مذهب الشافعي رحمه الله فهي أربعة : ثلاثة منها باطلة في مذهبه ، والرابع صحيح .

    وأما الثلاثة الباطلة فالأول منها " شركة الأبدان " كشركة الحمالين ، وسائر المحترفين : كالخياطين ، والنجارين ، والدلالين ، ونحو ذلك ، ليكون بينهما كسبهما متساويا أو متفاوتا مع اتفاق الصنعة أو اختلافها .

    فاتفاق الصنعة كشركة خياطين ، واختلافها كشركة خياط ونجار ونحو ذلك ، كل ذلك باطل في مذهب الشافعي ، ولا تصح عنده الشركة إلا بالمال فقط لا بالعمل .

    ووجه بطلان شركة الأبدان عند الشافعية هو أنها شركة لا مال فيها ، وأن فيها غررا ; لأن كل واحد منهما لا يدري أيكتسب صاحبه شيئا أم لا ، ولأن كل واحد منهما متميز ببدنه ومنافعه فيختص بفوائده ، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة على أن يكون النسل والدر بينهما ، وقياما على الاحتطاب والاصطياد ، هكذا توجيه الشافعية للمنع في هذا النوع من الشركة .

    وقد علمت فيما مر شروط جواز هذا النوع عند المالكية ، إذ بتوفر الشروط المذكورة [ ص: 241 ] ينتفي الغرر .

    والثاني من الأنواع الباطلة عند الشافعية هو شركة المفاوضة ، وهي عندهم أن يشتركا على أن يكون بينهما جميع كسبهما بأموالهما وأبدانهما ، وعليهما جميع ما يعرض لكل واحد منهما من غرم ، سواء كان بغصب أو إتلاف أو بيع فاسد أو غير ذلك ، ولا شك أن هذا النوع مشتمل على أنواع من الغرر فبطلانه واضح ، وهو ممنوع عند المالكية ، ولا يجيزون هذا ولا يعنونه بـ " شركة المفاوضة " كما قدمنا .

    وقد قال الشافعي رحمه الله في هذا النوع : إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة ، فلا باطل أعرفه في الدنيا . يشير إلى كثرة الغرر والجهالات فيها ، لاحتمال أن يكسب كل واحد منهما كسبا دون الآخر ، وأن تلزم كل واحد منهما غرامات دون الآخر ، فالغرر ظاهر في هذا النوع جدا .

    والثالث من الأنواع الباطلة عند الشافعية : هو " شركة الوجوه " وهي عندهم أن يشتري الوجيهان ليبتاع كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معا ، فإذا باعا كان الفاضل من الأثمان بينهما ، وهذا النوع هو المعروف عند المالكية بـ " شركة الذمم " ، ووجه فساده ظاهر ، لما فيه من الغرر ; لأن كلا منهما يشتري في ذمته ويجعل كل منهما للآخر نصيبا من ربح ما اشترى في ذمته ، مقابل نصيب من ربح ما اشترى الآخر في ذمته ، والغرر في مثل هذا ظاهر جدا ، وبقية أنواع " شركة الوجوه " ذكرناه في الكلام عليها في مذهب مالك ، وكلها ممنوعة في مذهب مالك ومذهب الشافعي ، ولذا اكتفينا بما قدمنا عن الكلام على بقية أنواعها في مذهب الشافعي .

    أما النوع الرابع من أنواع الشركة الذي هو صحيح عند الشافعية فهو " شركة العنان " وهي : أن يشتركا في مال لهما ليتجرا فيه ، ويشترط فيها عندهم صيغة تدل على الإذن في التصرف في مال الشركة ، فلو اقتصرا على لفظ " اشتركنا " لم يكف على الأصح عندهم .

    ويشترط في الشريكين أهلية التوكيل والتوكل ، وهذا الشرط مجمع عليه ، وتصح " شركة العنان " عند الشافعية في المثليات مطلقا دون المقومات وقيل : تختص بالنقد المضروب .

    ويشترط عندهم فيها خلط المالين ، بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر ، والحيلة عندهم في الشركة في العروض هي أن يبيع كل واحد بعض عرضه ببعض عرض الآخر [ ص: 241 ] ويأذن له في التصرف ، ولا يشترط عندهم تساوي المالين ، والربح والخسران على قدر المالين ، سواء تساويا في العمل أو تفاوتا ، وإن شرطا خلاف ذلك فسد العقد ، ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجرة عمله في ماله .

    عقد الشركة المذكورة يسلط كل واحد منهما على التصرف في مال الشركة بلا ضرر ، فلا يبيع بنسيئة ، ولا بغبن فاحش ، ولا يبضعه بغير إذن شريكه ، ولكل منهما فسخها متى شاء .

    وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله فهو أن الشركة تنقسم إلى ضربين :

    شركة ملك ، وشركة عقد .

    فشركة الملك واضحة ، كأن يملكا شيئا بإرث أو هبة ونحو ذلك كما تقدم ، وشركة العقد عندهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

    شركة بالمال ، وشركة بالأعمال ، وشركة بالوجوه ، وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عندهم ينقسم قسمين : مفاوضة ، وعنان ، فالمجموع ستة أقسام .

    أما شركة المفاوضة عندهم فهي جائزة إن توفرت شروطها ، وهي عندهم الشركة التي تتضمن وكالة كل من الشريكين للآخر ، وكفالة كل منهما الآخر ، ولابد فيها من مساواة الشريكين في المال والدين والتصرف .

    فبتضمنها الوكالة يصح تصرف كل منهما في نصيب الآخر .

    وبتضمنها الكفالة يطلب كل منهما بما لزم الآخر .

    وبمساواتهما في المال يمتنع أن يستبد أحدهما بشيء تصح الشركة فيه دون الآخر ، ولذا لو ورث بعد العقد شيئا تصح الشركة فيه كالنقد بطلت المفاوضة ، ورجعت الشركة شركة عنان .

    وبتضمنها المساواة في الدين تمتنع بين مسلم وكافر .

    وبتضمنها المساواة في التصرف تمتنع بين بالغ وصبي ، وبين حر وعبد ، وكل ما اشتراه واحد من شريكي المفاوضة فهو بينهما ، إلا طعام أهله وكسوتهم ، وكل دين لزم أحدهما بتجارة وغصب وكفالة لزم الآخر .

    [ ص: 243 ] ولا تصح عندهم شركة مفاوضة أو عنان بغير النقدين والتبر والفلوس النافقة ، والحيلة في الشركة في العروض عندهم هي ما قدمناه عن الشافعية ، فهم متفقون في ذلك .

    وأما شركة العنان فهي جائزة عند الحنفية ، وقد قدمنا الإجماع على جوازها على كل المعاني التي تراد بها عند العلماء .

    وشركة العنان عند الحنفية هي الشركة التي تتضمن الوكالة وحدها ، ولم تتضمن الكفالة ، وهي : أن يشتركا في نوع بز أو طعام أو في عموم التجارة . ولم يذكر الكفالة .

    ويعلم من هذا أن كل ما اشتراه أحدهما كان بينهما ، ولا يلزم أحدهما ما لزم الآخر من الغرامات ، وتصح عندهم شركة العنان المذكورة مع التساوي في المال دون الربح وعكسه ، إذا كانت زيادة الربح لأكثرهما عملا ; لأن زيادة الربح في مقابلة زيادة العمل وفاقا للحنابلة ، وعند غيرهم لا بد أن يكون الربح بحسب المال ، ولو اشترى أحد الشريكين " شركة العنان " بثمن فليس لمن باعه مطالبة شريكه الآخر ; لأنها لا تتضمن الكفالة بل يطالب الشريك الذي اشترى منه فقط ، ولكن الشريك يرجع على شريكه بحصته ، ولا يشترط في هذه الشركة عندهم خلط المالين ، فلو اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر كان المشترى بينهما ، ويرجع على شريكه بحصته منه .

    وتبطل هذه الشركة عندهم بهلاك المالين أو أحدهما قبل الشراء ، وتفسد عندهم باشتراط دراهم مسماة من الربح لأحدهما ، ويجوز عندهم لكل من شريكي المفاوضة والعنان أن يبضع ويستأجر ، ويودع ويضارب ويوكل ، ويد كل منهما في مال الشركة يد أمانة ، كالوديعة والعارية .

    وأما شركة الأعمال ففيها تفصيل عند الحنفية ، فإن كان العمل من الصناعات ونحوها جازت عندهم شركة الأعمال ، ولا يشترطون اتحاد العمل أو تلازمه خلافا للمالكية كما تقدم فيجوز عند الحنفية : أن يشترك خياطان مثلا ، أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال ، ويكون الكسب بينهما ، وكل عمل يتقبله أحدهما يلزمهما . وإذا عمل أحدهما دون الآخر فما حصل من عمله فهو بينهما ، وإنما استحق فيه الذي لم يعمل لأنه ضمنه بتقبل صاحبه له ، فاستحق نصيبه منه بالضمان .

    وهذا النوع الذي أجازه الحنفية لا يخفى أنه لا يخلو من غرر في الجملة عند اختلاف صنعة الشريكين ، لاحتمال أن يحصل أحدهما أكثر مما حصله الآخر ، فالشروط التي أجاز بها المالكية " شركة الأعمال " أحوط وأبعد من الغرر كما ترى .

    [ ص: 244 ] وأما إن كانت الأعمال من جنس اكتساب المباحات فلا تصح فيها الشركة عند الحنفية ، كالاحتطاب والاحتشاش ، والاصطياد واجتناء الثمار من الجبال والبراري ، خلافا للمالكية والحنابلة .

    ووجه منعه عند الحنفية أن من اكتسب مباحا كحطب أو حشيش أو صيد ملكه ملكا مستقلا ، فلا وجه لكون جزء منه لشريك آخر ; لأنه لا يصح التوكيل فيه ، ومن أجازه قال : إن كل واحد منهما جعل للآخر نصيبا من ذلك المباح الذي يكتسبه في مقابل النصيب الذي يكتسبه الآخر ، والمالكية القائلون بجواز هذا يشترطون اتحاد العمل أو تقاربه ، فلا غرر في ذلك ، ولا موجب للمنع ، وفي اشتراط ذلك عند الحنابلة خلاف كما سيأتي إن شاء الله .

    وأما " شركة الوجوه " التي قدمنا أنها هي المعروفة عند المالكية " بشركة الذمم " وقدمنا منعها عند المالكية والشافعية فهي جائزة عند الحنفية ، سواء كانت مفاوضة أو عنانا ، وقد علمت مما تقدم أن المفاوضة عندهم تتضمن الوكالة والكفالة .

    وأن العنان تتضمن الوكالة فقط ، وإن اشترط الشريكان في " شركة الوجوه " مناصفة المشتري أو مثالثته فالربح كذلك عندهم وبطل عندهم شرط الفضل ; لأن الربح عندهم لا يستحق إلا بالعمل ، كالمضارب ، أو بالمال كرب المال ، أو بالضمان كالأستاذ الذي يتقبل العمل من الناس ويلقيه على التلميذ بأقل مما أخذ ، فيطيب له الفضل بالضمان ، هكذا يقولونه ، ولا يخفى ما في " شركة الوجوه " من الغرر .

    واعلم أن الربح في الشركة الفاسدة على حسب المال إن كانت شركة مال ، وعلى حسب العمل إن كانت شركة عمل ، وهذا واضح ، وتبطل الشركة بموت أحدهما .

    وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله فهي أيضا قسمان : شركة أملاك ، وشركة عقود .

    وشركة العقود عند الحنابلة خمسة أنواع : شركة العنان ، والأبدان ، والوجوه ، والمضاربة ، والمفاوضة .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #231
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (230)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 245 إلى صـ 250

    أما شركة الأبدان فهي جائزة عندهم ، سواء كان العمل من الصناعات أو اكتساب المباحات ، أما مع اتحاد العمل فهي جائزة عندهم بلا خلاف ، وأما مع اختلاف العمل فقال أبو الخطاب : لا تجوز وفاقا للمالكية ، وقال القاضي : تجوز وفاقا للحنفية [ ص: 245 ] في الصناعات دون اكتساب المباحات .

    وإن اشتركا على أن يتقبل أحدهما للعمل ويعمله الثاني والأجرة بينهما صحت الشركة عند الحنابلة والحنفية خلافا لزفر ، والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه عند الحنابلة .

    وأما شركة الوجوه التي قدمنا أنها هي المعروفة بشركة الذمم عند المالكية فهي جائزة أيضا في مذهب الإمام أحمد وفاقا لأبي حنيفة ، وخلافا لمالك والشافعي ، وأما شركة العنان فهي جائزة أيضا عند الإمام أحمد ، وقد قدمنا الإجماع على جوازها ، وهي عندهم : أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما ، وهذه الشركة إنما تجوز عندهم بالدنانير والدراهم ، ولا تجوز بالعروض .

    وأما شركة المفاوضة فهي عند الحنابلة قسمان : أحدهما جائز ، والآخر ممنوع .

    وأما الجائز منهما فهو أن يشتركا في جميع أنواع الشركة ، كأن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان فيصح ذلك ; لأن كل نوع منها يصح على انفراده فصح مع غيره .

    وأما النوع الممنوع عندهم منها فهو أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة ، ويلزم كل واحد منهما ما لزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب ، وقيمة متلف ، وغرامة ضمان ، وكفالة ، وفساد هذا النوع ظاهر لما فيه من الغرر كما ترى .

