تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

    قال الشيخ صالح الفوزان فى التعليقات المختصرة على الطحاوية
    (1) والرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.
    (2) كما نَطَقَ بهِ كِتَابُ رَبِّنَا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
    (3) وَتَفْسِيرُهُ على مَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ.

    (1) الرؤيةُ: أي: رؤيةُ المؤمنينَ لرَبِّهِم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ ربَّهُم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآخرةِ، يَرَوْنَهُ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِم كما ي*َرَوْنَ القمرَ ليلةَ البدرِ، وكَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دونَهَا سَحَابٌ، كما أَخْبَرَ المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلكَ في الأحاديثِ الصحيحةِ المتواترةِ عنهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، ولذلكَ قَالَ المُصَنِّفُ: الرؤيةُ حقٌّ، أي: ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ من السلفِ والخلفِ، ولم يُخَالِفْ فيها إِلَّا المُبْتَدِعةُ وأصحابُ المذاهبِ المنحرفةِ.

    فالمؤمنـونَ يَرَوْنَ رَبَّهُـم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قَالَ سُبْحَانَهُ: {وُجُـوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القِيَامَة: 22، 23)، وهي وجوهُ المؤمنينَ، {ناضرةٌ} يعني من النَّضْرَةِ، وهي البهاءُ والحسنُ، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} وأَمَّا {ناظرةٌ} فَمَعْنَاهَا: المعايِنةُ بالأبصارِ، تقولُ: نَظَرْتُ إلى كذا، أي: أَبْصَرْتَهُ، فالنظرُ لَهُ استعمالاتٌ في كتابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إذا عُدِّيَ بـ (إلى) فمعناهُ المُعَايَنَةُ بالأبصارِ، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ....} (الغَاشِيَة: 17، 18)، أي: أَلَمْ يَنْظُرُوا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ الْعَجِيبَةِ الدالَّةِ على قدرةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وفي هذهِ الآيةِ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القِيَامَة: 23،22) مُعَدَّاةٌ بِـ (إِلَى).

    وإذا عُدِّيَ النَّظَرُ بِنَفْسِهِ وبدونِ واسطةٍ فَمَعْنَاهُ التوقُّفُ والانتظارُ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (الحديد: 13)، {انْظُرُونَا} أي: انْتَظِرُونَا مِن أَجْلِ أنْ نَسْتَضِيءَ بِنُورِكُمْ؛ لأنَّ المنافقينَ يَنْطَفِئُ نُورُهُم والعياذُ باللَّهِ، فَيَبْقُونَ في ظُلْمَةٍ، فَيَطْلُبُونَ من المؤمنينَ أن يَنْتَظِرُوهُم حتى يَقْتَبِسُوا من نُورِهِم.

    وقولُهُ تَعَالَى: {هلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (البقرة: 210) أي: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مَجِيءَ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ القضاءِ بينَ عِبَادِهِ.
    وإذا عُدِّيَ النظرُ بِفِي فَمَعْنَاهُ التفَكُّرُ والاعتبارُ، كما قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} (الأَعْرَاف: 185)، أي: يَتَفَكَّرُوا في مَخْلُوقاتِ اللَّهِ العُلْوِيَّةِ والسفليَّةِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بها على قدرةِ اللَّهِ الخالقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واستحقاقِهِ للعبادةِ.

    الحاصلُ أنَّ النظرَ هنا عُدِّيَ بـِ (إِلَى) ومعناهُ: الرؤيةُ والمعايَنةُ.
    وقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يُونُس: 26) فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الحُسْنَى) بِأَنَّهَا الجَنَّةُ، وَفَسَّرَ (الزيادةَ) بِأَنَّهَا النَّظَرُ إلى وجهِ اللَّهِ الكريمِ، وهذا في صحيحِ مسلمٍ.
    وقَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } (ق: 35) المزيدُ: هو النظرُ إلى وجهِ اللَّهِ الكريمِ.
    وقَالَ تَعَالَى عن الكُفَّارِ: {كَلَا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين - فَإِذَا كَانَ الكُفَّاُر مَحْجُوبِينَ عن اللَّهِ، أي: لا يَرَوْنَهُ؛ لأَنَّهُم كَفَرُوا به في الدنيا فهم محجوبونَ عن النظرِ إليهِ يومَ القيامةِ، وهذا أعظمُ حرمانٍ وأعظمُ عذابٍ، والعياذُ باللَّهِ، فَدَلَّت الآيةُ على أنَّ المؤمنينَ ليسوا مَحْجُوبِينَ عن اللَّهِ يومَ القيامةِ، وأَنَّهُم يَرَوْنَهُ بالنظرِ إليهِ في الآخرةِ؛ لأَنَّهُم آمَنُوا بهِ في الدنيا ولم يَرَوْهُ، وإنَّمَا اسْتَدَلُّوا عليهِ سُبْحَانَهُ بآياتِهِ ورسالاتِهِ، فاللَّهُ أَكْرَمَهُم بالنظرِ إليهِ يومَ القيامةِ.

