ان الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ، ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يُضلل فلا هادى له ، وأشهد ان لا اله الا الله وحده لاشريك له واشهد ان محمدًا عبد ورسوله - صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وسلم تسليما كثيرًا - ..
اما بعد :
فمع ان هذا النوع من التوحيد أقر به المُشركون ، الذين بُعث فيهم النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم ينازع فيه جمهور أهل الأرض ، الا ان هُناك اُناس انتكست فطرهم ، نسأل الله العافية ، وجحدوا وكابروا ، وانكروا ما دل عليه العقل الصريح . والا فهذا لم يحصل فيه نزاعُ بين الرسل وأقوامهم "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُن خلقهم العزيز العليم" . "قل من يرزقكم من السماء والأرض امن يملك السمع والابصار ومن يُخرج الحى من الميت ويُخرج الميت من الحى ومن يُدبر الأمر فسيقولون الله فقل افلا تتقون"
{البرهان القطعى على وجوب وجود صانع للكون}
ذكر الله براهين عقلية قطعية ليُقيم بها الحُجة على المُكابرين
- مثل قوله تعالى (أم خُلقوا من غير شئٍ ام هم الخالقون ام خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون)
يقول تعالى : اخلقوا من غير خالقٍ خلقهم ام هم الخالقون لأنفسهم
قال جبير بن مطعم (وكان رجلُ مُشرك) : لما سمعت النبى يقرأها احسست بفؤادى قد انفطر ومنذ ذلك الحين وقر الايمان فى قلبى
لأنه من اهل اللسن والفصاحة والبلاغة ، فعرف الاية ومعناها وما تدل عليه فوقر الايمان فى قليه . فهذا دليل واضح بين على أنه لابد من خالق
لأن القسمة العقلية تقتضى ثلاث احتمالات :
(1) اما اننا خُلقنا بدون خالق {صُدفه}
وهو باطل لأن كل حادث لابد له من مُحدث . فلابد ان يتعلق الخلق بخالق كالتحريك يتعلق بمُحرك ، فلا يُمكن للشئ ان يتحرك من مكانه بجون مُحرك له ، وهذا امر ضرورى يعرفه العُقلاء
فلو قيل لشخصٍ . ان هُناك قصرًا من القصور الذى جُهز بكل ما تشتهية الأنفس وتتمناه ، ولكن هذا القصر وجد صُدفة بدون بناء ولا اعداد لبادر الناس الى التكذيب ..
وقالوا : هذا لا يُمكن ، لأن القصر يحتاج الى بناء ، وما فيه يحتاج الى اعداد ، فلابد من عُمالٍ وصُناع
(2) انناخلقنا انفسنا . وهذا اشد فسادًا مما قبله ، لأننا معدومون ، والمعدوم لا يُمكن أن يكون قادر على ايجاد نفسه ، لأن العدم نقص والخلق كمال ، فكيف يكون الناقص كاملًا هذا لا يُمكن .
فيتعين الأمر الثالث . ولم يُذكر فى الاية لوضوحه وجلائه
(3) وهو انه لابد لنا من خالق . ولابد ان يكون له خصائص سنذكرها ..
{خصائص الصانع}
هذا الخالق لابد ان تكون له خصائص تميزه عن المخلوقات فمن ذلك :
1-وجوب الوجود 2-القدرة المطلقة 3-الغنى المُطلق فلا يحتاج الى غيره بوجهٍ من الوجوه 4-الاستقلال بالفعل 5-ان يكون قاهرًا
تمهــــــــــــ ــــــيد . يقول شيخ الاسلام ابن تيمية :
"فلو كانت ذاته كاملةً غنيه . لم تفتقر الى غيرها فى فعلها ، فافتقاره الى غيره بوجهٍ من الوجوه دليل عدم غناه ، وعلى حاجته الى الغير وهذا مُناقض لكونه واجب الوجود بنفسه
ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين ، والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين ، كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين ، وكان التنزه عن شريكٍ فى الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين ،فليس فى المخلوقات ما هو مستقل بشئ من المفعولات وليس فيهما ما هو وحده علةً قائمة ، وليس فيها ما هو مُستغنيًا عن الشريك فى شئ من المفعولات ، بل لا يكون فى العالم شئ موجود عن بعض الأسباب ، الا بمشاركة سبب آخر له
فيكون - وان سُمى علة - علة مُقتضية سببيه ، لا علة تامة ، ويكون كل منهما شرط للأخر .
كما أنه ليس فى العالم سبب الا وله مانع يمنعه من الفعل ، فكل ما فى المخلوق - مما يُسمى علةً أو سببًا ، أو قادرًا ، أو فاعلًا ، أو مُدبرًا . فله شريك هو له كالشرط ، وله معارض هو له مانع وضد ، وقد قال سُبحانه ( ومن كل شئٍ خلقنا زوجين) والزوج يُراد به النظير المُماثل ، والضد المُخالف ، وهو الند .
فما من مخلوق الا له شريك ، وند .
والرب سبحانه وحده هو الذى لا شريك له ، ولا ند ، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
ولهذا لا يستحق غيره أن يُسمى خالقًا ، ولا ربًا مُطلقًا , ونحو ذلك ، لأن ذلك يقتضى الاستقلال ، والانفراد بالمفعول المصنوع ، وليس ذلك الا لله وحده ..
فالواحد الذى يفعل وحده انما هو الله عز وجل ليس غيره ..
فكما ان الوحدانية واجبةً له لازمةً له : فالمُشاركة واجبةً للمخلوق لازمة له .
والوحدانية مُستلزمة للكمال ، والكمال مُستلزمُ لها ، والاشتراك مُستلزم للنُقصان ، والنقصان مُستلزم له
وكذلك الوحدانية مُستلزمة للغنى عن الغير ، والقيام بنفسه ، ووجوبه بنفسه ، وهذه الأمور من الغنى والوجوب بالنفس والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية ، والمشاركة مُستلزمة للفقر الى الغير ، والامكان بالنفس ، وعدم القيام بالنفس
وكذلك الفقر والامكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للأشتراك .
وهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها ، وهى من دلائل امكان المخلوقات المشهودات ، وفقرها وأنها من بدئه ، فهى من أدلة اثبات الصانع ، لأن ما فيها من الافتراق والتعدد والاشتراك : يوجب افتقارها وامكانها ، والمُمكن المُفتقر لابد له من واجب غنى بنفسه ، والا لم يوجد
ولو فُرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهى بمجموعها مُمكنة . والمُمكن قد عُلم بالاضطرار أنه يفتقر فى وجوده الى غيره ، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير فانه يعلم أنه فقير أيضًا فى وجوده الى غيره ، فلابد من غنىٍ بنفسه واجب الوجود بنفسه والا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال
وهذه المعانى تدل على توحيد الربوبية ، وعلى توحيد الآلهية . وهو التوحيد الواجب الكامل ، الذى جاء به القُرآن .
لوجوه قد ذكرنا منها ما ذكرنا فى غير هذا الموضع .." [1]
- وعليه فالدليل العقلى على وحدانية الصانع .
قد أشار الله اليه فى قوله (ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من الهٍ اذًا لذهب كل الهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون)
فقد ذكر الله برهانين لازمين يدلان على انتفاء الملزوم :
[احدهما] : قوله "اذًا لذهب كل الهٍ بما خلق"
يقول شيخ الاسلام بن تيمية فى تعليقه على الاية :
فان الاله لابد أن يكون قادرًا مُستقلًا بالقُدرة على الفعل ، لا يحتاج فى كونه قادرًا الى غيره
ولما كان هذا من المعالم الضرورية لم يتحج الى تقرير
واذا كان الاله لابد ان يكون قادرًا على الاستقلال بالفعل ، فاستقلاله بالفعل يمنع أن يكون غيره فاعلًا له ومشاركًا له فيه ، فيلزم ان ينفرد كل الهٍ بما خلق ، لا يحتاج فيه الى غيره ..
