عدالة الشهود عند الفقهاء 1/2
د. أفنان بنت محمد تلمساني
عدالـــة الشهـود عند الفقـهاء
المقدمـــــــــ ـــة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد.
خلق الله الإنسان مدنياً بطبعه يختلط بالآخرين ويعيش معهم وتنشأ بينه وبينهم مصالح مشتركة فيتعامل مع غيره بالمعاملات المختلفة من بيع وشراء وإجارة وشراكة، ونكاح وطلاق.
وهذه المعاملات التي تنشأ بين الإنسان وغيره تلبية لاحتياجاته ومتطلباته المختلفة قد تنشأ عن بعضها الخصومات والاختلافات، بل والاعتداءات، فيلجأ الإنسان إلىٰ القضاء ليفصل هذه الخصومات والمنازعات. وهذا الفصل في شريعة الإسلام لا يكون إلا بالْبَيِّنَةِ المزكاة؛ لقوله صلىٰ الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ عَلَىٰ مَنْ اْدَّعَىٰ، وَالْيَمِينَ عَلَىٰ ال*ْمُدَّعَىٰ عَلَيْهِ»([1]).
وتعتبر «الشهادة» من أهم وسائل إظهار البينة بين الناس، فقد قال الله تعالىٰ في كتابه العزيز: (وَاسْتَشْهِدُو شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282]. وقال تعالىٰ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2]. ومما يدل علىٰ أهمية الشهادة في الفصل والحكم في الشرع الإسلامي ما جاء في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) [يوسف: 26]. ومن هنا كان إسهاب الفقهاء في الحديث عن الشهادة وإفرادهم لها فصولاً كاملة بعنوان: «كتاب الشهادات» أو «القضاء والشهادات»([2]).
ولما كانت الشهادة تقوم في أساسها علىٰ الشاهد، وجدنا الفقهاء يشترطون في الشاهد شروطاً كثيرة، لعل من أهمها وأبرزها شرط العدالة. ونحن في هذا البحث سنتعرض لهذا الشرط بشيء من التفصيل حتىٰ نتبين معنىٰ العدالة التي اشترطها الفقهاء في الشاهد، وعلة اشتراطها ودليله، وما هي صفات العدل الذي ينطبق عليه وصف العدالة؟
وقد اقتضت خطة البحث تقسيمه إلىٰ مبحثين، وخاتمة.
المبحث الأول: في التعريف بالشهادة، وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: تعريف الشهادة، لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: مشروعية الشهادة، وحكمها.
المطلب الثالث: شروط الشهادة.
المبحث الثاني: في التعريف بالعدالة، وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: تعريف العدالة لغة واصطلاحاً، وتندرج تحته المسائل التالية:
المسألة الأولىٰ: تعريف الكبيرة.
المسألة الثانية: تعريف الصغيرة.
المسألة الثالثة: تعريف المروءة.
المطلب الثاني: الحكمة من اشتراط العدالة، وأدلة اعتبارها.
المطلب الثالث: هل يكتفىٰ بظاهرها أم يتعين تقصيها.
الخاتمة: وتضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
الدراسات السابقة:
لم أقف فيما اطلعت عليه من أبحاث ودراسات علىٰ بحث أفرد مسألة عدالة الشهود عند الفقهاء بدراسة وافية، وجُلّ الدراسات التي اطلعتُ عليها إما أنها تتكلم عن الشهادة بشكل عام، ومن ضمن ذلك الحديث عن العدالة، وقد لا تستوفي الحديث عنها بشكل كافي، أو كتب تتكلم عن العدالة عند الأصوليين أو المحدثين.
ومن الدراسات السابقة التي تكلمت عن أحكام الشهادة بشكل عام رسالة مقدمة إلىٰ جامعة أم القرىٰ عام ثمانية وتسعين وثلاثمائة وألف (1398هـ) من الدكتور محمد عثمان المنيعي بعنوان: (أحكام الشهادات في الفقه الإسلامي) ورسائل أخرىٰ مشابهة.
وكذا وجدتُ أبحاثاً تتكلم عن موانع الشهادة في الفقه الإسلامي ومن ذلك ما كتبه الدكتور/ عبدالرحمن محمد محمد عبدالقادر، بعنوان: (موانع الشهادة في الفقه الإسلامي)، وما كتبه الباحث/ سعد بن محمد المهنا، بعنوان: (موانع قبول الشهادة)([3])، ورسالة ماجستير تقدَّم بها الباحث/ أيمن بن سالم الحربي لجامعة أم القرىٰ، بعنوان: (موانع الشهادة في الفقه الإسلامي – دراسة فقهية مقارنة) عام اثنين وعشرين وأربعمائة وألف (1422هـ)، وكل هذه الرسائل والأبحاث قد لا تتعرض للحديث عن العدالة في الشهود بشكل كافي؛ لكونها تتكلم عن الموانع لا الشروط وبينهما فرق كما سنشير إلىٰ ذلك لاحقاً.
كما اطلعتُ علىٰ رسالة بعنوان: (عدالة الرواة والشهود وتطبيقاتها في الحياة المعاصرة)، وهي عبارة عن رسالة قدَّمها الباحث لنيل درجة الدكتوراه سنة 1994/1995م من جامعة القاهرة، والباحث هو/ المرتضىٰ بن زيد بن زيد بن علي المحطوري، إلا أن الباحث تأثر فيها بمذهبه الزيدي([4])، حيث أنزل جام غضبه ونقده لعلماء أهل السنة حين رفضوا الأخذ بمرويات الشيعة في بعض القضايا، والرسالة وإن كانت مفيدة في جوانب كثيرة منها، إلا أن عليها ملحوظات كبيرة فيما يتعلق بتحفظ السلف علىٰ مرويات الشيعة وشهاداتهم.
كما أنني وقفت علىٰ بحث للدكتور/ أحمد بن محمد العنقري، نُشر في مجلة العدل في العدد السابع عشر بعنوان: (العدالة عند الأصوليين)، وقد تكلم فيه عن العدالة في علم أصول الفقه، والأبواب التي يُبحث فيها موضوع العدالة في هذا العلم .
كما اطلعتُ علىٰ رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين قسم الحديث وعلومه بجامعة الأزهر تتحدث عن العدالة والضبط وأثرهما في قبول الأحاديث أو ردها للباحث الدكتور/ جنيد أشرف إقبال أحمد.
ولا يخفىٰ الفرق بين الشهادة عند الفقهاء والرواية عند المحدثين، وقد ذكر السيوطي([5]) في كتابه «تدريب الراوي» واحداً وعشرين فرقاً بين الرواية والشهادة([6]).
ولذا جاء هذا البحث ليكمل سلسلة البحوث في موضوع العدالة في الشريعة بأسلوب موجز ومختصر، يعطي قواعد عامة في هذا الجانب ليسهل علىٰ القارئ استيعاب معنىٰ العدالة في الشهود وما يعتبر لها.
المبحث الأول
التعريف بالشهادة
المطلب الأول: تعريف الشهادة لغة واصطلاحاً:
الشهادة في اللغة:
جاء في مقاييس اللغة: «الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُ علىٰ حُضُورٍ وَعِلْمٍ وإِعْلَامٍ، لا يخرج شيءٌ من فروعِهِ عن الذي ذكرناه. من ذلك الشهادة، يجْمَعُ الأصُولَ التي ذكرناها من الحُضُورِ، والعِلْمِ، والإِعْلَامِ، يُقَالُ: شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَةً. كما يُقالُ: شَهِدَ فُلانٌ عند القاضي، إذا بيَّن وأعلَمَ ل*مَنْ الحق وعلىٰ مَنْ هو»([7]).
