محمد الفاتح (السلطان الصغير)


خليل محمود الصمادي





نحن الآن في عام 835 من الهجرة المباركة، وتحديدًا في ليلةِ السابعِ والعشْرينَ منْ شهرِ رجبٍ وفي بلاد أسيا الصغرى القريبة من العاصمة البيزنطية التي أعيت الفاتحين، وكان لهذهِ الليلةِ وقع خاص في قصر السلطانِ مرادٍ، السلطان العثماني الشهير، فقد ولد له مولودٌ جميلٌ ففرحَ بهِ وأسماهُ (محمدًا) تيمنًا بخاتم الأنبياءِ والمرسلينَ.

ترعرع الطفل الصغير بين والديهِ، يحبو هنا وهناك لا يبالي بما يدور حوله، أحبه كلُّ من بالقصرِ لحَركاتِهِ الجَميلةِ التي زادَتْه غُنْجًا وَدلالا.

لمْ يكنْ محمدٌ الابنَ الوحيدَ للسلطان مراد، لكنه كان يميل لهُ أكثر من غيره لأنَّ النجابةَ والفطنةَ بدتْ على الصَّغيرِ منذُ نعومةِ أظفارهِ.

لمْ ينسَ مرادٌ محمدًا من رعايته واهتمامهِ، أحضرَ لهُ المؤدبينَ والعلماءَ لمواصلةِ تعليمه، وكانَ منَ العلماءِ الذينَ أحاطوا التِّلميذَ بالرعايةِ والاهتمامِ شيخ جليل اسْمهُ (الشَّيخُ شَمْسُ الدِّينِ).

لَقَدْ رَأَى الشَّيخُ (شمسُ الدينِ) في محمدٍ صِفَاتٍ قلَّ وجُود مِثْلها عنْدَ أَقْرانِهِ، فَقَدْ حَفِظَ محَمْدٌ القرآنَ الكريمَ وَهُوَ صَغيرٌ كَمَا تعلَّمَ اللغاتِ العدِيدةَ فِي مدةٍ قصيرةٍ وَلمَّا بدأَ الشَّيخُ تعليمَ تلميذِهِ الحَدِيثَ الشَّريفَ وَجَدَهُ يتقنُ حِفْظه بسرعةٍ ويقفُ على كثيرٍ مِنْها مُسْتفْسِرًا وَمناقِشًا لما أُغْلِقَ عليْهِ فهْمهُ.

ذَاتَ يَومٍ وجدَ الشيخُ شمسُ الدينِ ضَالتَهُ في حديثٍ شَريفٍ فَأحبَّ أنْ يَلْفِتَ نَظَرَ تلْميذِهِ النجيبِ لَهُ دُونَ أَنْ يُشْعِرَهُ بِمَقصِدِهِ!!

فَتَحَ الشَّيْخُ كتابَ الحدِيثِ وَأَخَذَ يَقْرَأُ الأحاديثَ الشَّريفةَ، وَلكنْ دُونَ أَنْ يبْدي اهتمامًا لأيٍّ منْها، قالَ الشَّيْخُ: اسْمَعْ يا محمدُ، قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم(الجَنَّةُ تَحْتَ ظِلالِ السُّيوفِ))، وَقَالَ: ((عَيْنانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عينٌ بَكَتْ منْ خَشْيةِ الله وَعَيْنٌ بَاتتْ تَحْرسُ في سَبيلِ الله))، وَقالَ: ((لَتُفْتَحَنَّ القسْطَنْطينيةُ ، فَنِعْمَ الجَيْشُ جَيْشُهَا، وَنِعْمَ الأميرُ أَميرُها))، وَقَالَ أيْضًا...
- لَوْ سَمَحْتَ يَا أستاذُ شمسُ أَعِدِ الحَدِيثَ الأخِيرَ مَرَّةً أُخرَى.
- سَأعِيدهَا كلَّها.
- لا لوْ سَمحتَ الحَديثَ الأخيرَ فَقَط، فَالأحاديثُ السَّابقةُ أَعْرِفُها وأَحْفظُها عنْ ظَهْرِ قلبٍ.
- حُبًّا وَكَرامةً.

وَأَخَذَ الشَّيخُ يقرَأُ الحَديث الذِي قَصَدَهُ، ثُمَّ أَخَذَ يَشْرحُهُ بِإسهابٍ، وَالطالبُ النَّجيبُ يُصْغي بِاهتمامٍ، وَكلَّمَا تَظََاهَرَ الشَّيخُ بالانتهاءِ مِنَ الشَّرحِ كَانَ محمَّدٌ يَقُولُ: زِدْني يا شَيخِي زِدْني، بَاركَ اللهُ فيكَ، وأَخَذَ يسْتفسِرُ عنِ القسْطَنْطينيةِ وَأحوالها وتاريخِها ومَنْ مِنَ الصَّحابةِ حَاصَرها، كانَ الشَّيْخُ يَردُّ على أسْئلتهِ وهُوُ في غايةِ الفرحِ والسُّرورِ، لقدْ وصلَ إلى ما يرمي إليهِ.

أَخَذَ محمَّدٌ يُفَكِّرُ في أمْرِ هذا الحَديثِ الشَّريفِ، ومرَّت أيامٌ وأسابيعُ ومحمدٌ لا ينفك يجمعُ المعلوماتِ عن القسطنطينيةِ فعلمَ الكثيرَ عنْها، وكم كانتْ سعادته غامرة عندما علمَ أنَّ جيش والده يحاصرها منذُ مدَّة من الزمن، فكم تمنى أن ينتصرَ جَيشُ السلطانِ مرادٍ وتُفْتَحَ على يديْهِ فَيَكُون أبوهُ وجيشُهُ هُما المقصُودَينِ بالحَديثِ الشَّريفِ!!

ومرتِ الأيامُ والشهورُ ولم تغب القُسْطنطينية عن تفكير التلميذِ محمدٍ يومًا واحدًا، وكم كان حزينًا لأنها لم تفتحْ بَعْدُ، وتعاقبت السنونَ ومَا زالتِ الجيوشُ تُحَاصِرها، فالمدينةُ محصنةٌ منْ كلِّ جانبٍ، منيعة على غُزاتها منذ مئات السنين.

بلغَ محمَّدٌ اثْنَيْ عشرَ عامًا مِنْ عمرهِ، لقدْ أنْهى علومه الدينية، أَمَرَهُ أبُوهُ أَنْ يَتوجَّهَ إلى ميادينِ الفروسِيةِ وساحاتِ التدريبِ، وهُناكَ بَرَعَ في الرمايةِ والفروسيةِ ولمْ يمضِ وقتٌ قصيرٌ حتَّى صَدَرَ الأمرُ السلطانيُّ بتعيينهِ واليًا على مُقاطعةٍ كبيرةٍ في البلادِ!!

هَلْ يستطيعُ الغلامُ الصغيرُ إدارةَ هذهِ المقاطعةِ الكبيرةِ بما فيها منْ مدنٍ وقرًى عديدةٍ؟

كانَ السلطانُ مرادٌ يَعرفُ قَدْرَ ابْنِهِ الكبيرَ، وبالرغْمِ منْ ثقتهِ بِهِ، إلا أنَّه كانَ يَسْألُ عَنْهُ، فقدْ كانَ يسألُ العلماءَ والمدرسِينَ والمسْتَشارينَ وغيرهم عما وصل إليه الغلام..

لمْ تمضِ سَنواتٌ قليلةٌ حتَّى بَرْهَنَ الغلامُ الصَّغيرُ على قُدرتِهِ في إدارةِ البلادِ، وَمواجهةِ الصِّعابِ، وتذليلِ العَقباتِ، فَمَا كَانَ مِنْ والدِهِ إلا أَنْ رَقَّاهُ لمهمةٍ أكبر، فصدَرَ الأمرُ السلطانيُّ بتعيينهِ وَاليًا عَلى مِنْطقةٍ أكبرَ مِنَ الأولى.

لمْ تشْغلِ الأعمالُ الكَثيرةُ الوالِي الصغيرَ عنْ طلَبِ العلمِ أو مجالسةِ العلماءِ، فقدْ كانَ دائمَ الاتصالِ بِشيوخه؛ يُراسِلهم، ويَسْتشيرهم في كُلِّ ما يهمُّ أمْر البلادِ وسرعانَ ما كَانوا يَردونَ عَلى رَسَائِلِهِ، وَلا سيَّما الشيخُ شَمْسُ الدينِ الّذي كَانَ يُذَكِّرهُ فِي كلِّ رسالةٍ بِحديثِ "لتفتحنَّ القسطنطينية...... ".

ذَاتَ يومٍ دَخَلَ الحَاجِبُ إلى مقرِّ الأميرِ يخْبرهُ بوصولِ رسالةٍ مُهِمَةٍ منَ سلطان البلادِ مراد، فَتَحَ محمدٌ الرِّسالةَ، وقرأهَا، فبدَتْ عليهِ علاماتُ الحَيْرةِ والدَّهشةِ، وفي الحَالِ طَلَبَ منْ حُجَّابِهِ أنْ يهيِّئوا المَوكِبَ عَلى عَجَلٍ، فالأمرُ خطيرٌ ولا بدَّ من الانطلاقِ في أسْرعِ وقْتٍ إلى أَدْرنَةَ عاصمةِ البلادِ حيثُ السُّلطانُ والوزراءُ والأعْيانُ..

فَكَّرَ محمدٌ فِي نَفْسهِ: مَا الذي دَعَا السُّلطان لاتخاذِ هَذَا القرارِ؟

لمَاذا يَأْمرنِي بالحُضورِ حَالا إلى أدرنَةَ؟!!

هَلْ حَصَلَ مكْروهٌ لوالدي؟ هَلْ أصَابَهُ شيءٌ مما لا تُحمَدْ عواقبُهُ؟ هَلِ اكْتشفَ السُّلطانُ مؤَامرةً خطيرةً ضدّ الدولةِ؟

أسئلةٌ كثيرةٌ أَخذَتْ تُقْلقُ الفَتَى مُحَمَّدًا وهُوَ ينتَظِرُ الانْتِهاءَ منْ إعدادِ الموْكبِ.

- سيدي الأميرَ:الموكبُ مهيَّأ، ولكن ما رأيكَ أن ننطلقَ بعدَ صلاةِ الفجرِ؟

- لا يا أيُّها الوزيرُ، سننطلقُ في الحالِ.

لمْ يبِتْ لَيلَتهُ، رَكِبَ فَرَسهُ معَ وزيرهِ وثُلةٍ مِنْ حُرَّاسِهِ، أَخَذَ يَقْطَعُ الْفَيافِيَ وَالقِفَارَ وَهُوَ في ضَيقٍ شَديدٍ يريدُ أنْ يصلَ إلى أدرنةَ في أسْرَعِ وقتٍ، فالعاصمةُ بعيدةٌ بعيدةٌ، كانَ يحثُّ أصحابَهُ على المَسِيرِ، فقدْ كانَ يختصرُ النومَ والاسْتراحَةَ منْ أجلِ الوصولِ بسرعةٍ.

بَعْدَ أيامٍ كانَ على أبْوابِ أَدْرنةَ ليلا، لمْ يَصْبِرْ على الانتظارِ حتَّى بزوغِ الفجرِ، انْطَلَقَ إلى مقرِّ القيادةِ، وَطَلَبَ مُقابلةَ السُّلطانِ، نصحهُ الحراسُ بالانتظارِ حتى يخرجَ السلطانُ لصلاةِ الفجرِ، ولما اطمأنَّ على والدهِ منَ الحراسِ بدتْ علاماتُ الرضَا في وجهِهِ فانطلقَ معَ موكبهِ إلى أحدِ القصُورِ كي يرتاحَ قَليلاً إلى أنْ يسمعَ صوتَ المؤذنِ.

لمْ يصطبرْ كثيرًا، تركَ وزيرهُ ومرافقيهِ يغطونَ في النومِ وانطلقَ إلى مسجدِ القَصْرِ منتظرًا الصلاةَ ورؤيةَ والدِهِ،وأخيرًا نادى المؤذنُ" اللهُ أكْبَرُ... اللهُ أكْبَرُ " فَرِحَ محمدٌ وذهبَ إلى المَوْضئِ وَتَوَضَّأَ وَصَلى رَكْعتينِ وما أنِ انتهى منْ صلاتهِ حتى أبصرَ والدَهُ السلطانَ بِرفقةِ الشَّيخِ شمسِ الدينِ ولمَّا رَأَى أبَاهُ وشيْخَهُ بخيْرٍ حَمِدَ اللهَ على سلامتهُمَا، فَخَرَّ على الأَرضِ سَاجدًا، ثمَّ أَقْبَلَ عَلى والدِهِ مسَلِّمًا وَمُعانقًا، ثُمَّ اسْتدارَ إلى شيخِهِ مُسلِّمًا وَمُعانقًا أيضًا.

لمْ يصبرْ محمدٌ كثيرًا فَسرعانَ مَا سألَ والدَهُ:
- مَا الخَطْبُ يَا أبي؟ مَا الذي دَعَاكَ لطلب حضوري حالا؟
- أَمْرٌ مُهِمٌّ يا بُنَيَّ!

- مَا هُوَ يَا أبِي؟
- على رِسْلِكَ يا محمدُ، اجْلِسْ وَخُذْ قسطًا منَ الَّراحة، فآثارُ السفرِ بادِيةٌ عَليْكَ، فَفي الصَّباحِ نَتكلَّمُ بهدوء.

- وَلِمَ الانتظارُ يَا أَبِي؟ أرْجُوكَ أنْ تَتَحَدَّثَ الآنَ فأنا في حَيْرةِ منْ أمري منذُ أنْ وصلتْني رسالتكَ!!.
- اسْتَدَارَ السُّلطانُ إِلى الشيخِ شمسِ الدينِ وَطلبَ مِنْهُ أنْ يَتَكلمَ.

- اسْمَعْ يا بنيَّ, والِدُكَ تَعِبَ مِنْ إدَارةِ شؤونِ البلادِ، يرِيدُ أنْ يَرْتاحَ قَليلاً، فَارْتأَى بعدَ المشاورةِ أنْ يُسَلمكَ مقاليدَ الأمورِ!!
- يُسلمنِي مقاليدَ الأمورِ وأُصبحُ سلطانًا للبلادِ، وَهُوَ عَلى قيدِ الحياةِ !! لا لا، لنْ أقْبَلَ بهذا، وإنْ كانَ السلطانُ يريدُ حقًّا أنْ يتنحى عن المُلكِ فَهناكَ منْ هو أحقُّ منِّي بهذا المنصبِ من إخْوتي.

- لمْ أجدْ فِي أَوْلادِي مَنْ هُوَ أَكفأُ مِنْكَ..... فَأَنْتَ الذي تَسْتَحِقُّ هَذا المنصبَ دون سواكَ منْ أبنائي وقد شاورتهمْ في ذلكَ فلمْ يعترضْ أحدٌ، بل باركوا هذا الرأيَ.
- لا يَا أبِي فَأَنَا صَغِيرٌ، وَعمري أَرْبعَةَ عَشَرَ عَامًا، وَلَسْتُ أَهْلاً لِهذِهِ المهمةِ الخطيرةِ.

- انْتهى الكلامُ يا محمدُ، والواجبُ عليكَ الانصياعُ لأوامرِ السُّلطانِ؛لأنّ َ طاعَةَ وَلِيِّ الأمْرِ وَاجبةٌ، أليسَ كلامِي صَحِيحًا يا شيخُ شمسَ الدينِ؟
- بَلَى يَا سُلْطانَ البِلادِ.

حَاوَلَ محمدٌ الاعتذارَ والتَّنصلَ منْ هذهِ المهمةِ التي فُوجِئ بِها، والتي لم تكُنْ فِي حِسبانه أبدًا وأخيرًا لمْ يجدْ مَفَرًّا مِمَّا أُمِرَ بِه فانْصاعَ للأوامرِ السلطانِيةِ المؤيدةِ بِفَتْوى شَرْعيةٍ مِنْ شَيْخِهِ شمسِ الدينِ!!

وَدَّعَ مرادٌ ابنَهُ محمدًا وأمَرَه أنْ يذهبَ للنومِ حتى يستطيعَ أنْ يُبَاشرَ عَمَلَهُ منذُ صباحِ هذا اليومِ!!

أَخَذَ السلطانُ الصَّغيرُ يديرُ شؤونَ السَّلطنةِ بمساعدةِ الوزراءِ والعلماءِ والشيوخِ ولا سيَّما الشيخُ شمس ُالدينِ الذي قرَّبهُ مِنْ مَجلسهِ وأصبحَ مرجعهُ في الأمورِ الدينيةِ.

وسارتْ أمورُ الدولةِ على خيرٍ وسلام، ولما اطمأنَّ السلطانُ السابقُ على كفاءةِ ابنه غادر أدرنة متوجهًا إلى قصرٍ بعيدٍ عنِ العاصمةِ طلبًا للراحة والاستجمامِ. ولم ينسَ السلطانُ أنْ يزينَ صدرَ مجْلِسهِ بالحَديثِ الشريفِ " لتفتحنَّ القسطنطينيةُ، فنعْمَ الجيشُ جيشُهَا، وَنعمَ الأميرُ أَميرُها" ولكن هيهات القسطنطينية وفتحها فالسلطان الصغير غارق في إدارة شؤون البلاد، ولم يرضَ كثيرًا عن أخبار الجيشِ الذي يحاصر القسطنطينية.

بَعْدَ عامٍ منْ تولِّي محمدٍ أمرَ السلطنةِ، فكَّرَ فِي أمرٍ شغلَ بالَهُ كثيرًا، ما الأمرُ الذي شغلَ بالَهُ؟

كَتَبَ رِسالةً يدعُو والدَه للحضورِ على عجلٍ إلَى مقرِّ السلطنةِ، بَعد عدةِ أيامٍ كانَ السلطانُ السابقُ يجلسُ في مجلسِ السلطانِ الجديدِ ولمَّا عَلِمَ محمدٌ بمثولِ أبيهِ تَرَكَ جميعَ أعْمالِهِ وانْطلقَ يسْتقبلُهُ، فقَدْ خَشِيَ أنْ يكونَ قدْ أساءَ الأدبَ معَ والدِهِ، فأخَذَ يُبدي اعْتذارَه ُ لتَكْليفِهِ مشقةَ السفرِ.
- مَا الخَطْبُ يَا سلطانَ البلادِ؟ ما الذي جَعَلَكَ تستَدْعيني على عَجَلٍ؟
- أَمْرٌ في غايةِ الأهميةِ يا أبتِ.

- مَا هُوَ يا محمدُ؟
- انْتظرْ حتَّى يحضرَ الشيخُ شمسُ الدِّينِ.

بَعْدَ لَحظاتٍ دَخَلَ الشَّيخُ شمسُ الدِّينِ فسَلَّم على السلطانِ السابقِ سلامًا يليق بهِ، كما سلَّمَ على محمدٍ، عنْدهَا قَال مُرادٌ: تفضلْ يا سلطانَ البلادِ قلْ ما عندَكَ.
- أُريدُ أنْ أسَلِّمَكَ مَقاليدَ البلادِ يا أبي!!
- ماذا تَقُولُ يا محمدُ، وَهل تسْليمُ مقاليد السلطنةِ أصْبَحَ لعبةً محببةً؟

- لا يا أبي فأنْتَ أكفأُ منِّي، لقد جربْتُ هذا الأمرَ عامًا كامِلا ولمْ أستطعْ أنْ أديرَ البلادَ كَمَا كانتْ في عهدكَ.
- لا يا بنيَّ وهلْ تظنُّ أنني غافلٌ عمَّا يحدثُ في كلِّ أرجاءِ البلادِ؟ أنتَ خيْرُ مَنْ يقومُ بهذهِ المهمةِ.

- لا يا أبِي أنْتَ لهَا، أنْتَ مَنْ دانتْ لهُ الأقاليمُ والأصقاعُ العديدةُ.
- أعتذرُ يا بنيَّ، ولا تحاولْ فتحَ الموضوعِ مرةً أخْرى.

- ليْسَ ما تريدُ يا أبي، لنْ تستطيعَ أنْ تتهربَ منْ هذهِ المسؤوليةِ!!
- مَاذا تَقول يا محمدُ؟
- الذي سمعْته يا أبِي!!
- مَاذا تقصْدُ؟
أَلستُ أنا سلطانَ البلادِ؟
- بَلى.
- وَمَا حُكمُ طاعةِ وليِّ أمرِ المسلمينَ يا شيخُ شمسَ الدِّينِ؟
- وَاجبةٌ يا مولاي.

- أَسمعْتَ يا أبي؟ إنَّ سلطانَ البلادِ يأْمركَ أنْ تَتَولَّى أُمورَ البلادِ حالا، وإلا اعْتبرتُكَ مُمتنعًا عنْ تنفيذِ أوامرِ السلطانِ!! فَما تقولُ يَا والدِي؟
لمْ يستطعْ مرادٌ أنْ يجيبَ هذهِ المرة والذي أَجَابَ هُوَ الشيخُ شمسُ الدينِ إذْ قال: طاعةُ وليِّ أمر المسلمينَ واجبةٌ، وَعَلى مرادٍ أنْ يَنْصاعَ لأوامرِ السلطانِ في الحالِ!!

- أَسَمِعْتَ فتَوى شيخِ الإسلامِ يا أبي؟
- نَعَمْ سَمعْتُها.
- وَهَلْ عنْدَكَ اعتراضٌ؟
- لا يَا بنيَّ.

- وَهَلْ يَأْذنُ السُّلطانُ لِي بالانصرافِ؟
- إلى أينَ يَا محمدُ.
- إلى جَبَهاتِ القتالِ، حيثُ البُطولة والجِهَاد.

وَيخرجُ محمدٌ منْ مجْلسِ السلطانِ بعْدَ أنْ كانَ قبلَ قليلٍ سلطانَ البلادِ، ويتولَّى قيادةَ الجيوشِ التي تُحاصِرُ القسطنطينيةَ وَيعدُّ العدةَ، ويَبْني القلاعَ والحصونَ وينشئُ المدافعَ الكبيرةَ، وفِي هذهِ الأثناءِ يتولَّى محمدٌ السلطنةَ رَغْمَ أنْفهِ.

جاءَ خبرُ نعيِّ السلطانِ مرادٍ، حَزِنَ محمدٌ على أبيهِ كثيرًا، وفِي اليَوْمِ نفسِهِ أصْبحَ سلطانَ البلادِ، فَمَنْ للبلادِ إلا محَمَّدٌ؟ لمْ يتركْ قيادةَ الجيوشِ المحاصرةِ للقسطنطينيةِ، بَلْ وَضَعَ الخططَ الذَّكيةَ لفتحِهَا إذْ أحْضَرَ مئات الألْواحِ الخَشبيةِ وطَلاهَا بالشَّحمِ، ومدَّها إلى الطرفِ الآمنِ منَ القرنِ الذهبيِّ، وفِي جنحِ الظلامِ أمرَ جنودَهُ بنقلِ عشراتِ السُّفنِ إلى الطَّرفِ الآخرِ مِن الخليجِ، ولمْ يفكرِ البيزنطيون يومًا بأنَّ سفينةً ما سَتعْبُرُ الخليجَ مِنْ هذا الجانبِ، لَقَدْ جنَّ جنونُ المدافعينَ عنِ القسطنطينيةِ لمَّا رأَوا السفنَ الإسلاميةَ حولَهم، والمدافعُ العملاقةُ تدكُّ أسوار القسطنطينيةِ من الجانبِ الآخرِ، ماذا يفعلون؟ اضطربتْ قوَّاتُهمْ وزُلْزلتْ معنوياتهمْ، وتمَّ اقتحامُ الأسوارِ العاليةِ المنيعةِ، وَبَعْدَ معركةٍ طويلةٍ استحقَّ محمدٌ لقبَ فاتح القسطنطينيةِ واستحقَّ مدحَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفِي غمْرةِ الفرحةِ العظيمةِ، لم ينسَ الفاتحُ شيخَهُ شمسَ الدينِ إذْ طلبَ منهُ أنْ يرافقَهُ في دخولِ "كنيسةِ آيا صوفيا" والصَّلاةِ فيْها شكرًا لله على هذا الفضلِ الكبيرِ.