وحينئذٍ يلزم ان لا يحتاج مخلوق هذا الى مخلوق هذا ، لأن ذلك يوجب حاجة كل منهما الى الآخر ، وأنه لا يقدر أن يفعل الا مع فعل الآخر ، ويكون فعل كل منهما مستلزمًا لفعل الآخر ملزومًا له ، والملزوم لا يوجد بدون لازمه ، فيلزم العجز عن الانفراد بالفعل ، وذلك ينفى القدرة التى هى من لوازم الربوبية .....،
وهذا كله بين مستقر فى فطر الناس وعقولهم ، وان كان قد يحتاج اذا تغيرت فطرة احدهم باشتباه الألفاظ والمعانى الى بسطٍ وايضاح ...
فالحاصل : أنه لما قرر أولًا امتناع ربين فعلهما واحد ، قرر امتناع أرباب تختلف افعالهم ، فان اختلاف الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحدًا والعالم واحدًا [2]
فالخُلاصة : ان الاله لابد ان يكون قادرًا غنيًا بنفسه ، لا يحتاج الى غيره بوجهٍ من الوجوه ، وهذا يوجب ويلزم منه ان يستقل بالفعل ، وان يخلق وحده ويفعل وحده
وان لا يُشاركه احدُ فى فعله ولا مفعوله ، اذ المشاركه تمنع الاستقلال بالفعل ، وعدم الاستقلال بالفعل يمنع القدره ووجوب الوجود والغنى بالنفس وانه مفتقر الى غيره محتاج
وحينئذٍ فاذا كان اكثر من صانع واستقل كلُ منهما بافعاله ، وانفرد بمخلوقاته
يلزم ان لا يكون العالم واحدًا بل اكثر من عالم ، وان لا تحتاج مخلوقات هذا الى مخلوقات هذا بوجهٍ من الوجوه
واذا انفرد كل اله بما خلق . سيحصل تضارب وتناقض وتنافر وعدم انتظام فى هذا العالم
يقول الشعراوى :
"فلو كان مع الله آلهةً لاقتسموا هذا الكون فيما بينهم ، وجعلوه قطاعات ، يأخذ كل منهم قطاعًا فيه ، فواحد للأرض ، وآخر للسماء ، وثالث لما بين السماء والأرض
ولكن هل يستغنى قطاع فى الكون عن الآخر ؟ أتستغنى الأرض عن السماء ؟ اذن سيحدث تضارب لا يستقيم معه حال الكون" [3]
يقول ابى منصور الماتوريدى : "فلو كان اكثر من واحد لتقلب فيهم التدبير ، نحو تحول الأزمنة من نحو الشتاء والصيف ، أو تحول خروج الانزال وينعها ، أو تقدير السماء والأرض ، أو تسيير الشمس والقمر والنجوم ، أو أغذية الخلق أو تدبير معاش جواهر الحيوان ، فاذا دار كله على مسلك واحد ونوعٍ من التدبير ، وانساق ذلك على سنن واحد ، فقد ثبت انه لا يتم بمُدبرين ، لذلك لزم القول بالواحد" [4]
ويقول السعدى فى تعليقة على الاية : "ومع التمانع لا يمكن وجود العالم ولا يُتصور أن ينتظم هذا الانتظام المُدهش للعقول ، واعتبر ذلك بالشمس والقمر والكواكب الثابتة والسيارة ، فانها مُنذ خُلقت وهى تجرى على نظامٍ واحد وترتيبٍ واحد ، كلها مُسخرة بالقدرة ، مُدبرةً بالحكمة لمصالح الخلق كلهم ، ليست مقصورة على مصلحة احدٍ دون احد
ولن ترى فيها خللًا ولا تناقضًا ولا معارضةً فى أدنى تصرف ، فل يُتصور أن يكون ذلك تقدير الهين ربين ؟!
