قال الامام بن القيم رحمه الله
وعندي في الحديثين مسلك آخر يتضمن إثبات الأسباب والحكم،
ونفي ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل،
ووقوع النفي والإثبات على وجهه،
فإن العوام كانوا يثبتون العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل، كما يقوله المنجمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسعودها ونحوسها، كما تقدم الكلام عليهم،
ولو قالوا: إنها أسباب أو أجزاء أسباب إذا شاء الله صرف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته، وأنها مسخرة بأمره لما خلقت له، وأنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربط بها مسبباتها وجعل لها أسبابا أخر تعارضها وتمانعها، وتمنع اقتضاءها لما جعلت أسبابا له، وإنها لا تقضي مسبباتها إلا بإذنه ومشيئته وإرادته، ليس لها من ذاتها ضر ولا نفع ولا تأثير البتة، إن هي إلا خلق مسخر مصرف مربوب، لا تتحرك إلا بإذن خالقها ومشيئته، وغايتها أنها جزء سبب ليست سببا تاما
فسببيتها من جنس سببية وطء الوالد في حصول الولد، فإنه جزء واحد من أجزاء كثيرة من الأسباب التي خلق الله بها الجنين
... وهكذا جملة أسباب العالم من الغذاء والرواء، والعافية والسقم وغير ذلك،
وأن الله سبحانه جعل من ذلك سببا ما يشاء، ويبطل السببية عما يشاء،
ويخلق من الأسباب المعارضة له ما يحول بينه وبين مقتضاه،
فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه لما أنكر عليهم،
كما أن ذلك ثابت في الداء والدواء،
وقد تداوى النبي وأمر بالتداوي، وأخبر أنه ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم،
فأعلمنا أنه خالق أسباب الداء، وأسباب الدواء المعارضة المقاومة لها،
وأمرنا بدفع تلك الأسباب المكروهة بهذه الأسباب،
وعلى هذا قيام مصالح الدارين،
بل الخلق والأمر مبني على هذه القاعدة؛
فإن تعطيل الأسباب وإخراجها عن أن تكون أسبابا، تعطيل للشرع ومصالح الدنيا،
والاعتماد عليها والركون إليها، واعتقاد أن المسببات بها وحدها، وأنها أسباب تامة، شرك بالخالق عز وجل، وجهل به، وخروج عن حقيقة التوحيد،
وإثبات مسبباتها على الوجه الذي خلقها الله عليه وجعلها له: إثبات للخلق والأمر، للشرع والقدر، للسبب والمشيئة، للتوحيد والحكمة، فالشارع يثبت هذا ولا ينفيه، وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك. .....................
فالمقامات ثلاثة: - أحدها تجريد التوحيد وإثبات الأسباب، وهذا هو الذي جاءت به الشرائع، وهو مطابق للواقع في نفس الأمر.
- والثاني: الشرك في الأسباب بالمعبود، كما هو حال المشركين على اختلاف أصنافهم.
- والثالث: إنكار الأسباب بالكلية؛ محافظة من منكرها على التوحيد.
فالمنحرفون طرفان مذمومان: إما قادح في التوحيد بالأسباب، وإما منكر للأسباب بالتوحيد. والحق غير ذلك، وهو: إثبات التوحيد والأسباب، وربط أحدهما بالآخر ...
[مفتاح دار السعادة]
قول النبى صلى الله عليه وسلم لا عدوى - فقال الاعرابى يا رسول الله فما بال إبلى تكون فى الرحل كانها الظباء فيأتى البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال من اعدى الاول-اى اول جمل أجرب من اعداه؟ يريد النبى صلى الله عليه وسلم ان ينبه الى ان الله عز وجل هو الذى قدر العدوى وقدر تأثيرها وانه لا عدوى تنتقل بذاتها بدليل ان الجمل الاول الذى اصابه المرض اى [الجرب ]لم يجرب بسبب عدوى وانما اصيب بتقدير الله
اذا استعرضنا الحقيقة العلمية وهى ان العدوى بجراثيم الامراض قد تصيب الجسم بالمرض حينا وهى نفسها لا تقوى على اصابة الجسم بالمرض احيانا اخرى
وهذا يدل على ان السبب ليس مستقل بالتأثير ليست الجراثيم والفيروسات السبب الوحيد المؤثر انما معها اسباب اخر يقدرها الله حتى ينتقل المرض -
لان كلا من الجراثيم وخطوط الدفاع مثل المناعة تعملان بما يقدره الله كل هذا يعمل بتقدير الله ومشيئته وأمره
فإذا اراد الله ان يجعل العدوى سببا جعلها وإذا اراد ابطال مفعول العدوى ابطلها- وقد بينت الحقائق العلمية الحديثة ان كثيرا ممن يصابون بالمرض من جراثيم مرضية معدية بعضها لا تظهر عليه اعراض مرضية مع انهم حاملين للمرض وقد ينتقل المرض وقد لا ينتقل لان هذا مرتبط بعوامل كثيرة اثبتتها الحقائق الطبية
ولكن ما يثبته علماء الشريعة ان كل هذا مرتبط بتقدير الله سبحانه وتعالى كما تقدم فى كلام الامام بن القيم
فالحقائق العلمية تثبت ان هذه الميكروبات قد تسبب مرضا ونفس هذه الفيروسات قد لا تسبب هذا المرض وتنقله لان هناك كثير من العوامل والاسباب التى يقدرها الله تجعل العدوى بجراثيم الامراض كأن لم تكن ولا دخل فى ذلك كله لاسباب تتعلق بالجراثيم او تتعلق بالجسم فقد تكون اسباب وعوامل اخرى قد يصل اليها الطب وقد لا يتوصل اليها الا بعد زمن -
وقد تكون هذه الاسباب قدرية متعلقة بفساد الدين والاخلاق-فهذه الجراثيم والميكروبات والفيروسات مسخرة بأمر احكم الحاكمين مسخرة لما امرها الله به
قال الإمام ابن القيّم ـ رحمه الله ـ:
(ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه،
ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص
ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا
فاكتف بقوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 41]،
ونزّل هذه الآية على أحوال العالم
، وطابق بين الواقع وبينها،
وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان،
وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة،
بعضها آخذ برقاب بعض،
وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا،
أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات،
ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.