    والنظرُ إلى وجهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ نعيمٍ في الجنةِ.
    هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهذهِ بعضُ أَدِلَّتِهِم من القرآنِ.
    وأَمَّا أَدِلَّتُهُم من السُّنَّةِ فَكَثِيرَةٌ جدًّا بَلَغَتْ حَدَّ التواترِ، كما قَالَ العَلَّامَةُ ابنُ الْقَيِّمِ في كتابِهِ القَيِّمِ (حَادِي الأَرْوَاحِ إِلَى بِلَادِ الأَفْرَاحِ)، وَسَاقَ الأحاديثَ الواردةَ في الرؤيةِ وَقَدْ بَلَغَتْ حَدَّ التواتُرِ.
    منها: قولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ – أو: لَا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ - ) يعني: لا تَزْدَحِمُونَ على رؤيةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ يرى الربَّ وهو في مكانِهِ من غيرِ زِحامٍ كما أنَّ الناسَ يرونَ الشمسَ والقمرَ من غيرِ زحامٍ؛ لأنَّ العادةَ إذا كَانَ الشيءُ في الأَرْضِ وَخَفِيَ يَزْدَحِمُونَ على رُؤْيَتِهِ، ولكنْ إذا كَانَ الشيءُ مُرْتَفِعًا كالشمسِ والقمرِ فإنَّهُم لا يَزْدَحِمُونَ على رُؤْيَتِهِ، كُلٌّ يَرَاهُ وهو في مكانِهِ، إذا كَانَ هذا في المَخْلُوقِ؛ الشمسِ والقمرِ، فَكَيْفَ في الخالقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟*!
    وَلَمْ يُنْكِر الرؤيةَ إِلَّا أهلُ البِدَعِ كالجهميةِ والمعتزلةِ الذين يَنْفُونَ الرؤيةَ، يقولونَ: يَلْزَمُ من إثباتِ الرؤيةِ أنْ يكونَ اللَّهُ في جهةٍ، واللَّهُ عندَهُم لَيْسَ في جهةٍ، وهو عندَهُم لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا فوقَ ولا تحتَ، ولا يُمْنَةً ولا يُسْرَةً، لَيْسَ في جِهَةٍ، وهذا معناهُ أَنَّهُ معدومٌ، تَعَالَى اللَّهُ عما يقولونَ، فَنَفَوُا الرؤيةَ من أجلِ هذا الرأيِ الباطِلِ.
    وأَمَّا الأشاعرةُ: لَمَّا لم يُمْكِنْهُم إنكارُ الأدلَّةِ من الكتابِ والسُّنَّةِ أَثْبَتُوا الرؤيةَ وقالوا: يُرَى ولكن لَيْسَ في جهةٍ، وهذا من التناقُضِ العجيبِ ! لَيْسَ هناكَ شَيْءٌ يُرَى وهو لَيْسَ في جِهَةٍ، ولذلكَ رَدَّ عَلَيْهِم المعتزلةُ؛ لأنَّ هذا من المستحيلِ. وأهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: يُرَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو في جهةِ العُلُوِّ من فوقِهِم، فالجهةُ إنْ أُرِيدَ بها الجهةُ المَخْلُوقةُ فاللَّهُ لَيْسَ في جهةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بحالٍّ في خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.
    وإنْ أُرِيدَ بها العلوُّ فوقَ المَخْلُوقاتِ فهذا ثابتٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فاللَّهُ في العلوِّ فوقَ السَّمَاوَاتِ، فالجهةُ لم يَرِدْ إِثْبَاتُهَا أَو نَفْيُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، ولكنْ يُقَالُ فِيهَا على التفصيلِ السابقِ.
    ومعنى: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ) أَنَّهُم لا يُحِيطُونَ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ويَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ بغيرِ إحاطةٍ، واللَّهُ عظيمٌ لا يُمْكِنُ الإحاطةُ بهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ( طه: 110)، وقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) يعني: لا تحيطُ بهِ، ولَيْسَ معناهُ: لا تَرَاهُ؛ لأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَقُلْ: لا تراهُ الأبصارُ، إِنَّمَا قَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فالإدراكُ شَيْءٌ والرؤيةُ شَيْءٌ آخرُ، فهي تراهُ سُبْحَانَهُ بدونِ إحاطةٍ، وفي هذا رَدٌّ على مَن استدَلَّ بهذهِ الآيةِ على نَفْيِ الرؤيةِ وقَالَ: الرؤيةُ لا تُمْكِنُ؛ لأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}. فنقولُ لهم: أَنْتُم لا تَعْرِفُونَ معنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}.
    { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، معناها: لا تُحِيطُ بهِ، ولَيْسَ معناهُ: لا تراهُ ولمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ: لا تراهُ الأبصارُ.
    واسْتَدَلُّوا أيضًا فقالوا: مُوسَى عليهِ السلامُ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} (الأَعْرَاف: 143) هذا دليلٌ على نَفْيِ الرؤيةِ.
    نقولُ لهم: هذا في الدنيا؛ لأَنَّ موسى سَأَلَ ذلك في الدنيا، ، ولا أَحَدَ يَرَى اللَّهَ في الدنيا, لا الأَنْبِيَاءَ ولا غيرُهُم، وأَمَّا في الآخرةِ فَيَرَى المؤمنونَ ربَّهُم، وحالُ الدنيا ليستْ كحالِ الآخرةِ، فالناسُ في الدنيا ضِعَافٌ في أجسامِهِم وفي مَدَارِكِهِم، لا تستَطيعُ أن تَرَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وأَمَّا في الآخرةِ فإنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِم قوَّةً يستطيعونَ بها أن يَرَوْا رَبَّهُم – جَلَّ وَعَلَا – إِكْرَامًا لَهُم.
    ولهذا لَمَّا سَأَلَ موسى رَبَّهُ في هذه الآيةِ: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (الأَعْرَاف: 143) الجبلُ انْدَكَّ وَصَارَ تُرَابًا، والجبلُ أَصَمُّ صَلْبٌ، فكيفَ بالمَخْلُوقِ المُكَوَّنِ من لحمٍ ودمٍ وعظامٍ؟! فهو لا يستطيعُ رؤيةَ اللَّهِ في الدنيا.
    وسؤالُ موسى رؤيةَ اللَّهِ دليلٌ على جوازِ الرؤيةِ وإمكانِهَا؛ لأَنَّ موسى لا يَسْأَلُ ربَّهُ شيئًا لا يجوزُ، إِنَّمَا سألَهُ شيئًا يَجُوزُ، ولكنْ لا يكونُ هذا في الدنيا، فاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لَنْ تَرَانِي} وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي لَا أُرَى.
    فاللَّهُ يُرَى في الآخرةِ، وأَوْلَى الناسِ بهذه الرؤيةِ الأَنْبِيَاءُ
    وقولُهُ: (ولا كَيْفِيَّةٍ) أي: لا يُقَالُ: كيفَ يَرَوْنَ اللَّهَ؟ لأَنَّ هذا كسائرِ صفاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لا نعرِفُ
    كيفيَّتَهَا، فنحنُ نُؤْمِنُ بها ونعرِفُ معناها ونُثْبِتُهَا، ولكنَّ الكيفيةَ مجهولةٌ ولا نَعْرِفُهَا، فاللَّهُ أعلمُ بها سُبْحَانَهُ.


    (2) هذا صريحٌ أَنَّهُ نَظَرٌ إلى اللَّهِ بالأبصارِ حيثُ عُدِّيَ بِإِلَى، فمعناهُ الرؤيةُ بالأبصارِ، قالت المعتزلةُ: {إِلَى رَبِّهَا} (إِلَى) جَمْعٌ بمعنى: نِعَمٍ. أي: إِلَى نِعَمِ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وهذا تخريفٌ يَضْحَكُ منهُ العقلاءُ، لأَنَّ الحرفَ لا يُحَوَّلُ إلى جَمْعٍ.


    (3) أي: تفسيرُ {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: على ما أَرَادَهُ اللَّهُ جلَّ وعَلَا، وهو المُعَايَنَةُ بالأبصارِ، لا على ما أرادَهُ المُبْتَدِعَةُ.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

    قال الشيخ صالح آل الشيخ على شرح العقيدة الطحاوية
    قال الطحاوي رحمه الله تعالى: "والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة، ولا كيفية،كما نطق به كتاب ربنا: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظره} وتفسيره على ما أراده الله تعالى، وعلمه،وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال،ومعناه على ما أراد،لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا"

    هذه المسألة مسألة عظيمة جداً، وهي مسألة رؤية الرب - عز وجل - في الجنة.
    ورؤية الله - جل جلاله - في جنات النعيم هي أعلا ما يَلتذُّ به أهل الجنة، فأهل الجنة أعلا نعيمهم رؤية وجه الله - عز وجل -، وذلك لأنه منتهى الجمال؛ ولأنّ في الرؤية الرضا، ولأنّ في الرؤية الإكرام، ولأنّ في الرؤية صلاح القلب برؤية محبوبه - عز وجل -.
    فكل أنواع الجمال التي يتعلق بها المتعلقون إنما هي بعض جمال صفات الرب - عز وجل -؛ يعني أنها شيء من جمال الصفات، كما أن رحمة الله - عز وجل - منها جزء يتراحم به الناس.
    وكذلك جمال الحق - عز وجل - في ذاته وصفاته وأفعاله من جماله أفاض على هذا الوجود، فصارت الأشياء جميلة لما أفاض عليها - عز وجل - من جماله ـ، كما قال ابن القيم رحمه الله:
    وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان
    من بعض آثار الجميل فربها أولى وأجدر عند ذي العرفان
    فكل جمال يطمع إليه الطامع وتتعلق به نفس المُتَعَلِّقْ من جمال مخلوقات الدنيا أو من أنواع الجمال والتلذذ في الجنة فإنه ليس بشيء عند الرؤية والتلذذ بمن أفاض ذلك الجمال، وأفاض تلك اللذات على من شاء من خلقه.
    ولهذا قال بعض أهل العلم: إنَّ الرؤية لله - عز وجل - هي الغاية التي شَمَّرَ إليها المشمرون.
    فإذا كانت الجنة غاية في تشمير المشمر وفي تَعَبُّد العابد، فإنَّ أعلى نعيم الجنة وأعظم نعيم الجنة أن يرى المؤمنون ربهم - عز وجل -، كما قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَ ى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]، نظرت إلى الرحمان فاكتست الوجوه نظرة وجمالا وبهاء وحسنى تبارك ربنا وتعالى.
    قال(والرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ)
    يعني أنَّ الرؤية ثابتة، وهي حق لا مِرْيَة فيه، ولا شك فيه، وهي حق لأهل الجنة فأهل الجنة يرون ربهم - عز وجل - ويتلذذون بذاك النعيم.

    قال(بِغَيْرِ إحَاطَةٍ ولا كَيْفيَّةٍ)
    فنفى الإحاطة؛ لأنَّ رؤية الله - عز وجل - لا يمكن أن تكون بإحاطة للمرئي، كما قال سبحانه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، فرؤية الله - عز وجل - رؤية عيان؛ لكن لا يمكن أن يُحَاطَ بالله - عز وجل - رؤية كما لا يمكن أن يحاط بالله - عز وجل - علماً {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110]، ولكن أصل العلم بالله - عز وجل - ثابت، وكذلك الرؤية لا يحاط بها فلا تُدْرَكْ؛ لا تُدْرِكُ الربَّ - عز وجل - الأبصار، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، ولكن أصل الرؤية موجود.
    فالمنفي إذاً في الآيات الإحاطة، وهذا ليس في الرؤية وحدها ولكن في كل صفات الله - عز وجل -؛ فإنَّ الله سبحانه بذاته وبصفاته لا يحاط به علماً ولا يحاط بالله - عز وجل - إدراكاً ورؤية.
    قال (ولا كَيْفيَّةٍ) يعني لا تُكيَّفُ رؤية الناس لربهم - عز وجل -؛ وإنّما هي حق على ما جاء في الأدلة، والكيفية منفية؛ لأنَّ رؤية الناس لله - عز وجل - -يعني بالناس المؤمنين في الجنة- فإنَّ رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الجنة تبع لصفاته، وصفات الرب - عز وجل - لا تُعْرَفُ كيفيتها.
    فرؤية الرائي للرب - عز وجل - في دار النعيم والخلود والسعادة ليست رؤية إحاطة ولا تُكَيَّفْ بكيفية:
    - لأنَّ الله - عز وجل - في علوه لا يُعْلَمُ كيف ذلك.
    - ولأنَّ الله - عز وجل - في رؤية المؤمنين إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك.
    - ولأنَّ الله - عز وجل - في كشف الحجاب الذي يحجبه عن رؤية الخلق إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك.
    فربنا أعلى وأعظم مما يدور في الذهن أو مما يحوم عليه الخاطر أو يتوهمه المتوهم.
    فلذلك نُثْبِتُ الرؤية دون نظر في كيف تكون هذه الرؤية، لكنها رؤية بالعيان رؤية بالعينين ليست رؤية قلب، وإنما هي رؤية عينين، كما سيأتي ذلك في الأدلة.

    وكما استدل المصنف رحمه الله بقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا)
    ذكرنا لكم أنَّ هذا من الذي استعمله أهل العلم كثيراً أن يُنْسَبَ القول والنطق والكلام للقرآن يعنون بذلك من تكلم به وهو الرب - عز وجل -، فقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا) لا بأس به ويستعمله كثير من أهل العلم من المحققين والأئمة.
    قال - عز وجل - ({وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَ ى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]) هذه الآية فيها إثبات رؤية أهل الجنة للرب - عز وجل - وأنَّ وجوه من رأى الرب - عز وجل - ستكون (نَاضِرَةٌ) يعني حَسَنَة بَهِيَّة تعلوها النُّضرة والنَّضرة، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (نضّر الله امرَأً -امرؤا- سمع مقالتي فأداها كما سمعها)(1) الحديث، دعا له بنضارة الوجه يعني بالحسن والبهاء والزينة والجمال وهذا إنما هو لأهل الإيمان.
    {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني يوم القيامة تلك الوجوه ناضرة حسنة بهية، وتلك الوجوه {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ناظرة إلى الرب - عز وجل -؛ يعني رائية ربها - عز وجل -، تنظر الوجوه إلى الرب - عز وجل -.
    ووجه استشهاد المصنف بآية سورة القيامة من ثلاثة وجوه:

    الوجه الأول:

    أنَّ النظر عُدِّي بـ(إِلَى)، وتعدية النظر بـ(إِلَى) تفيد أنَّ معناه الرؤية -كما سيأتي بيان ذلك في المسائل-.
    قال ناظرة إلى ربها، وناظرة ،والنظر يأتي لمعاني فإذا عدي بـ(إِلَى) كان المراد رؤية العِيَان.

    الوجه الثاني:
    أنه جَعَلَ النظر إلى الرب - عز وجل - مضافاً على الوجوه، فجعل الوجوه هي التي تنظر إلى ربها، قال{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَ ى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالوجوه ناظرة إلى ربها، ومحل الرؤية والنظر في الوجه هو العينان

    الوجه الثالث:

    أنه قال{يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}، والنضرة: وهي الحسن والبهاء والسرور والحبور الذي يعلو الوجوه والاطمئنان، هذا إنما يكون بالرؤية لأنها منتهى النعيم واللذة، لا من الانتظار الذي لا يُدْرَى هل بعده نعيم أم بعده غير ذلك.
    فكون الأوجُهْ بالنظر صارت ناضرة، يعني حَسَنَة بَهِيَّة دَلَّ على أَنَّ هذا إنما هو الرؤية لأنه أثر الرؤية، وأما مجرد الانتظار فليس كل مُنْتَظِرٍ للرب - عز وجل - يُنضَّر وجهه، بل مِنَ المُنتظِرْ مَنْ يكربس في جهنم والعياذ بالله، وسيأتي مزيد بيان أوجه الاستدلال في المسائل إن شاء الله تعالى.

    قال(وتَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ)
    (تَفْسيرُهُ) يعني تفسير النظر إلى الرب - عز وجل - عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ.
    التفسير هنا يراد به أحد نوعي التفسير:
    وذلك أنَّهُ جَعَلَ الرؤية حق ونفى في الرؤية التي هي حق ويثبتها: الإحاطة والكيفية.
    فدل على أنَّهُ يُثْبِتُ معنى الرؤية الذي يعلمه السامع للكلام من ظاهر الكلام.
    فلما نفى الإحاطة والكيفية دلَّ على أَنَّ قوله (الرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ) أَنَّ الرؤية على ظاهرها.
    وهذا هو المعنى الأول للأشياء، هو المعنى المتبادر للذهن في الصفات.
    نقول هذا على ما يتبادر إلى الذهن، فصفة الرحمة معروفة، وصفة الكلام معروف إلى آخره.
    والنوع الثاني من التفسير هو التفسير لتمام المعنى وللكيفية.
    فإنَّ تمام المعنى والكيفية لا يعلمها إلا الله - عز وجل -، كما قال سبحانه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران:7]، على مَنْ وَقَفَ هنا، فأراد بالتأويل الذي هو التفسير تمام المعنى والكيفية.
    فإذاً تفسير النظر إلى وجه الله الكريم، تفسير النظر إلى الرب الكريم - عز وجل - بتمام معناه لا نعلمه، تفسيره على ما أراده الله تعالى، هو حق، وتمام المعنى لا نعلمه كيف ذلك.
    كيف تُعْطَى العيون القدرة.
    النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أرأيت ربك؟ قال (نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ)؟(2) وقال (رَأَيْتُ نُوراً)(3) كما في الصحيح من حديث أبي ذر، وموسى عليه السلام سأل ربه قال {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}[الأعراف:143]، قالت طائفة من السلف: كَشَفَ الله - عز وجل - من الحجاب قدر هذه؛ أنملة واحدة، فساح الجبل، فَرُدَّ طلب الرؤية على موسى لأنَّهُ لن يقدر على ذلك ،كذلك قال صلى الله عليه وسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(4).
    فإذاً الناس ليس عندهم القدرة على الرؤية، فكيف تكون عندهم القدرة على الرؤية؟ وكيف تكون قُواهُم؟ وكيف تكون قُدَرُهُم؟ وكيف يُعطون؟ وعلى أي حال تكون الرؤية وتفسير ذلك على تمام معناه؟
    هذا كله لا يُعْلَمْ كما قال (تَفْسيرُهُ) -يعني بتمام معناه بما يزيد على إثبات الرؤية وأنها حق - على ما أراد الله تعالى وعلمه، لا ندخل في ذلك متأولين ولا متوهمين، كما ذكر بعد ذلك.
    وهذه الكلمة تشبه ما ذكره ابن قدامة وغيره عن الإمام أحمد وعن الإمام الشافعي في الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الصفات؛ صفات الرب - عز وجل -، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى.
    وهذه استدل بها بعض أهل التأويل على أنهم - يعني الإمامين - يعنون بذلك التأويل.
    لا كيف فلا نكيف الصفات.
    ولا معنى لا نثبت المعنى بل نفوض المعنى والكيفية.
    وهذا ليس بمراد، بل المراد من قولهم لا كيف ولا معنى أنَّ إمرار الصفات كما جاءت معناه إثبات الصفات على ما دل عليه ظاهر الكلام؛ لأنَّ الصفة لا تُثْبِتُهَا إلا بما دل عليه ظاهر الكلام.
    ونفي الكيفية عن الصفة يعني الكيفية التي نحا إليها المجسمة.
    ونَفْيُ المعنى بقولهم لا كيف ولا معنى؛ يعني المعنى الذي ذهب إليه المؤؤلة الذي يخالف ظاهر الكلام، ويخالف الإمرار كما جاءت.
    فإذاً الإمرار كما جاءت بما يُفْهَمْ، فمن كيَّف فقد صار مجسماً أو صار مكيفاً، ومن تأول المعنى فقد دخل في الكلام بما يخرج اللفظ عن ظاهره.
    لهذا قول القائل لا كيف ولا معنى؛ يعني لا كيف كما يقول المجسمة ولا معنى كما يقول المؤولة بما يُخْرِجُ تلك الآيات والأحاديث عن ظاهرها المتبادر منها من إثبات صفات الرب - عز وجل - والأمور الغيبية بعامة، وهذا كما قال هنا (تَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ).

    قال (وكلُّ ما جاءَ في ذَلك مِنَ الحديث الصَّحيح عَن الرسولِ صلى الله عليه وسلم فهو كما قال)
    وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - بالتواتر.
    عُدَّ ذلك متواترا في أكثر من عشرين حديثاً جاءت عن المصطفي صلى الله عليه وسلم في إثبات الرؤية، بأحاديث متنوعة، مختلفة في ألفاظها وفي طرقها عن عدد كبير من الصحابة، فهي متواترة.
    ولهذا كَفَّرَ طائفة من أهل السنة من أنكر رؤية الرب - عز وجل - لأنه إنكار للمتواتر من القرآن وللمتواتر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال (فهو كما قال، وَمَعناهُ على ما أراد، لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا).
    (لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا) يعني نُخْرِجْ هذا الظاهر بتأويل.
    (ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) بما يجعل للرؤية كيفية مُعَيَّنَة، فَنُثْبِتْ الرؤية بكيفية أو لأجل الكيفية ننفي الرؤية كما ذهب إليه المعتزلة وكما ذهب إليه المجسمة.
    فالمعتزلة توهموا أنَّ الرؤية تكون بكيفية فنفوا، والمجسمة توَهَّمُوا أَنَّ الرؤية تكون بكيفية فأثبتوها على تلك الكيفية.
    إذا تبين لك هذا المعنى العام لكلام الماتن رحمه الله
    ففي هذه المسألة العظيمة، مسألة الرؤية مسائل

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

    [المسألة الأولى]:
    أنَّ المؤمن في تَعَلُّقِهِ بربه - عز وجل - في عبادته سبحانه بأنواع العبادة القلبية والعملية يرى أنّ الإنعام عليه بأن يكون من أهل الجنة هذا أعظم الإنعام؛ لأنَّ من دخل الجنة قد رضي الله عنه ومَتَّعَهُ بملاذِّها وحبورها وسرورها وأفاض عليه الزيادة وهي رؤية وجه الله الكريم.
    ومن أحب تَعَلَّقَ بالمحبوب، وإذا تَعَلَّقَ القلب بالمحبوب لم يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يلقى محبوبه راضياً عنه متمتعاً بلذة النظر إليه ومحادثته وتحيته، كما قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا(43)تَحِي َّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}[الأحزاب:43-44]، فهذا أعلى أنواع التمتع.


    والقلب إذا خشع لله - عز وجل - وتلذذ بتلاوة القرآن وبالصلاة، وعلم أنَّ هذه من اللذات الحاضرة التي هي التلاوة والصلاة، فكيف بأعظم اللذات وهو رؤية الرب - عز وجل - وهي الغاية كما ذكر العلماء التي شَمَّرَ إليها المُشَمِّرُون، الذين تعلقت قلوبهم بالرب - عز وجل -.


    [المسألة الثانية]:
    أنَّ أهل السنة والجماعة جعلوا الرؤية حق، والرؤية بالعينين.
    وهذه الرؤية جاءت فيها آيات كثيرة وأحاديث متواترة عنه صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل التفسير من الصحابة والتابعين على القول بالرؤية، ولم ينكرها أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
    ومن الأدلة على أنَّ الرؤية حق:
    قول الله - عز وجل - {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، وقوله - عز وجل - {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26]،وقوله - عز وجل - {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[ المطففين:23]، وقوله - عز وجل - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَ ى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]،وقوله - عز وجل - عن الكفار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]،وقوله - عز وجل - {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق:35]، ونحو ذلك من الأدلة.
    وكذلك الأدلة التي فيها ذِكْرُ لقاء الله - عز وجل - كلها صالحة للاحتجاج بها على رؤية الله سبحانه، كقوله سبحانه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، فَسَّرَهَا طائفة من العلماء من السلف فمن بعدهم بأنَّ لقاء الله برؤيته وهو المعروف لغة.
    وكذلك في قوله - عز وجل - {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}[الأحزاب:44] قال ثَعْلَبْ -وهو من علماء اللغة المبرزين العارفين-: أجمع أهل اللغة على أنَّ اللُّقْيَا هاهنا هي الرؤية، وذلك لأنَّه لا يمكن ملاقاة وتحية وخطاب باللغة إلا برؤية، والأدلة على ذلك متنوعة، في كل دليل فيه ذكر الرؤية لله - عز وجل - أو فيه ذكر اللقاء، أو ما فُسِّرَ بالسنة برؤية الله - عز وجل -.
    وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكما ذكرت لكم الأدلة كثيرة جداً بلغت مبلغ التواتر، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم (إِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ يوم القيامة كَمَا تَرَوْنَ البدر ليلة التمام لاَ تُضَامّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)(1).
    والحديث الآخر قال فيه صلى الله عليه وسلم (هل تَرَوْنَ الشمس في وسط النهار، هل تُضَامّونَ فيها؟) قالوا: لا. قال (هل تَرَوْنَ القمر ليلة الْبَدْرِ، هل تُضَامّونَ فيه؟) قالوا: لا. قال (فإِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ كما تَرَوْنَ الشمس وسط الظهيرة لا تُضَامّونَ فيها وكما تَرَوْنَ القمر ليلة التمام لا تُضَامّونَ فيه)(2).
    وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26]، من حديث صهيب ا، قال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل (الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم)(3).
    وأيضا في الباب قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة (جنتان من ذهب وما فيهما، وجنتان من فضة وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا أن يُكشف الحجاب)(4).
    نسأل الله سبحانه المنّ والكرم لرؤيته - عز وجل -، وأن يغفر لنا ذنوبنا وآثامنا، وأن نلقاه وهو راض عنا، سبحانه إنه جواد كريم.
    هذه الآيات والأحاديث فيها تقرير لقول أهل السنة واضح الدِلالة.
    ولا نخوض في ذلك بتقرير الأوجه اللغوية لما ذُكر لأنه بتكاثرها وتواردها بلغت مبلغ القطع في هذه المسألة، حيث إنَّ المسالة ليست بخفية حتى قال الإمام أحمد لمن قال له إنَّ فلاناً ينكر الرؤية قال: كافر، كافر. يعني لأنَّ هذه لا تحتمل التأويل، وليس ثَمَّ فيها شبهة.
    - من أدلتهم أيضا قوله - عز وجل - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}[الأنعام:103]، قالوا: فَنَفَى الإدراكَ، ونَفْيُ الإدراك مستلزم لانتفاء الرؤية.
    & والجواب أنَّ هذا غلط كبير؛ لأنَّ نَفْيَ الإدراك لا يستلزم انتفاء الرؤية، فإنَّه قد ترى الشيء ولا تدركه؛ يعني لا تحيط به، فهذه السماء نراها ولا أحد يشك في أنه يرى السماء، ولو قلت لأي أحد يرى السماء: هل تدرك السماء رؤية وتحيط بها؟
    فسيكون جواب كل أحد: لا، يعني لا يدركها رؤية، وإنما يرى منها ما يمكنه أن يرى وكما قال - عز وجل - {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلَّا}[الشعراء:61-62] ووجه الدلالة أنَّهُ نفى الإدراك، ومع نَفْيِ الإدراك أثبت الله - عز وجل - الترائي وهو رؤية كل جمع لآخر فقال {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ} هذا الجمع رأى الجمع وذاك الجمع رأى الجمع ومع ذلك {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فقال موسى (كَلَّا) يعني لن نُدْرَكْ يعني لن يُحاطَ بنا.
    فنَفْيُ الإحاطة لا يستلزم أن تُنْفَى الرؤية؛ بل نَفْيُ الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية نقيض ما قالوا، وهو الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية.
    الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية أنَّ نفي الإدراك ليس كمالاً، والقاعدة المعروفة أنَّ كل نفي في القرآن فكماله بإثبات ضده، فربنا - عز وجل - قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، وذلك لكمال سعته سبحانه وتعالى وكمال علوه وكمال استغناه عن خلقه، إلى غير ذلك من أفراد صفات الجلال للرب - عز وجل -.
    فلا يقال إنه لا يُدْرَك ويكون المراد كمالاً إلا وأَصْلُ ذلك ثابتاً، وهو أنه في محل من يُرَى أو في محل الرؤية.
    مثال ذلك أنك لو قلتَ: إنني لم أر العقل، ولم أر الفهم، ولم أر القلب، ولم أر السمع، ولم أر الإبصار، وهكذا الصفات ولم أر الرحمة، ولم أر الرأفة، إلى آخرها، فإنَّ نفي هذه الرؤية ليس كمالاً في أنَّ هذه الأشياء تُرى، ولكنك عجزت.
    لأنك متى ما قلت في شيء إنك تراه أو لا تدركه رؤيةً فإنما يكون كمالاً إذا كان في محل ما يمكن أن يُرَى.
    أما الأشياء التي لا تُرَى أصلاً فإنه ليس من الكمال أن تَنْفِي الرؤية عنها.
    فكونك تنفي الرؤية عن الرحمة لا يعد هذا كمالا في الرحمة، وإنما هكذا وُجِدَتْ، كونك تنفي الرؤية عن الإبصار والإدراك لا يدل على كمال فيها.
    فإذاً دَلَّ نَفْيُ الإدراك عن الرب - عز وجل - أنَّ نَفْيَ الإدراك لأجل أنه عظيم - عز وجل - فإنه يُرَى، ولكنه لا يُدْرَكْ.
    والإدراك ينقسم إلى قسمين:
    - إدراكٌ بِرُؤْيَةٍ
    - وإدراك بعلمه
    والإدراك بعلم: نَفَاهُ الله - عز وجل - في قوله سبحانه {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110].
    وإدراك الرؤية: نفاه الله - عز وجل - في هذه الآية.
    وهذه الآية في إدراك الرؤية لا في إدراك العلم، دلَّ عليها قوله بعد النفي {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103].
    فكونه سبحانه {يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} يعني يراها، وخَصَّ الإدراك بإدراك الأبصار لأنَّ الأبصار هي محل نَفْيِ الإدراك السابق، فقال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}[الأنعام:103]، فلما قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} دَلَّنَا على أَنَّ المنفي هو إدراك الرؤية لا إدراك العلم.
    والأدلة التي استدلوا بها متنوعة كثيرة، لا نُشْغِلُكُم بها معروفة وهذه المسألة من أطول المسائل التي فيها الكلام، لكن دائماً المؤمن أحق بالحجة من غيره، وفهم الحجة يكون بالأناة، تتأنى في فَهْمِ احتجاج أهل السنة، فإننا -ولله الحمد- بتجرد لا نعلم مسألة قال فيها أهل السنة قولاً واستندوا فيها إلى الأدلة، ويكون ثَمَّ فيها شبهة لا في الأصول -أصول صفات الرب - عز وجل - - ولا في الغيبيات بعامة؛ لأنَّ قولهم مُبَرَّأْ من الهوى، لا يدخلون متوهمين بأهوائهم ولا متأولين بآرائهم وقلوبهم، وإنما يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، وإنما هم مستسلمون لنصوص الوحي، كما سيأتي إن شاء الله في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
    من العجيب أنَّ الحجج عند المعتزلة يحتجون بما ذكرنا ويَرُدُّونَ حُجَجَ أهل السنة على حسب أقوالهم بتفسير النظر كما قلنا بأنها ناظرة يعني منتظرة، إلى آخر ما ذكرت لكم.
    لكنهم إذا أتت السنة والأحاديث في تفسير الآيات وفي إثبات الرؤية وهي بالغة مبلغ التواتر فإنهم يشرحون ولا يستطيعون حتى الإبانة عن وجه ربها.
    يعني أنهم يقلقون ولا يحسنون إبانةً ولا تَفْقَهُ لهم قولاً.
    وقد سمعت كلام بعضهم، سمعته بأُذُنَيَ وقرأت كلام بعضهم أيضاً بعينيَّ فما أحسنوا جواباً ولا خَلَصُوا إلى قول يردُّونَ به الأدلة من السنة.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

    [المسألة الثالثة]:
    أنَّ قول أهل السنة في الرؤية؛ أنَّ الرؤية حق لأهل الجنة وللمؤمنين في عرصات القيامة.
    والرؤية التي للمؤمنين هي رؤية سرور وتلذذ وإكرام.
    واختلف أهل السنة في رؤية الله - عز وجل - في الموقف:
    - هل هي للمؤمنين وحدهم.
    - أم للمؤمنين والمنافقين.
    - أم للناس جميعا، على ثلاثة أقوال.
    وكل الأقوال في مذهب أهل السنة - يعني قال بها طائفة -.
    وكما قال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: إنَّ الخلاف في هذه المسألة -يعني هل يرى الكفار ربهم يوم القيامة أو لا يرونه؟ هل يراه المنافقون أو لا يرونه؟- لا ينبغي أن تكون من المسائل التي يُشَدَّدُ فيها الخلاف؛ بل الأمر فيها خَفِي، هذا نص عبارته.
    والمذاهب فيها كما ذكرت لكم ثلاثة:
    - فجمهور أهل السنة والحديث على أنَّ الرؤية للمؤمنين في عرصات القيامة.
    - وقال طائفة(1) للمؤمنين والمنافقين، وممن ذهب إلى ذلك ابن خزيمة كما نصًّ عليه في كتاب التوحيد
    - القول الثالث: أنَّ الرؤية للجميع، للمؤمنين والمنافقين والكفار.
    واستدلوا على ذلك بأنَّ الكافر يُحْجَبْ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]، قالوا: فكونه حُجِبَ يومئذ دلَّ على أنَّه قبل ذلك لم يكن محجوباً؛ لأنَّ الكلام في الآخرة، وأما في الدنيا فالكل محجوب عن رؤية الرب - عز وجل -.
    وهذه الأقوال جَمَعَتْ النظر في الرؤية.
    ويبقى أنَّ رؤية الرب - عز وجل - نوعان:
    1 -
    النوع الأول: رؤية إكرام ولذة ونعيم وإنعام وحبور وسرور، فهذه للمؤمنين في الجنة وللمؤمنين في عرصات القيامة، فهي من الطمأنينة لهم.
    2 -
    والنوع الثاني رؤية حساب وتقرير وتعريف، فهذه هي التي يمكن أن يقال: إنها مرادة في حديث المنافقين فيما ثبت في الصحيح (أنَّ الله - عز وجل - يأتي الأمة وفيه منافقوها، ثم يأتيهم في غير الصورة التي رأوها من قبل، ثم يأمرهم بالسجود فلا يسجدون، فيقولون نحن هنا حتى يأتي ربنا، ثم بعد ذلك يكشف الرب عن ساق، فيعرفونه فيسجد المؤمنون، ويبقى من لم يكن مخلصا في الدنيا يريد أن يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا)(2) فهذا يدل على أنّ هذه الرؤية رؤية تعريف ورؤية حساب وهذا النوع من الرؤية لا ينبغي أن يكون الخلاف فيه؛ لأنَّ الحديث دل عليه.
    فإذاً الرؤية التي نقول: إنه أجمع أهل السنة على أنها للمؤمنين هي رؤية التنعم والتلذذ، و في ضمن ذلك رؤية التعريف.
    وأما رؤية الله - عز وجل - للتعريف والحساب فهذه كُلٌ يراه بحسب حاله والله أعلم بكيفية ذلك وتفسيره.
    أما الكفار فعامة أهل العلم إلا من شذَّ وقلَّ يقولون إنَّ الكافر لا يرى الله - عز وجل - لا رؤية تعريف ولا رؤية تلذذ من باب أولى؛ لأنَّ الكافر محل العذاب والنكال.
    وأجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]، بأَّن هذا استدلال بالمفهوم، بمفهوم (يَوْمَئِذٍ)، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وهم محجوبون في الدنيا عن الرؤية وكذلك محجوبون في الآخرة عن الرؤية.
    وكلمة (يَوْمَئِذٍ)، ليس لها مفهوم كما قال - عز وجل - {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]، وكما في قوله {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، وفي آيات كثيرة عُلِّقَتْ أشياء تحصل يوم القيامة بـ(يَوْمَئِذٍ)، وقد يكون جنسها أو بعض أفرادها يحصل في الدنيا إما بالعموم أو بالخصوص.
    المقصود من رد الاستدلال أنه كلمة (يَوْمَئِذٍ) ليس لها مفهوم، لا نفهم منه أنهم حُجِبُوا يومئذ فمعنى ذلك أنهم قبل ذلك يعني قبل الحجب يومئذ لم يكونوا محجوبين، بل كانوا محجوبين ثم صاروا محجوبين لكن توعَّدَهُم بين حالهم بقوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيم)، فحُجِبوا ثم صاروا صالين للجحيم .


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

    [المسألة الرابعة]:
    مذاهب الناس في الرؤية متعددة، منها -يعني من خالف قول أهل السنة- أشهرها مذهبان:
    1 -
    المذهب الأول:
    مذهب من منع الرؤية وتأَوَّلَ كل النصوص الواردة في ذلك: وهم المعتزلة، قبلهم الجهمية، والخوارج بعامة، والإمامية من الروافض؛ بل الروافض بعامة؛ لأنَّ الزيدية ينكرون الرؤية كقول المعتزلة.
    وهذا القول له حججه واستدلالاته ستأتي.
    2 -
    المذهب الثاني:
    مذهب من أثبت الرؤية ولكن قال: الرؤية ليست إلى جهة، وإنما تكون إدراكاً، وهذا هو قول الأشاعرة ومن نحا نحوهم.
    فردُّوا قول المعتزلة في أنَّ الرؤية ممتنعة بإثباتها، ووافقوهم في أنَّ ليس على العرش رب وأنَّ الله سبحانه ليس في جهة - جهة العلو - فقالوا الرؤية لا إلى جهة.
    وكيف تكون رؤيةً إذاً وليست إلى جهة؟
    أما قول المعتزلة والخوارج، ويُشْهِرُ هذا القول في زمننا هذا طوائف الروافض والزيدية والإباضية من الخوارج ويستدلون له.
    فمن أدلتهم:
    1-
    قوله - عز وجل - حينما سأل موسى عليه السلام الرؤية {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}[الأعراف:143]، إلى آخره، قالوا: وجه الاستدلال أنَّه نَفَى رؤية الله - عز وجل -، وموسى الكليم أحق الناس بالرؤية، والنفي بلن يفيد التأبيد.
    *والجواب عن هذه الحجة التي أدلى بها أوائل المعتزلة من شابههم إلى يومنا هذا: أنَّ النفي بلن في اللغة لا يفيد التأبيد، وإنما يفيد النفي المجرد.
    وأما من قال إنه يفيد التأبيد وهو الزمخشري في الكشاف وفي كتابه المفصل في النحو فإنه باطل، وردَّه ابن مالك في الكافية الشافية بقوله:
    ومن رأى النفي بلن مؤبدا ****** فقوله اردد وسواه فاعضدا
    وردَّهُ أيضا ابن هشام في أوضح المسالك قال: ولا تفيد تأبيد النفي خلافا لمن قاله.
    ويدل على ذلك أنَّ الله - عز وجل - قال {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}[البقرة:95] يعني الموت، فقال (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) فنَفَى بالتأبيد بكلمة (أَبَدًا) وباستعمال (لَنْ) نفى التمني، وأثبت أنهم يتمنونه يوم القيامة قال - عز وجل - {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77] يعني ليميتنا ربك قال (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)، فدل على أنَّ نفيه بـ(لَنْ) وبكلمة (أَبَدًا) لم يفد التأبيد المستغرق للدنيا والآخرة معا.
    فإذاً أفاد:
    أولاً: أنَّ قوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أنه لَمَّا استعمل (أَبَدًا) دلَّ على أنَّ (لَنْ) لا تفيد التأبيد.
    ثانياً: على أنَّ كلمة لن لَمْ تُفِدْ التأبيد؛ لأنهم تمنوا الموت في الآخرة، فدلت على أنها تفيد النفي في الدنيا.
    2 -
    ومن أدلتهم أنهم قالوا: إنَّ النظر في القرآن وفي اللغة يفيد الانتظار، وهو أصله، وليس أصل النظر الرؤية، فالآيات التي فيها ذكر النظر تفيد الانتظار.
    فقوله - عز وجل - {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا}(1) يعني فهل ينتظرون وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]؛ يعني منتظرة الفرج، ويستدلون عليه بقول الشاعر:
    وجوهٌ يوم بدرٍ ناظراتٌ ****** إلى الرحمن يأتي بالفلاحِ
    ناظرات إلى الرحمن، قالوا معناها منتظرات.
    * وهذا القول في الاستدلال بمعنى النظر والإتيان عليه بهذا الشاهد اللغوي ليس على ما قالوا، وذلك أن اللغة فيها أفعال تختلف بالتعبير كثيرة جداً، فيكون للفعل معانٍ متعددة مختلفة بأنواع التعبير، ومنها فعل:
    انْتَظَرَ ونَظَرَ، ومصدر ذلك واسم الفاعل ناظراً.
    وتبيين ذلك أن يُقالَ -كما أوضحه الشارح وغيره من أهل اللغة- أَنَّ كلمة النظر وما اشْتُقَّ منها:
    - تارَةً تتعدى بنفسها فيكون المعنى الانتظار؛ يعني تصل إلى المفعول بنفسها فيكون معناه الانتظار.
    - وتارَةً تتعدى بـ(في) فيكون المعنى التفكر والاعتبار.
    - وتارَةً تتعدى بـ(إلى) فيكون المعنى الرؤية، وقد يكون مع الرؤية الانتظار بحسب السياق، لكن لا يمكن أن تتعدى بـ(إلى) ويكون انتظاراً بلا رؤية، لا يمكن، ولم يأتِ في أي شاهد في لغة العرب ولا في القرآن ولا في السنة أنَّ النظر يتعدى بـ(إلى) ويكون معناه الانتظار المجرد من الرؤية ،بل النظر إذا تَعَدَّى بـ(إلى) صار معناه الرؤية، وقد يكون على قِلَّةْ مع الرؤية الانتظار، وهذا له نظائر في اللغة يطول الكلام ببيانها.
    فإذاً قوله - عز وجل - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَ ى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]، كونه عدّى اسم الفاعل (نَاظِرَةٌ) الذي يعمل عمل فعله عداه بـ(إِلَى) دل على أنَّ المراد الرؤية، وكونه أضاف النظر إلى الوجوه التي هي مكان الرؤية دلّ على أنَّ الرؤية تكون بآلة في هذا الوجه وهي العينان.
    لهذا قال طائفة من المحققين من أهل السنة: إنَّ تأويل نصوص المعاد والبعث والقبر والصراط والجنة والنار ونحو ذلك - ما يحصل يعني في عرصات يوم القيامة وما يحصل في السماء- أسهل بكثير من تأويل آيات وأحاديث الرؤية؛ لأنها بلغت مبلغ التواتر وأُكِدَتْ بأنواعٍ من التأكيدات، وبُيِّنَتْ بأنواعٍ من البيان بما يقطع معه السامع أنَّ المراد بها ظاهرها على حقيقتها حتى عند قول من يجيز القول بالمجاز أو التأويل الذي ينحو إليه ألئك، فإنَّ هذه لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على غيرها بقطع.
    فإذن الحجة فيها قوية وقاطعة وإنما هو الهوى، نسأل الله - عز وجل - السلامة والعافية، ولكن يجب على المؤمن الموحد أن يعلم الأدلة ووجه الحجة حتى يدلي بحجته في تلك المسائل.
    أما قول الأشاعرة في المسألة وهو أنهم قالوا يُرَى إدراكاً لا إلى جهة فإنه عجيب.
    فإنَّ قول المعتزلة في نفي الرؤية أقرب إلى العقل من قول الأشاعرة - يعني إلى عقل وفهم السامع - خلافاً لقول الشارح إنَّ قول الأشاعرة أقرب إلى العقل من قول من نفى.
    بل الحقيقة العكس:
    من نَفَى الرؤية لأنه لا يثبت العلو قال ما دام أننا لا نثبت العلو فالرؤية لا يمكن أن تكون إلا إلى جهة.
    الإنسان كيف يرى؟
    لابد إلى جهة يراه، أما يرى شيئاً ليس أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وليس بأعلى منه ولا أسفل منه فكيف يراه؟ وأين يراه؟
    لا شك أنَّ هذا العقل يرده.
    ولهذا نقول قول الأشاعرة إنه يُرَى لا إلى جهة؛ يعني لا يُرَى في جهة العلو ويُرَى إدراكاً، فإنَّ هذا ولو كان إثباتاً للرؤية فهو غير مقبول عقلاً ولا مقبول سمعاً.
    والواجب إثبات النصوص التي جاء فيها ذلك وإثبات ما دلت عليه من أنَّ الرؤية تكون على ما أخبر الله - عز وجل -، وأنَّ الله سبحانه يطَّلع إلى أهل الجنة وأنه يكشف الحجاب فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى الرب - عز وجل -، وأنه سبحانه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وأنَّ عرش الرحمن فوق الجنة؛ يعني سقف الجنة، وهكذا في أدلة كثيرة.
    فمن نفى علو الرحمن - عز وجل - وقال هو -سبحانه- في كل مكان، فكيف يُقْبَلُ إثباته للرؤية؟
    لاشك أنَّ قول الأشاعرة عجيب وليس لهم حجة من جهة سمعية ولا من جهة عقلية، إلا شيئاً واحداً وهو أنهم أبطلوا: نفي علو الله - عز وجل -؛ وأنّه سبحانه في كل مكان وفرَّعُوا عليه أنَّ الرؤية لمَّا جاءت بها الأدلة قالوا يُرَى لا إلى جهة وهذا باطل.
    [المسألة الخامسة]:
    أنَّ رؤية المؤمنين في الجنة لربهم - عز وجل - عامة بالإنس والجن، للرجال وللنساء، وللملائكة ايضا - الملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23)سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:23-24]، فالملائكة في الجنة يعني طائفة منهم في الجنة، وفي الجنة المؤمنون من الجن والإنس ومن الرجال والنساء، ولم يدلَّ دليل على اختصاص الرؤية بالرجال دون النساء ولا على اختصاص الرؤية بالإنس دون الجن، وهذه فيها أقوال:
    1 -
    القول الأول:
    من قال: إنَّ الرؤية للإنس دون الجن، وهذا خلاف الصواب كما ذكرنا؛ لأنَّ الآيات عامة في الرؤية في كل مؤمن فمن دخل الجنة رآه.
    2 -
    القول الثاني:
    إنَّ الرؤية للرجال دون النساء، واستدلوا على ذلك بقوله - عز وجل - {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72] وأنَّ القصر في الخيام يدل على عدم خروجهن من ذلك.
    * والصواب أنَّ الرجال والنساء من المكلفين من الجن والإنس يرون ربهم - عز وجل - إذ كانوا من أهل الجنة.
    وأمَّا الاستدلال بالآية فعجيب لأنَّ:
    @ أولاً: الآية أولاً في الحور، والحور خلق ينشؤهن الله - عز وجل - إنشاءً في الجنة وليسوا من المكلفين في الدنيا.
    @ ثانياً: أنَّ الله - عز وجل - قال {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56] وقال - عز وجل - في الآية الأخرى {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}، فمن نعيم أهل الجنة أنهم يتمتعون هم وأزواجهم على الأرائك فيتكئون وينظرون، وإخراج النساء من الاتكاء ضده الآية وكذلك إخراجهم من النظر ضده الآية.
    لهذا نقول غلط من قال إنَّ الرؤية للرجال دون النساء، فالنساء يرون ربهم - عز وجل - كما يراه الرجال؛ لأنهم مكلفون متعبدون، والنعيم عام للإنسان الذي يدخل الجنة من الرجال والنساء جميعاً، نسأل الله الكريم من فضله.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ ولا كِيْفِيَّةٍ.

    [المسألة السادسة]:
    رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وهل حين المعراج رأى ربه أم لا؟
    اختلف فيها أهل العلم على أقوال:
    1 -
    القول الأول:
    من ينفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه - عز وجل -؛ يعني بعينيه.
    2 -
    القول الثاني:
    من يثبت الرؤية إما بالقلب أو بالعينين.
    3 -
    والقول الثالث:
    التوقف.
    والتوقف لا ينبغي أن يكون قولاً؛ لكن هكذا قيل.
    & أما القول الأول: وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فهذا هو القول الذي عليه الجماهير، ولمَّا قال مسحوق لعائشة رضي الله عنها: إنَّ قوما يقولون إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقالت عائشة: لقد قَفّ شَعْرِي -يعني وقف شعري- مما قلتَ، وهذا مما يدل على:
    - تعظيم الصحابة لربهم - عز وجل -.
    - وأنهم قَدَرُوهُ سبحانه حق قدره.
    - وأنَّ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم مهما علت وعظُمَتْ فإنه يعلمون عظمة الرب - عز وجل - وعظيم صفاته ـ.
    قالت: لقد قَفّ شَعْرِي مما قلت، من زعم أَنّ مُحمداً صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ.
    وفي حديث أبي ذر عند مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟ قال (رَأَيْتُ نُوراً)، وفي الرواية الأخرى قال (نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)؟(1)
    قوله (رَأَيْتُ نُوراً) يعني الحجاب، فإنَّ الله - عز وجل - نور وحجابه نور.
    (رَأَيْتُ نُوراً) يعني رأى الحجاب، ولم ير الرب - عز وجل -.
    ولهذا في الرواية الثانية قال (نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)؟ يعني ثَمَّ نور حاجب فكيف أراه؟
    وهذا هو الصحيح لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، بل لا يرى أحدٌ ربه بعينيه في الدنيا.
    & أمَّا القول الثاني: من قال إنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه أو بقلبه وهو منسوب إلى ابن عباس وقاله طوائف قليلة من الناس، فهذا بناء على آية سورة النجم، والاستدلال بها فيه نظر.
    & أما القول الثالث: التوقف فلا يصلح؛ لأنَّ الحديث دال على نفي الرؤية مع كلام عائشة ك.
    نكتفي بهذا القدر، وثَمَّ مسائل كثيرة في رؤية الله - عز وجل - نرجئها أو نطويها، والمسألة من أراد المزيد فيها فليراجعها في مظانها.
    أسأل الله سبحانه أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    [شرح الطحاوية للشيخ صالح ال الشيخ ]


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •