تربية الأولاد كما يراها القرآن
فضل الرحمن جلال الدين
4- العدل بين الأولاد: حتى تسلم الأسرة من الغيرة والحسد والعقوق: قال - تعالى -: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)[يوسف: 8-9]. فلا نظن أن يعقوب - عليه السلام - لم يعدل بين أبنائه، ولكن حب بعض الولد عن البعض الآخر فطرة لا يستطيع أن يقاومها الأب لأسباب مختلفة، وهذا الذي حصل مع يعقوب - عليه السلام -، والتمس أبناؤه حبه الزائد ليوسف وأخيه بنيامين فوقع في قلوبهم الحسد تجاه الأخوين.
فينبغي للأب أن يكتم الحب الزائد لبعض أولاده، ولتكن معاملته الظاهرة سواء بين أبنائه، إذا أراد أن ينتزع داء الحسد من بينهم، وأن يزرع المحبة والألفة تجاه بعضهم البعض، وبذلك تسلم أسرته من الغيرة والحسد والعقوق.
5- ضرورة اللعب للأطفال: فاللعب ضرورة تربوية، ولم يسمح يعقوب - عليه السلام - ابنه يوسف بالخروج مع إخوانه إلا لهذا الغرض كما قال - تعالى -: (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[يوسف: 11-12].
ومن هنا نرى أهمية لعب الصغير، فهو المجال الذي يبني فيه جسمه، ويمتع به روحه، ويغذي به نفسه فهو خير كله، وهو مطلب نبوي كذلك.
أما لقمان - عليه السلام - فقد قص الله علينا من وصاياه لابنه التي فيها توجيهات تربوية عظيمة في شتى مجالات الحياة، وهي كما يلي:
1- التحذير من الإشراك: فهذا أول ما بدأ به لقمان في وصيته لابنه كما قال - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13].
فينبغي للأب أن يربي أولاده على التوحيد والتحذير من الشرك. قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: "ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل الإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدهرية والإشراك، فكان قوله: (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته"[10].
2- الأمر ببر الوالدين: وهذا يستفاد من قوله - تعالى -: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 14-15]. فالأولاد إذا فهموا أهمية بر الوالدين ثم أطاعوهما، ستكون التربية ناجحة إن شاء الله.
3- الشكر لله: هذا يؤخذ من نفس الآية السابقة من قوله "أن اشكر لي". والتربية على الشكر مهمة، لأن الذي لا يشكر الله، لا يقتنع بشيء من الأمور، وتكون حياته مليئة بالهموم والغموم.
4- مراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور: يدل عليه قوله - تعالى -: (يا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 16]. كما يستفاد من هذه الآية الإيمان بالغيب.
5- إقامة الصلاة: كما قال - تعالى -: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور)[لقمان: 17]. يقول ابن عاشور: انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان، والصلاة عماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح[11].
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا منصوص عليه في الآية المذكورة آنفاً، قال ابن عاشور: وشمل الأمر بالمعروف الإتيان بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهي عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك. والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الأمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم. فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخير وبثه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه[12].
ويقول الشعراوي: إنما من الإيمان ومن كمال الإيمان أنْ تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فيقول له: (وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر..)[لقمان: 17] فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلاة، بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبالصلاة كَمُلْتَ في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير، وفي ذلك كمال الإيمان. وأنت حين تأمر بالمعروف، وحين تنهى عن المنكر لا تظن أنك تتصدَّق على الآخرين، إنما تؤدي عملاً يعود نفعه عليك، فبه تجد سعة الراحة في الإيمان، وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛ لأنك أديْتَ التكاليف في حين قصرَّ غيرك وتخاذل.
ولا شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج الله راحة لك أنت أيضاً، وإلا فالمجتمع كله يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج الله[13].
7- الصبر: يقول لقمان لابنه: (اصبر على ما أصابك) كما في الآية السابقة. والتربية على الصبر أمر عظيم، يقول ابن عاشور: ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه. ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يجران للقائم بهما معاداة من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما. ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عد الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)[لقمان: 18] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر[14].
8- التحذير من الكبر والعجب: فمن وصايا لقمان لابنه اجتناب الكبر والعجب، كما قال - تعالى -: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[لقمان: 18]. يعلم لقمان ابنه الآداب في معاملة الناس فينهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم.
9- الأمر بالقصد في المشي والكلام: وهذا من سمات المتواضعين، قال - تعالى -: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير)[لقمان: 19].
يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: بعد أن بين له آداب حسن المعاملة مع الناس قفاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
والقصد: الوسط العدل بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال: قصد في مشيه. فمعنى (اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) ارتكب القصد [15].
فهذه وصايا عظيمة وتوجيهات تربوية غالية من الأب لأبنه، ينبغي لكل أب أن يحفظها ويربي أولاده عليها.
وهناك آيات أخرى في تربية الأولاد مثل قصة زكريا مع مريم - عليهما السلام -، وقصة أم موسى مع موسى وغير ذلك تركتها خشية الطول.
خاتمة
وفي ختام هذا البحث ألخص الأمور التي يراها القرآن في تربية الأولاد، والتي ذكرتها في هذا البحث، وهذه الأمور التربوية هي كنتائج لهذا البحث، وتلك الأمور هي:
• التوحيد، والتحذير من الإشراك، والأمر ببر الوالدين، والشكر لله، ومراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، والتحذير من الكبر والعجب، والأمر بالقصد في المشي والكلام، وتقوية العلاقة بين الأب والابن، والأخذ بالحيطة والحذر من كيد الأعداء، وتوجيهات الأب في بناء مستقبل أولاده، والعدل بين الأولاد، وضرورة اللعب للأطفال.
لو طبق كل أب هذه الأمور في تربية أولاده بعد كونه قد دعا الله أن يرزقه ولداً صالحاً وذرية طيبة، ستكون تربيته ناجحة بإذن الله، وليس للإنسان أن يهدي من أحبب ولكن الله يهدي من يشاء، فقد لا تنجح التربية، وهذا قليل كما حصل مع نوح - عليه السلام - عندما خاطب ابنه: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هود: 42-43].
وأخيراً: أدعو الله - عز وجل - أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل أولادنا صالحين، عاملين بالكتاب والسنة، وأن يهدي الآباء الذين يهملون في تربية أولادهم أو يربون أولادهم على منهج الكفار والغرب-آمين-. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ ـــــ
المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي (ت: 256ھ). تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. الناشر: دار ابن كثير، اليمامة بيروت. الطبعة الثالثة، 1407 1987. عدد الأجزاء: 6.
3- صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري (ت: 261ھ) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت. عدد الأجزاء: 5.
4- المفردات في غريب القرآن: الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني أبو القاسم (ت: 502 هـ). تحقيق: صفوان عدنان داودى. الناشر: دار العلم الدار الشامية. مكان الطبع: دمشق ـ بيروت. سنة الطبع: 1412 هـ.
5- جامع البيان في تأويل القرآن: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ). تحقيق: أحمد محمد شاكر. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م. عدد الأجزاء: 24.
6- تفسير ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي(ت: 774 هـ). تحقيق: سامي بن محمد سلامة. الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع. الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999 م. عدد الأجزاء: 8.
7- عالم التنزيل: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 510هـ). تحقيق وتخريج: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش. الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الرابعة، 1417 هـ عدد الأجزاء: 8..
8- التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور(ت: 1393هـ). الناشر: مؤسسة التاريخ العربي، بيروت لبنان. الطبعة: الأولى 1420هـ/2000م.
9- تفسير البيضاوي: أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي(ت: 675ھ). الناشر: دار الفكر بيروت. عدد الأجزاء: 5.
10- تفسير الشعراوي: محمد متولي الشعراوي (ت: 1418هـ) الناشر: المكتبة الشاملة, النسخة المكية.
11- تحفة المودود بأحكام المولود: محمد بن أبي بكر أبو عبد الله ابن قيم الجوزية(ت: 751). تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط. الناشر: مكتبة دار البيان دمشق. الطبعة الأولى، 1391 1971، عدد الأجزاء: 1.
12- إحياء علوم الدين: محمد بن محمد الغزالي أبو حامد (ت: 505ھ). الناشر: دار المعرفة بيروت. عدد الأجزاء: 4.
13- أصول التربية الوقائية للطفولة: دكتور حسين با نبيلة. الناشر: مكتبة الرشد، ناشرون. الطبعة: الأولى 2009م.
14- تربية الأطفال في رحاب الإسلام في البيت والروضة: محمد حامد الناصر و خولة عبد القادر درويش. الناشر: مكتبة السوادي بجدة. الطبعة: الثانية 1412هـ
______________
[1] مفردات القرآن ـ للراغب (1 / 336).
[2] تفسير البيضاوي (1 / 51).
[3] تفسير ابن كثير(3/443).
[4] تفسير ابن كثير (1 / 464).
[5] أصول التربية الوقائية للطفولة للدكتور حسين با نبيلة ص 15-16، وتربية الأطفال لمحمد حامد الناصر ص 25.
[6] صحيح البخاري: كتاب-48، باب-20، حديث-2278. صحيح مسلم: كتاب-33، باب-5، حديث-1829.
[7] إحياء علوم الدين(3/72)
[8] تفسير البغوي - (6 / 99)
[9] تحفة المودود بأحكام المولود(1/242)
[10] التحرير والتنوير - (21 / 101)
[11] التحرير والتنوير - (21 / 109)
[12] المصدر السابق، نفس الصفحة.
[13] تفسير الشعراوي - (1 / 7276)
[14] التحرير والتنوير - (21 / 109)
[15] المصدر السابق (21/111)