المتحولة

إيمان القدوسي



في بداية زواجنا اخترت أن أكون فراشه، كنت أرف حوله بأجنحتي الشفيفة فتتداخل ألوانها بفعل الاهتزاز وتنساب رومانسيتها·
من موقعي كفراشة كانت حاجاتي شديدة البساطة، كنت أنظر إليه فأراه مهيباً رائعاً، لم أكن أكفُّ عن التحليق من سمائي الصافية فأرى الوجود خضرة زاهية ونسيماً عليلاً وزهوراً فواحة·
كنت أمتص رحيق كل هذا الجمال كي أصنع له منه قطرة شهد يرتشفها على عجل، وبينما أدور حوله وتهتز أجنحتي بشدة لترطب له حرارة الجو لطمني بيده غاضباً (كفِّي عن الاهتزاز إنه يصيبني بالدوار) جفلت ولولا ذلك لسحقني، سكنت أجنحتي وغامت سمائي وأشحت بوجهي عن زهوري، كرهت رهافة الفراشة ورقتها، جمالها وحده لا يكفي، قررت أن أصبح طائراً مغرداً، فبالإضافة لجماله فإنه أقوى احتمالاً كما أن له صوتاً يعبر به عن نفسه فيشجي السامع بألحانه وغنائه، من المهم أن نقول لمن نحب ذلك بصوت واضح، وخصوصاً إذا كان ذلك الصوت عذباً شجياً·
انبهر بجمال الريش الملون وكبرياء الحركة عندما يضم الطائر جناحيه ويرفع رأسه عالياً، أما الصوت فقد سحرته أنغامه·
أردت أن أمنحه بهجة رعاية الصغار والاستمتاع بشقشقتهم وتأمل زغبهم وهو يتحول ريشاً، أضناني احتضان البيض حتى جاءت لحظة ميلاد الحياة في العش، أنصت لصوت معاناة كسر جدار البيض الرقيق، وعبر صغاري بوابة الحياة فتلقفتهم أحضاني تدفئهم، كانت سعادته لا توصف·
أضاء حبنا المشترك لهم جنبات العش، كنا نتبارى معاً في رعايتهم وإطعامهم عندما يفتح الصغار أفواههم، كنا نملأها بعصارة أكبادنا· اهتز العش عندما أنفجر صارخاً لقد ضقت ذرعاً بأصواتكم لم يعد غناءنا يطربه، ملَّ ضجيج الصغار أثناء تحول زغبهم ريشاً، أوحت لي أمومتي أن أصبح قطة أقفز فوق كل حواجز العجز وعوائق الخوف وأنا أحمل صغاري حتى أصل بهم إلى بر الأمان· القطة شكلها لطيف، مواءها الخافت يصبح مخيفاً وإذا لزم الأمر فللقطة مخالب تستطيع الهجوم بها وليس الدفاع فقط·
لا ترهق القطة نفسها بالبحث عن الجمال والحب، إنها تألف المكان وتتمسك به، تدافع عن حقها في الحياة وتتكيف مع ظروفها وإن كانت وسط وحوش الغابه، فهي تنتمي لعائلة النمور·
لم يعد الزهو يملؤني بتشبهي بالنمور ففي الحقيقة مازالت الفراشة تحت جلدي وصوتي مازال مغرداً، أثخنت جسدي الجراح وأثقلت روحي مكابدة صراع الغابات·
ولما كنت أحتاج إلى أن أحتمي خلف درع صلد فلم أجد بداً من أن أتحول إلى طورى الأخير سلحفاه·
عندما تشرق الشمس وتصفو لي الحياة أخرج رأسي الذي اعتاد أن يتلفت حذراً وأسير الهوينا مستمتعة بكل شيء بصورة أعمق، مستخدمة كل حواس أطواري السابقة فأرى الكون بديعاً والحياة مثقلة بأسرارها مترعة بمتعها الخالصة، صرت أستكشفها وأجلوها بحكمة عمر السلحفاه، فإذا تغير المشهد وهبت أعاصير الغضب أسرعت للاحتماء داخل صدفتي الخاصة إلى حين·
أما هو فصار رفيقي الذي نتفاهم سوياً لمجرد مرور الهواء بيننا، وصار الصغار كباراً فحلَّقوا بعيداً بعد أن قويت أجنحتهم·