تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية

    المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية

    د. محمد السعيدي

    أحداث كثيرة تنتاب بلاد العالم من كوارث يبتلي بها الباري -عز وجل- خلقة بدءًا من أوبئة تنقلها كائنات صغيرة وضعيفة الخِلقة لا تُرى حتى يتم تكبيرها آلاف المرات وتفعل في العباد من الفتك مالا يفعله بأس بعضهم ببعض، إلى اضطرابات عظيمة في بنية هذه الأرض، ينتج عنها زلازل وبراكين وحرائق تهلك القرى والمدن، وفيضانات تغمر اليابسة وأعاصير شديدة السرعة تدمر ما تأتي عليه، وتحمل معها مياه المحيطات والبحار لتذر الناس وراءها ما بين موتى ومشردين وبائسين ومرضى، وكل قدُرات البشر الهائلة في تسخير البراري والجبال والبحار تقف عاجزة عن فعل أي شيء سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد انتهاء الكارثة.

    ومع كل حدث من هذه الأحداث تتعالى أصـــــوات الـواعـظين محـذريـن مـن مـغبة الـذنـوب ومـن عـظيم غـضب الـرب، مـؤكـديـن أن الـغفلة عـن تـــعالـــيم الـــديـــن ســـبب رئـــيس فـــي إنـــزال هـــذه المـــصائـــب تـــالـــين قـــول الله -عز وجل-{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} الشورى:30.

    النَّفَس الوعظي

    لكن عددًا آخر من أهل القلم أزعجهم هذا النفس الوعظي الذي يحمل رائحة الاتهام للمجتمع ومؤسساته باستمراء المعاصي والاستهانة بتعاليم الرب، كما أنه خطاب يستخف بالعقول التي لا يغيب عنها ما تتبناه الأمم الأخرى من جحد للدين أو إنكار للرب وهي مع ذلك في أنعم العيش وأرغده.

    من مسائل الفلسفة

    والعجيب أن هذه المسألة التي نتحدث عنها اليوم كانت منذ أرسطو وما زالت إلى عهدنا من أمهات مسائل الفلسفة، وتشتهر عندهم بمسألة الشر، وكذلك في بلاد الغرب تعد من مسائل الاختلاف بين الأصوليين من اليهود والنصارى وبين العلمانيين أو المتدينين الليبراليين، ولما كان لهذه المسألة أثر كبير في توجيه الفكر الإنساني كان لها في القرآن الكريم حظ وافر من الآيات الكريمات التي ناقشت هذه المسألة في خطوطها العريضة حينا وبتفاصيلها الدقيقة أحيانا أخرى.





    الابتلاء محرك التاريخ

    الابتلاء درجة متقدمة من درجات الاختبار، وقد سمي بذلك لأنه يُبلي الإنسان من شدته، والبشر مخلوقون في هذه الحياة للبلاء؛ فكل ما يمر عليهم من أقدار الله الكونية التي تؤثر في حياتهم أفراداً أو جماعات إنما هو ابتلاء، بل إن ما خلقه الله في الإنسان من حواس وجوارح كان من أبلغ حكمها تمكينه من الأدوات اللازمة ليتأهل للمشاركة في هذا الاختبار المتقدم، وإقامة الحجة عليه ليكون جديرا بالحكم عليه في نهاية المطاف إما شاكر وإما كفورا، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} الإنسان.

    وليس الابتلاء قاصرًا على ما يناط بالإنسان من تكاليف دينية وأعباء اجتماعية بل يدخل في ذلك ما يلاقيه من خير ومتع في حياته وما يصيبه من معاناة ومصاعب ومصائب في خاصة نفسه ومجتمعه فهو مبتلى بالخير كابتلائه بالشر، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الأنبياء:35.

    أنموذج مصغر

    والفرد فيما يصيبه من البلاء بالخير والشر أنموذج مصغر للمجتمع والأمة، فالمجتمعات الصغيرة والأمم العظيمة تتعرض أيضا كما يتعرض الأفراد لظروف الخير العام والشر العام، ولا يخرج ذلك عن كونه ابتلاء فالأمم المكونة من أفراد كثيرين تعامل في باب الابتلاء معاملة الفرد الواحد، وتأخذ نتيجة جماعية باجتياز هذا الاختبار إن خيرا أو شرا، ويتحمل الصالحون في هذه الأمم المغبة الدنيوية للفشل في الابتلاء الجماعي بقدر ما يتحمل الفاسدون الذين هم المتسببون المباشرون في هذا الفشل؛ لأن التعامل القدري الكوني مع الأمم باعتبارها جسدا واحدا لا يمكن التمييز بين أعضائه في ظروف الثواب والعقاب.

    الصورة المنعكسة

    والصورة المنعكسة صحيحة؛ فالفاسدون في الأمة ينعمون بمنح الخير التي تعقب نجاح الأمة بصالحيها في اجتياز ظروف الابتلاء بالضراء، قال -تعالى-: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} العنكبوت، ولكن كيف يكون الابتلاء محركا للتاريخ وما المطلوب من العبد بهذا الابتلاء؟.

    سنة الله -تعالى- في خلقه

    الابتلاء سنة الله -تعالى- في خلقه كما شهدت بذلك آيات القرآن الكريم، وهو مقدر على الإنسان مطلقا سواء أكان مسلما أم كافرا، كبيرا أم صغيرا كما هي دلالة الإطلاق في كلمة الإنسان من قوله -تعالى-: {إنا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} الإنسان:2، وكما تتعدد فئات المبتلين يشير القرآن الكريم إلى أن أنواع البلاء تتعدد، فابتلاء بالخير وابتلاء بالشر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الأنبياء:35.

    ابتلاء بالكوارث

    وابتلاء بالكوارث {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (99)} الأعراف.

    ابتلاء بالأمراض

    وابتلاء بالأمراض {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214، وابتلاء بالخوف والجوع والفقر وكثرة الموت بينهم {وَلَنَبْلُونكم بشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} البقرة:155.

    ابتلاء بالبأس

    وابتلاء ببأس بعضهم {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الأنعام:65، فهذه أصناف الابتلاءات ليست خاصة بعنصر أو أمة بل يتعرض لها البشر كافة.

    المقاصد الإلهية

    وكذلك تنص الآيات القرآنية على أن المقاصد الإلهية من هذه الابتلاءات تختلف من قوم إلى قوم؛ فإن الأمة المؤمنة المتقية لله -تعالى- المتبعة لتعاليم رسله المنقادة لدينه -سبحانه وتعالى- موعودة بالخير الدنيوي قبل الأخروي، ولكن هذا الوعد مرهون التحقق باستيفاء شروط لا تكون الأمة دون تحقيقها مؤهلة لنيل وعد الرب -عز وجل- بالثواب العاجل، وهذه الآية تبسط القول في الوعد كما تبسط بيان شروطه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ ّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَ ّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور:55، فالوعد هو بالاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف، أما الشروط فهي الإيمان وعمل الصالحات وإخلاص العبادة لله، وهذه الشروط حين تتحقق فلا بد أن يتحقق ما وعد الله به.

    التمكين الجزئي

    وربما كان لتحقق هذه الوعود إرهاصات بشيء من التمكين الجزئي الذي يغري الكثيرين باتباع منهج هذه الفئة التي ظهرت على الأرض بوادر تمكينها، ولو لم يكونوا على قناعة تامة أو تبن صحيح لمنهج هذه الطائفة الواعدة، فيبتلي الله -تعالى- هؤلاء الواعدين بأصناف من البلاء هي في ظاهرها شر للذي تحدثه من الخراب والهلاك، ولكنها تتضمن خيرا عظيما لا يظهر للعين المجردة ألا وهو تخليص المؤمنين من اللصقاء والأدعياء تمهيدا للتمكين النهائي الذي يخص به الله -تعالى- من لم تزعزع ثقته بالإيمان وأهله في تلك البلايا والامتحانات، يقول الله -تعالى- في ذلك: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} آل: عمران، وقال -تعالى-: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} العنكبوت، وقال -تعالى-: {وَلَنَبْلُونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} محمد: 31.


    تساقط الأدعياء

    وحين ينتهي هذا الاختبار، ويتساقط الأدعياء، ويبقى الصابرون على المنهج الحق، تختلف الصورة وتأتي المكافأة لكنها أيضا مكافأة مشروطة بالبقاء على المسلك القويم الذي من أجله تمت نعمة الله -تعالى- بما لاقته هذه الأمة من التمكين والرزق، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء:105، لكن حين يرث الأرض عباد الله الصالحون كما هي الآية هل يتوقف التاريخ وهل ينتهي الابتلاء، أم أن للقصة بقية؟
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية

    المقاصد الشـــرعيــة في الكـوارث الطبـيعـيــة (2)


    د. محمد السعيدي


    استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه في العدد الماضي عن المقاصد الشرعية في الكوارث الطبيعية، وذكرنا أن الأحداث الكثيرة التي تنتاب العالم من كوارث، يجريها الباري -عزوجل- على خلقه، وأن المقاصد الإلهية من هذه الابتلاءات، تختلف من قوم إلى قوم؛ فإن الأمة المؤمنة المتقية لله -تعالى- المتبعة لتعاليم رسله، المنقادة لدينه -سبحانه وتعالى- موعودة بالخير الدنيوي قبل الأخروي، ومن ذلك الوعد بالاستخلاف، والتمكين، والأمن بعد الخوف.

