عقد على ورق الجريدة
منى السعيد الشريف


على كرسي المقهى ألقى بجسده وكأنه يتخفف من حمل ثقيل··· ويقترب منه الصديق قائلاً:

ـ مرحباً يا عزيزي: أين كنت متغيباً منذ يومين·
ـ الشاب: كنت أبحث عن عمل·
ـ الصديق: وهل وجدت عملاً؟
ـ الشاب: سؤال لا محل له يا عزيزي··· فلو وجدت عملاً لم تكن لتراني هنا، فالمقهى لم يعد إلا مقراً للشباب العاطل أمثالي وأمثالك من لفظتهم الجامعات على الأرصفة أو لأرباب المعاشات··· لقد أصبح مكان ممن توقفت بهم الحياة ونسيهم الزمن فتسربت منهم أيامهم ولم يعد لهم غير الجلوس على المقهى وقتل الوقت والعمر بألعابه·
انظر كيف يضرب هذا بزهر الطاولة بعنف، وهذا الذي يرفع صوته بالضحك وكأنه يريد أن يؤكد لنفسه أنه ما زال يعرف كيف يضحك·
ـ الصديق: ما كل هذه المرارة··· يبدو أن البحث عن عمل قد أتعبك كثيراً وأصابك بالإحباط، ومضى الصديق يحاول أن يخفف عنه بشرح حاله وكيف يبحث هو الآخر عن عمل حتى يمل وكأنه وجدها فرصة لشكاية حاله وأخذ يتكلم ويتكلم والشاب ينظر إليه لا يكاد يراه كم كانت كلماته باهتة لا تحمل له غير معاناة جديدة·
وأخذ صوته يخفت ويخفت في أذنيه ويبدو بعيداً بعيداً··· لقد كان هناك صوت آخر يعلو ويعلو حتى غطى على كل شيء حوله··· إنه صوت عمه··· نعم إنها كلماته الأخيرة له في آخر زيارة لمنزله وهما يتناقشان في مشكلته مع ابنته التي طالما تمنى أن يجمعهما بيت واحد زوجين، ولكن الظروف تحول بينه وبين هذا الحلم الذي غدا بعيداً جداً بعد هذا اللقاء الأخير مع عمه· إن كلماته لا تزال ترن في أذنيه·
ـ حقاً إنك ابن أخي ولكنها ابنتي وأنا يا بني لا أشك أبداً أنك تحرص على سعادتها وراحتها مثلي تماماً··· يا بني إن السنوات تمر ولا يمكن أن يبقى الحال على ما هو عليه·
كانت كلمات العم تحمل له رجاءً خفياً بأن يعفيه من الحرج ويترك لابنته الفرصة مع آخر··· نعم إنه يدرك ذلك تماماً ويعلم أن هذا هو الواقع الذي لا مفر منه·
ويوقظ الشاب من أفكاره صوت صديقه قائلاً:
ـ أتحب أن تتسلى بقراءة الجريدة؟
فيأخذها من يده دون أن ينبث بكلمة واحدة··· يتصفحها مقلباً عينيه فيها دون هدف، وأخيراً تقع عيناه على صفحة الإعلانات المبوبة وتتسع عيناه وهو يقرأ إعلان عن وظيفة تتناسب مع مؤهله بمرتب مغرٍ ومن دون سنوات خبرة ويسرع بأخذ الجريدة ليذهب في الحال إلى مقر الشركة المعلنة، ولا مانع أبداً أن يضحي ويأخذ تاكسي، وهناك كان كل شيء ميسَّر يتحرى عن صحة الإعلان ويجتاز الاختبار، ثم هاهو يقابل المسؤول الذي يهنئه بفوزه بالوظيفة، ويقدم له العقد الذي سوف ينضم بمقتضاه إلى العاملين بالهيئة الاستثمارية الكبرى، ويسرع الشاب بإخراج قلمه وينحني كي يوقع على العقد ثم يرفع رأسه ليجد صبي المقهى ينظر إليه قائلاً:
ـ عجباً يا سيدي لماذا توقع على ورق الجريدة؟
فينظر الشاب إلى وجهه ثم إلى وجه صديقه الذي كان مشدوهاً بما يحدث ثم إلى ورق الجريدة وتوقيعه عليه ويقول صبي المقهى·
ـ هل تطلب شيئاً يا سيدي؟
ـ فيجيب الشاب بعد صمت قصير· نعم كوباً من الشاي·
ثم يلتفت الشاب ناحية الشارع فيجد أباه يتجه نحو المقهى وها هو يستقر على أحد مقاعدها مجهداً جداً يظهر على وجهه آثار التعب والإرهاق ويتجه الشاب وصديقه إلى الأب·
ـ أبي··· ما الذي جاء بك إلى المقهى في هذا الوقت على غير عادة؟
ـ الأب: جئت إلى هنا هارباً من التساؤلات، وها هي تلاحقني ويصمت قليلاً كي يلتقط أنفاسه ثم يستطرد الحديث وهو يستجمع قواه قائلاً: لقد ذهبت إلى الطبيب بعد إلحاح من والدتك وإخوتك فأنت تعلم أني متعب منذ فترة·
ـ الشاب: خيراً ماذا قال لك الطبيب؟
ـ الأب <في ضيق>: هاه··· لقد طلب كثيراً من الفحوصات والأشعات كما طلب رسماً للقلب·
ـ الشاب: ومتى ستقوم بهذا يا والدي؟
ـ الأب <بابتسامة مريرة>: يا بني أمثالي ممن انتهى دورهم في الحياة وخرجوا على المعاش لا يصبح لديهم شاغل إلا مداواة متاعبهم الصحية، فلا تسمع لقول الطبيب ولا تخبر أمك وأخوتك بما بحت لك به·
ويحاول الشاب مراجعة والده ولكن الأب يصرُّ على رأيه وأخيراً يقول له·
ـ يا بني: إن الموت قدر محتوم لا نستطيع أن ندفعه وما دام الأمر كذلك فمن الأفضل أن أقضي بقية أيامي أنتظره، أليس هذا ما سيحدث، لو أخبرني الطبيب بعد الفحوصات أن قلبي به مرض خطير أو متاعب صحية جسيمة دعني استمتع بما بقي لي من العمر ولا تجادلني في هذا الأمر مرة أخرى·
ويستأذن الأب متوجهاً إلى المنزل تشيعه نظرات الابن في أسى·
ـ الصديق: حاول مراجعته مرة أخرى في قراره هذا·
ـ الشاب: لا فائدة يا صديقي إنه الخوف الذي يكمن داخلنا جميعاً لقد رضعناه مع لبن أمهاتنا··· تربينا عليه، فأصبح متأصلاً فينا أتدري لماذا؟··· لأننا بعدنا عن الله وهو مصدر الأمن لكل قلب··· ولذا كلنا يخاف من المستقبل ومن المجهول لأن القلوب خاوية عارية· باردة لم تذق دفء قلب المؤمن المفعم بالثقة بالله والتوكل عليه، إن عمي يخاف على مستقبل ابنته مني، ووالدي يخاف حتى من فحوصات الطبيب، ومع ذلك فسيقتله الخوف كل يوم ألف مرة لأنه لم يتأكد من حقيقة مرضه·
ولكن كلنا نخاف من مواجهة أي أمر مجهول وهذا هو خطأنا الفادح·
انظر إلى هذا المنزل القاطن آخر الشارع إنه يقف وحيداً فريداً لا أحد يجرؤ على البناء بجواره أتعرف لماذا؟
ـ الصديق: ومن منَّا لا يعرف قصة هذا المنزل، كلنا سمعنا منذ الصغر أنه مهجور ويسكنه الجن والشياطين·
الشاب مبتسماً: كلها كلمات وقصص، ولكن أحداً لم يرَ بعيني رأسه أي شيء يدل على صحتها، ولم يفكر أحد في دخول البيت ليعرف الحقيقة حتى والدي لم يفكر في هذا الأمر رغم أن هذا المنزل تسبب في عدم بيع قطعة الأرض المجاورة له، والتي ورثها والدي وكان يمكن لثمنها أن يحل الكثير من مشكلاتنا·
ـ الصديق: ولماذا لم تتدخل أنت؟!·
ـ الشاب <ضاحكاً>: فكرت في ذلك مرة فقد أجد فيه جنياً مسالماً أو مصباح علاء الذي الذي يصنع المعجزة ويجد لي الوظيفة المرموقة·
ويهم الصديقان بالانصراف ولكن تستوقفهما ضجة كبيرة عمت المكان ويستطلعان الخبر إنها سيارة شرطة توقفت آخر الشارع لتفعل ما لم يجرؤ أحد على فعله وتقتحم قوتها المنزل المهجور وتخرج برجل جاوز الثلاثين مكبلاً بالأغلال··· إنه مجرم هارب استقر في المنزل منذ أشهر وجعله وكراً لسرقة أهل الشارع·
ويضحك الشاب قائلاً: ترى لو كان يعلم هذا الرجل بقصة البيت، أكان أقدم على الاختباء به أم فضل تسليم نفسه للشرطة؟!!·