فقه عمر بن الخطاب في التحرز من المخاوف


محمد محمود


تناولنا في مقال سابق شيئا من فقه عمر رضي الله عنه والآن يذكرنا “كورونا” بشيء من فقهه يتعلق بقضية الإيمان بالقضاء والقدر. تلك القضية التي زلت فيها أقدام، وارتكست فيها أفهام، وتخطبت فيها طوائف، وطاشت فيها عن الصواب عقول. ولم يهتد فيها إلى الرشد إلا من أوتي بصيرة ونورا من ربه، ومن أولئك أبو حفص عمر رضي الله عنه.
طاشتْ عنِ القصد رَمْيَاتُ الفحول سِوَى* سَهْمَيْكَ قدْ قَرَعَا أعْشَارَهُ العَشَرَهْ [1]
فعمر رضي الله عنه هو المحدث الملهم جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي عنهما أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغٍ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فاستشار عمر من معه من المهاجرين والأنصار فاختلفوا، فقال: بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. ثم دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلف عليه منهم رجلان؛ فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الناس: إنَّي مُصَبِّحٌ على ظَهْرٍ، فأَصْبحُوا عليه، قال أبو عبيدة ابن الجراحِ: أفِراراً من قَدَر الله؟
فقال عُمرُ: لو غيرك قالها يا أبا عُبيدةَ! نعم، نَفِرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر اللهِ، أَرأَيْتَ لو كان لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وادياً له عُدْوَتانِ، إحداهما خَصِبةٌ، والأخرى جدْبَةٌ، أَليسَ إن رعَيْتَ الخَصِبَةَ رَعيتها بقدرِ الله، وإن رعيتَ الجَدْبَةَ رعيتها بقدرِ الله؟.[2]
فانصرف عمر راجعا بمن معه من الصحابة والمسلمين فارا من قدر الله إلى قدر الله كما قال وقد كان ذلك بِمحضر جُمْهُور الْمُهَاجِرين الْأَنْصَار فأقروه على ذَلِك من غير إِنْكَار.
ومعنى الفرار من قدر الله إلى قدره كما قال القرطبي: أَيْ لَا مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّحَرُّزِ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْمُهْلِكَات ِ وَبِاسْتِفْرَاغ ِ الْوُسْعِ فِي التَّوَقِّي مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ .[3]
والآيات تقرر هذا المعنى وهو أن المرء إنما يفر من قدر الله إلى قدر الله، قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ] البقرة، الآية:243.
وقال: [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] الجمعة الآية: 8.
فقد أراد الحق لهم أن يعرفوا أن أحداً لا يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله، وتقرير ذلك يجعل الإنسان في تسليم مطلق بكل جوارحه لله. صحيح أن للإنسان أن يحتاط، ولكن القدر الذي يريده الله سوف ينفذ، فالمؤمن يأخذ بالأسباب، ويسلم أمره إلى الله”.[4]
قضية الأخذ بالأسباب لا تنافي الإيمان بالقضاء والقدر ولا التوكل على الله، فالتوكل محله القلب والأخذ بالأسباب محله الجوارح فموردهما مختلف
وقد قال الأعرابي في رثاء ابنه لما خرج هاربا من الطاعون فلدغته أفعى في طريقه فمات. وقد فر من قدر إلى قدر الله:
طافَ يبغي نجـوةً … من هلاكٍ فهلكْ
ليتَ شِعري ضلةً! … أيُّ شيء قتلكْ؟
والمنايا رصـــــدٌ … للفتى حيثُ سلكْ
كلُّ شيءٍ قاتـــــلٌ … حين تلقى أجلكْ
فالمصائب وما شرع من أسباب مقاومتها، كلها منه سبحانه بقدره، والإنسان مأمور بأن يعالج ويقاوم، فرارا من قدر الله إلى قدره. كما قال عمر رضي الله عنه وفي الحقيقة كان الفرار من شر في مخلوق إلى الله يرجو منه الخير في غيره.[5]
وعمر هنا في قوله: نفر من قدر الله إلى قدر الله، يستند إلى أصل قطعي، وهو أن الأسباب من قدر الله، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة، وأن الجميع بقدر الله، وفي الشريعة من هذا كثير جدا، وفي اعتبار السلف له نقل كثير.[6]
ولعمر رضي الله عنه مواقف في مسألة القدر حاسمة تبين عمق فقهه، وغزارة علمه، وجودة رأيه.
ومنها موقفه مع الغلام الذي سرق وأراد أن يتحذلق، فقال لعمر رضي الله عنه لما أراد أن يقيم عليه الحد: ” سرقت بقضاء الله وقدره، فقال له عمر: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره”. قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية: وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله.[7]
إذا قضية الأخذ بالأسباب لا تنافي الإيمان بالقضاء والقدر ولا التوكل على الله، فالتوكل محله القلب والأخذ بالأسباب محله الجوارح فموردهما مختلف وقد قَالَ رَجُلٌ لِلنَبِي -صلى الله عليه وسلم-: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟. قَالَ: “اعْقِلْهَا وَتَوَكَلْ”.[8]
وقال عمر رضي الله عنه:” الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ».[9]
الإنسان يأخذ بالكيس، ويسعى في الأسباب المباحة، ويتوكل على الله بعد سعيه، لأن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب.

[1] – هذا البيت للشاعر الشنقطي سيدي عبد الله ولد أحمد دَام الحسني، وأصله هكذا: طاشتْ عنِ القلْبِ رَمْيَاتُ الحِسَانِ سِوَى*

سَهْمَيْكِ قدْ قَرَعَا أعْشَارَهُ العَشَرَهْ” وهو من أبيات يخاطب بها زوجته.

[2] – القصة في الصحيحين البخاري ح رقم: 5729، ومسلم ح رقم: 2219.

[3] – تفسير القرطبي 3/333.

[4] – تفسير الشعراوي 2/1037.

[5] – تفسير ابن باديس ص362.

[6] – الموافقات للشاطبي 3/194.

[7] – منهاج السنة النبوية 3/334.

[8] – رواه الترمذي 2517 وحسنه الألباني.

[9] – التوكل على الله لابن أبي الدنيا ص50.