وفي لسان العرب: «الشَّهادَة خَبرٌ قاطعٌ تقولُ. منه: شَهِدَ الرَّجُلُ علىٰ كذا، وربما قالوا شَهْدَ الرَّجلُ – بسكون الهاء –. فالشهادةُ: الإخبارُ بما شاهَدَهُ. فالشَاهِدُ: العالمُ الذي يُبَيِّنُ ما يَعْلَمهُ ويُظْهِرهُ. وال*مُشاهَدَةُ ال*مُعَايَنَةُ، وشَهِدَهُ شُهُوداً: أَي حَضَرَهُ، فَهُوَ شَاهِدٌ، وقَوْمٌ شُهُودٌ: أَي حُضورٌ»([8]).
فالشهادةُ: «اسمٌ من ال*مُشَاهَدَةِ، وهي الإِطِّلاعُ علىٰ الشيء عياناً، وشهدتُ الشيءَ: اطلعتُ عليه وعاينتُهُ، فأنا شاهدٌ، والجمع: أشهاد وشهود. يقال: شَهِدْتُ العِيْدَ: أدْرَكتُهُ، وشاهدتُهُ مُشَاهَدَةً، مثل عايَنْتُهُ مُعَايَنَةً، وشَهِدْتُ ال*مَجْلِسَ: حَضَرْتُهُ، فأنا شَاهِدٌ وشَهِيدٌ، والشَاهِدُ يَرَىٰ ما لا يَرَىٰ الغَائِبُ: أي الحاضرُ يَعْلَمُ لما لا يَعْلَمُهُ الغَائِبُ، وشَهِدَ بكذا: أي أخبَرَ بِهِ»([9]).
الشهادة في الاصطلاح:
تباينت ألفاظ الفقهاء في تعريف الشهادة، وإن كانت في مجملها تدل علىٰ معنىٰ واحد، وهو الإخبار عن علم بما شاهده وحضره الشاهد، وإن كانت بعض التعريفات زادت قيوداً لم تشر إليها غيرها.
فالشهادة عند الحنفية: الإخبارُ عن أمرٍ حضره الشهود وشاهدوه، إما معاينةً كالأفعالِ نحو القتل والزنا، أو سماعاً كالعقود والإقرارات([10]).
وقيل: إخبارٌ عن صدقٍ بلفظِ الشهادةِ في مجلس القضاء([11]).
وقيل: الشهادةُ: إخبارٌ بحقٍ لشخصٍ علىٰ غيرهِ عن مشاهدة القضية التي يشهد بها بالتحقيق، وعن عيان لتلك القضية([12]).
أمَّا المالكية فقالوا: الشهادة: قول هو، بحيث يوجب علىٰ الحاكم سماعه الحكم بمقتضاه إنْ عُدِّلَ قائِلُهُ مع تَعَدُّدِهِ أو حَلَفِ طَالِبه([13]).
وعرفها الشافعية بأنها: إخبار الشخص بحق علىٰ غيره بلفظٍ خاص([14]).
وقولهم بلفظ خاص: أي علىٰ وجه خاص بأن تكون عند قاضٍ بشرطه([15]).
وقريباً من هذا كان تعريف الحنابلة، حيث قالوا: الشَهَادَةُ: الإِخْبَارُ بما عَلِمَهُ الشَاهِدُ بلفظٍ خاصٍ، كَشَهِدْتُ أَوْ أَشْهَدُ([16]).
وبالنظر إلىٰ تعريفات الفقهاء للشهادة نلحظ التالي:
مناسبة المعنىٰ اللغوي للشهادة لمعناها الشرعي، ذلك أن كلاهما إخبارٌ عن علمٍ، إلا أنها في المعنىٰ الشرعي أخصُّ؛ ذلك أن الشهادةَ في الشرع إخبارُ عدلٍ دون غيره، في مجلس القضاء، بلفظ الشهادة.
ولنجمع شتات ما تفرق في كلام الفقهاء يمكننا أن نخلص بتعريف للشهادة، فنقول، الشهادةَ: إِخْبَارُ عَدْلٍ عَنْ عِلْمٍ بِحَقٍ عَلَىٰ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ فِي مَجْلِسِ القَضَاءِ بِلَفْظٍ خَاْصٍ([17]).
شرح التعريف:
إخبار: يشمل كل خبر.
عدل: قيدٌ في التعريف، ليخرج خبر الفاسق ومردود الشهادة؛ لأنَّ شهادَتَهُ غُيرُ مُعْتَّدٍ بها شرعاً.
عن علم: قيد في التعريف، يدل علىٰ أن الشاهِدَ لابد أن يكون عالماً بما يشهد به بوسائل العلم والمعرفة، من الرؤية، أو السماع، أو الاستفاضة([18]).
بحق علىٰ غيره لغيره: قيد يخرج إخبار الإنسان بحق له علىٰ غيره؛ لأن هذه دعوىٰ وليست شهادة وكذا إخبار الإنسان بحق غيره عليه؛ لإن هذا إقرار وليس شهادة([19]).
في مجلس القضاء: ليخرج الإخبار فيما عداه من المجالس؛ لأن الإخبار في غير مجلس القاضي يُعد روايةً([20])، أو خبراً عادياً لا إلزام فيه للقاضي ليحكم بمقتضاه.
بلفظ خاص: وهو كون الشهادة بلفظ: أشهدُ أو شهدتُ ونحوها.
المطلب الثاني: مشروعية الشهادة، وحكمها:
مشروعية الشهادة:
الشهادةُ مشروعةٌ بالكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، إذ بها تحفظ الحقوق وتصان، وقد حثَّ عليها الشارعُ تحملاً([21]) وأداءً([22])، إذا اقتضىٰ حفظُ الحقوقِ والأموالِ ذلك، ولكن بشرط أن تكون عن علم ودراية، لا عن تخمين وظن.
وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (وَاسْتَشْهِدُو شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282]. وقال تعالىٰ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2]. وقال: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) [البقرة:282].
كما دلت السنَّةُ علىٰ مشروعيتها؛ ففي الحديث الذي رواه زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْ*جُهَنِيِّ([23])، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»([24]).
وحديث: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ([25])، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَىٰ النَّبِيِّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ الله: إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَىٰ أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ...» ([26]) الحديث.
والبَيِّنَةُ: هي الشهادَةُ بالإجماعِ([27]).
وَقَدْ وَرَدَ مثلُ هذا الحديثِ بلفظٍ أدلُّ علىٰ الشهادةِ، ففي الحديث الصحيح عن عَبْدِالله ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «قَاْلَ رَسُولُ الله صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَىٰ يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا.... ) فَقَرَأَ إِلَىٰ (....عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77]، ثُمَّ إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ([28]) خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: فَحَدَّثْنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ: صَدَقَ، لَفِيَّ نَزَلَتْ، كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، قُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي ...»([29]) الحديث.
ولأنَّ الشهادةَ تحيا بها حقوقُ الناسِ، وتصانُ بها الدماءُ والأموالُ والعقودُ عن التجاحدِ، وتحفظُ بها الأموال علىٰ أربابها وملاكها([30]).
لذلك كان تَحَمُّلُ الشَهَادَةِ فرضاً في الجملة؛ لأنها من باب التعاون علىٰ البر والتقوىٰ، بل إنها من أفضل البر؛ لأنَّه يتعلق بها حفظُ أموالِ النَّاسِ وحقوقِهم، وحقوقِ الله تعالىٰ، وإقامَةِ حدودِهِ، لذلك يقول تعالىٰ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) [البقرة: 282]، وقال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة: 251]، قَالَ سُفْيَانُ بْن عُيَيْنَةَ([31]): هو ما يدفع اللهُ بالشهودِ من التجاحُدِ والتظالُمِ ([32]).
حكم الشهادة:
الشهادة كما أشرنا سابقاً: إخبار عدل عن علم بحق علىٰ غيره لغيره في مجلس القضاء بلفظ خاص.
وقد ذكرنا أنَّ بالشَهَادَةِ تحيا الحقوقُ، وتصان الدماء والأموال، ومن هنا كانت الشهادةُ ملزمةً للقاضي أن يحكم بمقتضاها إنْ عَلِمَ عدالتها، ولم يكن عنده ما يمنعه من قبولها أو ردها، فحكمها بالنسبة للقاضي وجوب العمل بها لا بديل له عن ذلك، ولذلك اشترط في الشهادة ما لم يشترط في الرواية؛ ذلك إنه ليس في الرواية إلزام الشهادة من حيث وجوب العمل بها، فهي – أعني الشهادة – وإن كانت خبراً محتملاً للصدق أو الكذب، إلا أن ذلك تُرك بالنصوص التي تحث عليها لحفظ الحقوق، وكذا الإجماع علىٰ اعتبارها وكونها حجة ملزمة ([33]).
أما حكم الشهادة بالنسبة لمن يتحملها أو يؤديها في مجلس القاضي، فهي فرض تلزم الشاهد إن لم يوجد غيره وطلبه المدَّعي([34]) لإثباتها، فلا يسعه كتمانها([35])؛ لقوله تعالىٰ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) [البقرة: 282]، وقوله تعالىٰ: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة: 283]، فالنهي الوارد عن الإباء في الآية الأولىٰ، والنهي عن الكتمان في الثانية، وإن لم يكن فيه أمر بأداء الشهادة إلا أنه يفيد الأمر بالشهادة؛ لأن النَّهْيَ عن الشيء أمرٌ بضده، إذا كان له ضد واحد؛ لأن الانتهاء لا يكون إلا بالاشتغال به، فكان أداء الشهادة فرضاً قطعاً كفريضة الانتهاء عن الكتمان، فصار كالآمر به، بل آكد، ولهذا أسند الإثم إلىٰ الآلة التي وقع بها الفعل وهي القلب؛ لأن إسناد الفعل إلىٰ محله أقوىٰ من إسناده إلىٰ كله، وقولهم: أبصرته بعيني آكد من قوله: أبصرته، وإسنادُهُ إلىٰ أشرفِ الجوارحِ دليلٌ علىٰ أنَّه أعظم الجرائم بعد الكفر بالله تعالىٰ([36]).
فالشهادة أمانة كسائر الأمانات، وأداء الأمانة من أوجب الواجبات علىٰ المسلم، يقول تعالىٰ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58]، فكما يجب أداء الوديعة علىٰ الأمين، يجب أداء الشهادة على الشاهد، ولذلك نجد ابن عباس رضي الله عنهما يعد كتمان الشهادة من أكبر الكبائر([37]).
فالشهادةُ فرضٌ يأثمُ تاركها إن علم أن القاضي يقبل شهادته، ودُعي إليها، ولم يكن ثمة شاهد غيره؛ لأن امتناعه حينئذ يضيع حق أخيه المسلم. فإن وجد من يقوم مقامه في تحمل الشهادة أو أدائها ممن تحصل بهم الكفاية سقط الفرض عن الباقين؛ لأن المقصود بالشهادة حفظ الحقوق، وذلك يحصل بالبعض، فهي فرض كفاية إن قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإن امتنعوا جميعاً أثموا؛ لأن إباية الناس كلهم عنها إضاعة للحقوق، وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال.
ويستثنىٰ من ذلك إن علم الشاهد أن القاضي لا يقبل شهادته، أو كان الشهود جماعة فأدَّىٰ بعضهم ممن تقبل شهادتهم، أو لحق الشاهد ضرر في التحمل أو الأداء في بدنه أو ماله أو أهله([38]).
يتبع