تمهيد:


فن المقامات فن أدبي رفيع ابتكره بديع الزمان الهمذاني رحمه الله [1]، و قد تبعه في هذا الفن الجميل القاسم الحريري رحمه الله من المتقدمين [2] و ناصيف اليازجي من المتأخرين [3] و غيرهم.


تعريف المقامة: قصة قصيرة مسجوعة، تشتمل على عظة أو مُلحة، كان الأدباء يظهرون فيها براعتَهم [4].


و قد أردت أن أضرب في فن المقامات بسهم عملاً بقول بديع الزمان الهمذاني رحمه الله في المقامة العراقية: (بأي العلوم تتحلى؟ فقال: لي في كل كنانة سهم) [1].


و الآن أشارككم بمقامتي الأولى التي أنشرها و التي سميتها: (مقامة داء فيروس كورونا).


مقامة داء فيروس كورونا


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ذي الملك و الملكوت، ذي الكبرياء و العظمة و الجبروت، عليه توكلت فإنه الحي الذي لا يموت، أحاط بكل شيء علماً فما يعزب عنه شيء و لا يفوت، القاهر فوق عباده من له أشرف النعوت، أسبغ علينا نعمه من الطعام و الشراب و اللباس و البيوت، أمرنا بالاستعداد للرحيل و التزود لليوم الموقوت.


و الصلاة و السلام على سيد الأنام، رسول الله محمد بدر التمام، من أوتي جوامع الكلام، و على آله و صحبه أشرف الأقوام، أولي العلم و الأفهام، و السيوف و الأقلام، و من تبعهم من أولي الأحلام، ما تعاقبت السنون و الأيام.


أما بعد:


فقد حدث عبد الواحد بن عبد القهار قال:


دخلت الكرة الأرضية، في القرن الخامس عشر لهجرة رسول الله و خاتم النبيين محمد سيد البرية، عليه أزكى صلاة و سلام و تحية.
و كان ذلك في القرن الحادي و العشرين لميلاد المسيح عيسى بن مريم، عبد الله و نبيه و رسوله عليه الصلاة و السلام ما أضاء الجَيْلَم، و تموج العَيْلَم.


فوجدت المساجد أمام عُمّارها أقفلت، و الأسواق من زوارها أقفرت، و الأندية من روادها خَلَت ، و البيوت لساكنيها حَلَت، و الطرق خاوية، و التجمعات ذاوية، و المستشفيات بالمرضى تغص، و الموت يعم و لا يخص.


فذهبت إلى بيت صديقي عبد القدوس، لأجتني من علمه الدروس، فقرعت بابه، راجياً جوابه.


فقال: من الطارق؟ إن كنت غريباً ففارق.
فقلت: أنا صديقك الصادق، و أنيسك الوامق.
أنا عبد الواحد بن عبد القهار، أخوك في العزيز الغفار.
فقال: أهلاً و سهلاً و مرحبا، لا أجد منك مهربا.
تفضل و لكن لا مساس، و عقم جسدك و اللباس.
فأصابني شيء من الوسواس، و قلت له راجياً كشف الالتباس:
ما الخطب؟ هل أنتم في حرب؟ لماذا يمنع القرب؟
فقال: اسكت فقد عظم الكرب، و تضعضع الشرق و الغرب، و لا يكشف ما بنا إلا الله الرب.


و بعدما جلست و أدى واجب ضيافة القهوة و الشاي، و شاركني بكلمة سر الواي فاي، نبأني بالحال، و نطق فقال:


لقد ظهر داء جديد يسمى داء فيروس كورونا، لم نسمع بمثله قرونا، أضحت بيوتنا سجونا، و جافى النوم جفونا، و صار الضجيج سكونا، و الوسواس فنونا، و الاحتكاك بالناس جنونا.


إنه فيروس لا يرى بالعين، جلب الحَيْن، و فرق ذات البَيْن.
إنه فيروس عَصِيّ، يدرك الداني و القَصِيّ، و الذكي و الغبي.
إنه فيروس لا يفرق بين الصغير و الكبير، و الغني و الفقير، و المأمور و الأمير.
لقد قلب حسابات الرؤساء و الملوك، و تأثرت منه البنوك، و صار النهار في حلوك.
لقد خنعت وزارات الدفاع، و لم تغن الحصون و لا القلاع، و لا الأنصار و لا الأشياع.
لقد عجز الطب و الطبيب، و فارق المحب الحبيب، و استوى القريب و الغريب.
لقد عبر الحدود، و قتل الجدود، و سالت منه الدموع على الخدود.
لقد عُطلت المطارات، و تعرقلت الإدارات، و أفلست التجارات.
لقد خسرت البلاد، و خاف العباد، و ضعف الشداد.
لقد أرعب الشباب، و فرق الصحاب، و سبب الخراب.
لقد خار الكبار، و ولوا الأدبار، ولات حين فرار.
لقد كسدت الأسواق، و سالت الآماق، و ضاقت الآفاق.
لقد ركد الاقتصاد، و حرم الاحتشاد، و وجب الابتعاد.
لقد بارت البيوع، و تفرقت الجموع، و شاع الهلوع.
لقد حارت العلوم، و ذهلت الفهوم، و أقبلت الهموم.


فقلت:
سبحان الله الواحد القهار، مقدر الأقدار، و مدبر الأمور و مصرف الأطوار.
سبحان الله من تفرد بالخلق و الأمر، و بيده وحده النفع و الضر، و يبلو عباده بالخير و الشر.
سبحان الله من هزم الجيوش، و زلزل العروش، بفيروس صغير أفتك من القروش، و أضرى من الوحوش، حتى كثرت بسببه النعوش.


يا عبد القدوس، عجباً كيف سبب هذا الفيروس، أضراراً كحرب ضروس، حتى غدا أعظم من حرب البسوس.
يا عبد القدوس، كيف نحفظ النفوس، و نقيها من داء هذا الفيروس؟ فإن حب السلامة في النفوس مغروس.


فقال: خذ بالأسباب، و توكل على رب الأرباب.


و من الأسباب النظافة فإنها حصافة.
فاغسل يديك كثيرا، و لو كنت وزيرا.
و من الأسباب الانعزال في البيت، قبل أن تقول يا ليت.
فالتزم بحظر التجول، و اثبت و قلل التحول.
و لا تخرج إلا لأمر ضروري، و حاذر مساس أي كائن بشري.
و اترك مسافة أمان، بينك و بين أي إنسان.
و لا تنس الكِمَامة، فلا شيء يعدل السلامة.


و من أعظم الأسباب الدعاء، فإنه خير وقاء.


و الدعاء للوقاية من داء فيروس كورونا قسمان: عام بالتلميح، و خاص بالتصريح.


أما الدعاء العام بالتلميح، مثل دعاء النبي الفصيح، عليه الصلاة و السلام ملء الكون الفسيح:


اللهم إني أعوذ بك من البرص و الجنون و الجذام و من سيء الأسقام.


اللهم إني أسألك اليقين و العفو و العافية في الدنيا و الآخرة.


اللهم احفظني بالإسلام قائماً، و احفظني بالإسلام قاعداً، و احفظني بالإسلام راقداً، و لا تشمت بي عدواً و لا حاسداً، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، و أعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك.


اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدنيا و الآخرة، اللهم إني أسألك العفو و العافية في ديني و دنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي. (مرة في الصباح و مرة في المساء).


أما الدعاء الخاص بالتصريح، مثل القول المليح:


اللهم إني أعوذ بك من داء فيروس كورونا.
اللهم قني داء فيروس كورونا.
اللهم اصرف عني داء فيروس كورونا.
اللهم احفظني من داء فيروس كورونا.


فقلت له: لا فض فوك، و نعم الرجل أبوك.


و الآن ائذن لي بالانصراف، فأنتم في سنين عجاف، لم يعهد مثلهن الأسلاف.


فقال: قبل الانصراف، هل من إتحاف؟
أنشدني من قريضك قصيدة، ألذ من عصيدة.


فقلت:


تبارك الله المليك القاهرُ *** فوق العباد و الإله الفاطرُ
إن الوباء للعبيد زاجر *** إذ قد تمادى ذو فساد فاجر
الموت حق لا مناص زائر *** إلى المعاد كل عبد سائر
قلب التقي بالمتاب عامر *** أما الشقي في الدياجي سادر
إن اللبيب للحبيب ذاكر *** سبحانه منه النوال غامر
يا رب أنت للخطايا ساتر *** أنت الرؤوف للذنوب غافر
أنت الكريم و العطاء وافر *** فارحم فإن العفو منك باهر
على الجميع إن ربي قادر *** إن شاء ربي لا يضير ضائر
هيا توكل فالتقي ظافر *** في أخذ أسباب النجاة ماهر
إن القضاء لا يُرد ظاهر *** عند البلاء فالحكيم صابر


ثم انصرفت متعجباً من هذا الوباء، و كيف تطاير البشر أمامه كالهباء.
سبحان الله له في خلقه شؤون، و إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.


سبحان ربك رب العزة عما يصفون، و سلام على المرسلين، و الحمد لله رب العالمين.


معاني الكلمات [4]:


مسجوعة: فيها كَلاَمٍ مَنْثُورٍ مُقَفّىً، لَهُ فَوَاصِلُ.
مُلحة: نُكْتَةُ، كلمة ظريفة تُرَوِّح عن النَّفس.
الملكوت: العزُّ و السلطان و العظمة، مِلْكُ الله خاصة.
الجبروت: القهر.
يعزب: يبعد و يغيب.
النعوت: الصفات.
أسبغ: أفاض، أتم، أكمل.
الموقوت: المحدد المعين.
الجَيْلَم: القمر.
تموج: تَمَوَّجَ البَحْرُ : تَوَالَتْ أمْوَاجُهُ، مَاجَتْ، اِضْطَرَبَتْ، هَاجَتْ.
العَيْلَم: البحر.
أقفرت: خلت.
خاوية: خالية مما كان فيها.
ذاوية: ذابلة و ضعيفة.
تغص: غصَّ المكانُ بالنَّاسِ: امتلأ بهم و ضاق عليهم.
أجتني: أقطف و أجني و ألتقط.
الوامق: المحب.
مساس: لمس أو مس.
تضعضع: هُزِم وتشتَّت، تبدَّدت قُواه، اضطرب، تشوَّش، تردّى، أَصَابَهُ الضُّعْفُ وَالوَهَنُ.
جافى: هجر و أعرض عن.
الحَيْن: المحنة، الهلاك.
ذات البَيْن: القَرابَةُ، النَّسَبُ.
عَصِيّ: خارج من الطاعة، شديد البأس.
الداني: القريب.
القَصِيّ: البعيد.
حلوك: اشتداد السواد.
خنعت: خضعت و ذلت.
الأشياع: الأتباع أو الفرق و الجماعات.
عُطلت: خُليت و تُركت.
الشداد: الأقوياء.
خار: ضعُف و انكسر، فتر، وَهَى.
ولات حين: ليس الوقت وقت.
الآماق: مجاري الدمع.
الهلوع: الجزع، الخوف خوفاً شديداً.
الأطوار: الضروب و الأحوال المختلفة.
أفتك: أشد فتكاً.
أضرى: أشد ضراوة أي عنفاً و شراسة.
النعوش: جمع نعش: سريرٌ يُحمَل عليه المريضُ أَو الميِّت.
حَرْبٌ ضَرُوسٌ: حَرْبٌ طاحِنَةٌ شَدِيدَةٌ، مُهْلِكَةٌ.
الأرباب: المالكون.
حصافة: جودة الرأي و إحكام العقل.
الكِمَامة: ما يُوضع على الفم والأنف اتّقاء الغازات السّامّة و نحوها.
وقاء: وقاية.
لا فض فوك: لاَ نُثِرَتْ أَسْنَانُكَ وَ لاَ فُرِّقَتْ.
عجاف: هَزِيلَةٌ، نَحِيفَةٌ.
قريضك: شِعرك.
عصيدة: طحين يلت بالسمن و يطبخ.
الفاطر: اسم من أسماء الله الحسنى، و معناه: الخالق المُوجد المُبدع على غير مثال سابق.
المتاب: المرجع و التوبة.
الدياجي: الظلمات.
سادر: تائه، متحير.
ضائر: ذو ضرر.
ظافر: منتصر، فائز.
الهباء: ما تطاير في البيت وتراه في ضوء الشَّمس شبيهًا بالدُّخان، ويُضرب به المثل لما لا يُعتدّ به.


المصادر:


[1] مقامات بديع الزمان الهمذاني - تقديم و شرح الإمام محمد عبده.
[2] مقامات الحريري.
[3] مجمع البحرين - ناصيف اليازجي.
[4] قاموس المعاني - ( www.almaany.com ).