المرافعة عن بعد

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:فقد طلب مني بعض طلبة العلم كتابة شيء عن المرافعة عن بعد لنشره والاستفادة منه؛ لقيام الحاجة في هذه الأيام إلى بيان هذه المسألة في هذه الظروف (انتشار فيروس كورونا) فاستجبت لطلبه مشاركة لإخواني طلبة العلم في بحث مثل هذه المسائل عند قيام مقتضيها.وفيما يلي تعريف بالمرافعة عن بعد ومشروعيتها وأقسامها وشيء من الأحكام المتعلقة بها.
المرافعة عن بعد هي: تحاكم الأطراف إلى القاضي وفق قواعد المرافعات والجميع متفرقون في المكان.
وهي تتم عن طريقين:
1 – تبادل المذكرات المكتوبة.
2 – الاتصال المرئي.ونبين كل واحد منهما بإيجاز فيما يأتي:
الطريق الأولى: التحاكم عن بعد بتبادل المذكرات المكتوبة.فيقوم الطرفان بتبادل المذكرات بعد إثبات جلسة الافتتاح وما يلزم لها من ديباجة المحكمة، وهويات أطراف الخصومة وصفاتهم أصلاء أو وكلاء وإثبات مستند وكالة الخصوم وصفاتهم، ويستمر الطرفان على ذلك حتى قفل باب المرافعة، ومن ثم إصدار القاضي حكمه وتبليغ محضره فوراً لأطراف الدعوى، ومن ثم إصدار إعلام الحكم وتبليغه للأطراف، وذلك سائغ شرعاً.ويدل له كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في قصة عبد الله بن سهل ومحيصة لما خرجا إلى خيبر، وفيه: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب»، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم به، فكتب ما قتلناه) أخرجه البخاري في صحيحه 9/ 75، وهو برقم (7192)، ومسلم في صحيحه 3/ 1294، وهو برقم (1669).وقد بوب البخاري على الحديث آنف الذكر في صحيحه بقوله: (باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه).
فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في دعوى القتل، وكتبوا إليه بنفي ذلك، فدل على مشروعية كتابة الحاكم إلى الخصوم، وكتابتهم إليه في الدعوى والإجابة، قال في إرشاد الساري 10/ 257: "استُشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة؛ لأنه ليس في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى نائبه ولا أمينه، وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم.
وأجاب ابن المنير: بأنه يؤخذ من مشروعية مكاتبة الخصوم جواز مكاتبة النوّاب في حق غيرهم بطريق الأولى". وينظر: فتح الباري 13/ 158.
كما بوب البخاري في صحيحه 9/ 66 في موضع آخر من كتاب الأحكام بقوله: (باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيق عليه، وكتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى القاضي).
وهذه المكاتبات بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في القتل تدل على جواز المرافعة عن بعد، بحيث يكتب الخصم بدعواه للقاضي ويبعث نسخة منها للخصم الآخر، ويجيب عليها، وهكذا حتى تنتهي المرافعة، ثم يحكم القاضي ويبلغهم بالحكم.
وقد عرف الفقه الإسلامي تبادل المذكرات في الدعوى لدى القاضي في مجلسه، فتقدم الدعوى مكتوبة ويجيب الخصم كتابة، وهكذا حتى تنتهي المرافعة.
وقد فصلت ذلك في كتابي: سير الدعوى القضائية 545. مما يؤسس لأصل جواز المرافعة كتابة.
ولا يعارض هذا ظاهر حديث علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله سيهدي قلبك، ويثبّت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء»، قال: «فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد». [أخرجه أبو داود 3/ 301، وهو برقم (3582)، وسكت عنه، والترمذي 2/ 395، وهو برقم (1346)، وحسنه، وأحمد. [الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 15/ 213]. فظاهر قوله: (إذا جلس بين يديك الخصمان) أنه لا بد من الحضور شخصيّاً أمام القاضي، فلا يصح التحاكم عن بعد.
وجوابه: أن التحاكم عن بعد يتحقق به الحضور الحكمي للطرفين لدى القاضي؛ لأنه تتم فيه جميع الحقوق المقررة في الادعاء والدفاع للطرفين والمواجهة بين الخصمين بما يكتبانه، والمساواة بينهما بإعطاء الفرص المتكافئة للدفاع، وعليه فلا فرق بين الحضور شخصيّاً أو عن بعد، مما يقتضي أن الحضور الحكمي كالحضور الحقيقي.وعليه فإن التحاكم عن بعد جائز بالشروط الآتية:
1 – إمكان تحقق القاضي من هويات الطرفين وصفاتهم في الدعوى.
2 – إمكان وصول الكتابة للقاضي ومنه للخصوم مع أمن التزوير والتغيير فيها، وسائر الإجراءات.
3 – إمكان تواقيع الخصوم عند الاقتضاء على محاضر القضية سواء أكانت التواقيع رقمية أم قلمية على الحاسوب.
4 – استيفاء حقوق أطراف الخصومة فيما يتطلبه السير في الدعوى من إعطاء الفرص المتساوية والمتكافئة لهم في المرافعة وتمكين كل واحد منهما من الإدلاء بحجته.
5 – أن تتم المرافعة طبقاً للأحكام والقواعد والإجراءات المقررة نظاماً.
6 – ضبط الإجراءات الفنية التي تمنع من الاختراق والتزوير، وتمكن من إتمام المرافعة عن بعد على وجه الضبط والإتقان.
7 - إذن الجهة القضائية المختصة.وينبغي للجهة القضائية المختصة عند العمل بالمرافعة عن بعد بالكتابة تحديد المذكرات بحد أقصى من الكلمات لا يتجاوزها في المذكرة الواحدة؛ وكذا عدد جلسات المرافعة؛ تجنباً لتكرار الكلام وطوله بما يخرج عن نطاق الدعوى ويطيل أمدها، وإذا تجاوز عدد الجلسات القدر المقرر من الجهة المختصة، فلا بد من ذكر سبب ذلك وتمديده بالقدر اللازم فقط، وبعده يقفل باب المرافعة لدراسة القضية وإصدار الحكم.وفي العمل بالمرافعة عن بعد تسهيل على المترافعين بإسقاط عناء التنقلات وتبعاتها، وفيه توفير لأوقاتهم، ومصالح أخرى من تخفيف ازدحام الطرق ونحوه، مع تحقق المتطلبات الأساس في المرافعات.
الطريق الثانية: التحاكم عن بعد عن طريق الاتصال المرئي.وتكون المرافعة عن طريق الحضور صورة وصوتاً فيجتمع القاضي وأطراف الدعوى عبر الاتصال المرئي وإن تباعدت أمكنتهم، وهذا جائز قياساً على ما سبق من جواز المحاكمة كتابة بل هو من باب أولى.
ولا بأس بالجمع بين المرافعة كتابة أو اتصالاً مرئيّاً كالحال في المرافعة بالحضور لدى القاضي كتابة.
ولا بد للمرافعة عن بعد بالاتصال المرئي من تحقق الشروط السابقة في المرافعة عن بعد كتابة مع لحظ ما يخص الاتصال المرئي بالأمن من تزوير المحاضر أو الشخصيات.
وفي كل الأحوال – تمت المرافعة عن بعد كتابة، أو عن طريق الاتصال المرئي - إذا اقتضت طبيعة الدعوى أو بعض جلساتها، أو جلسة أداء اليمين، أو سماع الشهود حضور الأطراف والشهود مباشرة لدى القاضي تعيّن ذلك، كما للقاضي طلب حضور الأطراف في أي مرحلة عند قيام المقتضي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه: عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين1441-09-18ه


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/web/dbian/0/1...#ixzz6MKu2Lket