تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 54

الموضوع: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( الوَدُودُ )) منْ أسماءِ الربِّ تَعَالَى، وفيهِ قَوْلانِ:
    - أحدُهُمَا: أنَّهُ المَوْدُودُ.
    قالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في صحيحِهِ: (( الودودُ: الحبيبُ )) (([فـ]هوَ المَحْبُوبُ الذي يَسْتَحِقُّ أنْ يُحَبَّ الحبَّ كلَّهُ، وأنْ يكونَ أَحَبَّ إلى العبدِ منْ سمعِهِ وبصرِهِ ونَفْسِهِ وجميعِ مَحْبُوبَاتِهِ))
    - والثاني: أنَّهُ الوادُّ لعبادِهِ؛ أي: المُحِبُّ لَهُم)، (الذي يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وأولياءَهُ وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ)
    وهوَ الودودُ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّهُ = أحبابُهُ والفضلُ لِلْمَنَّانِ
    وهوَ الذي جَعَلَ المَحَبَّةَ في قُلُو = بِهِمُ وَجَازَاهُم بِحُبٍّ ثَانِ
    هذا هوَ الإحسانُ حَقًّا لا مُعَا = وَضَةً ولا لِتَوَقُّعِ الشُّكْرَانِ
    لكنْ يُحِبُّ شُكُورَهُم وَشَكُورَهُم = لا لاحْتِيَاجٍ منهُ للشُّكْرَانِ)
    (ولوْ لمْ يَكُنْ مِنْ تَحَبُّبِهِ إلى عبادِهِ وإحسانِهِ إليهم وَبِرِّهِ بهم إلاَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لهم ما في السَّمَاواتِ والأرضِ وما في الدنيا والآخرةِ، ثُمَّ أَهَّلَهُم وَكَرَّمَهم، وَأَرْسَلَ إليهمْ رُسُلَهُ وأَنْزَلَ عليهمْ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ لهم شَرَائِعَهُ، وَأَذِنَ لهم في مُنَاجَاتِهِ كلَّ وقتٍ أَرَادُوا، وَكَتَبَ لهم بكُلِّ حسنةٍ يَعْمَلُونَهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وكَتَبَ لهم بالسيِّئَةِ واحدةً، فإنْ تَابُوا منها مَحَاهَا وأَثْبَتَ مكانَهَا حسنةً، وإذا بَلَغَتْ ذُنُوبُ أحدِهِم عَنانَ السماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لهُ، ولوْ لَقِيَهُ بِقِرَابِ الأرضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيَهُ بالتوحيدِ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً لأَتَاهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، وَشَرَعَ لهم التوبةَ الهادمةَ للذنوبِ؛ فَوَفَّقَهُم لِفِعْلِهَا ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْهُم، وَشَرَعَ لهم الحجَّ الذي يَهْدِمُ ما قَبْلَهُ؛ فَوَفَّقَهُم لِفِعْلِهِ، وَكَفَّرَ عنهم سَيِّئَاتِهِم بهِ، وكذلكَ ما شَرَعَهُ لهمْ من الطاعاتِ والقُرُباتِ، هوَ الذي أَمَرَهُم بها، وَخَلَقَهَا لهم، وَأَعْطَاهُم إيَّاها، وَرَتَّبَ عليها جَزَاءَهَا.

    فمنهُ السببُ، ومنهُ الجزاءُ، ومنهُ التوفيقُ، ومنهُ العطاءُ أَوَّلاً وآخِراً، وهمْ مَحَلُّ إِحْسَانِهِ فقطْ، ليسَ منهم شيءٌ، إنَّما الفضلُ كُلُّهُ والنعمةُ كُلُّهَا والإحسانُ كلُّهُ منهُ أَوَّلاً وآخِراً، أَعْطَى عَبْدَهُ مالَهُ، وقالَ: تَقَرَّبْ بهذا إِلَيَّ أَقْبَلْهُ منكَ، فالعبدُ لهُ، والمالُ لهُ، والثوابُ منهُ.

    فهوَ المُعْطِي أوَّلاً وآخِراً، فكيفَ لا يُحَبُّ مَنْ هذا شأنُهُ؟!! وكيفَ لا يَسْتَحِي العبدُ أنْ يَصْرِفَ شَيْئاً منْ مَحَبَّتِهِ إلى غَيْرِهِ؟!! ومَنْ أَوْلَى بالحمدِ والثناءِ والمَحَبَّةِ منهُ سبحانَهُ؟!! ومَنْ أَوْلَى بالكَرَمِ والجُودِ والإحسانِ منهُ؟!!

    فسبحانَهُ وبحمدِهِ لا إلهَ إلاَّ هوَ العزيزُ الحكيمُ، وَيَفْرَحُ سبحانَهُ وتَعَالَى بتوبةِ أحدِهِم إذا تَابَ إليهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ وأكملَهُ، ويُكَفِّرُ عنهُ ذنوبَهُ، ويُوجِبُ لهُ محبَّتَهُ بالتوبةِ، وهوَ الذي أَلْهَمَهُ إيَّاها، وَوَفَّقَهُ لها، وَأَعَانَهُ عليها، وَمَلأَ سبحانَهُ وتَعَالَى سماواتِهِ منْ ملائكتِهِ، واسْتَعْمَلَهُم في الاستغفارِ لأهلِ الأرضِ، وَاسْتَعْمَلَ حَمَلَةَ العرشِ منهم في الدعاءِ لعبادِهِ المؤمنينَ والاستغفارِ لذنوبِهِم وَوِقَايَتِهِم عذابَ الجحيمِ، والشفاعةِ إليهِ بإذنِهِ أنْ يُدْخِلَهُم جنَّاتِهِ.

    فَانْظُرْ إلى هذهِ العنايَةِ وهذا الإحسانِ وهذا التَّحَنُّنِ والعَطْفِ والتَّحَبُّبِ إلى العبادِ واللُّطْفِ التامِّ بهم، ومعَ هذا كُلِّهِ بعدَ أنْ أَرْسَلَ إليهم رُسُلَهُ وأَنْزَلَ عليهم كُتُبَهُ، وَتَعَرَّفَ إليهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ وآلائِهِ، يَنْـزِلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا يَسْأَلُ عنهم، وَيَسْتَعْرِضُ حَوَائِجَهُم بنفسِهِ، وَيَدْعُوهُم إلى سؤالِهِ، فَيَدْعُو مُسِيئَهُم إلى التوبةِ، وَمَرِيضَهُم إلى أنْ يَسْأَلَهُ أنْ يَشْفِيَهُ، وفقيرَهُم إلى أنْ يَسْأَلَهُ غِنَاهُ، وذا حَاجَتِهِم يَسْأَلُهُ قَضَاءَهَا كلَّ ليلةٍ، وَيَدْعُوهُم سبحانَهُ إلى التوبةِ وقدْ حَارَبُوهُ وَعَذَّبُوا أولياءَهُ وأَحْرَقُوهُم بالنارِ، قالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10]. وقالَ بعضُ السلفِ: انْظُرُوا إلى كَرَمِهِ كيفَ عَذَّبُوا أولياءَهُ وَحَرَّقُوهُم بالنارِ، ثُمَّ هوَ يَدْعُوهُم إلى التوبةِ.

    فهذا البابُ يَدْخُلُ منهُ كلُّ أحدٍ إلى مَحَبَّتِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى؛ فإنَّ نِعْمَتَهُ على عبادِهِ مَشْهُودَةٌ لهم، يَتَقَلَّبُونَ فيها على عددِ الأنفاسِ واللحظاتِ.

    وقدْ رُوِيَ في بعضِ الأحاديثِ مَرْفُوعاً: ((أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ)). فهذهِ مَحَبَّةٌ تَنْشَأُ منْ مُطَالَعَةِ المِنَنِ والإحسانِ، ورُؤْيَةِ النِّعَمِ والآلاءِ، وَكُلَّمَا سَافَرَ القلبُ بِفِكْرِهِ فيها ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ وَتَأَكَّدَتْ، ولا نهايَةَ لها فَيَقِفَ سَفَرُ القلبِ عِنْدَهَا، بلْ كُلَّمَا ازْدَادَ فيها نَظَراً ازْدَادَ فيها اعْتِبَاراً وَعَجْزاً عنْ ضبطِ القليلِ منها، فَيَسْتَدِلُّ بِمَا عَرَفَهُ على ما لمْ يَعْرِفْهُ، واللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى دَعَا عبادَهُ إليهِ منْ هذا البابِ، حتَّى إذا دَخَلُوا منهُ دُعُوا من البابِ الآخرِ، وهوَ بابُ الأسماءِ والصِّفَاتِ الذي إِنَّمَا يَدْخُلُ منهُ إليهِ خَواصُّ عِبَادِهِ وأوليائِهِ، وهوَ بابُ المُحِبِّينَ حَقًّا الذي لا يَدْخُلُ منهُ غيرُهُم، ولا يَشْبَعُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أحدٌ منهمْ، كُلَّمَا بَدَا لهُ منهُ عِلْمٌ ازْدَادَ شَوْقاً وَمَحَبَّةً وَظَمَأً.
    فإذا انْضَمَّ دَاعِي الإحسانِ والإنعامِ إلى داعِي الكمالِ والجمالِ لمْ يَتَخَلَّفْ عنْ مَحَبَّةِ مَنْ هذا شأنُهُ إلاَّ أَرْدَأُ القلوبِ وَأَخْبَثُها، وَأَشَدُّها نَقْصاً، وَأَبْعَدُهَا منْ كلِّ خيرٍ؛ فإنَّ اللهَ فَطَرَ القلوبَ على مَحَبَّةِ المُحْسِنِ الكاملِ في أوصافِهِ وأخلاقِهِ، وإذا كانتْ هذهِ فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ عليها قلوبَ عبادِهِ، فمِن المعلومِ أنَّهُ لا أَحَدَ أَعْظَمُ إحساناً منهُ سبحانَهُ وتَعَالَى، ولا شيءَ أكملُ منهُ ولا أَجْمَلُ، فكلُّ كمالٍ وجمالٍ في المخلوقِ منْ آثارِ صُنْعِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وهوَ الذي لا يُحَدُّ كَمَالُهُ، ولا يُوصَفُ جلالُهُ وَجَمَالُهُ، ولا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ بِجَمِيلِ صفاتِهِ وعظيمِ إحسانِهِ وبديعِ أفعالِهِ، بلْ هوَ كما أَثْنَى على نفسِهِ.

    وإذا كانَ الكمالُ مَحْبُوباً لذاتِهِ ونفسِهِ وَجَبَ أنْ يَكُونَ اللهُ سُبْحَانَهُ هوَ المحبوبَ لذاتِهِ وصفاتِهِ؛ إذْ لا شيءَ أكملُ منهُ؛ وكلُّ اسمٍ منْ أسمائِهِ وصِفَةٍ منْ صفاتِهِ تَسْتَدْعِي محبَّةً خاصَّةً، فإنَّ أسماءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وهيَ مُشْتَقَّةٌ منْ صفاتِهِ، وأفعالُهُ دالَّةٌ عليها.

    فهوَ المحبوبُ المحمودُ لذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ؛ فهوَ المحبوبُ المحمودُ على كلِّ ما فَعَلَ وعلى كلِّ ما أَمَرَ؛ إذْ ليسَ في أفعالِهِ عَبَثٌ، ولا في أوامرِهِ سَفَهٌ، بلْ أفعالُهُ كُلُّهَا لا تَخْرُجُ عن الحكمةِ والمصلحةِ والعدلِ والفضلِ والرحمةِ، وكلُّ واحدٍ منْ ذلكَ يَسْتَوْجِبُ الحمدَ والثناءَ والمَحَبَّةَ عليهِ. وكلامُهُ كلُّهُ صدقٌ وعدلٌ، وجزاؤُهُ كلُّهُ فضلٌ وعدلٌ؛ فإنَّهُ إنْ أَعْطَى فَبِفَضْلِهِ ورحمتِهِ ونعمتِهِ، وإنْ مَنَعَ أوْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ وحكمتِهِ:
    مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ واجِبٌ = كَلاَّ ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
    إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا = فبفضلِهِ وهوَ الكريمُ الواسِعُ
    ولا يُتَصَوَّرُ نَشْرُ هذا المقامِ حقَّ تَصَوُّرِهِ فَضْلاً عنْ أنْ يُوَفَّاهُ حَقَّهُ، فَأَعْرَفُ خَلْقِهِ بهِ وأحبُّهُم لهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).

    ولوْ شَهِدَ بِقَلْبِهِ صِفَةً وَاحِدَةً منْ أوصافِ كمالِهِ لاسْتَدْعَتْ منهُ المحبَّةَ التامَّةَ عليها، وهلْ معَ المُحِبِّينَ مَحَبَّةٌ إلاَّ منْ آثارِ صفاتِ كمالِهِ؟!! فإنَّهُم لمْ يَرَوْهُ في هذهِ الدارِ، وإنَّمَا وَصَلَ إليهم العلمُ بآثارِ صفاتِهِ وآثارِ صُنْعِهِ، فَاسْتَدَلُّوا بما عَلِمُوهُ على ما غَابَ عنهم، وإلاَّ فَلَوْ شَاهَدُوهُ وَرَأَوْا جلالَهُ وكمالَهُ وجمالَهُ سبحانَهُ وتَعَالَى لكانَ لهم في حُبِّهِ شأنٌ آخرُ، وإنَّمَا تَفَاوَتَتْ مَنَازِلُهُم ومراتِبُهُم في مَحَبَّتِهِ على حَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِم في معرفتِهِ والعلمِ بهِ، فَأَعْرَفُهُم لهُ أَشَدُّهُم حُبًّا لهُ، ولهذا كانتْ رُسُلُهُ أَعْظَمَ الناسِ حُبًّا لهُ، والخَلِيلانِ مِنْ بَيْنِهِم أَعْظَمُهُم حُبًّا، وَأَعْرَفُ الأمَّةِ بهِ أَشَدُّهُم لهُ حُبًّا مِنْ غَيْرِهِ، ولهذا كانَ المُنْكِرُونَ لِحُبِّهِ مِنْ أجهلِ الخلقِ بهِ، فإنَّهُم مُنْكِرُونَ لحقيقةِ إِلَهِيَّتِهِ وَلخُلَّةِ الخليلَيْنِ صلَّى اللهُ عليهِمَا وَسَلَّمَ وَلِفِطْرَةِ اللهِ التي فَطَرَ اللهُ عبادَهُ عليها، ولوْ رَجَعُوا إلى قلوبِهِم لَوَجَدُوا حُبَّهُ فيها، وَوَجَدُوا مُعْتَقَدَهُم وَبَحْثَهُم يُكَذِّبُ فِطَرَهُم، وإنَّمَا بُعِثَت الرُّسُلُ بِتَكْمِيلِ هذهِ الفِطَرِ وإعادةِ ما فَسَدَ منها إلى الحالةِ الأولى التي فُطِرَتْ عليها، وإنَّمَا دَعَوْا إلى القيامِ بحقوقِهَا ومُرَاعَاتِهَا؛ لِئَلاَّ تَفْسُدَ وَتَنْتَقِلَ عمَّا خُلِقَتْ لهُ، وهل الأوامرُ والنواهِي إلاَّ خَدَمٌ وتوابعُ ومُكَمِّلاتٌ وَمُصْلِحَاتٌ لهذهِ الفطرةِ؟!!
    وهلْ خَلَقَ اللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى خَلْقَهُ إلاَّ لعبادتِهِ التي هيَ غايَةُ مَحَبَّتِهِ والذُّلِّ لَهُ؟!!
    وهلْ هُيِّئَ الإنسانُ إلاَّ لها؟!! كَمَا قِيلَ:

    قَدْ هَيَّأُوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ = فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الْهَمَلِ

    وهلْ في الوجودِ مَحَبَّةٌ حقٌّ غيرُ باطلةٍ إلاَّ محبَّتُهُ سبحانَهُ؟!! فإنَّ كلَّ محبَّةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بغيرِهِ فباطلةٌ زائلةٌ ببُطْلانِ مُتَعَلَّقِهَا، وأمَّا مَحَبَّتُهُ سبحانَهُ فهوَ الحقُّ الذي لا يَزُولُ ولا يَبْطُلُ، كما لا يَزُولُ مُتَعَلَّقُهَا ولا يَفْنَى، وكلُّ ما سِوَى اللهِ باطلٌ، ومَحَبَّةُ الباطلِ باطلٌ.

    فَسُبْحَانَ اللهِ كَيْفَ يُنْكِرُ المَحَبَّةَ الحقَّ التي لا مَحَبَّةَ أَحَقُّ منها، وَيَعْتَرِفُ بِوُجُودِ المَحَبَّةِ الباطلةِ المُتَلاشِيَةِ؟ !!

    وهلْ تَعَلَّقَت المَحَبَّةُ بوجودٍ مُحْدَثٍ إلاَّ لكمالٍ في وجودِهِ بالنسبةِ إلى غيرِهِ؟!! وهلْ ذلكَ الكمالُ إلاَّ منْ آثارِ صُنْعِ اللهِ الذي أَتْقَنَ كلَّ شيْءٍ؟!! وهل الكمالُ كُلُّهُ إلاَّ لَهُ؟!!

    فكلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئاً لكمالِ ما يَدْعُوهُ إلى مَحَبَّتِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ وَعِبْرَةٌ على مَحَبَّةِ اللهِ، وأنَّهُ أَوْلَى بكمالِ الحبِّ منْ كلِّ شيءٍ، ولكنْ إذا كانت النفوسُ صِغَاراً كانتْ مَحْبُوبَاتُهَا على قَدْرِهَا، وأمَّا النفوسُ الكِبَارُ الشريفةُ فإنَّهَا تَبْذُلُ حُبَّهَا لأَجَلِّ الأشياءِ وَأَشْرَفِهَا.

    والمقصودُ أنَّ العبدَ إذا اعْتَبَرَ كُلَّ كَمَالٍ في الوجودِ وَجَدَهُ منْ آثارِ كمالِهِ سبحانَهُ، فهوَ دالٌّ على كمالِ مُبْدِعِهِ، كما أنَّ كلَّ عِلْمٍ في الوجودِ فمِنْ آثارِ عِلْمِهِ، وكلَّ قُدْرَةٍ فَمِنْ آثارِ قُدْرَتِهِ.

    ونسبةُ الكمالاتِ الموجودةِ في العالمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ إلى كمالِهِ كَنِسْبَةِ علومِ الخلقِ وقُدْرَتِهِم وَقُوَاهُم وحياتِهِم إلى عِلْمِهِ سبحانَهُ وقُدْرتِهِ وقوَّتِهِ وحياتِهِ. فَإِذَنْ لا نسبةَ أصلاً بينَ كمالاتِ العالمِ وكمالِ اللهِ جلَّ جلالُهُ؛ فَيَجِبُ أنْ لا يَكُونَ بينَ مَحَبَّتِهِ ومَحَبَّةِ غيرِهِ من الموجوداتِ نسبةٌ، بلْ يكونُ حبُّ العبدِ لهُ أَعْظَمَ منْ حُبِّهِ لكلِّ شيءٍ بِمَا لا نسبةَ بينَهُما.
    ولهذا قالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]؛ فالمؤمنونَ أَشَدُّ حُبًّا لِرَبِّهِم وَمَعْبُودِهِم تَعَالَى منْ كلِّ مُحِبٍّ لكلِّ محبوبٍ، هذا مُقْتَضَى عقدِ الإيمانِ الذي لا يَتِمُّ إلاَّ بهِ.

    وَلَيْسَتْ هذهِ المسألةُ من المسائلِ التي للعبدِ عنها غِنًى أوْ منها بُدٌّ، كدقائقِ العلمِ والمسائلِ التي يَخْتَصُّ بها بعضُ الناسِ دونَ بعضٍ، بلْ هذهِ مسألةٌ تُفْرَضُ على العبدِ، وهيَ أَصْلُ عقدِ الإيمانِ الذي لا يَدْخُلُ فيهِ الداخلُ إلاَّ بها، ولا فلاحَ للعبدِ ولا نجاةَ لهُ منْ عذابِ اللهِ إلاَّ بها، فَلْيَشْتَغِلْ بها العبدُ أوْ لِيُعْرِضْ عَنْهَا.

    ومَنْ لمْ يَتَحَقَّقْ بها علماً وحالاً وعملاً لم يَتَحَقَّقْ بشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فإنَّهَا سِرُّهَا وَحَقِيقَتُهَا وَمَعْنَاهَا، وإنْ أَبَى ذلكَ الجاحدونُ، وقَصُرَ عنْ علمِهِ الجاهلونَ؛ فإنَّ الإلهَ هوَ المحبوبُ المعبودُ الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بِحُبِّهَا، وَتَخْضَعُ لهُ وَتَذِلُّ لهُ وَتَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ وَتُنِيبُ إليهِ في شَدَائِدِهَا وَتَدْعُوهُ في مَهَمَّاتِهَا، وَتَتَوَكَّلُ عليهِ في مَصَالِحِهَا، وَتَلْجَأُ إليهِ، وَتَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، وَتَسْكُنُ إلى حُبِّهِ، وليسَ ذلكَ إلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، ولهذا كانتْ (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) أصدقَ الكلامِ، وكانَ أَهْلُهَا أهلَ اللهِ وَحِزْبَهُ، والمنكرونَ لها أَعْدَاءَهُ وأهلَ غَضَبِهِ ونقمتِهِ.

    فهذهِ المسألةُ قطبُ رَحَى الدينِ الذي عليهِ مَدَارُهُ، وإذا صَحَّتْ صَحَّ بها كلُّ مسألةٍ وحالٍ وذوقٍ، وإذا لمْ يُصَحِّحْهَا العبدُ فالفسادُ لازمٌ لهُ في علومِهِ وأعمالِهِ وأحوالِهِ وأقوالِهِ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ).

    ( ولوْ لمْ يَكُنْ في مَحَبَّةِ اللهِ إلاَّ أنَّهَا تُنْجِي مُحِبَّهُ منْ عذابِهِ لكانَ يَنْبَغِي للعبدِ أنْ لا يَتَعَوَّضَ عنها بشيءٍ أبداً. وَسُئِلَ بعضُ العلماءِ: أينَ تَجِدُ في القرآنِ أنَّ الحبيبَ لا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ؟ فقالَ: في قولِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18].

    وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَن الحسنِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((وَاللهِ، لا يُعَذِّبُ اللهُ حَبِيبَهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَبْتَلِيهِ فِي الدُّنْيَا))

    وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، حَدَّثَنَا أبو غالبٍ, قالَ: بَلَغَنَا أنَّ هذا الكلامَ في وَصِيَّةِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّين َ، تَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْمَقْتِ لَهُمْ، وَالْتَمِسُوا رِضَاهُ بِسَخَطِهِمْ))، قالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَمَنْ نُجَالِسُ؟ قالَ: ((جَالِسُوا مَنْ يَزِيدُ فِي أَعْمَالِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَمَنْ تُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ، وَيُزَهِّدُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ عِلْمُهُ))

    وَيَكْفِي في الإقبالِ على اللهِ تَعَالَى ثَوَاباً عَاجِلاً أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى يُقْبِلُ بقلوبِ عبادِهِ إلى مَنْ أَقْبَلَ عليهِ، كما أَنَّهُ يُعْرِضُ بِقُلُوبِهِم عَمَّنْ أَعْرَضَ عنهُ، فقلوبُ العبادِ بِيَدِ اللهِ لا بِأَيْدِيهِم.

    وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ في تَفْسِيرِ شَيْبَانَ عنْ قتادةَ قالَ: ذُكِرَ لَنَا أنَّ هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ كَانَ يقولُ: ما أَقْبَلَ عَبْدٌ عَلَى اللهِ بِقَلْبِهِ إلاَّ أَقْبَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بقلوبِ المؤمنينَ إليهِ حتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُم وَرَحْمَتَهُم

    وقدْ رُوِيَ هذا مَرْفُوعاً، وَلَفْظُهُ: ((وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ عَلَى اللهِ بِقَلْبِهِ إِلاَّ أَقْبَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِقُلُوبِ عِبَادِهِ، وَجَعَلَ قُلُوبَهُمْ تَفِدُ إِلَيْهِ بِالْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إِلَيْهِ أَسْرَعَ))

    وإذا كانت القلوبُ مَجْبُولَةً على حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، وكلُّ إحسانٍ وَصَلَ إلى العبدِ فَمِن اللهِ عَزَّ وجلَّ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، فلا أَلأَمَ مِمَّنْ شَغَلَ قلبَهُ بحبِّ غيرِهِ دونَهُ.

    قالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ قالَ: حَدَّثَنِي الأعمشُ، عن المِنْهَالِ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ قالَ: أَوْحَى اللهُ إلى دَاوُدَ عليهِ السلامُ: (( يا دَاوُدُ، أَحْبِبْنِي وَحَبِّبْ عِبَادِي إِلَيَّ، وَحَبِّبْنِي إلى عِبَادِي ))، قالَ: (( يا ربِّ، هذا أنا أُحِبُّكَ وَأُحَبِّبُ عِبَادَكَ إليكَ، فَكَيْفَ أُحَبِّبُكَ إلى عِبَادِكَ؟!! )) قالَ: (( تَذْكُرُنِي عِنْدَهُم؛ فَإِنَّهُم لا يَذْكُرُونَ منِّي إلاَّ الحَسَنَ ))

    ومنْ أفضلِ ما سُئِلَ اللهُ عزَّ وجلَّ حُبُّهُ، وَحُبُّ مَنْ يُحِبُّهُ، وَحُبُّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلى حُبـِّهِ. ومِنْ أَجْمَعِ ذلكَ أنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فرَاغاً لي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ وَيُحِبُّ مَلائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالحِينَ، اللَّهُمَّ أَحْيِ قَلْبِي بِحُبِّكَ وَاجْعَلْنِي لَكَ كَمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُحِبُّكَ بِقَلْبِي كُلِّهِ، وَأُرْضِيكَ بِجُهْدِي كُلِّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبِّي كُلَّهُ لَكَ، وَسَعْيِي كُلَّهُ في مَرْضَاتِكَ)).

    وهذا الدعاءُ هوَ فُسْطَاطُ خَيْمَةِ الإسلامِ الذي قِيَامُهَا بهِ، وهوَ حقيقةُ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رسـولُ اللهِ، والقائمونَ بحقيقةِ ذلكَ هم الذينَ همْ بِشَهَادَتِهِم قائمونَ.
    واللهُ سبحانَهُ تَعَرَّفَ إلى عبادِهِ منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ بما يُوجِبُ مَحَبَّتَهُم لهُ؛ فإنَّ القلوبَ مَفْطُورَةٌ على مَحَبَّةِ الكمالِ وَمَنْ قامَ بهِ، واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى لهُ الكمالُ المُطْلَقُ منْ كلِّ وَجْهٍ، الذي لا نَقْصَ فيهِ بِوَجْهٍ ما، وهوَ سبحانَهُ (( الجَمِيلُ )) الذي لا أَجْمَلَ منهُ، بلْ لَوْ كانَ جَمَالُ الخلقِ كُلِّهِم على رجلٍ واحدٍ منهم، وكانُوا جَمِيعُهُم بذلكَ الجمالِ لَمَا كانَ لِجَمَالِهِم قَطُّ نِسْبَةٌ إلى جمالِ اللهِ، بلْ كَانَت النسبةُ أَقَلَّ منْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضعيفٍ إلى حِذاءِ جِرْمِ الشَّمْسِ؛ وللهِ المَثَلُ الأَعْلَى)
    [المرتبع الأسنى]

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    (( المنَّانُ )): ذُو المَنِّ - الذي إنَّمَا يَتَقَلَّبُ الخلائقُ في بَحْرِ منَّتِهِ عليهم، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عليهم، بلا عِوَضٍ منهم الْبَتَّةَ، وإنْ كانتْ أَعْمَالُهُم أَسْبَاباً لِمَا يَنَالُونَهُ منْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فهوَ المنَّانُ عليهم بأنْ وَفَّقَهُم لتلكَ الأسبابِ وَهَدَاهُم لها، وَأَعَانَهُم عليها، وَكَمَّلَهَا لهم، وَقَبِلَهَا منهم على ما فيها)

    (و [أمَّا] قولـُهُ [تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6]؛ أيْ: غيرُ مقطوعٍ ولا منقوصٍ، ولا مُكَدَّرٍ عليهم، وهذا هوَ الصوابُ.
    وقالتْ طائفةٌ: غيرُ مَمْنُونٍ بهِ عليهم، بلْ هوَ جزاءُ أَعْمَالِهِم، وَيُذْكَرُ هذا عنْ عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ، وهوَ قولُ كثيرٍ من القَدَرِيَّةِ، قالَ هؤلاءِ: إنَّ المنَّةَ تُكَدِّرُ النعمةَ.

    فَتَمَامُ النعمةِ أنْ يكونَ غَيْرَ مَمْنُونٍ بها على المُنْعَمِ عليهِ، وهذا القولُ خطأٌ قَطْعاً، أُتِيَ أَرْبَابُهُ منْ تَشْبِيهِ نعمةِ اللهِ على عبدِهِ بإنعامِ المخلوقِ على المخلوقِ.

    وهذا منْ أبْطَلِ الباطلِ؛ فإنَّ المنَّةَ التي تُكَدِّرُ النِّعمةَ هيَ مِنَّةُ المخلوقِ على المخلوقِ، وأمَّا مِنَّةُ الخالقِ على المخلوقِ ففيها تَمَامُ النعمةِ وَلَذَّتُها وَطِيبُهَا؛ فإنَّها مِنَّةٌ حَقِيقَةً، قالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]، وقالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُم َا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} [الصافَّات: 114-115]، فتكونُ مِنَّةً عليهما بنعمةِ الدنيا دُونَ نعمةِ الآخرةِ، وقالَ لِمُوسَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)} [طه: 37]، وقالَ أهلُ الجنَّةِ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 27]، وقالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}الآيَةَ [آل عمرانَ: 164]، وقالَ: {نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} الآيَةَ [القصص: 5]. وفي الصحيحِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للأنصارِ: ((أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ أَجِدْكُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟)) فَجَعَلُوا يقولونَ لَهُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ

    فهذا جوابُ العَارِفِينَ باللهِ ورسولِهِ، وهل المنَّةُ إلاَّ للهِ المانِّ بِفَضْلِهِ الذي جَمِيعُ الخلقِ في مِنَنِهِ؟!!

    وإنَّمَا قَبُحَتْ مِنَّةُ المخلوقِ؛ لأنَّها منَّةٌ بما ليسَ مِنْهُ، وهيَ مِنَّةٌ يَتَأَذَّى بها المَمْنُونُ عليهِ، وأمَّا مِنَّةُ (( المنَّانِ )) بِفَضْلِهِ التي ما طَابَ العيشُ إلاَّ بمنَّتِهِ، وكلُّ نعمةٍ منهُ في الدنيا والآخرةِ فهيَ مِنَّةٌ يَمُنُّ بها على مَنْ أَنْعَمَ عليهِ، فَتِلْكَ لا يَجُوزُ نَفْيُهَا.

    وكيفَ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: إنَّهُ لا منَّةَ للهِ على الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ في دخولِ الجنَّةِ؟! وهلْ هذا إلاَّ منْ أبطلِ الباطلِ؟!!

    فإنْ قِيلَ: هذا القدرُ لا يَخْفَى على مَنْ قالَ هذا القولَ من العلماءِ، وليسَ مُرَادُهُم ما ذُكِرَ، وإنَّمَا مُرَادُهُم أنَّهُ لا يَمُنُّ عليهم بهِ، وإنْ كانتْ للهِ فيهِ المنَّةُ عليهم، فإنَّهُ لا يَمُنُّ عليهم بهِ، بلْ يُقَالُ: هذا جَزَاءُ أعمالِكُم التي عَمِلْتُمُوهَا في الدُّنيا، وهذا أَجْرُكُم، فَأَنْتُم تَسْتَوْفُونَ أُجُورَ أَعْمَالِكُم، لا نَمُنُّ عَلَيْكُم بما أَعْطَيْنَاكُم.

    قيلَ: وهذا أيضاً هوَ الباطلُ بِعَيْنِهِ؛ فإنَّ ذلكَ الأجرَ لَيْسَت الأعمالُ ثَمَناً لهُ ولا مُعَاوَضَةً عنهُ، وقدْ قالَ أعلمُ الخلقِ باللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ))، قالُوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ((وَلا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)). فَأَخْبَرَ أنَّ دخولَ الجنَّةِ برحمةِ اللهِ وفضلِهِ، وذلكَ مَحْضُ مِنَّتِهِ عليهِ وعلى سائرِ عبادِهِ، وكما أنَّهُ سبحانَهُ المَانُّ بإرسالِ رُسُلِهِ، وبالتوفيقِ لطاعتِهِ وبالإعانةِ عليها، فهوَ المانُّ بِإِعْطَاءِ الجزاءِ، وذلكَ كُلُّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ وفضلِهِ وَجُودِهِ، لا حقَّ لأحدٍ عليهِ بحيثُ إذا وَفَّاهُ إيَّاهُ لمْ يَكُنْ لهُ عليهِ منَّةٌ، فإنْ كانَ في الدنيا باطلٌ، فهذا ليسَ منهُ في شيءٍ

    فإنْ قِيلَ: كيفَ تَقُولونَ هذا وقدْ أَخْبَرَ رسولُهُ عنهُ بأنَّ حقَّ العبادِ عليهِ إذا وَحَّدُوهُ أنْ لا يُعَذِّبَهُم وقدْ أَخْبَرَ عنْ نفسِهِ أنَّ حَقًّا عليهِ نَصْرَ المؤمنينَ؟!

    قِيلَ: لَعَمْرُ اللهِ هذا منْ أَعْظَمِ منَّتِهِ على عبادِهِ؛ أنْ جَعَلَ على نفسِهِ حَقًّا بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصادقِ: أنْ يُثِيبَهُم ولا يُعَذِّبَهُم إذا عَبَدُوهُ وَوَحَّدُوهُ، فهذا مِنْ تَمَامِ مِنَّتِهِ، فإنَّهُ لوْ عَذَّبَ أهلَ سَمَاواتِهِ وأرضِهِ لَعَذَّبَهُم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهم، ولكنَّ مِنَّتَهُ اقْتَضَتْ أنْ أَحَقَّ على نفسِهِ ثوابَ عَابِدِيهِ وإجابةَ سَائِلِيهِ.

    مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ واجِبُ = إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا
    كَلاَّ ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ = فَبِفَضْلِهِ فهوَ الكريمُ الوَاسِعُ)

    (وحَظَرَ اللهُ سبحانَهُ على عبادِهِ المنَّ بالصنيعةِ، واخْتَصَّ بهِ صفةً لنفسِهِ؛ لأنَّ مَنَّ العبادِ تَكْدِيرٌ وتَعْيِيرٌ وَمَنُّ اللهِ سبحانَهُ إفضالٌ وتذكيرٌ.
    - وأيضاً: فإنَّهُ هوَ المُنْعِمُ في نفسِ الأمرِ، والعبادُ وَسَائِطُ، فهوَ المُنْعِمُ على عبدِهِ في الحقيقةِ.
    - وأيضاً: فالامْتِنَانُ اسْتِعْبَادٌ وكَسْرٌ وإِذْلالٌ لِمَنْ يُمَنُّ عليهِ، ولا تَصْلُحُ العبوديَّةُ والذلُّ إلاَّ للهِ.
    - وأيضاً: فَالمنَّةُ أنْ يَشْهَدَ المُعْطِي أنَّهُ هوَ ربُّ الفضلِ والإنعامِ وأنَّهُ وَلِيُّ النعمةِ وَمُسْدِيهَا، وليسَ ذلكَ في الحقيقةِ إلاَّ اللهَ.
    - وأيضاً: فالمَانُّ بِعَطَائِهِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ مُتَرَفِّعاً على الآخِذِ مُسْتَعْلِياً عليهِ غَنِيًّا عنهُ عَزِيزاً، وَيَشْهَدُ ذُلَّ الآخذِ وحاجَتَهُ إليهِ وفاقَتَهُ، ولا يَنْبَغِي ذلكَ للعبدِ.
    - وأيضاً: فإنَّ المُعْطِيَ قدْ تَوَلَّى اللهُ ثَوَابَهُ وَرَدَّ عليهِ أضعافَ ما أَعْطَى، فَبَقِيَ عِوَضُ ما أَعْطَى عندَ اللهِ، فَأَيُّ حَقٍّ بَقِيَ لهُ قِبَلَ الآخِذِ؟!! فإذا امْتَنَّ عليهِ فقدْ ظَلَمَهُ ظُلْماً بَيِّناً، وادَّعَى أنَّ حَقَّهُ في قَلْبِهِ.
    ومِنْ هنا- واللهُ أَعْلَمُ- بَطَلَتْ صَدَقَتُهُ بالمنِّ، فإنَّهُ لَمَّا كَانتْ مُعَاوَضَتُهُ ومعامَلَتُهُ معَ اللهِ، وعِوَضُ الصدقةِ عندَهُ، فلمْ يَرْضَ بهِ ولاحَظَ العِوَضَ مِن الآخِذِ والمعاملةَ عندَهُ، فمَنَّ عليهِ بما أَعْطَاهُ، أَبْطَلَ مُعَاوَضَتَهُ معَ اللهِ ومُعامَلَتَهُ لَهُ)
    [المرتبع الأسنى]

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( المُحْسِنُ )) الذي تَعَرَّفَ إلى عبادِهِ بأوصافِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ، وَتَحَبَّبَ إليهم بِنِعَمِهِ وآلائِهِ، وَابْتَدَأَهُم بإحسانِهِ وعطائِهِ، فهوَ المحسنُ إليهم والمجازِي على إحسانِهِ بالإحسانِ، فلهُ النعمةُ والفضلُ والثناءُ الحسنُ الجميلُ)
    (وهوَ سبحانَهُ كَتَبَ على نفسِهِ الرحمةَ والإحسانَ، فَرَحْمَتُهُ وإحسانُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ إلاَّ رَحِيماً مُحْسِناً).

    ([فـ]الإحسانُ صِفَتُهُ، وهوَ المحسنُ ويُحِبُّ المُحْسِنِينَ)؛ (فهوَ مُحْسِنٌ إلى عبدِهِ معَ غِنَاهُ عنهُ، يُرِيدُ بهِ الخيرَ، وَيَكْشِفُ عنهُ الضُرَّ، لا لِجَلْبِ منفعةٍ إليهِ من العبدِ، ولا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ بلْ رَحْمَةً منهُ وَإِحْسَاناً، فهوَ سبحانَهُ لمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لِيَتَكَثَّرَ بهم منْ قِلَّةٍ، ولا لِيَتَعَزَّزَ بهم مِنْ ذلَّةٍ، ولا لِيَرْزُقُوهُ ولا لِيَنْفَعُوهُ، ولا لِيَدْفَعُوا عنهُ، كما قالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56-58]، وقالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء: 111].

    فهوَ سبحانَهُ لا يُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ من الذلِّ، كما يُوَالِي المخلوقُ المخلوقَ، وإنَّمَا يُوَالِي أولياءَهُ إِحْسَاناً ورحمةً ومَحَبَّةً لهم، وأمَّا العِبَادُ فإنَّهُم كما قالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمَّد: 38]، فهم لِفَقْرِهِم وحاجَتِهِم إنَّمَا يُحْسِنُ بَعْضُهُم إلى بعضٍ لحاجتِهِ إلى ذلكَ وانتفاعِهِ بهِ عَاجِلاً أوْ آجِلاً. ولَوْلا تَصَوُّرُ ذلكَ النَّفْعِ لَمَا أَحْسَنَ إليهِ، فهوَ في الحقيقةِ إنَّمَا أَرَادَ الإحسانَ لنفسِهِ، وَجَعَلَ إِحْسَانَهُ إلى غيرِهِ وسيلةً وطريقاً إلى حصولِ ذلكَ الإحسانِ إليهِ؛ فإنَّهُ إمَّا أنْ يُحْسِنَ إليهِ لِتَوَقُّعِ جزائِهِ في العاجلِ، فهوَ مُحْتَاجٌ إلى ذلكَ الجزاءِ، أوْ مُعَاوَضَةً بإحسانِهِ، أوْ لِتَوَقُّعِ حمدِهِ وشكرِهِ، فهوَ أيضاً إنَّمَا يُحْسِنُ إليهِ لِيَحْصُلَ لهُ منهُ ما هوَ مُحْتَاجٌ إليهِ من الثناءِ والمدحِ، فهوَ مُحْسِنٌ إلى نفسِهِ بإحسانِهِ إلى الغيرِ، وإمَّا أنْ يُرِيدَ الجزاءَ من اللهِ في الآخرةِ، فهوَ أيضاً مُحْسِنٌ إلى نفسِهِ بذلكَ، وإنَّمَا أَخَّرَ جزاءَهُ إلى يومِ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، فهوَ غيرُ مَلُومٍ في هذا القصدِ، فإنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، وَفَقْرُهُ وحاجتُهُ أَمْرٌ لازمٌ لهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فكمالُهُ أنْ يَحْرِصَ على ما يَنْفَعُهُ، ولمْ يَعْجَزْ عنهُ، قالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقالَ تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} [البقرة: 272]، وقالَ تَعَالَى، فيما رَوَاهُ عنهُ رَسُولَهُ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي. يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))

    فالمخلوقُ لا يَقْصِدُ مَنْفَعَتَكَ بالقصدِ الأوَّلِ، بلْ إِنَّمَا يَقْصِدُ انْتِفَاعَهُ بكَ، والربُّ تَعَالَى إنَّمَا يُرِيدُ نَفْعَكَ لا انتفاعَهُ بكَ، وذلكَ منفعةٌ محضةٌ لكَ خالصةٌ من المضرَّةِ، بخلافِ إرادةِ المخلوقِ نَفْعَكَ؛ فإنَّهُ قدْ يَكُونُ فيهِ مَضَرَّةٌ عليكَ، ولوْ بِتَحَمُّلِ منَّتِهِ.

    فَتَدَبَّرْ هذا؛ فإنَّ مُلاحَظَتَهُ تَمْنَعُكَ أنْ تَرْجُوَ المخلوقَ، أوْ تُعَامِلَهُ دونَ اللهِ، أوْ تَطْلُبَ منهُ نَفْعاً أوْ دَفْعاً، أوْ تُعَلِّقَ قَلْبَكَ بهِ؛ فإنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ انْتِفَاعَهُ بكَ لا مَحْضَ نَفْعِكَ، وهذا حالُ الخلقِ كُلِّهِم بعضِهِم منْ بعضٍ، وهوَ حالُ الولدِ معَ وَالِدِهِ، والزوجِ معَ زَوْجِهِ، والمَمْلُوكِ معَ سَيِّدِهِ، والشَّرِيكِ معَ شَرِيكِهِ، فالسعيدُ مَنْ عَامَلَهُم للهِ لا لَهُم، وَأَحْسَنَ إليهم للهِ، وَخَافَ اللهَ فيهم، ولمْ يَخَفْهُم معَ اللهِ، وَرَجَا اللهَ بالإحسانِ إليهم، ولمْ يَرْجُهُم معَ اللهِ، وَأَحَبَّهُم بِحُبِّ اللهِ، ولمْ يُحِبَّهُم معَ اللهِ، كما قالَ أولياءُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9])

    (و[المقصودُ أنَّهُ] لا أَحَدَ أعظمُ إِحْسَاناً من اللهِ سبحانَهُ؛ فإنَّ إحسانَهُ على عبدِهِ في كلِّ نَفَسٍ ولحظةٍ، وهوَ يَتَقَلَّبُ في إحسانِهِ في جميعِ أحوالِهِ، ولا سبيلَ لهُ إلى ضَبْطِ أجناسِ هذا الإحسانِ فَضْلاً عنْ أنواعِهِ أوْ عنْ أفرادِهِ، وَيَكْفِي أنَّ مِنْ بَعْضِ أنواعِهِ نعمةَ النفسِ التي لا تَكَادُ تَخْطُرُ ببالِ العبدِ، ولَهُ عليهِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ فيهِ أربعةٌ وعشرونَ ألفَ نِعْمَةٍ، فإنَّهُ يَتَنَفَّسُ في اليومِ والليلةِ أربعةً وعشرينَ ألفَ نَفَسٍ، وكلُّ نَفَسٍ نعمةٌ منهُ سُبحانَهُ، فإذا كانَ أَدْنَى نعمةٍ عليهِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ أربعةً وعشرينَ ألفَ نِعْمَةٍ، فما الظَّنُّ بِمَا فَوْقَ ذلكَ وأَعْظَمُ مِنْهُ!! {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، [النحل: 18].

    هذا إلى مَا يَصْرِفُ عنهُ من المضَرَّاتِ وأنواعِ الأذَى التي تَقْصِدُهُ، وَلَعَلَّهَا تُوَازِنُ النِّعَمَ في الكثرةِ، والعَبْدُ لا شُعُورَ لهُ بأَكْثَرِهَا أَصْلاً، واللهُ سُبْحَانَهُ يَكْلَؤُهُ منها بالليلِ والنهارِ كما قالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]. وَسَوَاءٌ كانَ المعنَى: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ وَيَحْفَظُكُم منهُ إذا أَرَادَ بكمْ سُوءاً، ويكونُ " يَكْلَؤُكُمْ " مُضَمَّناً معنَى يُجِيرُكُم وَيُنْجِيكُمْ مِنْ بَأْسِهِ، أوْ كانتْ " مِن " البَدَلِيَّةَ؛ أيْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بَدَلَ الرحمنِ سُبْحَانَهُ؛ أيْ: هوَ الذي يَكْلَؤُكُمْ وَحْدَهُ لا كَالِئَ لكم غَيْرُهُ.

    وَنَظِيرُ " مِنْ " هذهِ قولُهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60] على أحدِ القَوْلَيْنِ؛ أيْ: عِوَضَكُم وَبَدَلَكُم، وَاسْتَشْهَدُوا على ذلكَ بقولِ الشاعِرِ:
    جَارِيَةٌ لَمْ تَأْكُل الْمُرَقَّقَا = وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
    أيْ: لمْ تَأْكُل الفُسْتُقَ بَدَلَ البقولِ.
    وعلى كِلا القَوْلَيْنِ: فهوَ سبحانَهُ مُنْعِمٌ عليهم بِكَلاءَتِهِم وحفظِهِم وحراستِهِم ممَّا يُؤْذِيهم بالليلِ والنهارِ وحدَهُ، لا حَافِظَ لهم غيرُهُ، هذا معَ غِنَاهُ التامِّ عَنْهُم وَفَقْرِهِم التامِّ إليهِ؛ فإنَّهُ سبحانَهُ غَنِيٌّ عنْ خَلْقِهِ منْ كلِّ وجهٍ، وَهُمْ فقراءُ مُحْتَاجُونَ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ.

    وفي بعضِ الآثارِ يقولُ تَعَالَى: ((أَنَا الجَوَادُ، ومَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُوداً وَكَرَماً؟ أَبِيتُ أَكْلأُ عِبَادِي في مضاجِعِهم وهمْ يُبَارِزُونَنِي بالعظائِمِ)). وفي " الــتِّرْمِذِيّ ِ " أنَّ النــبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الســحـــابَ قالَ: ((هَـذِهِ رَوَايَا الأَرْضِ، يَسُوقُهَا اللهُ إِلَى قَوْمٍ لا يَذْكُرُونَهُ، وَلا يَعْبُدُونَهُ)) وفي الصَّحِيحَيْنِ: عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: ((لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَجْعَلُونَ لَهُ الْوَلَدَ، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ)) وفي بعضِ الآثارِ يقولُ اللهُ: ((ابْنَ آدَمَ، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، كَمْ أَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا غَنِيٌّ عَنْكَ، وَكَمْ تَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي، وَأَنْتَ فَقِيرٌ إِلَيَّ، وَلا يَزَالُ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ))
    .[المرتبع الأسنى]

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( القُدُّوسُ )) المُنَـزَّهُ منْ كُلِّ شرٍّ ونقصٍ وعَيْبٍ *، كما قالَ أهلُ التفسيرِ: هوَ الطَّاهِرُ منْ كلِّ عيبٍ المنُـَزَّهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بهِ، وهذا قولُ أهلِ اللُّغَةِ.
    وأصلُ الكلمةِ من الطَّهارةِ والنـَّزَاهَةِ:
    - ومنهُ: " بَيْتُ المَقْدِسِ "؛ لأنَّهُ مكانٌ يُتَطَهَّرُ فيـهِ من الـذنوبِ، ومـَنْ أَمَّهُ لا يُـرِيـدُ إلاَّ الصَّـلاةَ فـيهِ رَجَعَ منْ خَطِيئَتِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
    - ومنهُ: سُمِّيَت الجنَّةُ " حَظِيرَةَ القُدْسِ "؛ لِطَهَارَتِهَا منْ آفَاتِ الدُّنْيَا.
    - ومنهُ: سُمِّيَ جِبْرِيلُ " رُوحَ القُدُسِ "؛ لأنَّهُ طَاهِرٌ منْ كلِّ عَيْبٍ.
    - ومنهُ: قولُ الملائكةِ: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. فقيلَ: المَعْنَى: وَنُقَدِّسُ أَنْفُسَنَا لكَ، فَعُدِّيَ باللامِ، وهذا ليسَ بشيءٍ، والصوابُ أنَّ المَعْنَى نُقَدِّسُكَ وَنُنَـزِّهُكَ عَمَّا لا يَلِيقُ بكَ.
    هذا قَوْلُ جُمْهُورِ أهلِ التفسيرِ.

    وقالَ ابنُ جَرِيرٍ: ونُقَدِّسُ لكَ: نَنْسُبُكَ إلى ما هوَ منْ صِفَاتِكَ من الطهارةِ من الأدْنَاسِ، ومِمَّا أضَافَ إليكَ أهلُ الكفرِ بكَ.

    قالَ: وقالَ بَعْضُهُم: نُعَظِّمُكَ وَنُمَجِّدُكَ؛ قالَهُ أبو صالحٍ، وقالَ مُجَاهِدٌ: نُعَظِّمُكَ وَنُكَبِّرُكَ.
    وقالَ بعضُهُم: نُنـَزِّهُكَ عن السوءِ فلا نَنْسِبُهُ إليكَ، واللامُ فيهِ على حَدِّهَا في قولِهِ: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]؛ لأنَّ المَعْنَى تَنـْزِيهُ اللهِ لا تَنـْزِيهُ نُفُوسِهِم لأجلِهِ.

    قُلْتُ: ولهذا قُرِنَ هذا اللفظُ بقولِهِم: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}؛ فإنَّ التسبيحَ تَنـْزِيهُ اللهِ سبحانَهُ عنْ كلِّ سوءٍ. قالَ ميمونُ بنُ مِهْرَانَ: (( سُبْحَانَ اللهِ )) كلمةٌ يُعَظَّمُ بها الربُّ، ويُحَاشَى بها من السوءِ.
    وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: هيَ تَنـْزِيهٌ للهِ منْ كلِّ سوءٍ.
    وأصلُ اللفظةِ من المُبَاعَدَةِ؛ منْ قولِهِم: سَبَحْتُ في الأرضِ، إذا تَبَاعَدْتَ فيها، ومِنْهُ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]، فَمَنْ أَثْنَى على اللهِ وَنَزَّهَهُ عن السوءِ فقدْ سَبَّحَهُ، وَيُقَالُ: سَبَّحَ اللهَ وَسَبَّحَ لهُ، وَقَدَّسَهُ وَقَدَّسَ لَهُ)

    (هَذَا ومِن أوصافِهِ القُدُّوسُ ذُو التَّـ = ـنـْزِيهِ بالتَّعْظِيمِ للرَّحْمَنِ)[المرتبع الأسنى]

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( السَّلامُ ))... منْ أسماءِ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وهوَ اسمُ مصدرٍ في الأصلِ - كالكلامِ والعطاءِ - بِمَعْنَى السلامةِ،... [و] الربُّ تَعَالَى أَحَقُّ بهِ منْ كلِّ ما سِوَاهُ؛ لأنَّهُ السالِمُ منْ كلِّ آفةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ وَذَمٍّ؛ فإنَّ لهُ الكمالَ المُطْلَقَ منْ جميعِ الوجوهِ، وكمالُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ إلاَّ كذلكَ.

    و (( السَّلامُ )) يَتَضَمَّنُ:
    - سلامةَ أفعالِهِ من العبثِ والظلمِ وخلافِ الحكمةِ.
    - وسلامةَ صفاتِهِ منْ مُشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ.
    - وسلامةَ ذاتِهِ منْ كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
    - وسلامةَ أسمائِهِ منْ كُلِّ ذَمٍّ.
    فاسْمُ (( السَّلامِ )) يَتَضَمَّنُ إثباتَ جميعِ الكمالاتِ لهُ، وَسَلْبَ جميعِ النقائصِ عنهُ، وهذا مَعْنَى: (( سُبْحَانَ اللهِ والحمدُ للهِ )). وَيَتَضَمَّنُ إفرادَهُ بالألوهيَّةِ، وإفرادَهُ بالتعظيمِ، وهذا معنَى: (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ )). فَانْتَظَمَ اسمُ (( السَّلامِ )) البَاقِيَاتِ الصالحاتِ التي يُثْنَى بها على الربِّ جلَّ جلالُهُ)

    (و... حقيقةُ هذهِ اللفظةِ... البراءةُ والخلاصُ والنجاةُ من الشرِّ والعيوبِ. وعلى هذا المعنَى تَدُورُ تَصَارِيفُهَا، فمِنْ ذلكَ قولُكَ: " سَلَّمَكَ اللهُ، وَسَلِمَ فلانٌ من الشرِّ "، ومنهُ دعاءُ المؤمنينَ على الصراطِ: " رَبِّ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ ". ومنهُ: " سَلِمَ الشيءُ لفلانٍ، أيْ: خَلَصَ لهُ وَحْدَهُ، فَخَلَصَ منْ ضَرَرِ الشركةِ فيهِ؛ قالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]؛ أيْ: خَالِصاً لهُ وَحْدَهُ لا يَمْلُكُهُ معهُ غَيْرُهُ.

    ومنهُ: (السِّلْمُ) ضِدُّ الحربِ، قالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]؛ لأنَّ كُلاًّ من المُتَحَارِبَيْ نِ يَـخْلُصُ وَيَسْلَمُ منْ أَذَى الآخرِ، ولهذا يُبْنَى منهُ على المُفَاعَلَةِ، فَيُقَالُ:
    المُسَالَمَةُ، مِثلُ المُشَارَكَةِ.

    ومنهُ: (القلبُ السليمُ) ، وهوَ النَّقِيُّ من الغلِّ والدَّغَلِ، وحقيقتُهُ الذي قدْ سَلِمَ للهِ وحدَهُ فَخَلَصَ منْ دَغَلِ الشركِ وغِلِّهِ ودَغَلِ الذنوبِ والمخالفاتِ، بلْ هوَ المستقيمُ على صدقِ حُبِّهِ وَحُسْنِ معاملتِهِ، فهذا هوَ الذي ضَمِنَ لهُ النجاةَ منْ عذابِهِ والفوزَ بكرامتِهِ.

    ومنهُ أُخِذَ (الإسلامُ)؛ فإنَّهُ منْ هذهِ المادَّةِ؛ لأنَّهُ: الاستسلامُ والانقيادُ للهِ والتخلُّصُ منْ شوائبِ الشركِ، فسَلِمَ لربِّهِ وخَلَصَ لهُ كالعبدِ الذي سَلِمَ لمولاهُ، ليسَ فيهِ شركاءُ مُتَشَاكِسُونَ، ولهذا ضَرَبَ سبحانَهُ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ للمسلمِ المُخْلِصِ لربِّهِ، والمُشْرِكِ بهِ.

    ومنهُ: ( السَّلَمُ ) للسَّلَفِ، وحقيقتُهُ العِوَضُ المُسَلَّمُ فيهِ؛ لأنَّ مَنْ هوَ في ذمَّتِهِ قدْ ضَمِنَ سلامَتَهُ لِرَبِّهِ، ثُمَّ سُمِّيَ العقدُ سَلَماً وحقيقتُهُ ما ذَكَرْنَاهُ.
    فإنْ قِيلَ: فهذا يَنْتَقِضُ بقولِهِم للَّدِيغِ: سَلِيماً.
    قيلَ: ليسَ هذا بِنَقْضٍ لهُ، بلْ طردٌ لما قُلْنَاهُ؛ فإنَّهُم سَمَّوْهُ سَلِيماً باعْتِبَارِ ما يَهُمُّهُ ويَطْلُبُهُ ويَرْجُو أنْ يَؤُولَ إليهِ حالُهُ من السلامةِ، فليسَ عندَهُ أَهَمُّ من السلامةِ، ولا هوَ أَشَدُّ طَلَباً منهُ لغيرِهَا، فسُمِّيَ: ( سَلِيماً ) لذلكَ، وهذا مِنْ جنسِ تَسْمِيَتِهِم المهلكةَ " المَفَازَةَ "؛ لأنَّهُ لا شيءَ أَهَمُّ عندَ سالِكِهَا منْ فَوْزِهِ منها؛ أيْ: نَجَاتِهِ، فَسُمِّيَتْ مَفَازَةً؛ لأنَّهُ يَطْلُبُ الفوزَ منها. وهذا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِم: إنَّمَا سُمِّيَتْ "مَفَازَةً "، وَسُمِّيَ اللَّدِيغُ " سَلِيماً " تَفَاؤُلاً، وإنْ كانَ التَّفَاؤُلُ جُزْءَ هذا المَعْنَى الذي ذَكَرْنَاهُ وَدَاخِلاً فيهِ، فهوَ أَعَمُّ وَأَحْسَنُ.
    فإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُمْكِنُكُم رَدُّ السُّلَّمِ إلى هذا الأصلِ؟!!
    قِيلَ: ذلكَ ظَاهِرٌ؛ لأنَّ الصاعدَ إلى مكانٍ مرتفعٍ لَمَّا كَانَ مُتَعَرِّضاً للهُوِيِّ والسقوطِ طَالِباً للسلامةِ رَاجِياً لها سُمِّيَت الآلةُ التي يَتَوَصَّلُ بها إلى غرضِهِ " سُلَّماً " لِتَضَمُّنِهَا سلامتَهُ؛ إذْ لوْ صَعَدَ بِتَكَلُّفٍ منْ غيرِ سُلَّمٍ لكانَ عَطَبُهُ مُتَوَقَّعاً، فَصَحَّ أنَّ السُّلَّمَ منْ هذا المعنَى.

    ومنهُ تَسْمِيَةُ الجنَّةِ: بـ ( دارِ السلامِ ). وفي إِضَافَتِهَا إلى السلامِ ثلاثةُ أقوالٍ:
    - أحدُهَا: أنَّهَا إضافةٌ إلى مالِكِهَا (( السَّلامِ )) سبحانَهُ.
    - الثاني: أنَّهَا إضافةٌ إلى تَحِيَّةِ أَهْلِهَا؛ فإنَّ تَحِيَّتَهُم فيها سلامٌ.
    - الثالث: أنَّهَا إضافةٌ إلى معنَى السلامةِ؛ أيْ: دارِ السلامةِ منْ كلِّ آفةٍ ونقصٍ وشرٍّ.

    والثلاثةُ متلازمةٌ وإنْ كانَ الثالِثُ أَظْهَرَهَا؛ فإنَّهُ لوْ كانت الإضافةُ إلى مَالِكِهَا لأُضِيفَتْ إلى اسمٍ منْ أسمائِهِ غيرِ السلامِ، وكانَ يُقَالُ: دارُ الرَّحْمَنِ، أوْ: دارُ اللهِ، أوْ: دارُ المَلِكِ، ونحوُ ذلكَ.
    فإذا عُهِدَتْ إِضَافَتُهَا إليهِ ثُمَّ جَاءَ: (( دارُ السلامِ )) حُمِلَتْ على المعهودِ.
    وأيضاً فإنَّ المعهودَ في القرآنِ إضَافَتُهَا إلى صِفَتِهَا أوْ إلى أهلِهَا.
    - أمَّا الأوَّلُ، فَنَحْوُ: دارُ القرارِ، دارُ الخُلْدِ، جَنَّةُ المأوى، جَنَّاتُ النَّعِيمِ، جنَّاتُ الفِرْدَوْسِ.
    - وأمَّا الثاني، فَنَحْوُ: دارُ المُتَّقِينَ.

    ولمْ تُعْهَدْ إِضَافَتُهَا إلى اسمٍ منْ أسماءِ اللهِ في القرآنِ، فالأَوْلَى حَمْلُ الإضافةِ على المعهودِ في القرآنِ، وكذلكَ إِضَافَتُهَا إلى التحيَّةِ ضَعِيفٌ منْ وجهَيْنِ:
    - أحدُهُمَا: أنَّ التحيَّةَ بالسَّلامِ مُشْتَرِكَةٌ بينَ دارِ الدنيا والآخرةِ، وما يُضَافُ إلى الجنَّةِ لا يَكُونُ إلاَّ مُخْتَصًّا بها كالخُلْدِ والقرارِ والبقاءِ.
    - الثاني: أنَّ مِنْ أَوْصَافِهَا - غيرَ التَّحِيَّةِ - ما هوَ أَكْمَلُ منها؛ مِثْلَ كَوْنِهَا دائمةً وباقيَةً ودارَ الخلدِ، والتَّحِيَّةُ فيها عارضةٌ عندَ التَّلاقِي والتَّزَاورِ بخلافِ السلامةِ منْ كلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ وَشَرٍّ؛ فإنَّها منْ أكملِ أَوْصَافِها المقصودةِ على الدوامِ التي لا يَتِمُّ النعيمُ فيها إلاَّ بهِ، فإضافَتُهَا إليهِ أَوْلَى، وهذا ظاهِرٌ.

    ... إذا عُرِفَ هذا فَإِطْلاقُ (( السلامِ )) على اللهِ تَعَالَى اسْماً منْ أسمائِهِ هوَ أَوْلَى منْ هذا كلِّهِ , وَأَحَقُّ بهذا الاسمِ منْ كلِّ مُسَمًّى بهِ لسلامتِهِ سبحانَهُ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ منْ كلِّ وجهٍ، فهوَ (( السلامُ )) الحَقُّ بِكُلِّ اعتبارٍ، والمخلوقُ سلامٌ بالإضافةِ.
    فهوَ سبحانَهُ سلامٌ في ذاتِهِ منْ كلِّ عَيْبٍ ونقصٍ يَتَخَيَّلُهُ وَهْمٌ، وسلامٌ في صفاتِهِ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وسلامٌ في أفعالِهِ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ وشرٍّ وظُلْمٍ وفعلٍ واقعٍ على غيرِ وجهِ الحكمةِ، بلْ هوَ (( السلامُ )) الحقُّ منْ كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ.

    فعُلِمَ أنَّ استحقاقَهُ تَعَالَى لهذا الاسمِ أَكْمَلُ من استحقاقِ كلِّ ما يُطْلَقُ عليهِ، وهذا هوَ حقيقةُ التَّنـْزِيهِ الذي نَـزَّهَ بهِ نفسَهُ وَنَزَّهَهُ بهِ رسولُهُ، فهوَ السلامُ من الصاحبةِ والولدِ، والسلامُ من النظيرِ والكُفْءِ والسَّمِيِّ والمُمَاثِلِ، والسلامُ من الشريكِ.
    ولذلكَ إذا نَظَرْتَ إلى أفرادِ صفاتِ كمالِهِ وَجَدْتَ كلَّ صفةٍ سلاماً مِمَّا يُضَادُّ كَمَالَهَا:
    - فحياتُهُ سلامٌ من الموتِ ومن السِّنَةِ والنومِ.
    - وكذلكَ قَيُّومِيَّتُهُ وقُدْرَتُهُ سلامٌ من التعبِ واللُّغُوبِ.
    - وَعِلْمُهُ سلامٌ منْ عُزُوبِ شيءٍ عنهُ أوْ عُرُوضِ نسيانٍ أوْ حاجةٍ إلى تَذَكُّرٍ وَتَفَكُّرٍ.
    - وإرادتُهُ سلامٌ منْ خُرُوجِهَا عن الحكمةِ والمصلحةِ.
    - وكَلِمَاتُهُ سلامٌ من الكذبِ والظلمِ، بلْ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقاً وَعَدْلاً.
    - وَغِنَاهُ سلامٌ من الحاجةِ إلى غيرِهِ بوَجْهٍ ما، بلْ كُلُّ ما سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وهوَ غَنِيٌّ عنْ كلِّ ما سِوَاهُ.
    - وَملكُهُ سلامٌ منْ مُنَازِعٍ فيهِ، أوْ مُشَارِكٍ، أوْ مُعَاوِنٍ، مُظَاهِرٍ، أوْ شَافِعٍ عندَهُ بدونِ إذنِهِ.
    - وَإِلَهِيَّتُهُ سَلامٌ منْ مُشَارِكٍ لهُ فيها، بلْ هوَ اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ.
    - وَحِلْمُهُ وعفوُهُ وصَفْحُهُ ومغفرتُهُ وتجاوزُهُ سلامٌ منْ أنْ تكونَ عنْ حاجةٍ منهُ، أوْ ذُلٍّ أوْ مُصَانَعَةٍ كما يكونُ منْ غيرِهِ، بلْ هوَ مَحْضُ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ.
    - وكذلكَ عَذَابُهُ وانتقامُهُ وشدَّةُ بَطْشِهِ وَسُرْعَةُ عِقَابِهِ سلامٌ منْ أنْ يكونَ ظُلْماً أوْ تَشَفِّياً أوْ غِلْظَةً أوْ قسوةً، بلْ هوَ محضُ حِكْمَتِهِ وعدلِهِ ووضعِهِ الأشياءَ مَوَاضِعَهَا، وهوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ عليهِ الحمدَ والثناءَ كما يَسْتَحِقُّهُ على إحسانِهِ وثوابِهِ وَنِعَمِهِ، بلْ لوْ وَضَعَ الثوابَ مَوْضِعَ العقوبةِ لكانَ مُنَاقِضاً لحكمتِهِ وَلِعِزَّتِهِ، فَوَضْعُهُ العقوبةَ موضعَهَا هوَ منْ حَمْدِهِ وحكمتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ فهوَ سلامٌ ممَّا يَتَوَهَّمُ أَعْدَاؤُهُ والجاهلونَ بهِ منْ خلافِ حكمتِهِ.
    - وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ سَلامٌ من العبثِ والجَورِ والظلمِ، ومِنْ تَوَهُّمِ وُقوعِهِ على خلافِ الحكمةِ البالغةِ.
    - وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ سلامٌ من التناقضِ، والاختلافِ، والاضطرابِ، وخلافِ مصلحةِ العبادِ وَرَحْمَتِهِم والإحسانِ إليهم، وخلافِ حِكْمَتِهِ، بلْ شَرْعُهُ كُلُّهُ حِكْمَةٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ.
    - وكذلكَ عَطَاؤُهُ سلامٌ منْ كونِهِ مُعَاوَضَةً أوْ لحاجةٍ إلى المُعْطَى.
    - وَمَنْعُهُ سَلامٌ من البخلِ وخوفِ الإملاقِ؛ بلْ عَطَاؤُهُ إحسانٌ مَحْضٌ لا لمعاوضةٍ ولا لحاجةٍ، ومنعُهُ عَدْلٌ مَحْضٌ وَحِكْمَةٌ لا يَشُوبُهُ بُخْلٌ ولا عَجْزٌ.
    - واستواؤُهُ وَعُلُوُّهُ على عرشِهِ سلامٌ منْ أنْ يَكُونَ مُحْتَاجاً إلى ما يَحْمِلُهُ أوْ يَسْتَوِي عليهِ، بل العرشُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وَحَمَلَتُهُ مُحْتَاجُونَ إليهِ؛ فهوَ الغنيُّ عن العرشِ وعنْ حَمَلَتِهِ وعنْ كلِّ ما سِوَاهُ، فهوَ اسْتِوَاءٌ وَعُلُوٌّ لا يَشُوبُهُ حَصْرٌ، ولا حَاجَةٌ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ، ولا إحاطةُ شيءٍ بهِ سبحانَهُ وتَعَالَى؛ بلْ كانَ سبحانَهُ ولا عَرْشَ، ولمْ يَكُنْ بهِ حاجةٌ إليهِ، وهوَ الغنيُّ الحميدُ، بل اسْتِوَاؤُهُ على عرشِهِ وَاسْتِيلاؤُهُ على خَلْقِهِ منْ مُوجَباتِ مُلْكِهِ وقَهْرِهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ بوجهٍ ما.
    - ونزولُهُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا سلامٌ مِمَّا يُضَادُّ عُلُوَّهُ، وسلامٌ ممَّا يُضَادُّ غِنَاهُ.
    - وكمالُهُ سلامٌ منْ كلِّ ما يَتَوَهَّمُ مُعَطِّلٌ أوْ مُشَبِّهٌ، وَسَلامٌ منْ أنْ يَصِيرَ تَحْتَ شَيْءٍ أوْ مَحْصُوراً في شيءٍ، تَعَالَى اللهُ ربُّنَا عنْ كلِّ ما يُضَادُّ كَمَالَهُ.
    - وَغِنَاهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ سلامٌ منْ كلِّ ما يَتَخَيَّلُهُ مُشَبِّهٌ أوْ يَتَقَوَّلُهُ مُعَطِّلٌ.
    - وَمُوَالاتُهُ لأوليائِهِ سلامٌ منْ أنْ تكونَ عنْ ذلٍّ كما يُوَالِي المخلوقُ المخلوقَ، بلْ هيَ موالاةُ رحمةٍ وخيرٍ وإحسانٍ وبِرٍّ كما قالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]. فَلَمْ يَنْفِ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مُطْلَقاً، بلْ نَفَى أنْ يَكُونَ لهُ وَلِيٌّ من الذُّلِّ.
    - وكذلكَ مَحَبَّتُهُ لِمُحِبِّيهِ وَأَوْلِيَائِهِ سلامٌ منْ عوارِضِ مَحَبَّةِ المخلوقِ للمخلوقِ منْ كَوْنِهَا مَحَبَّةَ حاجةٍ إليهِ، أوْ تَمَلُّقٍ لهُ، أو انْتِفَاعٍ بِقُرْبِهِ، وسلامٌ مِمَّا يَتَقَوَّلُهُ المُعَطِّلُونَ فيها.
    - وكذلكَ ما أَضَافَهُ إلى نفسِهِ من اليدِ والوجهِ، فإنَّهُ سلامٌ مِمَّا يَتَخَيَّلُهُ مُشَبِّهٌ أوْ يَتَقَوَّلُهُ مُعَطِّلٌ.

    فتَأَمَّلْ كَيْفَ تَضَمَّنَ اسمُهُ " السلامُ " كلَّ ما نُزِّهَ عنهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى. وَكَمْ مِمَّنْ حَفِظَ هذا الاسمَ لا يَدْرِي ما تَضَمَّنَهُ منْ هذهِ الأسرارِ والمعانِي.

    واللهُ المُسْتَعَانُ المَسْئُولُ أنْ يُوَفِّقَ للتعليقِ على الأسماءِ الحُسْنَى على هذا النَّمَطِ؛ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ)
    [المرتبع الأسنى]

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    (ومِنْ أسمائِهِ تَعَالَى (( المُؤْمِنُ ))، وهوَ في أحدِ التفسيرَيْنِ: المُصَدِّقُ الذي يُصَدِّقُ الصادِقِينَ بما يُقِيمُ لهمْ منْ شواهدِ صِدْقِهِم، فهوَ الذي صَدَّقَ رُسُلَهُ وأنبياءَهُ فيما بَلَّغُوا عنهُ، وَشَهِدَ لهم بأنَّهُم صَادِقُونَ بالدلائلِ التي دَلَّ بها على صِدقِهِم قَضَاءً وَخَلْقاً؛ فإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ- وخبرُهُ الصدقُ، وقولُهُ الحقُّ - أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُرِيَ العبادَ من الآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنفسيَّةِ ما يُبَيِّنُ لهمْ أنَّ الوحيَ الذي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فقالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53]؛ أي: القرآنُ، فإنَّهُ هوَ المُتَقَدِّمُ في قولِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}، ثُمَّ قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فُصِّلَتْ: 53]. فَشَهِدَ سبحانَهُ لرسولِهِ بقولِهِ: إِنَّ ما جَاءَ بهِ حَقٌّ، وَوَعَدَهُ أنْ يُرِيَ العبادَ منْ آياتِهِ الفعليَّةِ الخَلْقيَّةِ: ما يَشْهَدُ بذلكَ أيضاً)

    (فـ... آياتُ الأنبياءِ وَبَرَاهِينُهُم وأَدِلَّتُهُم... هيَ شهادةٌ من اللهِ سبحانَهُ لهم، بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غايَةَ البيانِ، وَأَظْهَرَهَا لهم غايَةَ الإظهارِ بقولِهِ وفِعْلِهِ.

    وفي الصحيحِ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلاَّ وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
    [المرتبع الأسنى]

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( العزيزُ )) الذي لهُ العزَّةُ التامَّةُ).
    (يُقَالُ: عَزَّ يَعَزُّ - بِفَتْحِ العَيْنِ - إذا اشْتَدَّ وَقَوِيَ، ومنهُ: الأرضُ العَزَازُ: الصُّلْبَةُ الشديدةُ.
    و: عَزَّ يَعِزُّ - بِكَسْرِ العَيْنِ- إذا امْتَنَعَ مِمَّنْ يَرُومُهُ.
    و: عَزَّ يَعُزُّ - بِضَمِّ العَيْنِ - إذا غَلَبَ وَقَهَرَ).

    (والعِزَّةُ كُلُّهَا لهُ [سبحانَهُ] وَصْفاً وَملكاً، وهوَ العزيزُ الذي لا شَيْءَ أَعَزُّ منهُ، ومَنْ عَزَّ منْ عبادِهِ فَبِإِعْزَازِهِ لهُ)

    (فالعزيزُ مَنْ لهُ العِزَّةُ)، (والعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ كمالَ قدرتِهِ وقوَّتِهِ وقَهْرِهِ... فاسْمُهُ ((العزيزُ )) يَتَضَمَّنُ المُلْكَ).

    (وهوَ العزيزُ فلنْ يُرَامَ جنابُهُ = أنَّى يُرَامُ جنابُ ذي السلطانِ
    وهوَ العزيزُ القاهرُ الغلاَّبُ لَمْ = يَغْلِبْهُ شَيْءٌ هذهِ صِفَتَانِ
    وهوَ العزيزُ بقوَّةٍ هيَ وَصْفُهُ = فالعزُّ حينئذٍ ثلاثُ مَعَانِ
    وهيَ التي كَمُلَتْ لهُ سُبْحَانَهُ = من كلِّ وَجْهٍ عَادِمِ النُّقْصَانِ)
    (ومِنْ تمامِ عِزَّتِهِ بَرَاءَتُهُ منْ كلِّ سوءٍ وَشَرٍّ وَعَيْبٍ؛ فإنَّ ذلكَ يُنَافِي العزَّةَ التَّامَّةَ)
    [المرتبع الأسنى]

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( الجَبَّارُ )) اسمٌ منْ أسماءِ التَّعظيمِ كالمُتَكَبِّرِ والمَلِكِ والعظيمِ والقَهَّارِ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ في قولـِهِ تَعَالَى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] هوَ العظيمُ.
    وجَبَرُوتُ اللهِ عظمتُهُ، والجَبَّارُ منْ أسماءِ الملوكِ. والْجَبْرُ: المَلِكُ، والجَبَابِرَةُ: المُلُوكُ، قالَ الشاعرُ:
    * انْعَمْ صَبَاحاً أيُّهَا الجَبْرُ *
    أيْ: أَيُّهَا المَلِكُ * *.
    وقال السُّدِّيُّ: هوَ الذي يُجْبِرُ الناسَ وَيَقْهَرُهُم على ما يُرِيدُ.
    وعلى هذا فالجَبَّارُ مَعْنَاهُ القهَّارُ.
    وقالَ محمَّدُ بنُ كَعْبٍ: إنَّمَا سُمِّيَ الجَبَّارَ؛ لأنَّهُ جَبَرَ الخلقَ على ما أَرَادَ، والخَلْقُ أَدَقُّ شَأْناً منْ أنْ يَعْصُوا رَبَّهُم طَرْفَةَ عَيْنٍ إلاَّ بمشيئتِهِ.
    قالَ الزجَّاجُ: الجَبَّارُ الذي جَبَرَ الخلقَ على ما أَرَادَ.
    وقالَ ابنُ الأَنْبَارِيِّ: الجَبَّارُ في صفةِ الربِّ سُبْحَانَهُ الذي لا يُنَالُ، ومنهُ قولُهُم: نخلةٌ جَبَّارَةٌ، إذا فَاتَتْ يَدَ المُتَنَاوِلِ.
    فـ (( الجَبَّارُ )) في صفةِ الربِّ سبحانَهُ يَرْجِعُ إلى ثلاثةِ مَعَانٍ:
    - المُلْكِ.
    - والقَهْرِ.
    - والعُلُوِّ. فإنَّ النخلةَ إذا طَالَتْ وَارْتَفَعَتْ وَفَاتَت الأَيْدِيَ سُمِّيَتْ جَبَّارَةً.

    ولهذا جَعَلَ سبحانَهُ اسمَهُ الجَبَّارَ مَقْرُوناً بالعزيزِ والمُتَكَبِّرِ، وكلُّ وَاحِدٍ منْ هذهِ الأسماءِ الثلاثةِ تَضَمَّنَ الاسمَيْنِ الآخَرَيْنِ، وهذهِ الأسماءُ الثلاثةُ نَظِيرُ الأسماءِ الثلاثةِ، وهيَ الخالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ.
    فالجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ يَجْرِيَانِ مَجْرَى التفصيلِ لِمَعْنَى اسمِ العزيزِ، كما أنَّ البَارِئَ المُصَوِّرَ تَفْصِيلٌ لِمَعْنَى اسمِ الخالقِ.

    فالجَبَّارُ منْ أوصافِهِ يَرْجِعُ إلى كمالِ القدرةِ والعزَّةِ والمُلْكِ، ولهذا كانَ منْ أسمائِهِ الحُسْنَى، وأمَّا المخلوقُ فَاتِّصَافُهُ بالجَبَّارِ ذَمٌّ لهُ وَنَقْصٌ، كما قالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}[غافر: 35]، وقالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]؛ أيْ: مُسَلَّطٍ تَقْهَرُهُم وَتُكْرِهُهُم على الإيمانِ. وفي التِّرْمِذِيِّ وغيرِهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّر ُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ، يَطَأُهُمُ النَّاسُ))

    (وكذلكَ الجَبَّارُ منْ أوصافِهِ = والجبرُ في أوصافِهِ قِسْمَانِ
    جَبْرُ الضعيفِ وَكُلُّ قلبٍ قدْ غَدَا = ذَا كسرةٍ فالجبرُ منهُ دَانِ
    وَالثانِ جبرُ القهرِ بالعزِّ الذي = لا يَنْبَغِي لسواهُ منْ إنسانِ
    ولهُ مُسَمًّى ثالثٌ وهوَ العُلُوُّ = فليسَ يَدْنُو منهُ منْ إنسانِ
    مِنْ قولِهِم جَبَّارَةٌ للنخلةِ الـ = ـعَلْيَا الَّتِي فَاتَتْ لِكُلِّ بَنَانِ)
    . [المرتبع الأسنى]

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    (وكذلكَ (( الكبيرُ )) مِنْ أسمائِهِ وَ (( المُتَكَبِّرُ )). قالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: هوَ الذي تَكَبَّرَ عن السوءِ. وقالَ أيضاً: الذي تَكَبَّرَ عن السَّيِّئَاتِ. وقالَ مُقَاتِلٌ: المُتَعَظِّمُ عنْ كلِّ سوءٍ. وقالَ أبو إِسْحَاقَ:
    الذي يَكْبُرُ عنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ)

    ([و] (( الكبيرُ )) يُوصَفُ بهِ الذَّاتُ وَصِفَاتُهَا القائمةُ بها)
    (ومِنْ هذا قولُ المُسْلِمِينَ: اللهُ أَكْبَرُ؛ فإنَّهُ " أَفْعَلُ " تَفْضِيلٍ يَقْتَضِي كونَهُ أَكْبَرَ منْ كلِّ شيءٍ بجميعِ الاعتباراتِ، وبهذا فَسَّرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الذي رَوَاهُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ منْ حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ في قصَّةِ إسلامِهِ، حيثُ قالَ لهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عَدِيُّ، مَا يُفِرُّكَ؟! أَيُفِرُّكَ أنْ يُقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟! فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ))؟! ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَدِيُّ، مَا يُفِرُّكَ؟! أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؟! فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئاً أَكْبَرَ مِنَ اللهِ))؟!

