قصيدة دع المكارم بين عمر والحطيئة
زياد أبو رجائي
تفاصيل القصة
**********************
كان الزبرقان قد سار إلى عمر بصدقات قومه، فلقيه الحطيئة ومعه أهله وأولاده يريد العراق فراراً من المجاعة والجدب والقحط وطلباً للعيش، فقال الحطيئة: وددت أني أصبت رجلاً يحملني وأصفيه مديحي وأقتصر عليه. قال الزبرقان: قد أصبته، تقدم على أهلي فإني على إثرك، فأمره الزبرقان أن يقصد أهله وأعطاه أمارة يكون بها ضيفاً له حتى يلحق به، وقد كان بين الزبرقان وبين بني قريع مقارضة في الشعر فقد كانا يتنازعان الشرف، فأراد أن يستعين بالحطيئة عليهم وبشعره، وقال له : إلـْحقْ ببني سعد حتى آتيك فإنما أؤدي هذه الصدقة إلى أبي بكر ثم ألحق بك، قال: عمن أسأل؟ قال: أم مطلع الشمس ثم سل عن الزبرقان بن بدر ثم ائت أم سدرة فقل لها: يقول لك بعلك الزبرقان بن بدر أحسني إلى قومك، فإنها ستفعل.
ففعل الحطيئة ذلك، وكانت ابنته مليكة جميلة، فحسده بنو عمه بنو لأي فدسوا إلى الحطيئة فقالوا: إن تحولت إلينا أعطيناك مائة ناقة ونشد إلى كل طنب من أطناب بيتك حلة تحويه، وقالوا لامرأة الزبرقان: إنما قدم الزبرقان هذا الشيخ ليتزوج ابنته فقدح ذلك في نفسها، فكرهت امرأته مكانة مليكة فظهرت منها لهم جفوة ، فاغتنم بنو قريع هذه الجفوة، فدعوه إلى ما عندهم فأسرع، فبنوا عليه قبة ونحروا له وأكرموه كل الإكرام، فأتاه نقيض بن شماس فقال: يا أبا مليكة جئت من بلادك ولا أرى في يدك شيئاً، هل لك إلى خصلة هي خير لك مما أنت فيه، قال: ما هي؟ قال: مائة بعير وتتحول إلينا ونحن ضامنون لأهلك من عيالك أن يدبروا من حالك أن تخلفه، فتحول إليهم.
فقدم الزبرقان، فقال: أين جاري؟ قالت امرأته: خبث عليك، وقدم الزبرقان أسيفاً عاتباً على امرأته!
ثم أخذ الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر، فقال في أبيات:
دع المكارم لا ترحلْ لبغيتها واقعد فانك أنت الطاعم الكاسيعن الشعبي أن الزبرقان بن بدر أتي عمر بن الخطاب ، وكان سيد قومه ، فقال : يا أمير المؤمنين ان جرولا هاجني يعني الحطيئة فقال عمر : بم هجاك ؟ فقال بقوله :
دع المكارم لا ترحل لبغيته واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر : ما أسمع هجاء ، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا?
فقال الزبرقان : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده ما هجي أحد بمثل ما هجيت به ، فخذ لي ممن هجاني
وهنا امتثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأمر الهي من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها كما جاء في الكتاب العزيز ألا وهو التثبت من الخبر!
فالفاسق في الرواية كما يظهر هو الحطيئة الشاعر، وفسقه يتبين بوضوح هجاء الصحابي الزبرقان رضي الله عنه
قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات6)}
فكان يلزم التبين في نبئه على قراءة : فتبينوا . والتثبت على قراءة : فتثبتوا
فقال عمر : على بابن الفريعة ، يعني حسان بن ثابت ، فلما أتي به
قال له يا حسان : إن الزبرقان يزعم أن جرولا هجاه
فقال حسان بم ؟ قال بقوله : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فانت الطاعم الكاسي
فقال حسان : ما هجاه يا أمير المؤمنين
قال فماذا صنع به ؟ قال سلح عليه أو ذرق عليه ( السلح هو الغائط (10)) كناية عن شدة الهجاء!!
فقال عمر : عليّ بجرول ، فلما جيئ به قال له : يا عدو نفسه تهجو المسلمين فأمر به، فألقاه عمر رضي الله عنه في حفرة وغطاه بساتر من الجلد فأصبح مظلماً، اتخذها أمير المؤمنين رضي الله عنه محبساً وسجنا في عهده، ولم تكن السجون مبنية، - فأول من بناها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بنى بالكوفة سجناً سماه مَخِيساً-، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين
فقال له:
تحنن علي هداك المليك فإن لـكـل مـقـــــــامٍ مــقـــــالا
ولا تأخذني بقول الوشاة فــــــإن لــــــكل زمانٍ رجــالا
فإن كان ما زعموا صادقاً فسيقت إليك نسائي رجالا
فلم يلتفت عمر إليه حتى كتب الحطيئة إلى عمر من السجن يا أمير المؤمنين.
مــاذا تــــقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
ألــقيت كاسبــَهم في قعر مظلمة فــارفق عليك سلام الله يا عـمرُ
أنت الامام الذي من بعد صاحبه ألـــقت اليك مقاليد النهى البشرُ
ما آثروك بها إذ قــدّمـوك لهــا لكـن لانـفسـهم كــانت بـك الاثرُ
والزغب : جمع الأزغب وهو ما يعلو جسمَه الزَّغَبُ ( شعيرات شقرات تظهر على جسم الاطفال )وهي كناية عن اولاه الصغار فلا معيل لهم كونهم أفراخ صغيرة
ذي مرخ : مكان سكناهم
كاسبهم: الذي يعمل ويكسب لهم لتحضير قوتهم
وكلمه فيه عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(البداية والنهاية 5/42)، وأخبر عمر برقة حاله وقلة نصر قومه له؛ فأخرج رضي الله عنه الحطيئة من الحبس، فدعاه
وقال رضي الله عنه :أشيروا علي في الشاعر ، فإنه يقول الهجر ، ويشبب بالحرم ، ويمدح الناس ، ويذمهم بغير ما فيهم قال : ما أراني إلا قاطعا لسانه » . فقالوا : لا ، يعود يا أمير المؤمنين ، وأشاروا إليه ، أن قل : لا أعود ، فقال : لا أعود يا أمير المؤمنين ، فقال : النجا
فقال له : إياك والشعر!؛ ويحك يا جرول لم تهجو المسلمين ؟
قال : لخصال احتوتني احداهن إنما هي :
نملة تدب على لساني
إذن تموت عيالي جوعا، إنما هي كسب ومأكلة عيالي، ويا أمير المؤمنين من عجز عن القوت كان أعجز منه عن السكوت
فدمعت عينا عمر رضي الله عنه ، وقال فشبب بأهلك، وإياك وكل مدحة مجحفة -وفي رواية- فإياك والمقذع من القول، قال : ومال المدحة المجحفة ؟ المقذع؟ قال : تقول بنو فلان خير من بني فلان : إمدح ولا تفضل، قال : أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني.
ثم قال رضي الله عنه : كم رأس مالك من العيال ؟ فعدهم عليه فأمر لهم بطعام وكسوة ونفقة ما يكفيه سنة ، وقال له : إذا احتجت فعد الينا ، فلك عندنا مثلها ،ولا تهجون أحدا فأقطع لسانك.
فقال جرول : جزاك الله يا أمير المؤمنين جزاء الابرار وأجر الاخيار، فقد بررت ووصلت وتعطفت وأمتننت ، فلما مضى جرول
قال عمر : أيها الناس اتقو الله في ذوي الارحام وجيرانكم ، فمتى علمتم حاجتهم فواسوهم وتعطفوا عليهم ، ولا تحوجوهم إلى المسألة ، فان الله عزوجل يسأل العبد إذا كان غنيا مكفيا عن رحمه وقريبه وجاره إذا كان محتاجا أن يعطيه قبل سؤاله إياه. ((كنز العمال: 3/ 843-845))
من اخباره:
جاور الحطيئة قوماً من بنى كلاب،فلما جنه الليل سمع غناء، فقال: جنبونى ندى مجلسكم، ولا تسمعونى أغانى شبيبتكم. فإن الغناء رقية الزنى".(اغاثة اللهفان-ابن القيم)
كان الحطيئة وكعب الاحبار عند عمر رضي الله تعالى عنه فأنشد الحطيئة:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَائِزَهُ لَا يَذْهَبُ الْعُرُفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ
فقال كعب: هي والله في التوراة: لا يذهب المعروف بين الله وبين خلقه
من يفعل الخير يجده عندي ولا يذهب الخير بيني وبين عبدي(( الكتاب : غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب- السفاريني 1/189 ))
استعمل عمر بن الخطاب على حوران علقمة بن علاثة فمات بها. وكان الحطيئة خرج إليها فمات علقمة قبل أن يصل إليه الحطيئة، فأوصى له علقمة كبعض ولده، فقال الحطيئة:
فما كان بيني لو لقيتك سالماً وبين الغنى إلا ليال قلائل
فقال له ابنه: كم ظننت علقمة يعطيك؟ قال: مئة ناقة يتبعها مئة من أولادها. فأعطاه إياها.
وقيل إنه بلغه أنه في الطريق يريده، فأوصى له بمثل سهم من سهام ولده.
من اجمل أبياته:
أقـلـــوا عليهـــم لا أبــاً لأبـــيــكمُ من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قـــوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بهـا وإن أنعــمــوا لا كــدروهـا ولا كدوا
.....:::::::****::::::.....
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو الســــعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخــراً وعنـــــد الله للأتقى مــــزيد
الحطيئة عند وفاته عام 59 هـ / 665 م
لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص؛ قال: بم أوصي؛ مالي للذكور دون الإناث؛ فقالوا: إن اللّه لم يأمر بهذا! فقال. لكني آمر به؛ ثم قال. ويل للشعر من راوية الشعر؛ فقيل له. أوص يا أبا مليكة للمساكين بشيء؛ قال. أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنها تجارة لن تبور. قيل: أعتق عبد ك يساراً؛ قال: اشهدوا أنه عبد ما بقي. قيل. فلان اليتيم ما توصي فيه؟ قال: اوصي أن تأكلوا ماله وتنيكوا أمه؛ قالوا: ليس إلا هذا! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم لعليّ أنجو؛ ومات مكانه.
لما حضرت الحطيئة الوفاة ؛ قال : احملوني على حمار ؛ فإنه لم يمت عليه كريم قط ؛ فلعلي أن أبقى . ثم تمثل :
( لكل جديد لذة غير أنني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ )
الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي، يقول: لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص، قال: «أوصي المساكين بالمسألة»، قيل له: أوص في مالك. قال: «مالي للذكور دون الإناث»، قيل: ليس هذا قضاء الله، قال: «لكني أقوله» ثم قال: «احملوني على حمار، فإنه من يموت عليه كريم»(حلية الاولياء 9/136)
وفي هذا العام توفي سعيد بن العاص و أبو هريرة وقيس بن سعد بن عبادة ومعقل بن يسار المزني وعائشة ام المؤمنين رضي الله عنهم
والله أسأل أن أن ينفع بهذا العمل على قدر العناء فيه، وأن يجعله مخلصل له تعالى
(1) (انظر البداية والنهاية:7/246) هو الحطيئة جرول (والجرول: الحَجَر) بن أوس بن مالك العبسي، المتوفى سنة 45 هـ ، قال أبو عبيدة في النقائض : "كان المخبل القريعي أهجى العرب . . . ثم كان بعده حسان بن ثابت ، ثم الحطيئة ، والفرزدق ، وجرير ، والأخطل . هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره ، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير(النقائض:1048)
كني باسم ابنته: أبو مليكة
كان جوالاً في الآفاق يمتدح الكبار ويستجديهم، وكان سؤولاً، يمتدح الرؤساء من الناس، ويستجديهم ويقال كان بخيلا
(2) كتاب الاغاني (2/157) وكتاب الاصابة (1/ 378) : لقب بالحطيئة لانه ضرط ضرطة بين قوم، فقيل له، ما هذا ؟ فقال: إنما هي حطيئة: فسمي الحطيئة.
والحطيئة تصغير حطأة: فعلة من قولهم حطأ حطأ إذا ضرط (انظر: تاج العروس).
(3) البخاري (3007) ومسلم (2494) .
(4) أهل الحديث يحبون الصحابي لإسلامه وصحبته, ويترحّمون عليه ويرضون عنه, ويذكرون ماله من الفضائل ولا يسبّونه ولا يؤذونه.
(5) متفق عليه (البخاري ( 1 / 11 ) ، و مسلم ( 1 / 49 )) واللفظ للبخاري
(6) رواه البخاري انظر فتح الباري (9/ 198)
(7) رواه أحمد في الزهد كما في الدر المنثور (7/565)
(8) شعب الإيمان:(6/323) برقم (8345)
(9) البيهقي رقم 7992 ، وكنز العمال 44372
(10) ( خرأ ) الخرء بالضم العذرة خرئ خراءة، واسم السلح الخرء انظر لسان العرب