    وأما شركة المضاربة وهي القراض فهي جائزة عند الجميع وقد قدمنا أنها هي : أن يدفع شخص لآخر مالا يتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها ، وكون الربح في المضاربة بحسب ما اتفقا عليه لا خلاف فيه بين العلماء ، سواء كان النصف أو أقل أو أكثر لرب المال أو للعامل .

    وأما شركة العنان عند الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية ، وشركة المفاوضة عند المالكية فاختلف في نسبة الربح ، فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا بد من كون الربح والخسران بحسب المالين ، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه ، فلهما أن يتساويا في الربح مع تفاضل المالين .

    وحجة القول الأول أن الربح تبع للمال ، فيلزم أن يكون بحسبه ، وحجة القول الأخير أن العمل مما يستحق به الربح ، وقد يكون أحدهما أبصر بالتجارة وأقوى على [ ص: 346 ] العمل من الآخر ، فتزاد حصته لزيادة عمله .

    هذا خلاصة مذاهب الأئمة الأربعة في أنواع الشركة ، وقد علمت أنهم أجمعوا على جواز شركة العنان ، وشركة المضاربة ، وشركة الأملاك ، واختلفوا فيما سوى ذلك ، فأجاز الحنفية والحنابلة شركة الوجوه ، ومنعها المالكية والشافعية .

    وأجاز المالكية والحنفية والحنابلة شركة الأبدان إلا في اكتساب المباحات فقط فلم يجزه الحنفية ، ومنع الشافعية شركة الأبدان مطلقا .

    وأجاز المالكية شركة المفاوضة ، وصوروها بغير ما صورها به المالكية ، وأجاز الحنابلة نوعا من أنواع المفاوضة وصوروه بصورة مخالفة لتصوير غيرهم لها ، ومنع الشافعية المفاوضة كما منعوا شركة الأبدان والوجوه ، وصوروا المفاوضة بصورة أخرى كما تقدم .

    والشافعية إنما يجيزون الشركة بالمثلي مطلقا نقدا أو غيره ، لا بالمقومات .

    والحنفية لا يجيزونها إلا بالنقدين والتبر والفلوس النافقة ، والحنابلة لا يجيزونها إلا بالدنانير والدراهم كما تقدم جميع ذلك .

    وقد بينا كيفية الحيلة في الاشتراك بالعروض عند الشافعية والحنفية ، وعند المالكية تجوز بدنانير من كل واحد منهما ، وبدراهم من كل واحد منهما ، وبدنانير ودراهم من كل واحد منهما ، وبنقد من أحدهما وعرض من الآخر ، وبعرض من كل واحد منهما سواء اتفقا أو اختلفا ، وقيل : إن اتفقا ، لا إن اختلفا ، إلا أن العروض تقوم ، وأما خلط المالين فلا بد منه عند الشافعي رحمه الله حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر كما تقدم ، ويكفي في مذهب مالك أن يكون المالان في حوز واحد ، ولو كان كل واحد من المالين في صرته لم يختلط بالآخر ، ولا يشترط خلط المالين عند الحنفية كما تقدم ، وكذلك لا يشترط خلط المالين عند الحنابلة .

    فتحصل أنه لم يشترط خلط المالين إلا الشافعية ، وأن المالكية إنما يشترطون كون المالين في محل واحد ، كحانوت أو صندوق ، وإن كان كل واحد منهما متميزا عن الآخر .

    فإذا عرفت ملخص كلام العلماء في أنواع الشركة ، فسنذكر ما تيسر من أدلتها ، أما النوع الذي تسميه المالكية " مفاوضة " ويعبر عنه الشافعية والحنابلة بشركة العنان ، فقد [ ص: 247 ] يستدل له بحديث البراء بن عازب الذي قدمناه عن البخاري والإمام أحمد ، فإنه يدل على الاشتراك في التجارة والبيع والشراء لأن المقصود بالاشتراك التعاون على العمل المذكور فينوب كل واحد من الشريكين عن الآخر ، ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة يرفعه ، قال : إن الله يقول " أنا ثالث الشريكين . . . " الحديث المتقدم ، وقد بينا كلام العلماء فيه ، وبينا أنه صالح للاحتجاج ، وهو ظاهر في أنهما يعملان معا في مال الشركة بدليل قوله : " ما لم يخن أحدهما صاحبه . . . " الحديث .

    ويدل لذلك أيضا حديث السائب بن أبي السائب المتقدم في أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وهو اشتراك في التجارة والبيع والشراء .

    وأما شركة الأبدان فيحتج لها بما رواه أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر . قال : فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، وقال المجد في " منتقى الأخبار " بعد أن ساقه : وهو حجة في شركة الأبدان وتملك المباحات ، وأعل هذا الحديث بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله المذكور فالحديث مرسل ، وقد قدمنا مرارا أن الأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل خلافا للمحدثين .

    وأما المضاربة فلم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع ، ولكن الصحابة أجمعوا عليها لشيوعها وانتشارها فيهم من غير نكير ، وقد مضى على ذلك عمل المسلمين من لدن الصحابة إلى الآن من غير نكير ، قال ابن حزم في مراتب الإجماع : كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة ، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة ، ولكنه إجماع صحيح مجرد ، والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ، ولولا ذلك لما جاز . اهـ منه بواسطة نقل الشوكاني في نيل الأوطار .

    واعلم أن اختلاف الأئمة الذي قدمنا في أنواع الشركة المذكورة راجع إلى الاختلاف في تحقيق المناط ، فبعضهم يقول : هذه الصورة يوجد فيها الغرر وهو مناط المنع فهي ممنوعة ، فيقول الآخر : لا غرر في هذه الصورة يوجب المنع فمناط المنع ليس موجودا فيها ، والعلم عند الله تعالى .

    المسألة الثالثة : أخذ بعض علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها أيضا : جواز خلط الرفقاء طعامهم وأكل بعضهم مع بعض وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر ; لأن أصحاب الكهف بعثوا ورقهم ليشترى لهم بها طعام يأكلونه جميعا ، [ ص: 248 ] وقد قدمنا في كلام ابن العربي أنه تحتمل انفراد ورق كل واحد منهم وطعامه ; فلا تدل الآية على خلطهم طعامهم ، كما قدمنا عنه أنها لا تدل على الاشتراك للاحتمال المذكور ، وله وجه كما ترى .

    وقال ابن العربي : ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين ، أحدهما : أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه ، والثاني : حديث أبي عبيدة في جيش الخبط ، وهذا دون الأول في الظهور ; لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم . اهـ كلام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى .

    قال مقيده عفا الله عنه : هذا النوع من الاشتراك وهو خلط الرفقة طعامهم واشتراكهم في الأكل فيه هو المعروف بـ " النهد " بكسر النون وفتحها ، ولجوازه أدلة من الكتاب والسنة ، أما دليل ذلك من الكتاب فقوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم [ 2 \ 220 ] ، فإنها تدل على خلط طعام اليتيم مع طعام وصيه وأكلهما جميعا ، وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا [ 24 \ 61 ] ، ومن صور أكلهم جميعا أن يكون الطعام بينهم فيأكلون جميعا ، وأما السنة فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة ، منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا إلى الساحل ، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة نفر ، وأنا فيهم ، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كله ، فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت ، ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت . . " الحديث ، وهذا الحديث ثابت في الصحيح ، واللفظ الذي سقناه به لفظ البخاري في كتاب " الشركة " وفيه جمع أبي عبيدة بقية أزواد القوم وخلطها في مزودي تمر ، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم إليه .

    ومنها حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خفت أزواد القوم وأملقوا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم ، فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه ، فقال : ما بقاؤكم بعد إبلكم ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما بقاؤهم بعد إبلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ناد في الناس فيأتون بفضل أزوادهم " فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه ، ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 249 ] " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " هذا الحديث ثابت في الصحيح ، واللفظ الذي سقناه به للبخاري أيضا في كتاب " الشركة " وفيه : خلط طعامهم بعضه مع بعض .

    ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه ، في رواية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه .

    كل هذا ثابت في الصحيح واللفظ للبخاري رحمه الله في كتاب " الشركة " ، وإذن صاحبه له يدل على اشتراكهما في التمر كما ترى ، وهذا الذي ذكرنا جوازه من خلط الرفقاء طعامهم وأكلهم منه جميعا هو مراد البخاري رحمه الله بلفظ النهد في قوله في كتاب الشركة : الشركة في الطعام والنهد . إلى قوله : لم ير المسلمون في النهد بأسا أن يأكل هذا بعضا وهذا بعضا وهذا بعضا إلخ .

    فروع تتعلق بمسألة الشركة

    الأول : إن دفع شخص دابته لآخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا - ففي صحة ذلك خلاف بين العلماء ، فقال بعضهم : يصح ذلك ، وهو مذهب الإمام أحمد ، ونقل نحوه عن الأوزاعي ، وقال بعضهم : لا يصح ذلك ، وما حصل فهو للعامل وعليه أجرة مثل الدابة ، وهذا هو مذهب مالك : قال ابن قدامة في " المغني " وكره ذلك الحسن والنخعي ، وقال الشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وأصحاب الرأي : لا يصح ، والربح كله لرب الدابة ، وللعامل أجرة مثله ، هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة .

    وأقوى الأقوال دليلا عندي فيها مذهب من أجاز ذلك ، كالإمام أحمد ، بدليل حديث رويفع بن ثابت ، قال : إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف ، وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح ، هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ، قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : إسناد أبي داود فيه شيبان بن أمية القتباني وهو مجهول ، وبقية رجاله ثقات ، وقد أخرجه النسائي من غير طريق هذا المجهول بإسناد رجاله كلهم ثقات ، والحديث دليل صريح على جواز دفع الرجل إلى الآخر راحلته في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما ، وهو عمل على الدابة على أن ما يرزقه الله بينهما كما ترى ، والتفريق بين العمل في الجهاد وبين غيره لا يظهر ، والعلم عند الله تعالى .

    [ ص: 250 ] الفرع الثاني أن يشترك ثلاثة : من أحدهم دابة ، ومن آخر رواية ، ومن الثالث العمل ، على أن ما رزقه الله تعالى فهو بينهم ، فهل يجوز هذا ؟ اختلف في ذلك ، فمن العلماء من قال لا يجوز هذا ، وهو مذهب مالك ، وهو ظاهر قول الشافعي . وممن قال بذلك : القاضي من الحنابلة ، وأجازه بعض الحنابلة ، وقال ابن قدامة في " المغني " : إنه صحيح في قياس قول أحمد رحمه الله .

    الفرع الثالث أن يشترك أربعة : من أحدهم دكان ، ومن آخر رحى ، ومن آخر بغل ، ومن الرابع العمل ، على أن يطحنوا بذلك ، فما رزقه الله تعالى فهو بينهم ، فهل يصح ذلك أو لا ؟ اختلف فيه ، فقيل : يصح ذلك وهو مذهب الإمام أحمد ، وخالف فيه القاضي من الحنابلة وفاقا للقائلين بمنع ذلك كالمالكية ، قال ابن قدامة : ومنعه هو ظاهر قول الشافعي ; لأن هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة ، فلو كان صاحب الرحى وصاحب الدابة وصاحب الحانوت اتفقوا على أن يعملوا جميعا وكان كراء الحانوت والرحى والدابة متساويا ، وعمل أربابها متساويا - فهو جائز عند المالكية ، وهذه المسألة هي التي أشار إليها خليل في مختصره بقوله عاطفا على ما لا يجوز : وذي رحا ، وذي بيت ، وذي دابة ليعلموا إن لم يتساو الكراء وتساووا في الغلة وترادوا الأكرية ، وإن اشترط عمل رب الدابة فالغلة له وعليه كراؤهما .

    ولا يخفى أن " الشركة " باب كبير من أبواب الفقه ، وأن مسائلها مبينة باستقصاء في كتب فروع الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، وقصدنا هنا أن نبين جوازها بالكتاب والسنة والإجماع ، ونذكر أقسامها ومعانيها اللغوية والاصطلاحية ، واختلاف العلماء فيها ، وبيان أقوالهم ، وذكر بعض فروعها تنبيها بها على غيرها ، وقد أتينا على جميع ذلك ، والحمد لله رب العالمين .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #232
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (231)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 251 إلى صـ 256

    قوله تعالى : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن أصحاب الكهف أنهم قالوا إن قومهم الكفار الذين فروا منهم بدينهم إن يظهروا عليهم ، أي يطلعوا عليهم ويعرفوا مكانهم ، يرجموهم بالحجارة ، وذلك من أشنع أنواع القتل ، وقيل : يرجموهم بالشتم والقذف ، أو يعيدوهم في ملتهم ، أي : يردوهم إلى ملة الكفر .

    وهذا الذي ذكره هنا من فعل الكفار مع المسلمين من الأذى أو الرد إلى الكفر ذكره [ ص: 251 ] في مواضع أخر أنه هو فعل الكفار مع الرسل وأتباعهم ; كقوله جل وعلا : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا [ 14 \ 13 ] ، وقوله تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله الآية [ 7 \ 88 - 89 ] ، وقوله تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ 2 \ 217 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    مسألة

    أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة ; لأن قوله عن أصحاب الكهف : إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم [ 18 \ 20 ] ، ظاهر في إكراههم على ذلك وعدم طواعيتهم ، ومع هذا قال عنهم : ولن تفلحوا إذا أبدا ، فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر . ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل ; لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذبابا قتلوه .

    ويشهد له أيضا دليل الخطاب ، أي : مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ; فإنه يفهم من قوله : " تجاوز لي عن أمتي " أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك ، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول ، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم الآية [ 18 \ 20 ] ; ولذلك اختصرناها هنا ، أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

    لم يبين الله هنا من هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم ، هل هم من المسلمين أو من الكفار ؟ وذكر ابن جرير وغيره فيهم قولين : أحدهما أنهم كفار ، والثاني أنهم مسلمون ; [ ص: 252 ] وهي قولهم : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] ; لأن اتخاذ المساجد من صفات المؤمنين لا من صفات الكفار ، هكذا قال بعض أهل العلم . ولقائل أن يقول : اتخاذ المساجد على القبور من فعل الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا من فعل المسلمين ، وقد قدمنا ذلك مستوفى بأدلته في سورة " الحجر " في الكلام على قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين الآية [ 15 \ 80 ] .
    قوله تعالى : سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل .

    أخبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فذكر ثلاثة أقوال على أنه لا قائل برابع ، وجاء في الآية الكريمة بقرينة تدل على أن القول الثالث هو الصحيح والأولان باطلان ; لأنه لما ذكر القولين الأولين بقوله : سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم الآية [ 18 \ 22 ] ، أتبع ذلك بقوله : رجما بالغيب ، أي : قولا بلا علم ، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب ، وإن أصاب بلا قصد ; كقوله : ويقذفون بالغيب من مكان بعيد [ 34 \ 53 ] .

    وقال القرطبي : الرجم القول بالظن ، يقال لكل ما يخرص رجم فيه ومرجوم ومرجم كما قال زهير :


    وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
    ثم حكى القول الثالث بقوله : ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم فأقره ، ولم يذكر بعده أن ذلك رجم بالغيب ، فدل على أنه الصحيح ، وقولـه : ما يعلمهم إلا قليل ، قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم ، كانوا سبعة . وقوله : قل ربي أعلم بعدتهم فيه تعليم للناس أن يردوا علم الأشياء إلى خالقها جل وعلا وإن علموا بها ، كما أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمدة لبثهم في قوله : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] ، ثم أمره مع ذلك برد العلم إليه جل وعلا في قوله جل وعلا : قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض الآية [ 18 \ 26 ] ، وما قدمنا من أنه لا قائل برابع قاله ابن كثير أخذا من ظاهر الآية الكريمة . مع أن ابن إسحاق وابن جريج قالا : كانوا ثمانية ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .

    نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا معلقا ذلك على مشيئة [ ص: 253 ] الله الذي لا يقع شيء في العالم كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا ، فقوله : ولا تقولن لشيء [ 18 \ 23 ] ، أي : لا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل إني فاعل ذلك الشيء غدا .

    والمراد بالغد : ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد . ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان ; ومنه قول زهير :


    وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
    يعني أنه لا يعلم ما يكون في المستقبل ، إذ لا وجه لتخصيص الغد المعين بذلك ، وقوله : إلا أن يشاء الله [ 18 \ 24 ] ، إلا قائلا في ذلك إلا أن يشاء الله ، أي : معلقا بمشيئة الله ، أو لا تقولنه إلا بإن شاء الله ، أي : إلا بمشيئة الله ، وهو في موضع الحال ، يعني إلا متلبسا بمشيئة الله قائلا إن شاء الله ، قاله الزمخشري وغيره .

    وسبب نزول هذه الآية الكريمة : أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الروح ، وعن رجل طواف في الأرض ، ) يعنون ذا القرنين ( ، وعن فتية لهم قصة عجيبة في الزمان الماضي ، يعنون أصحاب الكهف ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأخبركم غدا عما سألتم عنه " ، ولم يقل إن شاء الله ، فلبث عنه الوحي مدة ، قيل خمس عشرة ليلة ، وقيل غير ذلك . فأحزنه تأخر الوحي عنه ، ثم أنزل عليه الجواب عن الأسئلة الثلاثة ، قال في الروح : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية [ 17 \ 85 ] ، وقال في الفتية نحن نقص عليك نبأهم بالحق الآيات [ 18 \ 13 ] إلى آخر قصتهم ، وقال في الرجل الطواف : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا [ 18 \ 83 ] الآيات إلى آخر قصته .

    فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها ، وأن الله عاتب نبيه فيها على عدم قوله إن شاء الله ، لما قال لهم " سأخبركم غدا " ، فاعلم أنه دلت آية أخرى بضميمة بيان السنة لها على أن الله عاتب نبيه سليمان على عدم قوله إن شاء الله ، كما عاتب نبيه في هذه الآية على ذلك ، بل فتنة سليمان بذلك كانت أشد ; فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة ، وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله " ، فقيل له - وفي رواية قال له الملك : " قل إن شاء الله " فلم يقل ، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف [ ص: 254 ] إنسان ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " ، وفي رواية : " ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " ا هـ .

    فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا الآية [ 38 \ 34 ] ، وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله " إن شاء الله " ، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان ، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى : وألقينا على كرسيه جسدا الآية ، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان الآية ، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان ، وطرد سليمان عن ملكه ; حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطرودا عن ملكه ، إلى آخر القصة ، لا يخفى أنه باطل لا أصل له ، وأنه لا يليق بمقام النبوة . فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة .

    والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا ، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة ، واختاره بعض المحققين ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : واذكر ربك إذا نسيت .

    في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير :

    الأول : أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها ، والمعنى : أنك إن قلت سأفعل غدا كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله ; أي : اذكر ربك معلقا على مشيئته ما تقول أنك ستفعله غدا إذا تذكرت بعد النسيان ، وهذا القول هو الظاهر ; لأنه يدل عليه قوله تعالى قبله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 ، 24 ] ، وهو قول الجمهور . وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم .

    القول الثاني : أن الآية لا تعلق لها بما قبلها ، أن المعنى : إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله ; لأن النسيان من الشيطان ، كما قال تعالى عن فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] ، وكقوله : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله [ 58 \ 19 ] ، وقال تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، وذكر الله تعالى يطرد الشيطان ، كما يدل لذلك قوله تعالى : [ ص: 255 ] ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، وقولـه تعالى : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الآية [ 114 \ 1 - 4 ] ; أي : الوسواس عند الغفلة عن ذكر الله ، الخناس : الذي يخنس ويتأخر صاغرا عند ذكر الله ، فإذا ذهب الشيطان النسيان . وقال بعضهم : واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، أي : صل الصلاة التي كنت ناسيا لها عند ذكرك لها ، كما قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] ، وقول من قال إذا نسيت ، أي : إذا غضبت - ظاهر السقوط .
    مسألة

    اشتهر على ألسنة العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه استنبط من هذه الآية الكريمة : أن الاستثناء يصح تأخيره عن المستثنى منه زمنا طويلا ، قال بعضهم : إلى شهر ، وقال بعضهم : إلى سنة ، وقال بعضهم عنه : له الاستثناء أبدا . ووجه أخذه ذلك من الآية : أن الله تعالى نهى نبيه أن يقول : إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا من الاستثناء بإن شاء الله ، ثم قال : واذكر ربك إذا نسيت ; أي : إن نسيت تستثني بإن شاء الله فاستثن إذا تذكرت من غير تقييد باتصال ولا قرب .

    والتحقيق الذي لا شك فيه أن الاستثناء لا يصح إلا مقترنا بالمستثنى منه ، وأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين ، ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أنه تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك ، لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك ، وهذا في غاية البطلان كما ترى . ويحكى عن المنصور أنه بلغه أن أبا حنيفة رحمه الله يخالف مذهب ابن عباس المذكور ; فاستحضره لينكر عليه ذلك ، فقال الإمام أبو حنيفة للمنصور : هذا يرجع عليك ! إنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك ! ؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه .
    فائدة

    قال ابن العربي المالكي : سمعت فتاة ببغداد تقول لجارتها : لو كان مذهب ابن عباس صحيحا في الاستثناء ما قال الله تعالى لأيوب : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث [ 38 \ 44 ] ، بل يقول استثن بإن شاء الله انتهى منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود في شرح ، وقوله في مراقي السعود :

    [ ص: 256 ]
    بشركة وبالتوطي قالا بعض وأوجب فيه الاتصالا وفي البواقي دون ما اضطرار
    وأبطلن بالصمت للتذكار
    فإن قيل : فما الجواب الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما نسب إليه من القول بصحة الاستثناء المتأخر .

    فالجواب أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الله عاتب نبيه على قوله إنه سيفعل كذا غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، وبين له أن التعليق بمشيئة الله هو الذي ينبغي أن يفعل ; لأنه تعالى لا يقع شيء إلا بمشيئته ، فإذا نسي التعليق بالمشيئة ثم تذكر ولو بعد طول فإنه يقول إن شاء الله ، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة ، ويكون قد فوض الأمر إلى من لا يقع إلا بمشيئته ، فنتيجة هذا الاستثناء : هي الخروج من عهدة تركة الموجب للعتاب السابق ، لا أنه يحل اليمين لأن تداركها قد فات بالانفصال ، هذا هو مراد ابن عباس كما جزم به الطبري وغيره ، وهذا لا محذور فيه ولا إشكال .

    وأجاب بعض أهل العلم بجواب آخر وهو : أنه نوى الاستثناء بقلبه ونسي النطق به بلسانه ، فأظهر بعد ذلك الاستثناء الذي نواه وقت اليمين ، هكذا قاله بعضهم ، والأول هو الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #233
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (232)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 257 إلى صـ 262

    قوله تعالى : له غيب السماوات والأرض .

    بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو المختص بعلم الغيب في السماوات والأرض ، وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [ 27 \ 65 ] ، وقوله تعالى : عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] ، وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ 3 \ 179 ] ، وقوله تعالى : ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله الآية [ 11 \ 123 ] ، وقولـه تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وقولـه تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقولـه تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 34 \ 3 ] ، وقولـه [ ص: 257 ] تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وبين في مواضع أخر : أنه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من وحيه ، كقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 - 27 ] ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ 3 \ 179 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : أبصر به وأسمع .

    أي : ما أبصره وما أسمعه جل وعلا ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، وقولـه : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير [ 58 \ 1 ] ، وقولـه تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] ، والآيات بذلك كثيرة جدا .

    قوله تعالى : ما لهم من دونه من ولي .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا ، بل هو وليهم جل وعلا ، وهذا المعنى مذكور في آيات أخر ، كقوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 \ 257 ] ، وقولـه تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 10 \ 62 ] ، فبين أنه ولي المؤمنين ، وأن المؤمنين أولياؤه ، والولي : هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به ، فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة ، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة .

    وبين في مواضع أخر : أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، كقوله : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا [ 5 \ 55 ] ، وقولـه : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية [ 9 \ 671 ] ، وبين في مواضع أخر : أن نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهو قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [ 23 \ 6 ] .

    وبين في موضع آخر أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين ، وهو قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] ، وهذه الولاية المختصة بالمؤمنين هي ولاية الثواب والنصر والتوفيق والإعانة ، فلا تنافي أنه مولى [ ص: 258 ] الكافرين ولاية ملك وقهر ونفوذ ومشيئة ، كقوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وقال بعض العلماء : الضمير في قوله : ما لهم من دونه من ولي راجع لأهل السماوات والأرض المفهومين من قوله تعالى : له غيب السماوات والأرض ، وقيل : الضمير في قوله : " ما لهم " راجع لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ، ذكره القرطبي ، وعلى كل حال فقد دلت الآيات المتقدمة أن ولاية الجميع لخالقهم جل وعلا ، وأن منها ولاية ثواب وتوفيق وإعانة ، وولاية ملك وقهر ونفوذ ومشيئة ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا .

    قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر " ولا يشرك " بالياء المثناة التحتية ، وضم الكاف على الخبر ، ولا نافية والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحدا في حكمه ، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة ، فالحلال ما أحله تعالى ، والحرام ما حرمه ، والدين ما شرعه ، والقضاء ما قضاه ، وقرأه ابن عامر من السبعة ; " ولا تشرك " بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي ، أي : لا تشرك يا نبي الله ، أو لا تشرك أيها المخاطب أحدا في حكم الله جل وعلا ، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم ، وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : ولا يشرك في حكمه أحدا شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ، ويدخل في ذلك التشريع دخولا أوليا .

    وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] ، وقولـه تعالى : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقولـه تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] ، وقولـه تعالى : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] ، وقولـه : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 50 ] ، وقولـه تعالى : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    [ ص: 259 ] ويفهم من هذه الآيات ، كقوله : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ 36 \ 60 ، 61 ] ، وقولـه تعالى عن نبيه إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] ، وقولـه تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي : ما يعبدون إلا شيطانا ، أي : وذلك باتباع تشريعه ، ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء ، في قوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 \ 137 ] ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] ، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك ، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أربابا .

    ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في " سورة النساء " بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون ، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ; وذلك في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] .

    وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم .
    [ ص: 260 ] تنبيه

    اعلم ، أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض ، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك .

    وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي ، أما الإداري : الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم ، وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم ، وكاشترائه - أعني عمر رضي الله عنه - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجنا في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنا هو ولا أبو بكر ، فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شئون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع ، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة .

    وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض ، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث . وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ، ونحو ذلك .

    فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية [ 17 \ 9 ] .
    [ ص: 261 ] قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك .

    أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يتلو هذا القرآن الذي أوحاه إليه ربه . والأمر في قوله " واتل " [ 18 \ 27 ] ، شامل للتلاوة بمعنى القراءة ، والتلو : بمعنى الاتباع ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن العظيم واتباعه جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى في سورة " العنكبوت " : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة الآية [ 29 \ 45 ] ، وكقوله تعالى في آخر سورة " النمل " : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن الآية [ 27 \ 91 ، 92 ] ، ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بتلاوته ، وكقوله تعالى على الأمر باتباعه : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] ، وقولـه تعالى : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] ، وقولـه تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، وقولـه تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم .

    وقد بين في مواضع أخر بعض النتائج التي تحصل بسبب تلاوة القرآن واتباعه ، كقوله تعالى : إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور [ 35 \ 29 ] ، وقوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ 2 \ 121 ] ، والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

    قوله تعالى : لا مبدل لكلماته .

    بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته ; أي : لأن أخبارها صدق وأحكامها عدل ، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذبا ، ولا أن يبدل عدلها جورا ، وهذا الذي ذكره هنا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فقوله : " صدقا " يعني في الإخبار ، وقوله " عدلا " أي : في الأحكام . وكقوله : [ ص: 262 ] ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 \ 34 ] .

    وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أنه هو يبدل ما شاء من الآيات مكان ما شاء منها ، كقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] ، وقولـه : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي [ 18 \ 27 ] .

    قوله تعالى : ولن تجد من دونه ملتحدا .

    أصل الملتحد : مكان الالتحاد وهو الافتعال : من اللحد بمعنى الميل ، ومنه اللحد في القبر ; لأنه ميل في الحفر ، ومنه قوله تعالى : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا [ 41 \ 40 ] ، وقولـه : وذروا الذين يلحدون في أسمائه الآية [ 7 \ 180 ] ، فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك : الميل عن الحق ، والملحد المائل عن دين الحق ، وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا ، فالملتحد بصيغة اسم المفعول ، والمراد به مكان الالتحاد ، أي : المكان الذي يميل فيه إلى ملجأ أو منجى ينجيه مما يريد الله أن يفعله به .

    وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحدا ; أي : مكانا يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه ، جاء مبينا في مواضع أخر ; كقوله : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته [ 72 \ 21 - 22 ] ، وقولـه : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين الآية [ 69 \ 44 - 47 ] .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #234
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (233)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 263 إلى صـ 268


    وكونه ليس له ملتحد ، أي : مكان يلجأ إليه تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة ، كالمناص ، والمحيص ، والملجأ ، والموئل ، والمفر ، والوزر ، كقوله : فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] ، وقولـه : ولا يجدون عنها محيصا [ 4 \ 121 ] ، وقولـه : فنقبوا في البلاد هل من محيص [ 50 \ 36 ] ، وقولـه : ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 42 \ 47 ] ، وقولـه : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] ، [ ص: 263 ] وقولـه : يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر [ 75 \ 10 - 11 ] ، فكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد ، وهو انتفاء مكان يلجئون إليه ويعتصمون به .
    قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .

    أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يصبر نفسه ، أي : يحبسها مع المؤمنين الذي يدعون ربهم أول النهار وآخره مخلصين له ، لا يريدون بدعائهم إلا رضاه جل وعلا .

    وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار ، وصهيب ، وبلال ، وابن مسعود ونحوهم ، لما أراد صناديد الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه ، ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين ، وقد قدمنا في سورة " الأنعام " أن الله كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره بألا يطردهم ، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم ، وذلك في قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين - إلى قوله - وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم [ 6 \ 52 - 54 ] ، وقد أشار إلى ذلك المعنى في قوله : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا [ 80 \ 1 - 11 ] ، وقد قدمنا أن ما طلبه الكفار من نبينا صلى الله عليه وسلم من طرده فقراء المؤمنين وضعفاءهم تكبرا عليهم وازدراء بهم ، طلبه أيضا قوم نوح من نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأنه امتنع من طردهم أيضا ، كقوله تعالى عنهم : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون [ 26 \ 111 ] ، وقولـه عنهم أيضا : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي [ 11 \ 27 ] ، وقال عن نوح في امتناعه من طردهم : وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 114 ] ، وكقوله تعالى عنه : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون [ 11 \ 29 - 30 ] .

    وقولـه : واصبر نفسك [ 18 \ 28 ] ، فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة :


    فصبرت عارفة بذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
    والغداة : أول النهار ، والعشي : آخره . وقال بعض العلماء :

    [ ص: 264 ] يدعون ربهم بالغداة والعشي ، أي : يصلون صلاة الصبح والعصر ، والتحقيق أن الآية تشمل أعم من مطلق الصلاة ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .

    نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن تعدو عيناه عن ضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، طموحا إلى الأغنياء وما لديهم من زينة الحياة الدنيا ، ومعنى ولا تعد عيناك [ 18 \ 28 ] ، أي : لا تتجاوزهم عيناك وتنبو عن رثاثة زيهم ، محتقرا لهم طامحا إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلا منهم ، وعدا يعدو : تتعدى بنفسها إلى المفعول وتلزم ، والجملة في قوله : تريد زينة الحياة الدنيا في محل حال والرابط الضمير ، على حد قوله في الخلاصة :


    وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميرا ومن الواو خلت
    وصاحب الحال المذكورة هو الضمير المضاف إليه في قوله : " عيناك " ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه ، على حد قوله في الخلاصة :

    ولا تجز حالا من المضاف له إلا إذا اقتضى المضاف عمله أو كان جزء ما له أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا وما نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من طموح العين إلى زينة الحياة الدنيا ، مع الاتصاف بما يرضيه جل وعلا من الثبات على الحق ، كمجالسة فقراء المؤمنين ، أشار له أيضا في مواضع أخر ، كقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا [ 20 \ 130 - 131 ] ، وقولـه تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية [ 15 \ 87 ] .
    قوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

    نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ، وقد كرر في القرآن نهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه ، كقوله تعالى : فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقولـه : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم الآية [ 33 \ 48 ] ، [ ص: 265 ] وقولـه تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 8 - 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله ، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا ، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم ; وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : من أغفلنا قلبه [ 18 \ 28 ] ، يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية ، إنما هو بمشيئة الله تعالى ، إذ لا يقع شيء البتة كائنا ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية ، جل وعلا ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله الآية [ 76 \ 30 ] ، ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 46 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر ، لا يقع إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض . فما يزعمه المعتزلة ، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائما تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله ، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفا ، وأمثالها في القرآن كثيرة .

    ومعنى اتباعه هواه : أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر ، كالكفر والمعاصي .

    وقولـه : وكان أمره فرطا ، قيل : هو من التفريط الذي هو التقصير ، وتقديم العجز بترك الإيمان ، وعلى هذا فمعنى وكان أمره فرطا ، أي : كانت أعماله سفها وضياعا وتفريطا ، وقيل : من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد ، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين : نحن أشراف مضر وساداتها ! إن اتبعناك اتبعك جميع الناس ، وهذا من التكبر والإفراط في القول ، وقيل " فرطا " أي : قدما في الشر . من قولهم : فرط منه أمر ، أي : سبق . وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن معنى قوله " فرطا " : أي : متقدما للحق والصواب ، نابذا له وراء [ ص: 266 ] ظهره . من قولهم : فرس فرط ، أي : متقدم للخيل ، ومنه قول لبيد في معلقته :


    ولقد حميت الخيل تحمل شكتي فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
    وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها ، كقول قتادة ومجاهد " فرطا " أي : ضياعا . وكقول مقاتل بن حيان " فرطا " أي : سرفا ، كقول الفراء " فرطا " أي : متروكا . وكقول الأخفش " فرطا " أي : مجاوزا للحد ، إلى غير ذلك من الأقوال .
    قوله تعالى : وقل الحق من ربكم .

    أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس : الحق من ربكم ، وفي إعرابه وجهان ، أحدهما : أن " الحق " مبتدأ ، والجار والمجرور خبره ، أي : الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم ، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا ، فليس من وحي الشيطان ، ولا من افتراء الكهنة ، ولا من أساطير الأولين ، ولا غير ذلك . بل هو من خالقكم جل وعلا ، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده ، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار ، والعدل في الأحكام ، فلا حق إلا منه جل وعلا .

    الوجه الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا الذي جئتكم به الحق .

    وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله في سورة " البقرة " : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 2 \ 147 ] ، وقولـه في " آل عمران " : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي التخيير بين الكفر والإيمان ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير ، وإنما المراد بها التهديد والتخويف . والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية ، والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف أنه أتبع ذلك بقوله : إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ، وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف ، إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم ، وهذا واضح كما ترى .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة أعتدنا [ 18 \ 29 ] ، أصله من الاعتاد ، والتاء فيه [ ص: 267 ] أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح ; ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء ، ومعنى " أعتدنا " : أرصدنا وأعددنا ، والمراد بالظالمين هنا : الكفار ; بدليل قوله قبله ومن شاء فليكفر ، وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن . كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقولـه تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقولـه تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب : وضع الشيء في غير محله ، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق ، وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله : ولم تظلم منه شيئا [ 18 \ 33 ] ، وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه ، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب : ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه ; لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


    وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم
    فقوله " ظلمت لكم سقائي " ، أي : ضربته لكم قبل أن يروب ، ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك :


    وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
    وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب ، قال : أيجوز أن يكون الحاكم ظالما ؟ قال : نعم ، إذا كان عالما . ومن ذلك أيضا قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق : أرض مظلومة ، ومنه قول نابغة ذبيان :


    إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
    وما زعمه بعضهم من أن " المظلومة " في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد غير صواب . والصواب : هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم ; لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد ، ومنه قول الشاعر يصف رجلا مات ودفن :


    فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مرود عليها ظليمها
    وقولـه : أحاط بهم أي : أحدق بهم من كل جانب ، وقولـه : سرادقها [ 18 \ 29 ] ، أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار ، وكل بيت من [ ص: 268 ] كرسف فهو سرادق . والكرسف : القطن ، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي :


    يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
    وبيت مسردق : أي مجعول له سرادق ، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة :


    هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
    هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة . ويطلق أيضا في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط .

    وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد ، وهو إحداق النار بهم من كل جانب ، فمن العلماء من يقول " سرادقها " : أي : سورها ، قاله ابن الأعرابي وغيره . ومنهم من يقول " سرادقها " : سور من نار ، وهو مروي عن ابن عباس . ومنهم من يقول " سرادقها " : عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة ، قاله الكلبي : ومنهم من يقول : هو دخان يحيط بهم . وهو المذكور في " المرسلات " في قوله تعالى : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 \ 30 - 31 ] ، و " الواقعة " في قوله : وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 43 - 44 ] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #235
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (234)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 269 إلى صـ 274






    ومنهم من يقول : هو البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البحر هو جهنم ثم تلا " نارا أحاط بهم سرادقها " ثم قال والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا تصيبني منها قطرة " ذكره الماوردي . وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة " وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب . انتهى من القرطبي . وهذا الحديث رواه أيضا الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه وابن أبي الدنيا . قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني . وحديث يعلى بن أمية رواه أيضا ابن جرير في تفسيره . قال الشوكاني : ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه ، وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي . وعلى كل حال ، فمعنى الآية الكريمة : أن النار محيطة بهم من كل [ ص: 269 ] جانب ، كما قال تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] ، وقال : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل [ 39 \ 16 ] ، وقال : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [ 21 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وإن يستغيثوا ، يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا ، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل . والمهل في اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض ، كذائب الحديد والنحاس ، والرصاص ونحو ذلك .

    ويطلق أيضا على دردي الزيت وهو عكره . والمراد بالمهل في الآية : ما أذيب من جواهر الأرض . وقيل : دردي الزيت . وقيل : هو نوع من القطران . وقيل السم .

    فإن قيل : أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال الله تعالى : يغاثوا بماء كالمهل [ 18 \ 29 ] .

    فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن . ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم :


    غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
    فمعنى قوله " أعتبوا بالصيلم " : أي : أرضوا بالسيف . يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف . وقول عمرو بن معدي كرب :


    وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
    يعني لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع . وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم البتة . والياء في قوله " يستغيثوا " والألف في قوله " يغاثوا " كلتاهما مبدلة من واو ; لأن مادة الاستغاثة من الأجوف الواوي العين ، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها ، على حد قوله في الخلاصة :

    لساكن صح انقل التحريك من ذي لين آت عين فعل كأبن وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يشوي الوجوه ، أي : يحرقها حتى تسقط فروة الوجه ، أعاذنا الله والمسلمين منها وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال : " كالمهل يشوي الوجوه " ، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه ، قال [ ص: 270 ] ابن حجر رحمه الله في ) الكافي الشاف ، في تخريج أحاديث الكشاف ( : أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، واستغربه وقال : لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد ، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج ، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : بئس الشراب المخصوص بالذم فيه محذوف ، تقديره : بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به . والضمير الفاعل في قوله " ساءت " عائد إلى النار .

    والمرتفق : مكان الارتفاق . وأصله أن يتكئ الإنسان معتمدا على مرفقه ، وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى . قيل مرتفقا . أي : منزلا ، وهو مروي عن ابن عباس . وقيل مقرا ، وهو مروي عن عطاء . وقيل مجلسا وهو مروي عن العتبي . وقال مجاهد : مرتفقا أي : مجتمعا . فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار .

    وحاصل معنى الأقوال أن النار بئس المستقر هي ، وبئس المقام هي . ويدل لهذا قوله تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما [ 25 \ 66 ] ، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق ، معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :


    نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
    ويروى " وبت الليل مشتجرا " وعليه فلا شاهد في البيت ، ومنه قول أعشى باهلة :


    قد بت مرتفقا للنجم أرقبه حيران ذا حذر لو ينفع الحذر
    وقول الراجز :


    قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحا
    وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب ، الذي يسقى به أهل النار ، جاء نحوه في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 6 \ 70 ] ، وقولـه تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] ، وقولـه تعالى : تسقى من عين آنية [ 88 \ 5 ] ، وقولـه تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن [ 55 \ 44 ] ، والحميم الآني : من الماء المتناهي في الحرارة .

    [ ص: 271 ] وقولـه تعالى : ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه الآية [ 14 \ 16 - 17 ] ، وقولـه تعالى : ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم [ 37 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 ، 55 ] .

    وقولـه تعالى : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا الآية [ 78 \ 24 - 25 ] ، وقولـه تعالى : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا طرقا من هذا في سورة " يونس " .
    قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من عمل صالحا وأحسن في عمله أنه جل وعلا لا يضيع أجره ، أي : جزاء عمله : بل يجازى بعمله الحسن الجزاء الأوفى .

    وبين هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ، كقوله تعالى : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى [ 3 \ 195 ] ، وقولـه تعالى : يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [ 3 \ 171 ] ، وقولـه : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ 55 \ 60 ] ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا . وفي هذا المعنى سؤالان معروفان عند العلماء :

    الأول : أن يقال أين خبر " إن " في قوله تعالى إن الذين آمنوا [ 8 \ 30 ] ؟ فإذا قيل : خبرها جملة إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا [ 18 \ 30 ] توجه السؤال .

    الثاني : وهو أن يقال : أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم " إن " ؟ .

    اعلم أن خبر " إن " في قوله : إن الذين آمنوا ، قيل : هو جملة أولئك لهم جنات عدن ، وعليه فقوله : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا جملة اعتراضية . وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال فيه . وقيل : " إن " الثانية واسمها وخبرها ، كل ذلك خبر " إن " الأولى . ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن " إن " بـ " إن " وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة " الحج " : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة الآية [ 22 \ 17 ] ، وقول الشاعر :


    إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم
    على أظهر الوجهين في خبر " إن " الأولى في البيت ، وعلى هذا فالجواب عن السؤال [ ص: 272 ] الثاني من وجهين :

    الأول : أن الضمير الرابط محذوف ، تقديره : لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا ; كقولهم : السمن منوان بدرهم ، أي : منوان منه بدرهم ، كما تقدم في قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن الآية [ 2 \ 234 ] ، أي : يتربصن بعدهم .

    الوجه الثاني : أن من أحسن عملا ، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإذا كان الذين آمنوا ، ومن أحسن عملا ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير ، وهذا هو مذهب الأخفش ، وهو الصواب ; لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى .
    قوله تعالى : أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار

    إلى قوله : وحسنت مرتفقا ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أجر من أحسن عملا ، فذكر أنه جنات عدن تجري من تحتهم فيها الأنهار ، ويحلون فيها أساور الذهب ، ويلبسون فيها الثياب الخضر من السندس والإستبرق ، في حال كونهم متكئين فيها على الأرائك وهي السرر في الحجال ، والحجال : جمع حجلة وهو بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة ، ثم أثنى على ثوابهم بقوله : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] ، وهذا الذي بينه هنا من صفات جزاء المحسنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات جاء مبينا في مواضع كثيرة جدا من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى في سورة " الإنسان " : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا إلى قوله : وكان سعيكم مشكورا [ 76 \ 5 - 22 ] ، وكقوله في سورة " الواقعة " ، والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] إلى قوله : لأصحاب اليمين [ الآية 38 ] ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن :

    وقد بين في سورة " السجدة " أن ما أخفاه الله لهم من قرة أعين لا يعلمه إلا هو جل وعلا ، وذلك في قوله : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة . جنات عدن أي : إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول . كما قال تعالى : لا يبغون عنها حولا [ 18 \ 108 ] أصله من عدن بالمكان : إذا أقام به ، وقد تقدم في سورة " النحل " معنى السندس والإستبرق بما أغنى عن إعادته هنا ، والأساور : جمع سوار ، وقال بعضهم : جمع أسورة ، والثواب : الجزاء مطلقا على [ ص: 273 ] التحقيق . ومنه قول الشاعر :


    لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب
    وقول من قال : إن الثواب في اللغة يختص بجزاء الخير بالخير غير صواب ، بل يطلق الثواب أيضا على جزاء الشر بالشر ، ومنه قوله تعالى : هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 36 ] ، وقولـه تعالى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه الآية [ 5 \ 60 ] .

    وقولـه : وحسنت مرتفقا ، الضمير في قوله " حسنت " راجع إلى " جنات عدن " . والمرتفق قد قدمنا أقوال العلماء فيه . وقوله هنا في الجنة " وحسنت مرتفقا " يبين معناه قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما [ 25 \ 75 - 76 ] .
    قوله تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه ، الذي ضربه مثلا مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار ، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم أنه دخل جنته في حال كونه ظالما لنفسه ، وقال : إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى : لما رأى من حسنها ونضارتها ؟ وقال : إنه لا يظن الساعة قائمة ، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيرا من الجنة التي أعطاه في الدنيا .

    وما تضمنته هذه الآية الكريمة : من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا ، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضا بالمال والولد ، كما أنعم عليهم في الدنيا جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله في " فصلت " : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقولـه في " مريم " : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقولـه في " سبأ " : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقولـه في هذه السورة الكريمة : فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا [ 18 \ 34 ] .

    وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه : من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة [ ص: 274 ] كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة ، كقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقولـه : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 - 45 ] ، وقولـه : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقولـه : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] ، وقولـه تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقولـه : منقلبا ، أي : مرجعا وعاقبة ، وانتصابه على التمييز ، وقولـه : لأجدن خيرا منها ، قرأه ابن عامر ونافع وابن كثير " منهما " بصيغة تثنية الضمير ، وقرأه الباقون " منها " بصيغة إفراد هاء الغائبة ، فالضمير على قراءة تثنيته راجع إلى الجنتين في قوله : جعلنا لأحدهما جنتين [ 18 \ 32 ] ، وقولـه : كلتا الجنتين ، وعلى قراءة الإفراد راجع إلى الجنة في قوله : ودخل جنته . . الآية [ 18 \ 35 ] .

    فإن قيل : ما وجه إفراد الجنة مع أنهما جنتان ؟ فالجواب : أنه قال ما ذكره الله عنه حين دخل إحداهما ، إذ لا يمكن دخوله فيهما معا في وقت واحد ، وما أجاب به الزمخشري عن هذا السؤال ظاهر السقوط ، كما نبه عليه أبو حيان في البحر .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #236
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (235)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 275 إلى صـ 280




    قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .

    بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلا للمؤمنين ، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار ، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلا لذوي المال والجاه من الكفار ، منكرا عليه كفره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواك رجلا ؟ لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة ، ثم تسويته إياه رجلا ، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، وجعله بشرا سويا ، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] ، وقولـه تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [ 36 \ 22 ] ، وقولـه تعالى : [ ص: 275 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين . . الآية [ 26 \ 76 - 79 ] ، وقولـه تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات ، ويظهرها من العدم إلى الوجود بما أغنى عن إعادته هنا .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : بالذي خلقك من تراب [ 18 \ 38 ] ، معنى خلقه إياه من تراب : أي : خلق آدم الذي هو أصله من التراب ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 \ 59 ] ، ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .

    وقولـه : ثم من نطفة ، أي : بعد أن خلق آدم من التراب ، وخلق حواء من ضلعه ، وجعلها زوجا له كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل ، فبعد طور التراب طور النطفة ، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله : وقد خلقكم أطوارا ، وقولـه تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث [ 39 \ 6 ] ، وقد أوضحها تعالى إيضاحا تاما في قوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 12 - 13 ] .

    ومما يبين خلق الإنسان من تراب ، ثم من نطفة ، قوله تعالى في " السجدة " : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 6 - 9 ] ، وقولـه في هذه الآية : ثم سواك رجلا [ 18 \ 38 ] ، كقوله : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقولـه : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] ، أي : بعد أن كان نطفة سار إنسانا خصيما شديد الخصومة في توحيد ربه ، [ ص: 276 ] وقولـه : سواك ، أي : خلقك مستوي الأجزاء ، معتدل القامة والخلق ، صحيح الأعضاء في أكمل صورة ، وأحسن تقويم ، كقوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقولـه : وصوركم فأحسن صوركم [ 40 \ 64 ] ، وقولـه : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ 82 \ 6 ] ، وقولـه " رجلا " أي : ذكرا بالغا مبلغ الرجال ، وربما قالت العرب للمرأة : رجلة ، ومنه قول الشاعر :


    كل جار ظل مغتبطـا غير جيران بني جبله مزقوا ثوب فتاتــهم
    لم يراعوا حرمة الرجله

    وانتصاب " رجلا " على الحال ، وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلا . وقيل : هو تمييز ، وليس بظاهر عندي ، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله : أكفرت بالذي خلقك من تراب [ 18 \ 37 ] ، مضمن معنى الاستبعاد ; لأنه يستبعد جدا كفر المخلوق بخالقه ، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، ويستبعد إنكار البعث ممن علم أن الله خلقه من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواه رجلا ; كقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب . . الآية [ 22 \ 5 ] ، ونظير الآية في الدلالة على الاستبعاد لوجود موجبه قول الشاعر :


    ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
    لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا [ 18 \ 38 ] ، بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر : أنت كافر ؟ ! لكن أنا لست بكافر ! بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني ; أي : لأنه هو الذي يستحق مني أن أعبده ; لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه ، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني .

    ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في " يس " في قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني [ 36 \ 22 ] ، أي : أبدعني وخلقني وإليه ترجعون ، وما قدمنا عن إبراهيم في قوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين . . الآية [ 26 \ 77 - 78 ] ، وقولـه : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الآية [ 43 \ 26 - 27 ] .

    [ ص: 277 ] وقولـه في هذه الآية الكريمة : أكفرت بالذي خلقك من تراب ، بعد قوله : وما أظن الساعة قائمة ، يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى ، وقد صرح بذلك في أول سورة " الرعد " في قوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : لكنا أصله " لكن أنا " فحذفت همزة " أنا " وأدغمت نون " لكن " في نون " أنا " بعد حذف الهمزة ، وقال بعضهم : نقلت حركة الهمزة إلى نون " لكن " فسقطت الهمزة بنقل حركتها ، ثم أدغمت النون في النون ! ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :


    وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنا إياك لم أقل
    أي لكن أنا إياك لم أقل ، وقال بعضهم : لا يتعين في البيت ما ذكر ; لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم " لكن " كقول الآخر :


    فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر
    أي : لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع ، وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من " لكن أنا " قول الآخر :


    لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها
    قال : أراد بقوله " لهنك " لله إنك ، فحذف إحدى اللامين من " لله " ، وحذف الهمزة من " إنك " نقله القرطبي عن أبي عبيد .

    وقولـه تعالى : لكنا هو الله ربي ، قرأه جماهير القراء في الوصل " لكن " ، بغير ألف بعد النون المشددة ، وقرأه ابن عامر من السبعة " لكنا " بالألف في الوصل ، ويروى ذلك عن عاصم ، ورواه المسيبي عن نافع ، ورويس عن يعقوب ، واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف . ومد نون " أنا " لغة تميم إن كان بعدها همزة . وقال أبو حيان في البحر : إن إثبات ألف " أنا " مطلقا في الوصل لغة بني تميم ، وغيرها يثبتونها على الاضطرار ، قال : فجاءت قراءة " لكنا " بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم ، ومن شواهد مد " أنا " قبل غير الهمزة قول الشاعر :

    [ ص: 278 ]
    أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
    وقول الأعشى :


    فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا
    وقوله في هذه الآية الكريمة : وهو يحاوره جملة حالية ، والمحاورة : المراجعة في الكلام : ومنه قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما [ 58 \ 1 ] ، وقول عنترة في معلقته :


    لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الجواب مكلمي
    وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائهما ، ومن أي الناس هما أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقا من عدم الفائدة فيه ، وعدم الدليل المقنع عليه . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

    معنى قوله : " غورا " أي : غائرا ; فهو من الوصف بالمصدر ; كما قال في الخلاصة :

    ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا والغائر : ضد النابع ، وقولـه : فلن تستطيع له طلبا [ 18 \ 41 ] ; لأن الله إذا أعدم ماءها بعد وجوده ، لا تجد من يقدر على أن يأتيك به غيره جل وعلا . وأشار إلى نحو هذا المعنى في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 \ 30 ] ، ولا شك أن الجواب الصحيح : لا يقدر على أن يأتينا به إلا الله وحده ; كما قال هنا : فلن تستطيع له طلبا [ 18 \ 41 ] .
    قوله تعالى : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

    اعلم أن في هذه الآية الكريمة : قراءات سبعية ، وأقوالا لعلماء التفسير ، بعضها يشهد له قرآن ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها مذاهب العلماء ، يشهد لكل واحد منها قرآن ، فنذكر الجميع وأدلته في القرآن . فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية : ولم تكن له فئة [ 18 \ 43 ] ، قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالتاء المثناة الفوقية ، وقرأه حمزة والكسائي : " ولم يكن له فئة " بالياء المثناة التحتية ، وقولـه : الولاية لله الحق [ 18 \ 44 ] ، قرأه السبعة [ ص: 279 ] ما عدا حمزة والكسائي أيضا " الولاية " بفتح الواو ، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الواو ، وقوله " الحق " قرأه السبعة ما عدا أبا عمرو والكسائي بالخفض نعتا " لله " ، وقرأه أبو عمرو والكسائي بالرفع نعتا للولاية ، فعلى قراءة من قرأ " الولاية لله " بفتح الواو فإن معناها : الموالاة والصلة ، وعلى هذه القراءة ففي معنى الآية وجهان :

    الأول : أن معنى هنالك الولاية لله ، أي : في ذلك المقام ، وتلك الحال تكون الولاية من كل أحد لله ; لأن الكافر إذا رأى العذاب رجع إلى الله ، وعلى هذا المعنى فالآية كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 84 ] ، وقولـه في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    الوجه الثاني : أن الولاية في مثل ذلك المقام وتلك الحال لله وحده ، فيوالي فيه المسلمين ولاية رحمة ، كما في قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا الآية [ 2 \ 257 ] ، وقولـه : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] ، وله على الكافرين ولاية الملك والقهر ، كما في قوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وعلى قراءة حمزة والكسائي فالولاية بالكسر بمعنى الملك والسلطان ، والآية على هذه القراءة ; كقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ، وقولـه : الملك يومئذ الحق للرحمن [ 25 \ 26 ] ، وقولـه : الملك يومئذ لله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] ، وعلى قراءة " الحق " بالجر نعتا لله ، فالآية كقوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق الآية [ 18 \ 44 ] ، وقولـه : فذلكم الله ربكم الحق الآية [ 10 \ 32 ] ، وقولـه : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعلى قراءة " الحق " بالرفع نعتا للولاية ، على أن الولاية بمعنى الملك ، فهو كقوله : الملك يومئذ الحق للرحمن .

    وما ذكره جل وعلا عن هذا الكافر : من أنه لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ذكر نحوه عن غيره من الكفار ، كقوله في قارون : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [ 28 \ 81 ] ، [ ص: 280 ] وقولـه : فما له من قوة ولا ناصر [ 86 \ 10 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا . وقوله : هنالك ، قال بعض العلماء : هو متعلق بما بعده ، والوقف تام على قوله : وما كان منتصرا ، وقال بعضهم : هو متعلق بما قبله ، فعلى القول الأول فالظرف الذي هو " هنالك " عامله ما بعده ، أي : الولاية كائنة لله هنالك . وعلى الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو " منتصرا " أي : لم يكن انتصاره واقعا هنالك . وقوله : هو خير ثوابا ، أي : جزاء كما تقدم ، وقوله " عقبا " أي : عاقبة ومآلا ، وقرأه السبعة ما عدا عاصما وحمزة " عقبا " بضمتين . وقراءة عاصم وحمزة " عقبا " بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد . وقوله " ثوابا " وقوله " عقبا " كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي " خير " كما قال في الخلاصة :


    والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
    ولفظة خير وشر كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال ، قال ابن مالك في الكافية :


    وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخر منه وأشر
    تنبيه

    قوله في هذه الآية الكريمة : فئة محذوف منه حرف بلا خلاف ، إلا أن العلماء اختلفوا في الحرف المحذوف . هل هو ياء أو واو ، وهل هو العين أو اللام ؟ قال بعضهم : المحذوف العين ، وأصله ياء . وأصل المادة ف ي أ ، من فاء يفيء : إذا رجع ; لأن فئة الرجل طائفته التي يرجع إليها في أموره ، وعلى هذا فالتاء عوض عن العين المحذوفة ، ووزنه بالميزان الصرفي " فلة " وقال بعضهم : المحذوف اللام ، وأصله واو ، من فأوت رأسه : إذا شققته نصفين ، وعليه فالفئة الفرقة من الناس . وعلى هذا فوزنه بالميزان الصرفي " فعة " والتاء عوض عن اللام ، وكلا القولين نصره بعض أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #237
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (236)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 281 إلى صـ 286



    قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابا وخير أملا .

    والمراد من الآية الكريمة تنبيه الناس للعمل الصالح ; لئلا يشتغلوا بزينة الحياة الدنيا [ ص: 281 ] من المال والبنين عما ينفعهم في الآخرة عند الله من الأعمال الباقيات الصالحات ، وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة الآية [ 3 \ 14 - 15 ] ، وقولـه : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] ، وقولـه : إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [ 64 \ 15 ] ، وقولـه : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا الآية [ 34 \ 37 ] ، وقولـه : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ 26 \ 88 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإنسان لا ينبغي له الاشتغال بزينة الحياة الدنيا عما ينفعه في آخرته ، وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد ، وهو الأعمال التي ترضي الله ، سواء قلنا : إنها الصلوات الخمس ، كما هو مروي عن جماعة من السلف : منهم ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبو ميسرة ، وعمرو بن شرحبيل ، أو أنها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وعلى هذا القول جمهور العلماء ، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، والنعمان بن بشير ، وعائشة رضي الله عنهم .

    قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق أن " الباقيات الصالحات " لفظ عام ، يشمل الصلوات الخمس ، والكلمات الخمس المذكورة ، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى : لأنها باقية لصاحبها غير زائلة . ولا فانية كزينة الحياة الدنيا ، ولأنها أيضا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى . وقوله : خير ثوابا تقدم معناه . وقوله : وخير أملا أي : الذي يؤمل من عواقب الباقيات الصالحات ، خير مما يؤمله أهل الدنيا من زينة حياتهم الدنيا وأصل الأمل : طمع الإنسان بحصول ما يرجوه في المستقبل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في " مريم " : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا [ 19 \ 76 ] ، والمرد : المرجع إلى الله يوم القيامة ، وقال بعض العلماء : " مردا " مصدر ميمي ، أي : [ ص: 282 ] وخير ردا للثواب على فاعلها ، فليست كأعمال الكفار التي لا ترد ثوابا على صاحبها .
    قوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .

    قوله : ويوم [ 18 \ 47 ] ، منصوب باذكر مقدرا . أو بفعل القول المحذوف قبل قوله : ولقد جئتمونا فرادى [ 6 \ 94 ] ، أي : قلنا لهم يوم نسير الجبال : لقد جئتمونا فرادى ، وقول من زعم أن العامل فيه " خير " يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال بعيد جدا كما ترى .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي ، فتسير جباله ، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر ، ولا بناء ولا وادي ولا علم ، ذكره في مواضع أخر كثيرة ، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما ، ويدكهما دكة واحدة ، وذلك في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة . . الآية [ 69 \ 13 - 15 ] .

    وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، وقولـه : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقولـه : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] ، وقولـه : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب الآية [ 27 \ 88 ] .

    ثم ذكر في مواضع أخر أنه جل وعلا يفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين ، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش ، وكالرمل المتهايل ، كقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 8 - 9 ] ، وقولـه تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، والعهن : الصوف ، وقولـه تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، وقولـه تعالى : وبست الجبال بسا [ 56 \ 5 ] ، أي : فتتت حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن ، على أشهر التفسيرات .

    ثم ذكر جل وعلا أنه يجعلها هباء وسرابا . قال : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا [ 56 \ 5 ، 6 ] ، وقال : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] .

    وبين في موضع آخر أن السراب عبارة عن لا شيء ; وهو قوله : [ ص: 283 ] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ، إلى قوله : لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .

    وقولـه : ويوم نسير الجبال ، قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو : " تسير الجبال " بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله : " تسير " مبنيا للمفعول ، و الجبال بالرفع نائب فاعل تسير والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا ، وقرأه باقي السبعة " نسير " بالنون وكسر الياء المشددة مبنيا للفاعل ، و " الجبال " منصوب مفعول به ، والنون في قوله " نسير " للتعظيم .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وترى الأرض بارزة ، البروز : الظهور ، أي : ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام ، والشجر والعمارات التي كانت عليها . وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه أيضا في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 105 - 106 ] ، وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد ، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها ، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار . وقول من قال : إن معنى وترى الأرض بارزة ، أي : بارزا ما كان في بطنها من الأموات والكنوز بعيد جدا كما ترى ، وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى : وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ 84 \ 3 - 4 ] ، وقولـه تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 ] ، وقولـه : وأخرجت الأرض أثقالها [ 99 \ 2 ] ، وقولـه : وإذا القبور بعثرت [ 82 \ 4 ] .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وحشرناهم ، أي : جمعناهم للحساب والجزاء ، وهذا الجمع المعبر عنه بالحشر هنا جاء مذكورا في آيات أخر ، كقوله تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] ، وقولـه تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة [ 4 \ 87 ] ، وقولـه تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] ، وقولـه تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] ، وقولـه : ويوم نحشرهم جميعا الآية [ 6 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وبين في موضع آخر أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات ، وهو قوله تعالى : [ ص: 284 ] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] ، أي : لم نترك ، والمغادرة : الترك ، ومنه الغدر ; لأنه ترك الوفاء والأمانة ، وسمي الغدير من الماء غديرا ; لأن السيل ذهب وتركه ، ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته :


    هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
    وقوله أيضا :


    غادرته متعفرا أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل
    وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحدا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : ويوم نحشرهم جميعا الآية [ 6 \ 22 ] ، ونحوها من الآيات ; لأن حشرهم جميعا هو معنى أنه لم يغادر منهم أحدا .
    قوله تعالى : وعرضوا على ربك .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الخلائق يوم القيامة يعرضون على ربهم صفا ، أي : في حال كونهم مصطفين ، قال بعض العلماء : صفا بعد صف ، وقال بعضهم : صفا واحدا وقال بعض العلماء " صفا " أي : جميعا ، كقوله : ثم ائتوا صفا [ 20 \ 64 ] ، على القول فيه بذلك ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي ، أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين ، يا عبادي ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسئولون محاسبون . يا ملائكتي ، أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " ، قلت : هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية ، ولم يذكره كثير من المفسرين ، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه ، والحمد لله .

    انتهى كلام القرطبي ، والحديث المذكور يدل على أن " صفا " في هذه الآية يراد به صفوفا ، كقوله في الملائكة : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، ونظير الآية قوله في الملائكة : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 - 39 ] .

    فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة حالا من أحوال عرض [ ص: 285 ] الخلائق عليه يوم القيامة فاعلم أنه بين في مواضع أخر أشياء أخر من أحوال عرضهم عليه ، كقوله : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ 69 \ 18 ] ، وبين في مواضع أخر ما يلاقيه الكفار ، وما يقال لهم عند ذلك العرض على ربهم . كقوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون [ 11 \ 18 - 19 ] .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : صفا أصله مصدر ، والمصدر المنكر قد يكون حالا على حد قوله في الخلاصة :


    ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
    قوله تعالى : لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة .

    هذا الكلام مقول قول محذوف ، وحذف القول مطرد في اللغة العربية ، كثير جدا في القرآن العظيم . والمعنى : يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا ، أي : والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ، أي : حفاة عراة غرلا ، أي : غير مختونين ، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد ، ولا خدم ولا حشم .

    وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون [ 6 \ 94 ] ، وقولـه : لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 94 - 95 ] ، وقولـه تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا الآية [ 21 \ 104 ] ، وقولـه : كما بدأكم تعودون [ 7 \ 29 ] تقدم .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : كما خلقناكم " ما " مصدرية ، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف ، وإيضاح تقريره : ولقد جئتمونا كما خلقناكم ، أي : مجيئا مثل مجيء خلقكم ، أي : حفاة عراة غرلا كما جاء في الحديث ، وخالين من المال والولد ، وهذا الإعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر ، ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضا حالا ، أي : جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى ; لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

    [ ص: 286 ]
    ويكثر الجمود في سعر وفي مبدي تأول بلا تكلف

    كبعه مدا بكذا يدا بيد وكر زيد أسدا أي كأسد
    فقوله " وكر زيد أسدا : أي : كأسد " مثال لمبدي التأول ; لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابها للأسد كما ذكرنا ، واعلم أن حذف القول وإثبات مقوله مطرد في اللغة العربية ، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرناه آنفا ، لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقوله قليل جدا ، ومنه قول الشاعر :


    لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
    لأن المراد لنحن الألى قلتم نقاتلهم ، فحذف جملة نقاتلهم التي هي مقول القول ، وقوله : ولقد جئتمونا ، عبر فيه بالماضي وأراد المستقبل ; لأن تحقيق وقوع ذلك ينزله منزلة الواقع بالفعل ، والتعبير بصيغة الماضي عن المستقبل لما ذكرنا كثير جدا في القرآن العظيم ، ومنه قوله هنا : وحشرناهم [ 18 \ 47 ] ، وقولـه : وعرضوا على ربك [ 18 \ 48 ] ، وقولـه : لقد جئتمونا ، ومنه قوله : أتى أمر الله ، وقولـه : ونفخ في الصور [ 18 \ 99 ] ، وقولـه : وسيق الذين كفروا [ 39 \ 71 ] ، وقولـه : وسيق الذين اتقوا ربهم [ 39 \ 73 ] ، ونحو ذلك كثير في القرآن لما ذكرنا .
    قوله تعالى : بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار زعموا أن الله لن يجعل لهم موعدا ، والموعد يشمل زمان الوعد ومكانه ، والمعنى : أنهم زعموا أن الله لم يجعل وقتا ولا مكانا لإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله من البعث والجزاء والحساب . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من إنكارهم البعث جاء مبينا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا الآية [ 64 \ 7 ] ، وقولـه عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    وقد بين الله تعالى كذبهم في إنكارهم للبعث في آيات كثيرة ، كقوله في هذه السورة الكريمة : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] ، وقولـه : قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم الآية [ 64 \ 7 ] ، وقولـه : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا [ 16 \ 38 ] ، وقولـه : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #238
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (237)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 287 إلى صـ 292




    وقد قدمنا في [ ص: 287 ] سورة " البقرة " وسورة " النحل " البراهين التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث ، وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : بل زعمتم إضراب انتقالي من خبر إلى خبر آخر ، لا إبطالي كما هو واضح . وأن في قوله : ألن نجعل ، مخففة من الثقيلة ، وجملة الفعل الذي بعدها خبرها ، والاسم ضمير الشأن المحذوف على حد قوله في الخلاصة :


    وإن تخفف أن . . .
    البيت .

    والفعل المذكور متصرف وليس بدعاء ، ففصل بينه وبينها بالنفي . على حد قوله في الخلاصة :
    وإن يكن فعلا ولم يكن دعا
    البيتين .
    قوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكتاب يوضع يوم القيامة . والمراد بالكتاب : جنس الكتاب ، فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا . وأن المجرمين يشفقون مما فيه . أي : يخافون منه ، وأنهم يقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر [ 18 \ 49 ] ، أي : لا يترك صغيرة ولا كبيرة من المعاصي التي عملنا إلا أحصاها أي : ضبطها وحصرها .

    وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه . وبعضهم يؤتاه بشماله . وبعضهم يؤتاه وراء ظهره . قال : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه [ 69 \ 25 ] ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا [ 84 \ 3 - 12 ] وقد قدمنا هذا في سورة " بني إسرائيل " . وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في " الزمر " في قوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 69 ] .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : فترى المجرمين ، تقدم معنى مثله في الكلام على [ ص: 288 ] قوله : وترى الشمس إذا طلعت الآية [ 18 \ 49 ] ، والمجرمون : جمع المجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام . والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال ، ومعنى كونهم " مشفقين مما فيه " : أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة ، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد ، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، وقولهم ياويلتنا الويلة : الهلكة ، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا : يا ويلتنا ! أي : يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضورك ! وقال أبو حيان في البحر : المراد من بحضرتهم : كأنهم قالوا : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا . وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله : يا أسفا على يوسف [ 12 \ 84 ] ، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله [ 39 \ 56 ] ، ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ 36 \ 52 ] ، وقولـه : يا عجبا لهذه الفليقة ، فيا عجبا من رحلها المتحمل ، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان . وحاصل ما ذكره : أن أداة النداء في قوله " يا ويلتنا " ينادى بها محذوف ، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف ، والتقدير كما ذكره : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء ، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب . ومنه قول عنترة في معلقته :


    يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم
    يعني : يا قوم انظروا شاة قنص ، وقول ذي الرمة :


    ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
    يعني : يا هذه اسلمي .

    وقولـه تعالى : مال هذا الكتاب [ 18 \ 49 ] أي : أي شيء ثبت لهذا الكتاب لا يغادر أي : لا يترك صغيرة ولا كبيرة أي : من المعاصي ، وقول من قال : الصغيرة القبلة ، والكبيرة الزنا ، ونحو ذلك من الأقوال في الآية إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول . وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر ، ويفهم من ذلك أن منها صغائر ، وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر ; وذلك في قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 4 \ 31 ] ، ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه [ ص: 289 ] قال : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر ، وجملة " لا يغادر " حال من " الكتاب " .

    تنبيه

    هذه الآية الكريمة يفهم منها أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم ، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم . والعلم عند الله تعالى .

    قوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم . وأوضح هذا أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية [ 10 \ 30 ] ، وقولـه : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقولـه : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    قوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يظلم أحدا ، فلا ينقص من حسنات محسن ، ولا يزيد من سيئات مسيء ، ولا يعاقب على غير ذنب .

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] ، وقولـه تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقولـه : وما ربك بظلام للعبيد [ 41 \ 46 ] وقولـه : وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 33 ] ، وقولـه : وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 118 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
    قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .

    قدمنا في سورة " البقرة " أن قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرا معلقا على وجوده . ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزا بعد وجود آدم . وأنه جل وعلا بين في سورة " الحجر " وسورة " ص " أن أصل [ ص: 290 ] الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه ، قال في " الحجر " : وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 15 \ 28 - 29 ] وقال في " ص " : إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 38 \ 71 - 72 ] ، ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدد لهم الأمر بالسجود له تنجيزا .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : فسجدوا محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم ، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم ، كقوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون [ 15 ، 73 و 38 ] ونحوها من الآيات .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة ، كان من الجن ففسق عن أمر ربه [ 18 \ 50 ] ، ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن ، وقد تقرر في الأصول في " مسلك النص " وفي " مسلك الإيماء والتنبيه " : أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل ، كقولهم : سرق فقطعت يده ، أي : لأجل سرقته . وسها فسجد ، أي : لأجل سهوه ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] أي : لعلة سرقتهما . وكذلك قوله هنا كان من الجن ففسق [ 18 \ 50 ] أي : لعلة كينونته من الجن ; لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة ; لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو ; ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن ، وأنه كان يتعبد معهم ، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم ، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها . والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطانا ، أو ليس في الأصل بملك ، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم مشهور عند أهل العلم . وحجة من قال : إن أصله ليس من الملائكة أمران : أحدهما عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس . كما قال تعالى عنهم : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وقال تعالى : لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ 21 \ 27 ] ، والثاني : أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن ، والجن غير الملائكة . قالوا : وهو نص قرآني في محل النزاع . واحتج من قال : إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس [ 15 \ 30 - 31 ] ، قالوا : فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم . وقال [ ص: 291 ] بعضهم : والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص . ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع ، قالوا : ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى كان من الجن [ 18 \ 50 ] ; لأن الجن قبيلة من الملائكة ، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس ، والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة ، ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود :


    وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
    قالوا : ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا [ 37 \ 158 ] ، عند من يقول : بأن المراد بذلك قولهم : الملائكة بنات الله . سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا ! وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة : الحسن البصري ، وقصره الزمخشري في تفسيره ، وقال القرطبي في تفسير سورة " البقرة " : إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور : ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وابن المسيب ، وقتادة وغيرهم . وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر قوله " إلا إبليس " اهـ . وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره : من أنه كان من أشراف الملائكة ، ومن خزان الجنة ، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا ، وأنه كان اسمه عزازيل كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها .

    وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال : إنه غير ملك . لأن قوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق الآية [ 18 \ 50 ] ، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي . والعلم عند الله تعالى .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ففسق عن أمر ربه ، أي : خرج عن طاعة أمر ربه ، والفسق في اللغة : الخروج ; ومنه قول رؤبة بن العجاج :


    يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
    وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، فلا حاجة لقول من قال : إن " عن " سببية ، كقوله : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي : بسببه وأن المعنى : ففسق عن أمر ربه ، أي : بسبب أمره حيث لم يمتثله ، ولا غير ذلك من الأقوال .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ، [ ص: 292 ] الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارا . أي : أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان ، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا بئس للظالمين بدلا من الله إبليس وذريته وقال للظالمين ; لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق ، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته ، وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه . كما تقدم مرارا ، والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام ، وتقديره : بئس البدل من الله إبليس وذريته . وفاعل " بئس " ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو " بدلا " على حد قوله له في الخلاصة :


    ويرفعان مضمرا يفسره مميز كنعم قوما معشره
    والبدل : العوض من الشيء ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينا في آيات أخر .

    كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ 35 \ 6 ] ، وكذلك الأبوان ، كما قال تعالى : فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] .

    وقد بين في غير هذا الموضع : أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق . كقوله تعالى : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 \ 30 ] ، وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان . كقوله تعالى : والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان [ 4 \ 76 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون [ 7 \ 27 ] ، وقولـه تعالى : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت [ 2 \ 257 ] ، وقولـه : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #239
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (238)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 293 إلى صـ 298



    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وذريته [ 18 \ 50 ] ، دليل على أن للشيطان ذرية . فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى . وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك ! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره ، لا دليل عليها من نص صريح ، والعلماء مختلفون فيها . وقال الشعبي : سألني الرجل : هل لإبليس زوجة ؟ فقلت : إن ذلك عرس لم أشهده ثم ذكرت قوله تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني [ 18 \ 50 ] ، [ ص: 293 ] فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت : نعم ، وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة ، وقال مجاهد : إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات : قال : فهذا أصل ذريته ، وقال بعض أهل العلم : إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا ، وفي اليسرى فرجا ، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات ، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة . فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية . أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح ، ومثله لا يعرف بالرأي . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : قلت : الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني : أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ ، من رواية عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فيها باض الشيطان وفرخ " وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه .

    قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك . هل هي من أنثى هي زوجة له ، أو من غير ذلك . مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال ; لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل ، فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل ; لأن الأمثال لا تغير ألفاظها ، وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها ; كقوله : زلنبور صاحب الأسواق ، وتبر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك ، والأعور صاحب أبواب الزنا . ومسوط صاحب الأخبار يلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا . وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه . والولهان صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس ، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم كله لا معول عليه ; إلا ما ثبت منه عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن خلف [ ص: 294 ] الباهلي ، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء : أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك شيطان يقال له خنزب . فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا " قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .

    وتحريش الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر ، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة كل ذلك معروف ثابت في الصحيح . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ، التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة أن الله يقول : ما أشهدت إبليس وجنوده ; أي : ما أحضرتهم خلق السماوات والأرض ، فأستعين بهم على خلقها ولا خلق أنفسهم ، أي : ولا أشهدتهم خلق أنفسهم ، أي : ما أشهدت بعضهم خلق بعضهم فأستعين به على خلقه ، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير ! فكيف تصرفون لهم حقي وتتخذونهم أولياء من دوني وأنا خالق كل شيء .

    وهذا المعنى الذي أشارت له الآية من أن الخالق هو المعبود وحده جاء مبينا في آيات كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة ، كقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقولـه : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقولـه : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] ، وقولـه تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات [ 35 \ 40 ] ، وقولـه تعالى : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات [ 46 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمناه مرارا . وقال بعض العلماء ولا خلق أنفسهم أي : ما أشهدتهم خلق أنفسهم ; بل خلقتهم على ما أردت وكيف شئت . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] ، فيه الإظهار في محل الإضمار ; لأن الأصل الظاهر . وما كنت متخذهم عضدا ، كقوله : ما أشهدتهم والنكتة البلاغية في الإظهار في محل الإضمار هي ذمه تعالى لهم بلفظ [ ص: 295 ] الإضلال . وقوله " عضدا " أي : أعوانا .

    وفي هذه الآية الكريمة التنبيه على أن الضالين المضلين لا تنبغي الاستعانة بهم ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

    والمعنى المذكور أشير له في مواضع أخر ; كقوله تعالى : قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ 28 \ 17 ] ، والظهير : المعين ، والمضلون : الذين يضلون أتباعهم عن طريق الحق ، وقد قدمنا معنى الضلال وإطلاقاته في القرآن بشواهده العربية .
    قوله تعالى : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا .

    أي : واذكر يوم يقول الله جل وعلا للمشركين الذين كانوا يشركون معه الآلهة والأنداد من الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله توبيخا لهم وتقريعا : نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاء معي ، فالمفعولان محذوفان : أي : زعمتموهم شركاء لي كذبا وافتراء . أي : ادعوهم واستغيثوا بهم لينصروكم ويمنعوكم من عذابي ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، أي : فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من عدم استجابتهم لهم إذا دعوهم يوم القيامة جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله تعالى في سورة " القصص " : ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 28 \ 62 - 64 ] ، وقولـه تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] ، وقولـه : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 ] ، وقولـه : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 ] ، وقولـه تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون [ 6 \ 94 ] ، والآيات في تبرئهم منهم يوم القيامة ، وعدم استجابتهم لهم كثيرة جدا . وخطبة الشيطان المذكورة في سورة " إبراهيم " في [ ص: 296 ] قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 22 ] ، من قبيل ذلك المعنى المذكور في الآيات المذكورة .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : وجعلنا بينهم موبقا اختلف العلماء فيه من ثلاث جهات :

    الأولى : في المراد بالظرف الذي هو " بين " ، والثانية : في مرجع الضمير . والثالثة : في المراد بالموبق ، وسنذكر هنا أقوالهم ، وما يظهر لنا رجحانه منها إن شاء الله تعالى .

    أما الموبق : فقيل : المهلك . وقيل واد في جهنم . وقيل الموعد . قال صاحب الدر المنثور : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله : وجعلنا بينهم موبقا يقول : مهلكا ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله " موبقا " يقول : مهلكا . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله " موبقا " قال . واد في جهنم .

    وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن أنس في قوله : وجعلنا بينهم موبقا قال : واد في جهنم من قيح ودم . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عمر في قوله : وجعلنا بينهم موبقا قال : هو واد عميق في النار ، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمرو البكالي قال : الموبق الذي ذكر الله : واد في النار ، بعيد القعر ، يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الإسلام وبين من سواهم من الناس . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى موبقا ، قال : هو نهر يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم ، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها . وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال : إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها : غليظ ، وموبق ، وأثام ، وغي . انتهى كلام صاحب الدر المنثور . ونقل ابن جرير عن بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة : أن الموبق : الموعد ، واستدل لذلك بقول الشاعر :


    وجاد شرورى والستار فلم يدع تعارا له والواديين بموبق
    يعني : بموعد ، والتحقيق : أن الموبق المهلك ، من قولهم وبق يبق ، كوعد يعد ، [ ص: 297 ] إذا هلك . وفيه لغة أخرى وهي : وبق يوبق كوجل يوجل ، ولغة ثالثة أيضا وهي : وبق يبق كورث يرث . ومعنى كل ذلك : الهلاك . والمصدر من وبق بالفتح الوبوق على القياس ، والوبق . ومن وبق بالكسر الوبق بفتحتين على القياس . وأوبقته ذنوبه : أهلكته ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : أو يوبقهن بما كسبوا [ 42 \ 34 ] ، أي : يهلكهن ، ومنه الحديث ، " فموبق نفسه أو بائعها فمعتقها " وحديث " السبع الموبقات " أي : المهلكات ، ومن هذا المعنى قول زهير :


    ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه عن كل شنعاء موبق
    وقول من قال ، إن الموبق العداوة ، وقول من قال : إنه المجلس كلاهما ظاهر السقوط . والتحقيق فيه هو ما قدمنا . وأما أقوال العلماء في المراد بلفظه " بين " فعلى قول الحسن ومن وافقه : أن الموبق العداوة فالمعنى واضح ; أي : وجعلنا بينهم عداوة ; كقوله : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو [ 43 \ 67 ] ، وقولـه : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا [ 29 \ 25 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . ولكن تفسير الموبق بالعداوة بعيد كما قدمنا . وقال بعض العلماء : المراد بالبين في الآية : الوصل ; أي : وجعلنا تواصلهم في الدنيا ملكا لهم يوم القيامة ; كما قال تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب [ 2 \ 166 ] ، أي : المواصلات التي كانت بينهم في الدنيا . وكما قال : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وكما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا [ 29 \ 25 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقال بعض العلماء : وجعلنا بينهم موبقا : جعلنا الهلاك بينهم ; لأن كلا منهم معين على هلاك الآخر لتعاونهم على الكفر والمعاصي فهم شركاء في العذاب ; كما قال تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 \ 39 ] ، وقولـه : قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [ 7 \ 38 ] ، ومعنى هذا القول مروي عن ابن زيد . وقال بعض العلماء : وجعلنا بينهم موبقا : أي : بين المؤمنين والكافرين موبقا ، أي : مهلكا يفصل بينهم ، فالداخل فيه ، في هلاك ، والخارج عنه في عافية . وأظهر الأقوال عندي وأجراها على ظاهر القرآن ، أن المعنى : وجعلنا بين الكفار وبين من كانوا يعبدونهم ويشركونهم مع الله موبقا أي : مهلكا ، [ ص: 298 ] لأن الجميع يحيط بهم الهلاك من كل جانب ، كما قال تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل [ 39 \ 16 ] ، وقولـه : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] ، وقولـه : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية [ 21 \ 98 ] ، وقال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين يسمى موبقا ، نقله عنه القرطبي ، وبما ذكرنا تعلم أن الضمير في قوله " بينهم " قيل راجع إلى أهل النار . وقيل راجع إلى أهل الجنة وأهل النار معا . وقيل راجع للمشركين وما كانوا يعبدونه من دون الله . وهذا هو أظهرها لدلالة ظاهر السياق عليه ; لأن الله يقول : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم [ 18 \ 52 ] ، ثم قال مخبرا عن العابدين والمعبودين : وجعلنا بينهم موبقا [ 18 \ 52 ] ، أي : مهلكا يفصل بينهم ويحيط بهم ، وهذا المعنى كقوله : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم الآية [ 10 \ 28 ] ، أي : فرقنا بينهم .

    وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ويوم يقول قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة بالياء المثناة التحتية ، وقرأه حمزة " نقول " بنون العظمة ، وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، أي : يقول هو أي : الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #240
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,763

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثالث
    الحلقة (239)

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    صـ 299 إلى صـ 304


    قوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المجرمين يرون النار يوم القيامة ، ويظنون أنهم مواقعوها ، أي : مخالطوها وواقعون فيها . والظن في هذه الآية بمعنى اليقين ; لأنهم أبصروا الحقائق وشاهدوا الواقع . وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم موقنون بالواقع ; كقوله عنهم : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] ، وكقوله : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وقولـه تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] ، ومن إطلاق الظن على اليقين [ قولـه ] تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون [ 2 \ 45 - 46 ] ، أي : يوقنون أنهم ملاقو ربهم ، وقولـه تعالى : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [ 2 \ 249 ] ، وقولـه تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 19 - 20 ] ، [ ص: 299 ] فالظن في هذه الآيات كلها بمعنى اليقين ، والعرب تطلق الظن على اليقين وعلى الشك ، ومن إطلاقه على اليقين في كلام العرب قول دريد بن الصمة :


    فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
    وقول عميرة بن طارق :


    بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
    وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المجرمين يرون النار ، وبين في موضع آخر أنها هي تراهم أيضا ، وهو قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 11 - 12 ] ، وما جرى على ألسنة العلماء من أن الظن جل الاعتقاد اصطلاح للأصوليين والفقهاء ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم يجدوا عنها مصرفا ، المصرف : المعدل ، أي : ولم يجدوا عن النار مكانا ينصرفون إليه ويعدلون إليه ، ليتخذوه ملجأ ومعتصما ينجون فيه من عذاب الله ، ومن إطلاق المصرف على المعدل بمعنى مكان الانصراف للاعتصام بذلك المكان قول أبي كبير الهذلي :


    أزهير هل عن شيبة من مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
    وقولـه في هذه الآية الكريمة :

    ورأى المجرمون النار ، من رأى البصرية ، فهي تتعدى لمفعول واحد ، والتعبير بالماضي عن المستقبل نظرا لتحقق الوقوع ، فكان ذلك لتحقق وقوعه كالواقع بالفعل ، كما تقدم مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، قوله : ولقد صرفنا [ 18 \ 54 ] ، أي : رددنا وكثرنا تصريف الأمثال بعبارات مختلفة ، وأساليب متنوعة في هذا القرآن للناس . ليهتدوا إلى الحق ، ويتعظوا . فعارضوا بالجدل والخصومة ، والمثل : هو القول الغريب السائر في الآفاق ، وضرب الأمثال كثير في القرآن جدا ، كما قال تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ 2 \ 26 ] ، ومن أمثلة ضرب المثل فيه ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] ، وقولـه : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] [ ص: 300 ] وقوله : فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا الآية [ 7 \ 176 - 177 ] ، وكقوله : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الآية [ 62 \ 5 ] ، وقولـه : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء الآية [ 18 \ 45 ] ، وقولـه : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [ 16 \ 75 ] ، وقولـه : وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم [ 16 \ 76 ] ، وقولـه : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم الآية [ 30 \ 28 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وفي هذه الأمثال وأشباهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جدا ، لا لبس في الحق معها ، إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم ، كما قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، ومن حكم ضرب المثل : أن يتذكر الناس ، كما قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون

    وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوما ، ويضل بها قوما آخرين ، كما في قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] ، وأشار إلى هذا المعنى في سورة " الرعد " ; لأنه لما ضرب المثل بقوله : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، أتبع ذلك بقوله : للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 13 \ 18 ] ، ولا شك أن الذين [ ص: 301 ] استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال ، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق ، وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها ، ولم يعرفوا ما أوضحته من الحقائق ، فالفريق الأول هم الذين قال الله فيهم ويهدي به كثيرا [ 2 \ 26 ] ، والفريق الثاني هم الذين قال فيهم يضل به كثيرا وقال فيهم وما يضل به إلا الفاسقين .

    وقولـه في هذه الآية الكريمة : ولقد صرفنا قال بعض العلماء : مفعول " صرفنا " محذوف ، تقديره : البينات والعبر ، وعلى هذا فـ " من " لابتداء الغاية ، أي : ولقد صرفنا الآيات والعبر من أنواع ضرب المثل للناس في هذا القرآن ليذكروا ، فقابلوا ذلك بالجدال والخصام ، ولذا قال : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 45 ] ، وهذا هو الذي استظهره أبو حيان في البحر ، ثم قال : وقال ابن عطية يجوز أن تكون " من " زائدة للتوكيد ، فالتقدير : ولقد صرفنا كل مثل ، فيكون مفعول " صرفنا " : " كل مثل " وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش ، لا على مذهب جمهور البصريين ، انتهى الغرض من كلام صاحب البحر المحيط ، وقال الزمخشري : " من كل مثل " من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ا هـ ، وضابط ضرب المثل الذي يرجع إليه كل معانيه التي يفسر بها : هو إيضاح معنى النظير بذكر نظيره ; لأن النظير يعرف بنظيره ، وهذا المعنى الذي ذكره في هذه الآية الكريمة جاء مذكورا في آيات أخر ، كقوله في " الإسراء " : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 17 \ 89 ] ، وقولـه تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا [ 17 \ 41 ] ، وقولـه : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] ، وقولـه : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون [ 39 \ 27 - 28 ] ، وقولـه : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون [ 30 \ 58 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

    وقولـه في هذه الآية : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] أي : أكثر الأشياء التي من شأنها الخصومة إن فصلتها واحدا بعد واحد " جدلا " أي : خصومة ومماراة بالباطل لقصد إدحاض الحق .

    ومن الآيات الدالة على خصومة الإنسان بالباطل لإدحاض الحق قوله هنا ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] ، [ ص: 302 ] وقولـه تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم الآية [ 42 \ 16 ] وقولـه تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] وقولـه تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وما فسرنا به قوله تعالى : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا من أن معناه كثرة خصومة الكفار ومماراتهم بالباطل ليدحضوا به الحق هو السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة ; لأن قوله : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ 17 \ 89 ] ، أي : ليذكروا ويتعظوا وينيبوا إلى ربهم : بدليل قوله : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا [ 17 \ 41 ] وقولـه : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] ، فلما أتبع ذلك بقوله : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] ، علمنا من سياق الآية أن الكفار أكثروا الجدل والخصومة والمراء لإدحاض الحق الذي أوضحه الله بما ضربه في هذا القرآن من كل مثل ، ولكن كون هذا هو ظاهر القرآن وسبب النزول لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها ; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما بيناه بأدلته فيما مضى ، ولأجل هذا لما طرق النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلة فقال : " ألا تصليان " ؟ وقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، انصرف النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وهو يضرب فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، والحديث مشهور متفق عليه ، فإيراده صلى الله عليه وسلم الآية على قول علي رضي الله عنه " إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا " دليل على عموم الآية الكريمة ، وشمولها لكل خصام وجدل ، لكنه قد دلت آيات أخر على أن من الجدل ما هو محمود مأمور به لإظهار الحق ، كقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ، وقولـه تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ 29 \ 46 ] ، وقولـه " جدلا " منصوب على التمييز ، على حد قوله في الخلاصة :


    والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
    وقولـه : أكثر شيء جدلا أي : أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلا كما تقدم ، وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية ، أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللام لزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله :

    [ ص: 303 ]
    وإن لمنكور يضف أو جردا ألزم تذكيرا وأن يوحدا
    وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة مبينا بعض الآيات المبينة للمراد بجدل الإنسان في الآية الكريمة ، بعد أن ساق سنده إلى ابن زيد في قوله : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، قال : الجدل الخصومة خصومة القوم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاءوا به ، وقرأ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون [ 23 \ 33 ] ، وقرأ : يريد أن يتفضل عليكم [ 23 \ 24 ] ، وقرأ حتى توفى الآية ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] ، وقرأ : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 ] انتهى من تفسير الطبري ، ولا شك أن هذه الآيات التي ذكر عن ابن زيد أنها مفسرة لجدل الإنسان المذكور في الآية أنها كذلك ، كما قدمنا أن ذلك هو ظاهر السياق وسبب النزول ، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة في القرآن العظيم ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

    في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم ، وكلاهما تدل على مقتضاه آيات من كتاب الله تعالى ، وأحد الوجهين أظهر عندي من الآخر .

    الأول منهما أن معنى الآية : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إذ جاءتهم الرسل بالبينات الواضحات ، إلا ما سبق في علمنا : من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين من الكفار ، وإتيان العذاب إياهم يوم القيامة قبلا ، وعلى هذا القول فالآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقولـه : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] [ ص: 304 ] وكقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة .

    القول الثاني : أن في الآية الكريمة مضافا محذوفا ، تقديره : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا .

    والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عنادا وتعنتا كثيرة جدا ، كقوله عن قوم شعيب : فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين [ 26 \ 187 ] ، وكقوله عن قوم هود : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 46 \ 22 ] ، وكقوله عن قوم صالح : وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وكقوله عن قوم لوط : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين [ 29 \ 29 ] ، وكقوله عن قوم نوح : قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 11 \ 32 ] .

    فهذه الآيات وأمثالها في القرآن ذكر الله فيها شيئا من سنة الأولين : أنهم يطلبون تعجيل العذاب عنادا وتعنتا ، وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل ، كإهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة ، وقوم هود بالريح العقيم ، وقوم لوط بجعل عالي قراهم سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم ، كما هو مفصل في الآيات القرآنية .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •