بسم الله، الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله، و آله و صحبه و من والاه، أما بعد:
مما يحمد عليه القائل أو الكاتب الإتيان بأبكار المعاني أو أبكار الحكم و هي المعاني أو الحكم المبتكرة التي لم يسبقه إليها أحد.
أما المعاني و الحكم الشائعة و المعروفة و المكررة (الثيب) فقد تكون أقل حظاً من الشأن و المكانة و الاهتمام.
قال أبو إسحاق الألبيري رحمه الله في قصيدته التائية العصماء الخالدة التي يحث فيها ابنه على طلب العلم:
و مهما افتض أبكار الغواني *** فكم بكر من الحكم افتضضتا
و قال علي التهامي رحمه الله:
يفتض أبكار المعاني قائلاً *** أو كاتباً و يديم هجر الثيب
و قال الأمير الصنعاني رحمه الله:
كيف لا تفتح صندوقاً و قد *** طالما فتحت أبكار المعاني
كل بحث مغلق تفتحه *** بعدما يعجز عنه الثقلان
و قال أيضاً:
فنفتح منها كل ما كان مقفلاً *** و نفتض أبكار المعاني بما نبدي
و قال أيضاً:
أو خلا فافتض أبكار العلى *** و حبانا كل معنى مبتكر
و قال أيضاً:
نفتض أبكار المعاني من الـ *** تحقيق أو نجلوا الذي يشكل
و قال القاسم الحريري رحمه الله في المقامة المغربية في سياق حديثه عن فن من فنون البديع و هو فن (ما لا يستحيل بالانعكاس) أي الكلام الذي يقرأ من اليمين لليسار و من اليسار لليمين مثل (ساكب كاس): (فتداعينا إلى أن نستنتج له الأفكار، و نفترع منه الأبكار).
و هنا تظهر مشكلة معروفة و ظاهرة قديمة عند العلماء و الأدباء و الشعراء و هي أن الأجيال السابقة من البشر افتضت كماً كبيراً من أبكار المعاني و الحكم و ضيقت على الأجيال اللاحقة نطاق أبكار المعاني و الحكم التي يمكن أن تفترعها.
و قد أشار الجاحظ إلى هذه المشكلة أو الظاهرة في كتاب البيان و التبيين عندما ذكر هذا القول: (لم يدعِ الأولُ للآخِر معنى شريفاً و لا لفظاً بهياً إلاّ أخذَه)، و هناك مقولة شائعة في أوساط طلبة العلم و هي:(ما ترك الأول للآخر) أي أن الأوائل جاؤوا بكل علم و فهم يمكن أن يقال فلم يبق للأواخر شيء جديد يأتون به.
و قد قرأت في كتاب: (حلية طالب العلم) للعالم الجليل بكر أبي زيد رحمه الله نقد هذه العبارة و تصويبها و هو قول: (كم ترك الأول للآخر) أي أن العلم غزير و ما زال بإمكان الأواخر أن يأتوا بعلم جديد نفيس مبتكر لم يسبقهم إليه الأوائل كما قال المعري:
فإني و إن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل
الخلاصة: صحيح أن الأوائل افتضوا كماً كبيراً من أبكار المعاني و الحكم و ضيقوا على الأواخر لكن العلم غزير و بحر لا ساحل له و ما زال بوسع الأواخر استيلاد علم جديد نفيس مبتكر لم يسبقهم إليه أحد و الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.