بسم الله، الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله، و آله و صحبه و من والاه، أما بعد:

فبعض العرب و المسلمين يعظمون المتنبي و يحيطونه بهالة من القداسة و العصمة و لا يريدون من أحد أن ينتقده أو يشير إلى أخطائه فضلاً عن أن يصحح تلك الأخطاء.

و هذا خلاف منهاج أهل السنة الذي يمثله قول الإمام مالك رحمه الله: (كل يؤخذ من قوله و يرد إلا صاحب هذا القبر -أي نبينا محمد صلى الله عليه و سلم-).
فأهل السنة يزنون الأقوال بميزان القرآن الكريم و السنة الشريفة، فما وافقهما أخذوه و قبلوه، و ما خالفهما تركوه و ردوه.

قال المتنبي:

أي محل أرتقي *** أي عظيم أتقي
و كل ما قد خلق اللـ *** ـه و ما لم يخلق
محتقر في همتي *** كشعرة في مفرقي

هذه الأبيات يظهر فيها لون من غرور المتنبي و تيهه.

إن كانت نية المتنبي احتقار جميع ما خلق الله على الإطلاق دون استثناء (هذا الأسلوب يسمى العام الذي يراد به العموم) فهذا سوء أدب بالغ مع الأخيار من خلق الله الذين كرمهم الله و أعلى قدرهم مثل الملائكة و الأنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين.
و قد قال النبي عليه الصلاة و السلام: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).
و قد عظم الله كثيراً من خلقه كالسماوات و الأرض و النجوم و البحار و الأنهار و غيرها و جعلها آيات دالة على كماله و جماله و جلاله و نواله، فاحتقار هذه الآيات سوء أدب بالغ مع الله أيضاً.

و قد قيل أن سعيد بن المسيب رحمه الله لما بلغه قول عمر بن أبي ربيعة:
و غاب قمير كنت أرجو غيابه *** و روح رعيان و رقد سمر

قال: قاتل الله عمر بن أبي ربيعة صغر ما عظم الله (لأن قمير تصغير قمر)، يقول الله: (و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) [في سورة يس].

أما إن كانت نية المتنبي احتقار بعض ما خلق الله (هذا الأسلوب يسمى العام الذي يراد به الخصوص) مثل أسافل الناس و أراذلهم فهذا ربما يعتبر معنى سائغاً، و من أمثلة الكلام العام الذي يراد به الخصوص قول الله تعالى في سورة آل عمران: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل)، فكلمة (الناس) هنا لا يقصد بها جميع الناس على الإطلاق دون استثناء و إنما الناس هنا هي الموضعين قصد بها بعض الناس (أناس مخصوصون).


لكن يغلب على ظني أن المتنبي أراد بأبياته احتقار جميع ما خلق الله و ما لم يخلق على الإطلاق دون استثناء (العام الذين يراد به العموم) لأن لفظ أبياته و مبناها و سياقها يرجح هذا الاحتمال، و لا أجزم بيقين بنية المتنبي و الله أعلم بنيته.

و الآن أرد على المتنبي هذه الأبطولة من أباطيله:

قلت:

دَرَجَ المعالي أرتقي *** دَرَكَ المخازي أتقي
و كل ما قد خلق اللـ *** ـه و ما لم يخلق
يزيدني تعلقاً *** بخالقي موفِقي

معاني الكلمات من قاموس المعاني:

درج: جمع درجات، أو طريق.
درك: جمع دركة و هي المنزلة السفلى و هي ضد الدرجة و هي المنزلة العليا، فالدَّرَكات: منازل بعضها تحت بعض، والدرَجات: منازل بعضُها فوق بعضٍ.
و قيل: الجنة درجات و النار دركات.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.