الحياء كله خير
ليلى الخضر
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامَ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذاَ لَمْ تَسْتَحْي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، هذا الحديث من الأحاديث القاطعة في بيان أهمية الحياء وقيمته الأخلاقية في حياة المسلم، وربط الحياء بكلام النبوة الأولى ليدل على اتفاق الشرائع عليه؛ لأنه جاء في أُولَاهَا، ثم تتابعت بقيتُها عليه. والحياء في اللغة هو تغير وانكسار يلحق مَنْ يخاف ما يُعابُ بهِ، وفي الشرع هو خُلُقٌ يبعث على فعل الجميل، واجتناب القبيح ويمنعُ من التفريط والتقصير في حق ذي الحقِّ، وهو قسمان: غريزي، ومكتسب، أما المكتسب: فهو الذيِ جعله الشارع من الإيمان وهو المكلّفُ به دونَ الغريزيِ، وقد ينطبعُ بالمكْتَسب حتى يصيرَ كالغريزيِ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغريزي أشدَّ حياءً من العذراءِ فيِ خِدْرها، وكان في المكْتَسَبِ في الذِّروة العليا.
وفي الشرع ينقسم الحياء أيضا إلى قسمين:- شرعي، وغير شرعي؛ فالشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر وهو محمود، وأما ما يقع سببا لترك أمر شرعي؛ فهو مذموم وليس بحياءٍ شرعيٍّ، وإنما ضعف ومهانةٌ.
مكانة الحياء
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الحياء بأوصاف تدل على خطورته وسمو منزلته منها:
صفة من صفات الله
- أولا: أنه صفة من صفات الله -سبحانه وتعالى-، عن يعلى بن أمية أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسلُ بالبَرازِ -الفضاء الواسع بلا إِزار-ٍ؛ فصعدَ المنبرَ؛ فحمدَ اللهَ وأثْنى عليهِ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الحياءَ والسِّتْرَ؛ فإذا اغتسلَ أحدُكم فليستَتِرْ»، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ رَحيمٌ حَيِيٌّ كريمٌ يَستَحِي مِن عبدِه أنْ يَرفَعَ يدَيه ثم لا يَضَعَ فيهما خيرًا» .
من مكارم الأخلاق
- ثانياً: أنه أبرزُ ما يتميزُ به الإسلام من مكارم الأخلاق؛ فهو الخُلُقُ المميزُ لأتباعِهِ.
الحياء منَ الإيمان
- ثالثاً: أنه منَ الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياءُ من الإيمانِ والإيمانُ في الجنَّةِ والبَذاءُ من الجفاءِ والجفاءُ في النَّارِ»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الحياءُ والإيمان قُرِنا جميعاً؛ فإذا رُفع أحدَهُما رُفعَ الآخَرُ»؛ فهذا يعني أن الحياءَ إذا ذهَبَ ذهَبَ معه الإيمانُ ولا غرْوَ أي ولا عجب؛ فإنّ من فقد حياءَهُ هَبَطَ من رَذيلةِ إلى أخرى أشدُّ نُكْراً ولا يزال هَاوياً حتى ينحدر إلى الدرك الأسْفَل.
ملاك الخير
- رابعاً : أنَّهُ ملاكِ الخير أي ( عماده وقوامه)، عن عمْرَانَ بن حُصَينْ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء خَيْرٌ كُلّهُ أو قال كُلّهُ خير».
من سُنَن المرسلين
- خامسًا: إنَّهُ من سُنَن المرسلين، عن أبي سعيد الخدُريِّ رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خِدْرِها»، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ قالَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : كيفَ أغْتَسِلُ مِنَ المَحِيضِ؟ قالَ: «خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِي ثَلاثًا»، ثُمَّ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَحْيا؛ فأعْرَضَ بوَجْهِهِ، أوْ قالَ: «تَوَضَّئِي بها» فأخَذْتُها فَجَذَبْتُها؛ فأخْبَرْتُها بما يُرِيدُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم .
عُنصر النُّبل
- سادساً: إنه عُنصر النُّبل في كل عمل يشوبه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما كانَ الفُحشُ في شيءٍ إلَّا شانَهُ، وما كانَ الحياءُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ».
حياة القلب في الحياء
فالأخلاق الفاضلة ولاسيما خُلُقُ الحياءِ تتناسب تناسباً طرديًا مع قوة القلب والروح وحياتهما.
أوجه الحياء
الحياء يكون في ثلاثة أوجه :-
الحياء من الله
- الأول: حياء المرء من خالقه -جل وعلا-، والحياء من الله من أسمى منازل الحياء وأكْرمها؛ «فالإنسان ليستحي أن يقّدم إلى من أحسن إليه من بني جنسه، ولو نعمة صغيرة أدنى إساءة؛ فكيف لا يستحي من خالقه الذي له عليه حق عظيم، فقد أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ولو أن العباد قدَّروا خالِقَهُم حقَّ قدره، لسارعوا في الخيرات يفعلونها من تلْقاء أنفسهم، ولباعدوا عن السيئات حياءً وخجلاً من مقابلة خَيْرهِ الْمَحض بالجُحود والكُفران»، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «استحيوا من الله حق الحياء»، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا؛ فمن فعل ذلك استحيا من الله حق الحياء، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يخطب الناس: «يا معشر المسلمين، استحيوا من الله؛ فو الذي نفسي بيده إني لأظلُّ حين أذهبُ الغائط من الفضاء متقنعاً بثوبي استحياء من ربي -عز وجل-»، وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعاً، استحيا الله منه وهو مذنب.
الحياء من الناس
- الثاني: حياؤه من الناس: ويكون بكف الأذى عنهم، وترك المجاهرة بالقبيح، روي أن حذيفة بن اليمان أتى الجُمعة فوجد الناس قد انصرفوا؛ فتنكَّب عن الناس وقال: لا خير فيمن لا يستحيي من الناس. رُوِيَ أن مُطَرَّف بن عبدالله قال لبعض إخوانه: يا أبا فُلان إذا كانت لك حاجة َ فلا تكلمني واكتبها في رقْعةٍ؛ فإنِّي اكرهُ أنْ أرى في وجهكَ ذُلَّ السُّؤال.
الحياء من النفس
- الثالث: حياؤه من نفسه، وتكون بالعفَّةِ وصيانة الخَلَوات، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «وأما حياء المرء من نفسه فهو ضياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء؛ فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر».
وقال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غَيركَ، وقال بعض الأدباء: من عَمِلَ في السِّرِّ عملاً تستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عِنْدَهُ قَدْرٌ.
فَسِرِّي كإِعلاني وَتْلَك خليقتي
وظُلْمةُ ليلي مِثْلُ ضَوي نَهَاري
يقول الماوَرْدي: فمتى كَمُلَ حَيَاءُ الإنسان من وجوهه الثلاثة؛ فقد كَمُلَتْ فيه أسبابُ الخير، وانتفت عنه أسباب الشَّر، وصار بالفضلْ مشهوراً وبالجميل مذكوراً .
كسر حاجز الحياء
ولقد حذَّر الأنبياء -صلوات الله وسلامُهُ عليهم- من كسر حاجز الحياء؛ لئلا يقع الإنسان في كُلِّ قبيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِي فاصنع ما شئْتَ»، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: من عقوبات العاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أَصْلُ كُلِّ خَيْر وذهابُهُ ذهابُ الخيرِ أجْمَعِهِ؛ فقد جاء في الحديث الصحيح: «الحياء خيرٌ كُلُّهُ».
والمقصود أن الذنوب تُضعِفُ الحياءَ في العَبْد حتى رُبَّما انْسَلَخَ منهُ بالكُلية، بل رُبَّما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باَطلاعهم عليه، بل كثيرٌ منهم يُخبر عن حاله وقُبْح مَا يَفْعَلُ، والحامِلُ له على ذلك انْسلاخِهِ من الحياء، وإذا وصَل العبْدُ الى هذه الحال لم يبق في صلاحه مَطْمَعٌ.