    فاللهُ سبحانَهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ: ذَاتاً، وَقَدْراً، وَمَعْنًى، وَعِزَّةً، وجلالةً؛ فهوَ أَكْبَرُ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ كما هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعالٍ على كلِّ شيءٍ، وأعظمُ منْ كلِّ شيءٍ، وَأَجَلُّ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ)
    . [المرتبع الأسنى]

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    (الربُّ تَعَالَى... هوَ الغَنِيُّ بذاتِهِ، الذي كلُّ ما سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وليسَ بهِ حاجةٌ إلى أحدٍ) ، ([كما] أنَّهُ... لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ ولا يَحْتَاجُ إلى شيءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إليهِ خَلْقُهُ بوجهٍ من الوجوهِ)
    (فـ[هُوَ]… (( الغَنِيُّ )) الذي غِنَاهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، وكلُّ مَنْ في السَّمَاواتِ والأرضِ عبيدٌ لهُ، مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، مُصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِ، لَوْ أَهْلَكَهُم جميعاً لمْ يَنْقُصْ منْ عِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِه ِ وَإِلَهِيَّتِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، قالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [المائدة: 17])
    (فَلَهُ الغِنَى الكاملُ التامُّ منْ كلِّ وجهٍ عنْ كلِّ أحدٍ بكلِّ اعْتِبَارٍ)
    ([واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى] يُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُم إليهِ، وَشِدَّةَ حَاجَتِهِم إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وأنَّهُم لا غِنَى لهمْ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَذْكُرُ غِنَاهُ عنهم وعنْ جميعِ الموجوداتِ، وأنَّهُ الغَنِيُّ بنفسِهِ عنْ كلِّ ما سِوَاهُ، وكلُّ ما سِوَاهُ فَقِيرٌ إليهِ بنفسِهِ، وأنَّهُ لا يَنَالُ أحدٌ ذرَّةً من الخيرِ فما فَوْقَهَا إلاَّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، ولا ذَرَّةً من الشرِّ فما فَوْقَهَا إلاَّ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ)
    ( قالَ اللهُ سبحانَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].
    بَيَّنَ سبحانَهُ في هذهِ الآيَةِ أنَّ فَقْرَ العبادِ إليهِ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لهم، لا يَنْفَكُّ عنهم، كما أنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيداً أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لهُ، فَغِنَاهُ وَحَمْدُهُ ثابِتٌ لهُ لذاتِهِ لا لأمرٍ أَوْجَبَهُ، وَفَقْرُ مَنْ سِوَاهُ أمرٌ ثابتٌ لهُ لذاتِهِ لا لأمرٍ أَوْجَبَهُ، فلا يُعَلَّلُ هذا الفقرُ بحدوثٍ ولا إمكانٍ، بلْ هوَ ذَاتِيٌّ للفقيرِ، فحاجةُ العبدِ إلى رَبِّهِ لذاتِهِ , لا لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ تلكَ الحاجةَ، كما أنَّ غِنَى الربِّ سُبْحَانَهُ لِذَاتِهِ لا لأمرٍ أَوْجَبَ غِنَاهُ، كما قالَ شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ:
    وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لازِمٌ أَبَداً = كَمَا الغِنَى أَبَداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي
    فالخلقُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلى ربِّهِ بالذاتِ لا بِعِلَّةٍ، وكلُّ ما يُذْكَرُ ويُقَرَّرُ منْ أسبابِ الفقرِ والحاجةِ فهيَ أَدِلَّةٌ على الفقرِ والحاجةِ , لا عِلَلٌ لذلكَ؛ إذْ ما بالذاتِ لا يُعَلَّلُ، فالفقيرُ بذاتِهِ مُحْتَاجٌ إلى الغنيِّ بذاتِهِ، فما يُذْكَرُ منْ إمكانٍ وحدوثٍ واحتياجٍ فهيَ أَدِلَّةٌ على الفقرِ لا أَسْبَابٌ لهُ، ولهذا كانَ الصوابُ في مسألةِ علَّةِ احتياجِ العالمِ إلى الربِّ سبحانَهُ غيرَ القَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَذْكُرُهُمَا الفلاسفةُ والمُتَكَلِّمُو نَ؛ فإنَّ الفلاسفةَ قالُوا: عِلَّةُ الحاجةِ الإمكانُ، والمُتَكَلِّمُو نَ قالُوا: عِلَّةُ الحاجةِ الحدوثُ، والصوابُ أنَّ الإمكانَ والحدوثَ مُتَلازِمَانِ، وَكِلاهُمَا دليلُ الحاجةِ والافتقارِ، وفَقْرُ العالَمِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أَمْرٌ ذاتيٌّ لا يُعَلَّلُ، فهوَ فَقِيرٌ بذاتِهِ إلى رَبِّهِ الغَنِيِّ بذاتِهِ، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بإمكانِهِ وحدوثِهِ وغيرِ ذلكَ من الأَدِلَّةِ على هذا الفقرِ.
    والمقصودُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عنْ حقيقةِ العبادِ وَذَوَاتِهِم بأنَّهَا فَقِيرَةٌ إليهِ عَزَّ وَجَلَّ، كما أَخْبَرَ عنْ ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ وَحَقِيقَتِهِ أنَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
    فالفقرُ المُطْلَقُ منْ كلِّ وجهٍ ثابتٌ لِذَوَاتِهِم وَحَقَائِقِهم منْ حيثُ هيَ، والغِنَى المُطْلَقُ منْ كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذاتِهِ تَعَالَى وَحَقِيقَتِهِ منْ حيثُ هيَ.
    فَيَسْتَحِيلُ أنْ يكونَ العبدُ إلاَّ فَقِيراً، وَيَسْتَحِيلُ أنْ يكونَ الربُّ سبحانَهُ إلاَّ غَنِيًّا، كما أنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يكونَ العبدُ إلاَّ عَبْداً، والربُّ إلاَّ رَبًّا.
    إذا عُرِفَ هذا فالفَقْرُ فَقْرَانِ:
    - فقرٌ اضْطِرَارِيٌّ: وهوَ فَقْرٌ عامٌّ, لا خُرُوجَ لِبَرٍّ ولا فاجرٍ عنهُ، وهذا لا يَقْتَضِي مَدْحاً ولا ذَمًّا, ولا ثَوَاباً ولا عِقَاباً، بلْ هوَ بِمَنـْزِلَةِ كونِ المخلوقِ مَخْلُوقاً وَمَصْنُوعاً.
    - والفقرُ الثاني: فَقْرٌ اخْتِيَارِيٌّ، هوَ نَتِيجَةُ عِلْمَيْنِ شَرِيفَيْنِ:
    ● أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ العبدِ بِرَبِّهِ.
    ● والثاني: مَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ.
    فَمَتَى حَصَلَتْ لهُ هاتانِ المعرفتانِ أَنْتَجَتَا لهُ فَقْراً هوَ عَيْنُ غِنَاهُ وَعُنْوَانُ فَلاحِهِ وسعادتِهِ، وَتَفَاوُتُ الناسِ في هذا الفقرِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِم في هاتَيْنِ المعرفتَيْنِ.
    فمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بالغِنَى المُطْلَقِ عَرَفَ نفسَهُ بالفقرِ المطلقِ، ومَنْ عَرَفَ ربَّهُ بالقدرةِ التامَّةِ عَرَفَ نفسَهُ بالعجزِ التامِّ، ومَنْ عَرَفَ ربَّهُ بالعِزِّ التامِّ عَرَفَ نفسَهُ بالمسكنةِ التامَّةِ، ومَنْ عَرَفَ ربَّهُ بالعلمِ التامِّ والحكمةِ عَرَفَ نفسَهُ بالجهلِ(7).
    فاللهُ سبحانَهُ أَخْرَجَ العبدَ منْ بَطْنِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ شيئاً ولا يَقْدِرُ على شيءٍ، ولا يَمْلِكُ شيئاً، ولا يَقْدِرُ على عطاءٍ ولا منعٍ ولا ضُرٍّ ولا نفعٍ ولا شيءٍ الْبَتَّةَ، فكانَ فَقْرُهُ في تلكَ الحالِ إلى ما بهِ كمالُهُ أَمْراً مَشْهُوداً مَحْسُوساً لكلِّ أَحَدٍ، ومعلومٌ أنَّ هذا لهُ منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ، وما بالذاتِ دائمٌ بِدَوَامِهَا، وهوَ لمْ يَنْتَقِلْ منْ هذهِ الرُّتْبَةِ إلى رتبةِ الربوبيَّةِ أو الغِنَى، بلْ لمْ يَزَلْ عَبْداً فَقِيراً بذاتِهِ إلى بَارِئِهِ وفاطِرِهِ.
    فَلَمَّا أَسْبَغَ عليهِ نعمتَهُ، وأفاضَ عليهِ رحمتَهُ، وساقَ إليهِ أسبابَ كمالِ وجودِهِ ظاهراً وباطناً، وَخَلَعَ عليهِ ملابسَ إِنْعَامِهِ، وجَعَلَ لهُ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ، وعلَّمَهُ وأَقْدَرَهُ وصَرَّفَهُ وحَرَّكَهُ ومَكَّنَهُ من استخدامِ بَنِي جِنْسِهِ، وسَخَّرَ لهُ الخيلَ والإبلَ، وَسَلَّطَهُ على دوابِّ الماءِ، وَاسْتِنـْزَالِ الطَّيْرِ من الهواءِ، وقَهْرِ الوحوشِ العاديةِ، وَحَفْرِ الأنهارِ، وغَرْسِ الأشجارِ، وَشَقِّ الأرضِ، وتَعْلِيَةِ البناءِ، والتَّحَيُّلِ على جميعِ مصالحِهِ، والتحَرُّزِ والتَّحَفُّظِ مماَّ يُؤْذِيهِ، ظَنَّ المسكينُ أنَّ لهُ نَصِيباً من الملكِ، وادَّعَى لنفسِهِ مُلْكاً معَ اللهِ سبحانَهُ، ورأى نَفْسَهُ بغيرِ تلكَ العينِ الأُولَى، ونَسِيَ ما كانَ فيهِ منْ حالةِ الإعدامِ والفقرِ والحاجةِ، حتَّى كأنَّهُ لمْ يكُنْ هوَ ذلكَ الفقيرَ المحتاجَ، بلْ كانَ ذلكَ شَخْصاً آخرَ غيرَهُ، كما رَوَى الإمامُ أحمدُ في " مُسندِهِ " منْ حديثِ بُسْرِ بنِ جَحَّاشٍ القُرَشِيِّ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَصَقَ يوماً في كفِّهِ فَوَضَعَ عليها إِصْبَعَهُ ثُمَّ قالَ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ))
    ومِنْ هَا هُنَا خُذِلَ مَنْ خُذِلَ، وَوُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فَحُجِبَ المخذولُ عنْ حقيقتِهِ، ونَسِيَ نفسَهُ؛ فَنَسِيَ فَقْرَهُ وحاجتَهُ وضرورتَهُ إلى ربِّهِ، فَطَغَى وبَغَى وعَتَا فَحَقَّتْ عليهِ الشِّقْوَةُ، قالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]، وقالَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 -10]، فَأَكْمَلُ الخلقِ أَكْمَلُهُم عبوديَّةً وأعظُمُهُم شُهُوداً لفقرِهِ وضرورتِهِ وحاجتِهِ إلى ربِّهِ وعدمِ استغنائِهِ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولهذا كانَ منْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ)) . وكانَ يَدْعُو: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) . يَعْلَمُ أنَّ قَلْبَهُ بِيَدِ الرحمنِ عزَّ وجلَّ لا يَمْلُكُ منهُ شَيْئاً، وأنَّ اللهَ سبحانَهُ يُصَرِّفُهُ كَمَا يَشَاءُ، كيفَ وهوَ يَتْلُو قولَهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74]. فَضَرُورَتُهُ صلى الله عليه وسلم إلى رَبِّهِ وَفَاقَتُهُ إليهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بهِ، وَحَسَبِ قُرْبِهِ منهُ ومنـزلتِهِ عندَهُ، وهذا أَمْرٌ إِنَّمَا بَدَا منهُ لمَنْ بَعْدَهُ ما يَرْشَحُ منْ ظاهرِ الوعَاءِ، ولهذا كانَ أقربَ الخلقِ إلى اللهِ وَسِيلَةً وَأَعظَمَهُم عندَهُ جَاهاً وأرفعَهُم عندَهُ منـزلةً؛ لتكميلِهِ مقامَ العبوديَّةِ والفقرِ إلى ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وكانَ يقولُ لهم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْـزِلَتِي، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ)). وكانَ يَقُولُ: ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَت النَّصَارَى المَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ))
    [المرتبع الأسنى]

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ([اعْلَمْ - أَسْبَغَ اللهُ عليكَ نِعَمَهُ- أنَّ اللهَ] سبحانَهُ هوَ (( الجوَادُ )) الذي لا يُنْقِصُ خَزَائِنَهُ الإنفاقُ، ولا يُغِيضُ ما في يَمِينِهِ سَعَةُ عطائِهِ)
    ([فـ]هُوَ (( الجوَادُ الماجِدُ )) الذي لهُ الجودُ كلُّهُ، وجُودُ الخلائقِ في جَنْبِ جُودِهِ أقلُّ منْ ذرَّةٍ في جبالِ الدنيا وَرِمَالِهَا)

    (و[هوَ]... سبحانَهُ يُحِبُّ منْ عِبَادِهِ أنْ يُؤَمِّلُوهُ وَيَرْجُوهُ وَيَسْأَلُوهُ منْ فضلِهِ؛ لأنَّهُ الملكُ الحقُّ الجوَادُ: أَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى، وَأَحَبُّ ما إلى الجوَادِ أنْ يُرْجَى وَيُؤَمَّلَ ويُسْأَلَ. وفي الحديثِ: (( مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) ([3]). والسائلُ راجٍ وطالبٌ، فَمَنْ لمْ يَرْجُ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)

    (وَهُوَ الجَوَادُ فَجُودُهُ عَمَّ الوُجُو = دَ جميعَهُ بالفضلِ والإحسانِ
    وهوَ الجَوَادُ فلا يُخَيِّبُ سائلاً = ولوْ انَّهُ منْ أُمَّةِ الكُفْرَانِ)
    ([فهوَ سبحانَهُ] أَجْوَدُ الأَجْوَدِينَ، وأكرَمُ الأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ... سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وعفوُهُ مُؤَاخذتَهُ... قدْ أَفَاضَ على خَلْقِهِ النعمةَ، وكَتَبَ على نفسِهِ الرحمةَ.
    و... يُحِبُّ الإحسانَ والجُودَ والعطاءَ والبِرَّ. و... الفضلُ كلُّهُ بيدِهِ، والخيرُ كلُّهُ منهُ، والجودُ كلُّهُ لهُ، وَأَحَبُّ ما إليهِ: أنْ يَجُودَ على عبادِهِ ويُوسِعَهُم فضلاً، وَيَغْمُرَهُم إحساناً وَجُوداً، وَيُتِمَّ عليهم نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لديهم مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إليهم بأوصافِهِ وأسمائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إليهم بِنِعَمِهِ وآلائِهِ.

    فهوَ الجوَادُ لذاتِهِ، وجُودُ كلِّ جَوَادٍ خلقَهُ اللهُ وَيَخْلُقُهُ أبداً أقلُّ منْ ذرَّةٍ بالقياسِ إلى جُودِهِ، فليسَ (( الجوَادُ )) على الإطلاقِ إلاَّ هوَ، وجُودُ كلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ.

    وَمَحَبَّتُهُ للجودِ والإعطاءِ والإحسانِ والبِرِّ والإنعامِ والإفضالِ فوقَ ما يَخْطُرُ ببالِ الخلقِ أوْ يَدُورُ في أَوْهَامِهِم، وَفَرَحُهُ بعطائِهِ وَجُودِهِ وإفضالِهِ أَشَدُّ منْ فَرَحِ الآخذِ بما يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ أَحْوَجَ ما هوَ إليهِ أَعْظَمَ ما كانَ قَدْراً، فإذا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الحاجةِ وعِظَمُ قَدْرِ العطيَّةِ والنفعِ بها، فما الظَّنُّ بِفَرَحِ المُعْطَى؟!!

    فَفَرَحُ المُعْطِي سُبْحَانَهُ بعطائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ منْ فرحِ هذا بما يَأْخُذُهُ - وللهِ المَثَلُ الأعلى - إذْ هذا شأنُ الجوَادِ من الخلقِ، فإنَّهُ يَحْصُلُ لهُ من الفرحِ والسرورِ والابتهاجِ واللَّذَّةِ بعطائِهِ وجُودِهِ فوقَ ما يَحْصُلُ لمَنْ يُعْطِيهِ، ولكنَّ الآخِذَ غائبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ عنْ لذَّةِ المُعْطِي وابتهاجِهِ وسرورِهِ.

    هذا معَ كمالِ حاجتِهِ إلى ما يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إليهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ باستخلافِ مِثْلِهِ، وخوفِ الحاجةِ إليهِ عندَ ذهابِهِ، والتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الاستعانةِ بنظيرِهِ ومَنْ هوَ دونَهُ، وَنَفْسُهُ قدْ طُبِعَتْ على الحرصِ والشحِّ، فما الظنُّ بِمَنْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عنْ ذلكَ كُلِّهِ؟!

    ولوْ أنَّ أَهْلَ سماواتِهِ وأرضِهِ وأوَّلَ خَلْقِهِ وَآخِرَهُم، وَإِنْسَهُم وجِنَّهُم، ورَطْبَهُم ويابِسَهُم، قَامُوا في صعيدٍ واحدٍ فَسَأَلُوهُ فَأَعْطَى كلَّ واحدٍ ما سَأَلَهُ ما نقصَ ذلكَ مِمَّا عندَهُ مثقالَ ذرَّةٍ.

    وهوَ الجوَادُ لذاتِهِ، كما أنَّهُ الحيُّ لذاتِهِ، العليمُ لذاتِهِ، السميعُ البصيرُ لذاتِهِ، فَجُودُهُ العالِي منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ، والعفوُ أَحَبُّ إليهِ من الانتقامِ، والرحمةُ أَحَبُّ إليهِ من العقوبةِ، والفضلُ أَحَبُّ إليهِ من العدلِ، والعطاءُ أَحَبُّ إليهِ من المنعِ.

    فإذا تَعَرَّضَ عبدُهُ ومحبوبُهُ الذي خَلَقَهُ لِنَفْسِهِ وَأَعَدَّ لهُ أنواعَ كرامتِهِ، وَفَضَّلَهُ على غيرِهِ، وجَعَلَهُ محَلَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنْزَلَ إليهِ كتابَهُ وأرسلَ إليهِ رسولَهُ، وَاعْتَنَى بأمرِهِ، ولمْ يُهْمِلْهُ، ولمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، فَتَعَرَّضَ لغضبِهِ، وَارْتَكَبَ مَسَاخِطَهُ وما يَِكْرَهُهُ وَأَبِقَ منهُ، وَوَالَى عَدُوَّهُ وَظَاهَرَهُ عليهِ، وَتَحَيَّزَ إليهِ، وَقَطَعَ طريقَ نِعَمِهِ وإحسانِهِ إليهِ التي هيَ أحبُّ شيءٍ إليهِ، وفَتَحَ طريقَ العقوبةِ والغضبِ والانتقامِ: فَقَد اسْتَدْعَى من الجوَادِ الكريمِ خلافَ ما هوَ موصوفٌ بهِ من الجُودِ والإحسانِ والبِرِّ، وَتَعَرَّضَ لإغضابِهِ وإسخاطِهِ وانتقامِهِ، وأنْ يَصِيرَ غَضَبُهُ وسَخَطُهُ في موضعِ رِضَاهُ، وانتقامُهُ وعقوبتُهُ في موضعِ كَرَمِهِ وبِرِّهِ وعطائِهِ، فَاسْتَدْعَى بمعصيَتِهِ منْ أفعالِهِ ما سِوَاهُ أَحَبُّ إليهِ منهُ، وخلافَ ما هوَ منْ لَوَازمِ ذاتِهِ من الجُودِ والإحسانِ.
    فَبَيْنَمَا هوَ حَبِيبُهُ المُقَرَّبُ المخصوصُ بالكرامةِ إذ انْقَلَبَ آبِقاً شَارِداً، رَادًّا لكرامتِهِ، مَائِلاً عنهُ إلى عَدُوِّهِ معَ شِدَّةِ حاجتِهِ إليهِ وعدمِ استغنائِهِ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.

    فَبَيْنَمَا ذلكَ الحبيبُ معَ العدوِّ في طاعتِهِ وخدمتِهِ، نَاسِياً لسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكاً في مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ؛ قد اسْتَدْعَى منْ سَيِّدِهِ خلافَ ما هوَ أهلُهُ: إذْ عَرَضَتْ لهُ فكرةٌ، فَتَذَكَّرَ بِرَّ سيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أنَّهُ لا بُدَّ لهُ منهُ، وأنَّ مصيرَهُ إليهِ، وَعَرْضَهُ عليهِ، وَأَنَّهُ إنْ لمْ يُقْدِمْ عليهِ بنفسِهِ قُدِمَ بهِ عليهِ على أَسْوَأِ الأحوالِ.

    فَفَرَّ إلى سَيِّدِهِ منْ بلدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ في الهربِ إليهِ حتَّى وَصَلَ إلى بابِهِ، فوَضَعَ خَدَّهُ على عَتَبَةِ بابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أعتابِهِ، مُتَذَلِّلاً مُتَضَرِّعاً، خَاشِعاً بَاكِياً آسِفاً، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ، وَيَسْتَرْحِمُه ُ، وَيَسْتَعْطِفُه ُ، وَيَعْتَذِرُ إليهِ، قدْ أَلْقَى بيَدِهِ إليهِ، وَاسْتَسْلَمَ لهُ وأعطاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إليهِ زِمَامَهُ.

    فَعَلِمَ سَيِّدُهُ ما في قلبِهِ فَعَادَ مكانَ الغضبِ عليهِ رِضاً عنهُ، ومكانَ الشدَّةِ عليهِ رَحْمَةً بهِ، وَأَبْدَلَهُ بالعقوبةِ عَفْواً، وبالمنعِ عطاءً، وبالمُؤَاخَذَةِ حِلْماً. فَاسْتَدْعَى بالتوبةِ والرجوعِ منْ سَيِّدِهِ ما هوَ أَهْلُهُ، وما هوَ مُوجَبُ أسمائِهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلْيَا.

    فكيفَ يكونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بهِ وقدْ عادَ إليهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعاً وَاخْتِيَاراً؟! وَرَاجَعَ ما يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ منهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طريقَ البرِّ والإحسانِ والجُودِ، التي هيَ أَحَبُّ إلى سَيِّدِهِ منْ طريقِ الغضبِ والانتقامِ والعقوبةِ؟!!

    وهذا موضعُ الحكايَةِ المشهورةِ عنْ بعضِ العارِفِينَ: أَنَّهُ حَصَلَ لهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ منْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى في بعضِ السِّكَكِ بَاباً قدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ منهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ حتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَت البابَ في وجهِهِ وَدَخَلَتْ. فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بعيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّراً، فلمْ يَجِدْ لهُ مَأْوًى غيرَ البيتِ الذي أُخْرِجَ منهُ، ولا مَنْ يُؤْوِيهِ غيرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مكسورَ القلبِ حَزِيناً، فوجدَ البابَ مُرْتَجا(، فَتَوسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ على عتبةِ البابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ, فَلَمَّا رَأَتْهُ على تلكَ الحالِ لمْ تَمْلِكْ أنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عليهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي وَتَقُولُ: يا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُؤْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لا تُخَالِفْنِي، ولا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لي على خلافِ ما جُبِلْتُ عليهِ من الرحمةِ بكَ، والشفقةِ عليكَ، وَإِرَادَتِي الخيرَ لكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ.

    فتَأَمَّلْ قولَ الأمِّ: " لا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لي على خلافِ ما جُبِلْتُ عليهِ من الرحمةِ والشفقةِ "، وتَأَمَّلْ قولـَهُ صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا)) وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟!!

    فإذا أَغْضَبَهُ العبدُ بِمَعْصِيَتِهِ فقد اسْتَدْعَى منهُ صَرْفَ تلكَ الرحمةِ عنهُ، فإذا تَابَ إليهِ فقد اسْتَدْعَى منهُ ما هوَ أهلُهُ وأَوْلَى بهِ.

    فهذهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ على سِرِّ فَرَحِ اللهِ بتوبةِ عبدِهِ أعظمَ منْ فَرَحِ هذا الواجدِ لراحلتِهِ في الأرضِ المهلكةِ بعدَ اليَأْسِ منها، وَوَرَاءَ هذا ما تَجْفُو عنهُ العبارةُ، وَتَدِقُّ عنْ إدراكِهِ الأذهانُ.

    وإيَّاكَ وطريقةَ التعطيلِ والتمثيلِ؛ فإنَّ كلاًّ منهما مَنـْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ على عِلاَّتِهِ وَخِيمٌ، ولا يَحِلُّ لأحدِهِمَا أنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هذا الأمرِ ونَفَسَهُ؛ لأنَّ زُكَامَ التعطيلِ والتمثيلِ مُفْسِدٌ لحاسَّةِ الشَّمِّ كما هوَ مُفْسِدٌ لحاسَّةِ الذوقِ، فلا يَذُوقُ طعمَ الإيمانِ، ولا يَجِدُ رِيحَهُ.

    والمحرومُ كلُّ المحرومِ مَنْ عُرِضَ عليهِ الغِنَى والخيرُ فلمْ يَقْبَلْهُ، فلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللهُ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، والفضلُ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذُو الفضلِ العظيمِ)
    . [المرتبع الأسنى]

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( الأَكْرَمُ )) الذي فيهِ كلُّ خيرٍ وكلُّ كمالٍ، فلهُ كلُّ كمالٍ وَصْفاً، ومنهُ كلُّ خيرٍ فِعْلاً، فهوَ الأَكْرَمُ في ذاتِهِ وأوصافِهِ وأفعالِهِ).
    ([و] (( الأكرمُ ))... هوَ الأفعلُ من الكرمِ، وهوَ: كثرةُ الخيرِ، ولا أَحَدَ أَوْلَى بذلكَ منهُ سبحانَهُ؛ فإنَّ الخيرَ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ، والخيرَ كُلَّهُ منهُ، والنِّعَمَ كُلَّهَا هوَ مَوْلاهَا، والكمالَ كُلَّهُ وَالْمَجْدَ كُلَّهُ لهُ، فهوَ الأَكْرَمُ حَقًّا).
    (و[لْيَعْرِف] العبدُ كَرَمَ ربِّهِ في قَبُولِ العُذْرِ منهُ إذا اعْتَذَرَ إليهِ... فَيَقْبَلُ عُذْرَهُ بكرمِهِ وَجُودِهِ، فَيُوجِبُ لهُ ذلكَ اشْتِغَالاً بِذِكْرِهِ وشُكْرِهِ، وَمَحَبَّةً أُخْرَى لمْ تَكُنْ حاصلةً لهُ قبلَ ذلكَ؛ فإنَّ مَحَبَّتَكَ لِمَنْ شَكَرَكَ على إحسانِكَ وَجَازَاكَ بهِ، ثُمَّ غَفَرَ لكَ إساءَتَكَ، ولمْ يُؤَاخِذْكَ بها: أَضْعَافُ مَحَبَّتِكَ على شُكْرِ الإحسانِ وَحْدَهُ، والواقعُ شاهدٌ بذلكَ؛ فعبوديَّةُ التوبةِ بعدَ الذنبِ لونٌ، وهذا لونٌ آخَرُ)
    . [المرتبع الأسنى]

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ([اللهُ] سبحانَهُ [هوَ] (( الجميلُ )) الذي لا أَجْمَلَ منهُ، بلْ لوْ كانَ جمالُ الخلقِ كلِّهِم على رجلٍ واحدٍ منهم، وكانوا جَمِيعُهُم بذلكَ الجمالِ لَمَا كانَ لِجَمَالِهِم قطُّ نِسْبَةً إلى جمالِ اللهِ، بلْ كانت النسبةُ أَقَلَّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى حِذاءِ جِرْمِ الشمسِ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60].
    وقدْ رَوَى عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولَهُ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) ....
    ومِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى: (( الجميلُ ))، وَمَنْ أَحَقُّ بالجمالِ مِمَّنْ كُلُّ جمالٍ في الوجودِ فهوَ منْ آثارِ صُنْعِهِ؛ فَلَهُ:
    - جمالُ الذاتِ.
    - وجمالُ الأوصافِ.
    - وجمالُ الأفعالِ.
    - وجمالُ الأسماءِ.
    فأسماؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وصفاتُهُ كُلُّهَا كمالٌ، وأفعالُهُ كلُّهَا جميلةٌ، فلا يَسْتَطِيعُ بَشَرٌ النظرَ إلى جلالِهِ وجمالِهِ في هذهِ الدارِ، فإذا رَأَوْهُ سبحانَهُ في جنَّاتِ عدنٍ أَنْسَتْهُم رُؤْيَتُهُ ما هُمْ فيهِ من النعيمِ، فلا يَلْتَفِتُونَ حينئذٍ إلى شيءٍ غيرِهِ.
    (وهوَ الجميلُ على الحقيقةِ كيفَ لا = وجمالُ سائرِ هذهِ الأكوانِ
    مِنْ بعضِ آثارِ الجميلِ فَرَبُّهَا = أَوْلَى وأَجْدَرُ عندَ ذِي العرفانِ
    فجمالُهُ بالذاتِ والأوصافِ والـ = أَفْعَالِ والأسماءِ بالبرهانِ
    لا شَيْءَ يُشْبِهُ ذَاتَهُ وصفاتِهِ = سُبْحَانَهُ عنْ إِفْكِ ذِي البُهْتَانِ)
    (فمِن المعلومِ أنَّهُ... لا شَيْءَ أَكْمَلُ مِنْهُ [سبحانَهُ وتَعَالَى]، ولا أَجْمَلُ، فكلُّ كمالٍ وجمالٍ في المخلوقِ منْ آثارِ صنعِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى. وهوَ الذي لا يُحَدُّ كمالُهُ، ولا يُوصَفُ جلالُهُ وجمالُهُ، ولا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ بجميلِ صفاتِهِ وعظيمِ إحسانِهِ وبديعِ أفعالِهِ).

    (مِنْ أعزِّ أنواعِ المعرفةِ معرفةُ الربِّ سبحانَهُ بالجمالِ، وهيَ معرفةُ خواصِّ الخلقِ، وكلُّهُم عَرَفَهُ بصفةٍ منْ صفاتِهِ، وأَتَمُّهُم معرفةً مَنْ عَرَفَهُ بكمالِهِ وجلالِهِ وجمالِهِ سبحانَهُ، ليسَ كمثلِهِ شيءٌ في سائرِ صفاتِهِ، ولوْ فَرَضْتَ الخلقَ كلَّهُم على أجـمـلـِهِم صورةً وكُلُّـهُم على تلكَ الصورةِ، وَنَسَبْتَ جمالَهُم الظاهرَ والباطنَ إلى جمالِ الربِّ سبحانَهُ لكانَ أقلَّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قُرْصِ الشمسِ.
    - ويَكْفِي في جمالِهِ: أنَّهُ لوْ كَشَفَ الحجابَ عنْ وجهِهِ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ ما انْتَهَى إليهِ بَصَرُهُ منْ خلقِهِ.
    - وَيَكْفِي في جمالِهِ: أنَّ كلَّ جمالٍ ظاهرٍ وباطنٍ في الدنيا والآخرةِ فَمِنْ آثَارِ صَنْعَتِهِ؛ فما الظنُّ بمَنْ صَدَرَ عنهُ هذا الجمالُ؟!!
    - وَيَكْفِي في جمالِهِ أنَّهُ لهُ العِزَّةُ جَمِيعاً، والقوَّةُ جميعاً، والجُودُ كُلُّهُ، والإحسانُ كلُّهُ، والعلمُ كُلُّهُ، والفضلُ كُلُّهُ، ولِنورِ وجهِهِ أَشْرَقَت الظلماتُ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاءِ الطائفِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) ([17]).
    وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ منْ نُورِ وجْهِهِ ".
    فهوَ سبحانَهُ نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ، ويومَ القيامةِ إذا جاءَ لفَصْلِ القضاءِ تُشْرِقُ الأرضُ بنورِهِ.
    ومِنْ أسمائِهِ الحُسْنَى (( الجميلُ ))، وفي الصحيحِ عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))
    وجمالُهُ سُبْحَانَهُ على أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
    - جمالِ الذاتِ.
    - وجمالِ الصِّفَاتِ.
    - وجمالِ الأفعالِ.
    - وجمالِ الأسماءِ.
    فأسماؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وصفاتُهُ كُلُّهَا صفاتُ كمالٍ، وأفعالُهُ كُلُّهَا حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ ورحمةٌ.
    وأمَّا جمالُ الذاتِ وما هوَ عليهِ فَأَمْرٌ لا يُدْرِكُهُ سِوَاهُ، ولا يَعْلَمُهُ غيرُهُ، وليسَ عندَ المَخْلُوقِينَ منهُ إلاَّ تعريفاتٌ تَعَرَّفَ بها إلى مَنْ أَكْرَمَهُ منْ عبادِهِ؛ فإنَّ ذلكَ الجمالَ مَصُونٌ عن الأَغْيَارِ، محجوبٌ بِسترِ الرداءِ والإزارِ، كما قالَ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَحْكِي عنهُ: ((الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي))، وَلَمَّا كانت الكبرياءُ أَعْظَمَ وأَوْسَعَ كَانَتْ أحقَّ باسمِ الرداءِ؛ فإنَّهُ سبحانَهُ الكبيرُ المتعالُ، فهوَ سبحانَهُ العليُّ العظيمُ.
    [المرتبع الأسنى]

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ([اعْلَمْ- نَوَّرَ اللهُ بَصِيرَتَكَ- أنَّ] النَّصَّ قدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الربِّ نوراً، وبأنَّ لهُ نوراً مضافاً إليهِ، وبأنَّهُ نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وبأنَّ حِجَابَهُ نورٌ، فهذهِ أربعةُ أنواعٍ:
    - فالأوَّلُ: يُقَالُ عليهِ سُبْحَانَهُ بالإطلاقِ؛ فإنَّهُ النُّورُ الهادِي.
    - والثاني: يُضَافُ إليهِ كما يُضَافُ إليهِ حَيَاتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعِزَّتُهُ وقُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ، وَتَارَةً يُضَافُ إلى وجهِهِ، وتارةً يُضَافُ إلى ذاتِهِ:
    - فالأوَّلُ: إِضَافَتُهُ [إلى وجهِهِ الكريمِ]؛ كقولِهِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ)) . وقولِهِ: ((نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ)).
    - والثاني: إضافتُهُ إلى ذاتِهِ؛ كقولِهِ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، وقولِ ابنِ عبَّاسٍ: " ذَلِكَ نُورُهُ الذي إذا تَجَلَّى بهِ "، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ))
    - والثالثُ: وهوَ إضافةُ نُورِهِ إلى السَّمَاواتِ والأرضِ، كقولـِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ النور : 35 ].
    - والرابعُ: كقولِهِ: ((حِجَابُهُ النُّورُ)).
    فهذا النورُ المُضَافُ إليهِ يَجِيءُ على أحدِ الوجوهِ الأربعةِ، والنورُ الذي احْتَجَبَ بهِ سُمِّيَ نُوراً وَنَاراً، كما وَقَعَ التَّرَدُّدُ في لفظِهِ في الحديثِ الصحيحِ، حديثِ أبي موسَى الأَشْعَرِيِّ. وهوَ قولُهُ: ((حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ)) ([3])؛ فإنَّ هذهِ النارَ هيَ نورٌ، وهيَ التي كَلَّمَ اللهُ كَلِيمَهُ مُوسَى فيها، وهيَ نارٌ صافيَةٌ لها إشراقٌ بلا إحراقٍ.
    فالأقسامُ ثلاثةٌ:
    - إشراقٌ بلا إحراقٍ: كنورِ القمرِ.
    - وإحراقٌ بلا إشراقٍ: وهيَ نارُ جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّهَا سوداءُ مُحْرِقَةٌ لا تُضِيءُ.
    - وإشراقٌ بإحراقٍ: وهيَ هذهِ النارُ المضيئةُ، وكذلكَ نُورُ الشمسِ لهُ الإشراقُ والإحراقُ.

    فهذا في الأنوارِ المشهودةِ المخلوقةِ، وحجابُ الربِّ تباركَ وتَعَالَى نورٌ، وهوَ نارٌ. وهذهِ الأنواعُ كلُّهَا حقيقةٌ بحسَبِ مراتِبِهَا، فنورُ وجهِهِ حقيقةٌ لا مجازٌ.

    وإذا كانَ نُورُ مخلوقاتِهِ كالشمسِ والقمرِ والنارِ حقيقةً، فكيفَ يكونُ نورُهُ الذي نسبةُ الأنوارِ المخلوقةِ إليهِ أَقَلُّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قرصِ الشمسِ، فكيفَ لا يكونُ هذا النورُ حقيقةً)، ([و] الربُّ سبحانَهُ أَخْبَرَ أنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى للجبلِ وَظَهَرَ لهُ أَمْرٌ ما منْ نورِ ذاتِهِ المقدَّسَةِ صارَ الجبلُ دَكًّا؛ فَرَوَى حُمَيْدٌ عنْ ثابتٍ، عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، أَشَارَ أنسٌ بطرفِ أصبعِهِ على طرفِ خِنْصَرِهِ، وكذلكَ أَشَارَ ثابتٌ، فقالَ لهُ حُمَيْدٌ الطويلُ: ما تُرِيدُ يا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَرَفَعَ ثابتٌ يَدَهُ، فَضَرَبَ صدرَهُ ضربةً شديدةً وقالَ: مَنْ أَنْتَ يا حُمَيْدُ، يُحَدِّثُنِي أنسٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقولُ أنتَ: ما تُرِيدُ بهذا؟! ومعلومٌ أنَّ الذي أَصَارَ الجبلَ إلى هذهِ الحالِ ظهورُ هذا القدْرِ منْ نورِ الذاتِ لهُ بلا واسطةٍ، بلْ تَجَلَّى رَبُّهُ لهُ سبحانَهُ.

    ... [وَقَدْ] ثَبَتَ في الصحيحَيْنِ عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ إذا قامَ مِن الليلِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) الحديثَ. وهوَ يَقْتَضِي أنَّ كونَهُ نورَ السَّمَاواتِ والأرضِ مُغَايِرٌ لكونِهِ ربَّ السَّمَاواتِ والأرضِ، ومعلومٌ أنَّ إِصْلاحَهُ السَّمَاواتِ والأرضَ بالأنوارِ وهدايتَهُ لمَنْ فيهما هيَ رُبُوبِيَّتُهُ، فَدَلَّ على أنَّ مَعْنَى كونِهِ نورَ السَّمَاواتِ والأرضِ أَمْرٌ وراءَ رُبُوبِيَّتِهِم َا...

    و[هذا]... الحديثُ تَضَمَّنَ ثلاثةَ أُمُورٍ شاملةٍ عامَّةٍ للسماواتِ والأرضِ، وهيَ رُبُوبِيَّتُهُم َا وقَيُّومِيَّتُه ُمَا ونورُهُمَا، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ ربًّا لهما وَقَيُّوماً لهما وَنُوراً لهما أَوْصَافٌ لهُ، فَآثَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقَيُّومِيَّتِ هِ ونورِهِ قائمةٌ بهما... وَمُقْتَضَاهَا هوَ المخلوقُ المُنْفَصِلُ، وهذا كما أنَّ صفةَ الرحمةِ والقدرةِ والإرادةِ والرِّضَى والغضبِ قائمةٌ بهِ سُبْحَانَهُ، والرحمةُ الموجودةُ في العالمِ والإحسانُ والخيرُ والنعمةُ والعقوبةُ آثارُ تلكَ الصِّفَاتِ، وهيَ منفصلةٌ عنهُ، وهكذا عِلْمُهُ القائمُ بهِ هوَ صِفَتُهُ، وأمَّا علومُ عبادِهِ فمِنْ آثارِ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُم منْ آثارِ قدرتِهِ.

    فَالْتَبَسَ هذا المَوْضِعُ على مُنْكِرِي نورِهِ سبحانَهُ، وَلَبَّسُوا على الجُهَّالِ فَقَالُوا: كلُّ عاقلٍ يَعْلَمُ بالبديهةِ أنَّ اللهَ سبحانَهُ ليسَ هوَ هذا النورَ الفائضَ منْ جِرمِ الشمسِ والقمرِ والنارِ، فلا بُدَّ مِنْ حملِ قولِهِ: ((نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) على معنَى أنَّهُ: مُنَوِّرُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وهادٍ لأهلِ السَّمَاواتِ والأرضِ...

    فنقولُ...: أَسَأْتُم الظنَّ بكلامِ اللهِ ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ فَهِمْتُمْ أنَّ حقيقتَهُ وَمَدْلُولَـهُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ هوَ هذا النورُ الواقعُ على الحِيطَانِ والجدرانِ . وهذا الفَهْمُ الفاسدُ هوَ الذي أَوْجَبَ لكُمْ إِنْكَارَ حقيقةِ نُورِهِ وجحدَهُ، وَجَمَعْتُمْ بينَ الفَهْمِ الفاسدِ وإنكارِ المعنَى الحقِّ، وليسَ ما ذَكَرْتُمْ من النورِ هوَ نورَ الربِّ القائمَ بهِ الذي هوَ صِفَتُهُ، وإنَّمَا هوَ مخلوقٌ لهُ مُنْفَصِلٌ عنهُ، فإنَّ هذهِ الأنوارَ المخلوقةَ إنَّمَا تكونُ في محلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، فالنورُ الفائضُ عن النارِ أو الشمسِ أو القمرِ إنَّمَا هوَ نورٌ لبعضِ الأرضِ دُونَ بعضٍ، فإنَّا نَعْلَمُ أنَّ نورَ الشمسِ الذي هوَ أعظمُ منْ نورِ القمرِ والكواكبِ والنارِ ليسَ هوَ نورَ جميعِ السَّمَاواتِ والأرضِ ومَنْ فِيهِنَّ.

    فمَن ادَّعَى أنَّ ظاهرَ القرآنِ وكلامِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أنَّ نورَ الربِّ سبحانَهُ هوَ هذا النورُ الفائضُ فقدْ كَذَبَ على اللهِ ورسولِهِ.

    فلوْ كانَ لفظُ النصِّ: اللهُ هوَ النورُ الذي تُعَايِنُونَهُ وتَرَوْنَهُ في السَّمَاواتِ والأرضِ لَكَانَ لِفَهْمِ هؤلاءِ وَتَحْرِيفِهِم مُسْتَنَدٌ ما. أمَّا ولفظُ النصِّ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، فمِنْ أينَ يَدُلُّ هذا بوَجْهٍ ما أنَّهُ النورُ الفائضُ عنْ جرمِ الشمسِ والقمرِ والنارِ؟!

    فإخراجُ نورِ الربِّ تَعَالَى عنْ حقيقتِهِ وحملُ لفظِهِ على مجازِهِ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلى هذا الفَهْمِ الباطلِ الذي لمْ يَدُلَّ عليهِ اللفظُ...

    [و] رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ هذهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ((أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)). ولمْ يَفْهَمْ منها أنَّهُ هوَ هذا النورُ المُنْبَسِطُ على الحيطانِ والجدرانِ، ولا فَهِمَهُ الصحابةُ عنهُ، بلْ عَلِمُوا أنَّ لِنُورِ الربِّ تَعَالَى شَأْناً آخرَ هوَ أعظمُ منْ أنْ يكونَ لهُ مثالٌ.

    قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: " ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ منْ نورِ وجهِهِ ".

    فهلْ أَرَادَ ابنُ مسعودٍ أنَّ هذا النورَ الذي على الحيطانِ وَوَجْهِ الأرضِ هوَ عَيْنُ نورِ الوجهِ الكريمِ؟!!
    أو فَهِمَ هذا عَنْهُم ذُو فَهْمٍ مستقيمٍ؟!!

    فالقرآنُ والسُّنَّةُ وأقوالُ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم مُتَطَابِقَةٌ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتُصَرِّحُ بالفرقِ الذي بينَ النورِ الذي هوَ صِفَتُهُ، والنورِ الذي هوَ خَلْقٌ منْ خلقِهِ، كما تُفَرِّقُ بينَ الرحمةِ التي هيَ صفتُهُ، والرحمةِ التي هيَ مخلوقةٌ، ولَكِنْ لَمَّا وُجِدَتْ في رحمتِهِ سُمِّيَتْ بِرَحْمَتِهِ، وكما أنَّهُ لا يُمَاثِلُ في صفةٍ منْ صفاتِهِ خَلْقَهُ، فكذلكَ نُورُهُ سُبْحَانَهُ.
    فأيُّ نورٍ من الأنوارِ المخلوقةِ إذا ظَهَرَ للعالمِ وَوَاجَهَهُ أَحْرَقَهُ؟!!
    وأيُّ نورٍ إذا ظَهَرَ منهُ للجبالِ الشامخةِ قَدْرٌ ما جَعَلَهَا دَكًّا؟!!
    وإذا كانتْ أنوارُ الحُجُبِ لوْ دَنَا جَبْرَائِيلُ في أَدْنَاهَا لاحترقَ، فما الظنُّ بنورِ الذَّاتِ؟!!)([8])

    (فنسبةُ الأنوارِ كُلِّهَا إلى نورِ الربِّ كنسبةِ العلومِ إلى علمِهِ، والقُوَى إلى قوَّتِهِ، والغِنَى إلى غِنَاهُ، والعزَّةِ إلى عِزَّتِهِ، وكذلكَ باقِي الصِّفَاتِ.

    والعبدُ إذا سَمَا بَصَرُهُ صُعُوداً إلى نورِ الشمسِ غَشِيَ دونَ إدراكِهِ وَتَعَذَّرَ عليهِ غايَةَ التَّعَذُّرِ!! وأيُّ نسبةٍ لنورِ الشمسِ إلى نورِ خالِقِهَا وَمُبْدِعِهَا؟!!
    وإذا كانَ نورُ البرقِ يَكَادُ يَلْتَمِعُ البصرَ وَيَخْطَفُهُ، ولا يَقْدِرُ العبدُ على إدراكِهِ، فكيفَ بنُورِ الحجابِ؟!! فكيفَ بما فَوْقَهُ؟!!

    والأمرُ أعظمُ منْ أنْ يَصِفَهُ واصِفٌ، أوْ يَتَصَوَّرَهُ عَاقِلٌ، فَتَبَارَكَ اللهُ ربُّ العالَمِينَ الذي أَشْرَقَت الظُّلُمَاتُ بنورِ وجهِهِ، وَعَجَزَت الأفكارُ عنْ إدراكِ كُنْهِهِ، وَدَلَّت الآياتُ وَشَهِدَت الفِطَرُ باستحالةِ شِبْهِهِ، فَلَوْلا وَصْفُ نفسَهُ لعبادِهِ لَمَا أَقْدَمُوا على وصفِهِ، فهوَ كما وَصَفَ نفسَهُ وَأَثْنَى على نفسِهِ، وَفَوْقَ ما يَصِفُهُ الواصفونَ)([9]).



    (وَلَمَّا كانَ النورُ منْ أسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ كانَ دِينُهُ نُوراً، ورسولُهُ نوراً، وكلامُهُ نوراً، ودارُهُ نوراً يَتَلأْلأُ، والنورُ يَتَوَقَّدُ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ، وَيَجْرِي على أَلْسِنَتِهِم، وَيَظْهَرُ على وُجُوهِهِم)

    (فَدِينُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نورٌ، وكتابُهُ نورٌ، ورسولُهُ نورٌ، ودارُهُ التي أَعَدَّهَا لأوليائِهِ نورٌ يَتَلأْلأُ، وهوَ تَبَارَكَ وتَعَالَى نورُ السماواتِ والأرضِ، ومِنْ أسمائِهِ النورُ، وَأَشْرَقَت الظلماتُ لنورِ وجهِهِ، وفي دعاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الطائِفِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْـزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ))

    وقالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ليسَ عندَ رَبِّكُمْ ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السماواتِ والأرضِ منْ نورِ وجهِهِ. وفي بعضِ ألفاظِ هذا الأثرِ: نورُ السَّمَاواتِ منْ نورِ وجهِهِ.
    ذَكَرَهُ عثمانُ الدَّارِمِيُّ.

    وقدْ قالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. فإذا جاءَ تباركَ وتَعَالَى يومَ القيامةِ للفَصْلِ بينَ عبادِهِ، وَأَشْرَقَتْ بنورِهِ الأرضُ، وليسَ إشراقُهَا يومئذٍ بشمسٍ ولا قمرٍ؛ فإنَّ الشمسَ تُكَوَّرُ، والقمرَ يُخْسَفُ، وَيَذْهَبُ نُورُهُمَا، وَحِجَابُهُ تباركَ وتَعَالَى النورُ.

    قالَ أبو مُوسَى: قامَ فِينَا رسولُ اللهِ بخمسِ كلماتٍ فقالَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([12]). ثُمَّ قَرَأَ أبو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8].

    فاستنارةُ ذلكَ الحجابِ بنورِ وجهِهِ، ولَوْلاهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهِهِ ونورُه ما انْتَهَى إليهِ بصرُهُ، ولهذا لَمَّا تَجَلَّى تَبَارَكَ وتَعَالَى للجَبَلِ، وَكَشَفَ من الحجابِ شَيْئاً يَسِيراً سَاخَ الجبلُ في الأرضِ وَتَدَكْدَكَ، ولمْ يَقُمْ لِرَبِّهِ تباركَ وتَعَالَى. وهذا معنَى قولِ ابنِ عَبَّاسٍ في قولِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، قالَ: ذلكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إذا تَجَلَّى بنورِهِ لمْ يَقُمْ لهُ شيءٌ، وهذا مِنْ بديعِ فهمِهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُ، ودقيقِ فِطْنَتِهِ، كيفَ لا وَقَدْ دَعَا لهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُعَلِّمَهُ اللهُ التأويلَ.

    فالربُّ تَبَارَكَ وتَعَالَى يُرَى يومَ القيامةِ بالأبصارِ عِياناً، ولكنْ يَسْتَحِيلُ إدراكُ الأبصارِ لهُ وإنْ رَأَتْهُ، فالإدراكُ أمرٌ وراءَ الرؤيَةِ، وهذهِ الشمسُ - وللهِ المَثَلُ الأَعْلَى - نَرَاهَا ولا نُدْرِكُهَا كما هيَ عليهِ، ولا قَرِيباً منْ ذلكَ.

    ولذلكَ قالَ ابنُ عبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عن الرؤيَةِ، وَأَوْرَدَ عليهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، فقالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: أَفَتُدْرِكُهَا ؟ قالَ: لا، قالَ: فاللهُ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ.

    وقدْ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى النورَ في قلبِ عبدِهِ مثلاً لا يَعْقِلُهُ إلاَّ العالِمونَ، فقالَ سبحانَهُ وتَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35]. قالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ في قلبِ المسلمِ، وهذا هوَ النورُ الذي أَوْدَعَهُ في قلبِهِ منْ معرفتِهِ وَمَحَبَّتِهِ والإيمانِ بهِ وَذِكْرِهِ، وهوَ نورُهُ الذي أَنْزَلَهُ إليهم، فَأَحْيَاهُم بهِ، وَجَعَلَهُم يمشونَ بهِ بينَ الناسِ، وَأَصْلَهُ في قلوبِهِم، ثُمَّ تَقْوَى مَادَّتُهُ، فَتَتَزَايَدُ حتَّى يَظْهَرَ على وجوهِهِم وَجَوَارِحِهِم وَأَبْدَانِهِم، بلْ وَثِيَابِهِم وَدُورِهِم، يُبْصِرُهُ مَنْ هوَ مِنْ جِنْسِهِم، وسائرُ الخلقِ لهُ مُنْكِرُونَ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ بَرَزَ ذلكَ النورُ، وَصَارَ بِأَيْمَانِهِم يَسْعَى بينَ أَيْدِيهِم في ظُلْمَةِ الجسرِ حتَّى يَقْطَعُوهُ، وهُمْ فيهِ على حَسَبِ قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ في قلوبِهِم في الدُّنيا، فمِنْهُم مَنْ نُورُهُ كالشمسِ، وآخرُ كالقمرِ، وآخرُ كالنجمِ، وآخرُ كالسراجِ، وآخرُ يُعْطَى نوراً على إبهامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ أُخْرَى، إذا كانتْ هذهِ حالَ نورِهِ في الدنيا، فَأُعْطِيَ على الجسرِ بمقدارِ ذلكَ، بلْ هوَ نفسُ نورِهِ ظَهَرَ لهُ عِياناً، ولَمَّا لمْ يَكُنْ للمُنَافِقِ نورٌ ثابتٌ في الدنيا، بلْ كانَ نورُهُ ظاهراً لا باطناً، أُعْطِيَ نُوراً ظاهراً مَآلُهُ إلى الظلمةِ والذهابِ.

    وَضَرَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لهذا النورِ، وَمَحَلِّهِ، وحاملِهِ، ومادَّتِهِ مثلاً بالمِشْكَاةِ، وهيَ الكُوَّةُ في الحائطِ، فَهِيَ مِثْلُ الصدرِ، وفي تلكَ المشكاةِ زجاجةٌ منْ أصفَى الزجاجِ، وحتَّى شُبِّهَتْ بالكوكبِ الدُّرِّيِّ في بَيَاضِهِ وصفائِهِ، وَهِيَ مثلُ القلبِ، وَشُبِّهَتْ بالزجاجةِ؛ لأنَّهَا جَمَعَتْ أوصافاً هيَ في قلبِ المؤمنِ، وهيَ: الصفاءُ، والرِّقَّةُ، والصلابةُ، فَيُرَى الحقُّ والهُدَى بِصَفَائِهِ، وَتَحْصُلُ منهُ الرأفةُ والرحمةُ والشفقةُ بِرِقَّتِهِ، وَيُجَاهِدُ أعداءَ اللهِ تَعَالَى، وَيُغْلِظُ عليهم، وَيَشْتَدُّ في الحقِّ، وَيصْلُبُ فيهِ بصلابتِهِ، ولا تُبْطِلُ صفةٌ منهُ صفةً أُخْرَى، ولا تُعَارِضُهَا، بلْ تُسَاعِدُهَا وَتُعَاضِدُهَا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمرانَ: 159]، وقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73]. وفي أثرٍ: ((القُلُوبُ آنيَةُ اللهِ تَعَالَى في أرضِهِ، فَأَحَبُّهَا إليهِ أَرَقُّهَا وَأَصْلَبُهَا وَأَصْفَاهَا))

    وبإزاءِ هذا القلبِ قَلْبَانِ مَذْمُومَانِ في طَرَفَيْ نَقِيضٍ:
    - أحدُهُمَا: قَلْبٌ حَجَرِيٌّ قَاسٍ لا رحمةَ فيهِ، ولا إحسانَ ولا بِرَّ، ولا لهُ صفاءٌ يَرَى بهِ الحقَّ، بلْ هوَ جَبَّارٌ جاهلٌ، لا عالِمٌ بالحقِّ، ولا راحمٌ بالخلقِ.
    - وبإزائِهِ قَلْبٌ ضعيفٌ مَائِيٌّ، لا قُوَّةَ فيهِ ولا استمساكَ، بلْ يَقْبَلُ كلَّ صورةٍ، وليسَ لهُ قُوَّةُ حفظِ تلكَ الصُّوَرِ، ولا قوَّةُ التأثيرِ في غيرِهِ، وكلُّ ما خَالَطَهُ أَثَّرَ فيهِ منْ قَوِيٍّ وضعيفٍ، وَطَيِّبٍ وخبيثٍ.

    وفي الزجاجةِ مِصْبَاحٌ، وهوَ النورُ الذي في الفَتِيلَةِ، وهيَ حَامِلَتُهُ، ولذلكَ النورِ مادَّةٌ، وهوَ زَيْتٌ قدْ عُصِرَ منْ زَيْتُونَةٍ في أعدلِ الأماكنِ تُصِيبُهَا الشمسُ أوَّلَ النهارِ وآخرَهُ، فَزَيْتُهَا منْ أَصْفَى الزيتِ وأبعدِهِ من الكدرِ، حتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ منْ صفائِهِ يُضِيءُ بلا نارٍ، فهذهِ مادَّةُ نورِ المصباحِ، وكذلكَ مادَّةُ نُورِ المصباحِ الذي في قَلْبِ المؤمنِ هوَ مِنْ شجرةِ الوَحْيِ التي هيَ أعظمُ الأشياءِ بَرَكَةً، وَأَبْعَدُهَا من الانحرافِ، بلْ هيَ أَوْسَطُ الأمورِ وَأَعْدَلُهَا وأفضلُهَا، لمْ تَنْحَرِف انْحِرَافَ النصرانيَّةِ، ولا انحرافَ اليهوديَّةِ، بلْ هيَ وسطٌ بينَ الطرفَيْنِ المذمومَيْنِ في كلِّ شيءٍ، فهذهِ مادَّةُ مصباحِ الإيمانِ في قلبِ المؤمنِ.

    وَلَمَّا كانَ ذلكَ الزيتُ قد اشْتَدَّ صفاؤُهُ حتَّى كادَ أنْ يُضِيءَ بنفسِهِ، ثُمَّ خَالَطَ النارَ فَاشْتَدَّتْ بها إضاءَتُهُ، وَقَوِيَتْ مادَّةُ ضوءِ النارِ بهِ، كانَ ذلكَ نُوراً على نورٍ.

    وهكذا المُؤْمِنُ قَلْبُهُ مُضِيءٌ يَكَادُ يَعْرِفُ الحقَّ بفِطْرَتِهِ وعقلِهِ، ولكنْ لا مادَّةَ لهُ منْ نفْسِهِ، فجاءَتْ مادَّةُ الوحيِ، فَبَاشَرَتْ قَلْبَهُ، وَخَالَطَتْ بَشَاشَتَهُ، فازْدَادَ نوراً بالوحيِ على نُورِهِ الذي فَطَرَهُ اللهُ تَعَالَى عليهِ، فَاجْتَمَعَ لهُ نورُ الوحيِ إلى نورِ الفطرةِ، فَصَارَ نوراً على نورٍ، فَيَكَادُ يَنْطِقُ بالحقِّ وإنْ لمْ يَسْمَعْ فيهِ أثراً، ثُمَّ يَسْمَعُ الأثرَ مطابقاً لِمَا شَهِدَتْ بهِ فطرتُهُ، فيكونُ نوراً على نورٍ. فهذا شأنُ المؤمنِ، يُدْرِكُ الحقَّ بفطرتِهِ مُجْمَلاً، ثُمَّ يَسْمَعُ الأثرَ جاءَ بهِ مُفَصَّلاً، فَيَنْشَأُ إيمانُهُ عنْ شهادةِ الوحيِ والفطرةِ.

    فَلْيَتَأَمَّل اللبيبُ هذهِ الآيَةَ العظيمةَ، وَمُطَابَقَتَهَ ا لهذهِ المعاني الشريفةِ، فَذَكَرَ سبحانَهُ وتَعَالَى نورَهُ في السَّمَاواتِ والأرضِ، ونورَهُ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ؛ النورَ المعقولَ المشهودَ بالبصائرِ، والنورَ الذي اسْتَنَارَتْ بهِ البصائرُ والقلوبُ، والنورَ المحسوسَ المشهودَ بالأبصارِ الذي اسْتَنَارَتْ بهِ أقطارُ العالمِ العلويِّ والسفليِّ، فَهُمَا نُورَانِ عَظِيمَانِ، أَحَدُهُمَا أعظمُ من الآخرِ، وكما أنَّهُ إذا فُقِدَ أَحَدُهُمَا منْ مكانٍ أوْ موضعٍ لمْ يَعِشْ فيهِ آدَمِيٌّ ولا غَيْرُهُ؛ لأنَّ الحيوانَ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ حيثُ النورُ، ومواضِعُ الظلمةِ التي لا يُشْرِقُ عليها نورٌ لا يَعِيشُ فيها حيوانٌ ولا يَتَكَوَّنُ الْبَتَّةَ، فكذلكَ أُمَّةٌ فُقِدَ فيها نورُ الوحيِ والإيمانِ، وقَلْبٌ فُقِدَ منهُ هذا النورُ مَيِّتٌ ولا بُدَّ لا حياةَ لهُ الْبَتَّةَ، كما لا حياةَ للحيوانِ في مكانٍ لا نورَ فيهِ.

    واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى يَقْرِنُ بينَ الحياةِ والنورِ، كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. وكذلكَ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وقدْ قِيلَ: إنَّ الضميرَ في " جَعَلْنَاهُ " عائِدٌ إلى الأمرِ، وقيلَ: إلى الكتابِ، وقيلَ: إلى الإيمانِ. والصوابُ أنَّهُ عائِدٌ إلى الروحِ؛ أيْ: جَعَلْنَا ذلكَ الروحَ الذي أَوْحَيْنَاهُ إليكَ نُوراً، فَسَمَّاهُ رُوحاً لِمَا يَحْصُلُ بهِ من الحياةِ، وَجَعَلَهُ نُوراً لِمَا يَحْصُلُ بهِ من الإشراقِ والإضَاءَةِ، وَهُمَا مُتَلازِمَانِ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ هذهِ الحياةُ بهذا الروحِ وُجِدَت الإضاءةُ والاستنارةُ، وحيثُ وُجِدَت الاستنارةُ والإضاءةُ وُجِدَت الحياةُ، فَمَنْ لمْ يَقْبَلْ قَلْبُهُ هذا الروحَ، فهوَ مَيِّتٌ مُظْلِمٌ، كما أنَّ مَنْ فَارَقَ بَدَنَهُ روحُ الحياةِ فهوَ هَالِكٌ مُضْمَحِلٌّ)
    [المرتبع الأسنى]

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ([اللهُ] سُبْحَانَهُ طَيِّبٌ، وكلامُهُ طَيِّبٌ، وَفِعْلُهُ كلُّهُ طَيِّبٌ، ولا يَصْدُرُ منهُ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يُضَافُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يَصْعَدُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، فالطَّيِّبَاتُ لهُ وصفاً وفعلاً وقولاً ونسبةً، وكلُّ طَيِّبٍ مُضَافٌ إليهِ، وكلُّ مُضَافٍ إليهِ طَيِّبٌ، فلهُ الكلماتُ الطيِّبَاتُ والأفعالُ الطيِّبَاتُ، وكلُّ مضافٍ إليهِ كَـ " بَيْتِهِ " و " عَبْدِهِ " و " رُوحِهِ " و " نَاقَتِهِ " و " جَنَّتِهِ "، فهيَ طَيِّبَاتٌ.
    وأيضاً فمعاني الكلماتِ الطيِّبَاتِ للهِ وحدَهُ؛ فإنَّ الكلماتِ الطَّيِّبَاتِ تَتَضَمَّنُ تَسْبِيحَهُ وتحميدَهُ وتكبيرَهُ وتمجيدَهُ والثناءَ عليهِ بآلائِهِ وأوصافِهِ، فهذهِ الكلماتُ الطيِّبَاتُ التي يُثْنَى عليهِ بها وَمَعَانِيهَا لهُ وحدَهُ لا يَشْرَكُهُ فيها غيرُهُ، كَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَنَحْوَ: سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ، ونحوَ: سُبحانَ اللهِ وبحمدِهِ سبحانَ اللهِ العظيمِ.
    فكلُّ طَيِّبٍ فَلَهُ وعندَهُ ومنهُ وإليهِ، وهوَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وهوَ إِلَهُ الطَّيِّبِينَ، وَجِيرَانُهُ في دارِ كرامتِهِ هم الطَّيِّبُونَ.
    فتَأَمَّلْ أَطْيَبَ الكلماتِ بعدَ القرآنِ كيفَ لا تَنْبَغِي إلاَّ للهِ، وهيَ: ((سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ)).
    فإنَّ (( سُبْحَانَ اللهِ )) تَتَضَمَّنُ تَنْـزِيهَهُ عنْ كلِّ نقصٍ وعَيْبٍ وسُوءٍ، وعنْ خصائصِ المخلوقِينَ وَشَبَهِهِم.
    و (( الحَمْدُ للهِ )) تَتَضَمَّنُ إثباتَ كلِّ كمالٍ لهُ قولاً وفعلاً ووصفاً على أتمِّ الوجوهِ وأكملِهَا أَزَلاً وأبداً.
    و (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) تَتَضَمَّنُ انفرادَهُ بالإِلهيَّةِ، وأنَّ كلَّ معبودٍ سواهُ فباطلٌ، وأنَّهُ وحدَهُ الإلهُ الحقُّ، وأنَّهُ مَنْ تَأَلَّهَ غيرَهُ فهوَ بمنـزلةِ مَن اتَّخَذَ بَيْتاً منْ بُيُوتِ العَنْكَبوتِ يَأْوِي إليهِ وَيَسْكُنُهُ.
    و (( اللهُ أَكْبَرُ )) تَتَضَمَّنُ أنَّهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ وَأَجَلُّ وأعظمُ وأعزُّ وَأَقْوَى وَأَقْدَرُ وأَعْلَمُ وأَحْكَمُ، فهذهِ الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ لا تَصْلُحُ هيَ وَمَعَانِيهَا إلاَّ للهِ وحدَهُ)
    (فهوَ طَيِّبٌ، وأفعالُهُ طَيِّبَةٌ، وصفاتُهُ أَطْيَبُ شَيْءٍ، وأسماؤُهُ أَطْيَبُ الأسماءِ، واسمُهُ ((الطَّيِّبُ)) لا يَصْدُرُ عنهُ إلاَّ طَيِّبٌ، ولا يَصْعَدُ إليهِ إلاَّ طيِّبٌ، ولا يَقْرُبُ منهُ إلاَّ طيِّبٌ، فكلُّهُ طيِّبٌ، وإليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطيِّبُ، وَفِعْلُهُ طيِّبٌ، والعملُ الطيِّبُ يَعْرُجُ إليهِ، فالطيِّبَاتُ كُلُّهَا لهُ، ومُضَافةٌ إليهِ، صادرةٌ عنهُ، ومُنْتَهِيَةٌ إليهِ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً)). وفي حديثِ رُقْيَةِ المريضِ الذي رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)) . ولا يُجَاوِرُهُ مِنْ عبادِهِ إلاَّ الطيِّبُونَ كما يُقَالُ لأهلِ الجنَّةِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)}[الزمر: 73].
    وقدْ حَكَّمَ سبحانَهُ شَرْعَهُ وقَدَرَهُ أنَّ الطيِّبَاتِ للطيِّبِينَ، فإذا كانَ هوَ سُبْحَانَهُ الطيِّبَ على الإطلاقِ، فالكلماتُ الطيِّبَاتُ، والأفعالُ الطيِّبَاتُ، والصِّفَاتُ الطيِّبَاتُ، والأسماءُ الطيِّبَاتُ كُلُّهَا لهُ سبحانَهُ لا يَسْتَحِقُّــهَ ا أحدٌ سِوَاهُ، بلْ ما طَابَ شَيْءٌ قَطُّ إلاَّ بِطِيبَتِهِ سبحانَهُ، فَطِيبُ كُلِّ ما سِوَاهُ منْ آثَارِ طِيبَتِهِ)
    . [المرتبع الأسنى]

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم م
    (ومِنْ أسمائِهِ الحُسْنَى (( العدلُ )) الذي كلُّ أفعالِهِ وأحكامِهِ سدادٌ وصوابٌ وحقٌّ)، ([فهوَ] العدلُ الذي لا يَجُورُ ولا يَظْلِمُ، ولا يَخَافُ عبادُهُ منهُ ظُلْماً. [و] هذا مِمَّا اتَّفَقَتْ عليهِ جميعُ الكتبِ والرُّسُلِ، وهوَ من المُحْكَمِ الذي لا يَجُوزُ أنْ تَأْتِيَ شريعةٌ بخلافِهِ، ولا يُخْبِرُ نَبِيٌّ بخلافِهِ أصلاً)
    ([قالَ] تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمرانَ: 18].
    [و] القِسْطُ: هوَ العدلُ، فَشَهِدَ اللهُ سبحانَهُ: أنَّهُ قائمٌ بالعدلِ في توحيدِهِ بالوحدانيَّةِ في عدلِهِ. و (( التوحيدُ )) و (( العدلُ )) هما جِمَاعُ صفاتِ الكمالِ: فإنَّ " التوحيدَ " يَتَضَمَّنُ تَفَرُّدَهُ سبحانَهُ بالكمالِ والجلالِ والمَجْدِ والتعظيمِ الذي لا يَنْبَغِي لأحدٍ سِوَاهُ.
    و (( العدْلَ )) يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ أفعالِهِ كُلِّهَا على السدادِ والصوابِ وموافقةِ الحكمةِ)
    ([فـ]العدْلُ يَتَضَمَّنُ وَضْعَهُ الأشياءَ مَوْضِعَهَا، وَتَنْـزِيلَهَا مَنَازِلَهَا، وأنَّهُ لمْ يَخُصَّ شيئاً منها إلاَّ بمُخَصِّصٍ اقْتَضَى ذلكَ، وأنَّهُ لا يُعَاقِبُ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ العقوبةَ، ولا يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ العطاءَ، وإنْ كانَ هوَ الذي جَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا)

    (والعدلُ منْ أوصافِهِ في فعلِهِ = ومقالِهِ والحكمُ بالميزانِ
    فعلى الصراطِ المستقيمِ إِلَهُنَا = قَوْلاً وفعلاً ذاكَ في القرآنِ)
    ([فـ]هوَ على الصراطِ المستقيمِ، وهوَ صِرَاطُ العدلِ والإحسانِ في أمرِهِ ونهْيِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ). [المرتبع الأسنى]

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    ( (( المجيدُ )) مَن اتَّصَفَ بصفاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ منْ صفاتِ الكمالِ، ولَفْظُهُ يَدُلُّ على هذا؛ فإنَّهُ مَوْضُوعٌ للسَّعَةِ والكثرةِ والزيادةِ؛ ((لأنَّ لَفْظَ " م ج د " في لُغَتِهِم يدُورُ على معنَى الاتِّسَاعِ والكثرةِ، فمنهُ قولُهُم: أَمْجَدَ النَّاقَةَ عَلَفاً؛ أيْ: أَوْسَعَهَا عَلَفاً، ومنهُ: مَجُدَ الرَّجُلُ فهوَ مَاجِدٌ إذا كَثُرَ خَيْرُهُ وإحسانُهُ إلى الناسِ، قالَ الشاعِرُ:

    أَنْتَ تَكُونُ مَاجِدٌ نَبِيل = إذا تَهُبُّ شَمْأَلٌ بَلِيلُ

    ومنهُ قولُهُم: في كلِّ شَجَرٍ نارٌ، وَاسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ؛ أيْ: كَثُرَت النَّارُ فيهما)). ومنهُ: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 15] صفةٌ للعرشِ لِسَعَتِهِ وعِظَمِهِ وشَرَفِهِ.
    وتَأَمَّلْ كيفَ جاءَ هذا الاسمُ مُقْتَرِناً بطلبِ الصلاةِ من اللهِ على رسولِهِ كما عَلَّمَنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهُ في مَقَامِ طَلَبِ المزيدِ والتَّعَرُّضِ لِسَعَةِ العطاءِ وكثرتِهِ ودوامِهِ، فَأَتَى في هذا المطلوبِ باسمٍ تَقْتَضِيهِ كما تقولُ: اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ، ولا يَحْسُنُ: إنَّكَ أنتَ السميعُ البصيرُ)

    (وهوَ المجيدُ صفاتُهُ أوصافُ تعـظيمٍ = فَشَأْنُ الوصفِ أَعْظَمُ شَانِ)

    ([فـ]المَجْدُ....مستلز م للعظمةِ والسَّعَةِ والجلالِ كما يَدُلُّ عليهِ موضوعُهُ في اللغةِ، فهوَ دالٌّ على صفاتِ العظمةِ والجلالِ) (و…التَّمْجِيدُ هوَ الثناءُ بصفاتِ العظمةِ والجلالِ)
    . [المرتبع الأسنى]

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    (منْ أسمائِهِ (( الشهيدُ )) الذي لا يَغِيبُ عنهُ شيءٌ، ولا يَعْزُبُ عنهُ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، بلْ هوَ مُطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ مُشَاهِدٌ لهُ، عليمٌ بتفاصيلِهِ... بحيثُ لا يَغِيبُ عنهُ وَجْهٌ منْ وُجُوهِ تفاصيلِهِ، ولا ذَرَّةٌ منْ ذَرَّاتِهِ بَاطِناً وظاهراً.

    وَمَنْ هذا شَأْنُهُ: كيفَ يَلِيقُ بالعبادِ أنْ يُشْرِكُوا بهِ، وأنْ يَعْبُدُوا معهُ غيرَهُ؟! وأنْ يَجْعَلُوا معهُ إلهاً آخَرَ؟! )

    ([فَهُوَ] الشاهِدُ الذي لا يَغِيبُ، ولا يَسْتَخْلِفُ أحَداً على تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، ولا يَحْتَاجُ إلى مَنْ يَرْفَعُ إليهِ حوائجَ عبادِهِ، أوْ يُعَاوِنُهُ عليها، أوْ يَسْتَعْطِفُهُ عليهم، وَيَسْتَرْحِمُه ُ لهمْ)
    . [المرتبع الأ]

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم : ( الحَسِيبُ )
    ( (( الحَسْبُ )) الكافِي)، (قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أيْ: كَافِيهِ)
    (وقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64]؛ أي: اللهُ وَحْدَهُ كَافِيكَ وَكَافِي أَتْبَاعِكَ، فلا تَحْتَاجُونَ معهُ إلى أحدٍ)

    (وهوَ الحسيبُ كفايَةً وحمايَةً = والحَسْبُ كافِي العبدِ كلَّ أَوَانِ)
    (يا مَنْ يُرِيدُ ولايَةَ الرحمنِ دُو = نَ ولايَةِ الشيطانِ والأوثانِ
    فَارِقْ جَمِيعَ الناسِ في إشرَاكِهِم = حتَّى تَنَالَ ولايَةَ الرحمنِ
    يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الخلائقَ رَحْمَةً = وكفايَةً ذُو الفضلِ والإحسانِ
    يَكْفِيكَ مَنْ لمْ تَخْلُ منْ إِحْسَانِهِ = في طرفةٍ بِتَقَلُّبِ الأجفانِ
    يَكْفِيكَ رَبٌّ لم تَزَلْ أَلْطَافُهُ = تَأْتِي إليكَ برحمةٍ وحنانِ
    يَكْفِيكَ رَبٌّ لمْ تَزَلْ في ستْرِهِ = وَيَرَاكَ حينَ تَجِيءُ بالعصيانِ
    يَكْفِيكَ رَبٌّ لم تَزَلْ في حِفْظِهِ = ووقايَةٍ منهُ مَدَى الأزمانِ
    يَكْفِيكَ رَبٌّ لم تَزَلْ في فَضْلِهِ = مُتَقَلِّباً في السرِّ والإعلانِ
    يَدْعُوهُ أهلُ الأرضِ معْ أهلِ السَّمَا = ءِ فكُلُّ يومٍ رَبُّنَا في شانِ)[المرتبع الأسنى]

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد

    قال ابن القيم
    (وهوَ القَريبُ وَقُرْبُهُ المُخْتَصُّ بِالدَّ = اعِي وَعابدِهِ عَلَى الإيمَانِ

    ([فـَ]قُرْبُ الربِّ تَعَالَى إِنَّمَا وَرَدَ خاصًّا لا عَامًّا، وهوَ نَوْعَانِ:
    - قُرْبُهُ منْ داعِيهِ بالإجابةِ.
    - ومِنْ مُطِيعِهِ بالإثابةِ.
    ولمْ يَجِئ القُرْبُ كما جَاءَت المَعِيَّةُ خَاصَّةً وعامَّةً، فليسَ في القرآنِ ولا في السُّنَّةِ أنَّ اللهَ قَرِيبٌ منْ كلِّ أحدٍ، وأنَّهُ قريبٌ من الكافرِ والفاجرِ، وإنَّمَا جاءَ خاصًّا كقولِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، فهذا قُرْبُهُ منْ داعِيهِ وسائِلِيهِ.

    وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، ولم يَقُلْ: قَرِيبةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الخبرُ عنها مُذَكَّراً:
    · إمَّا لأنَّ " فَعِيلاً " بينَهُ وبينَ " فَعُولٍ " اشْتِرَاكٌ منْ وُجُوهٍ: منها الوزنُ والعددُ والزيادةُ والمبالغةُ، وكونُ كلٍّ منهما يَكُونُ مَعْدُولاً عنْ فاعلٍ تارةً، وعنْ مفعولٍ أُخْرَى، وَمَجِيئُهُمَا صِفَتَيْنِ وَاسْمَيْنِ، و " فعولٌ " إذا كانَ مَعْدُولاً عنْ فاعلٍ اسْتَوَى مُذَكَّرُهُ ومُؤَنَّثُهُ في عدمِ إِلْحَاقِ التاءِ؛ كامرأةٍ نَؤُومٍ وَضَحُوكٍ، فَحَمَلُوا فَعِيلاً عليهِ في بعضِ المواضعِ لعقدِ الأُخُوَّةِ التي بَيْنَهُمَا.
    وإمَّا لأنَّ قريباً مَعْدُولٌ عنْ مفعولٍ في المعنَى، كَأَنَّهَا قُرِّبَتْ منهم وَأُدْنِيَتْ، وهمْ يُرَاعُونَ اللفظَ تارةً والمعنى أُخْرَى...
    وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ يكونُ " قريبٌ " خبراً عنهُ، تقديرُهُ: مكانُ رحمةِ اللهِ أوْ تَنَاوُلُهَا ونحوُ ذلكَ قريبٌ.
    وإمَّا على تقديرِ مَوْصُوفٍ محذوفٍ يكونُ " قريبٌ " صفةً لهُ، تقديرُهُ: أَمْرٌ أوْ شيءٌ قريبٌ؛ كقولِ الشاعرِ:

    قَامَتْ تُبَكَّيهِ على قَبْرِهِ = مَنْ لِيَ مِنْ بَعْدِكَ يا عَامِرُ
    تَرَكْتَنِي في الدارِ ذا غُرْبَةٍ = قدْ ذَلَّ مَنْ ليسَ لهُ نَاصِرُ

    أيْ: شَخْصاً ذا غُرْبَةٍ. وعلى هذا حَمَلَ سِيبَوَيْهِ " حَائِضاً " و " طَالِقاً " و " طَامِثاً " ونحْوَهَا.
    وإمَّا على اكتسابِ المضافِ حُكْمَ المضافِ إليهِ، نحوَ: ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابعِهِ، وَتَوَاضَعَتْ سُورُ المدينةِ وبابُهُ.
    وإمَّا مِن الاستغناءِ بأحدِ المذكورَيْنِ عن الآخرِ والدلالةِ بالمذكورِ على المحذوفِ، والأصلُ: إنَّ اللهَ قَرِيبٌ من المحسنِينَ، ورحمتَهُ قريبةٌ منهم، فيكونُ قدْ أَخْبَرَ عنْ قُرْبِ ذاتِهِ وقُرْبِ ثوابِهِ من المحسنِينَ، واكْتَفَى بالخبرِ عنْ أَحَدِهِمَا عن الآخرِ، وقريبٌ منهُ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. وَمِثْلُهُ على أحدِ الوُجُوهِ: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً} الآيَةَ [الشعراء: 4]؛ أيْ: فَذَلُّوا لها خَاضِعِينَ، فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لها خَاضِعَةً.
    وإمَّا لأنَّ القريبَ يُرَادُ بهِ شيئانِ:
    أحدُهُمَا: النَّسَبُ والقرابةُ، فهذا يُؤَنَّثُ، تقولُ: هذهِ قريبةٌ لي وقَرَابَةٌ.
    والثاني: قُرْبُ المكانِ والمنـزلةِ. وهذا يُجَرَّدُ عن التاءِ، تقولُ: جَلَسَتْ فلانةُ قَرِيباً مِنِّي. هذا في الظرفِ، ثُمَّ أَجْرَوا الصفةَ مُجْرَاهُ للأُخُوَّةِ التي بَيْنَهُمَا، حيثُ لمْ يُرَدْ بكلِّ واحدٍ منهما نَسَبٌ ولا قرابةٌ، وإنَّمَا أُرِيدَ قربُ المكانةِ والمنـزلةِ
    وإمَّا لأنَّ تأنيثَ الرحمةِ لَمَّا كانَ غيرَ حَقِيقِيٍّ سَاغَ حذفُ التاءِ منْ صفتِهِ وخبرِهِ كما سَاغَ حَذْفُهَا من الفعلِ، نحوَ: طَلَعَ الشمسُ.
    وإمَّا لأنَّ قَرِيباً مصدرٌ لا وَصْفٌ كالنقيضِ والعويلِ والوجيبِ مُجَرَّدٍ عن التاءِ؛ لأنَّكَ إذا أَخْبَرْتَ عن المُؤَنَّثِ بالمصدرِ لمْ تَلْحَقْهُ التاءُ، كما تَقُولُ: امْرَأَةٌ عَدْلٌ، وصَوْمٌ ونَوْمٌ.

    والذي عندي أنَّ الرحمةَ لَمَّا كانتْ منْ صفاتِ اللهِ تَعَالَى، وصفاتُهُ قائمةٌ بذاتِهِ، فإذا كانتْ قَرِيبَةً من المحسنينَ، فهوَ قريبٌ سبحانَهُ منهم قَطْعاً، وقدْ بَيَّنَّا أنَّهُ سبحانَهُ قريبٌ منْ أهلِ الإحسانِ، ومنْ أهلِ سُؤَالِهِ بإجابتِهِ.

    وَيُوَضِّحُ ذلكَ أنَّ الإحسانَ يَقْتَضِي قُرْبَ العبدِ منْ ربِّهِ، فَيُقَرِّبُ ربَّهُ منهُ... فإنَّهُ مَنْ تَقَرَّبَ منهُ شِبْراً يَتَقَرَّبُ منهُ ذِرَاعاً، ومَنْ تَقَرَّبَ منهُ ذِرَاعاً تَقَرَّبَ منهُ بَاعاً، فهوَ قريبٌ من المُحْسِنِينَ بذاتِهِ ورحمتِهِ قُرْباً ليسَ لهُ نظيرٌ، وهوَ معَ ذلكَ فَوْقَ سَمَاواتِهِ على عرشِهِ، كما أنَّهُ سبحانَهُ يَقْرُبُ منْ عبادِهِ في آخرِ الليلِ وهوَ فَوْقَ عرشِهِ، وَيَدْنُو منْ أهلِ عَرَفَةَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ, وهوَ على عرشِهِ، فإنَّ عُلُوَّهُ سبحانَهُ على سَمَاواتِهِ منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ قطُّ إلاَّ عَالِياً، ولا يكونُ فَوْقَهُ شيءٌ الْبَتَّةَ، كما قالَ أعلمُ الخلقِ: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)) وهوَ سبحانَهُ قريبٌ في عُلُوِّهِ، عالٍ في قُرْبِهِ، كما في الحديثِ الصحيحِ عنْ أبي مُوسَى الأشعريِّ قالَ: كُنَّا معَ رسولِ اللهِ في سَفَرٍ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بالتكبيرِ، فقالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِباً، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))

    فَأَخْبَرَ وهوَ أَعْلَمُ الخلقِ بهِ أنَّهُ أقربُ إلى أحدِهِم منْ عُنُقِ راحلتِهِ، وَأَخْبَرَ أنَّهُ فوقَ سَمَاواتِهِ على عَرْشِهِ مُطَّلِعٌ على خلقِهِ، يَرَى أَعْمَالَهُم، وَيَعْلَمُ ما في بُطُونِهِم، وهذا حَقٌّ لا يُنَاقِضُ أَحَدُهُمَا الآخرَ.

    والذي يُسَهِّلُ عليكَ فَهْمَ هذا: مَعْرِفَةُ عظمةِ الربِّ وإحاطتِهِ بخلقِهِ، وأنَّ السَّمَاواتِ السبعَ في يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ في يَدِ العبدِ، وأنَّهُ سبحانَهُ يَقْبِضُ السَّمَاواتِ بيدِهِ والأرضَ بيدِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ.
    فكيفَ يَسْتَحِيلُ في حقِّ مَنْ هذا بعضُ عَظَمَتِهِ أنْ يكونَ فوقَ عرشِهِ، وَيقْرُبَ منْ خلقِهِ كيفَ شَاءَ وهوَ على العرشِ)
    [المرتبع الأسنى]

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •