سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين ، قدس الله روحه ، عن قول بعض شراح عقيدة الشيباني ، على قول الناظم:
وخصص موسـى ربنــا بكلامــه علـى الطـور ناداه وأسمعـه النـدا
قال الشارح: خص الله موسى ، بتكليمه على الطور ، وأسمعه نداءه ، إذ لم تكن لموسى جهة يسمع منها الكلام ، ولا يرى منها النار ، أو سمع في الوادي المقدس ، كلاماً بلا حرف ولا صوت ، وناراً لا في جهة محدودة ، وإنما يعرف ذلك أهله؛ وأما غير أهله ، فلا يدري كيف ذلك .
وقال على قول الناظم ، ومنه بدا ، قولاً قديماً ، وإنه ... الخ . أي: وهو منه ، أي: من الرحمن بدا ، قولاً ، أي: قاله في القدم ، حيث لا أكوان ولا أزمان ، ويعود إليه كما بدأ منه ،

وهذه الحروف ، والأصوات ،
التي تعبر عن
القرآن ، ليس هي القرآن
، لأن القرآن صفة الحق ، والصفة لا تنفصل عن موصوفها ، والحروف ، والأصوات تتصل ، وتنفصل ، فهي صفات ، لا صفاته ، لأنه بائن ، أي: منفرد عن خلقه بذاته ، وصفاته ، وبذلك: اغتر من اغتر .
فأجاب:
ما ذكره هذا الشارح ، بناء على أصلين فاسدين ، للأشعرية ،
أحدهما: إنكار علو الرب سبحانه فوق سماواته ، واستوائه على عرشه؛
والثاني: إنكارهم تكلم الرب سبحانه وتعالى ، بالحرف ، والصوت؛ والكلام عندهم هو المعنى النفسي ، القائم بذات الرب سبحانه وتعالى؛ فلما رأى الشارح كلام المفسرين ، وقولهم: إن النار التي رأى موسى ، هي نور الرب تعالى ، وأن القرآن: يدل على أن ذلك النور في مكان ، قالوا: يلزم من كون نور الرب في مكان ، جواز كون الله سبحانه في مكان ، فيلزم: إثبات علوه سبحانه فوق السماء ، واستوائه على العرش ، فقال: لم يكن لموسى جهة يسمع منها، ولا يرى منها النار ، وسمع كلاماً بلا حرف ، ولا صوت وناراً ، لا في جهة محدودة .
قلت: القرآن صريح في أن موسى عليه السلام ، رأى ناراً في موضع معين ، قال تعالى: (فلما جاءها نودي) [ النمل: 8 ] وقال تعالى: (فلما أتاها نودي) [ طه: 11 ] فدل قـوله: (أتاها) و(جاءها) أنها في موضع مخصوص ، قال تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) [ مريم: 52 ] وقال تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطيء
الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة)
قال شيخ الإِسلام: تقي الدين رحمه الله ، وقوله: (من الشجرة) هو بدل من قوله: (شاطيء الواد الأيمن) فالشجرة كانت فيه ، فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور ، ومن الوادي ، فإن شاطىء الوادي: جانبه؛ فذكر: أن النداء كان من موضع معين ، وهو الوادي المقدس طوى ، من شاطئه الأيمن ، من جانب الطور الأيمن ، من الشجرة ، انتهى .
فالآيات: تدل على أن النور كان في موضع معين ، وأن النداء كان من موضع معين ، قال ابن عباس ، في قوله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار) قال: الله تعالى ، في النور ؛ونودي من النور؛ وروى عطية ، عن ابن عباس: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار) [ النمل: 8 ] يعني: نفسه ، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة ، ومن حولها ، وقال عكرمة: (أن بورك من في النار) قال: كان الله في نوره ، وقال سعيد بن جبير: (أن بورك من في النار) قال: ناداه وهو في النور؛ وقال ابن ضمرة: (أن بورك من في النار) قال: إنها لم تكن ناراً ، ولكنه كان نور الله ، وهو الذي كان في ذلك النور ، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله ، وقال ابن عباس ، في قوله: (ومن حولها) قال الملائكة ، وروي عن عكرمة ، والحسن ، وسعيد بن جبير وقتادة: مثل ذلك .
وقول الشارح: وإنما يعرف ذلك أهله ، لما كان قولهم هذا ظاهر البطلان ، وأنه ليس لهم حجة شرعية على صحته ، أراد التمويه بقوله ذلك ، إشارة إلى أن لقولهم هذا وجهاً صحيحاً ، ومحملاً يخفى من لم ير رأيهم ، وأما قوله: ومنه بدا ، قولاً قديماً ، وإنه ... الخ؛ فهذا ما عليه الأشاعرة ، المخالفون للكتاب ، والسنة ، وسلف الأمة؛ فقد أجمع: أهل السنة ، والجماعة ، على ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن الله يتكلم بحرف وصوت ،وأن القرآن كلام الله ، حروفه ومعانيه؛ وعند الأشعرية: أن الكلام ، هو: المعنى النفسي ، وأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت .
وقد صنف شيخ الإِسلام ، تقي الدين رحمه الله ، مصنفاً ، ذكر فيه تسعين وجهاً ، في بيان بطلان هذا القول؛ منها: أن الله سبحانه ، قال كذا؛ يقول: كذا؛ ونادى؛ وينادي؛ والقول: إنما يكون حروفاً ، والنداء إنما هو بحرف وصوت؛ وكذلك الكلام ، لا يكون إلا قولاً ، لا حديث نفس ، قال النبي : ((إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم)) فجعل الكلام ، غير حديث النفس ، وأجمع العلماء على: أن المصلي إذا تكلم في صلاته ، عالماً ، عامداً لغير مصلحتها ، أن صلاته فاسدة ، مع إجماعهم أن حديث النفس لا يبطلها؛ ففي ذلك وما أشبهه: دلالة صريحة على أن المعنى ، الذي يكون في النفس ، ليس بكلام .
وعند الأشاعرة: أن الله لم يكلم موسى ، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس ، من غير أن يسمع منه كلمة؛ وما يقرأه القارئون ، ويتلوه التالون ، فهو عبارة عن ذلك المعنى ، وأن الحروف مخلوقة .
وفي حديث: عبد الله بن أنيس المشهور: ((فيناديهم بصوت ، يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب ، أنا الملك ، أنا الديان)) الحديث؛ وقال: عبد الله بن الإِمام أحمد ، سألت أبي ، فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت ، فقال: كذبوا ، إنما يدورون على التعطيل؛ ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد المحاربي ، قال حدثني الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء .
وعند الأشاعرة: أن المعنى النفسي ، القائم بذات الرب ، الذي يسمونه كلاماً ، شيء واحد لا يتبعض: وأن معنى الأمر والنهي والخبر ، واحد؛ وأن معنى القرآن ، والتوراة ، والإِنجيل ، واحد؛ إن عبر عنه بالعربية ، فهو القرآن؛ وإن عبر عنه بالعبرانية ، فهو التوراة؛ وإن عبر عنه بالسريانية ، فهو الإِنجيل؛ فهذا مما يقطع ببطلانه .
وقول الشارح: وبذلك اغتر من اغتر ،
فقد قال الله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) (وزين لهم الشيطان أعمالهم) فنسأل الله: أن
يهدينا صراطه المستقيم [الدرر السنية فى الاجوبة النجدية - المجلد الثالث - - الاسماء والصفات]