التحلل الأسري
أ·د·محمد رواس
ثانياً: الرغبة في التفلت من رقابة الأسرة: من أسباب التفكك الأسري رغبة أفراد الأسرة بالتفلت من رقابة الأسرة، وممارسة الحرية في التصرفات، وسبب ذلك يعود إلى أمرين اثنين:
الأول: فساد في الشخص الذي يريد التفلت من رقابة الأسرة، إذ إن رقابة الوالدين بخاصة، ومجموع أعضاء الأسرة بعامة تمنعه من ممارسة حريته غير المنضبطة، ولذلك فإنه يعلن تمرده على الأسرة وانشقاقه عنها، وسبب هذا في نظري: إفراط الوالدين في تدليل الولد، وإجابة جميع طلباته، وعدم تعويده على سماع كلمة )لا) من أحد، ولما يشب ويصلب عودة، ويريد أن يمارس حريته غير المنضبطة بأدب أو دين، ويسمع اعتراض الأسرة على تصرفاته، يضيق بها ذرعاً، ويتمرد عليها· وقد يكون سبب ذلك رفقة السوء الذين يغرونه ويزينون له الخروج على طاعة الوالدين أو الخروج عن تقاليد الأسرة·
الأمر الثاني: ضغط الأسرة الخارج عن حد التحمل، أو قسوة الوالدين أيضاً، قد يحملان الولد على الهرب إلى ساحة الحرية، وكسر طوق الأسرة التي تطوِّقه بطوق يشق عليه احتماله·
ثالثاً: الخيانة الزوجية: وأعني بالخيانة الزوجية: إحداث علاقة جنسية غير مشروعة من غير الزوج أو الزوجة، سواء كانت هذه العلاقة وقاعاً أو ما دونه من الاستمتاع باللمس أو بالنظر أو بالحديث أو بالحب· وأسباب الخيانة الزوجية متعددة، يأتي في طليعتها ضعف الوازع الديني، والاختلاط بين الجنسين، لأنه لا خيانة بغير اختلاط·
وفي ظل الخيانة الزوجية يعظم التفكك الأسري، حيث يضعف أو ينعدم انجذاب كل من الزوجين للآخر، ويسود الفتور، لا، بل الكره، للزوج الخائن، وكثيراً ما ينتهي ذلك بالطلاق·
ويمكننا أن نجعل علاج الخيانة الزوجية على نوعين علاج وقائي، وعلاج دوائي·
أما العلاج الوقائي فإنه يتمثل بما يلي:
1 ـ اختيار كل من الزوجين زوجه اختياراً مبنياً على أساس الدين والتقوى والخلق الفاضل، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (فاظفر بذات الدين تربت يداك)(9)، وقوله (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)(10) ومن أعظم هذا الفساد: الخيانة الزوجية·
2 ـ رؤية كل من الزوجين الآخر قبل الزواج، ومعرفة درجة جماله، ومقدار قبوله في القلب، لئلا يزين الشيطان للأزواج أو للزوجات الخيانة الزوجية بدعوى أن الزوج أو الزوجة قبيحة، والمأتية حراماً جميلة·
3 ـ وجوب رعاية المرء نفسه بالتزكية حيناً بعد حين، ليقطع طريق الغواية على الشيطان، قال تعالى في سورة الشمس: 9 ـ 10(قد أفلح من زكاها· وقد خاب من دساها)·
أما العلاج الدوائي: فإنه يتمثل بما يلي:
1 ـ الستر على من وقعت منه الخيانة الزوجية مع وعظه وتوجيهه، إلا أن يجاهر بخيانته، أو يتحدث بها بغير مبالاة، فعندئذ لابد من عقوبته عقوبة يكون فيها عبرة لغيره، وهذه العقوبة في الإسلام هي الرجم بالحجارة حتى الموت·
2 ـ إحاطته برفقة خيرة تزين له العفة وتقنعه بها، وتقبح له الخيانة الزوجية وتكرِّهه بها، كما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه فتى شاب، فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه: قالوا: مه مه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادنه، فدنا منه قريباً، قال، فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)(11)·
رابعاً: إنكار المرأة حق الزوج في الزواج بأكثر من واحدة: من حق الزوج أن يتزوج بأكثر من زوجة واحدة، فإذا تزوج بزوجة ثانية فقد لا يوفق هو في التوفيق بين الزوجتين، وقد لا تحتمل الزوجة أن تشاركها امرأة أخرى في زوجها، ويتحزب لكل زوجة أولادها، ويظهر التفكك الأسري، وتحل البغضاء بين الإخوة بدل التحابب، ويجد الكيد في ظل هذه البغضاء له مرتعاً، فيكيد بعض الأولاد لبعض، وتكيد كل ضرة لأختها، وقد يناصر الزوج زوجة على أخرى، وعندئذ يتفاقم الأمر، وتعظم البلية·
وفي مثل هذه الحال لابد من أن يكون الزوج حكيماً، لا يناصر واحدة على حساب الأخرى، ويقيم العدل بين زوجاته، ولا ينتقص واحدةً شيئاً من حقها عليه، ولا يظهر الميل لواحدة دون الثانية، وتقنع المرأة أن تعدد الزوجات حق من حقوق الزوج، رخَّص الله تعالى له به وهو على كل حال خير من الزنا، لما فيه من البعد عن الأمراض الجنسية المهلكة، ولما فيه من الاجتماع بمن تملك على الأقل الحد الأدنى من الخلق والدين، أما الزانية فإنها لا تملك شيئاً منهما، وإن مشاركة زوجة أخرى لها في زوجها قدر قدره الله تعالى، ولا راد لقدر الله، وأنه لن تعيش إلا عمراً واحداً، فخير لها أن تتأقلم مع الواقع وتعيش عمرهاً بسعادة، خير من أن تعيشه في أسوأ حال·
خامساً: غياب التفاهم والانسجام بين الزوجين، لأسباب كثيرة، منها: اختلاف المستوى الثقافي، اختلاف المستوى الاجتماعي، اختلاف مستوى الذكاء، تضارب المصالح، سوء أخلاق أحد الزوجين، الاختلاف في الممارسة الجنسية، وغير ذلك·
وفي مثل هذه الحال لابد من الخلوة بالنفس ومحاسبتها، وتلمس عيوبها، والبحث عن طرق علاجها، وإذا ما فعل ذلك فلابد من أن يظفر بعلاج ناجع لمشكلته إذا وضع نصب عينيه التقويم الكلي لزوجه، من دون الوقوف عند الجزئيات، لأن المرء إن ساء فيه خلق، حسن فيه آخر، والوقوف عند الحسنات ينسي السيئات، كما قال تعالى في سورة هود: 114 (إن الحسنات يذهبن السيئات) وقوله صلى الله عليه وسلم: )لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)(12)·
سادساً: كثرة الغياب عن البيت: إن كثرة غياب رب الأسرة من زوج أو زوجة قد يكون سبباً في التفكك الأسري، لأن كثرة الغياب يعني ترك البيت فترة طويلة من دون رقابة ولا توجيه، وعندئذ يكون التحلل من القيود الأسرية والتزاماتها، ويكون العمل خارج المنزل، أو حاجة الأب إلى السفر الدائم، فإنه يجب على الوالدين إقناع أبنائهم بأن الرابطة الأسرية رابطة مقدَّسة، وليس رابطة مصلحة، وأنها رابطة دينية وإنسانية واجتماعية، وتجب المحافظة عليها وإن شعر المرء بإمكانات الاستغناء عنها، لما لها من المنافع الروحية والنفسية والاجتماعية، أما الروحية فلما فيها من الثواب عند الله تعالى، وأما النفسية فلما فيها من الشعور بالانتماء، وأما الاجتماعية: فلأن المجتمع مؤلف من أسر، فإذا كانت البنية الأسرية متينة، كانت البنية الاجتماعية متينة أيضاً··
سابعاً: الفهم الخاطئ لاستقلال المرأة وحريتها: لقد استقلت المرأة مالياً عن زوجها في كثير من بلدان العالم، فأصبح لها عملها الخاص بها، ولها دخلها المادي، ولها سيارتها، ولها خصوصياتها لا تسمح لأحد باقتحامها عليها·
لقد صارت هذه الحرية عند المرأة الواعية أداة بناء، أما عند المرأة غير الواعية فإنها أداة تفكك وإفساد للأسرة، حيث صارت المرأة لا تستجيب لرغبة زوجها في الحد من الإنفاق، ولا تستجيب إليه في عدم إطالة الخروج من البيت، ولا تأخذ بتوجيهاته كرئيس للأسرة، ويكون جوابها في كل مرة: (مثلي مثلك) أو (أنا حرة) أو (المال مالي، وأنا فيه حرة أفعل ما أشاء) إلى غير ذلك من العبارات التي تثير حفيظة الزوج، وتزرع أو تغذي الفرقة بين الزوجين في الأسرة·
والإسلام جعل للأسرة قائداً واحداً لتأتلف الأمور ولا تختلف، وجعل هذه القيادة للرجل بقوة النظام ولو كانت المرأة أعلى منه في المزايا والخصال، لأن طبيعة المرأة وما يعتريها من حمل وولادة وتربية ورعاية للأولاد تجعلها دائماً منحازة إليهم، ولا تصلح القيادة مع الانحياز، لأن أولادها جزء منها لم ينفصلوا عنها إلا بالمقراض، وطاعة القيادة واجبة ولو كان التابع أفضل من القائد، تماماً كوجوب طاعة العلماء للأمراء، ولو كان العلماء أفضل من الأمراء، وبغير ذلك لا تنتظم الأمور ولا تستقيم·
