فهم النص الشرعي اعتمادًا على اللغة وحدها


دبيان محمد الدبيان
مر معي أثناء بحثي في كتاب الصلاة مناقشة بعض الأدلة والتي ظاهرها يجيز الذكر الجماعي فكان ضمن ما ناقشته في هذا الدليل هو منهج الاستدلال في فهم النصوص اعتمادًا على اللغة وحدها، ولا أريد أن أدخل في دلالات الألفاظ عند الأصوليين، وأن النص تارة يكون له حقيقة شرعية تنقله عن الحقيقة اللغوية، كما أن النص الشرعي يرد عليه احتمالات كثيرة بعضها أرجح من بعض كالنص والظاهر، والمجمل والمتشابه والعام الذي يراد به الخصوص إلى غير ذلك من الاحتمالات، ولكني أريد أن أقف مع الاعتماد على اللغة وحدها في فهم النص الشرعي.
لا يكفي في فهم النصوص الشرعية الاعتماد على الدلالة اللغوية فقط، فاللغة أحد الأدوات في فهم النص، وليست الأداة الوحيدة، فلابد من استكمال أدوات فهم النص، ومن أهمها:
كيف فهم الصحابة هذه النصوص من صاحب الشريعة، فإنهم أعرف باللسان، وأفقه بالمقصود، فقد تجد النصوص الشرعية دلالتها اللغوية واحدة، والموقف الفقهي منها مختلف، فحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وحديث: (لا صلاة بحضرة طعام)، كلاهما قد استعمل معه أداة النفي (لا صلاة)، فهل كانت دلالتهما الشرعية متفقة اعتمادًا على اتفاقهما في الدلالة اللغوية؟.
وقل مثل ذلك في نفي القبول عن العمل: فحديث: (لا تقبل صلاة بغير طهور)، ونفي القبول عن صلاة الآبق ومن أتى عرافًا فصدقه، كلاهما استعمل معه نفي القبول، فهل كانت دلالتهما الشرعية واحدة؛ لاتفاقهما في الدلالة اللغوية؟.
وقد كنت ذكرت لكم عند الكلام على حكم تحية المسجد: أن على طالب العلم ألا ينزع الحكم من دليله حتى يكون محاطًا بنور من فهم الأئمة، ولا ترع سمعك لمن يقول لك:
أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال فلان وفلان، فإنما هذا رجل يدعوك لتقدم فهمه هو لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على فهم الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، فالسلف أعلم بدلالات النصوص، ومعاني الألفاظ وأحكم في معرفة مقاصد الشريعة، وإن طالب العلم أوثق لدينه، وأحكم لفقهه أن يقدم فهم الأئمة للأدلة على فهمه هو، أو فهم متأخر لم يتجاوز في نظره لحكم النص على دلالة النص اللغوية، ولم يكلف نفسه النظر إلى عمل الصحابة، وهم أهل اللسان، وفهم الأئمة من أصحاب القرون المفضلة، وهم أهل الفقه والاستنباط، وإن اللغة العربية هي إحدى الأدوات لفهم النص، وليست الأداة الوحيدة، فالمعنى الشرعي قد يكون أخص أو أعم من المعنى اللغوي، كما ذكرته لك عند الخلاف في معنى اشتمال الصماء، وكما أكدته لك عند كلامي على جراءة بعض المعاصرين في تحريم الأخذ من اللحية احتجاجًا بدلالة (أعفوا اللحى) اللغوية، وكما حصل انحراف المرجئة في تفسير الإيمان استنادًا إلى الحقيقة اللغوية، وكما وقع الخوراج في بدعتهم في تخليد صاحب الكبيرة لظواهر بعض النصوص القرآنية، بل إنك تجد لفظًا واحدًا في القرآن له أكثر من دلالة، كالفسق يطلق أحيانًا ويراد به الكفر،، كقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون ﴾ [السجدة: 20].
ولا يكذب بعذاب النار إلا القوم الكافرون.
ويطلق أحيانًا ويراد به ما دون ذلك من المعاصي، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]. وانظر إلى حديث أم عطية في الصحيحين: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا. فقول أم عطية: (ولم يعزم علينا) هذا الفهم الذي تتحدث عنه أم عطية رضي الله عنها خارج دلالة النهي اللغوية، ولا يحيط به إلا من شاهد التنزيل، وسمع الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم، لن يعطاه من تعامل مع دلالة النصوص اللغوية بمعزل عن فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وعن فهم من أَخَذَ عنهم واتبعهم بإحسان، وهم التابعون رحمهم الله. وقل مثل ذلك لو أن طالب علم جاء إلى لفظ (السفر) في اللغة وأراد أن يطبق أحكام القصر والفطر على دلالة النص اللغوية، فرخص في الفطر والقصر بمجرد الظهور عن البلد؛ باعتبار أن حقيقة السفر هو السفور والظهور، فلما كان مُضْطَرًّا في فهم حقيقة السفر إلى الرجوع إلى عمل الصحابة وفهم السلف كان ذلك واجبًا في التعامل مع بقية النصوص الشرعية، والله أعلم.
وليس هذا خاصًّا في العبادات، فالربا في اللغة الزيادة، ولا يمكن فهمه استنادًا إلى اللغة، فهناك زيادة محرمة، وهناك زيادة مباحة، واللغة لا تفرق بين هذا وذاك، وقل مثل ذلك في تفسير حديث: نهى عن بيعتين في بيعة، فإنه لا يمكن لك فهم النص بدلالة اللغة، وكل البدع والتأويلات الفاسدة جاءت من خلال هذا المسلك، فلا تجد بدعة ولا تأويلًا فاسدًا إلا وتجد أن أهلها أتوا من اعتمادهم على ظواهر بعض النصوص أو بعض العمومات، ولم يستوفوا أدوات فهم النص من خلال تناول النص بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تبعهم بإحسان، والله أعلم.
وحين قال عطاء في قوله تعالى: ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ [النور: 33].
قال: ما أراه إلا واجبًا.
أخذ ذلك فقط من دلالة الأمر، والأصل فيه الوجوب، ولم يأخذ ذلك من فهم الصحابة رضوان الله عليهم.
قال له تلميذه ابن جريج: أتأثره عن أحد؟ قال: لا.
فأراد ابن جريج أن ينبه شيخه إلى أن القول بالوجوب يحتاج إلى أن يكون مأثورًا عن أحد من الصحابة، لأن ابن جريج لم يرد بسؤاله أن يكون مأثورًا عن أحد من التابعين لأن قول عطاء وهو إمام من التابعين كافٍ.
فإذا كان ذلك في حق عطاء، وقد أدرك مائتين من الصحابة، فما ظنك بغيره من المتأخرين. وهذا النص أعني قول: (يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، ويسألونك الجنة، ويتعوذون بك من النار).
هو مثال واضح على أن اللغة وحدها لا يمكن الاعتماد عليها في فهم النصوص الشرعية، أكان الصحابة رضوان الله عليهم يسبحون الله بلفظ جماعي، أم كانوا يحمدونه بلفظ جماعي، هل نقل ذلك عنهم بسند صحيح أو ضعيف؟.
فالجواب: لا، لم ينقل ذلك عنهم، بل نقل عن الصحابة إنكار الاجتماع على ذلك كما في أثر عمر وابن مسعود. فالحديث عند الرجوع إلى فهم السلف لا يدل على استحباب الذكر الجماعي، وإنما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله، وهناك فرق كبير بينهما، فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله على الوجه المشروع الذي كان يعمل به النبي، وفهمه الصحابة، لا على الصفة التي أنكرها الصحابة رضوان الله عليهم.
ولقد كان للنبي اجتماع يومي بعد صلاة الصبح إلى ارتفاع الشمس، يذكرون الله فيه بما أنعم عليهم من نعمة الإسلام، وبما كانوا عليه من أمر الجاهلية، فهل كان ذكرهم لله جماعيًا، أو كان أحدهم يدعو والبقية يؤمنون.
(ح-) فقد روى مسلم من طريق سماك بن حرب، قال:
قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول؟ قال: نعم كثيرًا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح، أو الغداة، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.
وفي رواية لمسلم: أن النبي كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسنًا. فلو كان يذكر الله جماعيًا، أو كان يدعو، والجماعة تؤمن لَفَعَلَه النبي، ولو فعله لنقل ذلك إلينا.
قال ابن تيمية: «كان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ، والناس يستمعون.... وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا. فيقرأ، وهم ويستمعون لقراءته....».

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/web/dbian/0/1...#ixzz6M5FRasRM
دبيان محمد الدبيان