عن أبي هريرة: قال النبي ﷺ: «إذا ضرَبَ أحدُكم فليَجتَنِبِ الوَجْهَ، ولا يَقُلْ: قَبَّحَ اللهُ وَجهَكَ، ووَجْهَ مَن أشبَهَ وَجهَكَ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ خلَقَ آدمَ على صورَتِه.»
شعيب الأرنؤوط (١٤٣٨ هـ)، تخريج المسند ٩٦٠٤ • إسناده قوي




# لقد كَره الإمام مالك إذاعة هذا الحديث بتمامه وأحبَّ الاكتفاء بأول الحديث لحاجة الناس إليه وترتب عملٍ عليه لينتهوا عما نُهوا عنه من ضرب الوجه وتقبيحه، واختارَ أن يُخزَن عن العامة باقي الحديث، ولا يحسن هذا الكتمان لولا خشية الفتنة وأن يُحمّل الحديث ويُظن بالله ما لا ينبغي.
وهذا الحديث يوهم كثيرا من الناس أمرا عظيما لاينبغي إثبات مثله بدلالة ظنّية محتملة، وهي دلالة أنكرها ونفاها غير واحد من أئمة الإسلام.
فحديث الصورة إذن من المتشابه الذي يجب فهمه في ضوء المحكم:(ليس كمثله شيء) ،، وهذه الآية هي أصل الأصول المحكمات في باب الصفات.
فلايمكن لهذا الحديث أن يكون من أحاديث الصفات أصلا فهو كقوله تعالى: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله) فلاريب أن لله وجهًا صفة ذات إلا أن هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، كذلك لا ريب أن لله صورة ولكن الصورة في حديث الباب ليست صفةً لذات الباري سبحانه، ولكن الأئمة رووه وسكتوا عن تفسيره حذرا من الزلل والقول على الله بغير علم حتى جاء ابن خزيمة ومن قبله أبو ثور فاجتهدا في تفسيره تخليصا للحق من أوهام الخلق، فليس هذا من التحريف ولا من التأويل المذموم في شيء، بل هذا اجتهاد يُمدح ويفخر به مخالفةً للذين عابهم الله بأنهم أمّيّون لايعلمون الكتاب إلا أماني غاية علمهم تلاوة اللفظ دون فهم وتفقه في معانيه، لاسيما وأن أئمة الإسلام الذين رووا هذا الحديث وأمسكوا عن الخوض في معناه إنما آثروا السلامة فسكتوا.
وقد أثبتنا لله حقيقة النزول بذاته إلى سماء الدنيا مع تنزيهه -سبحانه- عن اللوازم التي تلزم المخلوق إذا نزل بذاته من عُلْوٍ إلى سُفْل، لأننا لانملك إلا التسليم لما ثبت بدلالة ظاهرة غير محتملة قد أجمع عليها الأئمة الأعلام ولم ينازع فيها إلا المبتدعة أهل الأهواء والضلالات، أما حديث الصورة فإن دلالته فيها ما فيها -كما سيتبين أثناء البحث- وقد نازع فيها إمام الأئمة ابن خزيمة، وقد سبقه أبو ثور الذي شبهه الإمام أحمد بسفيان الثوري في الاتِّباع ولزوم السنة فقال فيه:«هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة.» وفيات الأعيان[٢٦/١] .


*لو قيل:-
إن إثبات خلق آدم على صورة ذات الرحمن لايستلزم التشبيه؛ فصورة ذاته سبحانه كسائر صفات ذاته لا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته إنما هو اشتقاق من المعنى العام للصورة الحسنة لا في الكيفية فحقيقة الصورتين في الواقع مختلفة ومتباينة في أقصى ما يُتصور من التميّز والتغاير والافتراق.


قلتُ:-
إذن فيلزم أن لا يستوجب شيئا زائدا تجاه صورة آدم فتذهب فائدة الحديث؛ لأن كل الصفات من سمع وبصر وحياة...إلخ لا بد لها من تشابهٍ في أصل المعنى، وبهذا التشابه أمكنَ إدراكُ وفهمُ ما وُصِف اللهُ به من ذلك، ثم تتفاوت الصفات في الواقع الفعلي بحسب الموصوف بها، حتى معنى الوجود له أصل كليّ مشترك وهو معنىً مجرّد في الذهن أما في الواقع فوجود المخلوق غير وجود الخالق ولا نسبة بين الوجودين إلا كالنسبة بين الخالق والمخلوق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [شرح حديث النزول] صفحـ١١١ـة :-
«ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنىًٰ مشتركٍ كُـلّيٍّ يقتضي من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به نفهم ونثبت هذه المعاني لله لم نكن قد عرفنا عن الله شيئا ولا صار في قلوبنا إيمان به ولا علم ولا معرفة ولا محبة ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته وتعظيمه، فإن جميع هذه الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن العلم إلا بإثبات تلك المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب عن شهودنا.»
قلتُ:-
فهو إذن مناطٌ منقوض لا يطّرد، وإلا فكل شيء موجود فله اشتقاق من أصل معنى الوجود !
فكذلك وجه الإنسان الذي هو صورته التي بها يُؤلَف ويـُـستأنَس به.


*عن عبد الله بن عمر: نَهى رسولُ اللهِ ﷺ أنْ تضربَ الصُّورة يعني: الوَجْهَ.
شعيب الأرنؤوط (١٤٣٨ هـ)، تخريج المسند ٤٧٧٩ • إسناده صحيح على شرط الشيخين.
*عن عبدالله بن عباس: قال النبي ﷺ: «الصُّورَةُ الرَّأْسُ، فإذا قُطِعَ الرَّأْسُ، فلا صُورَةَ.»
الألباني (١٤٢٠ هـ)، السلسلة الصحيحة ١٩٢١


وسيأتي أن لبعض التأويلات المأثورة عن أهل السنة من المناسبة بين أول الحديث وآخره ماهو أظهر فائدة وأبلغ في الزجر عن ضرب الوجه وتقبيحه.
والذين تأوّلُوه إنما تمثّلوا توجيه إمامين من أئمة الصحابة علما وعملا، فقد ثبت عن علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما:- «إذا حُدِّثتُم عنْ رسولِ اللهِ ﷺ بحديثٍ فظنُّوا به الذي هو أَهدى والذي هو أَتقى والذي هو أَهيأُ.» رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وصححه الألباني.


فأقل ما يُقال:-
إن التفقه والبحث في مثل هذا الحديث سائغ بل مطلوب وإن كانت بعض التأويلات ظاهرة الفساد ولايحتملها لفظ الحديث ولا تناسب النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه.
وأقل أحوال هذه المسألة أن تكون مما يسوغ فيه الاختلاف فلا يُعاب إلا على من تعسف في نصرة رأيه وقصّر في التثبت والتحقق.


وإنه ليصعب جدا أن يُـتـصور له معنى يتفق مع:(ليس كمثله شيء) إلا إذا كان المراد الصورة التي خلقها الله وأبدعها، كما نقول: هذا البناء تصميم فلان، وكما تُـنسب أي لوحة فنية إلى الذي رسمها فيصح أن نقول لها: هذه صورة الرسام فلان، ونحو ذلك، وإلا كان في الحديث نوع تشبيه أو تكييف لوجه البارئ وصورة ذاته سبحانه وتعالى علوا كبيرا.


★ولو قيل:-
إنه بتأويله على الصورة التي خلقها الله تذهب فائدة الحديث لأنه خصص آدم بذلك من بين سائر المخلوقات التي هي على صورة الرحمن التي خلقها لها ؟!
فالجواب:-
*الإضافة المعنوية ربما أتت لأدنى ملابسة وكثيرا ما يراد بها التشريف والتكريم، كما أن«..بيت الله لا يدل على أن الله ساكن فيه، لكن إضافة كل شيء بحسبه، بل بيته هو الذي جعله لذكره وعبادته ودعائه..» مجموع الفتاوى[٤٣٢/٢٠].
ولما قال الله تعالى:﴿ورزق ربك خير وأبقى﴾ أراد رزقا خاصا وهو الذي لا ينقطع بالموت فشرّفه بالإضافة إليه سبحانه.
والإنسان خلقه الله على أحسن تقويم، فأضيفت صورته إلى الرحمن تكريما فإن صورة الآدمي أحسن صورة خلقها الله فهي آية دالة على قدرته وحسن صنعه وبديع خلقه فليس لنا أن نعدو عليها بالفعل ولا بالقول. وعيب الصنعة عيبٌ لصانعها، فلاينبغي تقبيح صورة كرمها الله على باقي الصور فهي صورته التي اصطفاها ومـيـّـزها على جميع الصور وهذا مناسب جدا لتمييز آدم بمباشرة الرحمن لخلقه بيديه سبحانه وتعالى.
*وفي [مفتاح دار السعادة ٤٣١] شرح ابن القيم قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يمدح أهل العلم: «أولئك خلفاء الله في أرضه» فقال ابن القيم عن هذه الإضافة: «وحقيقتها: خليفة الله الذي جعله الله خلفا عن غيره...فإن قيل: هذا لا مدح فيه لأن هذا الاستخلاف عامٌّ في الأمة، وخلافة الله التي ذكرها أمير المؤمنين خاصة بخواصّ الخلق. فالجواب: أن الاختصاص المذكور أفاد اختصاص الإضافة، فالإضافة هنا للتشريف والتخصيص». كالإضافة في قوله تعالى:﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾. والموعود بالكفاية هو من كان عبدا لله محبةً واختيارا وإلا فكل أحد عبدٌ لله مقهور ذليل للأحكام الكونية التي تسوقه اضطرارا إلى الله:﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا﴾.
وعيسىٰ ابنُ مريم روحُ الله وكلمتُه، أي: خُلِق بكلمة الله:(كن)، لا أنه نفس الكلمة.
قال الإمام أحمد في كتابه[الرد على الزنادقة والجهمية] صفحـ٢٥٢ـة بتحقيق دغش العجمي:- «وتفسير (رُوح الله) إنما معناها: أنها روحٌ بكلمة الله خلقها الله، كما يُقال: عبد الله وسماء الله وأرض الله.»


* كل ما سبق إنما هو على التسليم بصحة لفظ «..على صورة الرحمن»، فقد طُعن فيه:-
*عن عبدالله بن عمر قال النبي ﷺ: «لا تقبِّحوا الوَجهَ فإنَّ ابنَ آدمَ خُلِقَ على صورةِ الرَّحمنِ»
قال ابن خزيمة : «له عللٌ ثلاث»، وذكر له الإمام الألباني علة رابعة شرحها في السلسلة الضعيفة.
*وقد صح عن ابن عمر باللفظ المشهور:«..على صورتِهِ»
• الألباني (١٤٢٠ هـ)، تخريج كتاب السنة ٥١٨ • صحيح


★ وما ذُكر آنفا من تأويل إنما بُنِيَ على التسليم أيضا بأن الضمير في: (صورته) لله سبحانه وتعالى.
وإننا لفي سعة من مرجع الضمير إذ رجوعه إلى المضروب في وجهه أو المقبَّح مناسبٌ تمام المناسبة للنهي عن ضربه، فإن الإنسان بطبعه يشق عليه أن يضرب وجها تشبه صورته صورة أبيه، وما جيء بذكر الأب والوالد (آدم) إلا لتنفير المؤمن من ضرب شبيه أبيه في الصورة وهو مكرّم في أصله ولو استحق القتل والرجم والتعذيب في غير الوجه، فذكّرنا النبي ﷺ بأن آدم أبانا على هذه الصورة فلايصح أن نوقع عليها ضررا معنويا بالقول أو ماديا بالفعل. إلا أن يكون قصاصا العين بالعين والأنف بالأنف وهكذا. أما العقوبات العامة فلا حاجة لإيصالها للوجه ولو كان المضروب يستحق القتل وهذا يشبه عقوبة الحرق بالنار فقد ثبت النهي عنها وقال ﷺ :«إنه لاينبغي لأحد أن يُعذب بعذاب الله».


================
وليس حديث الصورة بأوّل نص تأوّله أهل السنة:-
قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله)
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٤٢٩/٢] :-
«..أي قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدها بعضهم في الصفات…وهو الوجه الذي لله والذي أمر الله أن نستقبل. فإن قوله: {ولله المشرق والمغرب} يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله...»


ومما لا يُنكر تأويله:-
ما جاء عن عبدالله بن عمر: أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَأى بُصاقًا في جِدارِ القِبْلَةِ، فَحَكَّهُ، ثُمَّ أقْبَلَ على النّاسِ، فَقالَ: «إذا كانَ أحَدُكُمْ يُصَلِّي، فلا يَبْصُقُ قِبَلَ وجْهِهِ، فإنَّ اللَّهَ قِبَلَ وجْهِهِ إذا صَلّى.» متفق عليه
*وهذا تمثيل وتقريب وتأكيد للقرب والإقبال والمناجاة أثناء الصلاة، توفيقا بينه وبين المحكمات الكثيرة في أن الله فوق عرشه بائن عن خلقه وله العلو المطلق … سبحانه وتعالى


ومن ذلك ماجاء عن بعض السلف في تفسير(الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة..) الآية قال: مثَل نوره في قلب المؤمن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٤٣٤/٢٠] :-
«وقلنا: المساجد بيوت الله فيها ما بني للقلوب والألسنة من معرفته والإيمان به وذكره ودعائه والأنوار التي يجعلها في قلوب المؤمنين كما في قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} ثم قال: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة} إلى قوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع} فبين أن هذا النور في هذه القلوب وفي هذه البيوت كما جاء في الأثر: " إن المساجد تضيء لأهل السموات كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ".»

المرجع:-
https://ssifah.blogspot.com/?m=1