في ذكرى غزوة بدر الكبرى
ونحن في ذكرى غزوة بدر الكبرى والتي خلد القرآن ذكرها , ينبغي علينا أن لا تمر علينا مرور الكرام , بل علينا أن نستخرج منها العظات والعبر , فالتاريخ دروسٌ يلقيها الماضي على الحاضر .
إنَّ ما حققته السرايا من نتائج أثار الخوف لدى قريش على اقتصادهم، لأنَّهم أدركوا أنَّ الخطر من جراء الحصار الاقتصادي الذي فرضه الرَّسول صلى الله عليه وسلم عليهم أصبح محدقاً بهم، إلَّا أنَّه "بالرغم من أنَّهم يخشون تصدي المسلمين لتجارتهم، إلا أنهم استنفروا كل طاقاتهم المالية والعسكرية، وأخرجوا تجارة ضخمة إلى الشام، ربما كانت تعويضاً لهم عما لحقهم من خسارة لانقطاع تجارتهم منذ أن بدأت السرايا والغزوات التي أزعجتهم وأخرجتهم عن طورهم، ليخرجوا في هذه التجارة الضخمة كمغامرة، مع هذا عملوا ترتيباتهم لتأمين تجارتهم"([1]).
ترامى إلى مسمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خبر وصول قافلة لقريش تضم ألف بعير – قادمة من الشام صوب مكة يقودها أبو سفيان في ثلاثين أو أربعين تاجراً مكياً([2])، فقال صلى الله عليه وسلم : (هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ ، فِيهَا أَمْوَالُهُمْ ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوه َا) ([3]).
فالاستيلاء على هذه القافلة – يُعَّدُ- ضربة قوية قاتلة للاقتصاد القرشي، وقد عبَّر المشركون عن خطورة ذلك بقولهم : إن أصابها محمد لن تفلحوا أبداً([4]).
" إنَّ كثيراً من المستشرفين([5]) وبعض فروخهم في الشرق الإسلامي ينظرون إلى معركة بدر، وكأنها ضرب من قطع الطريق وأعمال السلب والنهب المجردة، وهذه النظرة بالتأكيد ليس لها مصدر إلا الحقد الأسود الذي يعمي عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلم ويصدر حكمه متى شاء.
وإلَّا فكيف يوصف باللصوصية وقطع الطريق من حمل السلاح في وجه من أعلن عليه الحرب، وقرَّر الفتك به، وصمَّم على القضاء عليه ومحوه من الوجود، وصادر كل ما وصلت إليه يده من أمواله وممتلكاته" ([6]).
فانتدب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج معه ولم يجعل الأمر إجبارياً بل جعله اختيارياً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضع عشرة رجلاً من أصحابه لملاقاة القافلة، التي كان أبو سفيان قد سلك بها طريقاً آخر استطاع بذلك نجاتها، ولم يكتف أبو سفيان بسلوك طريق آخر بل وأرسل أحد رجاله لإخبار قريش أن قافلتها في خطر، عندئذِ استعدت قريش بكامل قوتها، بل إنَّها جعلت أرباح القافلة كلها للإنفاق على التجهيز لقتال المسلمين، فأنزل الله قوله تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَه َا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) { ([7])، وخرجت قريش في ألف مقاتل، والتقت الفئتان بلا سابق ميعاد، ولسنا هنا بصدد التفاصيل للمعركة، لأنَّها قد ذكرت في كتب السير، إنما الذي يهمنا بالدرجة الأولى تحليل المواقف لهذه الغزوة وغيرها.
ومن العجيب " أنَّ أبا جهل قبيل نشوب المعركة دعا الله قائلاً: الَّلهم أقطعنا للرحم، وَآتَانَا بما لا نعرف، فَأَحِنْهِ الْغَدَاةَ "([8])،وكان المشركون عند خروجهم من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة ودعوا بهذا الدعاء: اللهم أنصر أهدى الفريقين، وأعلى الجندين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فنزل قوله تعالى: } إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ{ ([9])([10])، أي " قد استجاب الله، فجعل الدائرة عليكم، تصديقاً لاستفتاحكم، لقد دارت الدائرة على أضلِّ الفريقين وأقطعهما للرحم"([11]).
وبالمقابل كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع معنويات أصحابه، ويبشرهم بنصر الله ومعيته، فكان يقول: ( سِيرُوا وأَبْشروا،فإنَّ الله قَدْ وَعَدَنى إحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ، وإنِّى قَدْ رَأَيْتُ مَصارعَ القَوْمِ )([12])، وأعدَّهم الإعداد الجهادي الفذ، وأدار المعركة من على عريش بني له على تل مرتفع مشرف على المعركة([13])، ثم توجه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد إعداده للعدة البشرية والقوة البشرية، التجأ إلى القوة الإلهية لتكون له سنداً ومعيناً فمد يده إلى السماء قائلاً: (اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي ُ، اللّهُمّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ اليَوْم لَا تُعْبَدَ ، اللّهُمّ إنْ شِئتَ لم تُعْبَدَ بَعْدَ اليَومِ أَبَداً)([14])، (اللّهُمّ إنِّي أُنشِدُك عهدَك ووعدَك)([15])، وكان يرفع يديه حتى كاد رداؤه أن يسقط من على كتفيه، فرده عليه أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ وقال حَسبُكَ يا رسول الله ، ألحَحْتَ على ربِّك([16])، فأوحى الله إلى ملائكته: } إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ{ ([17])، ثم أيد الله المؤمنين بنزول المطر، وبالنُّعاس لتأمينهم، ثم ربط على قلوبهم، وانتهت المعركة بالانتصار المحقق للمسلمين، ولم يكن انتصاراً عادياً، فقد كانت هذه المعركة على غاية من الأهمية، وذلك لأنَّها " واضحة الهوية من أوَّل يوم، إنها معركة مبادئ لا معركة مصالح، وصراع بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى، لم يكن الصراع قومياً ولا وطنياً، ولا اقتصادياً ولا غير ذلك من العوامل الأرضية، بل كان صراعاً فكرياً عقدياً"([18]).
وخلف المشركون بعد انتهاء المعركة سبعين قتيلاً من بينهم العديد من عتاة قريش وصناديدها، وسبعين أسيراً، على حين أنه لم يستشهد من المسلمين سوى أربعة عشر رجلاً([19]).
نتائج غزوة بدر:
لقد حقق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من الانتصار الذي حققه في غزوة بدر عدة نتائج منها:
1- أحرز بهذا الانتصار ضربة قويَّة على الكيان القرشي، كسر بها شوكته، ونكَّس كبرياءه وضعفت هيبة قريش بين العرب.
2- شدَّت – هذه الغزوة- انتباه العرب جميعاً إلى قوة الدولة الإسلامية([20]).حيث أنها استطاعت القضاء على قريش متزعمة القوة.
3- زادت التضامن والتماسك بين المهاجرين والأنصار وقوتهما([21]).
4- كانت مناسبة لتشريع خمس الغنائم لبيت مال المسلمين، فقد نزلت الآيات الكريمة بهذا التشريع بعد بدر مباشرة، فكان الخمس تدعيماً لميزانية الدولة المسلمة، وظل أكبر مصدر لبيت المال حتى نهاية الفتوحات الإسلامية في صدر الإسلام([22]).






[1]- الشجاع : دراسات في عهد النبوة ص131.
[2]- الطبري : تاريخ الأمم والملوك 1/ 528. وانظر الشامي: سبل الهدى والرشاد 4/ 18.
[3]- حديث صحيح ، صححه الألباني (انظر: تخريج فقه السيرة للغزالي ص254)
[4]- ابو فارس: السيرة النبوية ص293.
[5]- انظر ما قاله مونتبجمري في كتابه محمد في المدينة ص17، حيث قال: "ويبدو أن محمداً قد علم في الوقت المناسب أن قافلة كبيره تستعد للرحيل من غزة إلى مكة ، فقد رأى أنها تستحق الاستيلاء عليها".
[6]- با شميل: غزوة بدر الكبرى ص120، 121، ط6، 1394هـ- 1974م، دار الفكر- بيروت.
[7]- سورة الأنفال آية 36.
[8]- ابن القيم : زاد المعاد 3/ 184.
[9]- سورة الأنفال: آية 19.
[10]- انظر ابن كثير : التفسير 2/ 328.
[12]- حديث صحيح صحَّحَّه الألباني (انظر تخريجه لكتاب فقه السيرة للغزالي، ص 260)
[13]-رواه مسلم : كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1383 برقم 1763.
[14]- ابن القيم : زاد المعاد 3/ 175.
[15]- ابن حجر: فتح الباري 8/ 619 برقم 4875.
[16]- انظر : صحيح مسلم 3/ 1383 برقم 1763.
[17]- سورة الأنعام آية 12,
[18]-أبو فارس : السيرة النبوية ص 318.
[19]- انظر : ابن سيد الناس 1/ 342 / ابن القيم : زاد المعاد 3/ 188. وانظر تفصيل قضية الأسارى في بدر ، الطبري: التاريخ 1/ 533-556.
[20] - الشجاع : دراسات في عهد النبوة ص132.
[21] - عرموش: قيادة الرسول السياسية والعسكرية ص52.
[22] - المرجع نفسه: والصفحة نفسها.