(سبحان الله عما يصفون) قد نطقت بلسان حالها ، وأفهمت ببديع أشكالها أن المدبر لها اله واحد ، كامل الاسماء والصفات ، قد افتقر اليه جميع المخلوقات فى ربوبيته لها وفى الهيته لها ، فكما لا وجود لها ولا دوام الا بوبوبيته ، كذلك لا صلاح لها ولا قوام الا بعبادته وافراده بالطاعة" [5]
[البرهان الثانى] : لزوم علو بعضهم علا بعض. وذلك يمنع الهية المغلوب ..
(فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة بل إن قدر على قهر ذلك الشريك والتفرد بالملك والألوهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه وإذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه فلابد من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه.
فالفرض الأول غير ممكن إذ لابد أن تبين أثار فعله في الكون. والفرض الثاني ممتنع ضرورة اختلال الكون نتيجة العلو وتضارب الإرادات، والثالث هو الحق وهو كون الرب هو الإله الواحد) [6]
يقول الامام ابن القيم :
"فلو كان للعالم الهان لفسد نظامه غاية الفساد ، فان كل اله يطلب مغالبة الآخر ، والعلو عليه ، وتفرده دونه بالالهية ، اذ الشرك نقص ينافى كمال الالهية ، والاله لا يرضى لنفسه ان يكون الهًا ناقصًا
فان قهر احدهما الاخر كان هو الاله وحده ، والمقهور ليس باله ، وان لم يقهر احدهما الآخر لزم عجز كل منهما ونقصه ، ولم يكن تام الالهية
فيجب أن يكون فوقهما اله قاهر لهما ، حاكم عليهما ، والا ذهب كل منهما بما خلق ، وطلب كل منهما العلو على الآخر
وفى ذلك فساد آمر السماوات والأرض ومن فيهما ، كما هو المعهودمن فساد البلد اذا كان فيه ملكان متكافئان
وفساد الزوجة اذا كان لها بعلان ، والشول اذا كان فيه فحلان
واصل فساد العالم انما هو اختلاف الملوك والخلفاء ولهذا لم يطمع اعداء الاسلام فيه فى زمنٍ من الازمنه الا فى زمن تعدد ملوك المُسلمين ، واختلافهم وانفراد كل منهم ببلاد ، وطلب بعضهم العلو على بعض ، فصلاح السماوات والأرض وانتظام أمر المخلوقات على أتم نظام من أظهر الأدلة على أنه لا اله الا الله وحده لاشريك له
له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئٍ قدير ، وأن كل معبود من لدُن عرشه الى قرار أرضه باطل الا وجهة الأعلى
قال تعالى (ما اتخذ الله من ولد ..) الايه . (لو كان فيهما الهة ..) الايه , (قل لو كان معه الهةً كما يقولون اذًا لابتغوا الى ذى العرش سبيلًا) الايه " أ.هـ
[7]
والمُتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع :
وهو انه لو فُرض صانعان فصاعدًا . واراد احدهما تحريك جسمٍ ، واراد الآخر تسكينه . او خلق الحياة فيه والاخر الموت مثلًا
فلا يخلوا الحال عن ثلاث احتمالات :
1- اما ان ينفذ مرادهما جميعًا وذلك جمعُ بين النقيضين
2- واما ان لا ينفذا جميعًا وهو ابطال لالهيتهما
3- واما ان ينفذ مراد احدهما دون الاخر ، وعليه يكون القاهر الغالب هو الاله الحق ، وتبطل الهية ما سواه
[8]
{بم عرفت ربك؟}

واذا تقرر ما سبق فنقول التأمل فى هذا العالم وهذه المخلوقات والكائنات يدل على وحدانية الله جل وعلا
فاذا سألك سائل : بما عرفت ربك ؟
قيل : عرفته باياته وهى نوعان
1- "آيات شرعية" : ويُراد بها الوحى الذى جاءت به الرسل فهو آية من آيات الله قال تعالى (هو الذى يُنزل على عبده ءاياتٍ بينات)
فان قيل كيف كان الوحى دليلًا وبُرهانًا على الله تعالى ؟
قالجواب :
أولًا : ان هذا الوحى . الذى جاءت به الرسل جاء وحيًا مُتكاملًا مُنتظمًا لا تناقض فيه واضطراب
قال تعالى عن القران (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)
فالقُران الكريم دليل على وجود الرب العظيم ، وهو دليل من الآيات الشرعية
ثانيًا : أن هذه الايات الشرعية . قامت بمصالح العباد ، وهى كفيلة بسعادتهم فى دينهم ودنياهم
وأوضح مثال شريعة محمدٍ
فان الله جل وعلا قد شرع لنا فى القُرآن الكريم وعلى لسان رسوله ما هو كفيلُ بمصالحنا
وما من مُشكلةٍ او مُعضلة الا وفى الشريعة الاسلامية حل لها سواء مان هذا الحل عن طريق الكليات أو عن طريق الجُزئيات
2- آيات كونية : وهى المخلوقات مثل الليل والنهار والشمس والقمر والسماوات والأرض والانسان والحيوان والنبات وغير ذلك
فاياته العيانيه الخلقية ، والنظر فيها ، والاستدلال بها ، يدُل على ما تدُل عليه آياته القوليه السمعية
والرسل تُخبر عنه بكلامه الذى تكلم به ، وهو آياته القوليه ، ويستدلون على ذلك بمفعولاته ، التى تشهد على صحة ذلك ، وهى آياته العيانية
والعقل يجمع بين هذه وهذه ، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل ، فتتفق شهادة السمع والبصر ، والعقل والفطرة
وكل شئٍ من آياته ومخلوقاته . وان دق : دالُ على وحدانيته وتفرده بالربوبية
كما قال الشاعر :
فواعجبًا كيف يُعصى الآله .. أم كيف يجحده الجاحد
ولله فى كل تحريكــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــة .. وفى تسكينة أبدًا شاهدُ
وفى كل شئٍ له آيـــــــــــــ ـــــــــــة .. تدُل على أنه واحــــــــــــ ـــــــــــــد
وقال آخر :
تأمل فى نبات الأرض وانظُر .. الى آثار ما صنع المليك
عيونُ من لُجينٍ شاخصاتٍ .. بأبصارٍ هى الذهب السيبك
على قصب الزبُرجد شاهداتٍ .. بأن الله ليس له شريك
وقال آخر :
تأمل سطور الكائنات فانها .. من الملك الأعلى اليك رسائل
قد خُط فيها لو تأملت خطها .. ألا كل شئٍ ما خلا الله باطلُ
فايجاد هذه المخلوقات : أوضح دليل على وجود الباري تعالى ، وتفرده بالربوبية والالهية
وقد كان شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله - كثيرًا ما يقول :
كيف يُطلب الدليل على من هو دليلُ على كل شئ
وكثيرًا ما كان يستشهد بقول الشاعر :
وكيف يصح فى الأذهان شئُ .. اذا احتاج النهارُ الى دليل
وقيل لأعرابى : بم عرفت ربك ؟ قال . ان البعرة لتدُل على البعير وان اثر الاقدام ليدُل على المسير فسماءُ ذات ابراج وارضُ ذات فجاح الا يدُل ذلك على وجود اللطيف الخبير
- ومن الادلة على معرفة الرب (الفطرة) : وهو ما يجده كل مخلوقٍ فى نفسه من الاعتراف بالله ، وانه الخالق المعبود ، وهو مركوزُ فى كل الفطر الا من انتكست فطرته
قال الله تعالى "فاقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله"
وقال : "كل مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه" ..
{امثلة للأيات الكونية الدالة على وحدانية الله جل وعلا}[9]
قال الله جل وعلا "ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهُن ان كُنتم اياه تعبدون"
1- الليل والنهار . من اعظم اياته المشاهدة بالأبصار الدالة والمُبرهنة على وجود البارى تعالى وتفرده بالربوبية والالهية . وذلك من وجوه :
أولًا : (تعاقبهما ، فهذا يذهب ، وهذا يأتى بعده بانتظام كامل وتناسقٍ بديع)
فكون الليل يأتى على النهار فيُغطيه ، حتى كأنه لم يكُن ، ثم يأتى النهار فيُذهب بظلمة الليل ، حتى كأن الليل لم يكُن
فمجئ هذا وذهاب هذا بهذه الصفة وهذه الصورة المُشاهدة . دالُ اعظم دلالة على وحدانية خالقة وموجده
ثانيًا : (اختلافهما بالطول والقصر ، فان هذا من ايات الله)
ولو فُرض أن الليل ما يزيد أبدًأ والنهار ما يزيد أبدًا لكان هذا من آيات الله أيضًا ، ولكن كون الليل يزيد فى الشتاء ويقصُر النهار ، والنهار يزيد فى الصيف ويقصر الليل ، هذا أيضًا من آيات الله سُبحانه وتعالى
والحاصل : أن هذه آيات عظيمة من آيات الله تعالى ، ولكن الانسان غافلُ عن تدبرها ، ولهذا فان الله تعالى قد كرر ذكر هذه الأيات فى سورٍ من القرآن الكريم يذكر الليل والنهار والشمس والقمر وخلق السماوات والأرض ، لأجل أن الانسان يصطحب الذكر فلا يغفل ولا ينسى والله المُستعان
2- الشمس والقمر . من آيات الله الدالة على وجوده سُبحانه وتفرده بالربوبية والالهية من وجوه :
اولًا . (جريانهما باسترار منذ أن خلق تعالى الشمس والقمر الى أن يأذن الله تعالى بخراب هذا الكون)
فالشمس والقمر يجريان باستمرار كما فى قوله تعالى (وءايةُ لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون . والشمس تجرى لمستقرٍ لها
ثانيًا . (الانتظام البديع)
فالشمس تسير فى فلكها فى مُدة سنة ، وهى فى كل يوم تطلع وتغرب بسيرٍ سخرها له خالقها لا تتعداه ولا تقصُر عنه
والقمر يُبدية الله كالخيط ثم يتزايد نوره ويتكامل حتى ينتهى الى ابداره ، وكماله ثم يأخذ فى النُقصان حتى يعُود الى حالته الأولى
قال تعالى "لا الشمس ينبغى لها ان تُدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلُ فى فلكٍ يسبحون" أى : لا يُمكن أن توجد الشمس فى الليل فتُدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار فيدخُل عليه قبل انقضاء سُلطانه ، "وكلُ" من الشمس والقمر والنجوم "فى فلكٍ يسبحون" أى : يترددون على الدوام
فهذا دليل على عظمة الخالق وقدرته وحكمته ووحدانيته سُبحانه
ثالثًا . (ما فيهما من المنافع العظيمه)
قال تعالى "هو الذى جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب"
وفى الشمس منافع عظيمه للعلويات : فان القمر يستمد نوره من الشمس
وللسُفليات : من الانسان والحيوان والنبات والبحار وغير ذلك ، ولوا طلوع الشمس وغروبها لما عُرف الليل والنهار . ولأطبق الظلام على العلام أو الضياء
وفى سير القمر . تظهر مواقيت العباد فى معاشهم وعبادتهم ومناسكهم . فتميزت به الأشهر والسنون وقام حساب العالم مع ما فى ذلك من الحكم والآيات التى لا يُحصيها الا الله تعالى
[10]
قوله تعالى (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) يعنى : وان كان الشمس والقمر من المخلوقات العظيمه فان هذا لا يقتضى أن يُسجد لهما ، لأنهما مخلوقان مُدبران مُسخران يعتريهما التغير (واسجدوا لله الذى خلقهن) اى : اعبدوا الله وحده ، لانه الخالق العظيم ، ودعوا عبادة ما سواه من المخلوقات وان كبر جرمها وكثرت مصالحها . فان ذلك ليس منها وانما هو من خالقها تبارك وتعالى (ان كنتم اياه تعبدون) فخصوه بالعبادة واخلاص الدين له [11]
3- السماوات السبع والارضون السبع وما فيهن وما بينهما
فهذه من اعظم الدالة العلى عظمته ووحدانيته .
(السماوات السبع) وعلوها وسعتها واستدارتها ، وعظم خلقها وبناؤها
و(فيهما) من الكواكب الزاهرة والايات الباهرة
و(الارضون السبع) وامتدادها وسعة أرجائها . فان الله تعالى جعل الأرض فراشًا ومهادًِا وذللها لعباده ، وجعل فيها سُبلًا ، وجعل فيها أرزاقهم ومعايشهم
و(مافيهما) من المخلوقات العظيمة كالجبال والبحار ، وأصناف المخلوقات ، من الحيوانات والنباتات ، وسائر الموجودات
(وما بين السماوات والأرض) من المخلوقات العظيمة كالأهوية والسحاب وغير ذلك
كل هذا من الأدلة الدالة على وحدانية البارئ جل وعلا ، وعلى تفرده بالخلق والتدبير
وقد أكثر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض فى كتابه الكريم ، ودعا عباده الى النظر اليهما والتفكر فى خلقهما
قال تعالى (ان فى السماوات والارض لأياتٍ للمؤمنين) الاية وقال (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
فالخُلاصة ان العقل يدل على وجود الصانع ووحدانيته فى الربوبية والالوهية من وجوه :
احدهما : انه لابد لكل حادثٍ من مُحدث أحدثه" ولابد لهذا الوجوه من موجد سابق عليه
وهذا الامر مركوز فى فطر بنى آدم حتى الصبيان لو ضرب الصيى ضربةً فقال من ضربنى ؟
فقيل له : ما ضربك احد .. لم يُصدق عقله ان هذا حدث بدون فاعل
الثانى : هذا الصانع لابد ان تكون له خصائص تُميزة عن المُخلوقات المُمكنه المُفتقرة المتشاركه فيما بينها
وهى وجوب الوجود والقدرة المطلقة والغنى المطلق والاستقلال بالفعل وان يكون قاهرًا
وان لم يستقل بالفعل ويفعل وحده فهذا يدل على انه غير غنى بل مُفتقر الى غيره ، وانه ليس بواجب الوجود
ثم الاشتراك يوجب النقصان ، ويُنافى القُدرة التى هو من لوازم الربوبية
ثم لو كان صانعان فصانعان فصاعدًا سيذهب كل الهٍ بما خلق ، وسيحصل تضارب وتناقض وعدم انتظام لا يستقيم معه حال الكون
الرابع : فهذا الانتظام المُدهش للعقول الذى فى المخلوقات . وعدم التناقض والتنافر بينها ، بل كونها تسير وفق خطة واحدة مع افتقار بعضها الى بعض
يدل على وحدانية الصانع . والا فمع التمانع لا يُمكن وجود العالم
واعتبر ذلك بالشمس والقمر والكواكب الثابتة والسيارة ، فانها مُنذ خُلقت وهى تجرى على نظام واحد وترتيب واحد ، كلها مُسخرةُ بالقُدرة مُدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم ، ليست مقصورةُ على مصلحة احدٍ دون احد
ولن ترى فيها خللًا ولا تناقضًا ولا مُعارضة فى أدنى تصرف ، فهل يُتصور أن يكون ذلك تقدير الهين ربين ؟!

قال الامام الباقلانى المُتكلم " والدليل المعقول . اننا نرى الأمور تجرى على نمطٍ واحد ، فى السماوات والأرض وما فيهما من شمسٍ وقمرٍ وغير ذلك
ولو كانا اثنين فلابُد أن يجرى خلافُ أو تغير من أحدهما على الآخر ، وقد بينه سُبحانه وتعالى فقال (لو كان معه آلهةً كما يقولون اذًا لابتغوا الى ذى العرش سبيلًا)"
[12]
الخامس : فكما لا وجود لها ولا دوام الا بربوبيته ، كذلك لا صلاح لها ولا قوام الا بعبادته وافراده بالطاعة
اذ االخالق لهذه الكائنات هو المُستحق للعبادة وحده دون سواه ، والذى لا يخلق لا يستحق أن يُعبد

{توحيد الربوبية لا يكفى فى دخول الجنة}
وليُعلم ان توحيد الربوبية هو الاصل والدليل لأثبات توحيد الالهية ، وقد أقر به المشركون الذين بُعث فيهم النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الجُملة ..
ولهذا يحتج الله عليهم فى القُران بما اقروا به من توحيد الربوبية ، على ما انكروه من توحيد الالهية
وهذا النوع من التوحيد مُهم وواجب ولكنه لايكفى للدخول فى الاسلام والجنة ، بل لابد من الاقرار بتوحيد الالهية
يقول شيخ الاسلام بن تيمية :
"وكل واحدٍ من وحدانية الربوبية ، والالهية - وان كان معلومًا بالفطرة الضرورية البديهية ، وبالشرعية النبوية الالهية - فهو أيضًا معلوم بالأمثال الضرورية ، التى هى المقاييس العقلية .
لكن المُتكلمون انما انتصبوا لاقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية ، وهذا مما لم يُنازع فى أصله أحد من بنى آدم
وانما نازعوا فى بعض تفاصيله ، كنزاع المجوس والثنوية والطبيعية والقدرية ، وأمثالهم من ضُلال المُتفلسفه ، والمُعتزلة ، ومن يدخُل فيهم .
وأما توحيد الالهية فهو الشرك العام الغالب ، الذى دخل من أقر أنه لا خالق الا الله ، ولا رب غيره من أصناف المُشركين .
كما قال تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهو مُشركون) كما قد بسطنا هذى فى غير هذا الموضع .." أ.هـ[13]
وقال فى موضعٍ أخر :
"ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد- توحيد الربوبية-: إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وقال تعالى قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ الآيات، وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال ابن عباس وغيره: (تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره) وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه كله لله" أ.هـ[14]
هذا ونسأل الله ان يُعلمنا ما ينفعنا ويزدنا علمًا
ونسأله سُبحانه ان يجعل هذه المقالة البسيطة ، خالصةً لوجهة الكريم مُقربةً اليه فى جنات النعيم
أخوكم المسلم البسيط قليل البضاعة ابراهيم
والله اعلم وصلى الله على مُحمدٍ واله وصحبه وسلم

[1] مجموع الفتاوى 37/2-34
[2] درء تعارض العقل والنقل 9/360
[3] تفسير الشعراوى 10134-9509 ط.اخبار اليوم قطاع الثقافة
[4] كتاب التوحيد للماتوريدى ص85
[5] تفسير السعدى 5/1144 ط.ابن الجوزى
[6] شرح الطحاوية ص26-27
[7] الداء والدواء ص470 ط.المجمع
[8] انظر تفسير ابن كثير عند هذه الاية وكتب المُتكلمين
[9] انظر شروح الاصول الثلاثة : "حاشية ابن قاسم" و"حصول المأمول" لعبد الله الفوزان ، و"الوجازة" للخضير ، وشرح ابن عثيمين ، وشرح الحازمى
[10] مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/207 وما بعدها
[11] تفسير السعدى
[12] الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص33
[13] مجموع الفتاوى 2/39
[14] اقتضاء الصراط المستقيم 2/854 ت.ناصر العقل