ثامناً: فقدان الكياسة من أحد أفراد الأسرة تجاه الآخرين: كاعتياد الزوج على تسفيه رأي زوجته، لأن ذلك يؤدي إلى كرهها إياه، حتى يكون بعدها عنه أحب إليها من قربها منه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (تبسمك في وجه أخيك صدقة)(13)·
تاسعاً: وسائل الإعلام: إن وسائل الإعلام تسهم اليوم في التفكك الأسري بأمرين:
الأمر الأول: بطول مكث أحد أفراد الأسرة كالأب أو الأم الساعات الطويلة أمام التلفاز، حتى أن السهرة لتمضي من دون أن يكلم واحد من أفراد الأسرة فرداً آخر منها في أمر، وبذلك تضعف معرفة الواحد من أفراد الأسرة ما في داخل نفوس باقي أفراد الأسرة، فيقل وقوفه بجانبهم، لأنه لا يدري متى يحتاجون إلى مساعدته، وبذلك أيضاً يضعف الانسجام بين أفراد الأسرة·
والأمر الثاني: ما تنشره هذه الأجهزة وما تذيعه من صور التفكك العائلي مسمية إياه بغير اسمه، كتسميته باسم الاعتماد على النفس تارة، وبإثبات الذات تارة أخرى، واحترام خصوصيات المرء تارة ثالثة، وهكذا، مع أنه ما هو إلا مظهر من مظاهر التحلل الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الغربية، ونحن لا نعارض الاعتماد على النفس ولا إثبات الذات، بل نشجع عليه، ولكننا ننكر الخلط بين التفكك الأسري وإثبات الذات، وشتان بينهما··
علاج التفكك الأسري:
إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض فهو أمام أمرين:
الأول: أن يكون هذا المرض لا دواء له، وعندئذ ليس أمامه وأمام المريض سوى الابتهال إلى الله تعالى أن يمن بالشفاء، فهو سبحانه بيده الأمر من قبلُ ومن بعدُ·
الثاني: أن يكون له شفاء، وعندئذ يجب على الطبيب إخبار المريض بدوائه، وإذا أخبره بدوائه فهناك احتمال أن يأخذ المريض الدواء، ولكن هناك احتمال آخر أن يرفض المريض تناول الدواء، وعندئذ يتفاقم الأمر وتعظم البلية·
ونحن قد عرفنا فيما تقدم أسباب التفكك العائلي، فإذا منعنا حدوث أسباب التفكك العائلي، امتنع حدوث المرض، أي التفكك العائلي، أما أن يقبل المجتمع· هذا الدواء ـ وهو منع أسباب التفكك العائلي ـ استجابة لنداء العقل والدين والمصلحة، أو لا يقبله، فذلك شيء آخر، لا نملكه نحن المفكرين، ولكن يملكه المجتمع نفسه·
الهوامش:
1 ـ أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار·
2 ـ أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق يصل رحمه، ومسلم في كتاب البر، باب صلة الرحم·
3 ـ أخرجه البخاري في كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة؟
4 ـ مسند الإمام أحمد 6/126·
5 ـ أخرجه أبو داود في الصلاة باب قيام الليل، والنسائي في قيام الليل باب الترغيب في قيام الليل·
6 ـ أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، ومسلم في كتاب العيدين، باب اللعب بين يدي الإمام يوم العيد ونظر النساء إلى ذلك·
7 ـ أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب المرأة راعية في بيت زوجها، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل·
8 ـ أخرجه مسلم في الأدب باب رغم أنف من أدرك أبويه فلم يدخل الجنة·
9 ـ أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الأكفاء في الدين، ومسلم في كتاب الرضاع باب استحباب نكاح ذات الدين·
10ـ أخرجه الترمذي في كتاب النكاح باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه·
11 ـ أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/256·
12 ـ أخرجه مسلم في الرضاع باب الوصية بالنساء·
13 ـ أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في صنائع المعروف·