يا لها من أسرة مكلومة!

محمود عبدالحميد خليفة



رأيته ـ على غير عادته ـ واجماً صامتاً، ترتسم على ملامحه الوضيئة، وثغره الباسم، كل معاني الحزن والكآبة، وكأن هموم الدنيا بأسرها قد أطبقت على صدره· سألته في لهفة وقلق: ما الخطب يا صديقي الحبيب؟ فتعثرت الكلمات في فمه ـ وهو اللسن الفصيح الذي اعتدته ينطق بأحسن تعبير وأروق تحبير ـ ولسان حاله يقول: إن المصيبة عظيمة والخطب جلل· فلم أزل في الإلحاح عليه حتى نطق، لكني قلت في نفسي ـ بعد ما سمعت منه ـ ليتك ما تكلمت· قال لي ـ والدمع يتقاطر من مقلتيه ـ : >صديقنا يا أخي الحبيب، ألمت به فاجعة كبيرة، لقد ضرب أخوه الأكبر أمه ضرباً مبرحاً، فلما حاول أخوته إيقافه، ورده إلى صوابه، فما كان منه إلا أن صوَّب العصا في عين أخته لتنفذ من الناحية الأخرى، ليدع كلاً من الأم والأخت تصارعان مرارة الموت· لم استطع الاستماع، ونهرت محدثي في شدة وحسرة، ولم أشعر إلا وعيناي تسبحان في بحرٍ من الدموع، وقلت في نفسي لو أني ما سمعت هذه الحادثة يقظة ومن صديق صادق، لقلت: إن ذلك ضرب من المحال، ونظم من الخيال·
إنها لنازلة حالقة، ونائبة خانقة أصيبت بها أسرة كريمة عريقة، لم يُسمع صوتها، ولم يُكفىء قدرها على مر السنين والأيام· لك الله أيتها الأسرة المسكينة، وأثابك الله أجزل الثواب، في مصابك الأليم وخطبك الوخيم، الذي تنوء منه الجبال وتعجز عن حمله الجمال·
رجعت وتساءلت في نفسي: كيف بهذا الابن الوديع، ذي السمت المطيع، والخلق الرفيع، أن يقدم على مثل هذا الصنيع، ويقترف ذلك الفعل الوضيع؟! كان الله في عون صديقنا، بل كان الله في عون الأسرة كلها، أتصبر على مصيبة الأم؟ أم على فجيعة الابنة؟ أم على هذا الابن الوديع، الذي تحوَّل في لحظات إلى وحش كاسرٍ يأكل ما حوله، ويقضي على الأخضر واليابس؟
وأنى بهذا الابن الجحفل أن يجابه مكاييل الاتهام، وأقاويل التقريع، وأحاديث القوم، بل الأدهى من ذلك والأمرُّ، كيف يوجه هذا الابن نفسه؟ وبما يبرر جريمته، ويداوي فعلته؟! حتى ولو كتب لأمه وأخته الحياة، فأين يذهب من نظرات الأم المكلومة، والأخت المنكوبة - ذات العينين الحوراوين - وقد أصبحت بعين واحدة، لتصعد العين الأخرى إلى بارئها، فتشكو إليه مرارة القدر، وجور الآخرين؟
إنها لملمة وأي ملمة، ولكنها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، في ظل مجتمع ينأى عن تعاليم الإيمان، ويخلع عنه ربقة الإسلام، ويبتعد عن توجيهات التربية الإسلامية للأبناء· فهلا نعتبر من هذه الواقعة وغيرها، فنرتمي في أحضان شرعة علوية صمدية، لا نحيد عنها أبداً؟