تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: سفينة النجاة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي سفينة النجاة

    أرسل الله نوحاً عليه السلام إلى قومه ليدعوهم إلى عبادة الله وحده : ( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) الأعراف/59 . وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فطغوا ، وتمردوا واستكبروا : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ) نوح/23 .
    وقد دعا نوح قومه ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام كما قال سبحانه : ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) العنكبوت/14 .
    ولكن قوم نوح لم يستجيبوا له ولم ينتفعوا بنصحه بل أنكر أشرافهم نبوته واتهموه بالكذب وقالوا إن أتباعه من الفقراء والضعفاء الذين لا فكر لهم ولا رؤية قال تعالى : ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ) هود/27 .
    واستمر نوح عليه السلام في دعوة قومه وتلطف بهم ودعاهم في كل مناسبة ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فما آمن معه إلا قليل أما الأكثرون فقد كذبوه وسخروا منه واتهموه بالجنون وحالوا بينه وبين تبليغ رسالة ربه وهددوه بالرجم إن لم ينته : ( قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ) الشعراء/116 .
    ولكن نوح لم يبال بتهديدهم فواصل دعوته لهم حتى إذا ضاق ذرعاً باستكبارهم ، واستهزائهم لجأ إلى ربه بهذه الشكوى : ( قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ، ثم إني دعوتهم جهاراً ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً ، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ) نوح/5-12 .
    فلما أيس نوح عليه السلام من إيمان قومه ، وهددوه بالقتل وآذوه ومن آمن معه فما كان منه إلا أن دعا عليهم بقوله : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ) نوح/26 -27 .

    وقد استجاب الله دعاء نوح عليه السلام وقضى بهلاك قوم نوح بالغرق وأمره أن يصنع سفينة النجاة ليركب فيها والمؤمنون معه : ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) هود/36-37 .

    ولما أتم نوح عليه السلام صنع السفينة وظهرت علامات بدء العذاب بتفجير العيون من الأرض ونزول الماء من السماء أمر الله نوحاً بأن يحمل فيها من الأحياء والحيوانات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليبقى ويستمر نسلها كما أمره الله أن يحمل معه أهله ما عدا من كفر منهم ، وهم إحدى زوجاته وأحد أبنائه كما أمر الله أيضاً أن يحمل معه المؤمنين به وهم قليل قال تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ، وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) هود/40-43 .
    ثم أخذت نوحاً عاطفة الشفقة على ولده فطلب من ربه أن ينجيه من الهلاك : ( ونادى نوح ربه فقال ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) هود/45-46 .
    ولما أهلك الله الكفار بالغرق أمر الله الأرض أن تبلع الماء وأمر السماء أن تكف عن المطر فاستوت السفينة راسية على جبل الجودي بالموصل و قضي الأمر وأهلك الظالمون : ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ) هود/44 .
    وبعد أن استوت السفينة على الجبل ، أمر الله نوحاً أن ينزل ومن معه محفوفاً بالسلام والبركات : ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) هود/48 .
    وهكذا نصر الله نوحاً والمؤمنين معه وأهلك من كفر به وجعلهم عبرة للناس : ( ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ، ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوءٍ فأغرقناهم أجمعين ) الأنبياء/76 - 77 .
    ثم جعل الله في ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام النبوة و الكتاب كما قال سبحانه : ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) الحديد/26 .
    المصدر: من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: سفينة النجاة

    ظل نوح -عليه السلام- صابراً على قومه في دعوتهم إلى التوحيد تسع مئة وخمسين سنة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}[العنكبوت: ١٤]. نعم، {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} قضاها نوح -عليه السلام- في هذا الجهد المضني، والعناء المرهق، مع قومه المعاندين فلم "يَنِي بدعوتهم، ولا يفتر في نصحهم، يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا، فلم يُرشدوا ولم يهتدوا، بل استمروا على كفرهم وطغيانهم" ولم يدخل معه في الإسلام إلا قليل، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}[الشعراء: 121]. وقال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}[هود: ٤٠]، قال ابن كثير: "أي: نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم.
    ولما يئس نوح -عليه السلام- من صلاح قومه وفلاحهم بعد أن فعل مع قومه كل ما في وسعه من وسائل وأساليب ولم يؤمن له إلا قليل، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق، من فعال ومقال، وقال الله تعالى له:{أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[هود: ٣٦ ]، فدعا نوح- عليه السلام - على قومه بقوله: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح: ٢٦ – ٢٧]، وقال: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}[نوح: ٢٨]، وقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}[القمر: ١٠]، وقال: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء: ١١٧ – ١١٨]، وقال: {رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}[المؤمنون: ٢٦].
    "هكذا سلك نوح – أو حاول أن يسلك – إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب، ومتنوع الوسائل، في دأب طويل، وفي صبر جميل، وفي جهد نبيل، ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم، يقدم حسابه، ويبث شكواه، في هذا البيان المفصل، وفي هذه اللهجة المؤثرة، ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة"
    لكن نوحا – عليه السلام – لم يكن ليدعو على قومه إلا بعد أن يئس من إيمانهم، ورأى أن المصلحة تكمن في هلاكهم، ذلك أنهم أصبحوا سببا في ضلال الآخرين، ولم يلدوا من العباد إلا من سيكون كافرا فاجرا، فقال عليه السلام: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، "فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه، وأحيانا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائيا، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين، وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح، وهو يطلب القضاء على أولئك الظالمين إجهازا كاملا لا يبقي منهم ديارا، أي: صاحب ديار"
    والظاهر - والله أعلم – أنه علم ذلك بوحي الله سبحانه وتعالى له في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} ، وهذا ينطبق على الموجودين منهم، وعلى من سيولد في المستقبل.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: سفينة النجاة

    { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه . إني لكم نذير مبين . ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } . .
    فهذا هو قوام الرسالة ، و قوام الإنذار .
    { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } . .
    واليوم ليس أليما . إنما هو مؤلم . والأليم إسم مفعول أصله : مألوم! إنما هم المألومون في ذلك اليوم . هذه الصيغة أليم، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم ، ، فما بال من فيه؟
    { فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين } . .
    ذلك رد العلية المتكبرين . . الملأ . . كبار القوم المتصدرين . . وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين .
    الشبهات ذاتها ، والاتهامات ذاتها ، والكبرياء ذاتها ، والاستقبال الغبي الجاهل المتعجرف!
    إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر : أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله؛ فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر . وهي شبهة جاهلة ، مصدرها عدم الثقة بما جاء به هذا الرسول،
    وشبهة أخرى جاهلة كذلك . هي أنه إذا كان الله يختار رسولا ، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم ، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية التى استحق حمل رسالة الله بخصوصيته .. وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض ، إنما هي في صميم النفس ، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى ، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي ، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها . . إلى آخر صفات النبوة الكريمة . . وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء!
    ولكن الملأ من قوم نوح ، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية ، فلا يدركون مبررا لاختصاص الرسل بالرسالة . وهي في زعمهم لا تكون لبشر . فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض!
    { وما نراك إلا بشرا مثلنا } . .
    هذه واحدة . . أما الأخرى فأدهى :
    { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ، بادي الرأي } !!
    وهم يسمون الفقراء من الناس « أراذل » . . كما ينظر الكبراء دائما إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلى لإستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية ، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على كل شئ بذاته وشأنه وقهره وقدرته.
    فرسالة التوحيد هي حركة التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض . ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما ، ويصدون عنها الجماهير؛ ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير .
    { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } . .
    أي دون ترو ولا تفكير . . وهذه تهمة كذلك توجه دائما من الملأ العالين لجموع المؤمنين . . أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات . ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ، ولا أن يسلكوا طريقها . فإذا كان الأراذل يؤمنون ، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون!
    { وما نرى لكم علينا من فضل } . .
    يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ، أو أعرف بالصواب . فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لاهتدينا إليه ، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه . قياس الفضل بالمال ، والفهم بالجاه ، والمعرفة بالسلطان . . فذو المال أفضل . وذو الجاه أفهم . وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع ، أو تضعف آثارها ، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب . وهي انتكاسة للبشرية من غير شك ، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان عبدا لله، ، وتلقى الرسالة التى بعثت بها الرسل ؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية!
    { بل نظنكم كاذبين } . . .
    وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه . ولكنهم على طريقة طبقتهم . . » { بل نظنكم! } لأن اليقين الجازم في القول والإتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة بادي الرأي التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون!
    إنه النموذج المتكرر من عهد نوح ، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!!
    ويتلقى نوح عليه السلام الإتهام والإعراض والاستكبار ، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به ، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله؛ وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره .

    فلا يشتم كما شتموا ، ولا يتهم كما اتهموا ، ولا يدعي كما ادعوا ، ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهرا غير حقيقته ولا على رسالته شيئا غير طبيعتها . .
    { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم . أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ، وما أن بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم : عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إني ملك ، ولا أقول للذين تزدري أعينكم : لن يؤتيهم الله خيرا . الله أعلم بما في أنفسهم ، إني إذن لمن الظالمين } . .
    { يا قوم } . . في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه ، ونسبة نفسه إليهم . إنكم تعترضون فتقولون : { ما نراك إلا بشرا مثلنا } . . فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي ، بين في نفسي مستيقن ظاهر الدلائل والحجج . وهي خاصية لم توهبوها . وما آتاني الله من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة وهذه رحمة ولا شك عظيمة ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية ، لأنكم غير متهيئين لإدراكها ، وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها . { أنلزمكموها؟ } إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها والإيمان بها { وأنتم لها كارهون } !
    وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم ، والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والإختيار لها : ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولا إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها . وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم . مبدأ الإختيار في العقيدة ، والإقتناع بالنظر والتدبر ، لا بالقهر والسلطان والإستعلاء!
    { ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ، إن أجري إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون } .
    يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا ، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا . إنني لا أطلب مالا على الدعوة ، حتى أكون حفيا بالأثرياء غير حفي بالفقراء؛ فالناس كلهم عندي سواء . . ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء . .
    { إن أجري إلا على الله } . .
    عليه وحده دون سواه .
    { وما أنا بطارد الذين آمنوا } . .
    ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله ، حتى يفكروا هم في الإيمان به ، لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل ، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد! لست بطاردهم ، فهذا لا يكون مني . لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي :
    { إنهم ملاقو ربهم } . . { ولكني أراكم قوما تجهلون } . .
    تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله .

    وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله .
    { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم . أفلا تذكرون؟ } . .
    فهناك الله . رب الفقراء والأغنياء . ورب الضعفاء والأقوياء . هناك الرب جل وعلا يقوم الناس بقيم أخرى . ويزنهم بميزان واحد . هو الإيمان . فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته .
    { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟ } . .
    من يعصمني من الله إن أنا أخللت بموازينه ، وبغيت على المؤمنين من عباده وهم أكرم عليه وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدلها لا لأتبعها؟
    { أفلا تذكرون؟ } . .
    وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟
    ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة . يقدمها لهم في معرض التذكير ، ليقرر لهم القيم الحقيقية ، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية ، بتخليه عنها ، وتجرده منها . فمن شاء الرسالة كما هي ، بقيمها ، بدون زخرف ، بدون ادعاء ، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله :
    { ولا أقول لكم عندي خزائن الله . . }
    فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء . . .
    { ولا أعلم الغيب } . .
    فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة . .
    { ولا أقول : إني ملك } . .
    فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم ، وأفضل نفسي بذاتي عليكم .
    { ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا } . .
    إرضاء لكبريائكم ، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية .
    { الله أعلم بما في أنفسهم } . .
    فليس لي إلا ظاهرهم ، وظاهرهم الايمان بالله الذى يدعو إلى التكريم ، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيرا . .
    { إني إذن لمن الظالمين } . .
    إن إدعيت أية دعوى من هذه الدعاوي . الظالمين للحق وقد جئت أبلغه؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله .
    وهكذا ينفي نوح عليه السلام عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة . ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية . ويردهم في نصاعة الحق وقوته ، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها ، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها . بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة . فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا نموذجا للداعية ودرسا في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد ، دون استرضاء لتصوراتهم ، ودون ممالأة لهم ، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس!
    وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة؛ فإذا هم على عادة طبقتهم قد أخذتهم العزة بالإثم ، واستكبروا أن تغلبهم الحجة ، وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري . وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي :
    { قالوا : يا نوح قد جادلتنا ، فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } .

    إنه العجز يلبس ثوب القدرة ، والضعف يرتدي رداء القوة؛ والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الإستهانة والتحدي :
    { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } . .
    وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك ، ولسنا نبالي وعيدك .
    أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم ، ولا يقعده عن بيان الحق لهم ، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم ، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول ، وليس عليه إلا البلاغ ، أما العذاب فمن أمر الله ، وهو الذي يدبر الأمر كله ، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله ، وسنته هي التي تنفذ . . وما يملك هو أن يردها أو يحولها . . إنه رسول . وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة ، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه :
    { قال : إنما يأتيكم به الله إن شاء ، وما أنتم بمعجزين . ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، هو ربكم وإليه ترجعون } . .
    فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ، فإن هذه السنة ستمضي فيكم ، مهما بذلت لكم من النصح . لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح ، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا ، وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم ، فأنتم دائما في قبضته ، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله؛ ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه :
    { هو ربكم وإليه ترجعون } . .
    وعند هذا المقطع من قصة نوح ، يلفت السياق لفتة عجيبة ، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة ، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعواهم أن محمدا يفتري هذا القصص . فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح :
    { أم يقولون افتراه؟ قل : إن افتريته فعلي إجرامي ، وأنا بريء مما تجرمون } . .
    فالافتراء إجرام ، قل لهم : إن كنت فعلته فعلي تبعته . وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه ، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب .
    وهذا الاعتراض لا يخالف سياق القصة في القرآن ، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق .
    ثم يمضي السياق في قصة نوح؛ يعرض مشهدا ثانيا . مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره :
    { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون } . .
    فقد انتهى الإنذار ، وانتهت الدعوة ، وانتهى الجدل!
    { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } .

    فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت ، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه . هكذا أوحى الله إلى نوح ، وهو أعلم بعباده ، وأعلم بالممكن والممتنع ، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد . ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء :
    { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } . .
    أي لا تحس بالبؤس والقلق ، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم ، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء ، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم .
    دع أمرهم فقد انتهى . .
    { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } .
    برعايتنا وتعليمنا .
    { ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون } . .
    فقد تقرر مصيرهم وانتهى الأمر فيهم . فلا تخاطبني فيهم . . لا دعاء بهدايتهم ، ولا دعاء عليهم وقد ورد في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم ،
    والمشهد الثالث من مشاهد القصة : مشهد نوح يصنع الفلك ، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم :
    { ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه : قال : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم } . .
    والتعبير بالمضارع . فعل الحاضر . . هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته . فنحن نراه ماثلا لخيالنا من وراء هذا التعبير . يصنع الفلك . ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون . يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم : إنه رسول ويدعوهم ، ويجادلهم فيطيل جدالهم؛ ثم إذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا . . إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الامر ، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر . شأنهم دائما في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير . فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية :
    { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } . .
    نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير :
    { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يوم مقيم } . .
    أنحن أم أنتم : يوم ينكشف المستور ، عن المحذور!
    ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة :
    { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . وقال : اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم } .
    وتتفرق الأقوال حول فوران التنور ، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا ، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة . أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل ، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص ، وفي حدود مدلوله بلا زيادة .
    وأقصى ما نملك أن نقوله : إن فوران التنور والتنور الموقد قد يكون بعين فارت فيه ، .


    وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح ، أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء الأمر ، وبدءا لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء . وسح الوابل من السماء .
    لما حدث هذا { قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين . . . } كأن نظام الاحداث كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها . فقد أمر أولا بصنع الفلك فصنعه ، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه ، ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك . { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } . . أمر بالمرحلة التالية . .
    { قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن } . .
    ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول { من كل زوجين اثنين } وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية . أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص : { احمل فيها من كل زوجين اثنين } . . مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء . وما وراء ذلك خبط عشواء . .
    { وأهلك إلا من سبق عليه القول } . .
    أي من استحق عذاب الله حسب سنته .
    { ومن آمن } . .
    { وما آمن معه إلا قليل } . .
    { وقال : اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها } . .
    فنفذ الأمر وحشر من حشر وما حشر .
    { وقال : اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها } . . وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها ، فهي في رعاية الله وحماه . . وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان؟!
    ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب : مشهد الطوفان :
    { وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، قال . سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } . .
    إن الهول هنا هولان . هول ما يحدث من امر الطوفان، وهول في النفس البشرية يلتقيان :
    { وهي تجري بهم في موج كالجبال } . .
    وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة ، ويروح يهتف بالولد الشارد :
    { يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } . .
    ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة ، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل :
    { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } . .
    ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير :
    { قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } .
    لا جبال ولا مخابئ ولا حام ولا واق . إلا من رحم الله .
    وفي لحظة تتغير صفحة المشهد . فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء :
    { وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } .

    وإننا بعد آلاف السنين ، لنمسك أنفاسنا ونحن نتابع السياق والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء . وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب!
    وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية بين الوالد والمولود ، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان . . وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن .
    وتهدأ العاصفة ، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن :
    { وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي ، وقيل بعدا للقوم الظالمين } . .
    ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ، وتكف السماء :
    { وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } .
    { وغيض الماء } . .
    ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها .
    { وقضي الأمر } . .
    ونفذ القضاء
    { واستوت على الجودي } . .
    ورست رسو استقرار على جبل الجودي . .
    { وقيل بعدا للقوم الظالمين } . .
    وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير . . { قيل } على صيغة المجهول فلا يذكر من قال ، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
    { وقيل بعدا للقوم الظالمين } . .
    بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ، وبعدا لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا . . وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكرى!
    والآن وقد هدأت العاصفة ، وسكن الهول ، واستوت على الجودي . الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع :
    { ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين } .
    رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير . .
    قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء . .
    وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل عند الله وفي دينه وميزانه ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد؛ وفيما يشبه والتأنيب والتهديد :
    { قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . .
    إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة :
    { إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح } . .
    فهو منبت منك ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .


    )
    ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :
    { فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . .
    إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
    ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه ، فيلجأ إليه ، يعوذ به ، ويطلب غفرانه ورحمته :
    { قال : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفرلي وترحمني أكن من الخاسرين } . .
    وأدركت رحمة الله نوحا ، تطمئن قلبه ، وتباركه هو والصالح من نسله ، فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم :
    { قيل؛ يا نوح اهبط بسلام منا ، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك . وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } . .
    وكانت خاتمة المطاف :
    النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم . . ذات البشرى وذات الوعيد ، اللذان مرا في مقدمة السورة . فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود . .
    ومن ثم يجيء التعقيب :
    { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر إن العاقبة للمتقين } .
    فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة :
    حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون . فهذا القصص غيب من الغيب ، ما كان يعلمه النبي ، وما كان معلوما لقومه ، ولا متداولا في محيطه . إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير .
    وحقيقة ان دعوة الانبياء والرسل كلهم واحدة اعبدوا الله ما لكم من اله غيره من لدن اول رسول الى اخرهم محمد صلى الله عليه وسلم الدعوة واحده وهى عبادة الله وحده لا شريك له وترك ما يعبد من دونه . الدعوة واحده هي هي . والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير اعبدوا الله ما لكم من اله غيرة - وان اختلفت المعبودات والاوثان التى يعبدها هؤلاء المشركين من زمن الى آخر .
    وحقيقة تكرارالإعتراضات والإتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل .
    وحقيقة تحقق البشرى والوعيد ، كما يبشر النبي وينذر ، وهذا شاهد من التاريخ .
    وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد : { والعاقبة للمتقين } . . فهم الناجون وهم المستخلفون .
    وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل . . إنها العقيدة الواحدة انها الملة الحنيفية التي تربط المؤمنين كلهم بعبادة الله وحده - يلتقون في الدينونة له بالطاعة والامتثال بما ورد على السنة رسله .
    وبعد . . أكان الطوفان عاما في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ اسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح . . وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل .



    ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان . وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين . وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة ، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها فيما عدا من ركب سفينة الناجين .


    ونخلص من هذه القصة إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم . . وهي في الحقيقة عبر شتى ، لا عبرة واحدة .




    إن قوم نوح - عليه السلام هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ، ومدى إصرارهم على باطلهم ، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام التي حملها نوح عليه السلام إليهم ، وخلاصتها : التوحيد الخالص الذي يفرد الله سبحانه بما له بالربوبية والالوهية وبالدينونة والعبودية؛ ولا يجعل لأحد معه صفات الربوبية ولا ما يستحقة الله من العبودية . .
    إن قوم نوح هؤلاء . . هم ذرية آدم . . وآدم كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها وهي المهمة التي خلقها الله لها وزوده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها ، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها . وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق هو وزوجه وبنوه أن { يتبع } ما يأتيه من هدى الله ، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين .
    وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه . . وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل؛ وأن الإسلام هو الدين الذى امر الله به الناس جميعا - ان الدين عند الله الاسلام - ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه -
    فإذا نحن رأينا قوم نوح وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وأوثانها وتصوراتها وتقاليدها جميعا . وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات في النفس البشرية . تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس ، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله ، واتباعه وحده ، وعدم اتباع غيره معه . . ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار هو مناط الابتلاء وبهذا القدر مع توفيق الله يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه ، كما يملك أن ينحرف ولو قيد شعرة عن هدى الله إلى تعاليم غيره؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم النبي المسلم بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله .
    وهذه الحقيقة . . حقيقة أن أول دعوة عرفت في الأرض هي دعوة نوح عليه السلام الى عبادة الله وحده لا شريك له وهذه هى
    سفينة النجاه التى من ركبها نجا - يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ -

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •