تكامُل مهامِّ الإمام الدَّاعية في مسجده

الشَّيخ الدكتور محمَّد عليّ فركوس -حفظه الله-


الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ مهامَّ الإمام الداعية المرشد التي يؤدِّيها في دعوته إلى الله تعالى على منبره أو في مسجده تتجانس في أبعادها وبواعثها ومراميها وتتوافق ولا تختلف، فلا تعارُضَ بين الإمامة وتوابعها أو ما يُلقيه الإمام في المناسبات الشرعية كالجُمَع والأعياد والاستسقاء ونحوها من شعائر الدين، وما يقوم به بالبيان والنصح من خلال خطبته بكلماتٍ وعظيَّةٍ وتوجيهيَّةٍ وتذكيريَّةٍ، أو بين ما يعلِّمه في دروسه وحِلَقه ومحاضراته العلميَّة أو ما يبثُّه من فتاوى شرعيةٍ متعلِّقةٍ بحياة المسلم الدينيَّة والروحيَّة، وسائر النشاطات العلميَّة وأعمال الحِسْبة التي يتولَّى الإمام مهمَّتها داخل المسجد؛ لأنها -وغيرها من الصلاة والذكر- معدودةٌ من العمارة الإيمانية المشمولة بقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [النور: 36]، فهذه المهامُّ تأتلف ولا تختلف، وتتكامل ولا تتناقض، ومِن وجوه هذا التَّكامل:
- أن يحرص الإمام في دروسه العلميَّة وحِلَقه التكوينيَّة على تعليم العامَّة ضروريَّاتِ دينهم، وأن يعمل على محاربة الجهل المنتشر في أوساطهم، ويشجِّع القدراتِ الاستيعابيَّةَ والمواهب الذهنيَّة على الاستزادة من العلوم الشرعيَّة، والتعمُّق في الفقه في الدين، تحصيلاً لعلوم المقاصد: من عقيدةٍ وفقهٍ، وعلوم المصادر: من تفسيرٍ للكتاب وشروحٍ للسنَّة، وعلوم الوسائل: من أصول الفقه وقواعده وعلوم اللغة ونحوها من العلوم النَّافعة.
- أن يوجِّه الإمام الخطيب الناسَ في خُطَبه ومواعظه إلى التمسُّك بالكتاب والسنَّة والْتزام نهج السلف الصَّالح في فهمهما، واقتفاء آثار الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ، والاقتداء بسيرتهم والاهتداء بهديهم بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، كما يدعوهم إلى تحقيق العبوديَّة لله وحده، وإعلاء السُّنن ولزومها واتِّباعها ونشرها، وإظهار شعائر الدِّين وفضائله، وتحذيرهم مِن الشِّرك والبدع والتبرُّؤ منها، ويحثُّهم على إلغاء مظاهر الجاهليَّة التي تفشَّت وسادت بعد القرون المفضَّلة، كما يُربِّي الناسَ على اجتناب الرَّذائل وكَبْت الفواحش وتنبيه الناس على خطورة مآلها، وذلك بتنشيط الخُطَب التوجيهيَّة والوعظيَّة، وتفعيل العلوم النَّافعة وتنوير النَّاس بقضايا دينهم، كلُّ ذلك لإظهار الحجَّة وإقامتها على الناس تحقيقًا لخبر المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(١).
- أن يحرص على تثبيت الأمن والاستقرار في الأمَّة، وتوحيدها على توحيد المرسِل وجمع شملها على متابعة الرَّسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ووعيها بالضروريَّات الخمس التي جاءت بها الشَّريعة السَّمحة، ويذكِّر بوجوب حفظها ورعاية أحكامها والتَّناصح بين الرَّاعي والرَّعيَّة، وتنبيهها على آفة الخروج على الأئمَّة ومنازعتهم في ولايتهم ما لم يرَوْا كفرًا بواحًا عندهم عليه من الله برهان، وما يترتَّب عنه من آثارٍ سيِّئة العواقب على البلاد والعباد، فيوجِّه الإمام الناسَ إلى كلِّ ما يحتاجونه لمعرفة المواقف الشَّرعيَّة وما تُوزَن به الدَّعوات المرفوعة أيَّام الفتنة، ومعالجتها بالميزان الشَّرعيِّ اعتمادًا على الوحي المعصوم وبعيدًا عن مناهج أهل الفرقة والأهواء وأهل الخرافة والتَّخرُّصات.
- والإمام -إن كان أهلاً للفتوى وقادرًا على التصدِّي لها- فإنَّه يعقد في مسجده جلساتٍ للفتوى يجيب عن أسئلة المستفتين الفقهيَّة وعن قضاياهم الدِّينيَّة، ويفكُّ عنهم ما أشكل مِن مسائل العقيدة والفقه وغيرها من العلوم الشَّرعيَّة، فإنْ علِم مِن نفسه ضعفًا فله أن ينسِّق مع أهل العلم والفتوى، كما له أن يوجِّه إليهم فيما تجاوَزَ حدود قدرته العلميَّة.
- وشخصية الإمام -باعتباره سيِّد المسجد– تأبى كلَّ عملٍ غير مَرْضيٍّ أو منافٍ لرسالة المسجد: من البيع فيه وإنشاد الضالَّة، وله أن يقوِّم صلاةَ المسيئين ويعدِّل الصفوفَ على وجهٍ متراصٍّ وغير مقطوعٍ إلاَّ عند الاكتظاظ والاضطرار، ويحثُّ على حضور الجماعة وعدم التأخُّر عنها، ويتفقَّد الغائبين من أهل المسجد من المرضى والمقعدين وغيرهما ويزورهم من باب التراحم، ونحو ذلك من أعمال البرِّ والحِسبة.
- ومن وجوه أعمال البرِّ: تحقيق المؤاخاة، وتجسيد التآلف وجمعُ القلوب ولَمُّ شملها على الإخلاص والمتابعة، وهي من أهمِّ مهامِّ الإمام المؤهَّل بما يتمتَّع به من قوَّةِ بيانٍ وحجَّةٍ، ورجاحةِ عقلٍ وحُسْنِ توجيهٍ وتدبيرٍ، فيعمل على إلغاء مظاهر الجاهليَّة وإبطالها بامتصاص النِّزاعات والخلافات والعصبيَّات ودحض الفرقة والشَّتات والإعراض عن العلم والدِّين، ويبثّ فيهم روح المؤاخاة والتعاون المبنيِّ على البرِّ والتقوى والتكافل والتعاطف تحقيقًا للوصف النبويِّ المتمثِّل في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»(٢).
هذا، -وبغضِّ النظر عن نوعية انتماء الجهة الوصيَّة على الإمام- فله السُّلطة التَّقديريَّة في اختيار ما يفيد به العامَّة أو طلبة العلم مِن أمور دينهم، وقضايا منهجهم العامِّ والتَّربويِّ بما يحقِّق التوفيقَ بين مطالب الناس وحاجاتهم مع لزوم العدل والإنصاف ودون إعراضٍ عن بيان الحقِّ ولا إبعاد الناس عن معرفته.
نسأل اللهَ أن يقوِّيَ أئمَّتنا على إقامة الحجَّة ونشر العلم والسُّنن ومحاربة الجهل والبدع وأنْ يعينهم على إبطال مظاهر الجاهليَّة، وأنْ يجمع كلمة المسلمين على الحقِّ والهدى وما فيه عزُّهم وخيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.




١- أخرجه مسلم بهذا اللفظ في «الإمارة» (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وبألفاظٍ أُخَرَ من حديث غيره، وأخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ» يقاتلون وهم أهل العلم (7311) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

٢- أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (2586) من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما.