رمضان فضله وفوائده

سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فيا أيّها المسلمون إنه قد أظلّكم شهر عظيم مبارك؛ ألا وهو شهر رمضان، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات وتضاعف فيه الحسنات وتُقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات وترفع فيه الدرجات وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه على عباده بأنواع الكرامات، يجزل فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام. فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنّ «مَنْ صامه إيمانًا واحتسابًا غَفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه»، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر مَنْ حُرِمَ خيرها فقد حُرِم.

فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم.

وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة، منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها عن الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرّب لديه.

ومن فوائد الصوم أنه يعرّف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره إلى ربه سبحانه وتعالى، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضا بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم.

وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى: هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص لله - عزَّ وجلَّ - ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرجِ، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنَّه له وجاء»، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم وِجاء للصائم ووسيلة لطهارته وعفافه، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والصوم يضيّق تلك المجاري، ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان، ويقوي سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن وتقل به المعاصي.

وفي الصوم فوائد كثيرة غير ما تقدم تظهر للمتأمل من ذوي البصيرة، ومنها أنه يطهّر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء، وعالجوا به كثيرًا من الأمراض.

وقد ورد في فضله وفريضته آيات وأحاديث كثيرة قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ إلى أن قال عز وجل: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمسٍ؛ شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم رمضان، وحج البيت»، وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني على النار؟ قال: «لقد سألتَ عن عظيم وإنه ليسيرٌ على من يسّره الله عليه؛ تعبدُ الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17].. ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال: «رأسُ الأمر الإسلامُ، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟»، قلت: بلى يا رسول الله، قال: «كُفَّ عليك هذا»، وأشار إلى لسانه.. فقلتك: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟، فقال صلى الله عليه وسلم: «ثَكِلتْكَ أُمُّكَ يا معاذ، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتِهم».

أيها المسلمون: إن الصوم عمل صالح عظيم وثوابه جزيل ولا سيما صوم رمضان؛ فإنه الصوم الذي فرضه الله على عباده وجعله من أسباب الفوز لديه، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ عمل ابن آدم له الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله عزَّ وجلَّ: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين».

وأخرج الترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة».

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويقول لهم: «جاء شهر رمضان بالبركات، فمرحبًا به من زائر وآت».

وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: «أيُّها الناس إنه قد أظلَّكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضةً وقيام ليله تطوعًا، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن» إلى أن قال: «فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما؛ فأما خصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة ألا إله إلا الله والاستغفار، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار».

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غفر الله ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر غفر الله ما تقدَّم من ذنبه».

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يصلي ثلاثًا.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاثة عشرة ركعة، وفي بعضها أقل من ذلك. وليس في قيام رمضان حدٌّ محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن قيام الليل قال: «مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلى».

ولم يحدّد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك، فمن أحبَّ إحدى عشرة ركعة أو ثلاثة عشرة ركعةً أو ثلاثًا وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه في أغلب الليالي، وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام والقعود والركوع والسجود، وترتيل التلاوة وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليها بالقلب والخشوع فيها، وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة وحضور قلبٍ كما قال الله سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة»، وقال للذي أساء في صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»، وكثير من الناس يصلي قيام رمضان صلاة لا يعقلها، ولا يطمئن فيها، بل ينقرها نقرًا، وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته»، قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟، قال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها»، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.

فيا معشر المسلمين عظِّموا الصلاة وأدُّوها كما شرع الله، واغتنموا هذا الشهر العظيم وعظموه، رحمكم الله بأنواع العبادة والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات، فهو شهر عظيم جعله الله ميدانًا لعباده يتسابقون فيه بالطاعات ويتنافسون في أنواع الخيرات، فأكثروا فيه - رحمكم الله - من الصلاة والصدقات وقراءة القرآن الكريم والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فاقتدوا به صلى الله عليه وسلم في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم، واحفظوا صيامكم عمَّا حرَّمه الله عليكم من الأوزار والآثام، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ لم يدع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدعَ طعامَه وشرابَه»، وقال عليه الصلاة والسلام: «الصيام جُنَّةٌ فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفثْ ولا يفسق فإن امرأ سابه أحدٌ فليقل: إني امرؤ صائم».

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الصيام من الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث».

وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنَّ إذا اجتنبتِ الكبائر».

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: «إذا صمتَ فليصم سمعُك وبصرُك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء».

فينبغي للصائم الإكثار من تلاوة القرآن بتدبر وتعقل، والإكثار من الصلوات والصدقات والاستغفار وسائر أنواع القربات في الليل والنهار، اغتناما للزمان ورغبة في مضاعفة الحسنات، ومرضاة فاطر الأرض والسموات، واحذروا - رحمكم الله - كل ما ينقص الصوم، ويُضْعِفُ الأجر، ويغضب الرب عزَّ وجلَّ من سائر المعاصي؛ كالتهاون بالصلاة، والبخل بالزكاة، وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والدعاوي الباطلة، والأيمان الكاذبة، وحلق اللحى وتقصيرها وإطالة الشوارب، والتكبر وإسبال الثياب، واستماع الأغاني وآلات الملاهي، وتبرج النساء وعدم تسترهن من الرجال والتشبه بنساء الكفرة في لباس الثياب القصيرة، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله، وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان، ولكنها في رمضان أشد تحريمًا وأعظم إثمًا لفضل الزمان وحرمته، ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التثاقل عن الصلوات والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد، ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق ومن أسباب الزيغ والهلاك قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمِعَ النداءَ فلم يُجب فلا صلاةَ له إلَّا من عذرٍ»، وقال له -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ أعمى: يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تسمع؟»، قال: نعم. قال: «أجب»، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - وهو من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: لقد رأيتنا وما يتخلَّف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، وقال رضي الله عنه: لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم»، والتهاون بالصلاة في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية، وذلك كفر بالله - سبحانه - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».

ومن أخطر المعاصي اليوم أيضا ما بلي به الكثير من الناس من استماع الأغاني وآلات الطرب وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدّها عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به. ومن أعظم الأسباب أيضًا في عقوبة صاحبه بمرض النفاق والضلال عن الهدى كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6]. وقد فسّر أهل العلم لهو الحديث بأنه الغناء وآلات اللهو، وكلُّ كلام يصد عن الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلون الحرَّ والحريرَ والخمرَ والمعازفَ»، والحِرُّ: هو الفرج الحرام، والحرير معروف، والخمر هو كل مُسكرٍ، والمعازف هي آلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب، والمعنى: أنه يكون في آخر الزمان قومٌ يستحلّون الزِّنا ولباس الحرير وشراب المسكرات واستعمال آلات الملاهي، وقد وقع ذلك كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الغناء ينبتُ النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع.

فاتقوا الله أيُّها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه ورسوله، واستقيموا على طاعته في رمضان وتواصوا بذلك، وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة. والله المسؤول أن يعصمنا والمسلمين من أسباب غضبه، وأن يتقبل منَّا جميعًا صيامنا وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه، ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم والتحاكم إليه في كل شيء. إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.


المصدر: «مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية»، العدد: 2، رجب 1388هـ