    وحين ينجز الله وعده، ويرث المؤمنون الأرض بعد تحقيقهم لشروط التمكين الإلهية، يظلون يحملون مسؤولية الحفاظ على مكتسباتهم، في تكوين مجتمع مستعبد لله اختيارا، كما هو مستعبد لله اضطرارا، وذلك ببذل الوسع في الصبر على أوامر الله، والصبر على أقداره والصبر عن معاصيه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (42).

    إقامة الشرائع والأمر بها

    ويقتضي ذلك إقامة الشرائع والأمر بها والنهي عن مخالفة أمر الله، وصنعيهم هذا هو الوسيلة الصحيحة لاستجلاب نصر الله -تعالى-، حيث يقول -سبحانه- في سورة الحج: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}، وتبدأ معاناتهم من حين ينشأ من داخلهم فئة تحاول التمرد على الوضع القائم المتسم بالوقوف بصرامة ضد الشهوات والشبهات, وهي محاولات تبدأ ضعيفة في شكل خروجات،ولاسيما عن مألوف المجتمع، ثم تتطور إلى خروجات عن قيمه بمختلف مصادرها, ثم تنمو لتصل إلى محاولات لتسويغ هذه الخروجات وجعلها واقعا ودفع المجتمع إليها دفعا.

    ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ويؤكد القرآن الكريم إلى ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوصفه مبدأ عاما ينبغي أن يتضافر المجتمع على تحقيقه، لأن شيوع المنكر وعلو كلمة أهله مؤذن بعقابهم، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17)، وقال -تعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(79)( المائدة).

    تقدير الأسس الإيمانية

    وتتوالى الأيام، ويبتعد المجتمع عن تقدير الأسس الإيمانية التي من أجلها وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من أمن وتمكين, ويضعف عند الصلحاء الصبر على الإنكار واستصلاح الخلق، فتتكرر السنة الكونية، وتبدأ النذر الربانية على هيئة عقاب جزئي، أو تخويف كلي، كما جاء في سورة النحل {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (46)}، فمكر السيئات مطلقا دون رجوع وإنابة، ومع استمراء وإشاعة للسيئات كله مغضب للرب -عزوجل- ومنذر بتحقيق وعيده، ولهذا ينهى الله -سبحانه- عباده المؤمنين عن الأمن من مكره -سبحانه- وعاجل عقوبته، ويشير إلى أن الأمن من مكر الله سمة الخاسرين، قال -سبحانه- في سورة الأعراف) {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَيَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)}.

    التعامل مع النذر

    والأمم في مثل هذه المواقف، يقل فيها من يقدر هذه النذر حق قدرها، فيتعامل معها بالصبر عليها، واحتساب الأجر من الله على ما وقع له جراءها، والأمة التي تسلك هذا السبيل في التعامل مع هذه النذر والمخوفات والعقوبات، تستبقي نعيمها مدة أطول، وتأمن من الأخذ الكامل، أو البأس المستمر.

    نظرة مادية

    لكن أكثر ما يقع من الأمم، هو النظر إلى هذه النذر نظرة مادية بحتة، ويغفلون عما فيها من عبر ينبغي أن يتدبرها أولوا الألباب، {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112).

    كفر النعم

    ولنتأمل تعبير القرآن في كفر النعم، فهو تعبير عظيم عن شيوع المعصية وفيه دلالة على أن المعصية الموجبة للعقاب الدنيوي ليست كفر الإشراك، بل هي أعم من ذلك، إذ يظهر ان المراد بالكفر هنا ضد الشكر, ومن أظهر معالم هذا النوع من الكفر، صنع السيئات والتمالؤ عليها والاستكثار منها, يؤكد هذا تعليل هذه الابتلاءات بما كانوا يصنعون.

    هل يعاقب البريء؟

    يقول أحدهم: إننا نفهم أن تكون الكوارث الطبيعية تخويفا أو ابتلاء, بل نفهم أن تكون عقابا للأمم الباغية, لكننا لا نفهم أن تكون عقوبات في مجتمعات يغلب عليها طابع الخير والتدين لمجرد وجود شيء من المخالفات الشرعية التي يوجد أضعافها في داخل مجتمعات إسلامية أخرى لم تعان مثل هذه الكوارث, بل كيف تكون عقوبات، وجل من يصاب بها هم البسطاء والخيرون، أما دعاة الانحلال والتفسخ، فلم نر هذه المصائب تمس أحدا منهم إلا قليلا؟

    دلالة العموم والإطلاق

    والجواب عن هذا الإشكال لن يكون مقنعا دون التسليم بدلالة العموم والإطلاق في قوله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30)، فكل المصائب والنوائب التي تقع على المؤمنين مطلقا في هذه الحياة، هي نتيجة وجزاء لما كسبته أيديهم من آثام، قال -تعالى- {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2)، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24).

    الاعتبار والتدبر والتفكر

    وعليه، فإن تلك الإشكالات ليست من قبيل الاعتراض على المسلَّمة الواردة في الآية القاطعة في دلالتها، ولكنها من قبيل الاعتبار والتدبر والتفكر في آيات الله -تعالى- الكونية والمتلوة, وهو نوع من أنواع العبادات التي امتلأ القرآن الحكيم بالأمر بها والحض عليها، فمن التدبر في هذا الأمر، أن يقال من بديع صنع الله -تعالى- فيما يقره على عباده، أن صفاته العلا لا يحول بعضها دون بعض، فلا يحول غضبه دون رحمته، ولا يمنع سخطه من لطفه، فإذا عاقب -سبحانه- مؤمنا على ذنب في هذه الدنيا، فقد تكون هذه العقوبة رحمة له, وذلك بأن يكون مصابه في الدنيا مانعا من عقابه في الآخرة, أو رفعة لدرجته في الجنة, أو يكون مصابه سببا في صلاح حاله فيما بقي من دنياه، أو سبيلا لإصلاح أمر ذريته في دينهم أو دنياهم، وبهذا فليس نزول العقاب بالعبد شرا محضا، بل قد يصح للعبد جراءه من الخير مالا يعلمه إلا الله.

    التقصير في جنب الله -تعالى

    كما أن الذنوب والتقصير في جنب الله -تعالى- لا يعصم منه عبد مؤمن, والذنوب التي يعاقب الله -تعالى- عليها ليست مقتصرة على ما يظهر للعيان من سفور وتبرج وإشاعة للفاحشة وتعامل بالربا, بل إن من الآثام ما هو أعظم عند الله من ذلك، مع أنه ليس له منظر بارز في المشاهدة اليومية للشارع والسوق والحي، فقطيعة الرحم، وعقوق الآباء، وعضل الأيمات، وسلب النساء أموالهن, وامتناع الأولياء عن النفقات, وظلم الأيتام وأكل أموالهم, والتقصير في أداء الأعمال التي يأخذ عليها المرء أجرا وظلم العاملين والكبر والحسد والحقد, كلها ذنوب عظيمة لا يمكن أن يقال إنها موجودة في طبقة من طبقات المجتمع، أو شريحة من شرائحه دون الأخرى، وبملاحظة ذلك لا يمكن أن نصحح الاعتراض بكون المصائب تنزل غالبا على من لا جرم لهم، لأننا لا يمكن أن نجزم بأن أحدا لا جرم له.

    حكمة الله -تعالى

    ومن حكمة الله -تعالى- وبديع لطفه، أنه لا يأخذ الأمم المؤمنة بذنوبها أخذا، بل الأخذ -كما تدل آيات الكتاب الحكيم- عقاب حصري على من يشاء من الأمم الفاجرة المعرضة بمجملها، فإذا لاحظنا ذلك لزم منه أن عقوبة بعض الأمة ببعض ذنوبها تخويف للآخرين، وإنذار لهم وأمر بتصحيح مسار حياتهم وتدارك أخطائهم.


    حين تنزل كارثة

    نصل مما تقدم إلى أنه حين تنزل كارثة من الكوارث الطبيعية على مجتمع ظاهره الخير والإيمان، ونسمي ذلك عقوبة، ولا ينزل مثلها على مجتمع تكون الفاحشة فيه أظهر والدعوة إليها أكبر، فلا يعني أن من نزلت بهم الكارثة شر ممن لم تنزل بهم، لأن نزول الكارثة على وجه العقوبة، لا يخلو عن كثير من معاني الرحمة كما تقدم، فضلا عن أن عدم الكوارث الطبيعية أو قلتها، لا يعني عدم العقوبة، إذ ليست العقوبات الدنيوية محصورة في جنس واحد من المصائب، بل قد تصاب المجتمعات بأصناف أخرى من العقاب هي أشد إيلاما من الكوارث كالحروب والأمراض وشيوع الفقر واستشراء الظلم وتسلط الأقوياء على الضعفاء، واستيلاء الأعداء على خيرات الأرض، فهذه كلها مصائب لا أعتقد أن مجتمعا من مجتمعات المسلمين المبتلاة بشيوع الفاحشة سالمة منها.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •