ـ الفـرق بين النكرة والْمطلق


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين



الْمطلق لغة : ضد الْمقيد .

أما اصطلاحاً فللعلماء مذهبان فـي تعريف المطلق :



الأول : مذهب مَنْ جعَلَـه مـرادفاً للنكرة ، والْمطلق على هذا : ما دلَّ على شائع في جنسه ، أو مـا دلَّ على فـردٍ مـا منتشر فـي جنسه ؛ لدلالته على فـرد شائع منتشرٍ فـي جنسه ، وقـد قـال بهـذا الْـمذهب جمعٌ مِن علمـاء الأصول ، والفقه ([1]) ، والْجرجاني في التعريفات ([2]) ، ونسبه الشنقيطي في نثر الورود إلى النحويين عامـة ([3]).



الثاني : مـذهب مَـنْ جعَلَـه مـخالفاً للنكـرة ، كمخالفـة اسم الْجنس لَها ، والْمطلق على هـذا : مـا دلَّ على الْـمـاهية مِـن غير قيدٍ ، أو مـا دلَّ على الْماهية مـن حيث هي هي ، وخـالَفَ الْمطلـقُ النكـرةَ على هـذا الْحـد ؛ لعدم دلالته على الوحـدة ، وقـال بهـذا جـمعٌ من علماء الأصول ، والفقه ، والتفسير ([4]) .

ويرجع سبب الخلاف في تعريف الْمطلق إلى ثلاثة أسباب :

السبب الأول : اختلاف العلماء فـي نوع الْماهية ([5]) ، فمَنِ اشتَرَطَ في الحَدّ الْماهيةَ المخلوطة التي تدل على عـارضٍ مـِن عوارضها رَادَفَ بين النكرة والمطلق ؛ لاعتباره الوحـدة من عوارض الماهية .

ومَنِ اشتَرَطَ في الْحد الْماهيةَ الْمطلقة أو الْمجردة التي لا تدل على عارضٍ مِن عوارض الماهية خَالَفَ بين النكرة والمطلق ؛ لانتفاء العوارضِ عن هذه الماهية ، ومن تلك العوارض الوحـدة .

السبب الثاني : اختلاف العلماء في نوع الْمطلق ([6]) ، فمَنِ اشتَرَطَ فـي الْحد الْمطلقَ الإضـافي الذي تدل إضافته على قيد معنوي ـ رَادَفَ بين النكرة والمطلق ؛ لأنَّه جعل القيد الْمعنوي الدلالة على الوحدة مع الشيوع .

ومن اشْتَرَطَ في الحد المطلقَ الحقيقي الذي يدل مدلوله على الإطلاق مِن كل وجـهٍِ وقيْدٍ ـ خَالَفَ بين النكرة والمطلق ؛ لانعدام الشبه المشترك بين النكرة والمطلق الحقيقي ، وهو الدلالة على قيد من قيود الماهية .

السبب الثالث : أنّ مـِن العلماء مَـنْ جَعَل عمومَ الْمطلق عموماً شاملاً يشمل عمـوم البدل ، وعموم الشمـول ، وهذا يُفهمُ مِما جـاء في كتاب فـواتح الرحموت : (( فالأوْلى أن يُرَادَ بالْمطلق ما لا يكون فيه قيد ، وإن كان عاماً … )) ([7]).

ومِـن ثَمَّ فـالْـخلاف بين العلماء مِـن هذه الناحية راجعٌ إلى اختلاف نظرهم إلى نوع الْماهية ، أو نوع الْمطلق ، أو نوع العموم ، وعليه فلا تعارُضَ بين الأقوال الثلاثة ؛ لاختلاف مبدأ كلِّ منهم .

وعلى كُلٍ فالأسباب وإن اختلفت في تحديد الْمطلق وتوجيهه إلاَّ أَنَّ فـي جـميع تعريفات الْمطلق وجهاً من الوجوه التي يترادف به مع النكرة .

فالْمطلق إِنْ كانَ دالاً على الوحـدة شائعاً فهو مرادف للنكرة مطلقاً ، وإن كان دالاً على الْماهية من حيث هي ـ فالنكرة بعـضٌ من الْمطلق ؛ لدلالة الماهية على الفرد وغيره ([8]) وإن كان الْمطلـق دالاً على العموم مطلـقاً بدلياً كان أو شـمولياً فالنكرة ـ أيضاً ـ بعضٌ منه ؛ لدلالة النكرة على عموم البدل .

وعـلى القـول بأَنَّ الْمطلـق مـا دل على الْمـاهية بلا قيد ـ فسيظهر خـلافٌ بينه وبين النكـرة معنىً ولفظاً فـي علم الأصـول ، فأمّا الْخـلاف فـي الْـمعنى فيظهر مِـن ثلاثة أوجه :



الـوجـه الأول : كون النكرة يعتبر فيها قيد الـوحدة على مذهب أغلب العلماء بعكس المطلق إن عُرِّف بدلالته على الماهية من حيث هي هي ـ فإنه يَرِدُ فيه التعدد ، والكثرة ، وينشأ عن ذلك خلاف في بعض المسائل الفقهية ، ومن ذلك قول ابن السبكي في رفع الحاجب : (( وعلى الفرق بينهما أسلوب المنطقيين والأصوليين والفقهاء ، حيث اختلفوا فيمَن قال لامرأته : ( إن كان حملك ذكراً فأنت طالقٌ ) ، فكـان ذكرين ، فقيل : لا تطلق نظـراً للتنكير الْـمشعر بالتوحيد ، وقيل : تطلق حـملاً على الْجنس . )) ([9])

فمَنْ نَظَـرَ ـ فـي هذه الْمسألة ـ إلى دلالة النكرة على الوحـدة قـال : إنَّ الْمرأة لا تُطَلَّـق ، وغَضَّ الطّرْفَ عن دلالة الْمطلق .

ومَـن نظر إلى دلالة الْـمطلق على الْماهية قـال : تُطَلَّق ؛ لدلالة الْماهية على الـفرد والأكثر .



وإذا قيس على هذه المسألة مثيلاتها من المسائل التي ورد فيها الأسلوب مطلقاً كان الْخلاف بين النكرة والْمطلق له حظٌ من النظر ؛ لاختلاف الْحكم الفقهي الْمستنبَطُ تبعاً للنظر إلى دلالة كل منهما .



الـوجـه الثاني : مصطلـح النكـرة عند النحـويين ، والبلاغيين ، واللغويين يطلـق عـلى الاسـم الْمنكـر سواء كـان فـي سياق الإثبات ، أو فـي سياق النفي ، والنكرة فـي سياق النفي لا خـلاف بين الأصـوليين فـي كـونها مِـن ألـفاظ الـعمـوم ، ولا قـائلَ بِمـرادفة الْـمطلق للفظٍ مـن ألفاظ العموم الْـمعروفـة فـي كلام العرب ([10]).



ـ الـوجـه الثالث : لو سُلِّم أنَّ النكـرة فـي سياق الإثبات ترادف الْـمطلق على مذهب قائليه ، كالآمدي ([11])وغيره ـ فإنه يَرِدُ على ذلك كون النكرة فـي سياق إثبات ([12]) اقترن بأداة استغراق ، ككون النكـرة فـي سياق الشرط مِـن ألفـاظ العموم ، كقوله تبارك وتعالى : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ( ([13]) ، مع اتفاق الناس أَنَّها في سياق الإثبات ، وكذلك النكرة الْمضافة ك( كل ) في مثل قوله تعالى ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ( ([14]) .


ـ وجه التشابه والاختلاف اللفظي بين النكرة والمطلق


أولا : وجـه التشابه :



تتشابه النكرة مـع الْمطلق لفـظاً على رأي مَـن يقول بدلالة المطلق على الوحـدة الشائعة إذا كـانت النكـــرة مـحضة غير مختصة بوصف ، أو إضافة كـ( رقبة ) مـن قـول الله I : ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( ([15]) ؛ لأنَّ ( رقبة ) ـ هنا ـ يصح إطلاق لفظ التنكير عليها ؛ لكونها قـابلة لعـلامـات النكـرة ، ويصح إطـلاق لفظ الْمطلق عليها ؛ لعـدم تقيُّدِها بقيد مِـن قيود الْـمقيَّد ؛ ولـكونها فـي سياق إثبات لَم يقترن بأداة استغـراق .



ثانيا : وجـه الاختلاف :



تَختلف النكــرة مع المطــــلق لفظاً إذا كانت النكــرة مـختصة بوصف أو إضافة ، نحو : ( رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) مِن قوله I : ) وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَــدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمـــــِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَــةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِـدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّــنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ([16])؛ لأنَّ ( رقبة ) ـ هنا ـ قُيدت بالإيمان ـ فأخرجها ذلك من الإطلاق إلى التقييد فتُسَمَّى بالمقيد فــــي اصطلاح الأصوليين ؛ جـــاء في التقـــرير والتحبير : (( الْمقيد : ما أخـــــرج مـن الشياع بوجـــه من الوجوه ، كـ( رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) فإنها وإن كانت شائعة بين الرقبات المؤمنات فقد أخرجت من الشياع بوجه ما حيث كانت شائعة بين الْمؤمنة وغير الْمؤمنة فأزيل ذلك الشياع عنه وقيد بالْمؤمنة فكان مطلقا مِـن وجه ، مقيداً من وجه . )) ([17]) .



أما على اعتبار كون المقيد عند الأصوليين مطلقاً من وجهٍ ، ومقيداً من وجهٍ ، كـ( رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) ـ فـكلمة ( رقبة ) مقيدةٌ مِـن جهـة عـدم دخـول غير الْمؤمنين في حكم العتق ، ومطلقةٌ من جـهة صلاحيتها لكلِّ فرد من المؤمنين على طـريق البدل ، فهذا لا يُخرجها من مُسمّى المطلق .



وهذا ما جعَلَ كثيراً مِـن العلمـــــــاء لا يُفَرِّقون بين الْـمطلق وبين النكرة مطلقاً كان أم مـقيداً ؛ لأنَّ النكـرة ـ أيضاً ـ لا تفقد إطـلاقهـا مهما قُيِّدَتْ وخُصِّصَتْ إلا إذا تَحولت إلى معرفةٍ ، لكنْ هذا لا ينفِي عـدم الترادف في الاصطــلاح الأصــــــــــو لي على مذهب من قال بعدم ترادفهما .



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

حرره طالب في ‏28‏/07‏/1429ـ ‏31‏/07‏/2008







--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ـ كابن قدامة الْمقدسي في روضـة الناظر وجنة الْـمناظـر :259 ، والآمــدي فـي الإحـكــام :3/5 ، وأبوعبد الله البعلي الْـحنبلي فـي الْمطلـع على أبواب الْــمقنع :394 ، والـشاطبي فـي الْمـوافقـات :3/129، ومـحب الله بن عبدالشكور فـي مسلم الثبوت فـي أصول الفقه :1/360 .

([2]) ـ ينظر : التعريفات :280 .

([3])ـ ينظر : نثر الورود شرح مـراقي السعود :1/321 .

([4])ـ كالفخر الرازي في المحصول :2/521 ، وابن السبكي في جـمع الْـجوامع :151، ورفع الحاجب عن مـختصر ابن الحاجب :3/366 ، والأسنوي في التمهيد :309 ، وأبي يحيي زكريا الأنصاري في الحدود الأنيقة :78 .

([5]) الماهية على قسمين : مـجردة ، ومـخلوطـة ، بيَّنَها الشوكاني فـي إرشاد الفحول : 190 بقوله : (( … الْماهية قـد تؤخذ بشرط أن تكـونَ مـع بعض العـوارض ، كـ( الإنسان ) بقيد الـوحـدة فلا يصدق على الْـمتعدد ، وبالعكس ، وكالْمقيد بهـذا الشخـص فلا يصـدق على فـرد آخر ، وتسمى الْمـاهية الْمخلوطـة ، والْماهية بشرط شيء ، ولا ارتياب فـي وجـودها فـي الأعيان ، وقـد تُؤخَـذُ بشرط التجـرد عـن جـميع العوارض ، وتسمى الْـمجردة والْـماهية بشرط لا شيء ، ولا خفـاء فـي أنها لا توجد فـي الأعيان بل فـي الأذهان . ))

([6]) ـ جـاء فـي الإبهاج :2/199 ـ 200 : (( الْـمطلق منقسم إلى حـقيقي وإضافي ، أمّـا الْـحقيقي فهـو طلـق من كل وجْـهٍ … وهو المجرد عن جميع القيود الدالة على ماهية الشيء من غير أن يدل على شيء من أحوالها وعوارضها … أما الإضافي مثل قولك : ( اعتق رقبة ، واضرب رجلاً ) فليس هو مطلقا من كل وجه ، بل هو دال على واحد شائع في الجنس ، وهما قيدان زائدان على الماهية ، وهذا مطلق بالنسبة إلى قولنا : ( رقبة مؤمنة ) ، ومقيد بالنسبة إلى اللفظ الدال على ماهية الرقبة . )) .

([7]) ـ فواتح الرحـموت بشرح مسلم الثبوت فـي أصول الفقه لابن نظام الدين الأنصاري :1/362 .

([8])ـ ويؤيد هـذا قـول البناني في حاشيته على شرح المحلى :2/47 : (( والوحدة ضرورية ، إذ لا وجود للماهية المطلوبة بأقل من واحد … )) ، وقول ياسين في حاشيته على التصريح :1/24 : (( … فإن الماهية توجد في الفرد والأكثر )) .

([9])ـ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب :3/366 ـ367 ، وينظر : مواهب الجليل :3/281 .

([10])ـ أما قـول عبدالـعلي مـحمد بن نظام الدين الأنصاري في فواتح الرحموت :1/362 : (( … فالأوْلى أن يُرَادَ بالْمطلق ما لا يكون فيه قيد ، وإن كان عاماً … )) ـ فلا يرِدُ على إجـماع العلماء ؛ لأنّ ذلك مذهب تفرَّدَ به وحده ؛ ولِمنافاة معنى العموم لـمعنى الْمطلق .

([11]) ـ قال في الإحكام :3/5 : (( أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات . )) .

([12])ـ ينظر : البرهان في أصول الفقه للجويني :1/232 .

([13])ـ سورة الطلاق :2 .

([14])ـ سورة النبأ :29 .

([15])ـ سورة البلد :13 .

([16])ـ سورة النساء :92 .

([17])ـ التقرير والتحبير :1/363 .